الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 172
- بتاريخ: 19 - 10 - 1936
اليوم المشهود.
. .
ذلك يوم الأوبة! وأوبة الزعيم العظيم عنوان من النور على فصل جليل الخطر بارز الأثر من تاريخنا الجديد: تجمعت في هذه الأوبة أشتات من المعاني والمنى، فكان يومها الأغر مظاهرة شعبية هاتفة، جلجل فيها صوت الحق، واستعلى بها شأن الأمة، واستعلن فيها مجد الوطن؛ وكأنما انبثقت في النفوس لأول مرة مشاعر المصرية والحمية والعزة، فكل امرئ يحس بوجوده المستقل، ويُزْهَى بسلطانه القادر، ويفخر بإرادته الحاكمة.
احتفل حَشْدُ الناس يوم الثلاثاء على حواشي الميناء وفوق متون الماء لاستقبال الرئيس الجليل على (كوثر)، وقد عاد إلى وطنه الشاكر الذاكر بتحقيق المسعى وتصديق الأمل؛ فكان هذا الاستقبال النادر مشرق الدلالة على معناه: نَمَّ بهزة السرور عن لذة النصر، وبهشاشة الوجوه عن جمال الشكر، وبحماسة الهتاف عن وجهة الرأي. وكانت الإسكندرية في ذلك اليوم صورة منسقة الألوان مهذبة الأطراف منمنمة الخطوط للقطر كله؛ تمثلت فيها من أعلى الجنوب إلى أسفل الشمال وجوه البلد، وأنماط الزي، ونوازع الهوى، ومرامي النظر؛ فالأندية والمقاهي والمطاعم والفنادق والطرقات والمركبات سيول متدافعة من فنون القول، ولكنها لا تخرج في عنصرها وجوهرها عن تفنيد المعارضة وتأييد المعاهدة وتمجيد الزعيم.
لا أكذِبُ الله، كانت الحجج كثيراً ما تسقط إعياء في حَلْبة الجدل، ولكن
تهافتها كان يرجع إلى ضعف المدافع لا إلى ضعف القضية؛ وكان
الغالب على منطق السواد من وفود البلاد الإيمان الثابت برأي الوفد،
أو الإذعان المريح لحكم الواقع. فهم بقولون مالنا ولجدال المحامين
بمواد القوانين وآراء العلماء ونصوص الكتب؟ إن الوفد لم نجرب عليه
تدليسا في رأي، ولا تفريطاً في حق، ولا توريطاً في باطل، وقد مضى
في ضمان الوحدة والخبرة ففاوض، واطمأن على سلامة الحق والعدالة
فعاهد؛ فإذا قال لنا هذا هو الاستقلال الذي استنفدتم إليه الجهود
والوسائل، وأرخصتم فيه الأموال والمهج، كنا أحرياء أن نقبل عليه
بالسمع، ونخلد إليه بالثقة. ثم تبلغ الثقة الراجحة حد اليقين المحض إذا
عارض هذا القول من نستريب بسياسته ونستوحش من ناحيته. كذلك
يقولون إذا أخرجهم نشاط الحديث. من التسليم الأعمى إلى التدليل
البصير: لا جدال في أن المعاهدة محت الاحتلال وأثبتت الاستقلال
وفتحت السودان، وحطت عن كاهلك امتياز الأجنبي، وأذهبت عن
ضميرك رجس الهون، وجعلتك مطلق السيادة حر الإرادة تحت سمائك
وفوق أرضك؛ فإذا توخينا وجوه الإصلاح الداخلي ونحن على هذه
الحال الجديدة من حرية الرأي والعزيمة والعمل، وبذلنا في سبيله ما
كنا نبذل في سبيل الاستقلال من نقود وجهود وتضحية وزمن، جرينا
من سُبل التقدم إلى أبعد الغايات في أيسر كلفة وأقصر مدة.
كان اسم النحاس ولفظ المعاهدة هتاف المظاهرات وموضوع الخطب وحديث الأندية في الاسكندرية، ذلك لأنهما كلمتان استوعبتا أحفل وأنبل العواطف وأجمل الذكريات من جهادنا المجيد. فالنحاس اسم يشمل الزعامة والوطنية والوفد، ويتضمن أسماء عرابي ومصطفى وسعد، ثم يستغرق كذلك أسماء مكرم والنقراشي وماهر؛ والمعاهدة لفظ يتناول مدلوله أهوال الثورة التي بذرتها، ودماء الشباب التي أسقتها، وأشلاء الضحايا التي غذتها، وجهود الإبطال التي تعهدتها ثم جنتها؛ ثم يشمل كذلك ما قر في أذهاننا من معاني الحرية، وشاع في نفوسنا من مشاعر المجد، وحصل في أيدينا من وسائل السيادة، وامتد في خيالنا من حدود الأمل.
ما أجمل الإسكندرية اليوم! لقد أصبحت خالصة المصرية حتى في الطبيعة والمظهر! الجو راكد الريح زاهق الأنفاس كأنه طلعة المختنق، والبحر راقد الموج مصقول الأديم كأنه صفحة المرآة؛ فلا العباب زاخر يبعث الروعة في القلب الشاعر، ولا النسيم نديٌّ ينضح بالنعيم الجسد المحرور؛ ومع ذلك نراها أقرب ما كانت إلى القلب، وأروع ما تكون في
النفس! لقد ذوب هذا اليوم عنصرها الدخيل كما تذوب حبات الملح في لجج الفرات العذب. لم يبق إلا مواكب الأهلين تشدو بأهازيج النصر، ووفود الأعيان تناقل أحاديث الوطنية، وكتائب الوفدين تنشد أغاني الحماسة، وخطباء المحتفلين يرسلون على أمواج الأثير عواطف مصر الشابة إلى الجهات الأربع.
تجددت مظاهر النصر والشكر والتأييد والفرح في سُوح القاهرة، فكان يوم السبت في مدينة المعز أبهر جلالاً وأروع استقبالاً من يوم الثلاثاء في مدينة الإسكندر! ذكرنا به أيام سعد! وأيام سعد خوالد يتحدين النسيان ويعاجزن البلى، وقد كن لهذه الأيام السعيدة شروقاً وبكرة.
سننعم بأصائل هذه الأيام حيناً من الدهر يقصر أو يطول، ولكن شمسها ستدخل في ملكوت الخيال وعالم الذكرى، ثم لا يبقى في أيدينا من ثمارها غير المعاهدة. والمعاهدة وثيقة الاستقلال في القانون، ولكنها ورقة الامتحان في العمل. ولا ريب أن الذين عرفوا كيف يحررونها، سيعرفون كيف ينفذونها. ومن عمل واليد شلاء، وبلغ والطريق غفلاء، فهل تخشى عليه والسبيل واضحة، والغاية لائحة، والساعد حر والساق طليق؟
أحمد حسن الزيات
الجمهور
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وقال صاحب سر (م) باشا: كان من بعض عملي في الحكومة سنة 1922 أن أُراقبَ الحركات والسكنات، وأبث العيون والأرصاد، وأعرف المضطرب والمنقلب في أيام الفتن ونوازل المحنة، محافظة على الأمن ومبادرة لما يُتوقع؛ فكنت كالمرصد المهيَّأ بآلاته لتدوين حركات الزلازل.
وانتهى إلينا يوماً أن راجفة من هذه الزلازل سترجُفُ بفلان من أهل الرأي الحر الذي يستقلُّ ولا يُتابع، وينتقد ولا يحابي، ويصرِّح ولا يجَمْجمُ، وأن قوماً ثوَّروا عليه الغبارَ الأدميَّ من العامة وأشباه العامة، وأنهم يتحيَّنون الوقت لتوجيه المكيدة له في شكلها المفترس من هذا الجمهور الناقم.
أما فلان هذا فرجلٌ سياسي عنيد أضاع الحقَّ كلَّه لأنه لا يرضى بنصف الحق. . . وكلمته في السياسة كأنما تلقى على لسانه من الغيب فلا يتحول عنها ولا يملك أن يتكلم بما يتكلم؛ وقد ذهب بصوته أنه في قوم لا يسمعون إلا ما أرادوا، فهو بينهم كالحق المغلوب لا يموت لأنه غير باطل، ولا يحيا لأنه لا ينتصر. وقد كان رجلاً كالمصباح الوهَّاج فألقوا عليه الغطاء فإذا هو في طبيعته ويبدو للناس بغير طبيعته، وتركه رأيه الحرُّ الصريح كالنبي المكذَّب يُردُّ عليه صدقُه لا لأنه غير صادق ولكن لأنه غير مستطاع أو غير ملائم.
ومن آفاتنا نحن الشرقيين أننا نستمرئُ العداوة وننقاد لأسبابها ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما في أنفسهم، كأن المستبدين الذين كانوا في تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا؛ فردُّ الفكر على الفكر في مناقشة تجري بيننا - لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد ومن توثُّب الطغيان على الطغيان؛ فهو الثَّلبُ والطعنُ والتجريح، وهو الجفوة والخصومةُ واللَّدَد، وهو المنازعة والعنف والتحامل؛ وهو بهذه وتلك شرّ وفسادٌ وسقوط. والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهي إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهي إلى الشر، والردُّ على عظيم منا كأنه يردُّ على منزلته في الناس لا على منزلته في الرأي، وكشف الخطأ عندنا تعبيرٌ بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب المِلك من مالكه وطرده منه. .
ومن ثمَّ كان الدفاع بالمكابرة أصلاً من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجةً للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلاً للدليل الذي لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كلُّ إنسانٍ نفسه إمبراطوراً على الحق. . . فلا جرَمَ لا تردُّ كلمةٌ على كلمة إلا بحرب.
