المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 17 - بتاريخ: 15 - 09 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ١٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 17

- بتاريخ: 15 - 09 - 1933

ص: -1

‌الملك الشهيد000!

في ليل يوم الجمعة الماضي سكت في (برن) قلب الملك فيصل! وما كان في حسبان أحد من دنياه أن هذا القلب الذي يجيش بالحياة، وينبض بالأطماع، ويستخف بالأمور الجسام، يسكت في وحدة الغريب ووحشة الليل الرهيب هذه السكتة المفاجئة!!

فلما نعاه البرق إلى الآفاق فزع الناس إلى الشك يدفعون به هول الخطب، ورجم بعضهم بالظنون يعللون بها بغتة الحادث، وتعذر على العقل أن يفهم الموت مقرونا إلى فيصل (صقر قريش) وقد كان إلى أمس يقطع بعزمه الجبار أجواء الشرق والغرب حاملا في يمناه العراق، وفي يسراه سورية، وفي قلبه (دولة العرب)!! ثم انجلى الشك وانجابت الظنون فإذا العراق وإذا سورية وإذا العرب أمام الفاجعة التي روعت النفوس وضرمت الأنفاس وقوضت حصون الأمل!!

لم يجزع العرب حين نعى إليهم فيصل على نفس كسائر النفوس

تغوص في لجج العدم، وانما جزعوا هذا الجزع الهالع على آمال أمة،

وجهود نهضة، ومستقبل فكرة؛ لأن ملك العراق كان مناط هذه الآمال،

ومبعث هذه الجهود، وعدة هذا المستقبل!

ومن العجيب أن يكون مصدر هذا الجزع كثرة الزعماء الأكفاء لا قلتهم! فِان هذه الكثرة كانت دائما وبالا على وحدة العرب إذا لم يقم على رأسها زعيم يعتمد في قيادتها على سلطان الدين وشرف النسب، وقد اجتمع الملك فيصل مع هاتين القوتين عقل كيس، وخلق نبيل، ونفس طموحة، وجاذبية قوية. فلا جرم أنه كان رجل الساعة لهذه الأمة الناهضة يجمع كلمتها حول رأيه، ويوحد وجهتها وراء خطاه!

عرفت جلالة ملك العراق أثناء مقامي ببغداد معرفة وثوق وخبرة. وكانت حال البلاد في ذلك الحين محنة ابتلت بها كفاية الملك النابغ: فالانتداب كان قبل الملكية يعمل في العلن ويحمل التبعة، فأصبح بعدها يعمل في السر ولا تبعة عليه، والحكومة كانت يومئذ بادية البلى ممزقة الجوانب لا تستطيع بخروقها أن تستر العرش، فالملك بحكم الوضع كان يستر الإنجليز، ولكن الوزارة بحكم الضعف كانت تكشفه. فكانت أوزار أولئك وأخطاء هؤلاء تحمل في رأي المعارضة والشعب على الملك، وكانت البطانة بعبثها تنفض ظالمة على جد

ص: 1

البلاط ووقاره شيئا من العبث، والشعب العراقي على اختلاف منازعه وعقائده وأجناسه ناقد متمرد طموح لا يصبر على نقص، ولا يغفل عن خطأ. فقدر في نفسك كيف كان مصير الملك لو كان غير فيصل!

اضطلع الملك فيصل وحده بأعباء الملك والحكم والزعامة في هذه الحال المضطربة، فكفكف بحكمته من شرَّة الانتداب، وخفف بحنكته من عسف الوزارة، ولطف بحلمه من غضب الشعب، وصرَّف شؤون الدولة على قدر ما يسلم الرأي الحصيف من خبث الاستشارة وضعف الوزارة، ثم سهل حجابه لأمراء العشائر ورؤساء الطوائف وزعماء الأحزاب فاستل ما في صدورهم بالقول اللين والعتاب الهين والشخصية الجذابة، حتى كان الرجل منهم يدخل قصره وهو عليه، فلا يخرج منه الا وهو له! ثم نظر خارج العراق فرأى على حدوده دولا يتنزى في صدورها حقد الماضي وطمع الحاضر، فزار تركيا وفرنسا وإيران فأحال عداءها إلى صداقة وجفاءها إلى مودة! ثم اجتمع بملك الحجاز وأوفد إلى امام اليمن فأحكم أواخي المودة بينهما وبينه، ثم هداه تفكيره العملي المرن إلى أن يعالج الانتداب بالمصانعة والموادعة حتى انتهى به إلى نوع من الاستقلال يحفظ الكرامة ويعين على النهوض. دخل الملك فيصل العراق دخول الإمام الحسين! لا مال أمامه ولا جند خلفه! ولكن الحسين جرى على سياسة علي فهلك، وجرى فيصل على سياسة معاوية فملك! ثم اعتمد في تأثيل ملكه وإنهاض شعبه على الإخلاص العامل والجد النزيه، وتحامل في ذلك على دمه وعصبه وروحه حتى ذهب فيصل شهيد الواجب، كما ذهب الحسين شهيد الحق!!

كان الملك فيصل الأول ملكا من طراز خاص، ولعله كان أقرب إلى خلفاء الصدر الأول منه إلى ملوك اليوم! كان ناصع الظرف، جم التواضع، رحب الأناة، ظاهر الوداعة، زاهدا في أبهة الملك، عازفا عن مظاهر السلطان؛ فلا يخدج بتحية، ولا يمشي في حرس، ولا يتشدد في حجاب.

وكان من أجمل مظاهر ديمقراطيته الأصلية أن تراه غالبا في شارع الرشيد أو في طريق الصالحية يقود سيارته بيده، ويشق طريقه بنفسه، دون ربيئة من خلفه ولا طليعة بين يديه، فيسبقه أي سابق، ويزاحمه أي سائق!!

وقد تبكر ذات صباح إلى مدرستك أو ديوانك فتراه في ذرور الشمس قد طلع عليك بوجهه

ص: 2

العربي المسنون، وقده السمهري الممشوق، ورشاقته الرياضية البارعة، فيسلم عليك ويتحدث اليك، ثم يتعهد المكان ويتعرف العمل، ويودعك بابتسامته الرقيقة، وملحوظته الدقيقة!

ودعا مرة مؤتمر المعلمين العراقيين إلى الشاي في حديقة قصره، فكان يجلس إلى كل منضدة من المناضد الكثيرة جلسة يفاكه أهلها بحلو الحديث، ويناقشهم في وجوه الاصلاح، ثم خطبهم في شؤون التعليم خطبة جامعة تمنى في سياقها أن يكون معلما مع المعلمين يؤدي إلى الأمة هذا الواجب المقدس. وفي صباح أحد الأيام غدا على المدرسة المأمونية الابتدائية فقضى ردحا من الزمن فيها، ثم سجل اسمه في ثبت مدرسيها! كان الملك فيصل في العراق ملك دولة، ورئيس حكومة، وزعيم أمة، وهو في الأقطار العربية مؤسس نهضة، وممثل فكرة، ورسول وحدة، وداعية سلام، ومعقد أمل! فإذا هفت النفوس جزعا لفقده، واستولى على العرب الوجوم والحيرة من بعده، فان في منطق الحوادث وطبيعة الأمور ما يسوغ هذا الجزع ويعلل هذه الحيرة. ألهم الله الأمة العربية على جلالة ملكها فيصل أجمل الصبر، وجعل لها في جلالة ملكها غازي خير العوض!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌ظلم العدالة!

للأستاذ حسن جلال. القاضي بالمحاكم الأهلية ومؤلف حياة نابليون

والثورة الفرنسية

أصبح معنى العدالة في البلاد التي لها (قوانين) كمصر غير معناها في البلاد التي ليست لها قوانين مكتوبة كإنجلترا مثلا. ومعنى العدالة في مصر أن تطبق القوانين على الناس بالسواء. ولذلك أمكننا أن نسمع هنا من يقول (إن المساواة في الظلم عدل!) وكان ينبغي البحث عن وسيلة أخرى لضمان العدالة الحقيقية لا العدالة التي كل أساسها تساوي الناس ولو عند توزيع الظلم. لأن من القوانين ما لو طبق بحرفه لكان الظلم بعينه. وكل حالة من الحالات التي يراد تطبيق القانون عليها لها ظروف خاصة تجعلها تختلف عن غيرها من الحالات. فتطبيق نص القانون حرفياً على كلا الحالين دون مراعاة لهذهالظروف هو الإجحاف بعينه. وإن كان يتسير تحت اسم تطبيق العدالة باتباع نصوص القوانين. ولهذا السبب قال الفرنسيون وهم أئمة القانون المكتوب في العالم: ،

(القانون يقتل بحرفه ويحيي بروحه). والمعنى أن القاضي الذي يطبق نص القانون بالحرف دون مراعاة للظروف قد ينتهي إلى عكس النتيجة التي يصل إليها القاضي الذي ينظر إلى روح القانون ويراعي ظروف الأحوال.

هذه مقدمة جافة ربما كانت غير شائعة عند من لا يهمه الدخول في تفصيلات علمية. ولكني أسوق مثالا للإيضاح يتبين أنه معنى ما أردت أن أصل اليه:

رجل يبيع الفاكهة على عربة يدفعها بيديه يطوف بها الأسواق والطرقات. هذا رمان، وهذا بلح، وذاك عنب، وذلك غير ذا وهذا وذاك. والرجل له زوجة صغيرة السن لم تفرغ بعد من سلخ عقدها الثاني، وللزوجين طفلة رضيعة تحملها الأم على كتفها لأنها لا تزال في ذلك الدور الذي يكون فيه الأطفال أقرب إلى الطفيليات منهم إلى الكائنات الآدمية المستقلة.

هؤلاء الثلاثة هم أشخاص القصة. . .

أما القصة فتبدأ كما يأتي:

تقدمت للمحكمة هذه الأسرة بأفرادها الثلاثة وتهمتها أن الأبوين أحرزا مادة مخدرة (أفيون) بدون مسوغ قانوني، وطلبت النيابة فيما طلبت تطبيق نص المادة 35 من قانون المخدرات

ص: 4

الجديد الذي قصد به محاربة المخدرات حربا رادعة

ونص المادة المذكورة هو كما يأتي:

(يعاقب بالحبس مع الشغل من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 300 جنيه إلى1000 جنيه. . . كل شخص ليس من الصيادلة أو من الأشخاص المرخص لهم بالاتجار بالجواهر المخدرة يكون قد حاز أو أحرز أو اشترى جواهر مخدرة ما لم يثبت أنه يحوز هذه الجواهر بموجب تذكرة رخصة أو تذكرة طبية بموجب أي نص من نصوص هذا القانون)

أما الوقائع فتتلخص في أن جماعة من رجال البوليس الملكي خرجوا على عادتهم يجوسون خلال الأسواق والطرقات يبحثون عمن يتجر في المخدرات أو يتعاطاها لضبطه واتخاذ الاجراءات القانونية قِبَلهَ. فصادفوا الزوج يتغنى ببلحه ورمانه وفاكهته فدهموه إذ كان يعلم أحدهم أنه ممن يشتبه في أمرهم لسابقة ضبطه ومعه مقدار من الأفيون. وأخذوا يفتشونه فتولى بعضهم شخصه وملابسه. وتولى آخرون أقفاصه وبضاعته. وبينما هم في عملهم إذ أبصر أحدهم زوج الرجل مقبلة من بعيد. فلما رأتهم محدقين بزوجها يفتشونه عادت أدراجها مسرعة، فأوجس رجل البوليس منها ريبة وتبعها في تلصص، حتى دخلت بينها اقتحمه عليها فإذا هي تلقي من يدها شيئا فالتقطه، فإذا هو قطعة من الأفيون فضبطها هي الأخرى وعاد بها إلى زوجها وطفلها على كتفها. واقتيدت الأسرة إلى مركز الشرطة حيث حرر ضدها (المحضر اللازم) وتحدد يوم للمحاكمة، وأحيل المتهمان على المحكمة (بعد أن القي القبض على الزوج وأفرج عن الزوجة بالضمان).

ظاهر القصة بنادي بأن الزوج وهو صاحب المنزل يحرز الأفيون المضبوط، إما لاستعماله الشخصي وإما لأنه يتجر فيه، ولا سيما وقد سبق للرجل أن حكم عليه بسبب إحرازه أفيونا في قضية أخرى.

وكانت المحاكم تجري في أحكامها على إدانة الرجل في مثل هذه الأحوال، وتبرئة الزوجة التي ينحصر كل عملها في محاولة تفادي الاتهام، وهو عمل مشروع من حق كل إنسان أن يأتيه، وفي السعي لتخليص زوجها ورب بيتها من مأزق وقع فيه وتوشك بسببه أن تحرم من حمايته ومعاشرته ورعايته. . .

ولكن محكمة النقض والابرام، وهي القوامة على قضاء المحاكم جميعها، فسرت نص المادة

ص: 5

35 المذكورة تفسيرا آخر أخذت فيه بحرفية القانون، ولها عذرها فيما فعلت: إن الشخص يجب أن يعتبر محرزا تنطبق عليه نصوص المادة 35 متى امتدت يده إلى المادة المخدرة، ولا عبرة بعد ذلك بالباعث له على تناولها، ويستوي في ذلك أن يكون إحرازه لها بقصد تعاطيها، أو الاتجار فيها. أو العمل على إخفائها لتفادي ضبطها معه أو مع شخص آخر قريب اليه.

وزاد الحالة حرجا أن هناك مادةأخرى هي المادة 40 من ذلك القانون الصارم ونصها كالآتي:

(لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذ الحبس لمن يحكم عليه في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، وتكون الأحكام واجبة التنفيذ فورا ولو مع حصول استئنافها. ويحرم المحكوم عليه بناء على هذا القانون من استعمال حقوقه السياسية والانتخابية لمدة خمس سنوات تبتدئ من انتهاء مدة العقوبة)

يعني أن من يحكم عليه بسبب إحرازه مخدرا لا سبيل إلى استعمال الرحمة معه، فالحكم يقع عليه نافذا فورا. ولا يمكن تعليق تنفيذه أو إيقافه بحال من الأحوال، مع أن السارق والمزور وخائن الأمانة والنصاب كل أولئك وغيرهم أيضا تستطيع المحاكم أن توقف تنفيذ العقوبة التي تحكم بها عليهم إذا وجدت مبررا لذلك من جنس أو سن أو نحوهما.

وقد عرضت تلك القضية التي نحن بصددها على المحكمة فلم يكن أمام قاضيها الا طريق واحد: وهو أن يأخذ الزوجة بإحرازها المادي لقطعة الأفيون المضبوطة، فقضى عليها بالحد الأدنى للعقوبة المقررة وهي حبسها سنة واحدة مع الشغل وتغريمها200 جنيه وشمل حكمه أيضا بالنفاذ. أما الرجل فلما كان لم يضبط معه شيء وكان قضاء محكمة النقض يفيد قصر العقوبة على المحرز أياً كان السبب في إحرازه فقد قضت المحكمة ببراءته!

وهكذا انقلب الوضع!

فأصبح الرجل بريئا، وهو الذي ضبط الأفيون في بيته، والذي يفترض فيه الإحراز بحكم جنسه وبحكم السابقة التي له. أما الزوجة، تلك الصبية الغريرة الساذجة، التي هالها أن ترى زوجها بين يدي الشرطة يوشك أن يمنع من العودة إليها وإلى طفلته. والتي خشيت أن تمتد أيديهم إلى ما في منزل زوجها فأسرعت إليه تخفيه عن أعينهم. والتي لا يفترض

ص: 6

فيها تعاطي الأفيون ولا الاتجار فيه بحكم جنسها وبحكم سنها، والتي كانت يدها وهي تمدها إلى الأفيون المضبوط يدا عارضة لا يقصد بها إحراز ولا حيازة ولا تعاط ولا اتجار، فهي التي أودعت السجن هي وطفلتها تبعا لأنها جزؤها الذي لا يتجزأ. وهي التي سوف تخرج من السجن بعد عام مدموغة بأنها (من أرباب السوابق) وكل ذلك باسم العدالة وباسم القانون!!

ان الإنسان ليفكر مرتين قبل أن يقرر أن القوانين قد كفلت العدالة.

ص: 7

‌القلب

للأستاذ أحمد أمين

رمتني آنسة في جريدة الأهرام (بأن لا قلب لي، وان كان فليس يخفق) لأني كتبت موضوعا في مجلة الرسالة عنوانه (أدب القوة وأدب الضعف) سميت فيه الأدب الذي يضعف النفس ويمرض العاطفة أدبا ضعيفا مائعا

لك الله يا آنسة أفتدرين أن أشنع سُبّة يسب بها إنسان: أنه لا قلب له؟

وهل المرء ألا قلبه؟

ليس الإنسان جسما بعضه القلب لكنه، قلب غلافه الجسم. لقد قالوا:(إن المرء بأصغريه قلبه ولسانه) ولكنهم بقولهم قد رفعوا من شأن اللسان حتى قرنوه بالقلب، ووضعوا من قيمة القلب إذ قرنوه باللسان، وهل اللسان إلا حاك بكى لأحط حركات القلب وانفعالاته؟ وكيف يعبر المحدث عن القديم؟ أم كيف يحيط المحدود باللامحدود؟ وأين يقع معجم اللغة من معجم العالم؟

إن القلب يقرأ ما رسمه الله على السماء والأرض من أشعار، ولا يسمح منها للسان الا بالقليل التافه، وما الشعر الملفوظ بجانب الشعر المحسوس؟

القلب لا يكذب أبدا واللسان لا يصدقُ الا قليلا، لعلك يا آنسة فتشت عن أعجب ما خلق الله من السماء وفي الأرض لم تجدي أعجب ولا أروع ولا أدق ولا أجمل من قلب الإنسان، تصلح أوتاره فيفيض رحمة وشفقة وحبا وحنانا، ومعاني لطافاً وشعورا رقيقا، حتى يتجاوز في سموه الملائكة المقربين، وتفسد أوتاره فينضج قسوة وسوءا حتى يهوى إلى أسفل سافلين

حوى على دقته كنه العالم! فما أدقه وأجله وما أصغره وأعظمه! يكبر، ولا نرى كبره، فيتضاءل أمامه كل كبير، وسيصغر ولا نرى صغره فيتعاظم عليه كل صغير.

اتحد شكل القلب واختلفت معانيه، فقلب كالجوهر الكريم صفا لونه، وراق ماؤه، يتلقى الإشعاع ويعكسه وهو على أشد ما يكون ضوءا ولمعانا، وقلب كالصخر قوي متين، ينفع ولا يلمع، وقلب هواء، خف وزنه، وحال لونه، وقلب. . . وقلب. . . مما لا يحصيها الا خالقها، إن اتحدت عيون الناس وآذانهم ووجوههم ورءوسهم نوعا من الاتحاد فأن لكل

ص: 8

إنسان قلبا وحده، ينبض بنوع من حب وكره، وقسوة وحنان، وإعظام واحتقار، ورفعة وانحطاط، لا يشركه فيه قلب آخر وبهذا، وبهذا وحده. اختلفت قيم الناس وتعددت مراتبهم.

يموت القلب ثم يحيا، ويحيا ثم يموت، ويرتفع إلى الأوج، ويهبط إلى الحضيض، وبينما هو يسامي النجوم رفعة، إذا به قد لامس القاع ضعة، وهكذا يتذبذب في لحظة بين السماء والأرض، والطول والعرض، وخير الناس من احتفظ برفعة قلبه، وسمو نفسه.

هو إن شئت فردوس، وإن شئت جحيم، هو إن شئت ملك، وإن شئت شيطان، هو إن شئت نار تتقد بالحب

هل الوجد الا ان قلبي لودنا

من الجمر قيد الرمح لاحتقر الجمر

هل الحب الا زفرة بعد زفرة

وحر على الأحشاء ليس له بَرْد

وفيض دموع العين يا مي كلما

بدا عَلَم من أرضكم لم يكن يبدو

وإن شئت سلا فكان برداً وسلاما

وقلت لقلبي حين لج به الهوى

وكلفني مالا أطيق من الحب

الا أيها القلب الذي قاده الهوى

أفق لا أقر الله عينك من قلب

القلب مركز العاطفة، والرأس مركز العقل، وما العقل لولا العاطفة؟ إن العقل أكثر ما ينفع للهدم، والقلب أكثر ما ينفع للبناء، إن القلب يؤمن، والعقل يلحد، والقلب يحب والعقل يحذر

نصحتك علما بالهوى والذي أرى

مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو

القلب يؤسس العالم، والعقل يسكنه، والقلب يخلق الشيء والعقل يغصبه، سلي التاريخ أليس أعظم بناة العالم قد امتازوا بكبر القلب، وصدق الشعور، وقوة الإرادة، أكثر مما امتازوا بسعة العقل وقوة الإدراك؟

القلب بنى البناء والعقل نقده، والقلب أحيا الشعور والعقل حدَّة، هل تعلمين يا آنسة أن من وجد كل شيء وفقد قلبه لم يجد شيئا، وان من جرد من قلبه لا يعرف صداقة ولا يدين بوطنية ولا يشعر بحنان، ولا ينطوي على إيمان؟

أو تعلمين أن من سُلِب القلب فقد سُلِب الفن والأدب، لأن الفن مناطه القلب، والعلم مناطه العقل؟ وقد سئل مصور ماهر كيف تمزج ألوانك؟ فقال: أمزجها بدم قلبي. وكذلك الأدب الحق، هو ما كان ذوب القلب.

ص: 9

يا آنسة لقد رميت فأصميت، ولشد ما خفق قلبي لسُبتك، كأنه يريد أن يثبت وجوده!

ص: 10

‌قبر مفقود

للدكتور عبد الوهاب عزام

قال صاحبي: هذا مسجد النبي دانيال، فولجنا إلى الفناء فإذا جماعة من السؤَّال جالسين إلى الجدار كأنهم موتى أعوزتهم القبور، قال صاحبي: وهذا البناء مقبرة. فملنا ذات اليمين إلى رجل واقف بباب البناء عرفنا من موقفه وأوامره أنه قيِّم المقبرة

- السلام عليكم

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هل من حاجة؟

- يا سيدي: شاعر من شعراء الترك ووزير من وزرائهم قدم إلى مصر أيام محمد علي باشا ومات بهذه المدينة ودفن بجوار النبي دانيال. فهل تعرف عن قبره خبراً؟

- أكان وزيراً في مصر؟

- كلا، ولكنه مر بمصر حاجاً ثم عاد إليها بعد الحج فمات بالإسكندرية

- هذه مقبرة لأسرة الأمير عمر، يا محمد! اذهب معهما إلى المقبرة القديمة، أليست مفتوحة؟

- لا يا سيدي ولكن فتحها يسير. فهناك إبراهيم

سرنا وراء الرجل يسلك بنا مضايق في فناء المسجد حتى انتهى إلى زقاق ضيق يفضي إلى باب مرتفع، فنادى إبراهيم وكلمه فجاء يحمل المفتاح، وتقدم نحو الباب ففتحه ثم ألقى خشبة ضخمة على كوم من الحطب أمام الباب فارتقى عليها ودخل فاتبعناه:

سور قصير يحيط بعرصة واسعة فيها ارتفاع وانخفاض وأكوام من التراب وأكداس صغيرة من الأحجار، يبدو بداخلها قبران إلى اليمين عليهما نُصبان من الرخام، وإذا أنعم النظر تبين قبرين دارسين او ثلاثة في أرجاء أخرى

قال إبراهيم: ليس هنا الا القبران اللذان ترى، فتأملت كتابة تركية فقرأت ما في سطور الفناء من عظات وتواريخ وأسماء، فإذا اسمان آخران ودفينان مضى عليهما زهاء ثمانين عاما. فجلت في أرجاء المقبرة فرأيت قبرا عليه نصب واقع يتضمن اسما آخر، ثم مررت بقبر لا نصب عليه، وبنصب لا قبر له: بطشت يد الزمان العسراء، ببقايا الفناء!

