الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 171
- بتاريخ: 12 - 10 - 1936
في العهد الجديد
يومان. . . .
قطعني منذ طويل عن مواصلة الكتابة قواطع الأسى والمرض. وفي هذه الفترة الفاترة تقلبت على العين مشاهد، وتعاقبت على الأذن أحاديث، وتواردت على الذهن خواطر؛ فكان المصري الذي في دمي، والكاتب الذي في طبعي، والصحفي الذي في همي، يحاولون أن ينفعلوا على القلم كلما نجم في الوطن حادثة، أو جرى في الشعور عاطفة، أو بدا على (الرسالة) حاجة؛ ولكن الجسد الموهون لا يستجيب لنشاط، والفؤاد المحزون لا يهتز لأثر. وهل الدنيا إلا دنياك أنت؟ تدوم فيها ما دامت فيك، فإذا ما انعدمت في نفسك انعدمت في حسك؛ وإذن لا يكون سرورها سرورك، ولا حزنها حزنك، ولا متاعها متاعك؛ ماذا يفيدك الترياق بعد أن مات حبيبك مسموماً، وماذا تردُّ عليك مباهج الناس إذا بات قلبك مهموماً؟
كنت وأنا في الإسكندرية أقف على سياج الكرنيش، أو أسير على رمال الساحل، فأرى فيض الحياة يتدافع في أمواج البحر وفي أفواج الناس، وروعة الجمال تتجلى في رواء الشباب في الشارع وألوان الأصيل في السحب ومغرب الشمس في الماء، وإشراق الغبطة يلمع في العيون القريرة وعلى الشفاه المفترَّة، وصفاء الوجود يشيع في زمر المصطافين فيكون في أُهُب الأطفال مرحا وفي قلوب الرجال فرحاً وعلى مضاحك الغيد فتنة، وأسمع لغة الفردوس المفقود من فمي آدم وحواء وقد اضطجعا عاريين على رمال الشاطئ بين وسوسة الشيطان وفحيح الأفعى، وهديرَ الأمواج المتعاقبة منذ يومها الأول على سيف البحر، وقد خلطه الخيال الشاعر بهتفات القيصر وضحكات كليوبطرة، وغماغَم الهوى والشباب تَطَّاير إلى الآذان الخلية فتقع منها موقع النغم الساحر في جوف الليل الساجي البعيد، وأحاديث المفاوضة والمعاهدة والمعارضة تتشقق بين الجماعات فتكون في الغالب حماسة من دلائل الصحة، وفي النادر هذياناً من أعراض المرض. كنت أرى وأسمع كل أولئك وأنا في وحشة الغريب وبلادة الذاهل، كأنما انقطع التيار الروحي بيني وبين الناس، فأنا مظلم وهم في نور، وساكن وهم في حركة، ونافر وهم وحدات متسقة في نظام المجتمع، وناشز وهم نغمات منسجمة في نشيد الكون.
يوم واحد من أيام الإسكندرية استطاع أن ينقلني من عدمي إلى الوجود، ويخرجني من
نفسي إلى الناس: ذلك يوم سفر المفاوضين المعاهدين إلى إنجلترا! فقد ازدهاني أن يتفاهم الحق والقوة، ويتفق منطق القلم ومنطق السيف، ويقتنع (المبرنطون) بأن وطننا لنا وحدنا، وأن أصحاب (الامتياز) أصبحوا بشراً مثلنا، فدخلت في غمار الشعب الهاتف، وأثرت زحمة الدهماء ووقدة الشمس على مخالطة الأقدار الكبيرة والأحلام الرصينة في ظلال السرادق، وركبت زورقاً من زوارق الميناء في جمهرة من الشباب الفقراء الذين يجهلون معاني (النيابة) والوظيفة والجاه، فيشاركون في المظاهرات لأنها صرخة الوطن، ويهتفون للزعيم لأنه ممثل الأمة، ويصفقون للمعاهدة لأنها صك التحرر.
سار بنا الزورق الراقص الشادي بين عشرات من الزوارق المزدانة المهللة حتى حاذينا (النيل)؛ والنيل قطعة من الوطن المحبوب تجمَّع فيها أمله المنتشر، وبدأ عليها تاريخه الجديد، ستقطع هذا الخضم المزبد إلى الشاطئ البعيد عليها صداقة مصر لإنجلترا، يقدمها وفدها الأمين إلى الذين عرفوه بعد إنكار وسالموه بعد حرب؛ وما كانت سياسته في الأول إلا سياسته في الآخر لولا سوء الفهم وسوء الظن وسوء الضمير. فلما انحسر لثام الرياء عن الأوجه المغشوشة فينا وفيهم، خلص منطق النحاس إلى عقل إيدن، واقتحمت النيل الوداعة مرابض الأسطول.
تحركت الباخرة المزهوة الفخور بعد حفلة الوداع بين عزف الموسيقى وقصف المدافع وصفير البواخر وتصفيق المودعين وهتاف المتفرجين وزغردة النساء؛ فكان من ذلك كله نشيد وطني عجيب التأليف بديع التلحين سحري الإيقاع عبر بهذه القوّة عن الشكر لقادته، والخير لحليفته، والاطمئنان إلى مستقبله.
كان اعتماد الجمهور في التنفيس عن حماسته المضطرمة على الضرب بالأرجل، والتصدية بالأيدي، والتلويح بالأذرع، وما يلازم هذا من اضطراب الحركة وفقدان الاتزان وشيوع الفوضى، وانتقال أثر ذلك كله إلى الزورق! فلو كان للشعب شعراء وموسيقيون، كما كان له زعماء وصحفيون، فوضعوا له الأناشيد التي تعبر عن عواطفه في وحدة، وتهيمن على مواقفه في نظام، لما تعرضنا مراراً للغرق!!!
على أن الغرق لم يقع في حسابي وأظنه لم يقع في حساب أحد، فقد كان فُلكنا المتواضع يجري تحت (النيل) الباذخة كأنه الفرخ الوليد تحت جناح النسر؛ عيوننا ترمق الزعيم
الجليل وصحبه فلا تكاد تطرف، وقلوبنا تنتشر دعاء ورجاء فلا تكاد تتماسك، وألسنتنا تضطرب في سيل من الهتاف فلا تكاد تسكن، وفلكنا المجنون في يد القدر، يميل ويعتدل، ويجور ويهتدي، وقد نسينا من روعة الموقف أننا فيه.
يومئذ شعرت بأني جزء من كل وفرد من مجموع، وأدركت أن المشاعر المشتركة كالدين والوطنية هي أوثق روابط الألفة، وأن المشاعر المختصة كنوازي الهوى ونوازع (البلاج) هي أقرب السبل إلى الغرفة.
هذا يوم؛ أما الآخر فله مقال آخر! ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود!
أحمد حسن الزيات
سر القُبَّعةَ
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سر (م) باشا، نَجَمَتْ في مصر حركة بعقِب أيام البدعة التركية حين لم تبق لشيء هناك قاعدة إلا القاعدة الواحدة التي تقررها المشانق. . . . فمن أبى أن يخلع العمامة عن رأسه خلعوا رأسه، ومن قال (لا) انقلبت (لا) هذه مشنقة فعُلِّق فيها.
وكانت فكرة اتخاذ القبَّعة في تركيا غطاءً للرأس قد جاءت بعد نَزَعات من مثلها كما يجيء الحِذاء في آخر ما يلبس للابس، فلم يشك أحد أنها ليست قبعة على الرأس أكثر مما هي طريقة لتربية الرأس المسلم تربية جديدة ليس فيها ركعة ولا سجدة؛ وإلا فنحن نرى هذه القبعة على رأس الزَّنجي والهمجي، وعلى رأس الأبله والمجنون، فما رأيناها جعلت الأسود أبيض، ولا عرفناها نقلت همجياً عن طبعه، ولا زعم أحدٌ أنها أكملت العقل الناقص أو ردَّت العقل الذاهب، أو انقلبت آلة لحل مشكلات الرأس البليد، أو غَصَبَت الطبيعة شيئاً وقالت هذا لحاملي دون الطربوش والعمامة.
وقد احتجُّوا يومئذ لصاحب تلك البدعة أنه لا يرى الوجه إلا المدنية، ولا يعرف المدنية إلا مدنية أوربا، فهو يمتثلها كما هي في حسناتها وسيئاتها، وما يَحِلُّ وما يَحْرُم، وما يكون في حاجة إليه وما يكون في غنى عنه؛ حتى لو أن الأوربيين كانوا عُوراً بالطبيعة لجعل هو قومه عوراً بالصناعة ليشبهوا الأوربيين. . نعم إنها حجة تامة لولا نقص قليل في البرهان يمكن تلافيه بإخراج طبعة جديدة من كتب الفُتوح العثمانية يظهر فيها الخلفاء العظام والأبطال المغاوير الذين قهروا الأوربيين لابسين قبَّعات ليشبهوا الأوربيين. . . .
قال صاحب السر: وتهوَّر في هذه الضلالة رَهطٌ من قومنا، وأخذوا يدعون إلى التقبُّع في مصر احتذاء لتركيا، وذهب بعضهم إلى سعد باشا رحمه الله يطلب رأيه، فكان رأيه (لا) بمدِّ الأَلِف. . . وعهد إليّ بعضهم أن أسأل الباشا فقال:
ويحهم! ألا يخجلون أن نكون نحن المصريين مقلدين للتقليد نفسه؟ إن هذه بدعة تنحطُّ عندنا درجة عن الأصل فكأنها بدعتان. ثم ضحك الباشا وقال: كان في القديم رجل سمع أن البصل بالخل نافع للصفراء، فذهب إلى بستان يملكه وقال لوكيله: ازرع لي بصلاً بخل. . . . هكذا يريدون من القبعات أن تخرج لهم تُركا بأوربيين.
ليست هذه القبعة في تركيا هي القبعة، بل هي كلمة سبٍّ للعرب وردِّ على الإسلام، ضاقت بها كلُّ الأساليب أن تظهرها واضحة بينة فلم يفِ بها إلا هذا الأسلوب وحده، وهي إعلان سياسي بالمناوأة والمخالفة والانحراف عنا واطّراحِنا، فإن الذي يخرج من أمته لا يخرج منها وهو في ثيابها وشعارها؛ فبهذا انفتح لهم باب الخروج في القبعة دون غيرها مما يجري فيه التقليد أو يُبدعه الابتكار؛ وإلا فأي سر في هذه القبعات، ومتى كانت الأمم تقاس بمقاييس الخياطين. . . .؟
ههنا سيفٌ أراد أن يكون مِقَصاً، فعمل ما يعمل الحسام البتار فأجاد وأبدع وأكبره الناس وأعظموه، ثم صنع ما يصنع المقصُّ فماذا عساه يأتي به إلا ما ينكره الأبطال والخياطون جميعاً.
أكُتِبَ علينا أن نظلَّ دهرنا نبحث في التقليد الأعمى وألا يحيا الشرقي لا مستعبَداً ينتظر في كل أموره من يقول له: أشْرَعْ لي. . . إن بحثنا فلنبحث في زيّ جديد نتميَّز به فتكون القوى الكامنة فينا وفي طبيعة أرضنا وجوّنا هي التي اخترعت لظاهرها ما يجعله ظاهرَها، كما يُخرج زَوْرُ الأسد لِبْدةَ الأسد غايةً في المنفعة والجمال والملاءمة.
أنا أَلبس ما شئت ولكني عند القبَّعة أجد حداً تقف إليه ذاتيتي الفردية فلا أرى ثَمَّةَ موضعَ انفراد ولكن موضع مشاكلة، ولا أعرف صفة منفعة لي بل صفة حقيقة مني، ويعترضني من هناك المعنى الذي يصير به النوع إلى الجنس والواحد إلى الجماعة. وما دمت مسلماً أصلي وأركع وأسجد فالقبعة نفسها تقول لي دعني فلست لك.
وهؤلاء الرجال الذين لبسوها في مصر إنما اشتقُّوها من المصدر نفس المصدر الذي يخرج منها التهتك في النساء، وكلاهما منزع من المخالفة، وكلاهما ضِدٌّ من صفة اجتماعية تقوم بها فضيلةٌ شرقية عمة. وليس يعدم قائل وجهاً من القول في تزيين القبعة ولا مذهباً من الرأي في الاحتجاج لها، غير أن المذاهب الفلسفية لا يُعجزها أن تقيم لك البرهان جَدَلاً محضاً على أن حياء المرأة وعفتها إن هما إلا رذيلتان في الفن. . . وإن هما إلا مرض وضعف؟، وإن هما إلا كيت وكيت، ثم تنتهي الفلسفة إلى عدّهما من البلاهة والغفلة، وما الغفلة والبلاهة لا أن تريد فلسفة من فلسفات الدنيا أن تقحم في كتاب الصلاة مثلاً فصلاً في. . . في. . . في الدعارة.
لا يهولنك ما أقرر لك من أن القبعة الأوربية على رأس المسلم المصري تهتك أخلاقي أو سياسي أو ديني أو من هذه كلها معاً، فإنك لتعلم أن الذين لبسوها لم يلبسوها إلا منذ قريب بعد أن تهتكت الأخلاق الشرقية الكريمة وتحلل أكثر عقدها، وبعد ن قاربت الحرية العصرية بين النقائض حتى كادت تختلط الحدود اللغوية، فحرية المنفعة مثلاً تجعل الصادق والكاذب بمعنى واحد، فلا يقال إلا أنه وجد منفعته فصدق، ووجد منفعته فكذب؛ وعند الحرية العصرية أنه ما فرَّق بين اللفظين وجعل لكل منهما حدوداً إلا جهل القدماء وفضيلة القدماء ودين القدماء. وهذه الثلاثة: الجهل والفضيلة والدين هي أيضاً في المعجم اللغوي والفلسفي الجديد مترادفات لمعنى واحد هو الاستعباد أو الوهم أو الخرافة.
ومتى أزيلت الحدود بين المعاني كان طبيعياً أن يلتبس شيء بشيء وأن يحلَّ معنى في موضع معنى غيره، وأصبح الباطل باطلا بسبب وحقاً بسبب آخر، فلا يحكم لناس إلا مجموعة من الأخلاق المتنافرة تجعل كلَّ حقيقة في الأرض شبهة مزورة عند من لا تكون من أهوائه ونزعاته، فيحتاج الناس بالضرورة إلى قوة تفصل بينهم فصلاً مسلحاً، فيكسبون القانون بمدنيتهم قوة همجية تضطره أن يعد للوحشية الإنسانية، وتدفع هذه الوحشية أن تعد له.
ومن اختلاط الحدود تجيء القبعة على رأس المسلم، وما هي إلا حد يطمس حداً، وفكرة تهزم فكرة، ورذيلة تقول لفضيلة: هأنذي قد جئت فاذهبي.
ما هو الأكبر من شيئين لا حد بينهما لتعيين الصِّفر، وما هو الأصغر من شيئين لا حدَّ بينهما لتعيين الكبر؟ إنها الفوضى كما ترى ما دام الحدُّ لا موضع له في التمييز ولا مقرَّ له في العُرف ولا فصل به في العادة؛ ومن هنا كان الدين عند أقوام أكبر كلمات الإنسانية في عامة لغاتها وأملها بالمعنى، وكان عند آخرين أصغرها وأفرغها من المعنى؛ وما كبر عند أولئك إلا من أنه يسع الاجتماع الإنساني وهو محدود بغاياته العليا، وما صغر عند هؤلاء إلا بأن الاجتماع لا يسعه فلا حدَّ له، وكأنه معنى متوهَّم لا وجود له إلا في أحرف كلمته.
فجماعة القبعة لا يرون لأنفسهم حداً يحدونها به من أخلاقنا أو ديننا أو شرقيتنا، وقد مرقوا من كل ذلك وأصبحوا لا يرون في زيّنا الوطني ما فيه من قوة السر الخفي الذي يُلهمنا ما أودعه التاريخ من قوميتنا ومعاني أسلافنا.
وأنا أعرف أن منا قوماً يرى أحدُهم في ظن نفسه أنه قانون من قوانين التطور؛ فهو فيما يُلابسه لا ينظر إلى أنه واحد من الناس بل واحدٌ من النواميس. . . ومن هنا الثقلُ والدعوى الفارغة وما هو أكبر من الثقل وفراغ الدعوى. وإنه لحقٌ أن يكون بعض الناس أنبياء، ولكن أقبح ما في الباطل أن يظن كل إنسان نفسه نبيّا.
واعلم أن كثيراً مما يزينونه للشرقي من رذائل المدنية الأوربية إن هو إلا منطق شهوات في جملته، ولقد تسمع الجائع يتكلم عن الطعام فترى كلاماً تحته معانٍ ومعانٍ لا يعدها غير الجائع إلا حماقة ساعتها.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
كل شيء بخير سيدتي المركيزة!
للأستاذ عبد الحليم الجندي
في فاتحة الصيف جلسنا عند سفح الهرم نستمع إلى آخر أناشيد باريس عاصمة فرنسا، التي يقول عنها أبناؤها إن كل شيء فيها ينتهي بأغنية، والتي يُزلفها (كوت) إلى الهاوية في سرعة الطائرات التي يبعث بها إلى مدريد، والتي يسوقها (توريز دجوهر) إلى جهنم الحمراء: أي إلى الشيوعية، فأدار لنا (الأستاذ) تلك الأنشودة البديعة الواردة أخيراً:
كل شيء بخير: سيدتي المركيزة: المتاع سرق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: والقصر يحترق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة
استمعنا، واستمعنا! ثم نسينا - طبعاً - ورجعنا؛ حتى إذا كنت في أوائل الشهر الماضي برأس البر طفرت تلك الأغنية إلى ذهني وإلى فمي فطفقت أرددها، في المساء وفي الصباح، وعلى الشط وفي السامر.
نحن الآن في مجلس خاص، في الكازينو، على قيد أمتار من اللسان، حيث العذب الفرات والملح الأجاج يلتقيان؛ وهؤلاء أكبر الأساتذة في أقدم جامعة في العالم، وفي أحدث جامعة في العالم، أخذوا في خلوتهم البديعة بأطراف الأحاديث، وسالت تلك القرائح السامية بخواطر عالية في الحضارة والاجتماع.
الأستاذ الكبير - في جامعتنا المصرية - يعالج ترجمة فصحى لكلمة (المودة) ويعرض على الفقيهين الكبيرين كلمة بديعة بارعة، فتأخذهما النشوة ويطربان؛ والأستاذ يقص علينا حديث رحلته الأخيرة إلى الشام، تلك الأمة المجاهدة في الحرية، المجاهدة في الأدب، المجاهدة في الاقتصاد. . . وبنوها الذين ضربوا لنا الأمثال في كل ضرب! الذين حدثوه عن مصر بما لا يعرفه أبناء مصر!. . . لقد كان أروع ما راعه في ذلك القطر الشقيق أنه لم يجد فوارق بين الطبقات؛ وعلة ذلك عنده أن العروبة أعمق أصولاً عند إخواننا، وأن العروبة معناها النخوة والمساواة؛ وعلته أيضاً أن التفاوت في المرتبات ليس هائلاً؛ وأخيراً أن ليس ثمة أسرات تضرب في مظاهر الأبهة كأنها تضرب برَوقين في السماء. . .
أما هنا - وانحدر الحديث إلى من هنا. قال قائل: هنا تجد ستة عشر مليوناً ولا تجد ستة
عشر رجلاً ممن ينفذون إلى الأعماق! قلت: إني أطلق على حضارتنا الحالية: (حضارة السندوتش)؛ فالناس يمرون بمحال (السندوتش) ليطعموا طعامهم على وجه الاستعجال، كما يعبر رجال القانون، ولا يضيرهم بعد ذلك أن تتأذى معداتهم وأعصابهم ما داموا قد تناولوا وجبتهم بحال من الأحوال. . .! ولقد طغت تلك المحال على المطعم الأصيل فكادت تجليه عن مكانه. أنظر حيثما شئت تجد أنوارا لامعة في الأرض تكاد تباهي كواكب السماء! إنها ليست أنوار معهد ولا مستشفى، ولكنها أنوار السينما والسندوتش. وكلما ذهبت الفتاة إلى الطبيب أو شكا الطالب إلى أستاذه رجاهما الطبيب أو الأستاذ أن يقلعا، أو يقللا، من ارتياد السينما ومن ازدراد السندوتش. . .
وكما قضى السندوتش على المطعم تكاد تقضي المذكرات في الجامعة على المراجع، والخليلات على الحليلات، والمسكنات السياسية على الصلاح العميق، وشهوات الساعة على واجب التاريخ. . . والأدب الرخيص على الأدب العالي. . . والمجلات الخفيفة على الكتب. . . ولنفس الأسباب. . وفي عبارة موجزة: لكأن هذا الجيل ليس من مصر! وكأنما هو يقضى منها وطرأ، أو كأنه فيها عابر سبيل. . . .
وتطرق الحديث - حتما - إلى البلاج، إلى الماء، وإلى فنون الماء، وما أدراك ما فنون الماء: العزاء، والإغراء، واستهتار الرجال وتبذل النساء! وخرج كل منا من الحديث غضبان أسفاً.
ومع ذلك فالدولاب يسير. . . وظواهر الأشياء لا تنبئ إلا عن خير الأشياء. . .
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: المتاع سرق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: والقصر يحترق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة
وانفرط العقد، وانصرم الليل، وأرسلت الشمس شعاعها في الصباح أصفر وهاجاً نافذاً في أعماق اليمِّ كأنه سهم ذهبي بديع يتوهج في طبقات الأفق، والتقى الصديقان بعد عشرة أعوام وبعد رحلة طويلة في أوربا، وبعد أن (كانا يظنان كل الظن أنْ لا تلاقيا). . . وانطلقا على الشاطئ.
قال الذي رجع من أوربا: أرأيت أني وجدت في مصر ما لم أجد في أوربا؟ قال له
صاحبه: أنسيت أن إسماعيل قد جعلها قطعة من أوربا؟ ومنذ ستين عاماً! قال إنها كلمة تعدل كل ديون إسماعيل، فهو كما أفقر الأمة في أموالها أفقرها بهذا الذي ظن أنه صيّرها إليه. . . إنك لا ترى على هذا الشاطئ إلا أقبح القبيح الذي تنكره أوربا. . لكأن الناس يا صديقي قد جاءوا إليه ليتعروا فيه لا ليصطافوا عنده. . . .
وانطلقا حتى بلغا مجمع البحرين قال: نظر إلى النيل يقذف بنفسه في صميم البحر لأبيض؛ إنه ينطلق كالقذيفة في البحر. . وترى ماءه الأحمر أو الأسمر، بل تستطيع أن تشربه عذباً على بعد أميال من الشاطئ؛ ولكنك بعد أميال أخرى لا تراه؛ ويفنى اللون الأسمر في اللون الأزرق، والماء العذب في الماء الملح؛ وهكذا نحن نقذف بأنفسنا في ذلك الخضم الأوربي ولكن مع فارق ضخم هو أن الماء يسع الماء، أما الحضارة الأخرى فإنها تلفظنا. . .
وانطلقنا. . . . فهما الآن عند الكازينو: حيث الفتيات يواعدن الفتيان جهرة. . .! لكأنه يوم الزينة، وكأن الناس قد حُشروا ضحى. .! لا ليشهدوا سحرة فرعون ولا آية موسى، ولكن ليشهدوا السحر الحرام. . فيرى الإناث الرجال المتأنثين، ويرى الرجال النساء المسترجلات. . . . وإلا فلماذا لا يحتشد ذلك الجمع على الشاطئ الذي يبدأ من بور سعيد وينتهي عند البرلس بمصيف آخر؟ لماذا لا يحتشد ذلك الجمع إلا أمام الكازينو؟ ارجع البصر يا صديقي إلى ذلك الحوت المستلقي على الشاطئ! ثم ارجع البصر كرتين، هنالك، تلك الفتاة التي وصفها النقيب (سانت أوبان) في مرافعته عن فكتور مرجريت عندما قدموه للمحاكمة من جراء (لا جارسون) - تلك الرواية التي صارت بعد خمسة عشر عاماً من أعف الروايات!! - قال سنت أوبان (. . أين تلك البطة المسربلة بالبياض وهي تقسم يمين الطاعة لزوجها في المعبد من هذه الفتاة العارية المتمددة على رمال الشاطئ تعرض جسدها على الطبيعة تستقبل أشعة الشمس حقاً ولكنها تستقبل أيضاً تلك الأشعة النارية المسلطة عليها من عيون الناظرين. . .)