قال صاحب السر: وكبر الأمر على الباشا فجمع رؤوسَ المؤتمِرين بذلك الرجل الحر، وأخذ يقلّبهم تقليبَه بين التودد والملاطفة، وقال لهم فيما قال: إن فضيلة الجمهور هي التي تضمن تربية الفضيلة وحفظها وغلبتَها على الرذائل، وإن كل صحيح يكون فاسداً إذا لم يكن الجمهور صحيحاً، وإن غير العقلاء هم الذين يقبلون الحقيقة في يوم ثم يرفضونها هي ذاتها في يوم آخر، فإن ذهبتَ تجادلهم وتحتجُّ عليهم بأنهم قبلوها - قالوا: هذا كان أمس. . . فكأنما الفاصل بين زمنين يجعل الشيء الواحد ضدين ثم سألهم: ما هو ذنب الرجل؟ فقال منهم قائل: إنه خارج علينا في الرأي. فقال الباشا: إن المعنى في أنه يخالفكم هو أنكم أنتم تخالفونه؛ فقد تكافأت الناحيتان، وخلافٌ بخلاف؛ فما الذي جعل لكم حقَّ رده عن الرأي دون أن يكون له مثل هذا الحق في ردكم أنتم؟ قالوا: إننا الكثرة. قال الباشا: يا أصدقائي إن خوف الكثرة من رأي فرد أو أفراد هو أسوأ المعنَيَين في تفسير رأيها هي؛ وعشرة جنيهات لا تعبأ بالجنيه الواحد فإنها تستغرقه، بيد أن هذه ليست حالَ عشرة قروش يا أصدقائي. . نعم إن قطعَ الخلاف ضرورة من ضروريات الوطنية، ولكن إذا كان الأمر في ظاهره وباطنه كالخلاف في أيهما أطول: العصا أو المئذنة. .؟ فذلك جدال محسومٌ من نفسه بلا جدال.
إن أساس انخذالنا نحن الشرقيين في قلوبنا إذ لا نعتبر المعانيَ العامة إلا من جهة أنها قائمة بالرجال، ثم لا نعتبر الرجال إلا من ناحية ما في أنفسنا منهم، ثم لا نعتبر أنفسنا إلا من جهة ما يرضينا أو يغضبنا، وقد لا يغضبنا إلا الحق والجِد، وقد لا يرضينا إلا الباطل والتهاون، ولكنا لا نبالي إلا ما نرضى وما نغضب.
لستم أحراراً في أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكن الرأي الذي يعارضكم رأياً حقاً وتركتم منابذتَه فقد نصرتم الحق؛ وإن يكن باطلاً فإظهاره باطلاً هو برهان الحق الذي أنتم عليه؛ ولن تجرّدوا أحداً من اختيار الرأي إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدَّعي أنها الحق ثم تدَّعي لنفسها حكمه، فقد كذبتْ مرتين.
اسمعوا أيها السادة: قامت بين اثنين من فلاسفة الرأي مناظرة في صحيفة من الصحف وتساجَلا في مقالات عدّة، فلما عجز أضعفُهما حجةً وكعَمه الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضِه فبيَّتها ونام عنها على أن يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح أراءه بالحجج التي يفتح بها عليه. قالوا: فلما نام تمثَّلت له المقالةُ في أحلامه جسما حياً موهوناً مترضضاً، مخلوعاً من هنا مكسوراً من هناك، مجروحاً مما بينهما؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله. إن أردت أن تغلب صاحبك وتُسكتَه عنك فاحمل مقالتك إلى رأسه في العصا لا في الجريدة. . .
قال صاحب السر: وضحك القوم جميعاً وأذعنوا وانصرفوا مقتنعين قد خَلُصتْ دِخْلتُهم لذلك الرجل الحر وتفصَّلوا من جريمة كانت في أيديهم، وما جاء الباشا بمعجزٍ من القول ولكن تصويره للمسألة كان حلاً لها في نفوسهم. فلما أدبروا تنفَّس الباشا كأنما خرج من البحر وكان يتعاطى إنقاذ غريق ويعاني فيه حتى نجا؛ ثم قال لي: إن هذا كان جواباً عن شيء في أنفسهم ولكنه هو سؤال عن شيء في أنفسنا: ما الذي يجعل الناس عندنا يخشون المعارضة في الرأي الوطني حتى إنهم ليجازُون عليها بهذه العقوبة الشعبية المنكرة، وما بالهم لا يعطون الرأي حكمه وحقيقته بل يعطونه من حكم أنفسهم وحقائقها وشهواتها المتقلبة حتى لترجع الفروقُ الضعيفة المتجانسة في أبناء الوطن الواحد - وكأنها من الخلاف والمباينة فروقٌ جنسية كالتي تكون بين إنسان من أمة وإنسان من أمة أخرى تعاديها به.
قلت: إن رأى الكثرة قانون باشا.
قال: هذا صحيح ولكن بشرطين لا بشرط واحد: الأول ألاَّ يخرج الرأي على القانون، والثاني ألاَّ تكون الحقيقة في الرأي الذي يناقضه؛ ومحاولة إكراه المعارضة تفضٌ للشرطين معاً. ثم إن أساس الوطنية سلامة القلوب وصفاء النيات واستواء الموافق والمخالف في هذا الحكم؛ ومتى وقع الخلاف بين اثنين وكانت النية صادقة مخلَصَة لم يكن اختلافها إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأيين ما من ذلك بد.
الحقيقة يا بني أن الجماهير ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يُعتدُّ بها إذ لا تزال في أول عمرها السياسي وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبه
إلا نزاع الخصمين بغير شهود ولا قاض نافذ الحكم، فهو نزاع قوة تفوز بوسائلها لا نزاع حق يستعلي بأدلته.
وهذه المجالس النيابية الشرقية كلها صور ممثَّلة جافة منقطعة النماء من أسبابها كالفرع المقطوع من الشجرة، وإنما يتنفّر الفرعُ ويُثمر أثماره إذا قام بشجرته لا بنفسه، وما شجرة الفرع السياسي إلا الجمهور السياسي.
فسبيل الإصلاح في كل مملكة شرقية أن ينهض أهل الرأي من كل مدينة فيها بين عالم وأديب ومحام وسّريّ ومن كان بسبيلٍ من هؤلاء، فيجعلوا لمدينتهم دار ندوة للاجتماع والبحث والمشورة وقول (نعم) بالحجة وقول (لا) بالحجة. ثم يعلنون ذلك في جمهورهم وينزلون منه منزلة الأستاذ والأب والصديق في تعليمه وهدايته وإرشاده؛ وتتصل هذه الدورُ في كل مملكة بعضها ببعض وتنتهي بالمجالس النيابية. وبغير ذلك لا يُملأ الفراغ الذي نراه خاوياً بين الشعب والحكومة وبين الكبراء والجماهير، وإنما أكثر مصائبنا من هذا الفراغ فهو الذي يضيع فيه ما يضيع فيه ويختفي ما يختفي.
منا قومٌ موظفون في الحكومة؛ ولكن أين القوم الذين تكون الحكومة نفسها موظفةً عندهم؟
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
أنقذوا تراث الأندلس
واجب الأمم العربية والإسلامية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قرأنا في الأنباء الأخيرة أن مندوب بوليفيا (من جمهوريات أمريكا الجنوبية) لدى عصبة الأمم قد أثار أمام إحدى لجان العصبة مسألة الآثار الفنية في أسبانيا وما يهددها من الأخطار من جراء الحرب الأهلية الطاحنة التي تجتاح أسبانيا من أقصاها إلى أقصاها، وطلب أن تعمل العصبة لحماية هذه الذخائر الفنية ولا سيما في الأماكن التي تهددها ويلات الحرب.
ونحن نعرف أن عصبة الأمم لا تملك وسيلة للتدخل الفعلي في المأساة الأسبانية، ولا تستطيع مع الأسف أن تعمل شيئاً لحماية الآثار الفنية في أسبانيا.
بيد أن لهذه الصيحة الكريمة التي يرسلها مندوب بوليفيا قيمتها وأهميتها في تذكير العالم المتمدن بأن في أسبانيا تراثاً فنياً بديعاً هو اليوم رهين القدر، ووشيك التبدد والفناء، إذا لم تتداركه يد الحماية والغوث.
وهذه صيحة يجدر بنا أن نرددها. ذلك أن بين هذا التراث الذي تحدق به الأخطار من كل صوب بقية نفيسة من تراث الإسلام في أسبانيا: هنالك في غرناطة الحمراء وجنة العريف وأبهاؤهما ونقوشهما الرائعة، وهنالك في أشبيلية قصر بني عباد، وبرج (الجيرالدا)، وهنالك في قرطبة مسجدها الأموي الجامع الذي ما زال رغم تحويله إلى كنيسة من أروع الآثار الإسلامية، وهنالك تراث الإسلام الفكري في قصر الأسكوريال؛ وهنالك آثار ونقوش إسلامية كثيرة في معظم المتاحف والمدن الأسبانية؛ وكلها مما يلقي أعظم ضياء على تاريخ أسبانيا المسلمة وحضارتها في أزهر وأمجد عصورها.
ولقد كنا أول من أرسل هذه الصيحة منذ بدء الحرب الأهلية الأسبانية، إذ كنا يومئذ على مقربة من أسبانيا مسرح المأساة، وقرأنا فيما قرأنا من أنبائها أن طيارات حكومة مدريد قد ضربت مدينة غرناطة بالقنابل (وغرناطة ومعظم قواعد الأندلس الأخرى ما زالت بيد الثوار)، وأن قنابل قد سقطت على قصر الحمراء فأتلفت بعض جدرانه، فأثار هذا النبأ في نفوسنا شجناً وأسى، وكتبنا يومئذ نلفت نظر العالم المتمدن، ونظر العالم الإسلامي خاصة
إلى ذلك الخطر الداهم الذي يهدد تراث الإسلام في أسبانيا.