تتخلف الآثار عن أصحابها

حينا ويدركها الفناء فتتبع

ص: 11

لبثت حينا أسائل القبور والأحجار فلم تحر عن الشاعر جوابًا. فرجعت إلى إبراهيم فقال: كانت هذه الأرض كلها قبور فذهب بها الحفر، قلت أي حفر؟ قال: قلبوا الأرض يفتشون عن قبر الاسكندر. وقد أخرجوا ما ضمنته الأرض من أحجار وعظام إلى عشرين مترا فلم يظفروا بشيء. قلت انها لتعزية: إن فقدنا قبر شاعرنا فقد ضل في ثنايا الأرض وظلمات التاريخ قبر الملك العظيم الفاتح الاسكندر بن فليب، انها لتعزية!

رجعنا إلى صاحبنا الذي أشار بالذهاب إلى المقبرة القديمة فقال:

- هل عثرتم على القبر المنشود؟

- لا. رأينا قبورا قليلة، وقرأنا ما وجدنا من أنصاب فلم نجد قبر عاكف باشا

- هنا مقبرة سعيد باشا. أيمكن أن يكون مدفونا هنالك؟

- ليس بعيدا فقد حدث التاريخ أن محمد علي باشا أحسن وفادته وبالغ في الحفاوة به. فليس بدعا أن يكون قد أمر بدفنه بين قبور الأمراء.

- يافلان (قيّم مقبرة سعيد باشا) وكان بجانبه، أدخل بهما لعلهما يجدان القبر، فأحسبني رأيت هذا الاسم على بعض القبور

- عندي أوراق فيها أسماء القبور كلها فتفضلا معي.

ودخل إلى بهو به مكتب، فأخرج ورقتين فيهما أسماء معظّمة لأمراء وأميرات، أسماء كانت عناوين حياة حافلة بالعظمة والرفاهية، مليئة بخطوب الزمان، ونوب الأيام، وما هي الآن إلا أسماء قبور. ما وجدت (عاكف باشا) بين الأسماء، فشكرت الرجلين وانصرفت.

قال صاحبي: لم تعثر عليه

قلت: أجل، ولكني أعلم أنه في باطن الأرض، فان يكن لابد لشاعرنا من قبر،! فهب الأرض كلها قبره: يا أخي، انما يخلد الناس بالآثار، لا بهذه الأحجار. وقد صدق جلال الدين الرومي إذ قال:

بعد أزوفات ما درزمين مجوى

درسينه هاي مردم عارف مزار ماست

فلا تطلبين في الأرض قبري فإنما

صدور الرجال العارفين مزاري

إسكندرية 23 أغسطس سنة 1933. عبد الوهاب عزام

ص: 12

‌مناظر من موقعة صفين

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

اجتمع في سهل صفين جمعان من العرب لم يشهد تاريخ ذلك الشعب اجتماع مثلهما في موقعة منذ الزمن القديم المعروف في التاريخ، فقد كانت المواقع القديمة لا تزيد على أن تكون معارك بين بضع مئات، فلما كان الإسلام سمعنا عن موقعة حنين وقد أعجبت المسلمين كثرتهم إذ كانوا عشرة آلاف. فلما خرج العرب إلى حروب الروم والفرس زاد عد الجنود فصار إلى عشرات الآلاف. فكان عدد العرب مثلا في اليرموك ستة وأربعين الفا، وكان عددهم في القادسية ثلاثين ألفا، وفي نهاوند كذلك ثلاثين ألفا. واما في صفين فلم يكن جيش علي بأقل من سبعين ألفا. ولم يكن جيش معاوية بأقل من تسعين ألفا.

وكان معاوية السابق إلى النزول في سهل صفين، فاختار لجيشه سهلا فسيحا متصلا بنهر الفرات في مكان يسهل الاستقاء منه. ولم يكن في ذلك الجزء من نهر الفرات الأعلى مكان غيره يمكن الشرب منه، إذ ان النهر يجري هناك في إقليم الجبال فيغلب على مجراه أن يكون عميقا قائم الجوانب سريع التيار.

ولعل معاوية كان يريد السبق إلى اختيار ذلك المكان ليكسب الموقعة قبل أن يلتحم الجيشان. فلما اقبل علي في جيشه رأى عدوه نازلا في خير المنازل وقابضا على ناصية الشريعة، وقد وقفت كتيبة من جيشه لتدافع عن مورد الماء إذا حاول عدوه أن يصل اليه.

كانت خطة علي في حروبه أن يأمر جنده بالكف عن القتال حتى يحاول حل الخلاف بالحجة والمسالمة. حقا لم تفده هذه الخطة في كثير من المواطن، ولكنه لم يخرج عنها مرة واحدة في حرب من حروبه. وقد كان في هذه الموقعة جاريا على عادته هذه، فانه أمر أصحابه ألا يتعرضوا لأحد من جيش معاوية حتى يراسله فيما جاء له. ولكن العطش ألح على أصحابه، فالتمسوا مكانا على النهر يستطيعون أن يشربوا منه فلم يستطيعوا، فأرسل علي إلى معاوية يطلب اليه إباحة الماء لأصحابه. فلم يكن بد من القتال على الماء قبل محاولة المفاوضة فيما جاء له الجيشان.

وكان بطل القتال في ذلك اليوم الأول رجلا أسمه الأشعث ابن قيس، كثر تردد اسمه فيما بعد في آخر الموقعة. وقد كان من قبل خلافة علي عاملا لعثمان علي أزربيجان، فلما قتل

ص: 13

عثمان دخل في طاعة علي حتى جاء معه لمحاربة معاوية في صفين. ولكنه كان ممن ينظر إليهم بعين الريب في جيش علي. ولا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك لأن جيش علي كان لا يثق بأحد ممن كان يعمل لعثمان، على أن الأشعث كان يطمع في الصدارة والرياسة، وها هي فرصة تهيأت له فتقدم إليها مسارعا، فطلب إلى علي أن يخرجه لقتال القوم على الماء فأذن له علي في ذلك. واشتدت الحرب وتوالت الإمداد من الجانبين وانتصر علي وأصبحت الشريعة في يده، وارتدت جنود معاوية إلى مكان بعيد عن النهر، وتقدمت جنود علي فنزلت في ناحية من السهل الفسيح الذي كانت جيوش معاوية تحل فيه وتملك الانتقال خلاله.

كثر تحدث الجنود والقواد بعد ذلك فيما يظنونه من صنع علي عقب انتصاره، فمن قائل إنه يقابل الإساءة بمثلها، ومن قائل إنه يتفضل على عادته في النيل، وقال عمرو بن العاص:(ما أظنه يمنعنا الماء كما منعناه من قبل. انه قد جاء لغير ذلك) وكان عمرو أصدق المتوقعين، فأن علياً أبى ان يمنع أحداً ورود الماء. وقد يسائل أحدنا نفسه:(ماذا كان يجب عليه أن يفعل؟)

وقد يجيب بحسب ما يظنه الأمثل والأصلح، ولكن لا يشك أحد في وصف ما أتاه علي بأنه نبل.

نزلت جنود علي في سهل صفين في أواخر ذي الحجة، فلما دخل المحرم اتفق الجيشان على الموادعة مدة الشهر الحرام، وكان علي يرجو أن يستطيع في أثنائه حسم الشر والوصول إلى توحيد كلمة المسلمين بغير حرب، غير أنه كان يعلم أن معاوية لا يقصد غير الملك، وما كانت الحجج لتستطيع أن تحوله عن مثل ذلك القصد. غير أنه كان يطمع في أن يستميل بالحجة أهل الرأي ممن مع معاوية، فكانت رسله تختلف إلى معاوية تحمل من الحجج ما هو أشبه بالدعاية السياسية منه بالمراسلة المعتادة بين رئيسي حزبين متعاديين، وكان ينتهز فرصة وفود رسل معاوية لكي يحاول أن يستميلهم بالحجة، وكان إذا وجد من هؤلاء الرسل انصرافا عن حجته وتمسكا بمعاوية أظهر أشد الأسف حتى ليقول مثلا:(انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم أن تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) فلما رأى المحرم قد مضى وأيقن

ص: 14

أن تلك المحاولات لم تفده شيئا، أمر أحد قواده أن يعلن استئناف القتال، ولم يرض أن يهاجم أعداءه حتى يعلن إليهم عزمه. فلما غربت شمس آخر يوم من المحرم نادى مناديه بإعلان الحرب معتذرا بأنهم أبوا الإذعان للحجة ولم يلبوا الدعوة إلى الإسلام. وابتدأت المصادمة على شكل مواقع جزئية، وذلك بأن ترسل كتيبة من جيش علي فتلقاها كتيبة من جيش معاوية فتتجاولان مدة نهار حتى يحجز بينهما الليل، وكانت القتلى في مثل هذه المجاولات قليلة العدد. وكان الناس إذا أقبل الليل يضعون السلاح ويدخل بعضهم إلى مخيم بعض فيتحادثون ويتسامرون ويسمع بعضهم قول بعض في غير قتال حتى تستأنف المعركة سيرها في اليوم التالي. وقد استمر الحال على ذلك مدة الأسبوع الاول من المعركة، ثم عزم على المقاتلة بكل جيشه في يوم الأربعاء الثاني مهن شهر صفر سنة سبع وثلاثين للهجرة.

وكان الجيشان مرتبين حسب النظام المتبع حين ذلك. وهو أن يجعل لكل منهما قلب وجناحان، وكان الهجوم يحدث من الجناحين أو من أحدهما ويكون القائد في القلب ومعه أوثق جنوده يهجم بهم وقت الضرورة، أو يمد بهم من يحتاج إلى المدد من الجناحين. وقد بدأ علي الهجوم بجناحه الأيمن وجل جنوده من أهل اليمن، فهبطوا على جناح معاوية الأيسر، وكان قائد ميمنة علي أحد شجعان العرب وقرائهم وهو عبد الله بن بديل، فكانت الحملة الأولى تيارا قويا تزعزعت له ميسرة معاوية حتى اضطر إلى إمدادها بالشجعان الذين معه في القلب وهم الذين بايعوه على الموت، وعند ذلك قويت ميسرة معاوية وكرت على ميمنة علي حتى ردتها، ولم يبق ثابتا الا القائد مع مائتين أو يزيدون استماتوا في القتال أمام الجموع المتزايدة الجرارة التي تدفقت عليهم، فلما رأى علي أن ميمنته ارتدت هذا الارتداد السريع الذي لم يكن متوقعا عقب الانتصار الأول حاول أن يقابل الهجوم بمن معه في القلب وكانوا من مضر. فلم يستطيع أن يرد بهم ذلك التيار واضطر إلى أن ينحاز إلى ميسرته وكان جنودها من ربيعة. فلما رأت الميسرة ما حاق بالميمنة والقلب وانحياز الخليفة إليها ثارت فيها الحمية وثبتت ثباتاً عظيماً ووقف علي معهم يحارب بنفسه.

رأى أحد قواد علي وهو الأشتر النخعي ما حاق بالميمنة من الهزيمة وكان يمنيا. فتارت روحه القوية وجاشت نفسه الباسلة فأسرع نحو المنهزمين وتمكن بقوة نفسه وشجاعة قلبه

ص: 15

وفصاحة لسانه من أن يرجع كثيرا منهم ويذمرهم ويثير فيهم الحماسة حتى التف حوله عدد عظيم ممن كان انهزم من الميمنة. فعطف بهم إلى القتال فأدرك عبد الله بن بديل وهو بآخر رمق من الجهد يقاتل مع أصحابه القلائل المستميتين. فأعاد الكفة إلى الرجحان وما زال يقاتل حتى صار القتال متكافئا بين الفريقين، ولما رأى علي ذلك عاد إلى الميمنة وجعل يشجعهم ويذمرهم.

وأقبل الليل والكفتان متراجحتان بعد، ولم يشأ أحد من الفريقين أن يقف القتال أثناء الليل إذ كان كل منهما يعض على النواجذ من أجل النصر.

وأصبح الصباح فإذا بجنود علي في الميمنة لا يزالون منتصرين مع الأشتر النخعي حتى صرعوا صفوف المعقلين الذين التفوا حول معاوية وقد بايعوه على الموت وعقلوا أنفسهم بالعمائم حتى لا يستطيعوا الانصراف من حوله، وكانت الميسرة كذلك منتصرة قد أوشكت أن تبلغ إلى قلب جيش معاوية وجعلته يفكر في الفرار، وفيما كان الأمر على ذلك ارتفعت صيحة من ميمنة جيش معاوية وما زالت تتزايد حتى بلغت ميسرة جيش علي، فإذا الصيحة ترتفع فيها حتى تبلغ عليا ويأخذ قواده في المجادلة فيما بينهم، ثم تنتقل المجادلة حتى تصبح بينهم وبين الخليفة. وتلك هي صيحة تحكيم القرآن إذ رفع جند الشام المصاحف على الرماح وقالوا:(قفوا تلك الحرب الطاحنة، إلى متى يتطاحن المسلمون؟ لقد قرب المسلمون من التفاني. ومن يكون لحرب الفرس ومن يكون لحرب الروم إذا نحن تفانينا وقتل بعضنا بعضا؟)

تردد عليّ في وقف الحرب وعلم أن تلك خدعة لجأ إليها عدوه عندما رأى كفة النصر تنصرف عنه. ولكن بعض قواده هدده بالثورة عليه. وكان أشدهم في ذلك الأشعث بن قيس صاحب الانتصار العظيم يوم الشريعة. فاضطر علي أن يبعث إلى ميمنته المنتصرة لوقف الحرب. وتردد الأشتر في ترك الحرب وقد وشك أن ينتصر. فأعاد الإمام أمره إلى الأشتر بوقف الحرب وأفضى اليه بنبأ ثورة قواد ميسرته، فاضطر إلى أن يرفع يده وعاد إلى علي محنقا ثائرا ساخطا على إفلات النصر من يده وكان قد ظنه قريبا.

ولم يمض بعد ذلك زمن طويل حتى كتبت صحيفة التحكيم وانصرف الجيشان أولهما إلى الشام وهم فرحون اذ أفلتوا من هزيمة محقة، وثانيهما إلى العراق وهم يتلاومون ويتجادلون

ص: 16

ويختلفون وفي قلوبهم أشد الأسى على ما أصابهم من الخذلان بعد وشك الانتصار.

وإنا نسائل النفس عن علة هذا الفشل العجيب ولا نستطيع أن نقنع النفس بأن الحوادث الظاهرة كانت كافية لأحداثه. فأن أمر هذه الهزيمة كان شبيها بعود من الثقاب أشعلته فرأيت من إشعاله انفجارا مدمرا لم يكن ليخطر لأحد ببال. فإذا عزى الانفجار إلى عود الثقاب كان ذلك إهمالا لذلك الغاز الملتهب الذي كان خفيا عن الأعين فأحدث الانفجار المروع عندما اشتعل فيه ذلك العود الضئيل. إن الحرب هي الجهد الأعظم الذي ينتهي اليه الخصام بين حزبين. وفيه يبذل كل جانب أقصى ما عنده من الهمة ليفوز. وقد لا يتورع المحارب عن الكيد بالكذب والدس والتجسس، وقديما أباح الناس أمثال هذه

الدنايا في الحروب مع تحريمهم إياها في المعاملة المعتادة.

ص: 17

‌الشعر المرسل

للآنسة سهير القلماوي. ليسانسييه في الآداب

في مقال الأستاذ قدري لطفي الذي نشر بالعدد الخامس عشر من الرسالة أشياء كثيرة يحسن الاجابة عنها، لولا أني أحببت أن أكتب هذا المقال عن رأيي في الشعر المرسل لا في الرد على الأستاذ. ولكني لا أترك مقال الأستاذ هكذا بل سأطلعك على بعض فقرات ترى منها أني لم أهمل الاجابة عنه لأنها شاقة بل لأنها من السهولة بحيث يعرفها القارئ متى قرأ المقال.

انظر إلى قوله مثلا: (أما تمام المعنى في البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي وإنما كان من خصائص الشعراء العرب). .!! وخبرني بعد معنى هذا القول ومدى نصيبه من الصحة.

ثم أنظر إلى قوله (ولا أحسب أحدا يدعونا إلى ترك الشعر القديم وإهماله لنفسح المجال للشعر المرسل في غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة) وخبرني من ذا الذي يريد للفن أن يخضع للضرورات الملجئات والحاجات الملحات، وخبرني أيضا إذا دعونا إلى الشعر المرسل كان معنى هذا أن نهمل الشعر المقفى، لم لا يجوز وجودهما معا، وكلنا يعلم أن الشعر المرسل في كل لغة وجد فيها لم يمح الشعر المقفى وانما وجد بجانبه.

وأمثال هذين المثلين كثيرة فليقرأ القارئ مقال الأستاذ فهو خير دليل على ما زعم.

ولقد تورط الأستاذ أبان ثورته غيرةً على القافية في غير هذا النوع من الخطأ. فقد زعم أني قلت: (أني لا أشعر بفقد القافية ما دام المعنى كاملا في البيت)؛ زعم الأستاذ أني أريد بذلك حكما أو تأثيرا في الحكم على قصيدتي. وأنا وإن كنت لا ألوم الأستاذ على هذا النوع من الفهم لما يقرأ الا إنني أذكر له أني لو لم أدون فكرتي في هذا النوع من الشعر المرسل الذي نظمت به قصيدتي لأسأت إلى نفسي وإلى قارئي لأني أؤمن تماما أن من واجب الكاتب أن يصور للقارئ فكرته واضحة جلية، ولما كانت فكرتي شيئاً يتعلق بالحس فقد صورت للقارئ شعوري. ولكن الفرق بين طريقتي في التعبير وبين طريقة الأستاذ هو أني دونت شعوري ونسبته إلى نفسي، أما هو فقد دون شعوره وعممه متخذا نفسه مقياسا لكل قاريء، أنظر إلى قوله: (ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة في أواخر الأبيات يشعره

ص: 18

بفقدان الوزن في ثناياها!!)

ولندع مقال الأستاذ لأدون رأيي في مسألة الشعر المرسل واضحا جليا حتى لا يتورط غير الأستاذ فيما تورط فيه.

الجدال في الشعر المرسل لا يقوم على أساس، فالمسألة ليست من مسائل الحساب أو المنطق، وإنما هي مسألة حس. أنت تسمع نغما فيعجبك، وأنا أسمعه فلا يعجبني، فإذا تناقشنا أعواما ما استطاع أن يقنع أحدنا الآخر. أذني تستسيغ الشعر العربي مرسلا، وقد تكون أذني شاذة، ولكنك لن تقنعني بعدم استساغته. ستقول لي: ولكن المسألة ليست فوضى، فهناك الذوق العام، ولكني وإن كنت أحترم الذوق العام لا أقبل حكمه دائما، وفي كل الأحوال، فالذوق العام له تاريخ في مثل هذه الأحوال يجعلني أتشبث برأيي. فقد يستسيغ الذوق العام غدا ويشغف بما لم يطق سماعه بالأمس، وفي مسألة الشعر المرسل خاصة كان للذوق العام تاريخ يعيد نفسه منذ كان هذا النوع من الشعر بغيضا غير مستساغ أول ظهوره في كل لغة ظهر فيها، فلا ضير أن يكون كذلك في اللغة العربية أيضا.

ثم هناك ناحية أخرى، فالذوق العام لا يستطيع اليوم أن يحكم حكما عادلا في الشعر المرسل لأنه لم يسمع منه الا القليل، وقد لا يكون في هذا القليل شئ جميل رائع كالذي في الشعر المقفى.

وقد تقول لي أخيرا أن طبيعة اللغة العربية لا توافق مثل هذا النوع من الشعر، وأنا وإن كنت لا أستطيع التحدث عن طبيعة اللغة العربية بمثل هذه السهولة الا أني أزعم أنها قد تتحور قليلا فتقبله. وأنت إن استطعت الحكم على الماضي والحاضر فلن تستطيع الحكم على المستقبل. ولكن ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية في القصيدة الواحدة إذا غيرتها كل خمسة أبيات مثلا، ولا تقبلها إذا غيرتها في كل بيت؟. ثم ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية في كل بيت إذا ما راعيت القافية بين شطري كل بيت على حدة، ولا تقبل تغير القافية دون مراعاة الموافقة بين الشطرين؟ ثم ما بالها أخيرا قبلت تغير البحور في القصيدة الواحدة ولا تقبل تغير القافية ولزوم بحر واحد؟ ستقول ولكن في كل هذا نوعا من القافية كافياً لإحداث تلك الموسيقى المألوفة. إذن أصبحت تقتنع بشيء من القافية بعد أن كان الشعر العربي لا يقنع الا بالقافية كلها متبعة من أول القصيدة إلى آخرها. وإذا قبلت

ص: 19

اللغة بعض التغير فاني أزعم أنها ستقبل التغير كاملا.

وما رأيك في أني أرى في الشعر المرسل أنواعا جديدة من الموسيقى يعجز عنها بل قد يفسدها الشعر المقفى؟

الوزن في القصيدة ليس بالنغم الخافت الذي تسمعه الأذن، فهو عندي وأظن عندنا جميعاً أقوى موسيقى في الشعر، ثم هناك موسيقى الألفاظ وموسيقى الحروف، فهل من المحتوم وجود القافية المكررة المحركة بحركة معينة حتى نشعر بأن هناك موسيقى؟

والغريب أنه بينما نحن نتناقش في الشعر المرسل يتناقش الأدباء الأمريكيون الحديثون في الشعر الحديث الذي لا وزن له ولا قافية.

ليطمئن قرائي فسيفنى عمري في الدعوة إلى الشعر المرسل، فهل يتيسر لي أن أدعوا إلى هذا الشعر الحديث الذي لا أستسيغه الآن؟ ولكني لا أعرف، فقد أستسيغه غدا.

وأخيراً أرى كما أسلفت أن المجال ليس مجال جدال وإنما خير رد على خصوم الشعر المرسل هو أن أكتب وأن يكتب غيري من أنصار الشعر المرسل قصائد نستطيع أن نقنع بها الذوق العام الذي نحترمه جميعا، وأن نقنع بها أيضا من يهمنا إقناعهم.

ص: 20

‌العالم يجري!!

كل شئ يجري في هذا العصر، وكل شئ يسرع. والعالم في إسراعه للأمام، لا يكاد يتلفت يمنة ولا يسرة، وان كان يتجه إلى الخلف في أحيان قليلة، ليرى كم قطع من المسافات.

فالبخار لم يعد يستطيع تلبية هذه الحاجة الملحة للسرعة فخلفه الطيران، والطائرات نفسها تكاد تعجز عن تلبيتها، فتزيد كل يوم في سرعتها، وتقوم المسابقات العالمية لهذا الغرض.

والتليفون والبرق لم يعودا كافيين، فإذا بالراديو وإذا بالتلفزيون لنقل الأصوات ولنقل الصور، بل لنقل المناظر ذاتها لا صورتها. وإذا بالأفلام الناطقة تعرض الصوت والحركة، وتغني بالعين والسمع عن الوهم والخيال!

هذه الظاهرة السيكلوجية الغربية، قد جرفت معها الأدب أيضا، وجرفت الفنون جميعا، وكان ذلك طبيعيا، لأن الفنون هي الظاهرة للنفس الباطنة.