وانطلقا نحو علم أخضر يتراءى على البعد. قال أحدهما إنك ترهقني عسرا إذا سرت بي إلى حيث هذا العلم؛ إنني أراه فوق الشاطئ الذي نحن عليه كطربوش الميت على الآلة الحدباء التي تحمله؛ وهو من مجد هذا الشعب المنتشر على هذا الشاطئ كالنشيد الذي أجازوه مائة جنيه لأنه خالٍ من المعنى، خالٍ من الإحساس، ومع ذلك جعلوه نشيدنا
القومي!!. . . إنني سمعت الأنشودة التي غنيتها لك في المرقص، ولكن المرقص يحمارُّ خجلاً، ويتفصد جبينه عرقاً، إذا وقف أزواجه أمام هذا الشاطئ. . . إن الشاب يتعلم ليتعطل، والعامل يعمل ليجوع، والاقتصاد المصري يزخر كتيار النيل ليصب في البحر الذي يجمعنا بأوربا. . . أفهذا الشباب الناهض، بل الرابض، هو الذي سيبني الأسطول البحري، والأسطول الجوي، ويقطع الصحراء راجلاً إلى الحدود. . .!! ومع هذا فقد شرع له أساتذة الجيل أسوأ شرعة عندما أعطوا جائزة لذلك الباحث الذي شرط على رجل القرن العشرين أن يكون (وصوليا) لكي ينجح. . .!! فإذا سألت عن هؤلاء الأساتذة، فاعلم أن منهم صاحب (حياة محمد)، وأن منهم أيضاً تلميذ محمد عبده!!
ومع ذلك أيضاً. . . فكل شيء بخير.
كل شيء بخير: سيدتي المركيزة، المتاع سرق، والقصر يحترق، وكل شيء بخير. . .
وكنا كلما بعدنا عن الكازينو هدأ الموج وسكن البحر؛ قلت: ما للموج لا يرغي ولا يزبد إلا حيث هؤلاء الناس يجتمعون؟ فأجاب صديقي: (إنني سمعت إحداهن تقول لأختها: إن الموج يتدافع نحوها كما يتدافع الهوى أو الهواء، تارة في عنف، وتارة على استحياء. فردت عليها الفاجرة تقول: اسمعي! إنني سأذيع لك السر الذي بيني وبينه: (إنه يتظاهر أمام الناس بأنه يلاطم الشط ولكنه في الحقيقة يقبل قدمي. . وهأنذي أركض بهما في ذلك المغتسل البارد. . وأسلمهما للقبل).
وكنا قد دنونا من السارية، ثم وقفنا تحت العلم، فيا لتوفيق الله سبحانه! إنه علم فرق الجوالة من شباب الجامعة الأشداء جاءوا يضربون خيامهم على هذا الشاطئ ويضربون لفتيانه المثل العالي. . وجاءوا ليبعثوا فينا الأمل الذي قضى أو كاد.
ورجعنا في العاشرة صباحاً، وكان الراديو يجلجل في الآفاق جميعها بآيات الله العلي! قلت يا صديقي بل هنا الأمل.
فلنراجع البرنامج!
عبد الحليم الجندي المحامي
رواية ورواية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قال محدثي:
(كنت في ذلك الوقت غارقاً في دروسي، فقد رسبت، كما تعلم، في الامتحان وأبيح التقدم له مرة أخرى، فعدت من البلد، ونزلت على أقربائي هؤلاء، وشرعت أستعد لأداء الامتحان في المواد التي أخفقت فيها، وكانت أربعاً، تضاف إليها ثلاث أخرى اخترتها طمعاً في (المجموع) فعكفت على دروسي وأقبلت على تحصيلها. وما أكثر ما كنت أفني ليلي بالسهر في مراجعتها فكانت (سميحة) تزجرني عن ذلك وتقول: إن سهر الليل يهدّ القوي ويكثف العقل، وإن عمل النهار أوفر فائدة وأرفق بالجسم والعقل. وكانت هي قد فازت (بالبكالوريا) ولم تتلكأ عندها مثلي ووثبت منها إلى كلية الطب. ولم تكن قد قضت فيها غير عام واحد ولكنها - مذ التحقت بها - أصبحت تتحدث عن الصحة والعلل وطبابها كأنها جالينوس. وكنت أحبها غير أن دروسي شغلتني عنها، وكانت معي في البيت فلا داعي للشعور بالوحشة وفراغ الدنيا حول المرء. وكنت إذا تعبت أقوم فأتمشى في البيت وأدور بالغرف - فما ثم غيرها - وقد أتلبث شيئاً عند سميحة وهي مستلقية على سريرها - أو على الأصح نائمة كقاعدة فوقه - وفي يدها قصة تزجي بها الفراغ وكانت تحب الروايات البوليسية مثلي فلا يفوتها شيء مما ينقل إلى العربية في هذا الباب. وأنا مثلها وعسى أن يكون هذا هو الذي دهورني، ولكنه لم يدهورها فلا أدري ما علة إخفاقي وسر نجاحها؟. لا تعترض!! إني أعرف ما تريد أن تقول، ولهذا أقول لك إنها ليست أذكى مني وإن كان لا يسعني إلا أن أعترف أنها أمضى عزماً وأقوى إرادة وأقوم طريقاً إلى غايتها حين تكون لها غاية. وما أظن بها إلا أنها أرادت أن أعشقها فعشقتها، ولكن الذي يحيرني أنها تأبى على راحة القلب واطمئنان البال، ولا تنفك تظهر لي النفور من هذا الحب والكراهة له والزهد فيه. وأحسب أن هذه هي طباع المرأة، فهي تعني (أريد) حين تقول (لا أريد). . ما علينا. . انتهى الامتحان واستطعت أن أنام مرتاحاً ووسعني أن أدير عيني فيما حولي وأن أجعل لقلبي حظاً بعد طول الحرمان، ولكن سميحة كانت تنفيني عن البيت وتقول لي إني أتلفت صحتي فهي في حاجة إلى الهواء الطلق؛ وكان هذا صحيحاً لا شك فيه، ولكن هذه
(الأستاذية) التي كانت تتكلفها معي كانت تثقل على نفسي. وكانت تخرج معي أحياناً ولكن كما يخرج المعلم مع تلاميذه الصغار إلى حدائق الحيوانات أو مرصد حلوان، فلا أشعر أني مع الفتاة التي أحبها، ولا أجد متعة أستفيدها من هذه الرحلات التي يطيب فيها الغزل عادة والتي كنت أمني بها نفسي وأحلم. وقد قلت لها مرة ونحن في (حديقة الأورمان):
(يا ستي ما هذا الحال المقلوب؟).
قالت: (أي حال؟. مالك؟.).
قلت: (لكأني أسير مع شرطي!).
فلم تضحك - وكنت أظنها ستفعل - فغاظني ذلك فقلت: (أليس حالاً مقلوباً أن نضحك في المطبخ ونعبس في الحديقة الحالية؟؟).
فسألتني مستغربة: (المطبخ؟؟ متى ضحكنا في المطبخ؟).
فقلت لها بضجر: (لا تكوني حرفية!! إنما أعني البيت وأنت تعرفين ما أعني فلا تغالطي).
قالت: (إن البيت ليس من مرادفاته المطبخ).
فسكت ولم أقل شيئاً - وماذا عسى أن أقول؟ -).
وحدث مرة أخرى وكنا معاً - على ما يبدو للناس، أما في الحقيقة فقد كان كل منا وحده - فضاق صدري، فقلت أرفّه عن نفسي بالغناء، فرفعت صوتي وانطلقت أغني:
(يا بت أنا بدّي أبوسك
…
بس أبوسك!
وأطرب وأحظى بكؤوسك
…
رقي شوية!)
فلم يرعني إلا قولها: (ليس أضر من الخمر ولا أقتل).
فقلت: (يا ستي إن المراد بالكؤوس هنا الشفاه الرقيقة، وبالخمر الريق العذب).
فقالت: (إخص!. . .).
فقلت مندهشاً: (إخص؟؟).
قالت: (إخص!. . .).
قلت: (طيب!. . .).
وهذا يريك من أي معدن صيغت سميحة، ولكني على هذا كنت أحبها حباً عظيماً لأني كنت واثقاً أن هذه قشرة نشرتها كلية الطب على صفحة معدنها الصافي، وستزول ولا شك مع
الأيام.
وصح ظني، فقد كانت كما قلت لك تحب الروايات البوليسية حباً جماً، وكان قد صدر منها أخيراً رواية طويلة في مجلدين اسمها (السم في الدسم)، فاشتريتهما وغرقت فيهما - أعني في المجلد الأول - واستغنيت بهما عن هذه النزهات والرحلات التي لم أكن أفيد منها أي متعة، بل كنت أفيد منها التنغيص.
وكنت أخفيهما عن عينها مخافة أن تسطو عليهما، وكانت الرواية قد نفدت بسرعة، فلا سبيل إلى نسخة أخرى غير التي كانت معي إذا هي ضاعت، فلا عجب إذا كنت قد حرصت عليها وضننت بها. ولا أكتمك أن نفسي حدثتني أن أعذبها - أعني سميحة - بعد أن أفرغ من الرواية وأعرف سر الجريمة، وذلك بأن أخايلها بها وأحرك نفسها لها ولا أمكنها منها، ولماذا لا أعذبها كما عذبتني؟ ثم إن تعذيب المرأة أحياناً لا يكون من القسوة، فقد وجدت على ضآلة تجربتي وقلة خبرتي أنها تستحلي هذا - أعني المكايدة إذا لم تخرج إلى الإيلام ولم تجاوز الحدود المعقولة. . . ومع ذلك من يدري؟ فلعلها تستعذب العذاب بلا قيد أو شرط. . . لا أدري!
وفي إحدى الليالي عدت من مأدبة كنت مدعواً إليها مع لفيف من إخواني وأندادي، أقيمت لتوديع واحد منا مسافر إلى إنكلترا لإتمام تعليمه هناك، فلما رجعت إلى البيت دخلت غرفتي وأنا أمني النفس بساعةٍ جميلة أقضيها مع الروائي البارع الذي أبدع ذهنه صوغ هذه القصة الممتعة، وإذا بها قد اختفت. . وكنت قد دسستها بين المرتبتين المطروحتين على السرير، فإن أقاربي هؤلاء يخافون الفئران والصراصير، فيكدسون المراتب على السرير فتعلو جداً ويحتاج المرء إلى كرسي يصعد عليه. ولم أشك في أن سميحة سرقت روايتي، وأنها الآن تنعم بها في سريرها على عادتها حين تريد القراءة. وكانت الساعة الحادية عشرة فقدرت أن تكون قد قطعت مرحلة طويلة وبلغت العقدة التي لا يمكن أن يستريح القلب إذا لم يقف على حلها، فمضيت إلى غرفتها ونقرت ودخلت، فقالت:(خير إن شاء الله!)، فقلت وأنا أرفع نفسي لأجلس على حرف السرير - فإنه عال كما قلت لك -
(أوه لا شيء. . . إنما جئت لأتحدث معك قليلاً).
قالت بجفوة: (ليس هذا وقت الحديث فقم من فضلك).
قلت: (بل قولي إنك تقرئين رواية (السم في الدسم). . أليست بديعة؟).
فاطمأنت لظنها أني فرغت منها، ففي وسعها الآن أن تمضي في قراءتها من غير أن تخاف أن أقطع عليها - بالسرقة أو الخطف - حلاوة المتعة، ورأيت إمارات هذا الاطمئنان في وجهها ففرحت فإن الانتقام يكون أوقع إذا خيب أملاً قوياً، وأطلتُ الحديث فسئمَت واشتهت أن تعود إلى روايتها، وقالت:(هل تنوي أن تنام هنا الليلة؟ إذا كنت تنوي هذا فقل لي لأنتقل إلى غرفة أخرى!).
ونهضت عن السرير ومضت إلى الشرفة ففتحتها وأطلت منها، فلمحت الرواية تحت الوسادة فما أسرع ما دسستها في جيبي، ثم قلت وأنا أمضي إلى الباب:(إذا كنت تكرهين وجودي إلى هذا الحد، فإني ذاهب إلى حيث. . .).
فقالت من الشرفة: (ألقت) وضحكت.
فلم يسؤني ذلك، فأن الذي يضحك أخيراً يضحك كثيراً كما يقول الإنجليز على ما حدثنا معلمنا؛ وأوصدت باب غرفتي بالمفتاح، واستوثقت منه بهزه مراراً وبقوة لأرى هل يستطيع محنق مغيظ أن يكسره، ثم قعدت على كرسي وراء الباب، ورحت أنتظر.
ولم يطل انتظاري، فقد اهتز الباب فصحت وأنا أتكلف الفزع:(من؟).
قالت: (افتح من فضلك!).
قلت: (إذا كنت تنوين أن تقضي الليل في هذه الغرفة فقولي لي لأنتقل إلى سواها).
قالت: (لا تكن فظاً. . . لماذا سرقت الرواية؟).
قلت: (بضاعتنا ردت إلينا. . هل عرفت من القاتل. . لعلك تظنين أنه (رودلف). كما كان المحققون يتوهمون؟؟ كلا يا فتاتي!. . . إن السر أعمق وأخفى من ذلك وإن الروائي لبارع حقاً. . والآن أرجو أن تذهبي فقد بلغت الفصل الذي يشقي صبر المرء إذا لم يتمه في مثل لمح البصر. . اذهبي ونامي يا حبيبتي واحلمي (بالصيني) فإن له لدخلاً في الأمر وعلاقة بالسر).
قالت: (صحيح؟.).
قلت: (طبعاً. . لقد عرفت ذلك منذ دقيقة واحدة).
قالت: (ألا تخبرني من القاتل؟؟ إني أكاد أجن ولا أستطيع أن أنام حتى أعرف هذا، فكن
لطيفاً وأخبرني).
قلت: (حتى تكوني أنت لطيفة).
قالت: (ماذا تطلب قل وخذ وهات الرواية).
قلت: (الرواية كلها؟؟ لا!. إن ثمنها غال جداً. . . على أني بعد التفكير العميق أرى أن المساومة لا تليق ولهذا أرفض كل ما تعرضينه كائناً ما كان).
قالت برقة: (ترفض أن تعلم أني. . . أني. . . أني. . . أحبك؟)(بصوت خافت).
فانتفضت واقفاً وصحت (إيه؟).
قالت: (لا تصح هكذا. .).
ووضعت فمها في ثقب المفتاح وهمست: (يا عبيط. . إني أحبك. . هل تفهم؟. وأنوي أن أتزوجك على رغم أنفك؟. . فنضع لهذه المنافسة السخيفة حداً ونستطيع حينئذ أن نقرأ الروايات البوليسية كلها معاً. . تقرأ لي فأسمع. . وأقرأ لك فتسمع).
فاعترضت وقلت: (ولكني قد أحب أن أسرع وأقلب بضع صفحات ليطمئن قلبي، ولا تحبين أنت ذلك فيقع الخلاف).
قالت: (كلا. . على كل حال. . سأكون واثقة أن الرواية باقية في البيت فأنا أتعهد لك أن أقدمك على نفسي وأتركك تسرع أو تبطئ كما تحب. . وحسبي أن تترك لي فتات المائدة).
فأثر في نفسي هذا الإخلاص والإيثار. . وأي إيثار أعظم، وأي تضحية أكبر، من أن تتركني أقرأ - أو أتم - رواية بوليسية قبلها؟؟ هذا إخلاص وإيثار لم يسمع - أو على الأقل لم أسمع أنا - بمثلها. فلا عجب إذا كنت قد فتحت الباب بسرعة وفتحت مع الباب ذراعيّ لها فدخلت في ذراعي قبل أن تدخل من الباب.
وكان لا بد أن أجزيها إخلاصاً بإخلاص، وإيثاراً بإيثار، فدفعت إليها الرواية وقلت:(إقرئيها قبلي يا نور العين).
إبراهيم عبد القادر المازني
صور سياحة
3 -
معاهد باريس
الحي الجامعي والمدينة الجامعية ومسجد باريس
بقلم سائح متجول
لا ريب أن ما تتمتع به فرنسا وباريس في مصر من حب وتقدير يرجع قبل كل شيء إلى غرسها العلمي والثقافي؛ وإذا كان هذا الغرس يذبل اليوم ويتضاءل لأن عوامل كثيرة جديدة دخلت في الثقافة المصرية المحدثة، فأن الثقافة والآداب الفرنسية ما زالت تحتفظ في مصر بكثير من جاذبيتها وسحرها.
لقد تلقى كثير من المصريين علومهم بفرنسا، وما زالوا لثقافتها رسلاً مخلصين.
بيد أنه من حسن الطالع أن هذا الجيل المتعصب لثقافته الأجنبية يضمحل اليوم؛ ذلك أن مصر يجب ألا تكون ميداناً بعد لنضال الثقافات الغربية التي تبغي دائماً من بسط نفوذها العلمي والثقافي أغراضاً خاصة، ويجب أن تسير مصر في تكوين ثقافتها القومية على مبدأ الاختيار الحر بعيداً عن دعاية أولئك الرسل المتعصبين.
إن فرنسا تتمتع منذ الأحقاب بسمعة جامعية وعلمية راسخة، وما زالت باريس بجامعتها الشهيرة كعبة الطلاب من سائر الأنحاء والأمم، وما زال حيها الجامعي أو الحي اللاتيني على تقشف مظهره من أشهر أحيائها وأجدرها بالحب والعطف، وأغناها بالذكريات.
ففي الحي اللاتيني يتفتح الذكاء الفرنسي، وفيه تشع العبقرية الفرنسية، وفيه ينهل ألوف من الشباب الأجنبي مورد الثقافة الرفيعة، ويلمسون كثيراً من نعم النظم الديموقراطية التي تسود أفق الحياة العامة في فرنسا.
وفدنا على باريس في صميم الصيف والحياة الجامعية معطلة، فلم يتح لنا أن نرى شيئاً من مظاهر نشاطها، ولكنا مع ذلك طفنا بأرجاء الحي الجامعي مراراً ولمحنا آثار الصبغة الجامعية تطبع الحي في معالمه، وفي فنادقه ومقاهيه، ومظاهر حياته المتواضعة.
يشغل الحي الجامعي ركناً من أقدم أركان باريس وأكثرها تواضعاً، كما يشغل حينا الأزهري أقدم أركان القاهرة وأكثرها تواضعاً؛ وقوام الحي الجامعي شارع سان ميشيل:
ففي ضفته اليسرى يقع ميدان السوربون. وشارع سوفلو، وفيما بينهما وبين شارع سان جاك تقع السوربون والكليات المختلفة الملحقة بها فيما بين دروب وشعاب ضيقة قاتمة؛ وفيما بينهما أيضاً تقع عدة من المعاهد العلمية القديمة مثل كلية (لوي الأكبر)؛ ومن الحق أن يقال إن هذه المجموعة القديمة من المباني القاتمة لا تتفق في مظاهرها المادية المتواضعة مع ما لها من سمعة جامعية مؤثلة؛ بيد أن هذا الحرص على القديم ربما كان في ذاته مثاراً للإجلال والإعجاب بهذه المعاهد التالدة التي يرجع بعضها إلى نحو سبعمائة عام، فنحن نعرف أن معهد السوربون أسس في منتصف القرن الثالث عشر، في عهد لويس التاسع، وكان في الأصل معهداً لتدريس العلوم الدينية، وأن تنظيم الكليات الجديدة في السوربون يرجع إلى عصر نابليون، أي إلى نحو قرن وربع.
وحي سان ميشيل الذي يضم هذا الحشد الجامعي، كما قلنا حي متواضع بيد أنه حي عامر ضخم، ويمتد بولفارسان ميشيل من أحد طرفيه إلى مونبارناس، وشارع (البور رويال) وما زال يخترقه إلى اليوم خط الترام بعد أن ألغيت خطوطه من معظم الشوارع الكبرى؛ ويتصل من الناحية الأخرى بشارع فوجيرار على مقربة من الأوديون وحديقة اللوكسومبور التي تبث نسيمها الصبوح إلى الأحياء المجاورة، والتي يهرع إليها جمهور الطلبة والشعب يتفيأون ظلالها ورياضها؛ وفي سان ميشيل والشوارع المتفرعة منه عدة من الفنادق الرخيصة التي تنم عن تواضع روادها؛ وهنالك أيضاً طائفة من المكتبات التي تتاجر في الكتب المستعملة؛ وإنك لتلمس على الجملة في كل ناحية من أنحاء سان ميشيل وما إليه ما يدل على صفة الحي المتواضعة النبيلة معاً.
ولا بد لنا بهذه المناسبة أن نذكر كلمة عن المدينة الجامعية التي تربطها بالحي اللاتيني أوثق الروابط؛ والتي لا يعرفها كثيرون من المصريين الذين درسوا في فرنسا لأنها أنشئت منذ أعوام قلائل فقط.
تقع المدينة الجامعية في ظاهر باريس من جهة الشمال الشرقي في شارع جوردان في بسيط أخضر من الحدائق والحقول النضرة؛ وقد كان من حظي أن زرت المدينة الجامعية وطفت بأنحائها برفقة مدموازيل ليجران، وهي آنسة رفيعة الثقافة تتولى منصباً في إدارة المدينة الجامعية نفسها، وهي التي تفضلت بالشرح والتعريف لكل ما سألت وشاهدت.
كان أول من فكر في هذا المشروع الجليل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ غاب عني اسمه، فدعا إليه في المجلس وفي الصحافة، ولم يلبث أن صادف نجاح التحقيق؛ وكان المثري الأمريكي روكفلر أول من اهتم بأمره ونفحه بهبة مالية حسنة ساعدت على تحقيقه.
وتنقسم المدينة الجامعية إلى قسمين: القسم العام ويشمل الأبهاء والمرافق العامة وإدارة المدينة الجامعية نفسها، وهذا القسم هو روح المدينة وهيكلها الحقيقي؛ والقسم الخاص، وهو الذي يضم دور الطلبة لمختلف البلدان، وهو خاص بسكنى الطلبة؛ وفي القسم الأول حديقة بديعة وعدة أبهاء كبيرة للمطالعة والكتابة والجلوس قد أثثت جميعها ببساطة وإتقان معاً؛ وهنالك مطعمان كبيران قد صفت فيهما موائد بسيطة نظيفة، وكذلك مقهيان كبيران؛ وفي وسع الطلبة أن يجلسوا للمذاكرة أو الكتابة أو السمر في هذه الأبهاء الشاسعة المنيرة، وأن يتناولوا الطعام أو القهوة أو الشاي أو غيرهما في تلك المطاعم أو المقاهي النظيفة بأثمان زهيدة جداً تناسب أحوالهم وماليتهم؛ ووجبة الطعام الحسنة تكلف الطالب من 3 إلى 5 فرنكات، وثمن المشروب فرنك أو نصفه، وهذه أثمان لا تحلم بها في مطاعم المدينة ومقاهيها؛ وهناك حمامات وملاعب ومسرح يقوم الطلبة بالتمثيل فيه أو تمثل فيه الفرق التي تدعوها إدارة المدينة لتسلية الطلبة، وهنالك في الطابق الأرضي مكتبة بدئ بتأثيثها وإعدادها لتغذي الطلبة وتعاونهم على المذاكرة والبحث: هذه هي محتويات القسم العام للمدينة الجامعية شرحناها بإيجاز؛ وإنك لتشعر أثناء الطواف بهذه الأبهاء والغرف الشاسعة التي تشرف على الحدائق والحقول النضرة، إنها لأبدع ملاذ يمكن أن يأوي إليه الطالب في أوقات المذاكرة والفراغ معاً، بعيداً عن صخب المدينة وضجيجها، وإنك لتأنس شعوراً من الغبطة والإعجاب بما هيئ للشباب من وسائل الراحة والمتاع البريء.