وهذه مأساة القصر (الكاثار) المروعة بجوار طليطلة، وقد خرب فيها حصن القصر القديم الذي يرجع معظم بنائه إلى العصر الإسلامي.
وفي الأنباء الأخيرة أيضاً أن زعماء الثورة رأوا أن يجتذبوا ولاء الجنود المغاربة وأن يثيروا حماستهم بأن يسمحوا لهم بإقامة الصلاة في جامع قرطبة الكبير الذي هو اليوم كنيسة جامعة؛ ونحن نغتبط إذ يستطيع المسلمون أن يؤدوا شعائرهم في ذلك المسجد الجامع القديم الذي هو أبدع آثار الدولة الأموية في الأندلس؛ ولكنا نخشى أن تؤدي الفوضى العسكرية في مثل هذه الظروف إلى تشويه هذا الأثر الإسلامي الخالد أو تخريبه.
والآن يزحف الثوار على مدريد ويطوقونها من الشمال والجنوب والغرب؛ وتضطرم حول العاصمة الأسبانية وفي سمائها حرب طاحنة لا يقف المتحاربون فيها عند شيء ولا يفرون شيئاً؛ وفي مدريد متحف يضم كثيراً من الآثار والنقوش الإسلامية؛ وعلى مقربة من مدريد تقع ضاحية الأسكوريال، وفيها الدير المسمى بهذا الاسم والقصر الملحق به الذي يضم المكتبة العربية الشهيرة؛ فالآن وهذه المعارك الطاحنة تدور حول مدريد بين جيوش الحكومة وجيوش الثورة، ماذا يكون مصير الأسكوريال ومصير الآثار والكتب العربية؟ هذا سؤال نردده جزعين خصوصاً بعد الذي رأينا من روعة هذه الحرب التي تجتاح في طريقها كل شيء ولا تقف عند أي اعتبار إنساني.
لقد عملت أسبانيا النصرانية في إبان غلوائها وتعصبها على تبديد معظم تراث الإسلام، وكانت يوم مصرع الأندلس، ويوم كانت لا تزال تضطرم بروح العصور الوسطى، تعتبر هذا التراث رجساً يجب أن يمحى من أرضها ومن تاريخها القومي؛ فلم تمض أعوام قلائل على سقوط غرناطة حتى أمر الكردينال كمنيس بالكتب العربية فجمعت من سائر الأنحاء وأحرقت أكداساً في أكبر ميادين غرناطة، وكان منها ألوف مؤلفة من كتب الدين والفقه والتاريخ والأدب وغيرها، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والرياضة وهبت لجامعة الكالا (القلعة) التي أنشأها كمنيس، وأبيد بتلك الجريمة البربرية التي ارتكبت عام 1499 معظم تراث الأندلس الفكري.
ومع ذلك فقد بقيت من الكتب العربية في أسبانيا مجموعة كبيرة أودعت في أقبية
الأسكوريال، وأخفيت بعناية عن نظر كل باحث ومتطلع؛ وكان عددها حتى أواسط القرن السابع عشر يبلغ نحو عشرة آلاف مجلد؛ ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس، ففي سنة 1671 شبت النار في الأسكوريال والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين، هي التي عهدت الحكومة الأسبانية في منتصف القرن الثامن عشر إلى العلامة اللبناني ميشيل الغزيري ببحثها وتصنيفها في فهرسة الجامع، وهي التي بقيت إلى يومنا من تراث الأندلس.
هذا عن تراث الأندلس الفكري. أما عن الآثار المادية، فقد حولت جميع المساجد الجامعة إلى كنائس، وتناولتها يد التدمير بالهدم والتحوير، وضحيت جميع الذخائر والاعتبارات الفنية في سبيل تحقيق الشهوات الدينية؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى كادت آثار الإسلام كلها أن تمحى من أسبانيا؛ ولم يبق منها سوى حمراء غرناطة ومسجد قرطبة والقصر في أشبيلية ومجموعة من اللوحات والتحف والنقوش الأثرية في متاحف مدريد وقرطبة وبنبلونة وأشبيلية وغيرها.
هذه البقية الباقية من تراث الإسلام في أسبانيا يحدق الآن بها خطر داهم، ويخشى بحق أن تمتد إليها يد التدمير التي تحطم الآن كل شيء في طريقها؛ فهل تبقى الأمم الإسلامية على صمتها وجمودها حتى تقع الفاجعة ويمحى ذلك التراث العزيز تحت وابل النار والقنابل، أم يجدر بالأمم الإسلامية أن تحذو حذو مندوب بوليفيا لدى عصبة الأمم فترفع صوتها مطالبة بالعمل لإنقاذه وحمايته؟ نعتقد أن الأمم الإسلامية المختلفة تستطيع أن تبذل على يد حكوماتها من المساعي في هذا السبيل ما يكفل لفت نظر الفريقين المتحاربين في أسبانيا إلى احترام هذا التراث المقدس الذي لا يعني أمره أسبانيا وحدها، بل يعني أمره العالم العربي والإسلامي أيضاً، ويعني أمره العالم المتمدن بأسره.
ولسنا نعرف أي سبيل ستتخذ عصبة الأمم إذا استجابت لدعوة مندوب بوليفيا، وهي بلا شك سوف تحلها مكانها من الأهمية والعناية؛ وليست الوسيلة مما يهم في الواقع، وكل ما يهم هو أن يصل هذا النداء إلى حماية الآثار والذخائر الفنية إلى الفريقين المتحاربين في أسبانيا؛ وإذ لم يكن في وسع الأمم والحكومات ذات الشأن أن تساهم في هذه الدعوة بطريق مباشر، وأن تتصل في ذلك بطريق الثوار، وهم يسيطرون على أشبيلية وقرطبة وغرناطة،
فلا بأس من أن تساهم فيها على يد عصبة الأمم ذاتها.
ونحن نعرف أن حوادث الحرب الأسبانية، ووسائلها المخربة، ومناظرها المؤسية، كانت مثار الروع والأسى في جميع الأمم المتمدنة، ونعرف أن حكومات بعض الدول العظمى قد فكرت في أن تقوم بالسعي في سبيل تخفيف ويلات هذه الحرب الأهلية الطاحنة، وحمل الفريقين المتحاربين على اتباع القواعد الإنسانية، وربما بذلت بعض النصح في هذا السبيل؛ ولا ريب أن تحطم الآثار والذخائر الفنية لا يقل شناعة عن سفك الدماء ذاته، ومن أقدس واجبات الجيوش المتمدنة أن تحرص على قدسية هذا التراث الفني وصونه من كل اعتداء.
هذا ويجدر بالهيئات العلمية والثقافية في الأمم العربية والإسلامية أن تتخذ الخطوة الأولى في هذا السبيل، فتبث إلى حكوماتها المختلفة ما يساورها على مصير الآثار الأندلسية من جزع، وترجوها أن ترفع صوتها الرسمي بالدعوة إلى حمايته، وأن تبذل في ذلك السبيل ما استطاعت من السعي الودي؛ وفي وسع هذه الهيئات العلمية والثقافية أيضاً أن تذيع دعوتها في الصحافة الدولية، فللصحافة الدولية صوت مسموع، وفي وسعها أن تقوم بدور في هذا الشأن، وهي ما زالت تنوه بشناعة الإجراءات والوسائل المخربة التي ترتكب خلال الحرب الأسبانية؛ وقد لفتت نظرها فظائع موقعة القصر الأخيرة، وما أصاب القصر من حرق وتخريب، فأخذت تنوه بهذه الخسارة الأثرية وبالخطر الداهم الذي يهدد تراث أسبانيا الأثري والفني من جراء هذه الحوادث؛ وعلى أثر ذلك ارتفع صوت مندوب بوليفيا في أرجاء عصبة الأمم بمثل هذا النذير.
وهانحن أولاء نردد هذا النذير بدورنا؛ ونحن على يقين من أنه سيحدث صداه وأثره في جميع الهيئات العلمية والثقافية في الأمم العربية والإسلامية؛ وإذا كانت بوليفيا، تلك الجمهورية النائية في أعماق أمريكا الجنوبية قد حفزتها البواعث التاريخية والإنسانية على أن توحي لمندوبها أن يلقي نداءه أمام عصبة الأمم، فأولى وأجدر بالأمم الإسلامية أن تلبي داعي الواجب والمساهمة في هذا المسعى الكريم الذي يبذل صوناً لتراث الإسلام في أسبانيا.