فالفن اليوم لمحات خاطفة، وملاحظات سريعة، لا يقف للدرس العميق، والتحليل الدقيق، لأن طبيعة العصر لا تمهله للوقوف، وإلا سبقته الحياة بآلاف الأميال.

والمجلات العلمية اليوم تكاد تنعدم، والباقي منها أخذته نشوة السرعة أيضا فلم تعد بحوثه مركزة، ومع ذلك فهي لا تجد العدد الكافي من القراء فتضمحل وتذوي، وتدرج في زوايا النسيان.

وأنا على يقين من تبدل هذه الحال، فالعالم الذي يجري الآن بكل قوته، لابد أن يدركه الكلال، ولابد أن تنقطع به هذه النشوة الطائشة، فيتمهل ليعرف ما يحيط به.

وسيضحك العالم من نفسه يومئذ على تلك الحماقة التي ارتكبها، كما يرتكب الأطفال حماقاتهم، ركضا وجريا ووثبا ثم يفيقون من هذه الغمرة عندما يكتمل نضجهم، ويتوبون إلى الرشاد

النشاط شيء، والعجلة شيء آخر؛ وإذا كان النشاط من مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فليس للعجلة هذه المزية مطلقا، بل أن لها أضرارا، قد لا تعرف اليوم في أبان هذه النزوة الطائشة؛ وقد تعرف ولكنها لا ترد إلى أسبابها الحقيقية، ولا تعلم علاتها الأصلية!

ويقيني أن هذه الأزمات التي يعانيها العالم اليوم من مالية وسياسية وأدبية واجتماعية، انما منشؤها هذه السرعة، هذا التسابق، هذا الجنون، الذي يعمي الإنسان عما حواليه، فلا يرى إلا الإمام. دون ما على الإيمان والشمائل. . وحتى حين يصطدم بما حواليه، فهو لا يقف

ص: 21

ليتأمل، أو ليصلح ما أصابه من الاصطدام، بل ينطلق إلى الأمام أيضا، محتملا أثر الصدمة تلو الصدمة حتى يلحقه العطب الكامل. . . فتكون هذه الأزمات!

إن السائق الذي يعرف كيف يسوق ولا يعرف كيف يقف: أو يدري كيف يسرع، ولا يدري كيف يبطيء، إنما هو سائق جاهل، غير مأمون على نفسه ولا على الركاب. وإذا كان للقيادة السريعة لذة في النفس والنشوة؛ فليس معنى هذا أنها أحسن القيادات وأولها بالاتباع

وبعد ففي مصر اليوم دعوة حارة ومخطرة معاً، إلى تقليد الغرب، والجري وراء الغرب، وإن كان الغرب نفسه لا يعرف اليوم وجهته، وهو شارد كالضال في متاهات الحياة، فكأننا سنجري وراء من يجري وهو لا يعرف مبتغاه!!!

وهذه الدعوة مفهومة من الوجهة (السيكلوجية) وقد عرف (ابن خلدون) أسبابها منذ قرون حيثما عللها. بأن المغلوب يميل بطبيعته لتقليد الغالب لاعتقاده أن غلبته له إنما كانت لخصائص فيه.

والسيكلوجية الحديثة تقر ما ذكره ابن خلدون، وتضيف إليه العقل الباطن، إذ يندفع الإنسان في بعض الأحيان، إلى أمور لا دخل لإرادته فيها، ولا لتفكيره، بحكم اندساسها في العقل الباطن، من مخلفات مشاهداته، أو ملاحظاته أو تفكيره التي يغمرها النسيان.

وهذه الدعوة مع أنها مفهومة وطبيعية. ليست مُسَلَّمة؛ ومن الواجب التحذير منها، وإبرازها للنور، بعيدا عن المؤثرات النفسية الغامضة. وإذا كانت الحرب العظمى قد أفقدت العالم الغربي اتزانه وطمأنينته؛ وبعثته من المكامن والخنادق وحفر الموت، مأخوذا، مشدوها، مجنونا. . . فليس من الواجب أن يفقد الشرق طمأنينته كذلك، ويجري وراء الغرب المأخوذ المشدوه، دون ما تأمل ولا تفكير!

إن للشرق رسالة قد يكون الآن موعدها، ورسالته هذه ستقوم على خصائصه الأصلية فيه، وستصبح واجبة بل، أصبحت لأن الغرب يكاد يتهالك ضعفا وإعياء لفرط جريه، وكثرة اصطداماته.

نحن لا نكره النشاط كما قلنا. ولكن نكره العجلة. ونريد أن يحتفظ الشرق بشيء من يقينه، ومن عمقه واتساعه، ومن سحره أيضا!، وألا يفرط في تقليد الغرب، ولا سيما والغرب يتخبط، ويئن، ويشكو من الصدمات ولم يوفق بعد لاتقائها، لأن النشوة لا تزال تطيف

ص: 22

برأسه فيجري، وينهكه الجري، ولكنه لا يكف عن الجريان!

سيد قطب

ص: 23

‌مطالعات في التصوف الإسلامي

عوارف المعارف. منشأ علوم الصوفية وفضلها

وقفت بك في نهاية الفصل الماضي عند ترجمة موجزة لحياة شهاب الدين السهروردي مؤلف كتاب (عوارف المعارف) وأحب أن أقف بك في هذا الفصل عند الباب الأول والثالث من هذا الكتاب حيث يحدثنا المؤلف عن منشأ علوم الصوفية وعن فضل هذه العلوم وما تمتاز بها على غيرها من فروع المعرفة الإنسانية. ولكني أحب قبل هذا أن أعطيك صورة عامة مقاربة لأبواب هذا الكتاب في جملتها. يقع (عوارف المعارف)، في نيف وستين بابا منها المطول المسهب ومنها المختصر الموجز. وفيها الدقيق المسرف في القوة والدقة. والضعيف المهلهل الذي لا يشتمل على فكرة منظمة ولا منطق منسجم بريط أجزاءه ويلم شعث عناصره. ولكن الكتاب في جملته خصب حقا ممتع نافع حقا. وهو من هذه الناحية أقدر على أن يعطينا صورة قوية شاملة لما احتوى عليه التصوف من وجدانيات وإشارات وأحوال ومقامات. ولعل من أنفع أبوابه وأوفاها هذه الأبواب التي تناول فيها المؤلف بيان منشأ علوم الصوفية وفضلها. وماهية التصوف. وسبب تسميتهم بهذا الاسم وأخلاقهم ومعرفتهم لأنفسهم ومكاشفاتهم في ذلك. وشرح الحال والمقام والفرق بينهما. تلك هي أهم الأبواب وأكثرها حظاً من الدقة والغناء. فلنترك إذا هذا الضرب من الكلام العام لنقف عند الباب الاول الذي أبان فيه المؤلف عن منشأ علوم الصوفية. والباب الثالث الذي أظهرنا فيه على فضل هذه العلوم وذكر نماذج منها

استهل مؤلف (عوارف المعارف) الباب الاول من كتابه بهذا الحديث الشريف: (انما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق) ثم عقب على هذا الحديث بحديث آخر هو أبلغ في الدلالة على ما قصد اليه وهذا الحديث هو: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً. فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها طائفة أخاذات أمسكت الماء فنفع الله

ص: 24

بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وكانت منها طائفة أخرى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)

والغرض الذي يرمي اليه المؤلف من إيراد هذين الحديثين هو أنه أن يستخلص منهما القيمة المعنوية لنفوس الصوفية والإبانة عن أن هذه النفوس كانت أكثر قابلية من غيرها لما جاء به ودعا اليه من الهدى والنور رسول الله (. وان حظها من صفاء السرائر ونقاء الضمائر وذكاء القلب أوفر من حظ غيرها، فنفوس العلماء الزاهدين زكت.

وسرائرهم صفت، وقلوبهم صقلت وتهيأ لها من العلم حظ لم يتهيأ لغيرها من النفوس. وبعبارة أخرى كانت هذه النفوس كأوعية للعلوم كما قال مسروق عن أصحاب رسول الله. وقلوب الصوفية واعية لأنهم زهدوا في الدنيا بعد أن أحكموا أساس التقوى. ومن هنا زكت نفوسهم بالتقوى وصفت قلوبهم بالزهد. فكانت تقواهم عونا لهم على أن تصقل مرايا سرائرهم وتجلى صفحات ضمائرهم. وكان زهدهم عونا لهم على أن ينصرفوا عن الدنيا وعلى أن يقبلوا على الدين اقبالا من شأنه أن يقربهم من الله ويوحدهم معه ويفنيهم فيه.

يأخذ المؤلف بعد هذا في إظهارنا على مكان العلوم الصوفية بين العلوم الإسلامية الاخرى. فذكر من هذه العلوم التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والخلاف والجدل. ثم أخذ يعرض علينا تفاسير مختلفة للآية الكريمة (أنزل من السماء ماء) وانتهى من هذه التفاسير إلى تطبيق ما اشتملت عليه الآية بالنسبة إلى العلماء الذين تخصص كل منهم في فرع من هذه العلوم التي ذكرها آنفا. ثم انتهى من هذا كله إلى أن الماء الذي أُنزل من السماء هو العلم وإلى أن أوعيته هي القلوب، فمن هذه القلوب ما سال واديه بالتفسير فكان علم التفسير. ومنها ما سال بحفظ رواية الحديث وسنده وتمييز صحيحه من سقيمه فكان علم الحديث. وعلى هذا النحو من التأويل والفهم يمكنك أن تقول في غير علمي التفسير والحديث ما قيل في كل من التفسير والحديث، وأما علوم الصوفية فنشأت من أن نفوسهم قد أحكمت أساس التقوى وزهدت فيما اشتملت عليه الدنيا من عرض زائل وزخرف حائل. فسالت أودية قلوبهم بما انصب منها من مياه العلوم التي اجتمعت فصارت هذه القلوب أخاذات.

ص: 25

أخذ الصوفية حظاً من علم الدراسة فأفادهم هذا الحظ من ناحية انه أظهرهم على الأحكام الظاهرة للعبادات فعلموها وعملوا بها. ثم تميزوا على غيرهم من علماء الدين بعلم آخر خاص بهم قاصر عليهم هذا العلم هو علم الوراثة. وعلم الوراثة هو علم العالم الزاهد المنقى الذي فقه الدين فقها أبان له عن قواعده وأصوله بحيث يتعرف المعنى الحقيقي للدين. وليس الدين شيئا آخر غير الانقياد والخضوع فهو مشتق من الدون. وكل شئ تضع فهو دون. فعلى هذا يصبح الدين عبارة عن أن يخضع الإنسان نفسه لربه وينقاد لما أمر به. وأفضل مراتب العبادة الفقه في الدين، فمن كان أفقه في الدين وأعرف بأصوله كانت نفسه أسرع اجابة وقلبه أشد انقيادا لمعالم الدين وأصوله.

فأنت ترى من هذه الملاحظات التي ذكرها السهروردي في هذا الباب أن علم الشريعة قد انقسم إلى قسمين متمايزين: قسم اختص به الفقهاء وأهل الفتيا للأحكام العامة والعبادات والمعاملات. وقسم اختص به الصوفية وأهل الباطن اشتمل على ما يتعلق بهم من مراقبات ومحاسبات، ورياضيات ومجاهدات، وأحوال ومقامات. وما إلى ذلك من الأمور الكثيرة التي نراها منبثة في تضاعيف علومهم ومعارفهم. كتب الفقهاء كتبهم فدونوا فيها الأحكام التي استخلصوها من القرآن والحديث. وكتب الصوفية كتبهم فدونوا فيها مكاشفاتهم ومواجدهم التي انتهوا إليها عن طريق القرآن والحديث، ولكن هناك فرقاً بين فقه الفقهاء وتصوف الصوفية. ذلك أن الفقه هو علم الأحكام الظاهرة للعبادات والمعاملات على حين أن التصوف هو علم المواجد القلبية، والرياضات النفسية، والأحكام الباطنية. وإذن فقد سمي الفقه بعلم الظاهر وسمي التصوف بعلم الباطن.

ويظهرنا مؤلف (عوارف المعارف) بعد ما قدم على كيفية نشأة الشر وكيف أصبحت النفس مأوى لهذا الشر وكيف امتازت نفوس الأنبياء والأولياء على نفوس غيرهم. فذكر هذه القصة التي تتلخص في أن الله بعث جبرائيل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض فلما أبت بعث عزرائيل فقبضها، وكان إبليس قد وطيء الأرض بقدميه فأصبح بعضها بين قدمين وبعضها الآخر بين موضع أقدامه. ومن هذه المواضع التي مستها أقدام إبليس خلقت النفس فصارت مأوى للشر. ولكن هناك جزءاً من الأرض لم تصل اليه أقدام إبليس ومن هذا الجزء أصل الأنبياء والأولياء. ولما كانت ذرة رسول الله موضع نظر الله من قبضة

ص: 26

عزرائيل لم يمسسها قدم ابليس، ولهذا لم يصبها الجهل، وانما كان رسول الله على العكس موفور الحظ من العلم، والنور، ومن هنا بعثه الله تعالى بالعلم والهدى فانتقل هذا العلم من قلبه إلى القلوب، وانتقل هذا، الهدى من نفسه إلى النفوس. ومن هنا كانت العلاقة بين رسول الله وبين الذين دعاهم إلى الأخذ بما بعثه الله به. وبعبارة أخرى كانت هذه العلاقة بنسبة طهارة الطينة. فمن كان أقرب مناسبة بنسبة طهارة الطينة كانت نفسه أكثر استعدادا لقبول ما جاء به رسول الله. وقلوب الصوفية أقرب مناسبة من هذه الناحية، وهي لهذا قد ظفرت بحظ كبير من العلم فأصبحت بواطنهم أخاذات فعلموا وعلموا، مثلهم في ذلك كمثل الأخاذ الذي يسقي منه ويزرع منه. وهم بعد هذا ومن أجل هذا اجمعوا بين فائدة علم الدراسة وفائدة علم الوراثة بأحكام أساس التقوى. ولما أن صقلت مرايا قلوبهم وصفت صفحات نفوسهم ظهرت لهم الأشياء على حقيقتها وماهيتها. فبانت لهم الدنيا بما فيها من قبح فأعرضوا عنها، وبدت لهم الآخرة بما فيها من حسن فاقبلوا عليها.

وختم المؤلف هذا الباب بملاحظة لها قيمتها وخطرها في فهم التصوف فهما صحيحا مستقيما. هذه الملاحظة هي التي يظهرنا فيها على المعنى الذي تدل عليه لفظة الصوفي. فالصوفي عنده بمعنى المقرب. وهذه اللفظة لم يرد ذكرها في القرآن ولكنها تركت ووضع مكانها لفظة مقرب. ولا يعرف في بلاد الإسلام هذا الاسم لأهل القرب. وانما يعرف للمترسمين. فهناك نفر كبير من المقربين في بلاد المغرب وتركستان وما وراء النهر لا يسمى باسم الصوفية لأن أفراده لا يتزينون بزي الصوفية، ومن هنا انتهى مؤلف (عوارف المعارف) إلى أنه لا يقصد حين يتكلم عن الصوفية في كتابه الا المقربين. وهناك ملاحظة ختامية أخرى ذكرها المؤلف في نهاية هذا الباب، هذه الملاحظة لها قيمتها وخطرها أيضا إذ هي تظهرنا على الفرق بين الصوفي والمتصوف. فالمتصوف هو من تطلع إلى مقام المقربين من جملة الأبرار ما لم يتحقق بحالهم. والصوفي هو من تطلع إلى مقام المقربين حيث يتحقق بحالهم. وأما من هو دون المتصوف والصوفي ممن تميز بزي ونسب إلى الصوفية أو المتصوفة فهو متشبه. ولنمض الآن إلى الباب الثالث حيث يحدثنا السهروردي عن فضيلة علوم الصوفية والإشارة إلى أنموذج منها. ذكر المؤلف في مستهل هذا الباب الحديث الشريف الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بطلب العلم والذي جعل فيه طلب

ص: 27

العلم فريضة على كل مسلم فقد قال رسول الله: (اطلبوا العلم ولو بالصين فان طلب العلم فريضة على كل مسلم). ذكر بعد هذا الحديث الشريف آراء العلماء من المتقدمين واختلافهم في هذه الآراء حول هذا العلم الذي أمر رسول الله بتحصيله وجعل طلبه فريضة على كل مسلم. وقد اختلف القدماء اختلافا قويا حول هذا العلم ماذا عسى أن يكون. فمنهم من قال هو علم الإخلاص ومعرفة آفات النفوس. (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين). ومنهم من قال هو معرفة الخواطر وتفصيلها، لأن هذه الخواطر هي مبدأ الفعل وأصله ولا يمكن حدوث

فعل إذا لم يسبقه خاطر. وذهب فريق إلى أنه علم الوقت. وانتهى فريق آخر ومنه سهل بن عبد الله إلى انه علم الحال أي حكم حال العبد الذي بينه وبين الله تعالى في دنياه وآخرته. ورأت طائفة أنه علم الحلال أو أنه علم الباطن الذي يستفاد من مصاحبة العلماء الزاهدين والأولياء الصالحين. وطائفة أخرى أنه علم البيع والشراء، والنكاح والطلاق، أو أنه علم التوحيد. وقد رأى أبو طالب المكي إن هذا العلم هو علم الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام.

تلك هي الآراء المختلفة التي رآها القدماء في هذا العلم الذي طلبه فريضة على كل مسلم والتي استعرضها مؤلف

(عوارف المعارف) في شيء من الإسهاب كثير، وانتهى من هذه الآراء كلها إلى أنه أميل ما يكون إلى رأي أبي طالب المكي، وإلى رأي من قال بان العلم الواجب تحصيله على كل مسلم هو علم البيع والشراء، والنكاح والطلاق إذا أراد الدخول فيه. ومن هنا يستخلص السهروردي ان العلم المقصود في حديث رسول الله انما هو علم الأمر والنهي. والمأمور في علم الأمر والنهي هو ما يثاب على فعله، وما يعاقب على تركه. والنهي في هذا العلم هو ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه. والنتيجة التي خرج بها المؤلف من هذا الكلام المستفيض هي أن علماء الصوفية عرفوا العلم المفترض على المسلمين فأقاموا دعائم علم الأوامر والنواهي بترسمهم خطى رسول الله في الاستقامة، مستعينين على إقامة هذا العلم وتدعمه بما منحوا من زهد في الدنيا وحب للآخرة وصفاء في السرائر ونقاء في الضمائر، والاستقامة التي رفع الصوفية لواءها وأثلوا بناءها هي سبيل المجتهد الصادق، والصوفية

ص: 28

حين كرمهم الله بالنهوض بواجب هذه الاستقامة رزقوا سائر العلوم كعلم الحال، وعلم القيام، وعلم الخواطر، وعلم اليقين، وعلم الإخلاص، وعلم النفس، وأخلاقها وشهواتها وما إلى غير ذلك من العلوم المتعددة التي ظفر بها الصوفية وحرمها غيرهم من علماء الدنيا. وهذه العلوم كلها ذوقية وجدانية يستعان في تحصيلها بالذوق والوجدان.

وكم كنت أحب أن أقف وقفة قصيرة عند اختلاف القدماء في أمر هذا العلم المفترض أبين فيها حظ هذه الآراء من الصواب أو الخطأ. ولكن حسبي أن أوجز لك الآن ما اعتزمت إيجازه من أبواب الكتاب إيجازاً يعطيك صورة مقاربة له، على أن أتناول مناقشة بعض ما ورد فيه من آراء مناقشة نقدية سوف اعرض لها في مقال ختامي.

وبعد أن عدد المؤلف أنواع العلوم التي ظفر بها الصوفية. قارن بين علمي الوراثة والدراسة مقارنة تتلخص في أن علوم الوراثة مستخرجة من علم الدراسة. مثلها في ذلك كمثل الزبد الذي يستخرج من اللبن الخالص. فلو لم يكن لبن لم يكن زبد. ثم عرض السهروردي إلى علوم الإسلام فقال ان للإسلام علوما هي علوم مبانيه. والإسلام بعد الأيمان نظر إلى مجرد التصديق: ولكن للإيمان فروعا بعد التحقق بالإسلام. وهذه الفروع مراتب كعلم اليقين الذي يعطيه لنا الدليل. وعين اليقين وهو ما تعطيه المشاهدة، وحق اليقين وهو ما حصل من العلم بما أريد به ذلك الشهود. وهذه قد تقال للتوحيد والمعرفة والمشاهدة. وللإسلام في كل فرع من فروعه علوم، وبالجملة فانك ترى أن علوم الإسلام هي علوم اللسان، وان علوم الإيمان هي علوم القلوب. ولعلوم القلوب هذه وصفان أحدهما عام والآخر خاص. فأما الوصف العام فهو أن علم اليقين يتوصل اليه بالنظر والاستدلال. ومن هنا اشترك في هذا الوصف كل من علماء الصوفية وغيرهم من علماء الدنيا. وأما الوصف الخاص فهو هذه السكينة التي أنزلها الله على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا على إيمانهم. ومن هنا ترى أن علوم الصوفية اشتركت مع علوم غيرهم في مرتبة اليقين، وهي المرتبة الاولى ثم امتازت عليها بالمرتبتين الأخريين وهما مرتبة عين اليقين ومرتبة حق اليقين.

ويقسم المؤلف الناس طبقات انقسموا بالنسبة إلى نفوسهم وقلوبهم وأرواحهم. فمنهم من كانت نفسه ظاهرة على قلبه. وهذا الفريق يدعوه الله بالموعظة. ومنهم من كان قلبه ظاهرا

ص: 29

على نفسه وهذا يدعوه الله بالحكمة. فأجاب الأبرار الدعوة بالموعظة بذكر الجنة والنار. وأجاب المقربون الدعوة بالحكمة وهي الدعوة بمنح القرب وصفو المعرفة. ولما وجدوا التلويحات بهذا القرب أجابوا بأرواحهم وقلوبهم ونفوسهم. وهم حين يتابعون الأعمال يجيبون بقلوبهم. وحين يتحققون بالأحوال يجيبون بأرواحهم. فأنت ترى من هذا الفرق بين الصوفية وبين غير الصوفية. فهؤلاء يجيبون بالبعض وأولئك يجيبون بالكل. والصوفية حين يجيبون بالكل يتهيأ لهم بالعلم والمعرفة حظ لم يتهيأ لغيرهم. ومن هنا كانوا أقدر من غيرهم على الوصول إلى اليقين الذي لا يحيطه شك. اليقين يكشف لهم عن حقيقة الذات الإلهية ويظهرهم على ماهية الأشياء. بحيث ينتهون من هذا كله إلى الاتحاد مع الله والفناء فيه اتحاداً يضمن لهم السعادة، وفناء يكفل لهم السلام.

محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب

ص: 30

‌صور من الأدب العربي

سيبويه المصري

للأستاذ احمد أمين

شخصية غريبة كانت في مصر في عهد الدولة الإخشيدية قبل بناء القاهرة، وكان يدوي اسمها في الفسطاط والقطائع وما بينهما قبيل مجيء الفاطميين، كانت شخصية ترهب وتحب، ويضحك منها، ويعتبر بها، إن شئت علما فعالم. أو شعراً فشاعر، أو أدباً فأديب، أو وعظاً فواعظ، أو فكاهة ففكه، أو نقداً مقذعا فناقد، أو جنوناً فمجنون.