وأما القسم الخاص من المدينة الجامعية فيحتوي على عدة دور كبيرة أنشئت إلى جانبي القسم العام عن يمينه وعن يساره على طول شارع جوردان؛ لكل دولة دارها؛ فهنالك دور لإنكلترا وأمريكا واليابان وفرنسا وهولندا وبلجيكا وكندا وغيرها؛ وتخصص هذه الدور القومية التي تتولى الدول المختلفة تشييدها على أرض تمنح لها، لسكنى طلبة هذه الدول، فدار إنكلترا خاصة بالطلبة الإنكليز، ودار أمريكا بالطلبة الأمريكيين، وهولندا بالهولنديين، وهكذا؛ وأبدع الدور وأعظمها هي دار الولايات المتحدة؛ وهنالك دار صغيرة ولكن أنيقة
لليابان؛ وقد أعدت هذه الدور لتكون فنادق للطلبة وجهزت بوسائل الراحة والنظافة، وأثثت ببساطة واتقان؛ ويستطيع الطالب أن يجد سكناً في دار البلد الذي ينتمي إليه بأجر شهري قدره مائة فرنك؛ ويستطيع أن يجد غرفة خاصة حسنة الأثاث بأجر شهري قدره مائتا فرنك، وتغص هذه الدور بالطلبة لما لها من مواقع جذابة تغمرها الشمس والضوء والهواء، ولما للسكن فيها من المزايا المريحة.
ولقد وددنا أن نرى في المدينة الجامعية بين هذه الدور الأنيقة الضاحكة، دارا مصرية! ففي باريس يدرس دائماً عدد كبير من الطلبة المصريين، وإنها لدعاية حسنة لمصر المستقلة الفتية أن يكون لها دار جامعية في العاصمة الفرنسية إلى جانب دور الأمم الأخرى، وإنها لنعمة سابغة لطلبتنا أن يكون لهم في باريس دار مصرية يأوون إليها بعيداً عن صخب المدينة ومغرياتها؛ قهل تفكر وزارة المعارف في هذه المسألة الهامة، وهل توليها شيئاً من عنايتها وعطفها؟ إنا لنرجو مخلصين داعين بالتوفيق والتحقيق.
هذا ولا تنس وأنت في باريس أن تزور (المكتبة الوطنية) في شارع ريشليو، ففي هذا المعهد الثقافي الضخم كنور زاخرة من الكتب في مختلف العلوم والفنون؛ وفي المكتبة الوطنية قسم شرقي ضخم، وقسم خاص بالمخطوطات العربية، ولكل قسم فهارسه المنظمة، ومرشدون يفهمون أعمالهم حق الفهم، وقد لفت نظرنا عند مراجعة فهارس المخطوطات العربية عدة أسماء مخطوطات نادرة مثل: أحاديث الإمامة والسياسة (رقم 1566)، وحسن المسالك لأخبار البرامك (2107) وعيون المعارف للقضاعي (1490)، وتراجم الصواعق في وقعة الصناجق (1853)، وتاريخ المهديين والحفصيين (1874)، وتاريخ مصر لابن زولاق (4727). بيد أننا لم نجد متسعاً من الوقت لبحث هذه المخطوطات لمعرفة حقيقتها ومبلغ أهميتها.
وهنالك في باريس صرح لابد لكل مسلم أن يزوره، هو مسجد باريس؛ ويقع المسجد في قاصية باريس، وفي حي من الأحياء القديمة المتواضعة على شوارع جوفري سانت هيلير، وجورج دوبلا وديبانتون، وقد بني على الطراز المغربي، ويشرف بابه العمومي ومئذنته على شارع ديبانتون، وفي فنائه حديقة صغيرة حولها أروقة أربعة تفضي إلى أبهاء وأجنحة ومرافق مختلفة، وفي الجهة اليمنى من الفناء يقع المصلى، وهو بهو شاسع أنيق،
قد فرش بالبسط النفسية، وبه عند القبلة منبر مكسو بالديباج الأخضر من إهداء مليكنا المغفور له فؤاد الأول؛ ولقد يممننا في عصر ذات يوم إلى هذا الحرم الإسلامي المقدس الذي يحفه الصمت العميق من سائر نواحيه، ولم نتمالك أن نجثو خاشعين لله عز وجل، وان نؤدي ما تيسر من الصلاة مغتبطين لذكر الله ورسوله في هذا الحرم النائي عن أرض الإسلام.
وبالمسجد مكتبة صغيرة ومعهد قيل لنا إنه تلقى به محاضرات إسلامية مختلفة، ومستشفى صغير لبعض الأمراض الخطيرة؛ وبه أيضاً حمام عربي، ومقهى ومطعم عربي، قد صفت موائده في حديقة داخلية صغيرة تقع في الجهة الشرقية، وتعزف فيها الموسيقى العربية أحياناً، ويقوم بهذا العزف بعض الموسيقيين المغاربة. وقد تنولنا القهوة العربية لأول مرة في باريس في هذا المنتدى الأنيق وسمعنا الموسيقى العربية في مجتمع قوامه مسلمون من مختلف الأمم.
بيد أن شعور الغبطة الذي قد يأنسه المسلم مدى لحظة لقيام هذا الصرح الإسلامي في باريس لا يلبث أن يمازجه شعور بالمرارة والأسف حين يستعرض المعاني والظروف لتي أقيم فيها. إن فرنسا لم تعمل لإقامة هذا المسجد حباً بالمسلمين أو احتراماً لشعائرهم ومشاعرهم، وإنما أقامته أداة من أدوات التأثير الاستعماري، وهو في الواقع رمز لسيادتها على الأمم الإسلامية التي تسودها أكثر منه رمزاً للعطف والتقدير.
وإلى هنا نقف اليوم؛ وسنحدثك في الفصل القادم عن الحياة الليلية في باريس، وعن بعض مظاهر المجتمع الباريزي.
(? ? ?)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
- 5 -
إلى هنا انتهينا من بيان أثر نظرية السعادة الفارابية في رجال المدرسة الفلسفية الإسلامية وفي طائفة من المتصوفة الذين تشوبهم روح فلسفية. والآن يجدر بنا أن نبين ما إذا كانت هذه النظرية قد أثرت في الصوفية الآخرين المعتدلين أو المحافظين إن صح هذا التعبير. وإن مهمتنا في هذه المرحلة أشق منها في سابقتها، لأنه ليس بغريب أن تُفترض صلة بين فلاسفة وصوفية متفلسفين. أما محاولة إثبات علاقة بين الفلسفة والتصوف البحت الذي يرى من واجباته الأولى محاربة الفلاسفة والمتفلسفين فهذا أمر عسير، ومهما يكن فسندرس هذه النقطة بنفس الطريقة والمنهج اللذين درسنا بهما النقط السابقة مبينين أولاً السر فيما ذهبنا إليه من تقسيم الصوفية إلى معتدلين ومتطرفين.
لم يكن الإسلام فسيح الصدر للرهبنة المسيحية والتقشف الهندي، وكثيراً ما دعا إلى العمل للدنيا والتمتع المباح بلذائذ الحياة:(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فهو بعيد إلى حد كبير عن طريقة القسس والرهبان في بيعهم وصوامعهم وسنة فقراء الهند وعبادهم في ألمهم وعذابهم المستطاب. ومع هذا فكل دين كائناً ما كان يشتمل بعباداته ونصائحه على قدر من التصوف لا يحتمل الشك. وسبق أن أشرنا إلى أن هناك عوامل كثيرة وتعاليم مختلفة: هندية وفارسية وإغريقية ومسيحية أثرت في تكوين التصوف الإسلامي، ولكن يجب أن نضم إلى هذه المؤثرات الخارجية عاملاً آخر داخلياً وجوهرياً، ألا وهو الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الأعمال الدينية. ولو لم يكن في طبيعة الإسلام ما يسمح بشيء من التصوف ما وجد التقشف الهندي والرهبنة المسيحية إلى المسلمين سبيلاً. وقد دار نقاش طويل بين المستشرقين متعلق بأثر القرآن في تكوين نظريات الإسلام التصوفية، وهم في هذا فريقان: فريق ينكر هذا الأثر وآخر يثبته. وفي مقدمة الفريق الأول يجب أن
يذكر البارون كارادي فو الذي يزعم (أن القرآن لم يكن مطلقاً الكتاب الذي استطاع مبدئياً أن يجتذب الصوفية نحوه كثيراً، لأنه متعلق جداً بالأمور الخارجية وليس فيه الحنو الداخلي والروحي حقيقة). وعلى عكس هذا يقرر أستاذنا ماسنيون، وبجانبه الأستاذ مرجليوث، (إن في القرآن البذور الحقيقية للتصوف. وهذه البذور كفيلة بتنميته في استقلال عن أي غذاء أجنبي). ونحن نعتقد أن القرآن أعان الصوفية كما أعان المتكلمين والفقهاء على نصرة آرائهم. فإن كتاب الله في العالم الإسلامي قاموس للنحاة واللغويين، ومذهب فلسفي للباحثين والمفكرين، وذكر يتقرب به المبتهلون والمتضرعون، ولائحة يرجع إليها المشرعون، وعقيدة يحتج بها المتكلمون. وكثيراً ما حاول أصحاب الآراء الجديدة والنظريات الحديثة الاحتجاج به والاعتماد عليه، بل إن هؤلاء أحوج إلى نصرته من غيرهم فأن آية منه قد تقرِّب آراءهم إلى من حولهم وتكسب نظرياتهم سلطاناً دينياً وصفات شرعية. فالصوفية إذن لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم أفادوا من القرآن بقدر ما أفاد غيرهم من الباحثين. وأما ما في هذا الكتاب الكريم من حنو ورقة وعطف وشفقة فأمر لا يقبل الشك. ويدهشنا أن البارون كارادي فو لم ينتبه إليه؛ ذلك لأن القرآن لا يخاطب العقل وحده بل يناجي كذلك القلب؛ ولا يعني بالظاهر أكثر من عنايته بالباطن. وكم فيه من تحاليل شائقة وأساليب جذابة تصف أحوال النفس وأحاديثها الداخلية. وكيف يتصور أن يخلو كتاب سماوي من مناجاة القلوب والأرواح وهو إنما أعد أولاً وبالذات للجماهير التي تحس قبل أن تفكر وتسير غالباً وراء العاطفة والوجدان. وإنه لجهل بطبيعة الأديان أن يقال إن تعاليمها مصوغة في قوالب منطقية ولغة عقلية بحتة. ويطول بنا البحث لو حاولنا أن نسرد هنا كل الآيات القرآنية المتصلة بالقلب والروح والتي استطاع الصوفية استغلالها في نواح كثيرة، ونكتفي بأن نشير إلى دراسة تحليلية عميقة أبان فيها الأستاذ ماسنيون الألفاظ الصوفية المقتبسة من القرآن الكريم. فمصطلحات المتصوفة فضلاً عن نظرياتهم ترجع إلى أصل في كتاب الله. وغني عن البيان أن حديث المعراج وقصة يوسف كانا أساساً لنظريتين هامتين من النظريات الصوفية وهما الجذب والحب. والعلم اللدني الذي يتباهى به أهل الكشف والواصلون صورة مأخوذة عن الخضر عليه السلام الذي قال الله في شأنه:(فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً). وعلى هذا
يجب أن نبحث عن أصول التصوف الإسلامي في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما نبحث عنها في الصوامع الهندية والبيع اليهودية والكنائس المسيحية وتعاليم مدرسة الإسكندرية. غير أنه لا يفوتنا، وهذا أمر ينبغي التنبه إليه، أن الألفاظ والآيات القرآنية مرت بأدوار مختلفة من حيث مدلولها وتفهم الناس لها. فقد يفهم صحابي من لفظة قرآنية ما لا يفهمه تابعي أو رجل من رجال القرن الثالث الهجري. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى مرونة الألفاظ القرآنية ومسايرتها للزمن والتقدم العلمي. ولو جارينا متصوفي العصور الأخيرة لرددنا كل بحث صوفي إلى آية قرآنية أو حديث نبوي، وهذا إسراف من غير شك. فلا يصح إذن أن نبحث عن أساس التصوف الإسلامي في القرآن وحده أو فيه كما فهمه الصوفية المتأخرون، بل يلزمنا أن ننشد هذا الأساس في الألفاظ والآيات القرآنية كما بدت للمتصوفين الأول. يقول الأستاذ نكلسون:(صواب أن نعد المتصوفة بين خواص دارسي القرآن، ولكن لا يصح، فيما أظن، أن نعتبر التصوف مجرد نتيجة للدراسات القرآنية).
وفي هذه الجملة القول الفصل والحكم السديد في تلك الخصومة الآنفة الذكر التي شجرت بين المستشرقين. فأنا لا نسلم بأبعاد القرآن رأساً عن النظريات الصوفية، كما لا نوافق على عده وحده كفيلاً بخلق تصوف كامل. ولا يفوتنا أن نشير أخيراً إلى أن هذه المعركة فقدت اليوم كثيراً من أهميتها.
بدأ التصوف فعلاً على صورته الفطرية البسيطة منذ الصدر الأول للإسلام، فلوحظ على كثير من الصحابة ميلهم إلى الزهد والتقشف وإعراضهم عن الدنيا، بل لقد خطا بعضهم في هذه السبيل خطوات فسيحة وبالغ فيها مبالغة واضحة. بيد أن هؤلاء الزهاد والمتقشفين لم يتسموا باسم خاص ولم ينتسبوا إلى طائفة معينة، ولم تطلق كلمة (صوفية) على جماعة محددة إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة. وما زال هذا النوع من السلوك ينمو ويزيد أنصاره إلى أن ولد بعض الأبحاث والنظريات، والعلم نتيجة العمل، والنظرية في الغالب وليدة التطبيق. لهذا رأينا رجالاً من مفكري القرن الثالث الهجري، وعلى رأسهم المحاسبي وذو النون المصري، يبدءون بوصف بعض الأحوال النفسية والظواهر الصوفية، ومخلفاتهم من أقدم ما كتب في هذا الباب. ونظرية الاتحاد بوجه خاص ترجع إلى عهد
متأخر، فإن البسطامي هو أول من قال بها. ثم جاء الجنيد والحلاج فرفعاها إلى عنان السماء. وهذه النظرية أدق شيء في التصوف الإسلامي، وقد قسمت إلى طائفتين: طائفة تقبلها وأخرى ترفضها. والقرآن لا يشير إليها مطلقاً بعبارة صريحة، بيد أن أنصارها لم يعدموا الحيلة في دعمها ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي نستطيع أن نذكر منها قوله تعالى:(ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(وهو معكم أينما كنتم)(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سدسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ما تقرب إلى المتقربين بمثل أداء ما افترضت عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى يحبني وأحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ويصره الذي يبصر به).
بيد أن الاتحاد الصوفي يؤدي إلى الاشتراك في ذات البارئ جل شأنه وحلول اللاهوت في الناسوت. وقبول شيء إلهي في داخل العبد معناه الوحدة الربانية. وكل الخلاف بين الأشاعرة والمتصوفة يتلخص في هذه النقطة. فالأشاعرة لا يقبلون أن ينزل الإلهي في الإنسان ولا ن يصعد الإنساني إلى الإلهي، ويرفضون ضرورة مذهب الحلول وإن كانوا يسلمون بالتصوف في جملته. إلا ن التصوف عندهم مقصور على وصف بعض الأحوال النفسية ودراسة الأخلاق العملية التي تسمو بالمرء إلى درجة الكمال دون أن تدعي الوصول إلى حلول الحلاج المزعوم. ومن هنا خرجت الصوفية المحافظة وانقسم المتصوفون إلى معتدلين ومتطرفين، وليس هذا التقسيم بالجديد في العالم الإسلامي ولا في كل المدارس التي تسودها نزعة دينية. وإنا نلاحظ في مختلف الدراسات الإسلامية - لا فرق بين التوحيد والفقه والتصوف - أن هناك شعبتين متميزتين: شعبة السنيين وشعبه المبتدعين، أو شعبة المحافظين وشعبة الأحرار. وإذا كان الغزالي هو أكبر خليفة لأبي موسى الأشعري في نصرة مذهب أهل السنة الكلامي هو بحق مؤسس التصوف السني. وكأنما أخذ على عاتقه نصرة أهل السنة على طول الخط ومحاربة أهل البدعة كيفما كانت فرقهم ونحلهم، فلاسفة كانوا أو باطنية، متصوفة كانوا أو متكلمين، حلاجيين كانوا أو معتزلة، وقد آذت حملته الفلاسفة والمتفلسفين بقدر ما أخذت بيد أهل السنة من الكلاميين. أما التصوف السني فهو تقريباً واضع أصوله وقواعده ومبين طرقه ووسائله في إحياء
علوم الدين الذي أضحى عمدة المتصوفين المتأخرين بلا استثناء. نعم إن الغزالي يجهر هنا بنظريات متناقضة تنقض آراءه الكلامية والفلسفية، فتراه مثلاً يحارب محاربة عنيفة ويرفض رفضاً باتاً نظرية الاتحاد الحلاجية في كتاب الإحياء على حين أنه يميل إليها ويقول شيئاً يشابهها تمام المشابهة في كتاب مشكاة الأنوار، وهذه نقطة ضعف لاحظناها عليه من قبل، وعل تطوراً حدث في آراء الرجل هو السر في هذه النظريات المتناقضة، ومهما يكن فكتاب الأحياء هو مصدر التصوف السني من غير جدال، وعليه نعتمد أولاً هنا أولاً وبالذات، وهو الذي أثر وحده تقريباً من بين كتب الغزالي الصوفية في المتصوفين المتأخرين. وما كان الغزالي لينكر التصوف وقد ركن إليه بعد أن خبر الدراسات الأخرى ولم يطمئن إليها ووجد فيه حصنه الحصين. فهو يرى أن علم القلوب لازم لزوم علم المرئيات والملموسات، لأن هناك عالمين عالم الباطن وعالم الظاهر. فإذا كان بعض العلوم يتولى عالم الظاهر بالدراسة والشرح فلا بد من علم خاص لتوضيح عالم الباطن. والمعلومات نفسها ضربان: حسية وصوفية أو ظاهرية وباطنية؛ وفي هذا التقسيم ما يقابل أنواع العلوم التي أشرنا إليها من قبل. ولكن قد يقال إن وسلتنا في تعرف المعلومات الظاهرية هي الحواس فبأي طريق نستطيع الوصول إلى المعلومات الباطنية؟ والأمر في هذا يسير إذا ما رجعنا إلى الصوفية فإنهم يقولون إن التقشف والزهد والفضائل العملية جميعها سبيل إدراك الحقائق الخفية والإلهامات التي تجاوز عالم السمع والبصر. فالمعرفة إذن هي غاية التصوف السامية. أما اتحاد العبد مع الرب فهذه قضية منقوضة عقلاً وغير مقبولة نقلاً. وإذا شئنا أن نقارن بين تصوف الغزالي وتصوف الفارابي وجدناهما متفقين على رفض مذهب الحلول الذي ذهب إليه الحلاج والإلهام الذي يعمل له الغزالي يشبه من وجوه كثيرة الاتصال الذي جد في طلبة الفارابي. وكلا الرجلين يؤمن بوجود معارف باطنية وراء الحقائق الحسية، وهذه غاية الحياة العملية والنظرية ومقصد الصوفية والأنبياء. ولقائل أن يقول إن الغزالي يستمد إلهاماته من الله مبشرة على حين أن الفارابي يقنع بالاتصال بالعقل الفعال. ولكن هذا الفرق في الواقع سطحي فأن العقل الفعال في رأي فلاسفة الإسلام جميعاً ليس إلا فاصلاً معنوياً ومرحلة تدرج بين العبد وربه، وكل فيض مصدره الأخير والحقيقي هو الله جل شأنه. وعلى هذا يمكننا أن نستنتج من كل ما سبق أن
نظرية السعادة الفارابية أثرت في جميع المتصوفة المسلمين المتطرفين منهم والمعتدلين أو الأحرار والمحافظين.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
في الأدب المقارن
أسباب النباهة والخمول
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الممارسون للآداب نثراً ونظماً في كل أمة وفي كل جيل أكثر من أن بعدوا، لأن الإفصاح عن خوالج النفس وتأثراتها بما تحس وما ترى طبعي في الإنسان، وإنما يَنْبُهُ من أولئك الممارسين للآداب القليلون ويخلد الأقل؛ يميزهم من غيرهم سداد الفكر ولطف الشعور وروعة الأسلوب، ومن أولئك يكون أعلام كل أدب، ترفعهم عبقريتهم فوق رؤوس معاصريهم وتمشي بهم على عواتق الأجيال.
غير أن للمصادفات والحظوظ والظروف دخلاً كبيراً وصغيراً في صعود الأدباء وهبوطهم، فتَعدِل أحياناً وأحياناً تجور. والأرجح أنها كانت كثيرة الجور والإجحاف في الأدب العربي، وكانت أشبه بالعدل والإنصاف في الأدب الإنجليزي، فقد صاحبت الأدب الإنجليزي ظروف طبيعية مساعدة تسمح للعبقرية الفردية أن تسلك سبيلها غير معتاقة، وأحاطت بالأدب العربي عوامل عارضة أدت إلى رفع بعض من لا يستحقون الرفعة بجوار من يستحقونها، وإلى خفض من هم أولى بالرفعة والنباهة.
فقد ترعرع الأدب العربي ونضج وقومه أميون لا يقيدون في القرطاس آثار أدبائهم وأخبارهم، وإنما يروونها رواية ويتوارثونها تواتراً جيلاً بعد جيل؛ والرواية أقل من الكتابة نصيباً من الدقة وحفظ الآثار والتمييز بين الغث والسمين والبصر بما يستحق البقاء، فكان من جراء ذلك أن ضاع شعر كثير ونثر أكثر، واندثرت أخبار أدباء لعل منهم من كان أجدر بالخلود وأجدر بإعجاب الأجيال التالية ممن خلد؛ ولم يصلنا من أخبار قرون طويلة قبل الإسلام وبعده إلا كل مبتور غير مستوثَق.
فلما صارت الرواية صناعة يطلب بها علو الذكر ودرُّ الرزق وتقريب الأمراء، كان ذلك ضغثاً على إبالة، إذ اشتد عبث الرواة بما بين أيديهم من الأدب العربي، وشوهوه بالبتر والوصل والاختراع والنحل، وحملهم تنافسهم وتكاثرهم بسعة العلم على تخليد أسماء
أنصاف الأدباء وأشباه الشعراء، وخلقوا شعراء وفصحاء لم يخلقوا من قبل، وعزَوْا إلى غيرهم من الآثار ما هم براء منه؛ وهكذا خمل من رجال الأدب من عاشوا في عالم الأحياء، وعاش في عالم الأدب من لم يشهدوا نور الحياة.
ولما استُعملت الكتابة الخطية وقل الاعتماد على الرواية، ظلت الكتب نادرة والاستنساخ أمراً غير يسير، ولم تكن الكتب في شيء من الكثرة التي صارت إليها بعد انتشار الطباعة. ثم تعاورت الدولة العربية الغزوات البربرية المدمرة، فأباد الوثنيون في الشرق، والنصارى في الأندلس، كرائم المؤلفات ونفائس الكتب العربية، فذهبت بذهاب ذلك آثار أعلام من الأدباء واندثر ذكر آخرين.