محمد عبد الله عنان
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
تتمة
- 6 -
وقبل أن نختم بحثنا هذا نقول كلمة مختصرة في أثر هذه النظرية في الفلسفة المدرسية اليهودية والمسيحية، وفي بعض فلاسفة العصور الحديثة، وفلسفة اليهود في القرون الوسطى، أو بعبارة أدق الدراسة اليهودية الفلسفية في ذلك العهد هي في الواقع صدى للفلسفة الإسلامية، واليهود هم خلفاء العرب على تراث أرسطو والفلاسفة الآخرين، وقد فازت الفلسفة على أيديهم منذ القرن الثالث عشر الميلادي فوزاً عظيماً، وأضحوا أنصارها طوال القرون الثلاثة التالية حين خذلتها الشعوب الأخرى، فأخذوا الأفكار العربية أو المعرَّبة ونقلوها إلى لغتهم وتدارسوها فيما بينهم، وتتلمذوا لفلاسفة الإسلام تلمذة صادقة مخلصة، ودون أن نستقصي هنا كل مفكريهم نكتفي بأن نشير إلى شيخهم الأعظم وأستاذهم الأكبر موسى بن ميمون الذي يعد بحق الممثل الأول للفلسفة اليهودية المدرسية، وإذا ما ذكر ابن ميمون ذكرت الفلسفة الإسلامية على الفور، فقد اعتنق كل نظرياتها تقريباً، وصادفت نظرية السعادة بوجه خاص من نفسه هوى، ووجد فيها مجالاً فسيحاً للتوفيق بين الفلسفة والدين، فهو يعتقد أن البحث والثقافة سبيل الكمال الإنساني، وأن العلم هو العبادة الحق التي يستطيع العبد التقرب بها إلى ربه وكشف الحقائق الغامضة؛ وكلما أمعن الإنسان في الدراسة والنظر كلما ازداد قرباً من ربه، ويشبه ابن ميمون الخالق والخلق في رتبتهم المختلفة بملك عظيم يسكن قصر منيفاً في مدينة كبيرة، وسكان هذه المدينة بين المعجب بهذا القصر المصوب النظر إليه، والغافل عنه المعرض عن جماله وجلاله، ومن فتنوا به قد يدفعهم الشوق إلى السعي نحوه والطواف حول جدرانه الفخمة، وربما اقتحموا عتبته وانسابوا إلى حدائقه وأفنيته الملأى بالأزهار والرياحين والمناظر البهجة، ومنهم من يقنع بهذه الغاية ولا يطلب وراءها مزيداً، وذوو النفوس السامية والهمم العالية يأبون إلا التشرف
بالمليك في حضرته والإصغاء إلى حديثه والتمتع برؤيته، وحينذاك يحظون بالغبطة الدائمة والنعيم المقيم، وواضح أن هؤلاء الماثلين في الحضرة الملكية هم من فازوا بالسعادة الفارابية، والمليك الذي يرمز إليه ابن ميمون ليس شيئاً آخر سوى العالم الروحاني الذي نسعى إلى الاتصال به.
تأثر فلاسفة القرون الوسطى المسيحيون كذلك بكثير من الآراء الفلسفية الإسلامية، ولم يكن التصوف الفارابي بوجه خاص بالغريب عليهم، ذلك لأن المسيحية نفسها تشايع الأفكار الصوفية في جملتها وتدعو إلى قدر منها غير قليل، وإذا كانت الأشياء كلها صادرة من الله وعائدة إليه فخطيئة عظمى أن ينسى المخلوق خالقه أو أن يتراخى في السعي نحوه والقرب منه. على أن الوصول إلى الذات الأقدس ليس بالعسير في رأي المتصوفين المسيحيين، فإنا ندنو من الله كلما خففنا أحمالنا وعرضنا عن شواغل الحياة، وقد كتب المسيو جلسون أستاذ الفلسفة المدرسية المسيحية الآن في (كلويج دي فرنس)؛ وهو الحجة في هذا الباب فصلاً ممتعاً في نظرية الحب المسيحية وأبان ما انطوت عليه من مدلولات خفية ونزعات صوفية، ومحبة الله هي السبيل الذي يقربنا منه ويقودنا إلى السعادة الفارابية، ويجب أن نضيف إلى هذا أن السعادة التي تعشقها الفارابي تعتمد على قوة أخرى وتستمد نفوذاً آخر من سلطان عظيم، ألا وهو سلطان أرسطو الذي استولى على القرون الوسطى المسيحية استيلاء تاماً منذ القرن الثالث عشر للميلاد. فإن هذه السعادة أشبه ما يكون (بالأديمونيا) الأرسطية؛ وقد أسلفنا القول فيما بينهما من صلة. لذلك لم يتردد كثير من أنصار أرسطو المسيحيين في اعتناق هذه النظرية وإن حاربوا في عنف غيرها من آراء الفلاسفة المسلمين. فألبير لجراند وسان توماس يتحدثان عن عقل مقدس هو في الغالب ابن (للروح القدسية) التي أشاد بذكرها الفارابي من قبل. وسان توماس يقرر في وضوح أن سرور النفس وغبطتها تنحصر في تأمل الحقائق الأزلية. فالسعادة الفارابية أثرت إذن في يهود القرون الوسطى ومسيحييها على السواء، وليس بعزيز علينا أن نبين المصدر الذي أخذ عنه المسيحيون هذه النظرية، فقد قرءوا عنها شيئاً فيما ترجم من رسائل الفارابي إلى اللاتينية ووقفوا عليها مفصلة في مؤلفات ابن سينا وابن رشد وفي كتاب موسى بن ميمون المشهور (دلالة الحائرين) الذي استقى منه الغرب كثيراً من الأفكار
الشرقية.
لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة، وذلك أنا نجد لدى واحد كاسينوزا أو لَيْينتز آراء كثيرة الشبه بآراء فلاسفة الإسلام: فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبهاً عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين، خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى. وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بينها وبين فلسفة العصور الحديثة دراسة منظمة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها؛ فقد عرف اسبينوزا كتاب دلالة الحائرين وعني به عناية كبيرة، كما عرفه ليبنتز وأثنى عليه ثناء مستطاباً فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. ويخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية، وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة.
ويمكننا أن نلاحظ كذلك وجوه شبه بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية الحديثة، وخاصة لدى اسبينوزا الذي تربطه بالفارابي أكثر من علاقة واحدة. فكلاهما يعد السعادة غاية لمذهبه الفلسفي؛ ويعملان على تحقيقها بوسائل متماثلة. وكلاهما صوفي النزعة في سلوكه وآرائه، وتصوفهما عقلي نظري مبني على العلم والدراسة. ونظرياتهما الكلامية متقاربة ومتشابهة؛ فصفات البارئ عند الفارابي لا تختلف كثيراً عنها لدى اسبينوزا. الله في رأيهما علم ومعلوم وعالم في آن واحد، وهوية وماهية معاً؛ هو مسبب الأسباب والجوهر المطلق أو الجوهر الوحيد. فهو موجود بنفسه وجوداً أزلياً قديماً، وكل الكائنات تستمد جودها منه. وعلى هذا نرى أن الفيلسوف العربي والفيلسوف الإسرائيلي يقولان بمذهب وحدة الوجود. وإذا كانت النفوس البشرية قد استمدت وجودها من الله فهي دائماً في نزوع إليه؛ وكمالها في أن تتجه نحوه وتقترب منه وتحبه حباً صادقاً. وهذا هو الحب الفلسفي الذي يتغنى به اسبينوزا، ويرى فيه لذة لا تنقطع وغبطة تجل عن الوصف.
الآن وقد تتبعنا نظرية السعادة الفارابية منذ نشأتها إلى أن أسلمناها إلى العصور الحديثة
نستطيع أن نقرر أن المشائين من العرب أثروا فيمن جاء بعدهم تأثيراً واضحاً. فأفاد منهم مفكرو الإسلام لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم في نواح كثيرة، وإن تحاملوا عليهم وحاربوا معظم نظرياتهم. وأخذ عنهم رجال الفلسفة المدرسية من يهود ومسيحيين كثيراً من آرائهم وأفكارهم. ولم يقف أثرهم عند القرون الوسطى بل تعداها إلى العصور الحديثة، وقد أوضحنا فيما سلف وجوه الشبه بين بعض النظريات الفارابية والآراء الأسبينوزية، نحن لا ندعي طبعاً أن الفلسفة الإسلامية أثرت تأثيراً مباشراً في رجال العصر الحديث وجماعة الديكارتيين بوجه خاص؛ فأن أحداً منهم لم يعرف العربية. ولكن الأفكار الإسلامية نفذت إليهم، فيما نعتقد، عن طريقين: طريق اليهود وطريق المسيحيين، ففيما كتب موسى بن ميمون مثلاً أو سان توماس ما يحكي بعض الأبحاث الإسلامية. وإذا كانت الفلسفة الإسلامية نفسها لا تزال غامضة ومجهولة، فبديهي أن يبقى أثرها في طي الخفاء، ولا سيما إذا كان هذا الأثر متعلقاً بناحية يزعم الناس أنها بمنأى عن التأثير. فقد شاع خطأ أن ديكارت يفصل فصلاً تاماً بين عهدين، وأنه أب لفلسفة لا تحمل في ثناياها شيئاً من آثار الفلسفات السابقة، غير أن هذه الفواصل المزعومة بين العصور قد انمحت، وهذه السدود المقامة باطلاً بين مراحل التفكير الإنساني قد انهارت. وقد ثبت فعلاً أن ديكارت سبق إلى كثير من أفكاره في القرون الوسطى المسيحية، كما أن مذهب ليبنتز مثلاً يقترب من الفلسفية المدرسية والإغريقية بقدر قربه من النظريات الديكارتية. فلم لا نحاول بدورنا أن نوازن بين شك ديكارت وشك الغزالي؟ ولم لا نبحث عن أصل للتفرقة الأسبينوزية بين الذات والوجود عند الفارابي كما بحثنا عنه لدى كثير من الفلاسفة المتقدمين، إنا إن فعلنا خدمنا القرون الوسطى والتاريخ الحديث، وألقينا جزءاً من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، وقمنا بقسطنا في ربط الفلسفة الإسلامية بسلسلة التفكير الإنساني.