ولد بمصر سنة 284هـ وعاش أربعا وسبعين سنة وأتقن النحو حتى لقب بسيبويه

ألطف ما فيه لوثة (لحسة) كانت بعقله، هي سر عظمته فقد جرأ على ما لم يجرؤ عليه أحد في عصره، كان معتزلياً يقف في المسجد وفي الشارع فيصرح بآرائه في الاعتزال، ويصيح بأن القرآن مخلوق فيقولون مجنون. ويتركونه يقول ما شاء حيث لا يقول أحد شيئا من ذلك الا همساً أو من وراء حجاب، ويتعرض للناس بالقول اللاذع سواء في ذلك كافور الإخشيد أو وزيره، أو العلماء أو التجار، فيتضاحكون منه ويتقون لسانه ببره والإهداء اليه، سراً وجهراً.

كانت نوادره كثيرة، تتلقفها الألسن، ويتناقلها الرواة، فتشيع في الناس وتكون سلوتهم ومثار ضحكهم.

وقديماً عرف المصريون بالفكاهة الحلوة والنادرة اللطيفة كما عرفوا بالإعجاب بها والجد في طلبها والإمعان في الضحك منها.

من أجل هذا ألف ابن زولاق المصري كتابه اللطيف في نوادر سيبويه، لم يذكر فيه الا قليلا عن علمه ولم يذكر شيئاً عن نحوه ولا عن جده، وانما ملأه كله بفكاهته ولوثته. حذا ابن زولاق هذا حذو مؤلفي العراق في تدوين حوادث ظرفاء الممرورين. وابن زولاق نفسه يقول (لو كان سيبويه بالعراق لجمع كلامه، ونقلت ألفاظه، ولو عرف المصريون قدره لجمعوا عنه أكثر مما حفظوه).

عرف منذ شب بهذه اللوثة، تظهر في حركاته ورمش عينه، وزادت بترديه في بئر أمام بيته، وتهيج أحيانا فيطرح ثيابه ويمشي عريان في الطريق على عورته خرقة، وعلى

ص: 31

أكتافه خرقة، وبيده عصا ومصحف ويروح إلى الجامع وهو على هذا الشكل يعظ ويتزهد، وأحياناً تهدأ ثائرته فينادم الأمراء والوزراء ويعجبون بلطفه وظرفه، وتقول زوجه انه انما كان يهيج إذا لم يأكل اللحم والدسم فإذا أكلهما هدأ.

قلت لن لوثته سر عظمته، فإذا هو هدأ سكت ولكنه إذا هاج أتى بالنوادر الطريفة والكلم السيار، ولذلك قالوا فيه أنه (إذا لم يكن له من يهيجه لم يخرج علمه).

سب مرة خازن الإخشيد أو وزير ماليته فأخذه وعذبه ثم أطلقه وأجرى عليه الرزق فكان الصبيان أحيانا إذا رأوه يتصايحون (يا خازن اخرج عليه) فيهيج ما به وينطق بالقول اللطيف.

كان يقول القول عل سجيته لا يرهب أحداً، قد أدخل مرة مستشفى المجاذيب ثم أخرجه كافور الإخشيد، فلما مثل بين يديه قال له سيبويه (ما مثلك يصطنع بعشرين ألف دينار ولا بثلاثين ألفاً إذا كنت عادلا، فأما إذا كنت جائرا فأسود بعشرة دنانير يقوم مقامك)

وكان أكثر قوله سجعاً، ومن ثم كان أكثر دورانا على الألسنة وأسهل حفظاً.

لقى المحتسب وبين يديه أجراسه فقال: (ما هذه الأجراس يا أنجاس، والله ما ثَم حق أقمتوه، ولا سعراً أصلحتموه، ولا جان أدبتموه، ولا ذو حسب وقرتموه، وما هي إلا أجراس تسمع، لباطل يوضع، وإقفاء تصفع، وبراطيل تقطع، لا حفظ الله من جعلك محتسباً، ولا رحم لك ولا له أماً ولا أباً).

وكان مخشي اللسان يهرب الوجهاء والأعيان إذا سمعوا صوته من بعيد، حتى لا يقذفهم بقذيفة من لذعاته تسير في الناس، وكان كافور يعجب كيف يسكت المصريون على سبه ويقول:(سبحان من سلط سيبويه عليكم ينتقم منكم وما تقدرون على الانتصار).

وما السبب في هذا الا أنه كان يعمد إلى الرؤساء فيصب عليهم كلماته القارسة تصيب منهم مقتلا، ويسر الشعب من هذا لأنه يعبر عما في نفوسهم، وينتقم من خصومهم ويجرؤ بجنونه على ما لم يجرؤ عليه عقلاؤهم، وكان يستطيع بلسانه أن يصل إلى ما يتحرج من ذكره المتدينون. لقد كان يوماً يؤاكل ابن المادراني الوزير، وعنده هارون العباسي فقدمت هريسة فقال هارون: أكثر منها ياسيبويه فانها تذهب بالوسواس من رأسك، فكف سيبويه عن الطعام وأخذ يفكر، فقالوا فيم تفكر؟ قال أفكر في امتناع إبليس من السجود لآدم، والآن

ص: 32

ظهر عذره: علم ابليس أن هذا في صلب آدم فلم يسجد له، ولو عرض على كلاب اليهود أن تسجد لنسمةٍ هذا في ظهرها ما فعلت.

ونحو هذا من أنواع الهجاء القاسي.

وهو مع هذا أديب ظريف له نظرات في الأدب جميلة يقول: إن أفضل الكلام ما اعتدلت مبانيه، وعذبت معانيه، واستسلس على ألسن ناطقيه، ولم يستأذن على آذان سامعيه.

وقد هجا بعض الناس شيخا من شيوخه فقال سيبويه:

ما يضر البحر أمسى زاخرا

أن رمى فيه صبي بحجر

وسمع بيت المتنبي:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدواً له ما من صداقته بد

فقال هذا كلام فاسد، لأن الصداقة ضد العداوة ولو قال:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من مداراته بد. . لكان أحسن وأجود

وبلغ المتنبي هذا النقد فذهب إلى سيبويه وسمعه منه فتبسم وانصرف، فصاح سيبويه: انبكم!

ومع هذا فلما سمع قول المتنبي:

ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى

رضوى على أيدي الأنام تسير. . الخ

صاح سيبويه لبيك لبيك! أنا عبد هذه الأبيات.

مما يدل على ذوق حسن ونقد صحيح وتقدير للأدب. ولقد كان عالي النفس، دقيق الحس، يرى الناس كلهم دونه، فلا يذل لعظيم، ولا يهين لكبير، طلبة أنوجور بن الإخشيد أمير مصر لينادمه، فقال على شرط أن أنزل حيث تنزل، وأركب حيث تركب، وأجلس متكئا، فأجابه إلى شرطه.

وكان سيبويه يحدث عظيما فجاء خادم يسر حديثا إلى هذا الجليس فسمع له وقطع الاستماع لسيبويه. فقام سيبويه مغضبا، فسأله إلى أين؟ قال لا تجالس من لا يرى مجالستك رفعة، ولا تحدثن من لا يرى حديثك متعة، ولا تسألن من لا تأمن منعه، ولا تأمرن من لا تأمن طوعه.

ولما ماتت أم سيبويه حضر في جنازتها كل كبير في مصر الا ابن المادراني الوزير، وعاد

ص: 33

والناس حوله، فأخذ سيبويه يطلق لسانه في هجاء أبن المادراني، وما نجاه من لسانه إلا أن لقيه في الطريق يأتي مسرعا ليدرك الجنازة.

على الجملة كان سيبويه طرفة مصر في عصره، علماً وأدباً وفكاهة وجنوناً - كان يقوم فيهم مقام العالم والواعظ والأديب، ومقام الجريدة السيارة الناقدة اللإذاعة، وكان منظره بديعاً، يدور في الأسواق على حماره أو حمار غيره، وما أكثر من كان يتقي لسانه بتقديم حماره!

فبحق قال (جوهر الصقلي) لما دخل مصر وذكرت له أخباره (لو أدركته لأهديته إلى مولانا المعز في جملة الهدية) وبحق لما سمع به (فاتك) ممدوح المتنبي قال: ذكروني به فلعلي أستدعيه فانه نزهة.

ص: 34

‌في الأدب المصري القديم

النيل والحضارة المصرية (ملخص فصل من كتاب)

للأستاذ (آ. موريه)

وهنا نجوى تبسط لنا شيئا من الحياة الزوجية، يرددها زوج يبكي فقد امرأته، وامرأته، كما يبدو، ما زالت روحها أتبع له من ظله. قال يناجيها:

(لماذا أشقيتني حتى غلبت عليَّ هذه التعاسة؟ ماذا صنعت حتى رفعتُ يدك علي دون أن أباديك بشيء؟ سأرفع دعواي لآلهة المغرب التسعة، حتى يفصلوا بيننا.

ماذا صنعت؟ كنت امرأتي حين كنتُ أخطر في برد الشباب ما أزعجتك وما مسستك بسوء. اذكريني عندما كنت عريفاً بين المحاربين في جيش فرعون، تركتهم لأجئ اليك. حاملا اليك منهم هدايا ثمينة، وأنا لم أَحفِ عنك سرا طيلة حياتك، ولم أدخل منزلا غير منزلك (بعد الطلاق). وعدما رهنوني في الموطن الذي أنا فيه الآن وجعلوا رجوعي اليك مستحيلا، أرسلت إليك زيتي وخبزي وأثوابي؛ ولم أبعث بها إلى أحد سواك. وعندما مرضتِ جئتك بطبيب، فوصف العلاج، وأتى بكل ما قلت عنه؛ وعندما وجب علىَّ أن أرافق فرعون في رحلته إلى الجنوب لبثت أفكاري متوزعة عندك، وقضيت ثمانية شهور حليف الأسى لا يلذ لي طعام، ولا يسوغ لي شراب. وبعد وفاتك عدتُ إلى ممفيس، ورجوت من فرعون الذهاب إلى بيتك، وهناك وقفت باكياً، وأسعفني أصحابي على البكاء، وأعطيتهم ثيابا للف جثمانك.

واليوم وقد تعاقب ثلاثة أعوام وأنا قابع في عزلتي، ما دخلت منزل أجد، ولا عرجت على أخت من الأخوات اللابثات في البيت).

ثم نشأت قصص صغيرة مشبعة بالروح الشعبية التي تجلت فيها، أضف إلى ذلك مقطوعات غزلية عاطفية، تمثل لنا الحياة الوجدانية والعقلية للمصريين القدماء. ومن هذه القطع مقاطيع بعنوان (أغاني لغبطة القلب) وهي أغاني يجب أن تكون مصحوبة بآلات الطرب، على أن الموسيقى المصرية ظلت مجهولة برغم آلاتها الشائعة عندهم. وجل هذه المقطوعات محاورات بين رجل يدعو المرأة (يا أختي)، وامرأة تدعو الرجل (يا أخي) وكلاهما يتجاذب الأغاريد بلهجة جذابة رقيقة. وتلوح على هذه المقطوعات بعض ملامح

ص: 35

مصرية وأخلاق مصرية تثبت ما قصه علينا المؤرخ هيرودوت إذ قال: (ان المصريات كن أحراراً في مسالكهن وتصرفاتهن في تجارة الحياة وفي مزدحم الأعياد الدينية، وهن اللواتي كن يخرجن من بيوتهن لتدبير البيت والإنفاق عليه، والرجال يقومون بالخدمة المنزلية خلال تغيبهن. وهذه القبور الطيبية تطلعنا على حياة المرح عندهن، وكثير من الحكايات الشعبية تدلنا على أخلاقهن وما أتسمن به من صفات الجرأة، وهذه الجرأة قد تبدو في هذه المقطوعة الغزلية، إذ نرى العاشق كالمتغاني، والعاشقة هي التي تتكلم: يقص علينا العاشق هبوطه إلى ضفاف النيل بحوار ممفيس. وهناك شاهد (أخته) في حديقة طيبة الأريج، (إذا هو لثم شفتيها كان نشوان بغير نبيذ) هو يدنو منها كالعصفور الذي ينقض بنفسه على الشرك (شرك الحب). ولكن حميا الحب أقوى من حميا الخمر.

يقول العاشق: (نزلت المنحدر، وأنا أحمل على كتفي حزمة قصب. وبلغت ممفيس وقلت (لباتا) سيد العدالة أعطني أختي هذه الليلة، فالنهر من خمر، (وباتا) قصبه. و (سبكميت) سدرته، (وأريت) يراعه، و (ينقرنوم) أزهاره.

هذا هو الفجر ومففيس كأس من ثمر، مصفوفة أمام الإله باتا ذي الوجه الجميل.

سأنام في بيتي، وأغدو عليلا، وسيهرع جيراني إلى عيادتي، وإذ ذاك تجئ أختي معهم، وتريني للأطباء لأنها عارفة بدائي.

أرى (أختي) مقبلة، وقلبي يستفزه الطرب وذراعاي تنبسطان لعناقها، وقلبي يخفق في موضعه عندما تجيء.

إذا عانقتها وفتحت لي ذراعيها، كأني ألقيت بنفسي في (بونت) مدينة الطيوب. وإذا لثمت فاها وتفتحت لي شفتاها. فأنا سعيد سكران بدون نبيذ.

أما العاشقة فهي سهلة المأخذ، تنطلي عليها الأساليب المغرية، حبها الدقيق أدنى إلى الندب والشكوى، في حالة الاتنظار، تبدي كل مظاهر الدلال، وتقيس ذراعاً كلما قاس العاشق إصبعاً، وهذه (صائدة الطيور) لا تنصب الشباك لمجرد اللذائذ وانما تصبو من وراء الحب إلى اتحاد الروحين بالزواج وإلى السهر على خيرات عاشقها كأنها صاحبة بيته.

تقول العاشقة:

(يا أخي المحبوب! إن قلبي يسعى وراء حبك، انظر ماذا اصنع! قد نصبت فخي بيدي، إن

ص: 36

عصافير (بونت) هبطت على مصر مخالبها مفروكة بالصبر، والعصفور الذي نزل، في البدء، قد التقط طعمي.

هو ناقل عطره من (بونت)، ومخالبه مفعمة بالصبر الطيب، أرغب منك أن تعمل على إفلاته من الفخ، حتى تصغي أنت إلى أنين هذا العصفور المطيب بالصبر.

ما أجمل وجودك معي عندما أنصب الفخ!

الوزة (العاشق) تشكت عندما ما علقت.

وذاك حبك يستهويني اليك دون أن أستطيع الإفلات منه، يجب علي أن أهجر (حبائلي). ولكن ماذا أقول لأمي عمن أغدو اليه كل يوم وأنا مثقلة بعصافيري!!!

أنا سجينة حبك! وقبلتك وحدها هي التي تحيي قلبي.

قد وجدت من أحبه، فليت شعري هل يقدر (آمون) على أن يعطيني إياه إلى الأبد. .؟

يا صديقي الجميل! أود ان أرعى خيراتك كصاحبة بيتك؛ وذراعي مسندة إلى ذراعك.

سأقول في نفسي عندما يعاودني حبك؛ أن أخي الكبير بعيد عني هذه الليلة.

ما أشبهني بالأموات، لأنك أنت عاقبتي وكل حياتي).

وهذه عاشقة أخرى تلوم شاة أيقظتها عند الصباح وهي لا تود أن تستيقظ:

(ناجتني الشاة قائلة لي: هذا هو الفجر فاستيقظي، الا تهمين بالخروج؟

لا لا! يا شاتي: أنت تسيئين إلي!

قد وجدت أخي يتمطى في سريره، فطرب قلبي له وقال لي: لن أتركك أبداً، وهذه يدي في يدك، سنطوف معا كل مكان يحسن فيه التنزه.

اتخذ مني خليلته الأولى. وهو لن يحمل أي هم إلى قلبي). وبعد هذا الحب كله يضعف الهوى وتهب الشكوك ثم تتصاعد أنات العاشقة لخيانة صاحبها إياها واستبداله غيرها بها، فأصبح حب المرأة أدنى إلى العاطفة وأغنى (هوى) من الحب الذي أعلنه الرجل بلسانه.

والشاعر يزين نفثاته بالأساليب الغزلية الرقيقة، فالعاشقة تطوف في حديقة غنية الأزهار والأعشاب، فما من نبتة أو ثمرة الا تذكر بشيء من محاسن المحبوبة أو ترمز إلى سعادتها المتلاشية. الأشجار تتكلم: فهي التي تؤوي إلى أفيائها العاشقين، وتخفي عن العيون فصول غرامهم، فهنا شجرة رمان تشكو وتتوعد من أهملها، وهناك سدرة غرستها كف عاشقة تعلن

ص: 37

رضاءها عن القدر، وهنالك جميزة صغيرة سعيدة بمواقف العاشقين تحتها. وهي تراقب الأزواج بعين خبيثة ولكنها تكتم أسرارهم.

وثمت شيء من الشعر الذي يصف ألوان الجمال النسائي. وهذه هي أهم صفات هذا الجمال المنشود (شعر حالك كالليل، وأسنان اسطع من لمعان الصوان، وقامة رشيقة، وصدر صلب طافح).

وإذا قارنت هذا الجمال بما جاء في تماثيلهم وصورهم عرفت أن المصريين قد أهملوا رقة الصور والأشكال في الجمال، فكانوا على نقيض الشرقيين المعاصرين الذين يحبون (الخط الأهيف في الجمال الفتي) الذي يعدهم في العالم الثاني بامرأة لها شباب خالد.

وفي هذا الأثر الأدبي الذي أبقى عليه الزمن، ترى عمل المخيلة الصافية فيه مهملا، وتعاليم الفن والعلم والأدب التي وضعت لخدمة الدين والدولة جاءت غنية الخطوط، طابعة الحضارة المصرية بطابعها.

أما مصر القديمة فلم تكن الا في القليل النادر بلد البراعة المنزهة عن الغرض، والتي جاءتها من أجل الفن. فعلمها للعلم المجرد، وتفكيرها للتفكير المطلق، وأدبها للأدب النفسي، وأعمالها العظيمة المجهولة الاسم قد وضعها أربابها بدقة ومهارة في سبيل خدمة مذهب فني يسمو إلى غايات اجتماعية ودينية. وهكذا ضيق الجمال المصري باكراً ساحة الإبداع على المبدعين القادرين، ولكنه لم يهن ولم يقصر في تحليل كل ما يقدسه الشعب ويجله من تعاليم السلطة والصلاح والأدب. فكان أعظم ميزاته وأسمى سماته تمثيله بالرموز معنى النسل. وسهولة فهم مثله الأعلى الشريف، وكل ذلك بأسلوب يستحيل التقليد فيه، وعلاء يصعب السمو اليه.

خليل هنداوي

ص: 38

‌بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام

للأستاذ محمد عبد الله عنان

(لما علم الفرنج وسكان بلاد الحدود الإسبانية بمقتل عثمان بن أبي نسعة وسمعوا بضخامة الجيش الإسلامي الذي سير اليهم، استعدوا للدفاع جهدهم وكتبوا إلى جيرانهم يلتمسون الغوث. وجمع الكونت سيد هذه الأنحاء (يريد أودو) قواته وسار للقاء العرب ووقعت معارك سجال. ولكن النصر كان إلى جانب عبد الرحمن بوجه عام فاستولى تباعا على كل مدن الكونت. وكان جنده قد نفخ فيهم حسن طالعهم المستمر فلم يكونوا يرغبون الا في خوض المعارك واثقين كل الثقة في شجاعة قائدهم وبراعته)

(وعبر المسلمون نهر الجارون وأحرقوا كل المدن الواقعة على ضفافه وخربوا جميع الضياع وسبوا جموعا لا تحصى؛ وانقض هذا الجيش على البلاد كالعاصفة المخربة فأجتاحها، وأذكى اضطرام الجند نجاح غزواتهم واستمرار ظفرهم وما أصابوا من الغنائم).

(ولما عبر عبد الرحمن نهر الجارون اعترضه أمير هذه الأنحاء ولكنه هزمه ففر أمامه وامتنع بمدينته. فحاصرها المسلمون ولم يلبثوا أن اقتحموها وسحقوا بسيوفهم الماحقة كل شيء. ومات الكونت مدافعا عن مدينته واحتز الغزاة رأسه. ثم ساروا مثقلين بالغنائم في طلب انتصارات أخرى، وارتجت بلاد الفرنج كلها رعباً لاقتراب جموع المسلمين، وهرع الفرنج إلى ملكهم قلدوس في طلب الغوث، وأخبروه بما يأتيه الفرسان المسلمون من العبث والسفك وكأنهم في كل مكان، وكيف أنهم احتلوا واجتاحوا كل أقاليم أربونة وتولوشة وبردال وقتلوا الكونت. فهدأ الملك روعهم ووعدهم بالغوث العاجل. وفي سنة 114 سار على رأس جموع لا تحصى للقاء المسلمين. وكان المسلمون قد اقتربوا عندئذ من مدينة تور، وهناك علم عبد الرحمن بأمر الجيش العظيم الذي سيلقى. وكان جيشه قد دب اليه الخلل لأنه كان مثقلا بالغنائم من كل صوب. ورأى عبد الرحمن وأولو الحزم من زملائه أن يحملوا الجند على ترك هذه الأثقال والاقتصار على أسلحتهم وخيولهم ولكنهم خشوا التمرد أو أن يثبطوا عزائم الجند واستسلموا لرأي الواثقين المستهترين. واعتمد عبد الرحمن على شجاعة جنده وحسن طالعه المستمر. ولكن الاضطراب خطر خالد على سلامة الجيوش. صحيح أن الجند يحملهم ظمأ الغنم أن يأتوا جهودا لم يسمع بها فطوقوا

ص: 39

مدينة تور وقاتلوا حصونها بشدة رائعة حتى سقطت في أيديهم أمام أعين الجيش القادم لإنقاذها وانقض المسلمون على أهلها كالضواري المفترسة وأمعنوا القتل فيهم. قالوا ولعل الله أراد أن يعاقب المسلمين على تلك الآثام، وكان طالعهم قد ولى).

(وعلى ضفاف نهر الأوار (اللوار) اصطف رجال اللغتين والتقي المسلمون والنصارى وكلاهما جزع من الآخر، وكان عبد الرحمن ثقة منه بظفره المستمر هو البادئ بالهجوم فانقض بفرسانه على الفرنج بشدة وقابله الفرنج بالمثل. ودامت المعركة ذريعة مروعة طوال اليوم حتى جن الليل وفرق بين الجيشين. وفي اليوم التالي استؤنف القتال منذ الفجر بشدة، وشق بعض مقدمي المسلمين طريقهم إلى صفوف العدو وتوغلوا فيها. ولكن عبد الرحمن لاحظ والمعركة في أوج اضطرامها أن جماعة كبيرة من فرسانه غادرت الميدان بسرعة لحماية الغنائم المكدسة في المعسكر العربي، لأن العدو أخذ يهددها. فأحدثت هذه الحركة خللا في صفوف المسلمين، وخشي عبد الرحمن عاقبة هذا الاضطراب فأخذ يثب من صف إلى صف يحث جنوده على القتال، ولكنه ما لبث أن أدرك أنه يستحيل عليه ضبطهم فأرتد يحارب مع أشجع جنده حيثما استقرت المعركة، حتى سقط قتيلا مع جواده وقد أثخن طعانا. وهنا ساد الخلل في الجيش الإسلامي وأرتد المسلمون في كل ناحية ولم يعاونهم على الانسحاب من تلك المعركة الهائلة سوى دخول الليل)

(واستفاد النصارى من هذا الظرف فطاردوا الجنود المنهزمة أياما عديدة، واضطر المسلمون أثناء انسحابهم أن يحتملوا عدة هجمات واستمر الصراع بين مناظر مروعة حتى أربونة).