وكان للمشادات والمقارعات الدينية والمذهبية والعصبية والسياسية والجنسية التي صحبت قيام الدولة الإسلامية ولازمتها في حياتها يد طولي في العبث بالتراث الأدبي، فأخمل ذكر أدباء انهزم حزبهم أو انخذل مبدؤهم، ونُشر عمدا ذكر من ناصروا الغالبين في كل تلك الحلبات، وتبارى الغالبون والمغلوبون في العبث بتراث أسلافهم الأدبي ونسبة الروايات الملفقة إليهم، ولهم من انتشار الرواية وندرة الكتابة خير معوان.
ويتصل بهذا تقريب الخلفاء والأمراء لرجال الأدب، لا برّاً بالأدب ولكن طلباً للأبهة وبعد الصيت، فقد أصبح اتصال الشاعر أو الأديب بالخليفة أو الأمير ضمان النباهة وسيرورة آثاره في البلاد، كما كان الإخفاق في التقريب إلى أولئك الحاكمين داعياً في كثير من الأحيان إلى خمول الأديب، فنَدَرَ من أعلام العربية النابهين من لم يتصل بالخلفاء والوزراء. ولا يسع المرء إلا أن يتصور أن عصور أبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري كانت حافلة بأندادهم، وإنما خلصت بهؤلاء لطافة حيلتهم إلى حضرة الأمراء فاشتهروا، وعثر بغيرهم مسعاهم فخملوا. ولقد خمل ذكر ابن الرومي طويلاً وإنه لأشْعَرُ ممن ذكروا جميعاً؛ ولعل من أسباب خمول ذكره فشله في الاتصال بالخلفاء والوزراء.
ولما استرقَّت جوائز الملوك أعناق الشعراء، وأعمل هؤلاء الحيل، وأذالوا الشعر في استرضاء الممدوحين واستجداء الأثرياء، ترفع كثير من ذوي الشرف والأدباء عن الهبوط إلى ذلك المجال، وأحجموا عن نظم الشعر أو التوفر عليه أو الاشتهار به، ولسان حالهم قول الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
…
لكنت اليوم أشعر من لبيد
وإن يكن أبو تمام يقول:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
…
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
فإنما كان يعني شعر المتقدمين من جاهليين ومخضرمين ممن تغنوا في شعورهم بالنجدة والمروءة والعزة، وما نخاله كان يعني الشعر الذي كان ينظمه هو وأضرابه واستجداء للرؤساء.
وبذلك حُرمت العربية طائفة من الشعراء لعلهم أسمى طباعاً وأشرف أغراضاً وأصدق شاعرية وأشد حباً للفن من مرتزقة المداحين الذين استأثروا بالجوائز ونباهة الذكر.
ولما فسدت الفصحى تدريجاً باختلاط العرب بالأعاجم العرب بالأعاجم، اشتد الحرص على آثار المتقدمين وتعاظم الإعجاب بهم والرفع من شأنهم، لا لشيء سوى صحة لغتهم واستقامة أساليبهم، وإن كانت أفكار كثيرين منهم على جانب من السذاجة، وأغراض شعرهم على حظ من البساطة، كالحطيئة وابن أبي ربيعة وكثير من الجاهليين.
فهذه عوامل شتى فعلت فعلها البعيد المدى في التراث الأدبي العربي، وساعدت على إعلاء ذكر رجال وخفض آخرين، وهي: ندرة الكتب والاعتماد على الرواية، والأغراض المذهبية، وتسخير الأمراء للشعر، وتكسب الشعراء به، وفساد لغة الكلام، وكوارث الغارات. تحكمت كل هاتيك في أقدار الأدباء وحظوظهم من النباهة، ولم يكن مردّ أمرهم دائماً إلى النبوغ الشخصي والذوق الناقد، فلا نبعد عن الصدق إذا قلنا إن الأدب العربي لم يحتو على خير عناصر المجتمع العربي أو يمثله أصح تمثيل، وإن سجل تاريخ الأدب العربي لا يحتوي على جميع أفذاذ الموهوبين من أصحاب البيان الذين أنجبهم المجتمع العربي.
ومن ثم احتل مكان الصدارة من تاريخ الأدب العربي بعض من لا يستحقون ذلك المكان، ومن لا يعبرون خير تعبير عن أفكار عصورهم وشعورها؛ ومنهم من نال من رفيع الذكر ما هو أهله، ولكنه لم ينله لمزاياه الصحيحة وأسرار نبوغه الحق بل لمساعدة بعض تلك العوامل السالفة الذكر له؛ فقد كان وما يزال من النقاد من يعظم المتنبي لا لأشعاره الصادقة التي أودعها عصارة روحه الكبير، بل لاختراعاته الكاذبة في مدح سيف الدولة وتهنئته
وتعزيته، مِن مثل قوله:
إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا
…
من التيه في أغمادها تتبسم
وبجانب تلك النباهة غير المستأهلة أو المبنية على غير أساسها الصحيح، خمولٌ ما كان أحق أصحابه بالذكر والتمجيد، ولقد قال البحتري:
إذا أرت الدنيا نباهة خامل
…
فلا ترتقب إلا خمول نبيه
ولعله هو خير من يعلم كم أخملت الدنيا بنباهته من شعراء، حين وفقه الحظ دونهم إلى الاتصال بالولاة والخلفاء.
فمن أفذاذ الخوارج أمثال قطري بن الفجاءة وشبيب بن يزيد من كانوا أسمى غرضاً وأشرف شعراً ونثراً من معاصريهم المداحين ولكنهم أخمل منهم ذكراً. ومن الأبيات السائرة المجهولة القائلين ما تشمل حكمة يقصر دون مداها أشباه بشار وأبي نواس، أو تحوي نسيباً تزري روعته بكل ما لُفق في صدور المدائح من نسيب مصطنع، أو تعبر عن شاعرية صحيحة ما كان أحرى صاحبها أن يتوفر على إثراء اللغة بفيض قريحته، ولكن طوفان تلك العوامل القاسية غمره ورفع غيره، فمن تلك الآثار الشاردة قول القائل:
أهابك إجلالاً وما بك قدرة
…
علي ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النفس أنك عندها
…
قليل ولكن قل منك نصيبها
وقول الآخر:
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها
…
فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً
…
كفى بالممات فرقة وثنائيا
ولم يخلُ الأدب الإنجليزي من آثار الإجحاف وتقلُّب الظروف: فأمام شعرائه شكسبير لم ينل في حياته مثل ما له اليوم من مكانة، وخمل ذكره بعد مماته أجيالاً، وعلا شأنه خارج إنجلترا قبل أن يعلو فيها. وقريعه في سماء الشعر الإنجليزي ملتون قضى أواخر حياته في غمرة من النسيان لإنخذال مذهب المطهرين الذي كان هو لسانه الناطق، وباع ملحمته الذائعة الصيت لورّاق بدراهم معدودة، وظل حقبة مهملاً. وكبير النهضة الرومانسية وردزورث قضى زهرة عمره منبوذاً مُعرَضاً عنه. وبعكس ذلك سما تنيسون في حياته إلى أوج الشهرة والإعجاب، ولم يكد يقضي نحبه حتى هبط ذكره وانصرف الجيل التالي عن
شعره.
على أن تلك كلها أمثلة لتقلب الأذواق بتعاقب الأجيال، وهو أمر طبيعي لا محيد عنه. وقد خلا الأدب الإنجليزي أو كاد من تلك الظروف العاتية التي لابست الأدب العربي وتحكمت في مصاير رجاله: فقد شب الأدب الإنجليزي من عهد اليزابيث وقد اخترعت الطباعة، واطرد رقي الطباعة وانتشار الكتب والصحافة والتعليم مع اطراد رقي الأدب، ولم يخضع الأدب طويلاً لسيطرة الحكم، وظل مرد الأمر في تقدير الأدباء إلى الرأي العام المتعلم الذي يقوّم الأديب لفنه الخالص؛ فإن رانت على بصيرته غشاوة من تقليد موروث أو مذهب سائد أو مشادة محتدمة في السياسة لم يلبث بعد أن ينجلي ذلك أن يعود إلى إنصاف من أجحف بهم وإسقاط من لم يستحقوا سالف تقديره.
فإلى أمرين اثنين يدين أعلام الأدب الإنجليزي في مراحله المتتالية بنباهتهم وخلودهم: نبوغهم الشخصي، والذوق العام. وليس بين أقطابه الذين يعتد بهم من لا تؤهله عبقريته لما أوليه في تاريخ الأدب من مكانة، أو من هو مدين بخلود ذكره إلى أهواء السياسة أو أغراض الحاكمين أو دسائس الأحزاب أو تحريف الرواة أو عبث النقاد.
فالنابهون في الأدب الإنجليزي أكثر استحقاقاً لمكانتهم من النابهين في الأدب العربي، والخاملون المغبونون في هذا الأخير أكثر منهم في الأول؛ والأدب الإنجليزي بما أحاط به من ظروف مواتية أسهل تأريخاً ودرساً من الأدب العربي. وهذا الأخير محتاج إلى مراجعة ودرس طويل وتأريخ جديد غير التأريخ الذي جرى عليه العرف حتى الآن ليمنح كل أديب حقه من التقدم أو التأخير، ويُزَحْزَحَ عن الصدر من تؤهلهم له آدابهم ونظراتهم في الحياة، ويستنقذ من يستطاع استنقاذهم من غمرة الخمول.
فخري أبو السعود
نابليون وخطواته الأولى في سبيل المجد
للأستاذ عبد المجيد نافع
تتمة
وشبت نيران الثورة في باريس، ودعت الحاجة إلى قمعها، فأشاروا على باراس أن يعهد بإخمادها إلى نابليون، فعرض أن يوليه قيادة مجلس الأمة وأمهله ثلاث دقائق ليفكر في الأمر ملياً.
فيا عجباً للأقدار! ثلاث دقائق، ثم يتقرر مصير نابليون، ومستقبل فرنسا، لا بل مستقبل أوربا بأسرها.
واستعرض نابليون الموقف، فلم يتردد في القبول حين رأى خمسين ألف جندي من جنود النمسا يظهرون على أسوار ستراسبورج، والإنجليز يحاصرون ببوارجهم ثغر برست، وحينذاك نسي خصومة الخصوم، وعياءهم وعجزهم، واستلهم الوطنية الحق فألهمته أن الوطن إذا أحدق به الأعداء وجب دفن الخصومات، ودرس الحزازات، ووضع اليد في أيدي القائمين بالحكم مهما كانت صبغتهم وألوانهم ونزعات نفوسهم.
فقال نابليون لباراس: إني أقبل ولكني أنذرك بأني لن أرد السيف إلى غمده إلا بعد أن أعيد النظام إلى نصابه.
وكذلك تجلى نابليون في ثوب الوطني الصادق والمحارب الصحيح الذي لا يطيق بحال أن تعرقل مساعيه أعمال السياسيين.
وكان القبول في الساعة الواحدة صباحاً. فلما أقبل المساء إذا بباراس يعلن في المجلس انتصار جنوده. فإذا جاء الغد رقي نابليون إلى رتبة قائد قسم، وسمع الناس اسمه يتردد في جوانب المجلس، ثم يجتاز اسمه منبر الخطابة لينقش على صفحات الصحف فينفض عنه غبار الخمول الذي حجب اسمه عن الأسماع والأنظار ردحا من الزمن.
وتقلد بونابرت قيادة الجيش في الداخل، واتخذ (فان) سكرتيراً له، فكان هو الذي كتب أوامره حين بات قنصلاً وهو هو الذي، بعد أربعة عشر عاماً، كتب وثيقة تخليه عن عرش فرنسا.
وكان نابليون يختلف إلى صالون مدام تليان فرأى جوزفين فشغفته حباً، وملكت عواطفه؛
وكان في السابعة والعشرين، وكانت في الثانية والثلاثين، ولكنها كانت على جانب من الجمال والروعة فأضرمت نيران الغرام في صدره.
على أن الذين يحاولون تشويه شخصية نابليون بخلق البواعث غير الشريفة لأعماله، وابتداع الحوافز لمشاعره، تراهم يسارعون إلى القول بأن حبه لجوزفين إنما كان حباً مسرحياً، وإن أكبر همه، وغاية الغايات عنده أن يتذرع بذلك الزواج لتولي قيادة الحملة الإيطالية.
ولكنك قد رأيت كيف كان يتهالك وجداً على الزواج، وكيف داعب الأمل بالاقتران بكليري. وبعد فما هي العلالي والقصور التي كان يبنيها على الاقتران ببنت تاجر صابون!
ولو أنه لم يصادف هوى في قلب مدام دي بوهارنيه، إلا أنه وجد منها عند الزواج سميعاً ومجيباً؛ فقد كانت، على رغم موت زوجها، ووجود ولد وبنت لها، تحيا حياة خليعة، وتتردد على مدام تليان، وتغشى صالون باراس؛ ومن كانت في مثل حالتها كانت خليقة أن تستند إلى ذراع رجل قوي كنابليون الذي أصبح في طليعة القواد وأنقذ فرنسا من الأخطار التي تتهددها.
ولكن هل كانت جوزفين خليلة لباراس؟ إن بعض الكتاب المعاصرين يتبرعون بهذا التأكيد. على أن الذي يسترعي النظر أن جوزفين لم تظهر في بيت باراس إلا باعتبارها صديقة لمدام تليان. والمنطق والبداهة يتضافران على أن الأخيرة لم تكن لتسمح لكائنة من كانت أن تنازعها هوى الرجل القابض بكلتا يديه على مصاير فرنسا.
وإذا كانت جوزفين، قبل الزواج، شاءت أن تستوثق من باراس، سواء بنفسها أم بواسطة مدام تليان، أن زوجها المقبل سوف يكون موضع رعاية حكومة الدير كتوار، بل إذا كانت لمحت إلي أن مكانة الحق أن يكون على رأس الحملة الإيطالية، فكل أولئك لا ينبغي أن يكون مثاراً للدهشة ما دامت جوزفين قد أرادت بهذا الزواج وجه المصلحة لا وجه نابليون.
ولما كاشفت جوزفين نابليون بحديث باراس وعزمه على تقليده قيادة الحملة الإيطالية قال لها لا تحسبي أني ألتمس حمايتهم بل على العكس من ذلك هم الذين سوف يشعرون بالسعادة حين أظلهم بحمايتي. إن سيفي إلى جانبي، وبه سأصل إلى أبعد الغايات.
ولو أتيح لك أن تطالع الرسائل التي خطها نابليون إلى جوزفين لقرأت فيها آيات الحب مسطورة، ذلك الحب المضطرم الذي ظلت حرارته متأججة من يوم أن عرفها وهو يحبو في طريق المجد إلى يوم بات في ذروة القوة وقمة السلطان.
على أن وضع الخطة لاجتياز جبال الألب والانحدار إلى سهول لومبارديا والانقضاض على الجيوش النمساوية وسحقها سحقاً، كل أولئك قد استغرق وقت نابليون واستنفد جهوده حتى قلت زيارته لجوزفين. ولم تكن إلا تكن إلا في شهر يناير من عام 1796 حيث تقدم لها بطلب الزواج ولقي ذلك الطلب قبولاً.
وكانت جوزفين لا تزال مترددة، فأحبت أن تفزع إلى نصيحة موثق العقود الأستاذ راجيدو، فلما أقبلت على مكتبه توسلت إلى نابليون أن ينتظرها في غرفة الاستقبال، ولم يكن من شأن نصيحة كاتب العقود أن تنتشل جوزفين من غمرة التردد إذ قال لها:(إيه لك! أو تتزوجين بجنرال لا يملك غير الكبود والسيف؟ فإذا صح أنه يملك شيئاً فإنما يملك كوخاً حقيرا! إنه لجنرال صغير، لا اسم له، ولا مستقبل! تجيء مرتبته وراء مراتب جميع قواد الجمهورية! إنه لخير لك أن تقترني بمورد للجيش!).
ولم يكن نابليون يسترق السمع؛ على أن الباب كان نصف مغلق، وبذلك تطاير إلى سمعه حديث موثق العقود، فملك عواطفه ولم ينبس ببنت شفة؛ ثم استطاع أن يثأر لكرامته الجريح بعد ثماني سنين. ففي غداة حفلة التتويج، استدعى الرجل الطيب راجيدو إلى قصر التويلري وأعطاه مكاناً في الصف الأول بكنيسة نوتردام حيث تقام حفلة تتويجه إمبراطوراً لفرنسا، وبذلك يتاح له أن يرى بعينيه التي في رأسه إلى أية ذروة من ذرى المجد يستطيع الجنرال الصغير الذي لا مستقبل له أن يسمو بموكلة موثق العقود الأستاذ راجيدو!
وفي 23 فبراير نودي ببونابرت قائداً عاماً للحملة الإيطالية، وحدد للزواج يوم 9 مارس سنة 1796. وفي أوراق الزواج أنقصت جوزفين من عمرها أربع سنين سوياً، وزاد نابليون في عمره سنة كاملة! فالتقى الزوجان في العمر وإن لم يتلاقيا في الحب!
على أن حملة المتهجمين على نابليون لا تقف عند حد. لذلك نرى جمهرة المؤرخين يملئون أفواههم بأن قيادة الحملة الإيطالية كانت هي البائنة (الدوطة) التي أعطاها باراس إلى جوزفين.
ومهما يكن هذا القول جارحاً لذاعاً فإنه يتجافى مع الحقيقة. فليس يجوز في عقل عاقل أن رجلاً مثل باراس يجازف بتسليم القيادة إلى قائد لا يقوى على الاضطلاع بأعبائها فيغامر بأقدس المصالح، لا بل يقامر بمستقبل فرنسا.
على أن الوقائع تهدم هذه الدعوى من أساسها، وتضع قصة زواج نابليون بجوزفين في نصابها الحق؛ فلم يكن باراس يملك التصرف وحده في مصير قيادة الحملة الإيطالية بل كان لابد من موافقة الأغلبية في حكومة الدير كتوار، وقد كانت مؤلفة من كارنو وباراس وليبو وريبل ولوتورنور.
وإذا جاز لنا أن نستصرخ ضمير رجل، أو نفزع إلى عدالة شاهد، فأولى لنا ثم أولى أن نفزع إلى ريفيير لوبو وقد كان لنابليون من ألد الخصوم؛ وهو في ذلك يقول:(لقد قيل إن زواجه بأرملة بوهارنية كان شرطاً لا يستطيع بدونه أن يحصل على القيادة التي جعلها مناط آماله. إن ذلك لم يكن! والذي أستطيع أن أؤكده هو أن الاختيار الذي تم من حكومة الدير كتوار لم يكن تحت تأثير باراس ولا شخص غيره).
كيف إذن سبيل بونابرت إلى تولي القيادة؟ ينبغي لنا أن نذكر أن الجنرال الصغير قد وضع خطة لغزو بيمون في 19 يناير وأن تلك الخطة قد أرسلت إلى القائد العام شيرير، فتلاها ثم بعث بها في الحال إلى حكومة الدير كتوار معلنا أنها من عمل مجنون، وأنه لابد من استدعاء هذا المجنون وتكليفه بتنفيذها.
فاختلط الأمر على حكومة الدير كتوار، واحتدم وطيس الجدل بين أعضائها، وما لبثت الغالبية وقوامها ليبو وكارنو وباراس أن جنحت إلى جانب نابليون، وانحازت إليه لترجيح كفته، فعهدت إليه بإنفاذ الخطة التي وضعها.
وفي الحق، فما كان نابليون مدينا بتلك القيادة لا إلى زواجه، ولا إلى باراس، وإنما كان مدينا بها إلى كفاية كارنو الحربية التي أمكنته من التعمق في درس الخطة التي وضعها نابليون، وتفهم روحها، فأتيح له أن يصل إلى مكان الإقناع من نفوس زملائه.
وما لبث نابليون أن انتزع نفسه من بين أحضان المرأة التي أحبها من أعماق قلبه ليبدأ سلسلة المعارك الدموية التي خاض غمراتها عشرين عاماً.
ومضى في طريق المجد صعدا، لا يلوي على شيء، ولا يقف في وجهه سهل ولا جبل،
حتى تألبت عليه أوربا بأسرها، وظاهرتها في تألبها شر أنواع الخيانات.
والآن نسأل: ماذا كان أثر ذلك المجد في نفس نابليون؟ لقد كان يمكن أن ينسى نشأته، ويتنكر لعائلته، ولا يأبه لعوز المعوزين، ولا يحفل ببؤس البائسين. على أن شيئاً من ذلك لم يكن، وظل نابليون في حاضر مجده، كما كان في ماضي بؤسه، ينطوي على أصدق الود لذوي قرباه؛ لا ينسى يد الصنيعة لمن اصطنعها، ولا تفتر حرارة إخلاصه لأصدقائه؛ يشعر قلبه حب الواجب، ولا يتطرق إلى إرادته الوهن أو تصيب عزيمته الكلال.
ما كان نابليون في مصاف الملائكة كما تخيله أنصاره، ولا كان في عداد الوحوش الضارية كما تصوره خصومه، وإنما كان رجلاً عظيماً خالداً في التاريخ، وإنساناً له عواطفه وأهواؤه، ورذائله وفضائله.
عبد المجيد نافع المحامي
من دمشق. . . إلى بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
لما جاوزنا (أبا الشامات) وأصحَرنا، ونظرت بين يديّ وعن يميني وعن شمالي، فلم أجد إلا الصحراء الصامتة لرهيبة الموحشة، ووجدت دمشق التي أحببتها ولقيت فيها من يحبّني، وألفتها وتركت في كل بقعة منها قطعة من حياتي وطائفة من ذكرياتي قد اختفت وراء الأفق، وتضاءل (قاسِيُونها) وصغر حتى ما يبدو منه إلا خيال علويّ يلوح في السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق فخفق قلبي خفقاناً شديداً:
كأن القلب ليلة قيل يُغدي
…
بليلي العامريّة أو يُراح
قطاة غرّها شرك فباتت
…
تعالجه وقد علق الجناح
وخالطني حزن عميق وشعور مبهم، أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً - على كثرة ما أسافر وأبتعد - شعور من يجد الموت ويبصره بعينه! ولم لا؟ وهل لحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألفه، وترى الناس الذين تحبّهم، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها، أو نغمة تسمعها، أو بقعة تحلّها؟ وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه، وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر مما يحيط به، وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟ أو ليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده وطعامه وشرابه وجيئته وذهابه، وحياة باطنة في أفكاره وذكرياته وآماله وآلامه وميوله وعواطفه؟ أو ليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها، كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض المختفية في بطن الثرى، فإذا انقطع المرء عن عادته، وابتعد عن أهله وصحابته، لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها، إذ هي بُتّت من أرضها، وقطعت من أصلها، وفصلت عن جذرها. وأحسب أن الله جلّ وعزّ ما قرن الموت بالإخراج من الديار، وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله، التاركين أوطانهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضرب من ضروب الموت ولون من ألوانه. . . فإن (تعدّدت الألوان فالموت واحد)!
وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق، وحبّبت إليّ أضعاف ما كنت أحبّها، ومرّت
أمامي صور أخوتي وأهلي وإخواني، وذكرت سهراتنا البيتية، ومجالسنا الأدبية، وهذه الحفلات الوداعية الكثيرة التي تفضلت فأقامتها أسرة التعليم، وجمعية التمدن الإسلامي، والمدرسة التجارية، تكريماً لي قبل أن أعمل شيئاً أستحق عليه التكريم، وأفيض فيها عليّ من النعوت ما ليس فيّ ولا أستحق الأقل منه. . . وذكرت من دمشق كلّ حبيب إليّ جميل في عيني، فازددت بها تعلقاً، ووددت لو أني أبيت فلم أذهب ولم أتغرّب.