ولنا رجاء آخر، وهو أن تتجه الجهود نحو العصور المتأخرة من تاريخ الثقافة الإسلامية؛ فإن ما كتب عنها لا يكاد يذكر ومعلوماتنا عنها محدودة للغاية. وقد حاول هورتن في أبحاث متفرقة أن يوضح جانبها الفلسفي؛ إلا أن أبحاثه غير ناضجة، وهي أشبه ما يكون بمقدمات لدراسة كاملة لم تبدأ بعد. وأما اللغة والتشريع والتوحيد والتصوف فلا تزال في طي الكتمان تماماً. ومن غريب المصادفات أن أحد قراء (الرسالة) بعث إلينا، ونحن نكتب هذه
الكلمة، مستفسراً عن بعض أبيات للصوفية المتأخرين. فالجمهور المثقف يشعر إذن بهذا النقص ويشاركنا في الشكوى منه، وعل أغمض شيء في هذا الدور حقيقة هو تاريخ التصوف على الرغم مما فيه من طرافة، وما له من أهمية اجتماعية وفلسفية. نحن لا ننكر أن عصور الظلام ثقيلة على النفس وليس فيها شيء كثير يجتذب الباحث أو القارئ، هذا إلى قلة مصادرها وتعذر السير فيها والاهتداء إلى معالمها. بيد أن ربط حاضرنا بماضينا يستلزم أن نجلي غامضها وندرسها دراسة كافية.
إبراهيم بيومي مدكور
في الأدب المقارن
الطبيعة
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الطبيعة إلف الشاعر الحميم، وتوأم روحه، ومرتع فكره ومتاع بصره، ومهبط وحيه، ومعاهد متاعه وذكرياته، إلى ظلالها يسكن، وبين محاسنها يهيم، وعندها ينفض أوشاب العيش ويطرح أعباءه، ويستريح فكره الذي أنضاه التعب، ونفسه التي أضجرتها معاشرة الناس، وتتهادى إليه عذارى الشعر طائعة، وتسلس إليه شوارد الأفكار مقادها، ويظل يلتفت إلى ماضي أوقاته بين مباهجها بحنين عذب، ويأمل معاودتها بقلب شيق؛ فلا غرو يكون للطبيعة في نفس الشاعر المطبوع مكان أثير، وفي أدب الأمة الراقية منزلة رفيعة.
وقد نالت الطبيعة لدى أدباء الإنجليزية في أغلب عصورها هذه المكانة التي هي بها جديرة: فعكفوا جيلاً بعد جيل وأديباً إثر أديب على وصف مظاهرها وعبادة مفاتنها، وملئوا جانباً كبيراً من نظمهم ونثرهم بأوصاف الوديان اليانعة، والربى الحالية والأمواه الجارية، والأطيار الصادحة والأفلاك الدائبة والغيوث الساجمة، ووصفوا الطبيعة في حالي رضاها وغضبها، وابترادها ودفئها، واكتسائها وعريها.
وتوسلوا للتعبير عن فرط هيامهم بمحاسنها المتجددة بشتى الوسائل: فبثوا أوصافها في رواياتهم الشعرية وقصصهم النثرية، كما فعل شكسبير وهاردي، وطاروا على أجنحة الخيال إلى الوديان السحرية، والغابات المجهولة، والشواطئ النائية، يرصعون كل أولئك ببدائع الأوصاف ونقثات العواطف، وعبادة الجمال الطبيعي، متخذين مسرحاً لكل ذلك خرافات الأقدمين كما كان يفعل سبنسر وكولردج وتنيسون وبروننج، أو جنات الفردوس كما فعل ملتون.
ومن أولئك الشعراء من يدينون بخلودهم لأوصافهم الطبيعية الرائعة، وقلما يهتم أحد اليوم لما نظموه في النسيب أو الاجتماع أو السياسة، مثل تنيسون، بل منهم من لم يكد يؤثر عنه قول في غير الطبيعة، أو تخلو قصيدة له من أثرٍ لها، مثل وردزورث. ولا غرو فالطبيعة
مادة الشعر وصميمه، ولربما عَرَضَ في القصيدة قد نُظمَتْ في أي غرض كان بيتٌ أو بيتان يحويان وصفاً طبيعياً بديعاً، فإذا هما يرفعان من قدرها ويحببانها إلى النفوس ويكونان سبب اشتهارها وسيرورتها.
ولا ندحة عن القول بأن الطبيعة لم تنل هذه الرعاية ولم تحتل هذه المكانة في الأدب العربي، ففي العربية لا ريب أوصاف طبيعية بالغة غاية الجودة، ولكنها قليلة إذا قيست بنظائرها في الإنجليزية، قليلة إذا قيست بما نظم أو نثر في العربية ذاتها في غير الطبيعة من أغراض، فليس ما قيل في وصف جمال الطبيعة ببالغ عشر معشار ما قيل في التشبيب بالجمال الإنساني، ولم يُعرف من شعراء العربية من قَصرَ شعره على التغني بمباهج الطبيعة، وإن منهم لَمنْ قَصرَ قوله على النسيب بهند وليلى وأترابهما.
وقلما جاءت أوصاف محاسن الطبيعة مقصودة لذاتها مستقلة بنفسها في قصيدة أو رسالة، بل كان ذكرها غالباً يأتي عرضاً كأنها غير جديرة وحدها بالتفات الشاعر وتكلُّفه عناء النظم، وكانت تستعار مظاهرها وأحوالها لبيان أغراض أخرى عن طريق التشبيه تُرصَّعُ القصيدة بفنونه، وجاء أصحاب المجموعات الشعرية الذين اختاروا صفوة أشعار العرب في أقوى عصور الأدب، كأبي تمام والمفضل الضبي، فما أفردوا للطبيعة باباً من أبواب مختاراتهم، وإنها لأجدر بالصدر.
وكان فحول الشعراء ينصرفون عن وصف محاسن الطبيعة التي تكتنفهم، ومفاتن الجنات الزاهية التي كانت مهاد الدولة الإسلامية، بمروجها وأنهارها وجبالها وأجوائها، إلى وصف قصور الأمراء وحدائقها ونافوراتها وبركها الصناعية، فالبحتري يعرض ببصره عن جبال لبنان الفاتنة متجهاً إلى مقاصير ابن خاقان:
تلفتُّ من عليا دمشق ودوننا
…
للبنان هضب كالغمام المعلق
إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما
…
ذممت مقامي بين بصرى وجلق
رباع من الفتح بن خاقان لم تزل
…
غنى لعديم أو فكاكا لمرهق
ولابن المعتز وابن حمديس وابن خفاجة شهرة بوصف الطبيعة، ولكن كثيراً من أشعارهم يتسم بالفتور ويصطبغ بالصنعة وترين عليه مسحة التكلف والتظرف، وتنقصه حرارة الهيام بالطبيعة والامتزاج بروحها والنفاذ إلى خفي معانيها وأسرارها، وتجري في أشعارهم
تشبيهات تكررت حتى مُلَّت: فالأصيل ذهب والحصباء در والنسيم ينسج من الماء درعاً، ويُفسد الكثير من تلك الأشعار الحرصُ على حسن التعليل كقول ابن حمديس في نهر:
جريح بأطراف الحصى كلما جرى
…
عليها شكا أوجاعه بخريره
فشتان بين خرير النهر الحي المتدفع وبين الجراح والشكوى والأوجاع، وأمثال هذا القول تدل على شعور زائف وملاحظة سطحية.
وبعض أولئك الشعراء إذا استهزتهم فتنة الطبيعة وصفاء الأوان، نظموا في ذاك أبياتاً شفعوها للتو بدعوة لصديق أو عشيق أو نديم يناشدونه أن يتحفهم برفقته ويعجل لهم بالراح والأوتار، فالبحتري بعد أن تأنق في وصف الربيع قال:
فما يحبس الراح التي أنت خلها؟
…
وما يمنع الأوتار أن تترنما؟
وغيره يقول:
ولما حللنا منزلاً طله الندى
…
أنيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجد لنا طيب المقام وحسنه
…
مني فتمنينا فكنت الأمانيا
ولا يدل هذا على كبير شغف بالطبيعة أو حسن فهم لجمالها، وليس بمشغوف بالطبيعة ولا فاهم لأسرارها من لا تكفيه مفاتنها السافرة حتى يستعين لإكمال سروره بالسَّمَر والغزل والغناء والسكر، وإن أحب ما تكون الطبيعة إلى عاشقها الصادق لحينَ يصحبها وحيداً، فهو يرى مفاتنها خير رفقة له وخير مؤانس لمهجته.
وقد حظي الربيع دون غيره من الفصول بالتفات شعراء العربية، كأن الربيع وحده هو فصل الجمال والصفاء والحبور، وبقية الفصول أوانٌ لكسب الرزق واحتمال قبح الحياة، كما قال الطائي:
دنيا معاش للورى حتى إذا
…
جاء الربيع فإنما هي منظر
ولو درى لعلم أن هذه الدنيا منظر لمن شاء أن يرى ويشعر في كل الفصول وفي جميع حالاتها ومظاهرها، وإن للشتاء لروائعه وجاذبيته كما للربيع، وإن جميع مجالي الطبيعة وأشكالها لمسارح للب الشاعر ومجالات لفنه وتصويره، وقد تغنى شعراء الإنجليزية بفتنة الخريف كما ترنموا بسحر الربيع، واستجاشهم غضب اليم وتجهُّم الأفق كما استهواهم صفاؤهما ووداعتهما.