(وقد وقعت هذه الهزيمة الفادحة بالمسلمين وقتل قائدهم الشهير عبد الرحمن سنة115 هـ، ثم إن ملك فرنسا حاصر مدينة أربون. ولكن المسلمين دافعوا بشجاعة متناهية حتى أرغم على رفع الحصار وارتد داخل بلاده وقد أصابته خسائر كبيرة)

وأورد المؤرخ كاردون من جهة أخرى في كلامه عن الموقعة فقرة، ذكر أنه نقلها عن ابن خلكان جاء فيها:(لما استولى العرب على قرقشونة خشي قارله (كارل) أن يتوغلوا في الفتح فسار لقتالهم في الأرض الكبيرة (فرنسا) في جيش ضخم وعلم العرب بقدومه وهم في لوذون (ليون) وأن جيشه يفوقهم بكثرة، فعولوا على الارتداد. وسار قارله حتى سهل

ص: 40

أنيسون دون أن يلقى أحدا. إذ احتجب العرب وراء الجبال امتنعوا بها، فطوق هذه الجبال دون أن يدري العرب ثم قاتلهم حتى هلك عدد عظيم منهم وفر الباقون إلى أربونة. فحاصر قارله أربونة مدة ولم يستطع فتحها فارتد إلى أراضيه وأنشأ قلعة وادي رذونه (الرون) ووضع فيها حامية قوية لتكون حدا بينه وبين العرب).

ونعود بعد ذلك إلى الرواية الإسلامية فنقول ان المؤرخين المسلمين يمرون على حوادث هذه الموقعة الشهيرة أما بالصمت أو الإشارة الموجزة. ويجب أن نعلم بادئ بدء أن موقعة تور تعرف في التاريخ الإسلامي بواقعة البلاط أو بلاط الشهداء لكثرة من أستشهد فيها من أكابر المسلمين والتابعين. وفي هذه التسمية ذاتها، وفي تحفظ الرواية الإسلامية، وفي لهجة العبارات القليلة التي ذكرت بها الموقعة، ما يدل على أن المؤرخين المسلمين يقدرون خطورة هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، ويقدرون فداحة الخطب الذي نزل بالإسلام في سهول تور. ويدل على لون الموقعة الديني ما تردده الأسطورة الإسلامية من أن الآذان لبث عصوراً طويلة يسمع في بلاط الشهداء. ونستطيع أن نحمل تحفظ المؤرخين المسلمين في هذا المقام على أنهم لم يروا أن يبسطوا القول في مصاب جلل نزل بالإسلام ولا أن يفيضوا في تفاصيله المؤلمة، فاكتفوا بالإشارة الموجزة اليه، ولم يكن ثمة مجال للتعليق أيضا، ولا التحدث عن نتائج خطب لا ريب أنه كان ضربة للإسلام ولمطامع الخلافة ومشاريعها. وإذا استثنينا بعض الروايات الأندلسية التي كتبت عن الموقعة في عصر متأخر، والتي نقلناها فيما تقدم فان المؤرخين المسلمين يتفقون جميعا في هذا الصمت والتحفظ. وهذه طائفة من أقوالهم وإشاراتهم الموجزة:

قال ابن عبد الحكم وهو من أقدم رواة الفتوح الإسلامية واقرب من كتب عن فتوح الأندلس ما يأتي: -

ص: 41

‌في الأدب العربي

نابغة من شعراء مصر

الخشاب الشاعر

للأستاذ محمد كامل حجاج

هذا النابغة الذي سأحدثك عنه كان ثاني النيرين وأحد الفرقدين في عصره اذ لم يكن لهما ثالث يجاريهما في حلبة القريض، أو يدانيهما في مضمار الأدب. ولقد خان الحظ شاعرنا في عصرنا هذا حتى أصبح نسيا منسيا لدى الجمهور ولو انه معروف بين الخاصة من الطبقة الراقية في الأدب. ولقد جنت عليه المطابع المصرية إذ لم تنشر ديوانه، وطبعته مطبعة الجوائب بالأستانة مع مجموعة كبيرة أصبحت نادرة جدا.

خدم الحظ البهاء زهير فطبع ديوانه في أوربا ومصر عدة طبعات بيع بعضها بقرشين حتى انتشر وحفظ منه الفقهاء والمنشدون والمغنون كثيرا وغنوه في الحفلات حتى شاع وملأ الأصقاع مع أنه لا يذكر بجانب شاعرنا المترجم به.

وكان ثاني النيرين العالم العلامة والشاعر المجيد الذي ضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر. وقد ارتحل عن مصر وقت هجوم الفرنسيين عليها وتجول بين ربوع الشام واشقودره، ولما آب من رحلته مازج المترجم به وخالطه، ورافقه ووافقه، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وكثيرا ما كانا يتنادمان في دار صديقهما الحميم الوفي الشيخ الجبرتي ويطرحان التكلف ثم يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن جولة، وكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وافتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذ فريدا عصرهما، ووحيدا مصرهما لم يعززا بثالث في ذاك الوقت.

كان والد المترجم به نجارا ولما راجت صناعته فتح مخزنا لبيع الأخشاب بجانب تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة، وأرسل ابنه إلى الكتاب لحفظ القرآن، ثم طمحت نفسه إلى طلب العلم فذهب إلى الأزهر ولازم حضورالسيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت فانجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة، وشغف بمطالعة الأدب والتاريخ والتصوف

ص: 42

حتى أصبح نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات.

ولدماثه أخلاقه، ولطف سجاياه، وكرم شمائله، وخفة روحه صحبه كثير من أرباب المظاهر والرؤساء والكتاب والأمراء وكبار التجار

يقول لنا الجبرتي إن شاعرنا السيد الشريف أبا الحسن إسماعيل ابن سعد بن إسماعيل الوهبي الحسيني الشافعي كانت له قوة استحضار في إبداء المناسبات حسبما تقتضيه حال المجلس، فكان يجالس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور ويأسر لبه بلطف سمره ومنادمته الجذابة الخلابة

ولما دخل الفرنسيون مصر عين المترجم له محررا لتاريخ حوادث الديوان وقرر له الجنرال جاك منو في كل شهر سبعة آلاف نصف فضة.

علق المترجم به شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين وكان جميل الصورة لطيف الطبع عالما ببعض العلوم العربية ويحفظ كثيرا من الشعر، فلتلك المجانسة في الميول، مال كل منهما إلى الآخر حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة صاحبه، فكان المترجم له تارة يذهب إلى داره وطورا يزوره هو ويقع بينهما من لطيف المحاورةما يتعجب منه، وهو الذي نفح الشاعر بهذه النفحات العظيمة والغزل الفائق.

لم يزل المترجم به على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق، وسكنى الدور الواسعة، وكان له صديق يسمى أحمد العطار باب الفتوح توفي فتزوج شاعرنا امرأته وهي نصف، وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من زوجها المتوفى فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق عليه إشفاق والد بولده، ولما ترعرع زوجه وأقام له مهرجانا فخما، وبعد سنة من زواجه مرض اشهرا أنفق فيها كثيرا من المال عليه، ثم قضى الغلام نحبه فجزع عليه جزعا شديدا وأقام له مأتما عظيما، واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت له رواتب وقراء واتخذت مسكنا ملاصقا لقبره أقامت به نحو الثلاثين سنة، وهي مداومة على عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين كل جمعة على الدوام، وشاعرنا طوع أمرها في كل ما طلبته. وكان كل ما وصل إليه من مال أو كسب ينفقه عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية. لأنها في ذاتها عجوز

ص: 43

شوهاء وهو نحيف ضعيف الحركة جدا، ومرض بحصر البول مع الحرقة والتألم وطال عليه حتى لزم الفراش أياما ثم توفي في يوم السبت ثاني الحجة سنة 1230 بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز، وُصلي عليه في الأزهر في مشهد حافل ودفن عند ابنه المذكور بجامع الكردي.

وقد اهتم الشيخ حسن العطار بجمع ديوان الخشاب في حياته سنة 1227 لإعجابه الشديد برقته وبلاغته وسمو خياله، أي قبل موته بثلاث سنين، ويؤيد ذلك التاريخ الذي وضعه ناسخ الديوان محمد صالح الفضالي الواقعي المصري إذ انتهى من نسخه في يوم الأحد 11 شوال سنة 1227. وقد عاش المترجم بعد جمع ديوانه ثلاث سنين، ولا يبعد انه نظم فيها شيئا ليس بالقليل، ولأنه لم يترك عقبا امتدت يد الشتات إلى نظمه الأخير.

لا نعرف بالضبط التاريخ الذي بدأ فيه بمعالجة القريض. وأقدم تاريخ في ديوانه سنه 1201 يؤرخ به ميلاد ابن أبي الأنوار السادات، ومن ذلك يعلم انه مكث يقرض الشعر أكثر من ثلاثين سنة

طرق الشاعر عدة أنواع من الشعر وهي الغزل والخمريات والمدح والرثاء والتهاني والوصف والموشحات والأدوار. وإن القينا نظرة عامة في شعره وجدناه صادق الوصف منسجم السياق رشيق الأسلوب يحسن اختيار الالفاظ، موسيقي الأوزان، خفيف الروح فخم التراكيب، مسلسل المعاني متصلها، ولم نر في جميع ديوانه شيئا من الهجو، وهذا مما يدل على سمو أخلاقه.

ولغزله المكانة الأولى ولا سيما ما قاله في صديقه الفرنسي الذي سبق الكلام عنه، فانه يتأجج بعنيف العواطف والصراحة في القول ورقة التعبير ورشاقة الوصف. ومن أرق قوله فيه:

أدرها على زهر الكواكب والزهر

وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر

وهات على نغم المثاني فعاطني

على خدك المحمر حمراء كالجمر

وموه لجين الكأس من ذهب الطلا

وخضب بناني من سنا الراح بالتبر

وهاك عقوداً من لآلي حبابها

فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر

إلى أن قال في آخر القصيدة::

ص: 44

وفوق سنا ذاك الجبين غياهب

من الشعر تبدو دونها طلعة البدر

ولما وقفنا للوداع عشية

وأمسى بروحي حين جد السرى يسرى

تباكي لتوديعي فأبدى شقائقا

مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر

وقال فيه أيضا:

علقته لؤلؤي الثغر باسمه

فيه خلعتُ عذاري بل حلا نسكي

ملكته الروح طوعا ثم قلت له

متى ازديارك لي أفديك من ملك

فقال لي وحميا الراح قد عقلت

لسانه وهو يثني الجيد من ضحك:

إذا غزا الفجَر جيشُ الليل وانهزمت

منه عساكر ذاك الأسود الحلك

فجائني وجبين الصبح مشرقة

عليه من شغف آثار معترك

في ُحلة من أديم الليل رصَّعها

بمثل أنجمه في قبة الفلك

فخلتُ بدراً به حفت نجوم دجى

في حندس من ظلام الليل محتبك

وافى وولى بعقل غير مختبل

من الشراب وستر غير منهتك

ومن أروع ما قال فيه موشحه الذي عارض فيه موشح الشيخ حسن العطار الذي مطلعه:

أما فؤادي فعنك ما انتقلا

فلم تخيرت في الهوى بدلا (فأعجب).

وهذا الموشح الذي يسيل رقة ورشاقة مخمس ومرفل. قال رحمه الله:

يهتز كالغصن ماس معتدلا

أطلعَ بدراً عليه قد سدلا (غيهب)

ريم يصيد الاسود بالدعج

يسطو بسيف اللحاظ في المهج

يزهو لعيني بمظهر بهج

فكيف أبغي بحبه بدلا

وليس عنه جار او عدلا (مهرب)

وضاح نور الجبين أبلجه

وردي خد زها توهجه

اليه شوقي يزيد لاعجه

فلست أصغي عذلا

وعنه والله لا أتوب ولا (أرغب)

ألمي شهي الرضاب واللعس

ص: 45

يزري غصون الرياض بالميس

يختطف اللب خطف مختلس

لو يحل الخصر نبتني أسلا

من رام يوما اليه أن يصلا (يحجب)

قطع قلبي بحبه إربا

وصد عني فلم أنل إربا

أواه أواه منه واحربا!

أصلي فؤادي بخده وقلا

وذبت وجداً به ولي قتلا (فاعجب)

مجوهر الثغر يلفط الدررا

بدمي فؤادي وخده نظرا

علّم عيني البكاء والسهرا

فانهل دمعي كالوبل وانهملا

بالدم خدي عندما هطلا (خضب)

مولاي رفقاً بصبك الدنف

قد كدت أقضي عليك من أسف

تلاف روحي فقد دنا تلفي

من ريقك العذب اروني انتهلا

وهات كأسي وطف بها ثملا (واشرب)

راحا سناها يضيء كاللهب

تبسم عن رطب لؤلؤ الحبب

عطر مازج ثغرك الشنب

بين رياض ومسمع غزلا

على المثاني إذا شدا رملا (اطرب)

والورق من حسن صوتها الغرد

تميل قضب الرياض بالميد

وتوج الدوح لؤلؤ البرد

تاجاً من الدر نظمه كملا

فكن من اللهو سالكاً سبلا (وادأب)

ومن درر نظمه خمريته:

أدر السلاف على صدى الألحان

ودع العذولَ بجهله يلحاني

ص: 46

واستجل بكر الراح في ظل الربى

بين الرياض تزف والعيدان

شمس لها من فوق خد مديرها

شفق الصباح إذا بدا الفجران

نور ولكن من سنا لآلائها

في الخد نارُ فؤادها الولهانِ

نار لها في وجنتيه وكفه

لهب به أعشو إلى النيران

من كف معتدل القوام كأنه

قمر يلوح على غصين البان

نشوان من سكر الشباب يهزه

من خمر فيه وراحه سكران

ومهفهف ماء الحياء بوجهه

يزري بهي شقائق النعمان

إلى أن قال:

ليث العرين له تلفت جؤذر

يفتر عن در على مرجان

متلأليء تحت الشعور جبينه

كحسامة في غيهب الميدان

عربي لفظ أعجمي المنتمى

هندي لحظ صائل بيمان

غصب النجوم فصاغهن أسنة

وبفيه نظمها عقود جمان

والقصيدة طويلة والجزء الغزلي فيها يرجع إلى صديقه الفرنسي. ومن الطف قوله قصيدته التي يمدح بها السادات

وصلتك واضحة الجبين المسفر

من بعد طول تمنع وتستر

قامت فخالست ازديارك قومها

وتربصت سحراً هجوع السمر

وأنت ترنح كالغصين أماله

نفس الصبا وتجر فضل المئزر

هيفاء يخجل لحظها وقوامها

بيض الصفاح وكل لدن أسمر

ما أنس لا أنسى ليالي وصلها

بين الرياض وحسن نغم المزهر

إلى أن قال:

من سادة ورثوا النبي وجاهدوا

في دينه حق الجهاد الأكبر

من خير بيت من ذؤابة هاشم

من معشر أكرم به من معشر

والقصيدة طويلة.

ومن أروع شعره قصيدة فقد مسودتها وراجعه فيها الشيخ حسن العطار فذكر له منها أحد عشر بيتا من وسطها ونسي الشاعر مطلعها وآخرها.

ص: 47

ولرب ليل قد أبيتُ بجنحه

أطوى هضاب فدافد ووهاد

بأغر أجردٍ ضامر لكنه

جلد العزائم عند كل جلاد

متعودا وطء الأسّنة في الوغى

متجشما في الروع هول طراد

ظن السيوف جداولاً وعوامل

المران أغصان النقا المياد

إلى أن قال:

متقلدا عَوَض السيوف عزائمي

متسربلا بدل الدروع فؤادي

حتى بلغت أخا السماحة والندى

وابن السراة السادة الأجواد

لقد فات الجبرتي أن يخبرنا عن ارتباط شاعرنا بعصر المماليك قبل دخول الفرنسيين وفترة الأربع سنين التي تولى الحكم فيها ولاة الأتراك، والعصر الذي عاشه في عهد ساكن الجنان محمد علي باشا.

وللمترجم له من النثر بعض مراسلات وتقاريظ مسجعة كعادة أهل عصره رحمه الله رحمة واسعة وألهم المصريين تخليد ذكره وإعلاء شأنه.

ص: 48

‌من طرائف الشعر

غرام الشعراء

الغيرة

للشاعر الوجداني الأستاذ احمد رامي. من رواية ينظمها بهذا العنوان

في هذا الموضوع

(في دار الولادة بنت المستكفى بقرطبة. الشاعر أبو الوليد احمد بن زيدون يزور الدار أول مرة في صحبة صديقه أبي حفص بن برد. بعد التعارف والتفاهم تحتفل الولادة بقدوم ابن زيدون فتدعو القيان. بعد الرقص والعزف يقبل الوزير ابن عبدوس في رفقة نديمه خليفة لزيارة الولادة جريا على عادته)

ابن عبدوس: وقد سمع آخر الغناء مخاطبا خليفة.

مطبل وزامر

فمن يكون الزائر؟

خليفة:

أحسبها توقعت

حضورنا نسامر

وهذه تحية

ترسلها المزاهر

أدخل فقد طاب الهوى

بما يحب الخاطر

ابن عبدوس: (قد اجتاز الباب ورأى ابن زيدون)

من أرى؟

الولادة: (مقدمة اليه)

هذا ابن زيدون

ابن عبدوس: وما لي أراه شارد اللب حزين!

قد عرفناه طروباً ينثني

مرحا عند سماع العازفين

ابن زيدون: (في لهجة حازمة)

وأراني ربما أحزنني

من صدى الاوتار شدوٌ أو رنين

ابن عبدوس: (في شئ من السخرية)

ص: 49

هذه حال الذي أودى به

لاعج الأشواق أو مسُّ الجنون

ابن زيدون:

نعم أهوى ولا أخفي غرامي

ومن شرف الهوى أني صريح

وأما إن سئُلت من اصطفتي

سكتّ فما استرحت وما أريح

ابن عبدوس:

ومن لك أن تقول صفا هواها

وقلب الغانيات مدى فسيح

ابن زيدزن:

وغّرك من عهد ولآدة

سراب تراءى وبرق ومض

أراك تفوقْ سهم النضال

وترسلها لو أصبت الغرض!

ولادة:

وما هذا التراشق بالأحاجي

وما هذا التوثب للهجوم؟

أرى عينيكما رمتا شرارا

وأخشى النار ترعى في الهشيم!

(بعد صمت)

ألم يجمعكما سبب متين

على حفظ المودة والأخاء؟

ابن زيدون:

وألفنا على الإخلاص عرشاً

نفدّيه ونخلص في الفداء

ابن عبدوس:

وهل أخلصت للعرش المفدى

وقمت على الرعاية والولاء؟

وأنت العمرَ تقضيه هباء

صريع الكأس أو خِلْبَ النساء

ابن زيدون:

خسئت فان لي الِقْدح المعلى

إذا خفّ الرجال إلى العلاء

تأسس ملك قرطبة وقامت

دعائمه وكانت من بنائي

وناولت ابن جهور صولجانا

على جنباته تجري دمائي

ابن عبدوس:

ومن بين الممالك لا يبالي

بهدم العرش أو هدّ اللواء

ص: 50

ولادة:

كفى ما قلتماه فان داري

مراح الشعر أو مغدى الغناء

تباعَدَ نازلوها عن حوارٍ

يجر إلى القطيعة والعداء

ومالي والسياسة وهي بحر

أتُّي الموج مربدّ السماء

طغت أنواؤه فهوت بأهلي

وطاحت بالرفاق الأوفياء

(بعد صمت)

يا خليليّ أما كان لنا

نُدْحة عن ذلك القول الهراء!

ابن زيدون: قد تحداني

ولادة: وماذا قال لك؟

ابن زيدون: قال إني أصرف العمر هباء

ابن عبدوس: بل تصدى لي

ولادة: وماذا قال لك؟

ابن عبدوس: قال يغويني سراب في سماء

ولادة:

وهل الدنيا سوى أخيلة

من ظلام اليأس أو نور الرجاء

وهل الأيام إلا ساعة

ينعم القلب بها حيث يشاء

خلّياناالذي فات ولا

تذكرا الماضي إذا الماضي أساء

وِصلا حبل التصافي واعلما

أن هذي الدار نادي الأصفياء

ابن زيدون: (في لهجة المعاتب)

درجنا مع الود منذ الصبى

وكانت رباه لنا ملعباً

وألفنا أمنيات الشباب

زهت كوكباً وسمت مطلباً

ومرت بنا عاديات الزمان

فكنا على غدره قُرَّبا

ابن عبدوس:

ومالك أنكرت مني الوفاء

وقد ذقته صافيا طيباً؟

ولادة:

ص: 51

حنانيكما لا تطيلا الملام

ولا تسألا القلب من أذنبا

بدت جفوة بين نفسيكما

ومرَّت كلمح شهاب خبا

وما أجمل الود بعد العتاب

وأبقى الصديق إذا أعتبا!

(تدخل عتبة وصيفة الولادة)

عتبة: سيدتي!

ولادة: ماذا جرى؟

عتبة: رسول

ولادة: لمن؟ وممن ذلك الرسول؟

عتبة: من صاحب الأمر إلى الوزير

ولادة: (في حيرة) أي الوزيرين عني الأمير؟ ومن يكون حامل الرسالة؟

عتبة: المكَّرى حاكم المدينة.

ابن عبدوس: (في لهجة المتشفي)

أحسبني أمنية ابن جَهْوَر

أتأذنين لي بلقيا المكري؟

يا خليفة!

خليفة: أنا يا مولاي ما بين يديك

ابن عبدوس:

عد إلى الدار سريعاً

ربما احتجت اليك

(ينصرف خليفة في شيء من اللؤم)

إغفري لي أني أسأت إليكم

بحضوري فجاءة وذهابي

نازعتني اليك نفسي فأقبلت

على خلوة من الأحباب

لم أكد اقرأ التحية حتى

نالني منكم رشاش السباب

(ينصرف ابن عبدوس غاضبا)

ابن زيدون:

هل تبينت كيف نمت عليه

نظرة الحقد في العيون الغضبان

وسمعت الذي يعبر عما

ينطوي في ضميره المرتاب

ص: 52

شهر الحرب عامدا وتصدى

يرسل اللوم في سياق العتاب

ثم ولي يقول نحن بدأنا

هـ ولم نرع حرمة الآداب

ص: 53

‌يوم التل

للأديب فخري أبو السعود

. . . وبعد فاني مرسل إليكم قصيدة نظمتها لمناسبة ذكرى الاحتلال الإنجليزي الذي يصدر عدد الرسالة القادم في مثل يوم ابتدائه بالقاهرة 15 سبتمبر وقد اعتاد الكثير من المصريين الاستحياء لذكرى يوم التل الكبير لأن الهزيمة أصابتنا فيه، والأسف لذكرى الثورة العرابية لأن الاحتلال الإنجليزي أعقبها، حتى قال شوقي بك في بعض ما قال:

ولو أن يوم التل يوم صالح

لحماسة لجعلته إليادي

وقد نظمت قصيدتي قصد القضاء على توهم العار في هذه الذكريات، وإبراز مواضع في تلك الحوادث والوقائع.

وأقل ما في تلك الذكريات من مواضع الفخار أن الثورة كانت أول مظهر صحيح للقومية المصرية التي تنبهت في العصر الحديث، وأن موقعة التل كانت أول معركة قام بها جيش مصري صميم بالدفاع عن أرض مصر، وان المصريين فيها كانوا ينازلون أكبر قوة استعمارية عرفها التاريخ، وأن الإنجليز لم يطمئنوا إلى منازلة المصريين ولم يحرزوا عليهم النصر الا بعد أن استعانوا بكل حيلة.