وكانت الصحراء قد امتدت من حولنا، وأحدقت بنا، وصرنا في قبضتها لا شأن لنا ولا خطر، وآضت هذه السيارات الفخمة التي كانت تمل الشارع بطوله وعرضه، وكانت تعد وهي في دمشق شيئاً عظيماً، أهون على الصحراء من حبة رمل! وضاعت في أرجائها فلم تعدْ تعدّ شيئاً. وكان قد بلغ مني الحزن، وحزّت في نفسي لوعة الفراق، فأغمضت عينيّ ورجعت إلى نفسي، حتى إذا استروحت فتحتهما وجعلت أحدّق في هذه البادية، فأرى السيارة تعدو فيها تسرع حتى نحسّ كأنها تطوي الأرض طياً؛ وأراها تلهث من التعب، والبادية باقية على حالها، كأننا لم نقطع منها شبراً، وكأننا بعد في أماكننا. ولست غريباً عن البوادي، فقد عرفتها في رحلتنا تلك. . . إلى مكة. وبقيت فيها سبعة عشر يوماً. ما من ساعة منها إلا وهي أشد من عشرة أسفار إلى بغداد؛ ولكن هذه البادية (بادية الشام)، تختلف عن جزيرة العرب؛ ففي الجزيرة مناظر متباينة، وأراض مختلفة، فيها الجبل وفيها السهل، وفيها الوعر وفيها الرمل، وما في هذه إلا شيء واحد لا يكاد يختلف أو يتغير، أرض منبسطة ترابية قاحلة، تمتد إلى الأفق، كأنها بحر ليس فيه ماء! فكنا نقرأ ونتحدث لنقطع الصحراء بحديثنا، فتقطع الصحراء بصمتها وجلالها حديثنا، وكنا ننام ونفيق والصحراء هي هي. . . حتى قطعنا يوماً كاملاً، وكان صباح اليوم التالي، (وللصباح في البادية جمال وروعة، لا يكون مثلهما في المدن) وبدّدت الشمس ظلمة الليل، فتبدَّدت من نفسي ظلمة الكآبة والحزن، وانزاحت عني نوبة المرض، (وما العاطفة الرقيقة المؤنّثة إلا مرض في الرجال. . .) فصحوت، ونظرت في أمري فإذا أنا لم أغترب ولم أفارق بلدي. وهل بغداد إلا داري وبلدي وفيها أهلي وأخوتي، إن لم تقرر هذه الأخوّة الأنظمةُ ولم تسجّل في الدساتير، فلقد قررها الله من فوق سبع سمواته وسجّلها في القرآن:(إنما المؤمِنون إخْوَة). وليس ينقض ما أبرم الله، وإن فرقت بيننا شارات على الأرض، وألوان على المصوّر،
فلقد جمع بيننا الدين واللغة والعادات، وألّف بيننا تاريخ الماضي، وأمل المستقبل وألم الحاضر، ووحّد بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة. فأنى ننكر هذه الأخوّة وشاهدها فينا، ودمها في عروقنا؟
وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مائة صورة، وفي ذاكرتي عنها مالا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار.
وبغداد عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأم الدنيا، ومنزل المنصور والرشيد والمأمون. . .
فدى لك يا بغداد كل قبيلة
…
من الأرض (إلا) خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها
…
وسيّرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً
…
ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرقّ شمائلاً
…
وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكنت أرانا نخاف هذه البادية ونحن على طريق مسلوكة، في سيارة متينة، ونمل من طولها نقطع منها ثمانين أو تسعين كيلاً في الساعة، ونشكو ومعنا اللحم والفاكهة والماء المثلج، ونتعب ونحن مضطجعين على المقاعد الوثيرة، ثم إذا وصلنا إلى الفندق نمنا أربع عشرة ساعة، لنستريح ونسترد الروح فأفكر في أجدادنا أي ناس كانوا؟. . . وكيف قطعوا هذه البادية وهم على ظهور الإبل، يخوضون لجة الرمل الملتهب، يلتحفون أشعة الشمس المحرقة، يتبلّغون من الطعام بتمرة، ويكتفون من الماء بجرعة، ثم إذا وصلوا قابلوا جيوشاً أوفر منهم عَدداً وعُدداً، فحاربوها وانتصروا عليها، وفتحوا بلادها. . . فأقول: هذا هو فرق ما بيننا وبين أجدادنا؛ هو الفرق بين الشاب منهم تصيبه ضربة في المعركة، فتقطع يده من كتفه وتلبث متعلقة به، فتؤذيه وتعيقه عن القتال، فيعمد إلى أصابع يده المقطوعة، فيدوس عليها، ثم يتمطى حتى يبترها، ثم يلقيها ويعود إلى جهاده، والشاب منا يزاحم المرأة على كل شيء هولها، فيخطر في الشارع كالعروس ليلة الزفاف، وإذا شاكته شوكة أو لفحته الشمس أوى إلى الفراش!
ولما كان ضحى الغد بدا لنا نخيل العراق، وأشرفنا منه على مثل الليل، فعرقت لماذا سمى العرب السواد سواداً، وذهبت أتذكر الفتوح وعهدي بمطالعتها قريب - فأحسّ بأني أسمو
عن زماني وأعيش في أيام الصدر الأول - وأقدر بعد نظر المستعمرين وصحة رأيهم في تعطيلهم التاريخ الإسلامي في مدارسنا، وتنشئة أبنائنا على الجهل به والبعد عنه، لما لهذا التاريخ من العمل السحري على بث روح الشرف والنبل والقوة والعزة والفضيلة في نفوس شباب العرب، ولأنه شمس إذا طلعت كسفت هذه الأنوار الكهربائية التي أضاء بها الغربيون أرجاء تاريخهم فبدت تواريخهم سوداء مظلمة. . . وبدا وحده المشرق المنير.
وجعلت أتشوّق إلى بغداد - وأعرض في ذاكرتي صوراً منها حلوة، وأنتظر أن أرى مدينة المنصور بأسوارها المستديرة وأبوابها الفخمة - وألمح قبّتها الخضراء العالية المشمخرة، الذاهبة في السماء ثمانين ذراعاً طالعة علينا من عرض الفلاة، تضطرب صورتها في دجلة، ثم أذكر ليلة الثلاثاء لسبع خلون من جمادي الآخرة سنة 329 وقد كانت ليلة مطر ورعد هائل وسيل شديد، فهوت هذه القبة التي كانت تاج بغداد - وعَلَم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى آخر أيام الواثق، فكان بين بنائها وسقوطها مائة وثمانون سنة.
وأرى دار الخلافة - وقد قدم رسل ملك الروم على المقتدر، فرسم أن يطاف بهم في الدار، وليس فيها من العسكر أحد ألبتة، وإنما فيها الخدم والحجاب والغلمان، سبعة آلاف خادم، وسبعمائة حاجب، وأربعة آلاف غلام - قد جعلوا على السطوح والعلالي وفتحت الخزائن والآلات فيها مرتبة كما يفعل لخزائن العرائس، وقد علقت الستور، ونظم الجوهر وصف على درج غشيت بالديباج الأسود، وكان عدد ما علق في قصور المقتدر من الستور الديباج المذهبة المصوّرة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع. . ثمانية وثلاثين ألف متر، وعدد البسط في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل صاحب الروم سوى ما في المقاصير والمجالس من الأنماط وعشرون ألف قطعة. وأدخل الرسل من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخليل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهباً وفضّة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يدي شاكري بالبزّة الجميلة؛ ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرّات والدهاليز المتصلة بحير الوحش، وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجت من الحير
قطعان تقرب من الناس، وتتشمم وتأكل من أيديهم؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشى، على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، فهال الرسل أمرها؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع، خمسون يمنة وخمسون يسرة، كل سبع في يد سبّاع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد؛ ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث، وهي دار بين بساتين في وسطه بركة رصاص، حواليها نهر رصاص أحسن من الفضّة المجلوّة، طول البركة ثلاثون ذراعاً، فيها أربع طيارات لطاف بمجالس مزيّنة بالديبقى المطرّز، وأغشيتها ديبقى مذهب، وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيه نخل، عددها أربعمائة نخلة، طول كل واحد خمسة أذرع، قد لبّس جميعها ساجاً منقوشاً من أصلها إلى حد الجمارة بحلق من شبه مذهبة. . . ثم أخرجوا من هذه الدار إلى دار الشجرة، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة مدوّرة، فيها ماء صاف، والشجرة ثمانية عشرة غصناً، عليها الطيور والعصافير من كل نوع، مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها مذهب، وهي تتمايل في أوقات، ولها ورق مختلف الألوان، يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر. . . إلى أن دخلوا إلى الخليفة.
وملأ نفسي الشعور بعظمة بغداد، المدينة التي كانت وحدها دنيا، كان فيها ستّون ألف حمّام، فلو أن في كل حمّام خمسة نفر حمامي وقيم وزبّال ووقّاد وسقاء وذلك أقل ما يكون، لكان أصحاب الحمامات ثلاثمائة ألف رجل، وكان حيال كلّ حمام خمسة مساجد، فلو أن في كل مسجد خمسة أشخاص، لكان ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان. وأحصيت الزوارق التي في دجلة أيام الناصر فكانت ثلاثين ألفاً.
قال الخطيب: (لم يكن لبغداد في الدنيا نظير، في جلال قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميّز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ومنازلها، ودروبها وشعوبها، ومحالها وأسواقها، وسككها وأزقتها، ومساجدها وحماماتها، وطرزها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وزيادة ما حصر من عدّة سكانها).
وبعد فهاأنذا على (جسر بغداد) في نشوة من خمرة الذكرى أذكر ما لا سبيل إلى تلخيصه، وأحس ما لا طاقة على وصفه، وقد قال أبو الوليد: قال لي شعبة: أرأيت بغداد؟ قلت: لا.
قال: فكأنك لم تر الدنيا. أما أنا فقد رأيت جسر بغداد، ورأيت الدنيا؛ لا أقول إنه أعظم من جسر إسماعيل، أو أجمل من جسر الزمالك، ولكن لجسر بغداد سراً آخر، يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ وقرأ عن جسر بغداد. . . هذا الذي جازه القواد الفاتحون، والفقهاء والمحدثون، والشعراء والماجنون؛ هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبو حنيفة والشافعي، والفضل وابن دينار، ومطيع وأبو نواس، وعبد الله بن طاهر ويزيد بن مزيد، وشهد جلال الخلافة، وعظمة العلم، وروعة الزهد، وضحك المجون، وقوة الجيش. . . . وجرى عليه نهر التاريخ. . . وتداعت على جوانبه القرون. . . . هذا الذي كان سرة الأرض!
أيا حبّذا جسر على متن دجلة
…
بإتقان تأسيس وحسن ورونق
جمال وفخر للعراق ونزهة
…
وسلوة من أضناه فرط التشوق
تراه إذا ما جئته متأملاً
…
كسطر عبير خط في وسط مهرق
أو العاج فيه الآبنوس مرقش
…
مثال فيول تحتها أرض زئبق
أما إنني إن أحببت مصر لأن منها أصلي، وأحببت الشام لأن فيها مولدي، فإني أحب العراق لأن فيها أجمل ذكر الماضي، وأحب الحجاز لأن إليها قبلتي، وأحب كل بلد يقول أهله: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لأنه بلدي، وأهله أهلي.
(بغداد)
علي الطنطاوي
نبوة المتنبي أيضاً
للأستاذ محمود محمد شاكر
(أخي سعيد الأفغاني:)
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد، فأني أشكر لأخي حُسن ظنِّه بي في بعض كلامه، ومسارعته في الرد على كلمتي التي نشرتها الرسالة (العدد 167). هذا على أنه ليس يجمُلُ بالأستاذ أن يحمّل نفسه تكاليف الرد على مثلي، فأن الذي بيننا من التخالُفِ في الطبيعة، والتباين في الجِبّلة ليقوم في هذا الأمر مقامَ الرد. وأيضاً، فليس مما يحسُنُ به أن يبسط عذره للقراء عن تأخر الرد بجولته في قرى (البقاع)، وأن قراءته للذي أتيت به من الكلام كانت بعد عشرة أيام من صدوره. وليعلم الأستاذ الجليل أني أحب أن يحملني على طبيعتي، وأن يتقبلني على علتي، وأن يعرفني رجلاً شيمته العجزُ ودأبهُ التخلُّف، فلا قبل له بمثل قدرة الأستاذ وقوته على مد الشوط؛ هذا على ما ركِّب في أصل خلقتي من الحدة والثورة وضيق الصدر. وليس أدلّ على ما بيننا من تباين الجبلة - من الذي استيقنه الأستاذ وأثبته فيَّ من التخلُّفِ والعجز، والذي رأيته فيه من القدرة والمسارعة، فهو لم يضق ذرعاً بكل الذي كتبناه، ولا تخلّف في رد كلامنا وإسقاطه بالحجة والبيان والبرهان، في أوجز لفظ، وأوزن فكر، وأدق فهم. . . ثم في أقل وقت. وأنا - على نقيضه، فأنا كما وصفني الأستاذ حين يقول. (أما أنا فما كنت أظنُّ!! أسطراً تذكر عرضاً في رد فكرة تثير (مثل هذا) الفاضل، فيحمل هماً بجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً، ثم ينفثه في رده الذي تكرم به على مثل هذا الشكل)، ولا أدري لم لا يظنُّ الأستاذ ذلك؟ ألا فليعلم أخي سعيد أن اثنين وأربعين يوماً ليس كثير دهر على عاجزٍ وجل هيَّابٍ متخلِّف، وأن كلمته الصغيرة - التي أثارتني فحملت همها أجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً - كانت مما يقتضيني عامين على الأقلِّ في تقليبها وفهمها ودراستها أواصل ليلهما بالنهار، ثم في الاستعداد للردّ، ثم في جمع شتات الذهن، ثم في نفض الذهول عن العقل والفكر، ثم في كتابة ما يُسوِّل لي قليل علمي وتحريره والنظر في صدوره وأعقابه.
وبعدُ أيضاً، فأن أخي سعيد قد رماني بقارصاتٍ، وهو الذي يقول عن كلمتي في الرسالة: (وصحف الرسالة أحوجُ إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاض؛
وأتمنى للأستاذ أن يهجُر هذا الأسلوب في الجدال، فما هو بمغنيه عن الحق شيئاً، كما لم يغن (طنينُ) الأستاذ صروف بالإشادة بمزايا الكتاب في مقدمته) أهـ، ولست أدري! فلعل صُحف الرسالة قد غنيت بأساليب البيان العبقري، والسخرية النابغة من مثل قوله عن كلمات فؤاد صروف (طنين الأستاذ صروف)، فالطنين في هذه العبارة كلمة بيانية مبتدعة فيها من الفن والموسيقى ما يتضاءل معه إبداع جلّة الكُتاّب والشعراء والموسيقيين. ومثلُ الذي يقول:(وأنا أعوذُ بالله من الغرور، والذهابِ بالنفس، ومن الجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم، والعصبية للرأي والهوى؛ فما يزال الناس - ولله الحمد - يقيسون فضل المرء بخضوعه للحق، وإتقانه لعمله، لا بدعواه و (تبجُّحه)) إلى آخر هذا الكلام البليغ الذي لو أراده الجاحظ وجهد فيه، واحتفل له، لما تعلّق بذيلهِ، ولا جرى في غباره. وأنا أعوذ بالأخ أن يعودَ إلى مثل هذا القولِ، فإني أكره أن أجزي أخاً أي بالذي أعلمُ أنَّه يؤذيه ويرمضُه، فيذهله عن منازل الصّبر، ويستفزّهُ عن مواطن الحلم.
وليس أحب إلى نفسي من أن أهتديَ إلى الحق على علم وبصيرة، وأن أخضَعَ له على الرضى والغضب، وأن أعمل على افراره ما استطعت إلى ذلك سبيلا. فلا يتبعنّ - أخي الأستاذ سعيد - ظنّه أنا من أهل الغرور، والذهاب بالنفس، والجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم، والجدال فيما لا جدوى منه ولا منفعة. وسأنتهي - إن شاء الله - مع الأخ إلى النهاية التي يرضاها غير باغ ولا ظالم. فأول ما أبدأ به بيان ما ورد في كلمته (الرسالة 170) من التهافُت في بعض القولِ، ثم أعقّبُ على ذلك بذكر نبوّة أبي الطيب، وتقرير القول في نفيها على وجه يبلغ بنا رضاه، ثم أجيبه عن كل ما سألنيه من شيء، فإن اعترض في خلال ذلك، نظرت في الذي يأتي به، فإن غلبنا على الحق أسلمنا وبذلنا له الطاعة، وإن رضي قولنا فهو عند قاعدته التي ذكرها (ألا يحفِلَ نقْداً أو رداً إلا إذا كان حقاً، وسبيله أن يأخذ نفسه به، ويشكر لصاحبه).
1 -
قال الأستاذ سعيد حين ذكر خبر التنوخي ورأينا في رده: (سأل التنوخي أبا الطيب عن معنى (المتنبي) فأجابه: (إن هذا شيء كان في الحداثة) وظاهر أنه يعني التلقيب لا التنبؤ، فجوابه غير صريح، وهو كما قال الراوي جواب مغالط) اهـ. والأصل الذي اعتمد عليه الأستاذ فيما ينقل هو (طبقات الأدباء) لابن الأنباري، ونص الخبر: ثم (قال التنوخي:
قال لي أبي، فأما أنا فسألته بالأهواز عن معنى المتنبي، لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أولاً، فجاوبني بجواب مغالط، وقال: إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن أستقصي عليه وأمسكت) وهذا نَصٌّ قد اختصره ابن الأنباري على عادته. وجاء الأستاذ سعيد فأراد أن يبين وجه المغالطة في الجواب، فزعم أن أبا الطيب يعني التلقيب لا التنبؤ في جوابه. وكان أولى بالأستاذ قبل أن يؤول الكلام على هذا الوجه أن يتدبر القول وينظر فيه على الصورة التي يؤوله بها، ثم يبين وجه المغالطة بياناً لا يسقطه العقل. . . يقول التنوخي إنه سأل أبا الطيب عن معنى (المتنبي) ليسمعَ منه هل تنبأ أولاً - أي هل كان اللقب لحادث نبوة كانت منه أم هو نَبْزٌ به ولُقِّب - فيجيبه أبو الطيب:(إن هذا التلقيب كان في الحداثة) فأي المغالطة في هذا الجواب! وفي المسألة وجهان: إما أن يكون التنوخي قد سأل أبا الطيب مصرحاً بالذي أراده فقال له: هل ادعيت فسميت المتنبي فيقول أبو الطيب (هذا شيء كان في الحداثة) فيكون المراد (النبوّة) ولا شك، وإما أن يكون قد سأله عن علة تلقيبه بالمتنبي، فيقول:(هذا شيء كان في الحداثة) فيكون جواب رجل لا يحب أن يمتد في الحديث فهو يقطعه على سائله، فهو يقول له: إن هذا اللقب وسببه كانا في الحداثة ولست براض عن سؤالك؛ فليس في هذا مغالطة. ثم إن امتناعه عن ذكر علة غير النبوة في سبب التسمية دليل على أن النبوة هي العلة في التلقيب، لأن اللفظ صريح في الدلالة على المعنى. وليس يغفُلُ أبو الطيب عن معنى هذا اللقب، ولا يظن أن الناس غافلون عنه، فيكون امتناعه عن ذكر العلة مما يوقعهم في حيرة من تأويل معناه. ثم ما الذي يضر أبا الطيب لو كان هذا التلقيب في الكبر ولم يكن في الحداثة؟ فحرصه على تخصيص ما أراد من المعنى بالحداثة ينفي إرادة (التلقيب) البتة. وأولى حين يكون التخصيص بالحداثة أن يراد بذلك النبوة، فإن قوة التدفع، وسمو الطموح، وإشراف النفس، وتهاويل الأمل، هي بالحداثة ألزم، وهي التي تورث نيران الشباب فتدفعه إلى المغامرة والتهدر والمخاطرة على غير هدى ولا بصيرة، حتى يركب بها صاحبها الحدَثُ الغرُ مركب من الحماقة، ويرد بها كل مورد من الغرور، فلا يرعوي عن أن يدعي مالا مطمَع له ولو كانَ النبوّة. وقول التنوخي بعد جواب أبي الطيب:(فاستحييت أن أستعصي عليه فأمسكت) دليل على أن الرجل اكتفى بإشارة أبي الطيب إلى حادث النبوة، وأمسك عن الذي كان يريده أولاً من
التصريح في إثبات ما كان من أمره في ادعاء النبوة.
واختصار ابن الأنباري خبر التنوخي هو الذي دفع الأستاذ إلى هذا التأويل. وأصل خبر التنوخي أنه قال: حدثني أبي قال: أما أنا فإني سألته بالأهواز سنة أربع وخمسين وثلاثمائة - عند اجتيازه بها إلى فارس في حديث طويل جرى بيننا - عن معنى المتنبي، لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أم لا، فأجابني بجواب مغالط لي، وهو أن قال: هذا شيء كان في الحداثة أوجبته الصورة! فاستحييت أن أستقصي عليه وأمسكت) فالمغالطة في قوله (أوجبته الصورة) والصورة ههنا الصفة على اصطلاح أهل الكلام، وصفة الحداثة لا توجب ادعاء النبوّة، فهذا هو وجه المغالطة. فلما رأى التنوخي - وهو شابٌ لم يعدُ السابعة والعشرين من عمره، وأبو الطيب إذ ذاك شيخٌ قد نيَّف على الخمسين - ما أصاب هذا الشيخ من الحرج وضيق الصدر حتى لجأ إلى المغالطة في التعليل، وتبرير فعلته على السفسطة، استحيا أن يستقصي على هذا الشيخ فأمسك عن الذي يؤلمه ويغيظه ويضع من كبريائه ويحط من شيخوخته، ويلجئُه إلى ركوب الإحالة في المنطق، والفساد في التعليل.
2 -
ويقول الأستاذ سعيد: (يورد الأستاذ على حديث أبي عليّ بن أبي حامد شبهة واحدة بعد أن يقرّ بأحكامه، ويقول عنه في ص 49: (فهو حديث محكم لا يأتيه التوهين إلا من قبل غرابته عما جرت عليه الأحكام في شأن من يدعون النبوة. . . الخ).
وقد أطال في بيان وجه الغرابة بما لا فائدة بنقله هنا. (سبحان الله يا سعيد!!) والذي في كلام أبي عليّ هو هذا: (فاستتابه وكتب عليه وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاهُ ورجوعه إلى الإسلام)، وجليٌّ أنهم استتابوه من دعوى النبوّة فرجع بذلك إلى الإسلام، أما الوثيقة فهي ببطلان علويته، وبهذا تزول شبهة الأستاذ (!!) فأن من المألوف أن تكتب الوثائق في إثبات الأنساب ونفيها) اهـ.
وعجبٌ أمر الأستاذ سعيد في حرصه على تأويل الكلام بما لا وجه له ولا أصل؛ وهو في نقله هذا النص قد اعتمد على كتاب ابن الأنباري، وهو مولعٌ باختصار الأخبار (واختزالها) وهذا تمام خبر أبي علي بن أبي حامد:
(أخبرنا التنوخي، حدثني أبي، قال حدثني أبو عليّ بن أبي حامد، قال: سمعت خلقاً بحلب يحكون - وأبو الطيب بها إذ ذاك - أنه تنبأ ببادية السماوة ونواحيها، إلى أن خرج إليه
لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية، فقاتله وأنفره وشرد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب. وحبسه في السجن حبساً طويلاً، فاعتَلّ وكاد أن يتلفَ حتى سُئِل في أمره فاستتابه. وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاهُ، ورجوعه إلى الإسلام، وأنه تائبٌ منه، ولا يعاودُ مثلَهُ، وأطلقه). فأنت ترى أن لا ذكر للعلوية في هذا الخبر، ولا في غيره مما رُوِي عن أبي عليّ بن أبي حامد هذا، فكيف يتأتى لكَ أن تقحم العلوية فيه، وهو لم يذكرها فيه ولم ترد عنه في خبر غيره، ثم تعمد إلى الكلام فتؤوّلَ بعضهُ على النبوَّة وبعضهُ على العلوية فتجعل التوبة للأولى والوثيقة للآخرة؟ ورحم الله أبا عثمان الجاحظ، فلو أنه أدركَ عصرنا هذا لقال في ذلك أمثل مما قال في إبراهيم النظام، فنصُّ الخبر مبينٌ عن أن أمير حمص كتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها (1) بأن ما ادعاه باطلٌ - وهو النبوة - (2) وأنه رجع إلى الإسلام (3) وأنه تائبٌ منه (4) وأنه لا يعاودُ مثله. فهذه أربعةٌ في قَرَن كانت في هذه الوثيقة، فكيف تسوِّغ عربية الكلام للأستاذ سعيد تأويله وبيانه؟ فلو سلمنا للأستاذ سعيد بالذي ذهب إليه لكان سياقُ الكلام هكذا:(حتى سئل في أمره فاستتابه، وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ادعائه العلوية، وأنه رجع إلى الإسلام، وأنه تائبٌ (منه)، وأنه لا يعاود مثله) فعلى أي الكلام عطفت جملة قوله (وأنه رجع إلى الإسلام) وإلى أي مذكور يرجع الضمير في قوله (وأنه تائب (منه))؟ وكيف ترد أوائل هذا الكلام على أواخره ليستقيم على عربيته؟!