ومن شعراء العربية من يضيق باعهم في وصف الطبيعة قبل أن يقولوا في المنظر المجلو أمامهم أبياتاً، ويدركهم العجز والإحالة فيسبحون بقدرة البارئ ووحدانيته، كما قال النواسي:
على قضب الزبرجد شاهدات
…
بأن الله ليس له شريك
وقول أبي تمام:
صبغُ الذي لولا بدائع لطفه
…
ما عاد أخضر بعد إذ هو أصفر
فقدرة الخالق أمر لا شك فيه، والإشارة إليها في هذه المواقف سذاجة في القول والتواء في استرسال الفكر، وهرب من مواصلة التأمل والوصف، والموقف موقف استمتاع بالجمال وتصوير له، لا موقف وعظ وخشوع. وأزن هذين البيتين بقول تنيسون في زهرة ضئيلة:(أيتها الزهرة النامية بين شقوق الجدار، ها قد انتزعتْك أناملي، وهاأنت كلك محمولة في كفي، بيد أني لو استطعت استكناه سرك لعرفتُ سر الله والإنسان جميعاً) فهذا شاعر يفكر ويتأمل ويتوق إلى المعرفة، وذانك شاعران يسلمان تسليم العجز، فلا أجادا التصوير ولا استرسلا في التفكير.
فأغلب شعر الطبيعة في العربية - على قلته - تنقصه حرارة الشغف بها وطول مصاحبتها وممازجتها روحاً بروح، وإدمان التأمل في محاسنها ومحاولة النفاذ إلى معانيها، وصدق التعبير عن وحيها ودقة الوصف لمجاليها المتعددة، وظلَّ الالتفاتُ إليها دائماً ثانويا، والانتباه إليها عرضياً، والأُنس بها وقتيا وشيك الزوال.
بل كان من فحول العربية من كأن بينهم وبين الطبيعة حجاباً كثيفاً، فندر أن أعاروها بالاً، ولم يقع ذكرها في شعرهم ونثرهم، إلا وقوع الغلط، كالمتنبي والشريف الرضي، برغم كثرة أسفار الأول بين العواصم والفلوات، وقد صرف الكُتَّاب صناعتهم إلى كثير من وجوه البيان، فلم يختصوا الطبيعة بكبير عناية، وتوخى بديع الزمان في مقاماته أن يضرب في كل ناحية من نواحي القول بسهم، ليبدي براعته للقارئين، إلا الطبيعة فأنها لم تفز منه بالتفات.
فالعربية تكاد تقفز من الوصف الطبيعي السامي لذاته، لولا شاعر فرد هو ابن الرومي الذي تنطق أشعاره بحبٍّ للطبيعة عميق، وانجذاب لسحرها لا يدافع، ونظر في محاسنها وأغوارها نافذ، وقد أنشأ لوصف مختلف مظاهرها قصائد كثيرة، أودعها خير ما في
العربية من وصف الجنان والفلوات، والأصائل والأسحار، والغيم والمطر، والطير والوحش، وشعره في كل هذا يضارع أسمى ما في الشعر الإنجليزي.
وضآلة حظ الطبيعة في الأدب العربي راجعة إلى عوامل متتابعة توالت على الأدب في مختلف عصوره، فحالت دون أن يكون ترجمانا صادقاً مبيناً لشعور أصحابه في هذا الباب، وهي أولاً بداوة العرب في أول تاريخهم، وثانياً تكسب الشعراء بشعرهم في عهد الحضارة والدولة، وثالثاً شدة محافظتهم وتقليدهم للمتقدمين، وأخيراً تغلب الصنعة اللفظية في عهد تدهور الأدب.
فوصف محاسن الطبيعة وآثارها في النفس وصفاً مسهباً محكماً مقصوداً لذاته عمل فني لا يتأتى إلا بأعمال الفكر ورياضة النظم، وهو مالا يتيسر في عهد البداوة، فضلاً عن أن المناظر الصحراوية واحدة متكررة صارمة لا تحفز إلى التصوير الشعري المسهب كما تحفز إلى التأمل في الخالق ورهبته وحكمه صنعه، وقد ظلت هذه النزعة الدينية التي بثتها البادية في نفوس العرب، وكانت التنشئة الدينية في العصور التالية تنميها فيهم منذ الصغر، مصاحبة لهم فيما بعد، تغْلبُهم على الاستمتاع بروائع الجمال الطبيعي وآيات الفن الإنساني، فنرى شاعرهم إذا وقف بمنظر فتان أو أثر خلَّفه القدماء فسرعان ما ينصرف عما ثمت من معاني الجمال أو القوة إلى التسليم بعظمة الخالق وضعف المخلوق وفناء الأفلاك وسقوط الجبابرة، وقد سبق التمثيل لشيء من ذلك، والبحتري يقول:
أناة أيها الفلك المدار
…
أنهب ما تصرف أم جُبار؟
ستَفنى مثل ما تُفنى وتَبلى
…
كما تُبلى فيدرَك منك ثار
ولما تحضر العرب وشاهدوا الأقطار الواسعة ونعموا في الجنات اليانعة، ودخل أدبهم في طور الثقافة والصناعة الفنية، ظهرت آثار الوصف الطبيعي في بعض أشعارهم، ولكنها كانت قليلة كما تقدم، وعمهت عيون أكثر الشعراء عن محاسن الطبيعة وأسرارها في غمار المدينة، حيث تكأكأوا متزاحمين على عطايا الأمراء، وزهدهم في وصف المناظر الطبيعية قلّة ما ورد منها في شعر المتقدمين الذين كانوا يترسمون خطاهم، حتى إذا كان عهد الاضمحلال الأدبي غلب التظرُّف واصطناع الرقة والنكتة اللفظية على الشعر ففقد كل روح وحرارة.
أما الأدب الإنجليزي فلم يخنقه جو المدينة أو يرهقه تقليد القدماء إلا في عصر محدود ما لبث أن بددته النهضة الرومانسية التي كانت في جوهرها عودةً إلى الطبيعة أي إلى الشعر الصحيح وبين النقاد المحدثين من يأبى قبول ما نظمه أقطاب العهد الكلاسي في عداد الشعر الصحيح، وفيما عدا ذلك العهد كانت الطبيعة دائماً قبلة الشعراء شَغَفَهم بها حبّاً أمران: تعدُّدُ مجاليها وتتابع تقلباتها واختلاف صورها في بلادهم، ودراستهم للشعر الإغريقي الحافل بالصور الطبيعية، ويتجلى أثر هذا العامل الأخير في المقطوعة التي نظمها كيتس معبراً عن شديد حبوره وبالغ متعته عقب قراءة ترجمة الإلياذة.
بيد أن اللغة العربية ذاتها حافلة بالأسماء والأوصاف لشتى مظاهر الطبيعة وآثارها، وحالاتها وأوقاتها، غنية بكل ما يحتاج إليه الأديب القدير لينقل على القرطاس أيّ المناظر الطبيعية شاء، نقل المصور الصناع، وهنا أيضاً يبدو لنا التفاوت بين مقدرة اللغة واستعدادها، وتقصير أدباء العربية في عهد ازدهار الحضارة دون كثير من غايات الأدب.
فخري أبو السعود
في الخطابة
للأستاذ عبد المجيد نافع
كانت الخطابة ولا تزال من أقوى وسائل الإقناع، وهي أفعل في النفوس من الكتابة؛ وشتان بين الكلام الحي والكلمات الجامدة؛ وإذا كان الكاتب يعرض عقله ومنطقه فأن الخطيب يبلغ موضع الإقناع من نفوس السامعين بروحه، ويطبعهم بطابع شخصيته. ولا شك أن لروح الإجتامع أثرها في النفوس، فقد فرغ علماء النفس من تقرير أن الفرد في الجماعة أشد قابلية للتأثر، وأعظم اندفاعاً في طريق الحماسة، ولذلك ترى بعض الناس إذ خلوا إلى أنفسهم، وتخلصوا من حماسة الجماعة فقرءوا في هدوء الخطب التي سبق لهم سماعها عجبوا كيف كان لهذا الكلام العادي المبتذل كل هذا الأثر البليغ في نفوسهم. ولا تنس أن للبيئة والظروف المحيطة والذكريات المثارة أثرها الفعال في النفوس. وليس من يماري في أن المرحوم سعد باشا كان في طليعة الخطباء؛ شخصية بارزة، وذهنية خصبة، وعقلية جبارة، وبديهة حاضرة، ولفظ مختار، وقدرة على الارتجال لا تجارى ولا تبارى، ولكن لا تعتقد أن هذه المواهب مجتمعة كانت هي وحدها العناصر المؤلفة لشخصية (سعد الخطيب). وإنما كان سعد إذا نهض يخطب نهضت معه الذكريات، وتراءت حوله المثل الوطنية العليا. كان سعد إذا خطب ثارت أمام الخواطر ذكريات مالطة، وسيشيل، وجبل طارق؛ والحرية المسلوبة، والاستقلال المغصوب، والضحايا والشهداء الذين بذلوا أرواحهم وأراقوا دماءهم في سبيل الحرية والاستقلال. والخطب الخالدة في التاريخ التي ألقاها عظماء الرجال تستمد قوتها وخلودها من عظمة شخصياتهم ورهبة المواقف التي كانوا يقفونها، أكثر مما تستمد هذه القوة وذلك الخلود من قيمتها الذاتية. ولو أنك عرضتها على محك النقد الصادق، وحللتها في ضوء المنطق والمعقول، لوجدت أنها لا تكاد تجاوز دائرة غيرها من الخطب المألوفة. وإنما أثار طارق بن زياد الحمية في نفوس جنوده حين أهاب بهم:(العدو أمامكم والبحر وراءكم. . .) لا بجمال الصورة وروعة التمثيل وحدها، وإنما أثارها بشخصيته العظيمة، والموقف التاريخي الذي كان يقفه. وإذ هتف نابليون في جنود حملة إيطاليا غداة المعركة التي اشتبك فيها مع جنود النمسا فسحقهم في سهول لومبارديا: (إن الحكومة مدينة لكم بالشيء الكثير، ولكنها لا تستطيع أن توفيكم حقوقكم، واليوم ترون
أمامك الثراء والمجد). نقول إن روح نابليون وموقف الجند هما اللذان أضرما في نفوسهم جذوة الحماسة أكثر مما أججتها كلمات نابليون. والزعيم الشاب مصطفى كامل حين أرسل الصيحة الخالدة: (بلادي! بلادي! لك حبي وفؤادي) تغلغلت في نفوس المصريين، لأنها خرجت من أعماق نفس وطنية مخلصة، ونفذت إلى أعماق قلوب تؤمن بالحرية وتدين بالاستقلال. وإن نظريتنا لتصبح بمأمن من كل معارضة، وبنجوة من أي نقد، إذا ذكرت أن الخطيب العظيم يُسمع ولا يقرأ، وأن الخطب الخالدة في التاريخ لا تكاد ترتفع فوق المستوى العادي.