أعد ذكر ماضي النيل للجيل منشدا

فما أعذب المجد الأثيل مرددا

وكم مفخر للنيل باق مخلد

إذا ذكر الأقوام فخرا مخلدا

نتيه بماضينا القديم تفاخراً

وأحر بأن يروى الحديث فيحمدا

ولم أر يوم التل عابا وسبة

ولم أره الا أغر ممجدا

أنخجل ان قمنا نذود عن الحمى

ويسحب أذيال الفخار من إعتدى؟

تدفق من عبر المحيط مهدد

فما حفلت آباؤنا من تهددا

أبو أن يدينوا للغالب عن يد

وتلقى مصر في الحوادث مقودا

وقالوا شباة السيف دون عدونا

وإن يك عرض البر والبحر أيدا

إباء تليد المجد قر له رضى

وقر له عظم الفراعين ملحدا

وما شهدوا من قبلها عهدهم

بني مصر جميعا ينهدون إلى العدى

فلما رآى سنوح فريسة

أقام زماناً دونها مترصدا

ص: 54

ترامت على الثغر الأمين رجومه

تناصب عزلا في المدينة قعدا

أثار عليهم مائج البحر مرغياً

وصب عليهم مارج النار مرعدا

تهاوى له الانقاض أيان يرتمي

وتنتثر الاشلاء في حيث سددا

تمازج لونا النار والدم عندها

وفار لهيب النار بالدم مزبدا

ولم يألها حتى كساها غلائلا

من النار حمرا في السموات صعدا

ولم يثنه في الشرق والغرب ضجة

لأمر أقام الأرض هولاً وأقعدا

منى نالها فلتندب الأرض حسرة

على العدل ولتبك السماء تلددا

رأت أمم في الشرق والغرب أمة

يجار عليها جهرة وتعمدا

تعاقب أن قامت تحطم قيدها

وتبعث تاريخا قديما وسؤددا

وتوأد حرياتها وحقوقها

ليحكم الاستعمار فيها معربدا

ولما أحال الثغر جحرا مخربا

تقدم يبغي مستراداً ومهتدي

فأبصر من دون السبيل بواسلا

جثيا على هام المسالك رقدا

تصدى إليهم كرة بعد كرة

فأصلوه نيرانا فآب مبددا

فيا من رأى أبناء مصر إذا انبروا

إلى غول الاستعمار صفا مجردا

على حين ماجت خيله وسفينه

ولم يبصروا في الشرق والغرب مسعدا

يساقونه كأس الحِمام وأهله

بمصر كرام في مراح ومغتدى

فلما رأى وعر الطريق ولم يجد

كما ظن نهجا حيث سار معبدا

تسلل من شرق البلاد محاذرا

هزيمته في الغرب أن تتجددا

ومال إلى الأعراب والختل طبعهم

يريد لدى القوم اللصوص مؤيدا

جرى تبره فيهم وسالت سفينه

تمزق عهداً للقناة مؤكدا

وساق على الأحرار بالتل سفلة

أتى بهم من كل فج وأعبدا

خميس يسير العار في خطواته

وتتبعه الأوباء في حيثما اهتدى

كفته خيانات اللئام عدوه

وما بث من جند الفساد وأرصدا

ولولا جنود الإثم تدفع دونه

لما مد رجلا للقتال ولا يدا

كذلك كانت في السياسة حاله

وفي الحرب لم يبلغ به النبل مقصدا

ص: 55

وما نال إلا بالجريمة مغنما

ولا سل إلا في الظلام مهندا

وأقبل يزهو بانتصار وإنه

لخزي له يبقى على الدهر سرمدا

خصيمك أنقى في الهزيمة صفحة

وأكرم في ظلم الحوادث محتدا

وزاد عروس الشرق في تاج ملكه

يتيه بها فخراً ويخطر سيدا

رويدك لا تحمد مقامك بيننا

ولا تحسبنه ما أقمت ممهدا

كما جئت في داج من النحس قائم

سترجع في داج يغشيك أسودا

وأنحى على الأحرار يسكب مقته

وقد كاد يسقيهم بجهلته الردى

ومن أحرق العذراء يوما تشفياً

فليس بمستثن مسناً وأمردا

فأرهق بعض في السجون مكبلا

وفرّق بعض في البلاد مشردا

سلام وريحان أبوتنا على

ثراكم سلاما ما يزال مجددا

سلام على من قد تصلوا بنارها

وخاضوا لظاها فإثماً متوقدا

سلام على من مات في حومة الوغى

ومن مات في قاص من الأرض مبعدا

سلام على قيل تولى زمامها

أعف الورى قصداً وأنقاهم يدا

أصاب بها نجحا فلما كبا بها

وأدركه منها العثار تجلدا

وذيد عن الأوطان عشرين حجة

يبيت على شوق إليها مسهدا

جريرته أن رام مصر عزيزة

وشاء لها أن تستقل وتسعدا

ورام لها من طغمة الترك معتقا

وبعدا لعهد الترك أشأم أنكدا

لتحيا كما تحيا الشعوب طليقة

بعصر يعاف العبد فيه التقيدا

ستذكره مصر الفتية ما ابتغت

لدى الحق عهداً أو لدى المجد موعدا

عسى ذكرنا رغم الهزيمة أحمدا

سيبعث فينا للغنيمة أحمدا

ص: 56

‌في الأدب الشرقي

من الأدب التركي الحديث

احمد حكمت بك

كان الأدب التركي القديم يرسف في اغلال الجمود ويقطع مراحل النهضة بتأخر وبطئ. فظهر أحمد حكمت بك ورفاقه أمثال توفيق فكرت، خالد ضيا، جناب شهاب الدين وغيرهم ممن احيوا الأدب التركي القديم، وكسروا قيود التعصب، وأغلال البطء، وأظهروا للناس تنائج أفكارهم وثمرات عقولهم التي اقتبسوها من المغرب، وألبسوا الأدب ثوبا جديدا بنشرهم المقالات الأدبية الطريفة ونظمهم القطع الشعرية الظريفة. ولكن اضطر هؤلاء أن يقفوا حينا بنهضتهم، ويخفضوا قليلا من أصواتهم، أمام جور السلطان عبد الحميد وظلمه. وما ظهرت شمس الدستور على يد مدحت باشا حتى قام أصحابنا بنهضتهم وشرعوا يتمون مشروعهم.

يعتمد أحمد حكمت بك في كتابته على الحس أكثر من الخيال، أسلوبه رقيق، ومعانيه سهله، وأفكاره متينة. أكثر كتبه حافلة بالقصص والحكايات. يسعى حين الكتابة لإظهار حقيقة ما يكتب، وهو على عكس رفيقه خالد ضيا، قليل التكلف والصنعة. ولقد صور الأدب الغربي بصورة توافق لغته وبيئته. وله مؤلفات عديدة ومن أهم آثاره كتاب (خارستان وكلستان).

وهذه قطعة من منثوره المثبوت بين كتبه القيمة، فان فقدت جمال الأسلوب وروعة الصنعة فجمال المعنى محفوظ على ما أظن:

ساعةَ خَلْقَ الكَونَ

كانت جلبة وقرقعة في ديجور الظلام الخانق، وكان انقلاب وانفجار وسط الغيوم السوداء المزبدة الحواشي تحيط بذلك الفضاء الواسع. وكانت الرياح تعصف، والأحجار تسيل. واللهب تنشر حرارتها وتذيب الصخر والجلمود. وكانت الجبال تنقلب والبحار تفرغ وتمتلئ، والغيوم تنفجر وتنشق فتولد المئات والألوف من النجوم التي تسبح في الفضاء كما تسبح اليراعات في الظلمات الحالكة، تارة تذوب. وأخرى تتصادم ثم تنعزل في ناحية من الفضاء اللانهائي. كانت الأمواه تعلو وتنخفض، تغلى وتزبد حول تلك اللهب المتعالية

ص: 57

والنيران المتأججة.

والكائنات تدور. . . . نعم كانت تدور. . . .

وكانت طوائف الملائكة المكلفة بتنظيم الأرض تطير وتنتقل من طرف إلى آخر، منها من تمسك المياه المتجمدة من حوافيها، وتدفع الجبال بأرجلها، وترتب النجوم بأيديها، وتعيد الأنهار إلى فراشها، ومنها من كانت تجر (الدب الأكبر) من ذنبه، وتقود (برج الحمل) من قرنه.

والكائنات تدور. . . . نعم كانت تدور. . . .

بين تلك الغيوم والنجوم والدخان واللهيب كان ملك ضحى بنفسه يطير بسرعة البرق خلف كوكب جميل مضيء، خلف (الزهرة) الشاردة. وبينما يعيدها إلى محورها الأول وقع فوق الصخور الملساء على أثر صدمة قوية كانت سببا في فقده رشده. ولما استفاق من إغمائه سقطت دمعة من عينه انحدرت فوق الصخرة. لقد رأى الخالق الأعظم هذه التضحيات، ووافقته هذه الخدمات، فأراد الا تضيع ذكرى هذه الدمعة فخلق الرجل الأول (آدم).

كانت دورة الأرض تنتظم قليلا قليلا، فالأنهار نامت في فراشها والبحار هدأت في أحواضها، والنجوم انتظمت في محاورها والبراكين خمدت في أماكنها.

وكانت الشمس في كل يوم تبعث الحياة على اليابسة. وكانت الرياح بين آونة وأخرى تساعد الشمس في بعث الجمال والحياة وتطرية هذه الكائنات. وكانت بذور الورود تنتثر من الآفاق وباقات زهور الحب تساقط من الغيوم، وذرات النجوم المتناثرة في تلك القبة الزرقاء تشكل مروجا من زهور البابونج (باباتيه) وحاشية من حواشي قوس قزح تبدو للناظر ذيل طاووس بهيج.

وقد وجدت هذه البدائع لتكون مكافأة للملائكة على جهودهم وخدماتهم. وكانت الحور يتمتعن من هذا الجمال والتجديد، تارة يسرن وأخرى يطرن، يسمعن أغاريد الطيور، ويبتهجن من أريج الزهور، ويتراكضن نحو ظلال الأشجار مرحات طربات، وكانت أجملهن وأصغرهن، وأتعبهن جالسة وسط زهرة فتحت صدرها وأوراقها لأشعة الشمس لتشعر بهذا الجمال اكثر من رفيقاتها، ولتتذوق هذه الحلاوة قبل صويحباتها. وهي كجميع المخلوقات تنتظر ظهور المعجزة برشفها أشعة الشمس المشرقة بشفتيها وعينها.

ص: 58

بدا نور وجمال في شفتي تلك الحورية على اثر رؤيتها في كل عصفور ريشة منيرة، وفي كل زهرة لونا جديدا وفي كل شجرة ثمرة حلوة. كان هذا النور وهذا الجمال (الابتسامة الاولى).

وقد رأى الخالق الأعظم هذه التضحيات ووافقته هذه الخدمات فأحب أن تدوم ذكرى هذه الابتسامة فخلق منها المرأة الاولى (حواء).

وانتهى بذلك خلق الكون.

ص: 59

‌في الأدب الغربي

في ساحة علبين

لأناتول فرانس

رأيت نفسي فجأة في ديار خيم عليها ظلام وهبب صامت، برزت فيه صور وأشباح مبهمة ملأتني خوفا ورعبا، ولقد ألفت عيني بعد حين حلكة الظلام ورأيت بجانب نهر تنساب مياهه في هدوء شبح إنسان رهيب المنظر على رأسه قلنسوة أسيوية، ويحمل على كتفه مجدافا عرفت فيه أوديسيوس الخادع، وكان خداه غائرين وقد غطت ذقنه لحية بيضاء شعثاء

سمعته يقول بصوت خافت ضعيف: إنني جوعان، وأحس بعيني مظلمتين ونفسي كأنها دخان ثقيل يسبح في الظلام؛ ألا من يعطيني جرعة من الدم الأسود لأستعيد ذكرى سفني المنقوشة وزوجتي الطاهرة وأمي!

فلما سمعت هذه الكلمات عرفت إنني قد انتقلت إلى بقاع الجحيم، فحاولت أن أسترشد في خطوي بأوصاف الشعراء ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وذهبت إلى مرج قد أضاءه نور ضئيل. وبعد مسير نصف ساعة انتهيت إلى رهط من الأطياف قد اجتمعت في صعيد واحد وأخذت تتطارح الحديث وهي تضم نفوسا من كل عصر، فرأيت بينها الفلاسفة العظام بجانب الهمج الفقراء، ولقد اختبأت تحت ظلال شجرة من أشجار الريحان، وأنصت إلى حديثهم، فكان أول من سمعت (بيرهون) وهو يسأل في رقة وتوسل وقد أمسك بيديه قدومه كأنه بستاني بحق:

ما هي النفس؟

فأجابته الأطياف التي حوله باهتمام وكلها يريد التكلم دفعة واحدة. قال أفلاطون وفي عينيه نظرة الرجاحة: ان النفس ثلاث، فلنا نفس نهمة في البطن، ونفس محبة في القلب، ونفس عاقلة في الرأس. والنفس خالدة، أما النساء فلهن نفسان وتعوزهن النفس العاقلة. فرد عليه شيخ من أعضاء مجلس ما كون قائلا: انك تتكلم يا أفلاطون كمن يعبد الأوثان، ففي سنة 585 قرر مجلس مكون بكثرة الأصوات اعتبار المرأة ذات نفس خالدة، والمرأة هي الرجل لأن المسيح الذي ولد من عذراء يدعى في الإنجيل بابن الرجل.

ص: 60

فهز أرسطو كتفيه ورد على أستاذه بلهجة الحزم والوقار قائلا: من المرجح عندي يا أفلاطون إن لنفس الإنسان والحيوان خمسة أنواع: النفس الغذائية، والنفس الحساسة، والنفس الدافعة، والنفس الشهوانية، والنفس العاقلة؛ والنفس هي العنصر الذي يتكون منه الجسم، فإذا أهلكت هلك بهلاكها

وطرحت آراء أخرى كل واحد منها يعارض الآخر

أوريجن: ان النفس مادية وهي شئ رمزي

سنت أوجستين: كلا، ليست النفس مادية وهي خالدة

هيجل: إن النفس ظاهرة طبيعية

شوبنهور: ان النفس مظهر وقتي للإرادة

رجل من بولينيزا: إن النفس هي نفس الريح، ولما رأيت أن نفسي صاعدة ضغطت على أنفي لأحفظها داخل جسدي، ولكنني لم أستطع أن أضغط الضغط الكافي فمت.

امرأة هندية: من فلوريدا: لقد قضيت نحبي وأنا في مهد طفلي، فوضعوا يده على شفتي ليمسك نفس أمه من الصعود، ولكن جاء هذا متأخرا فقد انسابت نفسي بين أصابع الطفل البريء

ديكارت: لقد أثبت أخيرا ان النفس كانت شيئا معنويا، أما عن مصيرها فارجعوا إلى الأستاذ ديجي الذي كتب في هذا الموضوع.

لامتري: أين ديجي هذا؟ أحضروه.

مينوس: أيها السادة سأبحث عنه في كل بقاع الجحيم،

البرنس ماجتاس: عندنا ثلاثون دليلا على فناء النفس، وستة وثلاثون على خلودها، فهناك أكثرية ستة أصوات بجانب الخلود

صانع أحذية: إن روح السيد الشجاع لا تموت لا هي ولا غدارته ولا غليونه

رابي ميمونديس: لقد كتب من قديم ان الرجل الشرير سيبيد ولن يبقى منه شيء

سنت أوجستين: انك مخطئ يا رابي ميمونديس، فقد كتب إن المذنب سيذهب إلى النار وسيخلد فيها أبدا.

أوريجين: نعم إن ميمونديس مخطئ، فالرجل الشرير لن يبيد ولكن سيتقلص حتى يصبح

ص: 61

ضئيلا جدا فلا يمكن تبينه، ويجب أن تعلم هذا ممن حلت بهم لعنة الله، أما عن نفوس القديسين فسيكون نصيبها الامتزاج بالله

دنس اسكوتس: إن الموت يجعل الكائنات تمتزج بالله مرة اخرى كأنها صوت يغيب في الهواء

بوسويه: ان أوريجن ودنس اسكوتس يخطئان هنا، فأن ما روي في الكتب المقدسة عن عذاب الجحيم يجب أن يفهم بمعناه الدقيق الحرفي، وهو أن الأشرار سيظلون أبدا تتنازعهم الحياة والموت، وسيخلدون في العذاب لأنهم سيبقون أقوياء لا يموتون، وضعفاء لا يحتملون، ولن يبرحوا يئنون على مقعد من النار مغمورين في مض من الألم لا شفاء لهم منه.

سنت اوجستين: نعم يجب أن نفهم هذه الحقائق بمعناها الحرفي، ونعلم أن أجسام الأشرار هي التي ستعذب في النار، ولن ينجو من هذا العذاب الشديد الأطفال الذين يموتون عند ولادتهم، أو حتى في بطون أمهاتهم، فهكذا قضت العدالة الإلهية، فإذا رأيت أنه يتعذر عليك تصديق أن الأجسام التي تلقى في النار لن تهلك أبداً فهذا نتيجة الجهل المحض، فأنت لا تعلم أن هناك أنواعاً من اللحم تحفظ في النار كلحم الديك البري، وقد جربت هذا في هدهد، إذ هيأ لي طاه أحد هذه الطيور وخصص نصفه لغذائي، وبعد أسبوعين طلبت النصف الآخر فكان لا يزال صالحا للأكل، فظهر لي أن النار حفظته كما ستحفظ أجسام الأشرار.

سمنجالا: إن كل ما سمعته من أنواع الفلسفة إلى الآن مظلم كظلام الغرب الدامس، والحقيقة أن الأرواح تحل في أجسام مختلفة قبل أن تمتزج بالنيرفانا المباركة التي تضع حداً لشرور الحياة، فقد حل (جوتاسا) في خمسمائة وخمسين شكلا قبل أن يصير (لودا) فكان ملكاً ثم عبداً ثم قرداً ثم فيلاً ثم ضفدعة ثم شجرة من أشجار الدلب وهكذا

قسيس: إن الناس يموتون كما تموت دواب الحقل، ومصيرهم كمصيرها، وكما يموت الناس تموت البهائم أيضا، وكلاهما يتنفس هواء واحدا وليس للناس شئ لا تملكه البهائم.

تاسيتوس: ان هذا الكلام يكون مقبولا مفهوما لو نطق به يهودي خلقت نفسه للعبودية، أما أنا فاني أتكلم كروماني فأقول: إن أرواح الوطنيين المشهورين لا تفنى ويجب أن نؤمن بذلك إيمانا صحيحا، ولكننا نتهم عظمة الآلهة إذ نحسبها تهب الخلود لأرواح العبيد

ص: 62

والعتقى.

شيشرون: وا أسفاه يا بني أن كل ما يروون لنا عن بقاع الجحيم انما هو نسيج من الاباطيل، وأني لأسأل نفسي أهناك طريق آخر يكفل لي الخلود الا ذكر عهد قنصليتي الذي سيبقى إلى الأبد؟

سقراط: أما أنا فاني أومن بخلود الروح، فهو فرصة يحسن انتهازها، وأمل يعلل به كل إنسان نفسه

فكتور كوزان: يا عزيزي سقراط إن خلود النفس الذي أوضحته بجلاء لا بد منه للأخلاق والآداب، لأن الفضيلة موضوع مناسب للحطباء، ولو لم تكن النفس خالدة لما كان للفضيلة ثواب.

سنيكا: واعجبا يا فيلسوف الغالي! أهذه مبادئ رجل حكيم؟ ألا فاعلم أن جزاء الأعمال الصالحة هو في تأديتها وإلا فجزاء تثاب به الفضيلة يكون غريباً عن الفضيلة ذاتها.

أفلاطون: ولكن هناك ثواباً وعقاباً إلهياً، فعند الموت تصعد روح الرجل الشرير لتحل في جسم حيوان حقير كحصان أو عجل بحر أو امرأة، أما روح الحكيم فتمتزج بالآلهة.

باببنيان: إن ما يعني أفلاطون هو أن العدل الإلهي سيتولى في الحياة الأخرى إصلاح أخطاء العدالة الإنسانية، والأمر على النقيض من ذلك، فخير للأفراد الذين أصابهم في الدنيا عقاب لا يستحقونه، قضى عليهم به قضاة معرضون في الواقع للزلل برغم جدارتهم بمناصبهم وخبرتهم بالقضاء، أن يظلوا يقاسون الآلام والعذاب في عالم الأرواح، وهذا ما تعني به العدالة الإنسانية التي قد يضعف من شأنها أن تضعها إلى جانب الحكمة الإلهية.

قزم: ان الله يحسن إلى الأغنياء ويسيء إلى الفقراء، لأنه يحب الأولين ويبغض الآخرين، ولحبه الأغنياء سيرحب بهم في جنانن، ولبغضه الفقراء سيصليهم بناره.

صيني بوذي: اعلم ان لكل إنسان نفسين: إحداهما خيرة وهي التي ستمتزج بالله، والأخرى شريرة وهي التي سيحل بها العذاب.

عجوز من تارنت: أيها الحكماء أفتوا شيخا يحب البساتين، هل للحيوانات نفس؟

ديكارت دماليبرانش: كلا، انها آلات

أرسطو: بل هي حيوانات ولها نفس مثل ما لنا، وهذه النفس تتصل بأعضائها

ص: 63

ابيقور: أجل يا أرسطو لقد كان مما مهد لها سبيل سعادتها وهناءتها ما بين نفسها ونفسنا من شبه، فكلتاهما قابلة للفناء معرضة للموت. أما أنت أيتها الأطياف فانتظري في هذه الحدائق الوقت الذي تفقدين فيه الحياة نفسها وبؤسها مع الرغبة فيها ولا الولوع بها، ولتريحوا أنفسكم بالتأمل والتفكير في هدوء لا يكدر صفوه مكدر.

بيرهون: ما الحياة.؟

كلود برنارد: الحياة هي الموت

فسأله بيرهون قائلا: وما الموت؟ فلم يجبه أحد، واختفت الأطياف في سكون كأنها سحاب يفر من الرياح

وحسبتني تركت وحيدا على العشب حتى لمحت منيبوس وقد عرفته بابتسامته التهكمية

فقلت له: كيف تتحدث هذه الجماعة عن الموت يامنيبوس كأن لم يكن لها به عهد؟ وكيف يجهلون مصائر الإنسان كأنهم ما زالوا على الأرض.

قال لا ريب أن هذا يرجع إلى أنهم ما زالوا إنسانيين وفانين إلى حد ما، فإذا ما ولجوا باب الخلود فلن يتكلموا ولن يفكروا، إذ سيصبحون كالآلهة.