إن أخي الأستاذ سعيداً ليأخذ من الكلام ما يشاء ويدع ما يشاء، وبذلك (تزول شبهة الأستاذ) أو كما قال.
3 -
ثم يقول: (عرض الأستاذ لرواية الهاشمي التي فيها: (كان أبو الطيب لما خرج إلى كلب وأقام فيها ادعى النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أشهد عليه في الشام بالتوبة وأطلق) وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك ادعاء النبوة بقي على دعواه الأولى. ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه، وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض. . .) أهـ.
يقول الأستاذ سعيد إن هذا الخبر الذي رواه يعني (أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين
ترك ادعاء النبوّةِ بقي على دعواه الأولى) والخبر يقول إنه (ادعىّ العلوية، ثم ادعىّ النبوّة، ثم عاد يدعي أنه علوي)، والعربية تقول إن هذا النص لا يمكن تأويله على الوجه الذي أراده الأستاذ فإن لها ألفاظاً، وإن لألفاظها معاني، وإن لمعانيها حدوداً؛ فإخراج المعنى عن حده إخراج للفظ عن معناه، وإخراج اللفظ عن معناه إخراج له عن العربية. يقول الخبر:(ثم عاد يدّعي أنه علويّ) فيقول الأستاذ مؤوّله، ومعنى ذلك (ثم بقي على دعوى العلوية)!! ثم يقول الأستاذ:(ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم (أولاً نفهم، فالأمر بعد هذا سواء) أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه؛ وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين). ففي الخبر الذي قبل هذا أقحم الأستاذ العلوية ولا ذكر لها فيه وجعل الوثيقة المذكورة فيه يراد بها دعوى العلوية، وفي هذا الخبر الذي رواه ولا ذكر للوثيقة فيه أقحم الوثيقة التي يراد بها الإشهاد عليه فيها ببطلان انتسابه للعلوية التي ادعاها، وذكرها الخبر مرتين. فهذا أروعُ ما وقع لي من القدرة على الجمع بين الروايات (كما هو مستوفي يكتب مصطلح الحديث، وأنا أستحي أن أشرح هذا في مجلة (الرسالة). . . مما يدرسهُ الطلاب المبتدئون).
وهذا الخبر أيضاً اعتمد الأستاذ في نقله على (اختزال) أبي البركات (ابن الأنباري) في طبقات الأدباء. وسياقُ الرواية هكذا: (وقد كان المتنبي لما خرج إلى كلبٍ وأقامَ فيهم ادَّعى أنه علويٌّ حسنيٌّ، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علويٌّ، إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعويين، وحبس دهراً طويلاً وأشرف على القتل، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق). وقد كان هذا النصُّ أمثل من (مختزل) ابن الأنباريّ للذي يعتمده الأستاذ من التأويل، وهو أحفل له في استخراج مادة الجدل في التفسير والتوجيه. على أن هذا الخبر هو كما وصفناهُ في كتابنا ص 48 (عجيبٌ لا يفرغ من العجب من اختصاره وتداخله). فمن ذلك أنه صريحٌ بينٌ في الدلالة على أنه قد أشهد على أبي الطيب مرتين:(الأولى) إشهادٌ عليه بأنه قد كذب في (الدعويين) و (الآخرة) استتابةٌ وإشهادٌ عليه بالتوبة.
ففي المرة الأولى ذكر ابن شيبان الهاشمي (دعويين) أشهد أبو الطيب على نفسه بالكذب فيهما، فإن أراد (بالدعويين) دعوى العلوية ودعوى النبوّة جميعاً كان كلامُهُ كلُّهُ خَلطاَ متداخلاً، فأنه ليس يكفي فيمن ادعى النبوّة أن يشهد على نفسِه بالكذب، بل لا بُدّ مَعهُ من الاستتابة والرجوع إلى الإسلام والإفرار به، فإن لم يُعط ذلك قُتِل، فإن كان فُعِل معهُ ذلك
وتاب وأقرّ فما قوله بعد ذلك (وحُبس دهراً طويلاً (سنتين) وأشرف على القتل (ثم) استتيب، وأشهد عليه بالتوبة وأطلق) ولم أعيدت استتابته؟ أيكون هذا كله لغواً باطلاً من القول!!
فإن أراد (بالدعويين) ادعاء العلوية في المرة الأولى والمرة الآخرة فالأمر في ذلك على خلاف المعقول. أيقدم الوالي الإشهاد بالكذب في دعوى العلوية، وهي لا تخرج من الإسلام، ولا يكفر بها مدعيها، ولا يقتل من أجلها إن أصر عليها، ويدع ادعاءه النبوة فلا يقتله أو يستتيبه إلا بعد أن يحبسه دهراً طويلاً حتى يشرف على القتل، فيومئذ يستتيبه ويشهد عليه بالتوبة!!
ولفساد هذا الخبر وجوهٌ أخرى، ولكنه على أي وجهيه أدرته، لا يسوغ للأستاذ أن يقول فيه (وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك النبوة بقي على ادعائه العلوية) إلا أن يلغي معاني الكلمات التي وردت فيه، أو يحيلها عن وجهها؛ فتكون ثم، وعاد، كلمات مغسولة من المعاني، ثم يزيد على ذلك أن يزيد في الكلام معاني ألفاظ لم تكن فيه كقوله (وحين ترك النبوة بقي على ادعائه العلوية) ولو أراد الأستاذ أن يتأول هذا الخبر على وجه مقارب خرج له إلا أن يقول فيه (إن أبا الطيب تخلى عن دعوى العلوية، وحين تركها بقي على ادعاء النبوة حتى استتيب فأطلق) وهذا محال.
وليعلم الأستاذ أني تركت له أبواباً من القول توطئ له أن ينفذ إلى الاعتراض، فليعترض قولي بما شاء. ولكني أسأله أن ينظر في اعتراضه أولاً ثم في الخبر بعد، ثم في كلامي آخراً، فلعله يجد في ذلك ما يمنعه من الاعتراض ويقنعه بالصواب. وأسأله أيضاً أن يتحرى في فهم الأخبار ما تقتضيه عربية الكلام حتى تستقيم له المعاني، وتتجه به الآراء إلى الحق والهدى إنشاء الله.
(للكلام بقية)
محمود محمد شاكر
مشرقيات
في الأدب العربي الحديث
للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي
للأستاذ بجامعة ليننجراد
- 2 -
ويعد كل من الشيخ محمد عبده (1843 - 1905) وجورجي زيدان (1861 - 1914) في مقدمة الكتاب الذين امتاز بهم هذا العصر. نعم إن أولهما لم ينتج شيئاً من المؤلفات الأدبية، لكن ذلك لا يدعو إلى إنكار الدور الهام الذي لعبه، فبفضل جهوده استقر رأي المسلمين في طريق التجديد، وازداد نفوذ الحركة الأدبية شيئاً فشيئاً، بحيث أثر الشطر الأكبر من المصريين. وظهرت في خلال ذلك أنواع أدبية جديدة كالرواية التاريخية. واصطبغت هذه الأنواع بصبغة خاصة تختلف كل الاختلاف عن نظيراتها، فكان الكاتب يوجه جل اهتمامه إلى تنسيق الألفاظ، إلى أن جاء المنفلوطي (1876 - 1924) فاتجه بهذا النوع إلى طريقه الكمالي.
أما المدرسة السورية المتأمركة فقد برزت إلى الميدان في خلال السنوات العشر الأولى من القرن العشرين، وهي على ما نظن كانت أقوى المدارس الأدبية العربية الحديثة من حيث استقلال شخصيتها. وزعماؤها: أمين الريحاني (1879) وجبران خليل جبران (1883 - 1931) الذي يمثل طابع جهودها. فقد رأس بمدينة نيويورك جماعة (الرابطة القلمية)، وكانت تلك الجماعة الأدبية تنشر دعوتها على صفحات مجلة (الصائح) التي تولى إدارتها عبد المسيح حداد. ومن أهم الصفات المميزة لهذه المدرسة، أنها قطعت كل صلة بأساليب الأدب القديم وبطريقة الكتابة العادية، واصطفت الأساليب القلمية المتطورة، أساليب الرسائل النثرية، والشعر المنثور المنمق إلى حد التكلف. وقد نال كثيرون من أنصار هذه المدرسة شهرة ذائعة في العالم العربي (حتى تونس والحجاز) فتأثر الكتاب بأسلوبهم. ومنهم أيضاً الشاعر الروائي ميخائيل نعيمة (1889) والشاعر رشيد أيوب (1862) وإيليا أبو ماضي (1889) ونسيب عريضة. . . الخ. وللمدرسة السورية الأمريكية بالبرازيل مركز
خاص وأهمية محلية لا تأثير لها في البلاد العربية. والشعر هو المفضل المختار عند أنصار هذه المدرسة التي قوامها: الياس فرحات (1891)، ورشيد سليم خوري (1887)؛ وفوزي المعلوف (1899 - 1930). وقد شرع شكري الخوري (1871) في محاولة طريفة، هي استعمال اللهجة السورية الدارجة في الكتابة الأدبية، ولكن أحداً لم ينسج على منواله.
وقد انتهت سيطرة المدرسة السورية المتأمركة بانتهاء الحرب العظمى، فانقطعت الصلة بين روادها وبين الحياة الراهنة في العالم العربي، ورجع بعض زعمائها (كالريحاني ونعيمه) إلى وطنهم الأول. وقد عادت الآن زعامة الأدب إلى مصر وتركزت في المدرسة الموسومة بمدرسة العصريين. وترجع بوادر هذه الزعامة إلى عام 1907 حين تألف حزب الأمة وأنشأ (الجريدة) وتولى رياسة تحريرها أحمد لطفي السيد مترجم (الأخلاق) لأرسطو ومدير الجامعة المصرية الآن. وفي عام 1922 التف الكتاب المجددون حول جريدة (السياسة) التي يتولى إدارتها أحد الكتاب العصريين الذائعي الشهرة: محمد حسين هيكل بك (1888)، وأهم ما تمتاز به هذه المدرسة التعمق في فكرة الأدب وفي حاجات رجاله المتزايدة يوماً بعد يوم، وهي تختلف عن المدرسة السورية المتأمركة في أنها توجه جل جهودها إلى الأدب العربي القديم، وتبدي شغفاً خاصاً بالنقد وبتاريخ الأدب. وفي مؤلفات أنصار هذه المدرسة، نلاحظ للمرة الأولى أن روح الوطنية المصرية الخالصة تحل - عن عمد وإدراك - محل القومية العربية. وقد وجهت هذه المدرسة عناية خاصة إلى (الأقصوصة المصرية)، كما استطاعت شهرة ذائعة وأنصارا مخلصين متحمسين في سائر الأقطار العربية، بفضل اتساع نطاق الصحافة وانتشارها. وهكذا عادت مصر فتولت الزعامة للمرة الثانية في تاريخ الأدب العربي الجديد، وستظل محتفظة بهذه الزعامة، مرتكزة على دعائمها بثبات أعظم مما كانت عليه في نهاية القرن الماضي.
2 -
أنواع خاصة
أ - الشعر:
لا يزال الشعر أكثر الأنواع انتشارا وأدقها محافظة، شأنه في عصور الأدب العربي القديم.
ففي جميع الأقطار العربية نجد شعراء لا عداد لهم. لكن تاريخ الشعر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ليس إلا تاريخ تجديد شباب الشعر القديم بطرق معدلة كل التعديل. فبينما كان الشعراء في الماضي يقلدون شعر عصور الانحطاط نراهم الآن ينسجون على منوال المتنبي والشعراء العباسيين وأحياناً شعراء الجاهلية. وقد لعب ناصيف اليازجي (1800 - 1876) دوراً هاماً في سوريا، إذ ظل محافظاً دقيقاً، لكنه كان مالكاً لناصية اللغة. وظهرت بوادر الأثر الأوربي في دوائر أخرى ظهوراً واضحاً، فرأينا فرنسيس مراش (1836 - 1873) الشاعر الحلبي، يحاول التعبير عن أفكار فلسفية اجتماعية في قصائد يسودها روح التشاؤم. أما في مصر فقد جاء تجديد شباب الشعر العربي متأخراً نوعاً، فاستهل الحركة محمود سامي البارودي (1839 - 1904) وإسماعيل صبري (1854 - 1923)، وقصائد كل منهما تطابق كل المطابقة أسلوب الشعر العباسي أو القديم، بل إنهما كانا يشيران أحياناً بوضوح إلى القصائد الأصلية المعارضة، ونلاحظ أن الحياة تدب بقوة في مؤلفات الشعراء المصريين المتعاقبين أمثال شوقي (1868 - 1932)، ومحمد حافظ إبراهيم (1871 - 1932).
قبل الحرب العظمى كان شوقي شاعراً بالمعية (شاعر الأمير) وكان من نوع ممتاز، قديراً في صناعة اللغة وصياغة الألفاظ، لكنه حصر شعره في دائرة الأسلوب التقليدي. وبعد الهدنة أخذت شهرته تتطاير في أنحاء العالم العربي وأطلق عليه لقب (أمير الشعراء). وقد حاول شوقي في السنوات الأخيرة أن يخلق المأساة (التراجيدي) في الأدب العربي. أما حافظ إبراهيم فهو من أبناء الشعب ولذا انحصر ميله في المواضيع السياسية والاجتماعية مع النسج على منوال المتقدمين من وجهة الأسلوب. وثالث الشعراء المصريين المعروفين هو خليل مطران، وقد ولد ببعلبك بسوريا حوالي سنة 1871 وأبدى نبوغاً ممتازاً في المصنفات الغنائية والروائية ذات الأسلوب الطليق الحر والمنوع (خصوصاً في القافية والوزن). وهنالك كتاب من الجيل الجديد نشر دواوين طلية كعباس محمود العقاد المولود في سنة 1889، وإبراهيم عبد القادر المازني المولود في سنة 1877، وأحمد محرم المولود في سنة 1877، وأحمد رامي المولود في سنة 1892. ومصطفى صادق الرافعي المولود في سنة 1880، وأحمد نسيم المولود في سنة 1878. وفي الأيام الأخيرة أظهر
الجمهور ميلاً إلى تذوق شعر أحمد زكي أبي شادي. ومن الصعب أن نتكهن بالشاعر الذي سوف يحمل زعامة الشعر العربي بعد شوقي وحافظ.
وفي العراق جمع الشعر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أغرب الصفات على اختلافها وتباينها. فقد ازدهرت التقاليد الأدبية القديمة في المدن الكبرى كبغداد والموصل. وقاد حركتها شعراء أفذاذ أمثال عبد الغفار الأخرس (1873 - 1805) وعبد الباقي العمري الفاروقي (1789 - 1861) كما أن أسرة الألوسي لعبت دوراً هاماً في هذا الميدان. وفي النجف الأشرف وكربلاء، مدينتي الشيعة المقدستين، ازدهر الشعر العباسي وشعر البادية الصحيح في الأوساط الأدبية الشيعية. ولم نصل إلى معرفة أصول هذه المدرسة إلا بفضل ما نشره أحمد عارف الزين زعيم الطائفة الشيعية يصيدا (سوريا). وكان أبرز زعمائها إبراهيم الطباطبائي (1832 - 1901). وفي العراق كما في مصر - حاول المجددون إعادة الشباب إلى الشعر العربي القديم. وأتيح لنا أن نقتبس هذه الظاهرة بوضوح في شعر عبد المحسن الكاظمي (1865 - 1934). وبالنظر إلى أنه يقيم في مصر منذ نهاية القرن الماضي فقد خصص بعض قصائده لسرد الحوادث المصرية. وهنالك شاعران آخران جديران بالذكر وهما يمثلان الاتجاه الجديد خير تمثيل، أولهما جميل صدقي الزهاوي (1869 - 1936) ومعروف الرصافي (1875). وقد كان الزهاوي مشرباً إلى أقصى حد بالروح الفلسفية، وكان يطلق لنفسه الحرية التامة فيما يتعلق بالأسلوب. ولم يتردد مطلقاً في ابتكار الأوزان والقوافي المختلطة. وكثيراً ما نظم الشعر المرسل حيث يسير على الوزن دون القافية. بعكس الرصافي إذ حصر شعره في دائرة الأسلوب التقليدي، لكنه يمتاز بعبقرية الشاعر الواقعي، سواء في شعره الغنائي والوصفي، أو السياسي والاجتماعي؛ وقد جاوزت شهرة هذين الشاعرين حدود بلادهما. أما في سائر الأقطار العربية، فالشعر رغم وفرته وكثرة إنتاجه، لا تتعدى أهميته الحدود المحلية.
ومن شعراء سوريا عنحوري (1855) وهو شيخ مسن على اتصال دائم بمصر ومتشبع بالآراء العصرية إلى حد بعيد، وعيسى اسكندر المعلوف (1869) شاعر وعالم من نوع وحيد، وهنالك طبقة من كتاب الجيل الحديث اشتهروا الآن في الأوساط الأدبية، نخص بالذكر منهم: شفيق جبري (1895) وخليل مردم (1895) وحليم دموس (1888) وأحمد
عبيد، ومحمد البزم (1887)، ومحمد الشريقي (1896) وسليمان الأحمد المعروف باسم (بدوي الجبل) الخ.
وفي المهجر كثير من الشعراء الذين تطبع مؤلفاتهم وتذاع في بلاد أخرى، بخلاف الأمر في سائر الأقطار العربية حيث لا تتعدى شهرة الشعراء النطاق المحلي ولا يقدر مؤلفاتهم سوى مواطنيهم (مثال ذلك محمد الشاذلي خازندار بتونس). أجل، إن الشعر الغنائي العصري منوع المقاصد، مشبع بروح الفن الناضج الدقيق، ولكن المجال لا يزال متسعاً لابتكار أساليب أرحب مدى. وقد ظهرت ترجمة (الإلياذة) للبستاني في عام 1904 لكنها لم تسفر إلا عن بعض محاولات تقليدية، أما الشعر الشعبي (الزجل) الذي تستعمل فيه العامية بدلاً من الفصحى، فالواقع أنه لم ينتج سوى مؤلفات فكاهية انتقادية، شأنه كما كان في الأزمنة السالفة (أسعد رستم بأمريكا)، وأكثرها يرمي إلى أغراض سياسية (عمر الزعني بسوريا).
ب - القصة والأقصوصة:
لم تنشأ القصة أو الأقصوصة من أصل عربي كالمقامات والقصص الحماسية بل ترعرعا بتأثير الأدب الأوربي المباشر. وقد ظهرت أولاً القصة التاريخية التي لم تصل إلى شأو الكمال من الوجهة الأدبية. كان أول بزوغ هذا النوع في محيط البستاني بسوريا، وعني به ابنه سليم (1848 - 1884) بقصد اتخاذه وسيلة في التربية والتعليم. وفي عام 1884 وضع جميل المدور (1862 - 1907) أخبار أيام هارون الرشيد (؟) فارتفع بهذا النوع إلى مكانة أسمى، وإن كانت تلك (الأخبار) أقرب إلى الآثار منها إلى الأدب، وقد بلغت القصة التاريخية ذروتها في مؤلفات جورجي زيدان، حيث كان يطالع القراء بقصة في كل سنة تقريباً، قصة جديدة من سلسلة تاريخية طويلة الحلقات.
ولقد ولد زيدان مؤرخاً بطبعه، فأراد أن يتخذ من قصصه وسيلة لجعل التاريخ في متناول العامة، وأن يهيئ للجمهور مطالعات طريفة سهلة، فالغرض الذي كان يرمي إليه هو التعليم والتثقيف، ولذا تراه لا يعلق أهمية تذكر على المسائل الأدبية البحتة. وقد نالت مؤلفاته إقبالاً منقطع النظير، بل إنها كانت فاتحة عهد جديد في الأدب العربي الحديث.
(يتبع)
ترجمة محمد أمين حسونة
على أطلال الماضي
للسيد إبراهيم أدهم الزهاوي
ما بكائي لزينب وانتحابي
…
وسؤالي ربوعها وجوابي
ووقوفي بها وقوف حجيج ال
…
بيت لولا تفردي واكتئابي
وملامي النوّى على ما أحالت
…
من رسوم وقوضت من قباب
سنة تلك سنها شعراء
…
ما بهم من زمانهم غيرُ ما بي
إن أولى الربوع بالدمع سحّاً
…
أربع المجد والعلا والغلاب
سفهت نفسَها الليالي اللواتي
…
سحبت فوقها ذيول الخراب
أربعٌ لا تزال منها بقايا
…
أفلتت من حبائل الأحقاب
شوهتها يد البلى ككتاب
…
رث إلا عنوان ذاك الكتاب
أنا صَبٌّ بها وكل محب
…
تتصباه أربع الأحباب
كلما طاف طائف من هواها
…
في فؤادي وجدته في خطابي
لا قرضت القريض إن لم أذدْ في
…
هـ ذياداً يغني عن القرضاب
عن عُلا معشري وأي عَلاء
…
كعلا معشري الرفيع الجناب
كيف لا يعتلي وبانيه بانٍ
…
كلَّ نجم في الكائنات الرحاب
يا أبا القاسم حار عقلي
…
في مدى عقله وتاه حسابي
كيف لا تنحني الأكابر إكبا
…
راً لأسمى طبيعة في إهاب
أي باب فتحته لأولي الأل
…
باب مستغلق من الأبواب
ومنار نصبتها في طريق
…
طالما ضلَّلت مسير الركاب
إن مَحْياك في الحقيقة محيا
…
كل حي يسير فوق التراب
فأعاديك في الورى كموالي
…
ك يدورون حول ذاك الشهاب
أين دنياهمُ التي هي دنيا
…
أشبهت ذات جِنَّةٍ في يباب
طال أظفارها التي لم تَعَهَّدْ
…
ها يمين ورث حسن الثياب
فتعهدتها بيمينك حتى
…
عاودتها شوارد الألباب
فعليها طلاسم تقتنيها
…
فتقيها رجعاً على الأعقاب
ها مراقي فانظر أكانت
…
تترقى لو لم تزل في احتجاب
تلبث الصخرة العظيمة آبا
…
داً إذا لم تدفع بأيد صلاب
أم يقولون كان ينبع منهم
…
من يعيد الحياة بعد ذهاب
والذي تشهد البرية طرّاً
…
أن مسعاك فوقي قدر الطِّلاب
قد ترحلت عن مغاوير أدوا
…
كل دَين مؤجل في الرقاب
ضربوا الأرض إذ أصرت على البغ
…
ي وهبت إلى رؤوس الحراب
فشفوها من دائها بدواها
…
قد يكون الدواء ضرب الرقاب
ذاك دور لن تشهد الأرض دوراً
…
مثله والقشور غير اللباب
وبدت لي أمية فبدت لي
…
دولة المكرمات والأحساب
وسألت الدهياء كيف ترقت
…
للثريا فلم يكن من جواب
أين مُلْكٌ أبو سليمان يرعا
…
هـ فيرعى صيَّابة الأنساب
عبقري، زمانه عبقري
…
كل شيء يجري به بنصاب
ما حسام الحجاج لو كنت تدري
…
غير تعويذة من الأوشاب
لم يكن مثله بقبضة مروا
…
ن فمرت أيامه في تباب
واجتبى الله للأعاريب أملا
…
كاً حراصاً على اتباع الصواب
واجتباهم من هاشم من بني ال
…
عباس من خير دوحة في انتساب
جل هارون أن تكون كهرو
…
ن ملوك تسربلت بالسراب
عجم يعجمون عود الرزايا
…
ثم لا يهتدون للأسباب
ذاك نجم يدور في الفلك السا
…
بع لا في مهابط التَّوْراب
سجدت للذي يريد ليالي
…
هـ سجود العبدان للأرباب
واتقته الآباء في كل أرض
…
واقتفتها الأبناء في الأصلاب
مالك الملك قائماً بالذي يط
…
لب عدلاً عقابه كالثواب
تحسن الرحمة الوثيرة إلا
…
لجنوب تقلبت في الكذاب
فأَنِمْها على الظُّبي لا توثق
…
من ذئاب تريك صدق الكلاب
إنما تُعصم البلاد بسيف
…
نائم قائم مجيب مجاب
خطة في سنى الضحى ضيعوها
…
فأضاعوا مِلاك مُلك رُحاب
اشتراك في الموبقات وخوف
…
من شراراتها على الأثواب
وهي الريح زعزع تحمل النا
…
ر فمن ذا ينجو من الالْتهاب
واستفاقت بغداد بعد دهور
…
أنقضت ظهرها من الأوصاب
استفاقت فلم تجد لا فتى الصم
…
صام فيها ولا فتى المحراب
واستجارت جاراتها فإذا الجا
…
رات يرزحن مثلها بالعذاب
فدعت دعوة أبى الله إلا
…
أن يكون الجواب فصل الخطاب
نحن إبان نهضة بسوى الوح
…
دة لا ترتضي من الأحزاب
ضاع كل الطلاب إن لم تكن أوّ
…
لَ شيء نريده في الطلاب
لا تصح الأعضاء في الجسم ما لم
…
تك فيه مشدودة الأعصاب
تمرع الأرض بالربيع على مقدا
…
ر ما التمَّ فوقها من سحاب
وتضيع الأنهار في لجج البح
…
ر ويكفي العباب شر العباب
وأحق الشعوب بالوحدة الك
…
برى شعوب ذاقت وبال انشعاب
(بغداد)
إبراهيم أدهم الزهاوي
بعد هجر طويل
بقلم العوضي الوكيل
أثرتِ في نفسي ماضي الذِّكَرْ
…
وهجت فيها ما انطوى واندثر
وهجتِ أحلاما عِذاب المنى
…
كالنور، أو كالظل، أو كالزهَر
إن لم أنل منها، فحسب النهى
…
مرآك، من ريٍّ لهذا النظر!