كان للخطابة في الماضي شأن أي شأن، فقد ثلت عروشاً ودكت دعائم ممالك، وأقامت عروشاً وممالك مكانها، ونصرت أقواماً وخذلت آخرين، وقبرت دعوات وبعثت أخرى، ودفنت مبادئ وأحيت غيرها. وإنما تبلغ الخطابة شأوها وتصل إلى أوج مجدها إبان الثورات والفورات والهبات والانقلابات والفتن السياسية والاجتماعية وأطوار التحول والانتقال. ذلك بأن غليان النفوس وثورة الأفكار يجعل الناس كالهشيم اليابس الذي تكفي شرارة واحدة لإضرام النار فيه، وإذا كان هذا هو شأن الخطابة في الماضي فلا شك أن شأنها قد ارتفع، وأثرها قد تضاعف في عصر الديمقراطية الحديث.
وفي الواقع أن الخطابة أقوى أداة من أدوات النضال السياسي والتطاحن الحزبي، وكل حزب بحاجة إلى بث دعوته وترويج سياسته، والهتاف بمبادئه، وكسب الأنصال واجتذاب الأشياع. وهو يتوجه إلى جمهور متباين العقليات مختلف المشارب والمشاعر، جم المنازع والأهواء، فلا مندوحة للخطيب عن قوة الشخصية وسحر البلاغة، والإلمام بنفسية الجماعات لبلوغ مكان الإقناع من نفوسهم. ولابد للدعوة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أن تبلغ الكوخ والقصر، وتصل إلى أدنى الطبقات وأسماها. والديمقراطية الحديثة أتاحت لكل رجل مهما كانت الطبقة التي نبت فيها، والبيئة التي نشأ بين أحضانها أن يصل بمواهبه وكفايته وملكاته وجهوده إلى أسمى مناصب الدولة، وهو إنما يتخذ من أكتاف الجماهير سلماً يصعد عليه إلى قمة السلطة وذروة المجد. أرأيت إلى لويد جورج وهتلر ومصطفى كمال وموسوليني كيف بلغوا مكان الزعامة من أقوامهم، ومركز السلطان من شعوبهم؟ ليس من ينكر أن الخطابة كانت أحد العناصر البارزة في تكوين نجاحهم. ولقد
بات الكلام في الجماهير فناً يحرص الزعماء والقادة على إتقانه وتجويده، وأضحى التعبير عن إجادة الكلام يدل دلالة صريحة على مبلغ القوة والسحر الكامنة في ثنايا الكلام الخلاب، أولا تذكر قول الرسول عليه صلوات لله وسلامه:(إن من البيان لسحراً)؟ ثم ألا يسترعي نظرك تحولهم هذا من ملوك الكلام وذاك من أمراء البيان؟ ولو أنك رحت تفتش في تاريخ معظم القابضين على زمام الشعوب والآخذين بأعنة السلطة القائمين على مصاير الأمم لوجدتهم من الخطباء المصاقع والمداره المقاويل. فالوزراء في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من دول الغرب جلهم إن لم يكن كلهم من الخطباء المفوهين.
بل لقد أصبحت الخطابة هي الوسيلة لتي تسمو بصاحبها إلى أسمى مناصب الدولة، وتبوئه مكان الزعامة من أمته، حتى ضاق خصوم الخطباء بنفوذهم صدراً وتبرموا بتضخم سلطانهم، فتراهم ينعون على الديمقراطية الحديثة طغيان حكومات المحامين عليهم.
طغت موجة الخطابة على الأمم في العصر الحاضر حتى لترى بعضهم بنسب مصدر المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاضرة إلى نقص في كفاية المتولين لزعامة الأمم الذين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بتزويق الكلام، وتنميق العبارات. ولا يرى هذا البعض دواء لداء المدنية الغربية إلا بالعدول عن الاسترسال بالثقة إلى تجار الكلام، وتفويض الأمور العامة إلى الفنيين من ذوي الكفايات.
والمعارك الانتخابية هي الميدان الفسيح لتجلي المواهب الكلامية، والملكات الخطابية. ولا بد من تعمق في درس نفسية الجماعات وتفهم ميول الجماهير لكفالة النجاح في ميدان النضال الانتخابي. ولذلك ترى بعض الخطباء لا يتورعون عن بذل الوعود والإسراف في العهود. بل إنك لترى بعض زعماء الأحزاب وقادة الهيئات لا تتراجع ضمائهم أمام تصوير الخيالات حقائق والمستحيل ممكناً مستطاعاً. والنظام البرلماني الحديث يتطلب نجاح أكبر عدد ممكن من مرشحي الحزب الذي يخوض غمار المعركة الانتخابية لإنجاح فرد أو أفراد. فقد تعددت الأحزاب والهيئات في أمم الأرض جميعاً. وإذا كانت تختلف في البرامج والميول الشخصية، فنجاح حزب من الأحزاب بالأغلبية في الانتخابات له أهميته وخطره. فإذا كانت التقاليد البرلمانية تقضي بأن الأغلبية هي التي تتسلم مقاليد السلطة، وتتولى زمام الحكم، وتوجه السياسة العامة، فنجاح هذا الحزب أو ذاك في الانتخابات له أهميته لأنه يدل
على طريقة الحكم، وأسلوب دارة شؤون الأمة، والطابع الذي تطبع به سياسة الدولة. وليس يستوي أن يكون على رأس الأحكام في إنجلترا حزب المحافظين، أو حزب الأحرار، أو حزب العمال، فلكل حزب أسلوبه في الحكم ومبدؤه في السياسة العامة. كذلك ليس من الظواهر التي لا تسترعي النظر أن يكون على رأس الحكومة الفرنسية المسيو ليون بلوم أو المسيو بيير لافال.
ودور النيابة هي ميدان يتبارى فيه الخطباء السياسيون كل يحاول كسب الأصوات وجذب الأنصار إلى جانبه، وإذ كان أحد البارزين في مجلس العموم البريطاني قد قال:(إن الخطب البرلمانية تغير رأيي ولكنها لا تغير صوتي)، فلا يمنع أن للخطابة شأناً أي شأن في مجلس النواب، أو لم يكن كليمنصو يسقط وزارة بخطبة حتى لقبه مواطنوه الفرنسيون بالنمر وأسموه (هدام الوزارات)؟ أوليس ينقذ سفينة الوزارة من الغرق خطبة من تلكم الخطب الخالدة الموفقة؟ أرأيت كيف أن بريان يوم ضيق عليه خصومه الخناق واستجوبوه في مجلس النواب عن تصرفه إزاء العمال المضربين حين أنذرهم بالتجنيد إن لم يكفوا عن الإضراب، نقول أرأيت كيف أن بريان انتزع تصفيق المجلس وحصل على قرار الثقة بوزارته حين لوح بيده صائحاً من أعماق نفسه:(هذه يدي فانظروا إن كانت تلطخها قطرة من الدماء!) وهل من يجادل في أن القادة في المجالس النيابية يتجاذبون الأغلبية، ويبذلون الجهود الجبارة لانحياز الأنصار إلى صفوفهم؟ بل إن غزو السلطة والتنازع على الحكم وشهوة السلطان، لتهدد في بعض الأمم بالتقلقل الوزاري، والخطابة بلا ريب، سلاح من أسلحة النضال.
ولا تستطيع المعارضة أن تؤدي واجبها في النقد البريء النزيه حيال الأغلبية القابضة على زمام السلطة إلا بالكلام. بل لا يستطيع أي مجلس نيابي أن يقوم بواجبه المقدس في الإشراف والهيمنة على السلطة التنفيذية بغير الخطب الداوية. صحيح أن خطباء المجالس لا ينبغي لهم أن يحرصوا في خطبهم البرلمانية على إرضاء الجماهير وتملق شعور الجماعات، وإنما لابد لهم من الكلام المستمد من الشعور ومن الدرس العميق ومن مصلحة البلد ليؤدوا أمانة النيابة عن الأمة. لقد كان خصوم لامرتين يتهمونه ظلماً بأنه (يتكلم من النافذة): أي يرمي بخطبه البرلمانية إلى إسماع صوته للجماهير خارج المجلس. ولكن
الرجل كان بريئاً مما افتروا عليه، وإنما كان حراً في عقيدته، مستقلاً في رأيه، غير فان في شخصيته أحد، ولا واقع تحت سلطان حزب من الأحزاب؛ ولذلك كنت تراه تارة يؤيد بيتر، وطوراً يؤيد جيزو على بعد الشقة بين السياستين، ولم يكن يأخذ عليه المنصفون شيئاً لأن الرجل جعل قبلته الحق ومصلحة الوطن.