حنفي غالي

ص: 64

‌العلوم

النسل

للدكتور احمد زكي

منذ شهرين قامت ضجة في بلد من بلدان أوربا الوسطى وصل اضطرابها إلى أطراف العالم الحي. ذلك أن حكومة ذلك البلد قاضت جماعة من الأطباء قاموا بطريقة منظمة على تعقيم كل ذَكَر لا يرغب في الانسال، أو أنسل ولم يعد له رغبة في المزيد، أو له رغبة في المزيد تأباها عليه الضائقة الحاضرة، بثت هذه الجماعة دعايتها بين الفقراء من العمال والفقراء من الزراع، ولم تكن غايتها الكسب، فان أجرة العملية كلها على ما أذكر كانت جنيهين ونصفا في ذلك أجرة الطريق أو أجر السفر، وانما كانت غايتها منع النسل عن غير القادرين على رعايته، وتجويد نوع المواليد بالإقلال منهم، على قاعدة أن المائة من الجنيهات قد تنفق على اثنين وقد تنفق على أربع، ولكن إن هي أتتك في الحالة الأولى برجلين فهي تأتيك في الحالة الثانية بأربعة أنصاف من الرجال، وحيث أن الدنيا ضاقت بالعدد الذي لا يجد عملا، فأولى بالناس أن ينصرفوا عن العدد إلى الجودة، وعن الكم إلى الكيف. ولكن الحكومة التي رفعت الدعوى عليهم رأت أن في العدد سلام الدولة، وان للكم الغلبة بين الأمم. ومهما يكن من رأي هؤلاء أو أولئك فالذي نريد أن نسجله دعوى جديدة تدعيها هذه الرفقة، وهي أنهم يقطعون بمشرطهم حبلا فيقطعون ما بين الرجل وذراريه، ثم يصلون بملقط ما قطعوه، فيعود الرجل إلى إنتاجه القديم. ونريد أن نسجل أن بهذا المشرط ولا سيما بالملقط ستحدث أحداث غريبة في العالم ستأتي على رغم الكراهات وبرغم القوانين ولو أبطأت بها الأيام

الإنتاج من قديم فخر الرجل والعقم عاره، ولكن كان هذا والأيام تسير الهوينى والأرزاق كأنها تتنزل من السماء على أنفس قنوعة راضية، أما المدنية الحاضرة مع بوائقها وضوائقها وانعدام العصبية الأسرية فيها إلى حد كبير، فلا تكاد تبقي للإنسان فخارا بخلف أو عاراً من عقم، ولا سيما عقما لا يذهب بمشاعر الحيوانية من الإنسان، دليل ذلك أن الكثيرين يتعقمون اختيارا، وفي مصر من هؤلاء عدد يذكر تعقموا في وضح النهار على سمع الناس وأبصارهم. ولكنهم مهما كثروا قليلون إلى جانب من يرغبون في حبس النسل

ص: 65

أو تقليله، ولكن تأبى نفوسهم وتثور حفائظهم وتقشعر أبدانهم أن تنتزع الرجولة منهم وتقتل الذكورة فيهم، أما الآن وقد وعد الطب بوصل ما يقطع، فلم تعد الرجولة تنتزع ولا الذكورة تقتلع، وانما يقطعان إلى وصل، ويطويان إلى نشر، وفي هذا من الأغراء ما فيه. ومن الممتع اللذيذ للعالم الاجتماعي أن يتابع عن كثب هذا الأثر الجديد للمشارط والملاقط في حياة الأسر، وطاقات الطوائف والأمم، فهما أداتان للخير والشر على السواء، لابد من ضبطهما بأيدٍ مسئولة، ولا سبيل إلى تركهما لأهواء الأفراد طيلة انتسابهم إلى مجتمع منتظم هم من نتاجه

واجتمعت الجمعية الطبية البريطانية اجتماعها السنوي في (دبلن) من أسابيع قليلة عقب الثائرة التي أثارتها تلك القضية، فرأينا أصداءها تتردد حتى في هذه القيعان، فقد قام جماعة من الأطباء ذوي اسم ومكانة ينصحون بتدخل الجمعية في تحديد عدد السكان في الجزر البريطانية وإباحة تلك العملية واتخاذها أداة لمنع الأضرار الاجتماعية التي تتسبب في الأوساط الفقيرة عن ارسال حبل الإنسان على غاربه، ولا سيما في مناطق التعدين حيث الفقر مدقع والبطالة لا أمل في العثور على علاج لها لا في الحاضر ولا في مستقبل الأيام. وقامت معارضة هادئة الا أنها من صنف المعارضات التي تنجح وتتلقاها آذان السكسونيين دائما بالقبول. قام معارض فقال: إن للمسألة وجوها غير طبية، فلها وجه اجتماعي ووجه آخر خلقي، وليس الطبيب بأهل ان يبحث في الاجتماع أو أن يرسم للناس كيف يتخلقون. وقام طبيب الملك فقال: إن من أنجع الطرق في وقف سير حركة جديدة أو تعطيل اعتناق الناس لمذهب طريف، أن تتدخل فيه بالعنف الرسمي، سواء أكان ذلك بتحكيم القانون أم بتقرير جماعة مسئولة كجماعتنا هذه. كل حركة جديدة أو مذهب طريف، لابد أن يتأهل له الناس. وما التقنين الا صياغة لرغبة عامة وتتويج لإرادة شاملة، فلندع جمهور الأمة يفكر في صمت، في المجالس الخاصة وبين فترات العمل، في راحة ما بعد الغداء، أو اضطجاعة ما بعد العشاء، وفي أثناء التروض على الحشيش الأخضر أو على رمل الساحل، أعطوا الجمهور الزمن ليفكر. ولا تسبقوا أحداث الوجود، فعندئذ يأتيكم هذا الجمهور يطلب منكم النصيحة، وعندئذ تعطونه إياها نصيحة ناجعة سهلة، تصل بكم إلى الغرض بسرعة كبيرة تعوضكم عن الإبطاء الذي كان لابد منه لتفكير الناس واقتناع

ص: 66

الجماهير، وكان هذا فصل الخطاب.

أما في ألمانيا الهتلرية فقد جرى النقاش في الموضوع وتقرر القرار وصيغ القانون في ليلة وضحاها. والواقع أننا لم نكد نسمع الا بالقانون وقد صدر، وهو يضيء بالتعقيم الإجباري لكل مريض بمرض يمكن توريثه. وعددوا تلك الأمراض فكان منها ضعف العقل وبعض صنوف الجنون والصرع والتشنج المفصلي والعمى والصمم الموَّرثان، وكل عاهة يمكن توريثها، وكذلك إدمان المسكرات إذا بلغ حد المرض. وتنصب لجان للتقرير عن حالة المرضى. وللمريض أن يستأنف، فأن قضى الاستئناف بالتعقيم أنفذ بالقوة في مصحات الحكومة. وتقع نفقة كل هذا من قضاء أو تعقيم على أولي الأمر، ويتعهد كل من يتصل بشيء من ذلك بالتكتم والتستر حتى لا يعرف من تعقم. لم يسمح القانون بإجراء العملية على الأصحاء لأسباب اجتماعية مهما كانت تلك الأسباب. ونسمع انهم سيخرجون في القريب العاجل قانونا خاصا بتعقيم المجرمين.

هذه البداية، ولسنا ندري ما النهاية. حرموا النسل على المرضى لخير المجتمع. أو لما يرون فيه خير المجتمع، وفرضوه على الأصحاء لخير المجتمع كذلك أو لما يرون فيه الخير للمجتمع. والروح السارية في هذا كله تقضى بالتضحية بالحرية الفردية لصالح الجماعة، وهي روح تلتئم مع روح العصر المَكنَّى فالجماعة مَكَنَة والأفراد قِطَعها، فهي إن دارت تدور بسرعات مختلفة وفي اتجاهات متباينة، ولكنها جميعا متناسقة متوافقة، تؤدي إلى نتيجة محتمة واحدة. هي دوران المكنة على الدوام وبانتظام. فان شذت قطعة من القطع عن ذلك كان مصيرها رُكام القمائم.

لندن في 17 أغسطس.

ص: 67

‌دائرة المعارف الإسلامية

(ألفها كبار المستشرقين في ثلاثين عاماً، ونقلها إلى اللغة العربية لفيف من خريجي الجامعة المصرية، وكتب الشروح والتعليقات والردود أعلام الفكر في مصر والعالم العربي)

دائرة المعارف الإسلامية أوفى المراجع للباحثين في الإسلاميات ويعرف المطلعون على ما ظهر من أجزائها أن الكثير من فصولها قد جمع إلى سعة العلم ودقة البحث حسن الطريقة والإرشاد إلى المصادر المعتمدة قديمها وحديثها على وجه يستحق الإعجاب كله والثناء، ولقد همت من قبلكم طائفة من أهل العلم أن تعرب هذا الأثر العظيم فتخاذلت هممهم دونه على عرفانهم لجليل نفعه وتقديرهم لما يعود على النهضة العملية عندنا من فائدة. أما أنتم فيسعدكم شباب في عنفوانه وشوق إلى الدرس والمجد يحده الذكاء ويمده الأمل ويمده فوق ذلك كله الإخلاص في العلم والإخلاص في العمل.

مصطفى عبد الرزاق. أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة

المصرية.

في رأيي أن هذا عمل جليل تستحقون عليه الثناء لأني أرى من الواجب الاطلاع على آراء المستشرقين وغيرهم من الأجانب في الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية فما كان منها صحيحا تقبلناه بقبول حسن وما كان مخالفا للدين أو للحقائق التاريخية رددنا عليه وبينا خطأه ليكون القوم على بينة من أمرنا وليعرفوا ديننا وتاريخنا حق المعرفة وليعلموا أن بيننا رجالا قادرين على الرد عليهم إذا أخطئوا وعلى إرجاعهم إلى الحق إذا زاغوا.

عبد المجيد اللبان. شيخ كلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية

أما وقد شرعتم بنقل (معلمةالإسلام) فالعمل عظيم والفائدة محققة. والواقع أن هذه المعلمة من أجمع ما كتب على بلاد الإسلام ورجاله في هذا العصر. . . وفي المعلمة من المقالات الجيدة ما لم يكتب بالعربية حتى اليوم مثل مقالات الكرد، القبط، مصر، الهند، بلاد العرب، المقوقس، مسجد، منبر، محراب الخ. ومن البلاد التي وصفت والرجال الذين ترجم لهم ما يتعذر إيجاد مصادر له في الشرق العربي.

محمد كرد علي. رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق

ص: 68

أنه لعمل جدير بالتقدير والإعجاب عمل لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية المقدمة على إخراج هذا السفر الجليل إلى اللغة العربية. وإني أترقب باكورة هذا العمل المجيد كما يرقب الصائم هلال العيد.

يوسف رزق الله غنيمة. وزير مالية العراق سابقا.

إذا كانت أمم الشرق الأدنى نامت نوما عميقا في القرون

المتأخرة فها هو ذا صبحها أخذ يتنفس وطفقتم أيها الأبناء

البررة تبنون بالعلم ما هدم الجهل من مجد قديم تعيدون سيرة

آبائكم الأقدمين بإشراق شمس المعارف الإسلامية بعد غروبها.

وإن في ترجمة دائرة المعارف الإسلامية القيام بثلاثة واجبات

واجب ديني وواجب وطني وواجب مدرسي لمعهدكم الشريف.

طنطاوي جوهري

ص: 69

‌القصص

إلى الواحات الخارجة

جنة الصحراء الغربية

(وجزيرة الناعمين) في عرف قدماء المصريين

للأستاذ محمد ثابت

ولا تكاد تفتح عين جديدة الا رأيت آثار الرومان فيها فيجددون حفرها. والعين ملك لمن جد في البحث عنها وقام بتطهيرها، ويساهم كل فيها بنسبة ما بذل من مجهود ومال، وعلى هذه النسبة يستنبت جزء مما جاورها من الأرض، والحكومة لا تتقاضى الضرائب على مساحة الأرض المنزرعة فالناس أحرار يزرعون ما أرادوا منها، لكن الضريبة تجبى على طاقة العين بغض النظر عما يزرع حولها. فإذا ما ظهرت عين جديدة تشكل لجنة حكومية ثم يسوى مكان عند منفذ العين توضع في نهايته عارضة خشبية بعرض القناة فتعترض الماء الذي يطغى عليها ويتدفق فوقها ثم يقاس عمق هذا الماء فوقها وبحسب غزارته تقدر قوة العين قيراطا أو بعض قيراط والضريبة نصف جنيه عن كل قيراط، ومن العيون ما هو أقل من قيراط ومنها ما يبلغ عشرات القراريط. وفي ناحية باريز أكبر عيون الواحات وقوتها من 58 إلى 60 قيراطا، ويقال انها وحدها تستطيع ري مئات الفدادين، لكن أصحابها لا يستطيعون استغلالها كما يجب، لذلك تجمع من مائها الفائض مستنقع يمتد عشرات الكيلومترات كثر به البط والطير المائي، ولذلك يقصده الكثير وبخاصة الموظفين للهو والصيد.

وتقسيم ماء العين بين الشركاء عجيب أيضا، فان كان الملاك ثلاثة قسموا القناة الخارجة من منفذ العين ثلاثة أقسام، يجب أن تكون متلاصقة خيفة تبدد الماء بالرشح فيجري نصيب كل مالك إلى أرضه التي يشترط أن تكون مجاورة لأرض باقي الشركاء، وألا تزيد متراً واحدا عنهم، ويجب أن يزرع الجميع نوعا واحدا من الغلات، وإذا لم يسعف ذاك التقسيم كل حقل قسموا الري بالساعات، ففلان يروي عددا من الساعات مناسبا لنصيبه، وبعد ذلك يجيء دور صاحبه، وهكذا وإذا أقبل المساء وقف الري خيف على الماء الدافق من التبديد

ص: 70

لذلك يرسل الماء إلى مستودع فسيح يدخر فيه إلى الصباح حين يروي الشركاء منه على النظام السالف إلى أرضهم المنخفضة عن مستوى ذاك المستودع، والأراضي حول العيون مدرجة الانحدار كي يصبح الري ممكنا، وكثيرا ما كنت أرى المجاري المتقاطعة يسير فيها الماء بعضه فوق بعض مسافات طويلة كل يستمد من عين خاصة به

وكلما مضت السنون على العين ضعفت لكثرة ما يتجمع حولها من رمال فيعاد تطهيرها، وكثيرا ما تقارب العين النضوب او ينفذ ماؤها، والعادة انه كلما خرج نبع جديد أغاض ماء غيره أو أنضبه.

واهم الزراعات: الأرز عماد غذاء الأهلين وهو صغير الحب أسمر اللون لكنه ألذ طعما من رزنا، وهو في الطبخ ينتفخ فيزيد حجمه كثيرا، ولعل أكبر مميزاته محصوله الوفير فمتوسط غلة الفدان بين 20و30 أردبا، وفي الأرض الجيدة يغل أربعين، على أنه يمكث في الأرض سبعة شهور، ولعل جودة ذاك المحصول العجيب راجعة إلى كثرة الجهد الذي يعانيه القوم في خدمته، فزراعته تتطلب عناء عظيما من ذلك: بلّ البذور بالماء الساخن وبذرها ونقل النبت وهو صغير من بؤرة في الأرض إلى غيرها وتلك العملية تتطلب المثابرة حتى يقارب النضج، أضف إلى ذلك استئصال الطفيليات، وفي الشهر السابع يبدأ الحصاد وخلال كل أولئك ينشر الفلاح السماد على الأرض أولاً من روث البهائم، وأخيرا من فضلات المراحيض، فتراهم جميعا يوالون رمي رماد (الفرن) في مرحاض البيت كل يوم وإذا ما انتهى العام جمع كل ذلك سمادا قويا يعاون على إنبات الأرز. وكلما حسنت الخدمة زاد طول السنبلة فحوت بين 90و110 حبة وضوعف المحصول وقد يبلغ الخمسين أردبا ولذلك يجري على ألسنتهم جميعا المثل القائل:(قل زرعك وأكرمه). وبعد تمام ري الأرز ينصرف الماء إلى المنخفضات لاستخدامه في ري القمح وهو الغلة التي تزرع بعد الأرز في الأرض الجيدة وحولها في الأراضي الرديئة يزرع الشعير ومحصولهما محصول أرض الريف.

ولما كانت زراعة الأرز أساسية ومدته طويلة وهو يتطلب ريا مستديما كثرت لذلك النقائع أغلب العام، فعاون ذلك على نشر البعوض وبخاصة في أغسطس وهدد بالملاريا التي كثيرا ما تنتشر هناك، ولذلك حاولت الحكومة منع زراعته والاستعاضة عنه بالأرز

ص: 71

السبعيني لقصر مدته، ولما جربه القوم أنكروه بتاتا وذلك لقلة محصوله.

وكم أعجبت بنزعة القوم إلى التعاون في جل أعمالهم! ففي الزراعة مثلا لا يلجأون إلى إستئجار العمال خصوصا في موسم الحصاد؛ بل ترى فريقا يتنقل بكامل عدده إلى حقل الفريق الثاني وينجزون أعمال الحصاد متعاونين، وهؤلاء يقومون بدورهم في معاونة الفريق الأول إذا حل ميعاد العمل في منطقتهم، وتلك طريقة اقتصادية تبعث على العمل بنشاط وسرعة لا تتوافر في المأجورين، والناس هناك هادئو الطباع معروفون بالأمانة حتى أن صاحب النزل كان يترك الفندق مفتوحا بغير حراس رغم وحشة الليل وبعد المكان عن المدينة لأنه واثق أن ليس بين الناس من يحاول السرقة

غذاؤهم ومشربهم:

وعماد القوم في الغذاء الأرز يأكلونه مسلوقا ويضع الفقير عليه الزيت والغني المسلى وأحيانا يدق الزيتون كله ثم ينخل ويخلط سائله الزيتي الأسمر بالأرز فيكسبه لونا أسود وطعما لذيذا، وكثيرا ما يطبخ الأرز باللبن والملح. والأرز أساس وجبة الإفطار في الصباح والعشاء مساء. وهذه أهم الوجبات لديهم. يطهى في أوان كبيرة من الفخار أو النحاس. أما الخبز فلطعام الغذاء وهي أقل الوجبات أهمية يتناولونها في الحقول خارج بيوتهم.

ومن أشهر الأشياء لديهم الشاي والسكر والطباق. فهم يبتاعونها بالغلال عند بدء حصدها، والتجار يختزنون تلك الغلال ليبيعوها للقوم ثانية إذا نضب معينها عندهم

ولقد أسرفوا في تلك العادة حتى قيل أن الشاي أتلف كثيرا من صحتهم ومالهم لأنهم إذا شربوا عمدوا إلى الماء المغلي فصبوه على الشاي الذي يشغل بين نصف القدر (الغلاية) وثلثيه لذلك يصبح منقوعه أسود غليظا ثقيلا ويتناوله حتى صغار الأطفال. وتتكرر تلك العملية في مجلس الشاي ثلاث مرات، والناس يتناولون الشاي أربع مرات في كل يوم: عقب الأكلات الثلاثة مباشرة، والمرة الرابعة عند الأصيل، ولا يروقهم الشاي الخفيف قط، لذلك ترى الواحد منهم يضع قطرة منه على ظفره ثم ينكسه فان سقطت نفر منه ولم يشربه فهو لا يستملحه الا إذا حاكى العسل الاسود، والعجيب انهم يحلون ذلك بمقادير كبيرة من السكر. وأذكر أني أخذت صورة عجوز وناولتها قرشا فرجتني أن اشتري لها به بعض الشاي والسكر بدل النقود وأرسلت صبيها ليحمل ذلك إليها.

ص: 72

وأجمل مناظر الواحة تتجلى في بساتينها اليانعة تحيط بها أسوار وطيئة من الطين تحفها من أعلاها قحوف النخيل وتتخللها أبواب من الجريد صغيرة وبين تلك البساتين تمتد الطرق وتنساب قنوات الماء الدافق من العيون المجاورة، وأعظم غلات البساتين البلح والمشمش وكذلك البرتقال وهو من أحسن الأنواع حجما وطعما.

ومن أخطر ما يعانيه القومطغيان الرمال على البيوت والبساتينوالينابيع، لذلك تراهم يحتالون لمقاومتها، فالعيون يقام حولها بناء أسطواني، أو في زاوية مدببة حتى لا يتجمع الرمل خلفها ويطمرها. ويغلب أن يزرعوا خلفها صفا من الشجر وبرغم ذلك يغلبهم الرمل، وكلما أحاط بالشجر أو النخل استمر هذا في نموه السريع وعلا حتى إذا ما بلغ نهاية نموه طمرته الرمال فاختفى وعندئذ يهاجر القوم إلى ناحية أخرى، وكثيرا ما حدث ذلك في ناحية (جناح) من بلدانهم، وقد يطغى الرمل على البيت فأن قارب نهاية علوه فتح صاحبه في جداره بعض النوافذ فيتسرب الرمل إلى داخل البيت ويسده ثم يبني الرجل طابقا جديدا فوق الأول ليسكنه، وقد يتكرر ذلك إلى الطابق الخامس والسادس. وقص علي القوم أنه حدث مرة أن سيدة في المكس من قرى باريز أنامت طفلتها داخل البيت ولما عادت وجدت الرمال قد تسربت من ثقب فوقها فطمرتها وماتت. وهناك بعض الكثبان الزاحفة على المدينة قاس الناس سرعة تقدمها فكانت متراً في كل شهر.

ومن الحشرات المخيفة هناك العقارب، فهي توجد بكثرة مروعة على أن ضررها قليل ويظهر أن سمها أخف من سم العقارب التي في بلاد الصعيد، وفي بعض القرى هناك كالمكس لا تكاد ترفع قطعة من الطوب الا وترى أسفلها قد افترش بالعقارب، لذلك ترى الأهلين جميها إذا اقبل الليل خرجوا إلى كثبان الرمل العالية وأمضوا ليلتهم فيها ولا يجرؤ أحدهم أن يدخل الدار طيلة الليل خشية لدغاتها

ومما هو جدير بالذكر وبالاغتباط ما شاهدته من عناية محافظ الواحات بصوالح الناس، فهو دائما يفكر في خدمتهم وزيارة مواردهم، وقد أنشأ قسما مستحدثا في المدينة طرقه نظيفة مرصوفة تحفها الأشجار، وقد افتتح الطريق إلى أسوان لأول مرة، وعاون على فتح الطريق إلى أسيوط فقطعته السيارة في سبع ساعات وهناك طريق معبد إلى الواحات الداخلة تقطعه السيارات في ست ساعات، وآخر يسير شمالا إلى مرسى مطروح.

ص: 73

والمحافظ جاد في بناء مسجد فاخر فسيح الرحاب أحاطه بالمنتزهات.

والمستمد العام لماء الشرب نبع أحاطته الحكومة بالبناء تتخلله الأنابيب والصنابير وذلك محافظة على نظافة الماء أن تلوثه الأوساخ وتعبث الأيدي، يملأ منه السقاءون قربهم والفتيات جرارهم وهي مستطيلة الشكل كي تحملها الفتيات تحت أذرعهن لا فوق رؤسهن. والأواني من أخص صناعتها، وكذلك ضفر الأطباق والآنية من سعف النخيل يزينه نقش من الوبر والصوف الملون الجميل.

ومجهود القسم الطبي هناك عظيم، يقوم الطبيب بالعلاج وبصرف الدواء مجانا ويعالج المرضى في مستشفى كبير زود بأحدث الوسائل وهو في ناحية من المدينة بولغ في تجميلها وتنسيق حدائقها.

ذلك بعض ما شاهدته في الواحات الخارجة التي ستظل ماثلة أمامي أذكرها بالخير دائما. ولقد أسفت لأني لم أستطع زيارة الواحات الداخلة التي يقول عنها جيرانها بأنها أعم خيرا وأفسح مدى، سكانها يناهزون ثمانية عشر الفا، أعني ضعف سكان الخارجة وأني لأرجو أن أوفق زيارتها في يوم قريب.