عودي إلى النفس، وكوني بها
…
لهفة شوق ساعر ذي شررْ
عودي إِلى النفس، وأحيي بها
…
ما كان من نجوى بها أو سَمَر
يا طالما عاد إلى داره
…
مسافر من بعد طول السفر!
وأمتعيني بحياة الهوى
…
إِمتاعك العين بوجه أغر
بل جدديني. . . أنت محفوفة
…
بِجِدّةٍ ليست لحسن القمر
في كل يوم فيك معنى هوى
…
يخالف المعنى الذي قد غبر
وفي كل يوم صورة فذة
…
غير الذي شاهدته من صور
أأنت من شاهدتها أمس؟ أم
…
أنت سواها؟ اصدقيني الخبر
عودي، فقد عدت إلى جنتي
…
وعادني الهم وطول السهر
عودي، فما أحراك أن ترجعي
…
أمس إلينا، عبقري الغُرر
أمس الذي نُيِّحَ في قبره
…
بمهجتينا، لابثاً في الحفر
أحييتُه عندي بتذكاره
…
وربما تحي الفقيد الذِّكر
فلتنسخي لذاته في غدِ
…
وعشت للقلب الوفي الأبرْ
العوضي الوكيل
نكبة فلسطين
بقلم عبد الوهاب أدهم
البلد المقدسُ الطاهرُ
…
عاث به ذو حنقٍ غادرُ
ومهبط الوحي غدا بلقعا
…
يجول في أرجائه الكافر
والجنة المئناف قد صوّحت
…
لم يشدُ فيها البلبلُ الساحرُ
فمن لها؟ قد أجدبتْ أرضها
…
ولم يُغثها العارض الماطرُ
هذي فلسطينُ على شجوها
…
ليس لها، من أهلها، ناصرُ
أعداؤها قد استباحوا الحمى
…
لله ذياك الحمى الزاهر!
كم قتلوا من نسوة زانها
…
عفافُها وذيلها الطاهر
كم صرعوا من فتيةٍ ذنبها
…
إيمانها ودينها الغافر
كم روّعوا الأطفال في مهدها
…
وغادروها جفنها قاطر
العُرْب في أوطانهم عصبة
…
يغمزها العاجمُ والكاسرُ
يقذفها الغربيّ في مهمه
…
فمن لها؟ لقد طغى الماكر؟
الله يا غافل عن دهره
…
دهرك لا يغلبه السادر
والحق لا يناله ضارع
…
كفاه لم يصحبهما الباتر
فكن جسوراً فاتكاً قادراً
…
ما فاز إلا الفاتك القادر!
هذي فلسطينُ اشتكت ضيْمها
…
وسمعكم عن صوتها واقرُ
فمن لها؟ قد أجدبت أرضها
…
ولم يغثها العارض الماطر
(دمشق)
عبد الوهاب أدهم
القصص
الكذب
للقصصي الروسي نيكولا يفتش اندريف
ترجمة الأديب محمود البدوي
(أنت كاذبة! أنا أعرف أنك كاذبة!).
(لماذا تصيح هكذا. .؟ أمن الضروري أن يسمعنا كل إنسان؟).
وكذبت مرة أخرى فما كنت أصيح كما ادعت، وإنما كنت أتكلم على أتم هدوء ورقة. أمسكت بيدها وأخذت أحدثها في لين هادئ، والكلمة السامة:(كذب) تفح حولي فحيح الحية الصغيرة.
(واستطردت تقول: (أحبك. . . ويجب عليك أن تكون على ثقة تامة بي. . ألا يقنعك هذا؟) وقبلتني. . ولكني لما أردت أن أطوقها بذراعي وأضمها إلى صدري لم أجدها: كانت قد أفلتت مني وبارحت الممر المظلم، فتبعتها إلى الغرفة التي أخذ الحفل البهيج فيها يقوض خيامه، ومن أين لي أن أعرف - في مكان كهذا - أين أنا! لقد طلبت مني المجيء إليه فجئت، ورأيت القوم يدورون حولي مثنى مثنى طول الليل. وما تقدم إلى أحد ولا خاطبني إنسان. كنت هناك غريباً عن كل الناس، جلست في ركن يقرب من العازفين على الآلات الموسيقية وفم البوق النحاسي الضخم يوجه في خط مستقيم إلي. . . وسمعت في ناحية شخصاً سجيناً يزمجر ويضحك بعد كل دقيقة في هزة وخشونة ويصيح:
(هو. . . هو. . . هو. . .).
وكانت تقرب مني من حين إلى حين سحابة بيضاء عطرة. كانت هي. . ولم أكن أدري كيف دبرت بمهارة فائقة ملاطفتي وهي متقية أعين الناس، ففي ثانية خاطفة ضغط كتفها على كتفي، وفي لحظة قصيرة خفضت بصري فاستطعت أن أرى الجيد الأتلع والدثار الأبيض الضيق العروة. . ولما رفعت طرفي رأيت جانب الوجه الأبيض الصارم الهادئ كوجه الملاك المفكر فوق مقابر الموتى، فوق مقابر المنسيين من الموتى، رأيت عينيها. . . كانتا نجلاوين ساكنتين حبيبتين تتعطشان للنور. . تحف بهما دائرتهما الزرقاء، وقد برق
فيهما إنساناها في قتامة. وكنت كلما نظرت إلى هاتين العينين أراهما على حال واحدة لا تتغير: سوداوان عميقتان لا يدرك كنههما، وإذا ما نظرت إليهما ولو نظرة قصيرة اشتد وجيب قلبي، ولكني لم أشعر قط بمعنى اللانهاية بمثل هذا العمق وهذا الخوف الذي شعرت به الآن؛ ولم أعرف مطلقاً قوتها كهذا الحد القوي الجارف. شعرت خائفاً متألماً أن حياتي كلها غدت كشعاع ضئيل من النور ابتلعته عيناها، حتى أصبحت غريباً عن نفسي فارغاً أجوف غالباً في عداد الموتى. . . ثم بارحتني وخلفتني وحيداً وأخذت معها حياتي. . حياتي كلها، ورقصت ثانية مع رجل وضيء الوجه طويل متعجرف، أخذت في انقباض وحزن أنعم فيه البصر وأدرس أجزاء جسمه، وشكل نعليه، وعرض كتفيه المرتفعتين، وخصل شعره المتموج المنتظم. والرجل بنظرته غير العابئة ولا المكترثة ولا الباصرة يلصقني بالحائط، أصبحت في نظره مخلوقاً تافها كالحائط نفسه.
ولما أطفأت الشموع تقدمت نحوها وقلت:
(حان وقت العودة. . سآخذك إلى المنزل).
فاستغربت وقالت: (ولكني. . . ذاهبة معه!).
وأشارت إلى الرجل الطويل الجميل الذي لم ينظر إلينا مطلقاً ثم جرتني إلى غرفة خالية من الناس وقبلتني. فقلت بهدوء ورقة:
(إنك كاذبة).
فأجابت: (سنتقابل اليوم. . . لا بد أن تجيء. . .).
ولما ركبت العربة إلى المنزل، كان الصباح الضبابي الأخضر قد لاح فوق السطوح العالية، ولم يكن في الشارع كله إلا أنا وسائقي؛ وجلس الرجل متجمعاً يخبئ وجهه من الريح، وأنا جالس خلفه منكمشاً في معطفي ومغطياً وجهي حتى عيني. وكان للسائق أفكاره ولي أفكاري، وخلف الجدران الكثيفة المحيطة ألوف من الناس يغطون في النوم سابحين في أحلامهم وأفكارهم. . . فكرت فيها، وفي أكاذيبها، وفي الموت الرهيب، وبدا لي أن هذه الجدران المحيطة بعد أن أضاءتها تباشير الصباح، كانت تنظر إلي كمخلوق ميت، وهذا هو السبب الذي جعلها جامدة معتدلة هكذا. ولم أكن أعرف في أي شيء يفكر السائق، ولم أكن أدري ما الذي يحلم به أولئك المختفون وراء الجدران، ولا كانوا هم يعرفون ما أفكر
فيه وأحلم به. . .
وعلى هذا المنوال من التفكير والسكون والتأمل زحفنا في الشوارع الطويلة المستقيمة، بينما يفضض نور الصباح أعالي السقوف، وكل ما حولنا كان أبيض ساكناً. وقربت مني سحابة بيضاء عطرة. . . وأخذ إنسان سجين يضحك عند أذني ويصيح:
(هو. . . هو. . . هو. . .).
لقد كذبت. لم تبر بوعدها ولم تجيء، وكان انتظاري قدومها عبثاً، كان وهما باطلاً وأملاً خائباً. . . وأخذ الغبش يهبط من السماء القاتمة أشهب بارداً متجمداً. . . ولم أعد أعرف متى يتحول الغبش إلى مساء، أو متى ينقلب المساء ليلاً أسود. فكرت فيه كله كليل طويل حالك فوقه ليل، وأخذت دائماً، بخُطى الانتظار المنتظمة الرتيبة، أروح وأجيء في الطريق، ولم أشأ أن أقرب من منزل حبيبتي الشاهق، ولا من الباب الزجاجي الأمامي الذي بدا لي شاحباً في ظل سقفه الحديدي، ولكني رحت بنفس الخطى المنتظمة أذرع الجانب الآخر من الشارع. رائحاً غادياً. . . رائحاً غادياً. . . وعندما كنت أواجه المنزل لا أستطيع أن أنزع عيني من الباب الزجاجي، فإذا ما بعدت عنه كنت غالباً أقف وأدير رأسي وأسارقه الطرف، وهنا يخز الثلج الساقط وجهي بوخزاته الحادة. . . كانت هاته الإبر الثلجية طويلة نافذة، حتى إنها نفذت إلى قلبي ومزقته وهو المعني بالشوق المضني والانفعال الشديد للانتظار الخائب! وهبت الريح الباردة من الضوء في الشمال إلى الظلام في الجنوب، وصفرت وعوت، ولعبت على السقوف المتجمدة وخلصت نفسها منها وضربت وجهي بسفعات حادة من الندف الثلجية، وخشخشت كما يخشخش الرمل على مصابيح الشوارع الفارغة حيث يرتجف اللهب الأصفر ويقضقض من البرد وينحني أمامها. كم أسفت على هذا اللهب المنفرد الذي يعيش في الليل فقط، وفكرت في الحياة التي ستقف حركتها في الشارع بعد لحظات، وفيّ بعد أن أغادر المكان وتبقى الندف الثلجية تهطل وتضربه بضرباتها، واللهب الأصفر يستمر راجفاً منحنياً في كنف الوحدة والبرودة المحيطة به.
انتظرتها فلم تجيء. وبدا لي أني وهذا اللهب المنفرد متشابهان، وكل ما بيننا من خلاف أن مصباحي لم يكن فارغاً كمصباحه، وأخذ الناس يظهرون من وقت لآخر في المكان الذي
ذرعته بخطواتي يكبرون في صمت وسكون، ويتضخمون ورائي، ويبدون سوداً ضخاماً حذائي، ثم يختفون فجأة كالأشباح السنجابية حول ركن بيت أبيض قائم هناك، ثم يقدمون ثانية نحوي من حول الركن ويذوبون في المسافة الرمادية المفعمة بالثلج الصامت المتحرك مدثرين في معاطفهم الضخمة حتى انعدمت أشكالهم واختفت أجسامهم، سائرين صامتين على غرار واحد يشابهوني، وفكرت في أن رهطاً من هؤلاء الناس كانوا يمشون مثلي رائحين غادين منتظرين مترقبين راجفين في صمت. . . . ويفكرون تفكيرهم المبهم الحزين.
انتظرتها فلم تجيء. . . ولم أدر لم أعول وأذرف الدمع السخين وأرسل العبرات الغزار؟ لم أدر لم لم أبك في ألم وحزن؟ لم أدر لم ضحكت وكنت سعيداً جذلاً طروباً؟ قبضت أصابعي إلى راحتي بقوة كأنها المخالب، وتخيلت أني أقبض بشدة على المخلوق السام. . . . الحية. . . . الكذب. . . . فالتفت علي ذراعي وعضت قلبي وأصابني من سمها الزعاف الدوار الشديد. بدا كل ما حولي أكاذيب مجسمة، وانمحى الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل، بين الحاضر والماضي، انمحى الحد بين الوقت الذي كنت فيه في غيابات العدم، والوقت الذي بعثت فيه في هذه الحياة الدنيا. . . . . . وفكرت في نفسي - سواء وجدت أو لم أوجد - كانت أبداً قبل أن أوجد وبعد أن وجدت متسلطة على كياني وجثماني. ومن الغريب علي أن أفكر في أن لها اسماً وجسماً وأن لكيانها ووجودها نهاية وبداية. . . ليس لها اسم مطلقاً، وإنما كانت دائماً المخلوقة الكاذبة، والتي تعد ولا تفي بوعدها أبداً. . . لم أدر لماذا هكذا. ولكنني ضحكت، وغاصت الإبر الحادة في قلبي، وضحك عند أذني إنسان سجين:
(هو. . . هو. . . هو. . .).
وفتحت عيني ورأيت نوافذ المنزل الشاهق المضيئة، وأخذت النوافذ تحدثني بألسنتها الزرقاء الحمراء بكل هدوء:
(إنها تخونك في هذه اللحظة، فبينما أنت تتجول ذارعاً الأرصفة مترقباً حضورها معذباً كئيباً، إذا بها وكلها جمال ونور وإشراق. . . وخيانة، جالسة هنا تسمع همسات الرجل الصبوح الطويل الذي احتقرك وازدراك. إنك إذا اندفعت إلى داخل المنزل وقتلتها ستعمل
عملاً عظيماً. لأنك ستقتل الكذب).
وقبضت يدي بشدة وقد أمسكت بسكين وأجبت ضاحكاً:
(أجل. . . سأقتلها. . .).
ولكن النوافذ نظرت إلي بوجوم وقالت في حزن:
(إنك لن تقتلها أبداً. . لأن الآلة التي في يدك هي الكذب بعينه، كقبلاتها تماماً).
واختفت الظلال المترقبة الصامتة وبقيت وحيداً في هذه البقعة الباردة، أنا وألسنة اللهب المنعزلة التي ترجف من البرد والخيبة. . وأخذت الساعة في قبة الكنيسة القريبة تدق، وكان صوتها المعدني الحزين يرتجف وينتحب ويتمدد. ويفقد نفسه في الثلج المدوم المجنون الهاطل؛ وأحصيت الدقات وضحكت، دقت الساعة الخامسة عشرة. كانت قبة جرس الكنيسة قديمة بالية كساعتها. ومع أن الساعة كانت سائرة على منوال حسن، فإنها كانت تدق غالباً أكثر من اللازم، حتى إن الرجل العجوز الذي كان يحركها صعد إلى القبة ليقف بيديه اللسان الضارب. علام كانت تكذب هذه الأصوات الراجفة الحزينة التي يخنقها الظلام الضبابي؟
وانفتح الباب الزجاجي مع آخر دقة كاذبة للساعة، وهبط الرجل الطويل نفسه الدرجات. وعلى الرغم من أني رأيت ظهره عرفته لأني كنت قد شاهدته أمس بوقاحته وغطرسته. . . عرفت مشيته وكانت اليوم أخف حركة وأكثر ثباتاً منها بالأمس. . لقد غادرت من قبل هذا المنزل كما غادره هذا الرجل الآن. إنها الطريقة التي يمشي بها الرجال الذين لا تزال على شفاههم قبلات المرأة الكاذبة.
هددت. . . رجوت. . . قضقضت بأسناني. . .
(قولي الحقيقة. . .).
فسألتني، ووجهها جامد كالثلج، وحاجباها مرتفعان في استغراب، ومن عينيها يطل إنسانان سوداوان سريّان هادئان، لا يسبر غورهما:
(ولكن. . . هل كذبت عليك؟).
وكانت تعرف أني لا أستطيع البرهان على كذبها، وأن كل أبحاثي وأوهامي وجهودي في معرفة الحقيقة ستذهب هباء بعد كلمة واحدة منها. . . كلمة كذب واحدة. . . ولقد ترقبت
هذه الكلمة وندت عن فمها أخيراً، وظاهرها يتلألأ بالصدق على أن باطنها كان مظلماً قاتماً. . . (أحبك. . . ألست كلي لك؟).
وكنا بعيدين عن المدينة، والحقول المغطاة بالثلج ترنو إلى النوافذ المظلمة، وفوقها الظلام مخيم، وحولها الظلام جاثم، الظلام الكثيف الجلد الصامت الساكن، ولكن الحقول كانت تلمع بضوئها المكتنز كوجه جثة في الظلام. . . وأضاءت شمعة واحدة في الغرفة الرحبة الشديدة الحرارة، وعلى ضوئها الأحمر انعكست الحقول الميتة. . .
(أود أن أعرف الصدق، بغضّ النظر عما يسببه لي من حزن؛ ربما مت بعد سماعه. . . ولكن خير للمرء أن يموت من ألا يعرفه. أرى الكذب يطل من عينيك. قولي الصدق، وسأذهب بعد ذلك بعيداً عنك إلى الأبد).
ولكنها كانت صامتة، والنظرة التي في عينيها، النظرة الجامدة المتفرسة نفذت إلى سويداء قلبي وأخرجت أعماق نفسي وأبدتها للعيان. . . وأخذت بفضول غريب أمتحنها وأنعم النظر فيها، ثم صحت بها:
(أجيبي. . . وإلا قتلتك!).
فأجابت بهدوء: (اقتلني. . . بعض الأحيان يضيق المرء ذرعاً بالحياة. . . هل تستطيع الوقوف على الحقيقة بالتهديد؟!).
فجثوت على ركبتي وضغطت على يدها، وأخذت أتوسل إليها وأرجوها أن ترحمني وتقول الصدق.
فقالت، وقد وضعت يدها على شعري:(مسكين. . . مسكين. . .).
فرجوتها: (ارحميني. . . أود الصدق. . . أتلهف عليه. . .).
ونظرت إلى جبينها الناعم، وفكرت في أن الصدق الصراح هنالك. . وراء هذا الفاصل الرقيق، فوددت بجنون لو هشمت جمجمتها لأراه، وهنا تحت هذا الصدر المرمري الأبيض كان قلبها ينبض، فوددت لو مزقت هذا الصدر بمخالبي لأرى ولو مرة القلب البشري العاري. . . وكان لهب الشمعة المحدد كالسنان يشتعل بعيداً ساكناً لا يتحرك، والجدران المظلمة قد غابت في القتامة المحيطة، كان كل شيء يبعث على الأسى والوحشة والرعب.
وقالت: (مسكين. . . . مسكين).
وارتعش اللهب الأصفر وتشنج، وضرب لونه إلى الزرقة، ثم تمايل واحتضر. . . وطوانا الظلام في جوفه، ولم أعد أستطيع أن أرى وجهها ولا عينيها؛ وكانت ذراعاها تطوقان رأسي. . . لم أعد أحس بالكذب، وأغمضت عيني وغدوت لا أفكر. . . ولا أعيش في هذه الدنيا. . . وإنما فنيت بكليتي في لمسات يديها، في الإحساس اللذيذ، في النشوة العجيبة التي هيمنت على حواسي ومشاعري، وبدا الصدق في عملها هذا ووضح وبان. . وجاء من أعماق الظلام همسها وانياً غريباً مخوفاً:
(ضمني إليك. . أنا خائفة. . .).
وخيم الصمت ثانية. . . ثم همست مرة أخرى في صوت خافت جازع:
(إنك تود الصدق. . . وهل أنا أعرفه؟ حتى أنا. . . أود أن أعرفه. . . احمني. . . أوه. . . أي رعب!!).
وفتحت عيني وقد أخذ الظلام الشاحب يهرب من النوافذ العالية، ويتجمع على الجدران، ويختبئ في الأركان، ولاح من النوافذ شيء ضخم في بياض الموتى. . . كأن عين إنسان ميت تبحث عنا. . . كأن شخصاً ضمنا في قبضته الباردة. . . فالتصق كلانا بالآخر ونحن نرتجف، وهمست:
(أوه. . . . . . ما أفظع هذا!).
لقد قتلتها!. . .
قتلتها. . . ولما تمددت كتلة بشرية لا حس ولا حركة على النافذة ووراءها الحقول البيضاء تمتد وتتشعب وضعت قدمي على جسمها وانطلقت أضحك، وأقهقه. . . ولم يكن ضحكي ضحك المجنون، لا. . . لقد ضحكت لأن أنفاسي خلصت وصدري استراح، ولأن في أعماق نفسي السعادة والسلام والفراغ. . .
لقد انمحت من قلبي الدودة التي كانت تنخره، وانحنيت وأخذت أتطلع إلى العينين الميتتين، عينان نجلاوان تتعطشان للنور، بقيتا مفتوحتين شبيهتين بعيني تمثال من الشمع، العيون المستديرة القاتمة التي تبدو مغطاة (بالميكا) أستطيع الآن أن ألمسها بأصابعي، وأفتحهما وأسبهما ولا أرهب شيئاً ما، لأن شيطان الكذب والشك مات من هذين الإنسانين السوداوين المبهمين إلى الأبد، مات من هذين الإنسانين اللذين كثيراً ما ارتويا من دمي.