محمد ثابت

ص: 74

‌بلياس ومليزاند

للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك

ترجمة الدكتور حسن صادق

مليزاند: بل يتحدث إلي في بعض الأوقات: إنه لا يحبني وقد قرأت في عينيه. ولكنه يبادلني الحديث حين يقابلني في طريقه

جولو: لا تحقدي عليه ياميلزاند: إن في طبعه بعض الشذوذ والغرابة. . سيغير الزمن هذا الطبع. . . إنه في معية الصبا وزهرة العمر. . .

مليزاند: ليس هذا إياه. . .

جولو: إذن ماذا؟ أتعجزين عن رياضة نفسك على السكون إلى الحياة التي نحياها في هذا القصر؟ أحقا انه عتيق معتم يخيم عليه سكون رهيب، والطبيعة حوله حزينة صامتة، والغابات الكثيفة تحجب عنه نور السماء، ولكن الإنسان يستطيع بالإرادة الحسنة أن يألفه ويطمئن اليه. . ابتهلي كل فرصة لإدخال الإنس على نفسك وابتهجي بالحياة كما هي. وتكلمي وأفصحي عن رغبتك. سأسير على حكمك وأقف عند مشيئتك

مليزاند: أني لم أر قط السماء صافية. . . لقد رأيتها لأول مرة في هذا الصباح

جولو: أهذا هو الذي أبكاك يا زوجي العزيزة؟! أتستخرطين في البكاء لأنك لا ترين السماء؟! كيف ذلك؟! لست في العمر الذي يبكي الإنسان فيه على مثل هذه الأشياء التافهة. . . جاء الصيف أو كاد، وسترين السماء في كل يوم. . . وفي العام المقبل. . . هاتي يدك. . . أعطني يديك الصغيرتين (يمسك يديها) أوه انهما صغيرتان أستطيع سحقهما كما أسحق الأزهار الرقيقة. . . آه! أين الخاتم الذي أعطيتك إياه؟

مليزاند: الخاتم؟

جولو: نعم. خاتم العرس أين هو؟

مليزاند: اعتقد. . أعتقد أنه سقط

جولو: سقط؟: أين؟ هل فقد؟

مليزاند: لقد وقع. . ولكني أعرف أين هو

جولو: أين؟

ص: 75

مليزاند: أتعرف الكهف القائم على شاطئ البحر؟

جولو: نعم أعرفه حق المعرفة

مليزاند: الخاتم فيه. . . لابد أن يكون هناك. . . نعم أذكر أذكر الآن شيء. ذهبت اليه في هذا الصباح لأجمع بعض القواقع

لأنيولد الصغير. . . في الكهف منها أنواع ذات شكل وجمال. . وأثناء ذلك انزلق الخاتم على إصبعي ووقع في البحر. . . وحان وقت رجوعي إلى القصر فغادرت الكهف قبل أن أجد الخاتم.

جولو: هل توقنين أنه حيث تقولين؟

مليزاند: نعم. نعم. شعرت به وهو ينزلق

جولو: يجب أن تذهبي إلى الكهف للبحث عنه في الحال

مليزاند: آوه! الآن؟ وفي الحال؟! ألا ترى الظلام الحالك؟!

جولو: اذهبي في الحال وفي هذا الظلام الحالك. أحب إليّ ان أفقد كل ما عندي من أن أفقد هذا الخاتم! انك لا تعرفين قيمته ولا تدرين من أين جاء. . . سيعلو البحر الليلة ويبلغ جدار الكهف ثم يستحوذ على الخاتم دونك. . . أسرعي

مليزاند: لا أجرؤ. . . لا أجرؤ على الذهاب وحدي

جولو: اذهبي. . . استصحبي معك أي إنسان. . . أسرعي. . . تقدمي إلى بلياس أن يصحبك

مليزاند: بلياس؟! أأذهب إلى الكهف مع بلياس؟! ولكنه لن يقبل. . .

جولو: سيعمل كل ما تسألين إياه. إني أعرف بلياس أحسن منك، اذهبي وأسرعي. لن أنام حتى استرد الخاتم

مليزاند: آوه! لست سعيدة! ما أعظم شقائي (تخرج باكية)

المنظر الثالث (أمام كهف. يدخل بلياس ومليزاند)

بلياس: (يتكلم وهو مضطرب الأعصاب إلى حد كبير) نعم. إنه هنا. لقد بلغنا غاية السرى. الظلام حالك يحجب عن الأبصار مدخل الكهف، وكأني به قطعة من الليل البهيم. والنجوم لا تطل على هذه الناحية المتلفعة بالظلمة الداجية. فلننتظر حتى يمزق القمر عن نفسه ستر

ص: 76

هذا السحاب الكثيف، وينير الكهف بأشعته الباسمة، فنستطيع الدخول آمنين. ولا يغرب عن بالك أن من الأمكنة ما هو شديد الخطر، والمستدق ضيق وعمر يقع بين بحيرتين لم يسبر غورهما بشر. . . ولم يخطر ببالي أن أحمل معي مشعلا أو سراجا منيرا. . . ولكني أعتقد أننا سنجد على ضوء مسماء هدى. . ألم تلجي هذا الكهف يوما؟

مليزاند: كلا

بلياس: فلندخل. . . يجب أن تملئ عينيك بالمكان الذي فقدت فيه الخاتم كما قلت له ليتسنى لك وصفه إذا سألك عنه. . . إن الكهف كبير فسيح، ورائع بهيج، تموج فيه ظلمات تضرب إلى الزرقة بعضها فوق بعض. وإذا أشعل إنسان فيه مصباحا صغيرا خيل اليه أن القبة مغطاة كالسماء بنجوم وكواكب. . . لا ترتعدي هكذا! خلي عنك الخور فليس هنا من خطر، وسنقف في اللحظة التي يغيب عنا الضوء المنبعث من اليم. ما الذي يفزع جنانك؟ أهو صوت الهواء الضارب في بطن الكهف؟ أتسمعين عجاج البحر خلفنا؟ كأني به غير سعيد الليلة!. . . آه! ها هو ذا النوء!. . (في هذه اللحظة ينير القمر مدخل الكهف وجزء من داخله، ويرى فيه ثلاثة شيوخ بيض الشعور في أسمال بالية، ينامون على الأرض متلاصق ورؤسهم متكئة على صخرة كبيرة)

مليزاند: آه!

بلياس: ماذا جرى؟

مليزاند: أرى. . . أرى. . . (ثم تشير بإصبعها إلى الفقراء الثلاثة)

بلياس: نعم. لقد رأيتهم أنا أيضا

مليزاند: هلم نخرج. . . لنذهب من هنا،

بلياس: انهم ثلاثة شيوخ نيام استبدت بهم الفاقة. . . لماذا فزعوا إلى الكهف يستعدون فيه النوم على الألم؟ بالبلاد قحط ألم. . .

مليزاند: تعال معي نغادر هذا المكان!

بلياس: سكني روعك وتكلمي بصوت خافت حتى لا يستيقظ هؤلاء المساكين. . . إنهم ناعمون في نوم عميق. . . تعالي

مليزاند:. . . دعني، أفضل المسير وحدي. . .

ص: 77

بلياس: سنعود في يوم آخر. . . (يخرجان)

الفصل الثالث - المنظر الأول: (أحد أبراج القصر تطل احدى

نوافذه على طريق مستديرة)

مليزاند: (في النافذة تغني وهي تمشط شعرها المرسل)

شعري الطويل يتدلى

حتى يصل إلى أسفل البرج

شعري ينتظر مقدمك

مسبلا على الحائط طول النهار

أقسم بالقديس دانيال وزميله ميشيل

بالقديس ميشيل ومثيله القديس روفائيل

إني ولدت حقا يوم أحد

يوم أحد عند منتصف النهار

(يدخل بلياس من الطريق المستديرة)

بلياس: هيه! هيه!

مليزاند: من المنادي؟

بلياس: إني بلياس. . . هأنذا. . . ماذا تفعلين في النافذة. وأنت تغنين كطير ليس من هذه الناحية؟

مليزاند: أرتب شعري استعدادا لليل

بلياس: أهو هذا الذي أراه على الحائط؟. . . ظننت انه شعاع من نور. . .

مليزاند: فتحت النافذة لأن الحر شديد في البرج. . . ما أجمل الجو الليلة!

بلياس: أرى في السماء نجوما كثيرة. . . لم أر قط مثل هذا العدد الوفير الذي أراه في هذا المساء! ولكن مالي لا أرى البدر؟. . إنه ما يزال مطلا على البحر. . . ابتعدي عن الظل يامليزاند وانحني قليلا حتى أرى شعرك المحلول (تنحني مليزاند على النافذة)

ص: 78

‌الكتب

عودة الروح بين العامية والعربية

- 1 -

أشهد أن الأستاذ توفيق الحكيم مؤلف متعب وكاتب ليس بالسهل ولا باليسير، وما عليك أن لم تلحق غباره أو تلم بجميع نواحيه، ويخيل إلي أنه كقمة افرست الشامخة ترسل إليها البعثات من آن لآن، ويرتادها الرواد من شتى جنباتها يحاولون الوصول إلى ذلك السمو وارتقاء ذلك الارتفاع الشاهق، ويهيئون لذلك الوسيلة ويأخذون للأمر أهبته وعدته، ثم يعودون ليكتبوا عنها المجلدات الضخمة ويضعون في وصفها الأسفار المسهبة. وما يزال أكثرها مجهولا في طي الخفاء، بعيدا عن الثابت من اليقين الذي لا يقبل الشك، وتضيع كل الجهود أمام ذروة هذه القمة هباء

أثارت (أهل الكهف) للأستاذ المؤلف ما أثارت، وأوسع لها النقد الرحاب وهتف لها اكبر الكتاب وأئمة النقاد في البلد، وارتفع توفيق الحكيم كالطود الشامخ في مثل لمح من البرق خاطف، وأصبح اسمه ملء الأسماع والأبصار، ولما يقدم الا رواية واحدة أو قل كتابا واحدا من مجموعة ضخمة يخايل بها الناس ويضن عليهم بها.

ثم نشر قصته (عودة الروح) فدلت على ناحية جديدة من نواحي كفاية هذا الشاب المؤلف، وعلى معين جديد يغرف منه توفيق الحكيم في حكمة ومهارة. ودقة واستنباط، لست تدري كيف تصفها ولا كيف تصورها، صورتها الحق من الجمال والفن

و (أهل الكهف) و (عودة الروح) كتابان جد مختلفين، فالأول قصة قديمة، أو قل أقصوصة دينية صاغها المؤلف في حذق ومهارة وأتى فيها بكل طريف مبتكر مما قدره النقد وجعله يرفع الكاتب لأول وهلة إلى عليين. لأنه لم يكن بد مما ليس منه بد. والثاني شد ما يختلف عن الأول كل الاختلاف ويفترق عنه في جوهره ولبابه، وإن شابهه في تفصيله وحبكه، فعودة الروح قصة مصرية، عريقة في مصريتها، كتبها توفيق الحكيم عن الأشخاص الذين تراهم كل يوم أو تسمع بهم مطلع كل شمس، فقدمهم اليك في صورتهم الحقة التي تعرفها، أو تحسها ولا تكاد تنكرها، بل ما تراها حتى تتعرف إليها وترى فيها الصورة الصادقة التي تتخيلها، وهي ليست الا أشخاصا من صميم المجتمع المصري أدار المؤلف قصته

ص: 79

حولهم، وقدمهم اليك في لباقة ومهارة ونفث فيهم من روحه القوي المؤاتي. كما نفث في أهل الكهف من قبل، وإذا بهم أحياء يسعون ويتحركون، يتعاطون من ألوان الحياة ويعانون من ضروبها ما يمر بالكائن الحي كل ساعة وكل يوم، فإذا هم ليسوا تصوير المخيلة ولا هم القريحة بل أناس من لحم ودم، محببين اليك، مقربين منك، لأنك لا تجهلهم ولست بالغريب عنهم، بل لطالما رأيتهم وتحدثت إليهم وسمعت من أنبائهم وأخبارهم الكثير، وكل ما هناك أن المؤلف انتزعهم من اللحم والدم وضمنهم كتابا من أسطر وكلمات، ولكن ما نزع منهم الروح ولا حرمهم الحياة، فانهم ليحيون حياة موفورة ناضجة، بل انهم استمتعوا بدنياهم مرتين، مرة في الحياة الحقة ومرة بين جلدتي كتاب. وما ندري أي الحياتين كانت عليهم أجدى ولذكرهم أخلد وأبعد أثرا.

على أن (عودة الروح) أثارت لغطا وأثارت نقدا هجاها ونال أو حاول النيل منها. أو قل على الأصح أن لغة (عودة الروح) هي التي أثارت هذا اللغط وأثارت هذا النقد، فما قرأنا حتى اليوم كلمة هجاء أو قدح في الرواية ذاتها، ولعلها فوق أن يتناولها الناقد بالذات، أو أنها تسمو في صميمها عن اللغط، فما كان بد لمن أراد ذلك أن يتناول المظهر ويترك الأصل والجوهر، فلا يطرق بابا يعلم انه لا يستطيع ان يلجه في سهولة ولا في عسر، مهما جهد أو وسعت له الحيلة.

على أن هذا اللغط الذي أثارته القصة كان خليقا أن يثير مناحي من التفكير ليست في الحق جديدة، وليست مما لم يتناوله الكتاب بأقلامهم قبل اليوم، ولكنها تعاد اليوم في صورة رحبة فسيحة الجنبات، وتنتهز لها فرصة هي ولا شك أفشل الفرص وأقربها إلى خيبة المسعى، وأدناها إلى قطع الرجاء. وعندي ان أنصار العامية (وما أعرف موقفي منهم على وجه الدقة) ما كانوا يرحبون بفرصة عارضة كهذه الفرصة السعيدة، تثار فيها قضية العامية والعربية من جديد ويكون مثار النزاع ومركز الشجار حول (عودة الروح)

قرأت هذه القصة منذ شهرين فما طلعت شمس يوم الا وفي نيتي ان أكتب عنها، وما دخل ليل الا وقد هيأت الورق والقلم، ولكن تمر الأيام والليالي وأنا متهيب أو كالمتهيب أن آخذ في حديث عن هذا الكنز فأغفل عن درة من درره، أو تفوتني جوهرة من جواهره، أو كأني وقد شغلني حديث (أبطال القصة) محسن وسنية وسليم وعبده وحنفي وزنوبة ومبروك

ص: 80

طوال هذا الزمن. استطبت الحياة مع هؤلاء الأصدقاء الجدد. واستعذبت حديثهم واسترحت إلى ما يعرضون عليّ من قصتهم وحوادثهم، وألوان شخصياتهم الطريفة البديعة، فنسيت معهم كل شي. أو حرصت على هذا النسيان ولم أشأ لنفسي ان أحرمها هذا الحلم الجميل، فطال وطال حتى لم يكن بد من يقظة ولو مؤخرة.

وكان لزاما عليّ أن أحدث القراء حديث هؤلاء الأبطال وما وقع لهم بالتمام والكمال. . . ولكن هذا اللغط الذي أثار حول لغة الرواية لم يكن ليمر دون أن يثير، كما قلنا، كثيرا من التأمل وكثيرا من التفكير، وكان أولى أن يتقدم فيه القول قبل ان ندلي برأي او كلمة في القصة نفسها، وإني لأسأل على دهش مني وعجب ليس بالقليل: أيهما أحق بالالتفات والنقد. . . المظهر أم الجوهر؟ الثوب أم لابسه؟ القصة أم لغتها؟

أفهم أن يتناول كاتب قصة، ينقدها ما شاء له النقد، ويمدحها أو يهجوها ما ساء له المدح او الهجاء. وما شاء له ذوقه الشخصي وكفاياته وإطلاعه ومقاييسه الأدبية، أفهم هذا وأستسيغه، وإذا ما انتهى الناقد من القصة ذاتها وشاء ان ينقد لغتها وأسلوبها من حيث اللغة نفسها فلا جناح عليه، بل لعله المقصر إن لم يفعل إن كان من الخبيرين بهذه الناحية المشهود لهم بالإحسان فيها، أما أن أدع القصة جانبا فلا أتناولها بخير ولا بشر، ولا أقول فيها كلمة لينة أو عسيرة، ثم أقفز قفزة، يالها من قفزة، فآخذ بتلابيب المؤلف لأنه كتب بالعامية ولم يكتب بالعربية، فهذا الذي لا يفهم ولا يستساغ ولا يكاد الإنسان يلوكه في فمه ويجد له طعما أو مذاقا

أيهما الأصل؟ القصة أم لغتها؟ وأعني اللغة التي كتبت بها القصة كائن حي خارج عن دائرة اللغة لانها أي (القصة) موجودة لها كيانها وذاتيتها كتبت ام لم تكتب، وهذه الحياة التي أحياها أنا وأنت وغيرنا من خلق الله لا يستطيع إنسان (على ما أظن) أن ينكرها، وليست هذه الحياة الا قصة من مئات الملايين من القصص، لا ينقص وجودها ولا يقل من ذاتيتها كتابتها باللغة العامية أو العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو أية لغة من لغات العالم ولا أستثني الهيروغليفية، فقصة (عودة الروح) ليست الا احدى قصص هذه الحياة التي تزخر بالملايين من شبيهاتها فهل نمحوها من الوجود وننكر الاعتراف بوجودها لأنها لم تلبس لنا ثوب اللغة الفصيحة.

ص: 81

وما قيمة هذه الحياة (هذه الحياة التي تتمثل في أقصوصة) إذا كنا لا نتعرف إليها ولا نعترف بها الا في اسموكنج أو الفراك؟! فإذا طالعتنا في زيها الحق، في ذلك الجلباب الفضفاض والسروال العريض أنكرناها ومررنا بها سراعا غير آبهين أو ملقين النظر؟ ان في حوانيت الحائكين آلافا من هذه البذلات الأنيقة الموشاة بالحرير والدمقس ولكن يعيينا أن تلمس في طياتها حياة أو في أردانها قصة؟! وما علينا بالله لو عنينا بالقصة في ذاتها فهي ليست مما يستطيعه كل إنسان وتركنا هذه البذلة وهي مما في مقدور كل حائك؟!

ما الأصل. . . القصة أم لغتها؟ وندور لنعود إلى سؤالنا الأول. القصة هي الموهبة وهي الخلق، أعني انها نتاج الموهبة وهي الثمرة أي الخلق الذي ينتهي اليه الفنان الموهوب، واللغة اكتساب وتحصيل وأنت واصل بالدرس والمران إلى هذه اللغة ولو طالت الشقة، ولكنك لن توجد من العدم موهبة ولن تخلق من العظام الرميم حياة ولن تهشم رأس إنسان لترفع عقلا سقيما وتضع مكانه عقلا خالقا ولو جهدت ولو استعديت كل قوى البشر، أفما كان الأجدر بك والأمر كما ترى أن تنظر إلى الموهبة لتقدرها قدرها أولاً ثم تنظر بعد ذلك في الاكتساب والتحصيل؟! وهل تحرم على هذا العامي الجاهل يأتيك من عرض الطريق بمحض الفطرة والعقل الخالق بما لا يستطيعه العالم الجهبذ بعد الجهد والإعياء؟! نقول هل تحرم على الأول الخلق لمجرد انه جاءك في ثوبه الطبيعي ولم يحاول أن ينمقه بيد الصناعة؟! وهل تأخذ عليه انه ينبيك الخبر كما وقع ويحدثك بالأمر على لسان أهله كما تحدثوا به؟

لست أتحدث هنا عن مذاهب الفن المتعددة فيما نحن بصدده، وقد أعلم أن الأستاذ توفيق الحكيم قد يحتج بانه ينقل الحياة كما هي ويرد عليه بان الفن ليس في نقل الصور نقلا فوتغرافيا وان يكن لهذا جماله ووقعه، وقد يحتج الأستاذ المؤلف بان أشخاص قصته لم يكن لهم ليتحدثوا غير هذه اللغة التي أراد الحوار عليها لأنها لغتهم الطبيعية، بل ولأن هذه هي اللغة التي تحدثوا بها بالفعل لا أكثر ولا أقل، ويكون من العسير أن تناقش المؤلف في هذا القول، لندع كل هذا الآن ولنحصر الجدل في قضية واحدة فإننا إذا تفرعنا بالقول هنا وهناك ذهب الاصل، واشتبكنا في فروع وفروع للفروع لا نهاية ولا آخر لها، وضعنا وضاع الحق بيننا. وهذه الدائرة التي نريد أن نحصر فيها القول يجمعها هذا السؤال

ص: 82

ولنكرره للمرة الثالثة ولو أعدناه للمرة الثالثة بعد المليون ما ضجرنا.

أيهما الأصل. . . القصة؟ أم لغتها؟ إن كانت القصة هي الأصل وهي الجوهر وهي مدار الحديث وجب أن تكون عناية النقد موجهة إليها، وان كانت القصة القشور واللغة الجوهر فهذه مسألة أخرى.

ولنفرض يا سيدي ان لغة (عودة الروح) كانت هي الإنجليزية أو الفرنسية أو الفارسية، فماذا؟ ماذا بالله يا أبا الأسود الدؤلي؟ هل أخذت (احتكارا) باللغة العربية فما يكتب إنسان إلا بها ولا يدور حوار ما بين القطبين الا على أوزانها وضروبها ونحوها وصرفها؟ ولنفرض أن العامية من العربية كالفرنسية أو الإنجليزية منها أفلو أن توفيق الحكيم كتب (عودة الروح) بأية لغة من لغات العالم كنا نرفضها ونأبى ان نعترف لكاتبها بجهد أو فضل لمجرد انه كتب قصته بهذه اللغة أو بتلك؟ أفلا نقرأ القصص في لغات العالم فنعجب بها وهي ليست باللغة العربي؟ لست اسأل هازلا أو متندرا بل إني لجاد كل الجد، فإذا كنا نفعل ذلك فما بالنا نقف من قصة بالعامية هذا الموقف؟ ولنفرض يا سيدي أن توفيق الحكيم لا يعرف اللغة العربية أفنكسر هذا القلم الذهبي ونخرس هذا اللسان الحكيم ونقبر هذا العقل الخلاق لمثل هذا السبب؟ بل ولألف سبب مثل هذا السبب؟! وأي أديب سلمت لغته من الشوائب وها هو أحد أئمة النقد يصف أسلوب أحد أئمة الكتاب بانه لا يسلم من الابتذال وكاتب آخر ينال من كاتب معروف ويقول فيه ما لم يقل عشر معشاره في توفيق الحكيم؟!

وأيهما أجدى على الدنيا وأجدى على الأدب، كاتب ذخيرته ألفاظ وكلمات ام كاتب ملء أهابه الحياة وملء جعبته الدنيا يخرج لنا منها عقله الموهوب زادا دسما وطعاما لنا فيه شبع وري؟ لو اجتمع الكاتبان لكانا أمل الدنيا وأنشودة العالم فإذا لم تشأ حكمة أزلية الا أن تفرق بينهما فأيهما نأخذ وأيهما ندع؟

ان الأدب غاية، واللغة وسيلة، وحرام ان نهدم الغاية من أجل الوسيلة، ونغالي من قدر هذه الوسيلة حتى ليتعذر علينا بلوغ هذه الغاية

محمد علي حماد

(الرسالة): - كلام الأستاذ أشبه شيء بالدعابة، فان أكثره لا يجري على قواعد الأدب ولا أصول الفن، ولعمري كيف نستطيع أن نفصل المعنى عن اللفظ أو القصة عن اللغة أو

ص: 83

الموضوع عن الشكل وليس لأحد منهما وجود فني في ذاته؟ فالقصة قبل أن تلبس اللغة لا تسمى قصة، والألفاظ قبل أن تؤدي المعاني لا تسمى لغة.

ص: 84