ولما قبضوا عليّ انطلقت أضحك جذلاً، وكل من رآني عد فعلتي عملاً وحشياً مرعباً؛ كانوا يديرون ظهورهم نافرين متراجعين، وأخذ بعضهم وقد روع يوجه إلي ضروب اللوم والتعنيف الشديد، على أنهم لما بصروا بحالي المرح الطروب، شحبت وجوههم، وسمرت أقدامهم، وقالوا:(مجنون).
ويبدو لي أن هذه الكلمة هدأت ثائرتهم وأقرت هائجهم، لأنها أعانتهم على حل اللغز. كيف وأنا المحب الوامق أقتل عشيقتي، وفي الوقت نفسه أضحك؟ على أن رجلاً بادنا أحمر الوجه طروباً سماني اسماً آخر. ولشد ما ساء ني منه هذا حتى اسود في عيني النور، النور الذي كان أمامي.
(مسكين. . .) قالها في عطف لا تشوبه المرارة، لأنه كان بادناً طروباً:
(مسكين).
فصحت في وجهه: (لا تقل هذا. . . . . . . . لا تسمني بهذا الاسم).
ولم أدر لم صحت في وجه الرجل، ما كنت بالطبع أرغب في قتله، ولا حتى في لمسه، ولكن القوم الذين أذهلهم الحادث وأخذوني كمجنون ومجرم، انقلبوا أكثر رعباً وفزعاً، وصاحوا بطريقة جعلتني أضحك مرة أخرى.
ولما قادونيبعيداً عن الغرفة التي تمددت فيها الجثة قلت ثانية في صوت عال ملتفتاً إلى الرجل البادن الطروب:
(أنا سعيد. . . أنا سعيد).
وكان هذا حقاً.
رأيت مرة في صباي نمراً أرقط في حديقة الحيوانات، لفت نظري وشغل تفكيري، لم يكن كالحيوانات الأخرى التي نامت في حماقة وأخذت ترمي الزوار بالنظر الشزر. وإنما مشى في قفصه في خط مستقيم من ركن في دقة حسابية عجيبة! كان في كل مرة يرجع إلى المكان الذي بدأ منه، وفي كل مرة يحك فروته الذهبية في حاجز القفص ورأسه الحاد المفترس مطأطئ، وعيناه تتطلعان إلى الأمام، ولم يتجه قط ينظره إلى الناس. . . والناس يتجمعون حول قفصه طول اليوم، متحدثين صاخبين، وهو يواصل تجولاته ولا ينظر إليهم مطلقاً. وقليل من الوجوه في هذا الحشد كنت باسمة، وكثرتها كانت عابسة بل حزينة وهي
ترقب هذه الصورة البشعة وتتحول عنها بزفرة حارة. وعندما كانوا يبارحونه كانوا يلقون عليه نظرة فضولية أخيرة وهم عاجزون عن الفهم، ثم يصعدون الزفرات! كأن هناك شيئاً مشتركاً بين هؤلاء الرجال الأحرار وهذا الوحش السجين. وأخذت بعد ذلك كلما ذكر الناس الخلود وتحدثت الكتب عن الأبدية، أفكر في هذا النمر الأرقط، وأتصور أني أعرف الخلود وعذابه.
لقد غدوت في محبسي الحجري نمراً أرقط. . . سرت في المكان مفكراً على خط واحد في عرض محبسي من ركن إلى ركن، وفكري يتجول معي في خط قصير أيضاً. أفكار ثقيلة وطأتها علي، خيل إليّ بأني لا أحمل رأساً على كاهلي، وإنما أحمل الدنيا كلها على عاتقي. . وكانت هذه الأفكار تحوي كلمة واحدة ولكن ما أكبرها وأهولها كلمة. وما أعلقها بغيابات الأقدار!
(أكاذيب. . .) هذه هي الكلمة.
وأخذت هذه الكلمة تفح مرة أرخى من كل ركن، ثم التفت حولي. . ولكنها لم تعد حية صغيرة كما كانت، وإنما انقلبت ثعباناً ضخماً مفترساً تلمع عيناه. أخذ يلسعني بلسعاته. ولما صحت متألماً خرج من فمي صفير كريه. . . كصفير الثعابين، كأنما احتشد صدري بضروب الزواحف.
(أكاذيب).
مشيت غارقاً في أفكاري والأرض المقيّرة الناعمة الخضراء. . . غدت في عيني هاوية شفافة سحيقة مالها من قرار، وأصبحت قدماي لا تحسان ببرودة الحجر تحتهما، وتصورت نفسي أسبح في علو شاهق فوق الضباب والظلام، ولما خلص صدري من الزفرة السامة. . . من هناك. . . من القاع. . . من هذا الحجاب الرقيق الذي مع رقته لا تنفذ إليه العين، دوي يبطئ صدى مروع. . . كان الصدى بطيئاً جداً كأنه يعبر آلاف السنين، وهو في كل دقيقة وزفرة يفقد بعض قوته. أدركت بأن هناك في باطن القاع كانت الرياح الهوج التي تعصف بالأشجار تصفر. . . ولكن صفيرها وصل إلى أذني كأعقاب الأخبار السيئة تحمل في طياتها كلمة واحدة قصيرة:
(أكاذيب).
هذا الهمس الوضيع أخذ بمخنقي وحبس أنفاسي، فألصقت قدمي بالأحجار وصحت بأعلى صوتي:
(لم تعد هناك أكاذيب. . . بعد. . . لقد قتلت الأكاذيب).
وتحولت عامداً بوجهي لأني كنت أعرف أن الجواب سيجيء من أعماق الهاوية السحيقة. وكان الجواب:
(أكاذيب. . .).
أنت ترى أن الأمر هكذا. . . لقد ارتكبت خطأ جسيماً.
قتلت المرأة. . . ولكني خلدت الكذب. لا تقتل المرأة إلا بعد أن تنتزع - بكل وسائل التعذيب والنار والوعيد - الصدق من أعماق نفسها. فكرت في هذا وأنا أسير في محبسي من ركن إلى ركن.
لقد حملت معها الصدق والكذب إلى مكان مظلم مرعب. . . وهل أذهب إليه. . .؟ هل أذهب إلى هناك. . . وعند عرش إبليس سأقبض عليها وأجثو على ركبتي وأبكي وأقول:
(أريني الصدق).
رباه. . . رباه. . . هذا أيضاً كذب. . . الظلام هناك. . . وفراغ القرون. . . والخلود أيضاً. . . ولكنها ليست هناك. . . ليست في كل مكان. . . بقي الكذب. . . إنه خالد أزلي سرمدي. . . أحسست به في كل ذرة في الهواء. . . وعندما أنشقه أنشق معه في صدري الضعيف فحيح الثعابين فيمزقه. . . فيمزقه. . .
أواه. . . أي جنون عندما يطلب الرجل الصدق. . . وأي عذاب وألم؟
رباه. . . أنقذني. . . . . . أنقذني!!
محمود البدوي
البريد الأدبي
كتاب جديد عن الشاه
يعتبر جلالة رضا خان عاهل إيران من أعظم قادة العصر وملوكه؛ ومن أعظم زعماء الإصلاح في الشرق؛ وقد استرعت شخصيته وأعماله الباهرة اهتمام كثير من الكتاب والمؤرخين المعاصرين، فصدرت عنه عدة كتب بمختلف اللغات؛ ومن ذلك كتاب صدر أخيراً بالألمانية عنوانه: رضا شاه بقلم الكاتب الألماني (هوبرت ملتسج ويستعرض المؤلف في كتابه منذ مولده في سنة 1878 في قرية علشت من أعمال مزنداران، ووفاة والده وهو طفل في نحو الخامسة، وتربيته على يد أخيه الجنرال نصر الله خان. ومما يذكر عن الشاه أنه تلقى تربيته العسكرية في فرقة القوازق الروسية الشهيرة حيث اشتهر بالفروسية والبراعة في الأعمال العسكرية؛ وفي سنة 1921 حينما اضطربت شؤون فارس وتجاذبها النفوذان الروسي والإنكليزي زحف رضا خان على رأس كتيبة من الجند الوطنيين على طهران، وعاون على تأليف وزارة وطنية برآسة السيد ضياء الدين، ودخلها هو وزيراً للحربية؛ ومن ذلك الحين يقوى نفوذ رضا خان في الحكومة وفي توجيه السياسة الإيرانية، وكان معظم من ورائه يشد أزره، وما زال يتحين الفرص حتى قام بضربته الأخيرة، وتولى العرش سنة 1925، وأقصى عنه أسرة فاجار الملوكية التي سقطت إيران في ظلها إلى الحضيض.
ويصف المؤلف شخصية الشاه ووسائله في الحكم، ويقول إنه يؤثر سياسة الروية والتريث على سياسة الاندفاع والتسرع التي يأخذ بها الكماليون في تركيا؛ وهو قد استطاع أن يحرر بلاده من النفوذ الأجنبي، وأن يلغي المعاهدات الأجنبية المجحفة، وكذلك الامتيازات الأجنبية والمحاكم القنصلية، وكل ما يعترض السيادة القومية، ولكنه قطع هذه الخطوات في روية وتمهل، ونجح إلى أبعد حدود النجاح، وأبدى براعة سياسية تخلق بأعظم الزعماء والساسة، ثم عمد رضا خان بعد ذلك إلى الإصلاحات الداخلية فأصلح الدستور والقوانين، وأدخل النظم والعادات العصرية في المجتمع الإيراني، ومع ذلك فلم يعمد إلى العنف أو الاندفاع وإنما سار في كل ذلك بطريقته الرفيقة المستنيرة معاً.
ويكتب المؤلف بأسلوب قوي واضح معاً؛ ويعتبر مؤلفه خير ما أخرج في موضوعه في
العهد الأخير.
ترجمة ضحى الإسلام إلى الفارسية
وصل إلينا بالبريد ترجمة الجزء الأول من (ضحى الإسلام) تأليف الأستاذ الجليل أحمد أمين مترجماً إلى اللغة الفارسية، وقد قام بترجمته الأستاذ عباس خليلي صاحب جريدة (اقدام)، وطبع بطهران طبعة أنيقة على ورق مصقول جيد، وهو يقع في نحو 450 صفحة، وسنعود إلى الكلام عن الترجمة في مقام آخر.
الطب والحركة الهتلرية
عقد أخيراً في مدينة درسدن مؤتمر للطب والطب الطبيعي، وقد ألقى خلاله الجراح الألماني الكبير الدكتور فرديناند زاور بروخ خطاباً استرعى الأنظار بقوته وجرأته؛ ذلك أنه حمل فيه على سياسة النظام الجديد (أعني النظام الهتلري) في محاربة الجامعة الطبية القديمة، وأطرى المدرسة القديمة التي كانت قائمة قبل حكم النازي؛ وقال إنه يحب ألا ننسى أن هذه المدرسة هي التي اشتركت في تكوين أعظم الأساتذة، وفي معتركها سقط كثير من الأساتذة والطلبة.
ودعا الدكتور زاور بروخ إلى وقف المناقشات العقيمة ورد الهدوء إلى الجامعة، لأن الهدوء ضرورة لابد منها لمتابعة المباحث العلمية؛ وحمل على الجهود الجديدة التي تبذل لإحلال الطب الطبيعي مكان الطب الفني، وقال إنها جهود زائفة من الوجهة العلمية، وأنه لا يوجد طب دون درس ودون تقاليد، وأن العلم لا يمكن أن يفنى في فكرة قومية، بل إن مملكة العالم لا تقف عند هذا العالم، ويجب أن يبقى العلم مخلصاً لغايته الأبدية، وهي البحث عن الحقيقة بإخلاص.
وقال أيضاً إن أسلحة الذهن ضرورية لمستقبل الأمة كضرورة الأسلحة المادية، وإن الفلسفة هي امتياز للرجال الناضجين، وليست ميدان الأحداث الناشئين.
وقد أحدثت خطبة العلامة الكبير امتعاضاً في الدوائر النازية، وصدرت الأوامر للصحف النازية بعدم إذاعتها؛ ولكنها أذيعت مع ذلك في جميع الصحف الأجنبية.
فرنسا وثقافة البحر الأبيض المتوسط
تهتم فرنسا دائماً بأن تساهم في توجيه الثقافة في حوض البحر الأبيض المتوسط مساهمة قوية، ففي روما وفي أثينا، وفي مصر وسوريا، وفي تركيا، تقوم معاهد فرنسية كبيرة لنشر الثقافة الفرنسية؛ وفي موناكو (جنوب فرنسا) تقوم أكاديمية خاصة تسمى أكاديمية البحر الأبيض المتوسط، مهمتها أن تساهم في تأدية هذا الدور الذي تضطلع به فرنسا، وقد أذيع أخيراً أن هذه الأكاديمية أنشأت معهداً عالياً للتربية يسمى (كلية البحر الأبيض المتوسط) تعقد فيه محاضرات ودراسات عالية في الحضارات والثقافات الخاصة بأمم البحر الأبيض المتوسط منذ العصور الغابرة إلى يومنا، ويقوم على توجيه هذه الدراسات عدة من علماء فرنسا ومفكريها الأعلام، وفي مقدمتهم المسيو بول فاليري الشاعر الكبير ورئيس مركز هذه الدراسات، ومسيو شارل فيلاي، وأندريه بونيه العالم الأثري، وجان دستيه المتخصص في آداب البحر الأبيض، وغيرهم من كبار الأساتذة والمفكرين.
ويرجع اهتمام فرنسا بتوجيه الثقافة في أمم البحر الأبيض المتوسط إلى عهد الصليبيين؛ وقد بدأت فرنسا بهذه المهمة فعلا في بلاد لبنان منذ القرن الرابع عشر الميلادي، ولعبت المعاهد الفرنسية في تثقيف الشعب اللبناني دوراً كبيراً.
وفاة ملك النوَر
توفي أخيراً في سانت بلتن من أعمال النمسا ملك النوَر بطرس فادوس وقد يبدو غريباً أن نتحدث عن ملك النوَر ولكن الواقع أن النوَر (أو الغجر) وهم في أواسط أوربا ولا سيما في بولونيا والمجر ورومانيا كثرة تبلغ نحو المليون لهم ملك يختارونه بالانتخاب، وقد كان فادوس آخر ملوكهم، وهو من النوَر النمسويين؛ وعند وفاته ازدحمت سانت بلتن بالوافدين عليها من زعماء النور وأعيانهم من جميع أنحاء النمسا والمجر، وغمر منزل الملك المتوفى بالزهر، وتولى السهر على جثته طبقاً للعادات النوَرية اثنا عشر من خاصة أسرته؛ واقتيد نعشه إلى القبر في موكب حافل، وكان المشيعون رجالاً ونساء يرتدون الثياب الرسمية، وهم زهاء ألف من مختلف الطبقات والأعمار. ولما ووري التراب أخذ النساء ينشدن الأغنية المحزنة وفي تقطيع شعورهن طبقاً للعادة؛ ثم طاف الجميع بالقبر حفاة الأقدام. ولما كان قانون النوَر يقضي بانتخاب الملك الجديد في مدى ثلاثة أيام من
وفاته سلفه، وكانت السلطات النمساوية قد منحت المشيعين أربعاً وعشرين ساعة فقط، فقد سهر الجميع طول الليل وأتموا انتخاب ملكهم الجديد.
الكتب
الشيخ عفا الله
تأليف الأستاذ محمود تيمور
175 صفحة - قطع متوسط - طبع المطبعة السلفية - غلاف
أنيق فاخر - خمسة قروش
بفلم محمود البدوي
يكتب محمود تيمور لقصة منذ أكثر من عشر سنوات، ويوجه إليها كل عنايته وجهده وفنه. والذي قرأ مجموعة تيمور القصصية الأولى ثم يقرأ (الشيخ عفا الله) الكتاب الذي بين أيدينا الآن يرى مبلغ ما وصل إليه المؤلف من توفيق، ويرى أيضاً أنه يتطور ويخطو نحو الكمال الفني خطوات سريعة، وأنه كلما تقدم في السن أكسبته الحياة تجارب، وصقلت فنه وهذبت أسلوبه، ووسعت دائرة فكره، وفتقت ذهنه، وعمقت إحساسه، وجعلته دقيق الملاحظة بعيد النظر، حتى أصبح من نوابغ كتاب القصة القصيرة في مصر ومن الآخذين بيدها القابضين على زمامها الذين يوجهونها خير توجيه وأحسنه.
والذي يعرف تيمورا، وهو يقف من أبطال قصصه موقف الملاحظ المشاهد دائماً ولا ينزل إلى ميدان أبداً، قد يدهش عندما يراه يصور الطبقات الدنيا من الشعب، ويتغلغل في حياتها، وينفذ إلى أعماق نفوسهم ويتكلم بلسانهم ويصور أحلامهم وأمانيهم تصويراً دقيقاً فيه الكثير من الصدق. . على أن هذه الدهشة لا تلبث أن تنقلب إلى إعجاب وتقدير متى أدرك القارئ أن تيموراً وإن كان ينظر إلى هذه الطبقة من بعيد ولكنه يراها بعيني قلبه، ويحس بالعطف والشفقة والحنان على هؤلاء التعساء المساكين الذين يعيشون أبداً في الظلام مستسلمين صاغرين.
وتيمور قصصي واقعي يصور الحياة المصرية على بساطتها وسذاجتها أبدع تصوير، وقد يحيد بعض الأحيان عن الواقع ويميل إلى المغالاة في بسط الحوادث ليخلق المفاجأة ويرهف حس القارئ ويأسر لبه، على أن ذلك لا يكون إلا في سبيل فكرة سامية جليلة.
وأول ما يسرك في هذا الكتاب أن صاحبه تمشى فيه مع كتاب القصة الحديثة في أوربا الذين خضعوا راغبين لعلم النفس، فبسطوا النظريات النفسية وحللوا الإنسان تحليلاً دقيقاً على ضوء هذا العلم الجليل الشأن العظيم الأثر، وعنوا عناية فائقة بالغرائز وخفايا اللاشعور، ووفقوا وبرعوا في سبر أغوار النفس البشرية والوصول إلى أعماقها. . وتصوير أدق خلجات الفؤاد، ورد كل ما يجيش في صدر الإنسان وعقله من عواطف وخواطر وانفعالات إلى أسبابه وبواعثه الحقيقية. لقد كشف هؤلاء العلماء الأفذاذ الإنسان البشري - بعد جهل طويل - وجردوه من لباسه المستعار وأبرزوه في ضوء النهار أمام هؤلاء المتزمتين العاجزين الذين يشوهون بنفاقهم حقائق الوجود.
والشيخ عفا الله أولى قصص الكتاب الإحدى عشرة هي أوضح صورة قوية على ما قدمنا، فيها الكثير من التحليل النفسي العميق. فهذا الرجل الذي يحب ويكبت الغريزة فيضطرب ويكاد يجن ثم يضعف أمامها ويتركها تسير في طريقها ويقوم منها على صوت ضميره القوي الملح عليه. . الذي يأخذ عليه دائماً السبيل ويبرز أمامه جرمه مجسماً على أبشع صورة هي قطعة حية من صميم الحياة وصميم النفس وصميم الواقع.
و (قصيدة غرام) هي وصف رائع لحياة طبيب شاعر عاشق فيها الكثير من الصدق والحرارة والإخلاص، وتعرف من خلال سطورها أن المؤلف كتبها بعناية وحرارة، وأنه أفرغ فيها كل فنه، ولولا أنه أقحم فيها مسألة الزواج إقحاماً وجرى في ذلك مع العرف والتفكير المصري الساذج ليوافق هوى القراء فحاد بذلك عن الفن وانحرف عن السبيل لكانت من أروع ما كتب تيمور عن الحب وصور. وفيها إحساس صادق يعرفه المسافرون الراحلون عن أوطانهم. . وليس ذلك لأن المؤلف قام بدور البطل نفسه، بل لأن المؤلف قام بهذه الرحلة - كما يبدو لي - ومن هنا يدرك القراء مبلغ الصدق في التصوير عندما يكون المؤلف جزءاً من البطل فكيف به إذا كان البطل كله؟
ثم قصة (الشيخ علوان) هذا الرجل الذي يضرب بتقاليد المجتمع وأوضاع الناس عرض الحائط ويعيش على هامش الحياة لا يتقيد بعرف ولا يخضع لنظام ولا يتورع عن التزوج بزوجات أخيه الثلاث. . . ولا يأنف من أن يفرض على الموسرين من الشبان ضريبة ليطعم وينعم ويعيش، كما يعيشون وينعمون ويلتذون!. . . لو رأيت الشيخ علواناً هذا في
الطريق لصافحته بحرارة!
ومحمد عوف مجلد الكتب في (الكسيح) هذا الرجل القوي الشخصية الجبار الجسم الذي بسط سلطانه على صبيه، فأسره وأحاطه بالأغلال والقيود، فما استطاع الغلام التملص أو الفكاك من الأسر حتى بعد أن بتر الترام ساقي معلمه وغدا عاجزاً كسيحاً يصب لعنته على الناس أجمعين.
وعادل الدرديري في (إفلاس) هذا الشاب الطموح الجامح القلق، الذي ضاق ذرعاً بالمدينة وتقاليدها وسخفها ومفاسدها ونفاقها، وحن إلى الريف في هدوئه وبساطته وطهره. . فلما اختبره اجتواه وارتد عنه حائراً لا يدري كيف يعيش ولا كيف يعيش هؤلاء السعداء على نسق ونظام وقانون!
وعلى هذا المنوال الحسن باقي قصص الكتاب، وكلها من أقوى القصص المصرية الرائعة.
وأبطال تيمور على العموم مرضى يحيون في دائرة ضيقة خانقة، ويحسون بثقل الحياة عليهم، ومع هذا لا يتحركون ولا يفكرون في التحرك. . لتغيير مآلهم. . أبداً خاضعين مستسلمين لمن هو أقوى منهم، ولهذا لا تأسف على فراقهم ولا ترسل الدمع وراءهم، وهم يخرون صرعى في ميدان الحياة، لأنك تشعر في أعماق نفسك بأنهم لا يصلحون لغير الموت.
وتيمور مغرم بهذا النفر المريض من الناس غراماً كبيراً، وهذا ما كان يعيبه النقاد على تشيكوف، وهو أنه ضيع عمره وقضى حياته في وصف قوم مرضى لا خير فيهم، ولكن هؤلاء المرضى هم غالبية الطبقة العامة التي يصورها المؤلف. وتشيكوف كان يصف روسيا المريضة، وتيمور يصف مصر المريضة أيضاً. . والقصصي الواقعي ينتزع أبطاله من صميم الواقع. . . فإلى أن ينشأ جيل قوي جديد بدل هذا الجيل المريض العاجز سيستمر تيمور يعالج حياة هؤلاء المرضى ويسخر منهم ويتركهم صرعى عاجزين.
وبعد فهذه كلمة قصيرة عن كتاب جديد يستحق عليه صاحبه التهنئة والإعجاب والتقدير.
محمود البدوي
قصص مختارة من الأدب التركي
تعريف خلف شوقي أمين الداودي
181 صفحة - قطع متوسط - طبع مطبعة عيسى البابي
الحلبي
في هذا الكتاب أكثر من خمس وعشرين قصة قصيرة اختارها المعرب لطائفة من أدباء الأتراك الذين تغني شهرتهم عن التقريظ كما يقول! ومن بينها قصص (محاكمة الحاجة فطومة) و (النار الموقدة) - نشرت في الرسالة - و (اعترافات سيدة) و (الكلب بوبي). وهذه الأخيرة فيها القليل من الفن القصصي، أما الثلاث الأولى فكل ما يمكن أن يقال عنها أنها تقرأ.
هذا ونرجو أن يوفق المترجم في كتابه المقبل إلى ما وهو أحسن من هذا وأفضل وإن كنا نرجو لكتابه هذا ما يستحق من تشجيع وتعضيد.
البدوي