وإذا كانت الخطابة سلاح المعارضة في الهجوم، فهي كذلك سلاح الأغلبية في الدفاع؛ وليس أمتع من قراءة الخطب التي يلقيها مصاقع الخطباء البرلمانيين في الغرب كرّاً وفرّا وهجوماً ودفاعاً، ناهيك بسماعها! وهل أروع وأبدع من قراءة خطب بت وفوكس ودزرائيلي وجلادستون ولويد جورج وبريان وفيفياني وجوريس؟ كان عام 1906 أول عهد كليمنصو بالدخول في الوزارة؛ ولطالما مزق النمر الفرنسي وهو في المعارضة خصومه تمزيقاً؛ وأصبح وزيراً للداخلية وأمست سياسته حيال العمال المضربين هدفاً يصوب إليه الحملات جماعة الاشتراكيين، وعلى رأسهم جوريس، وجوريس مدره مفوه؛ بل لقد ذهب بعض المؤرخين إلى اعتباره أعظم خطيب في القرن التاسع عشر في أوربا بأسرها. ووقف كليمنصو في وجه العاصفة الاشتراكية لا يجد الروع سبيلاً إلى قلبه. ثم صاح صيحته:(لقد لمست في الحال أن الحملة تنطوي على الرغبة في ذبحي على مذبح الاشتراكية، لكن وا أسفاه! فأني لست من تلك الضحايا المستسلمة، المستعدة لتقديم أعناقها البريئة طائعة إلى سكين القصاب. إني لأقاوم وأقاتل. إني لأصيح وأتمرد، وما حفزني إلى اعتلاء المنبر إلا الرغبة في إرسال صيحة الاحتجاج).
والمؤتمرات السياسية وغيرها هي الأخرى مجال فسيح لظهور المواهب الخطابية.
على أني أحب ألا يفهم أن قولي ينصب على الخطابة السياسية، والخطابة السياسية وحدها، ففي دور القضاء تتجلى الخطابة القضائية؛ وترى بين المحامين وأصحاب الدعوى العمومية والجالسين في كراسي الاتهام الخطباء المصاقع وأمراء الكلام، لكن لا ينبغي أن ننسى أن لون البلاغة السياسية يفترق عن لون البلاغة القضائية وإن كانا يتفقان في الغاية وهي الوصول إلى مكان الإقناع من النفوس. ومن الطبيعي أن تختلف هذه عن تلك، فالجمهور غير الجمهور والبيئة ليست هذه البيئة. وفارق بعيد بين أن تخاطب قضاة مرنوا على سماع مختلف الكلام حتى لا يخدعوا بالمزوق المنمق منه وبين جمهور محدود
المواهب والملكات. وشتان بين موقف محام درس ملف قضيته وتأهب للرد على كافة حجج الخصوم، واستعد تمام الاستعداد لدفع اعتراضاتهم، وبين خطيب برلماني أمامه خصوم ومنافسون، وتنهال عليه الاعتراضات والمقاطعات من كل جانب. ومهما يكن من شيء فالبلاغة هي البلاغة، وسحر البيان هو سحر البيان، ولابد من التدرع بالبديهة الحاضرة والتذرع بالدرس العميق وعدم الاعتماد على شقشقة الكلام.
ولا نرى مندوحة عن أن ندرج المحاضرات العامة تحت كلمة الخطابة فالمراد هو الكلام في الجماهير.
ولم يخل عصر من العصور من الخطباء المصاقع الذين يملكون أعنة البلاغة. فلقد عرفت جزيرة العرب خطباء مفوهين من أمثال قس بن ساعدة الأيادي، وعلي بن أبي طالب، وزياد بن أبيه، والحجاج الثقفي، وسحبان وائل، وغيرهم وغيرهم. وديموستين اليوناني أبقى على الأيام من الأيام، وشيشرون الروماني أبقى على الزمن الباقي من الزمن. ثم ألا تزال صيحة ميرابو داوية يوم صاح في وجه رسول الملك:(اذهب وقل لمولاك: إننا مجتمعون هنا بإرادة الشعب ولا نخرج إلا بقوة السيوف!). ثم ألا يزال التاريخ يذكر صيحة نابليون وجنوده: (إن أربعين قرناً تشرف عليكم من سماء هذه الأهرام). وأخيراً أو ليست خطبة طارق بن زياد خالدة على وجه الزمان حين جلجل بكلمة الحق وأهاب بجنوده: (العدو أمامكم والبحر وراءكم. . .) فأقسموا أن يقاتلوا حتى تدين لهم بلاد الأندلس أو يموتوا دون الغاية.
والآن نسأل: هل الخطابة ملكة أم اكتساب، وموهبة أم مران؟
ولكنا نرى أن قد امتد بنا نفس الكلام إلى حد نخشى معه الملل فموعدنا معك الأسبوع القادم إن شاء الله.
عبد المجيد نافع المحامي
الثمرة الأولى لثورة فلسطين
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لم تعد قضية فلسطين خافية على أحد.
فلقد امتلأت الأجواء بضجيج الأمواج اللاسلكية حاملة على أجنحتها أخبار فلسطين وأنباءها، وأصبحت ثورتها حديث الناس في مجتمعاتهم وأنديتهم ومجالسهم، حازت إعجابهم إعجاباً أحاطه عطف وشعور وإشفاق. وقال الناس للناس: ألم تروْا كيف عرف عرب فلسطين طريق الحياة فشقوها، وقاموا بالمعجزات في نهضتهم، وضربوا المثل الأعلى في التضحية، ودقوا باب الحرية باليد المضرجة، فأعلنوا سخطهم على سياسة الانتداب بالإضراب العام الشامل والاضطراب؛ وقد مر عليهما ما يقرب من ستة أشهر، وهم معطلون أشغالهم ومصالحهم، ثائرون في سبيل قضية إنسانية عادلة - قضية الدفاع عن الكيان - ناقمون على من يريد إذلالهم وإخضاعهم، عازمون على مواصلة الكفاح، إلى أن يحق الله الحق، وإلى أن ترجع بريطانيا عن نواياها نحو بلادهم.
لفتت قضية فلسطين أنظار العالم، وتطلع إليها، فشملها المسلمون بعطفهم والعرب بتأييدهم، وامتلأت نفوسهم آلاماً لما أصاب عرب الأرض المقدسة.
وقاموا متضافرين غاضبين من أجلهم يناصرونهم ويدعون إلى إنصافهم ومساعدتهم، وعقدوا الخناصر على صيانة فلسطين وحفظها، فقويت الأواصر بينها وبين البلاد المحيطة بها، وتوثقت العُرى واشتبكت الوشائج، وتعهد ملوك العرب وأمراؤهم ورجالات الإسلام بقضية فلسطين تعهداً يرفع عنها الظلم النازل بها ويضمن لها كيانها العربي ويدفع عنها أي اعتداء على مقدساتها، تعهداً أخرج فلسطين من حيزها الضيق إلى حيز العالم العربي، فأصبحت بذلك جزءاً من القضية العربية الكبرى وعاملاً من عوامل السلام في الشرق العربي.
هذه هي الثمرة الأولى التي جنتها فلسطين من ثورتها وغضبتها وما كان لهذه الثورة أن تثمر هذه الأثمار لولا خاصيتان امتازت بهما على غيرها من الثورات:
الأولى أنها امتازت بالشمول، إذ اشترك فيها جميع الطبقات كل بحسب دائرة اختصاصه، ولم يحن الوقت لتفصيل ذلك، ولولا هذه الخاصية لما كانت حركة فلسطين على ما هي
عليه من القوة والعزيمة والمضاء.
والثانية أنها امتازت بالسموّ، وهذه الخاصية هي التي أكسبت الثورة روعتها وجلالها وقدسيتها وجعلتها محل إكبار الشعوب وموضع دهشتهم. فقد سمت النفوس وبعدت عن الأهواء والغايات الشخصية واعتنقت مبادئ الثورة المقدسة، فإذا العربي في فلسطين يسمو بنفسه ويرتفع بها إلى العلاء، وإذا هو في جوّ من الروحانية نزع الأحقاد من الصدور وأحل الوئام محل الخصام ونشر ألوية المودة والمحبة والرغبة في التعاون بين الناس.
وإذا هو لا يرى في سماء بلاده إلاّ أرواح الصحابة والصديقين والشهداء، ولا يرى في أرض بلاده إلاّ دماء هؤلاء مبثوثة بين ذرات التراب، وإذا العرب في فلسطين اليوم غيرهم بالأمس، شغلهم الإخلاص وشغلهم حب الوطن فشغلوا العالم بما شغلهم وقالوا قولاً صريحاً إلى الأجيال لا غموض فيه ولا التواء:
لن تكون فلسطين وطناً قومياً لليهود
ولن يكون في فلسطين وطنٌ قوميّ لليهود
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
نهضة المرأة المصرية
رسالة وجوابها
رسالة الآنسة أمينة
سيدي الأستاذ فليكس فارس: -
دفعني إعجابي الشديد بمقالتكم في (الرسالة) إلى الإقدام على الكتابة لأقدم لكم خالص شكري وشكر زميلاتي على ما تفضلتم به (على الجنس الضعيف) من نصائح ثمينة، ودرس عميق في سبيل رفع مستوى المرأة المصرية.
ومع أنني يا سيدي أؤمن بكل كلمة كتبتها تحت عنوان: (نهضة المرأة المصرية) وواثقة بأنكم درستم الموضوع من جميع نواحيه، فأني أرجو أن تتفضلوا بالسماح لي أن أضيف مشهدين آخرين (هما مقتل الأمة، وعلة دمارها):
الفتاة المصرية الحديثة ضحية استبداد أهلها وضحية ضلال الرجل وغروره.
المشهد الأول: أسرة مؤلفة من أب وأم وبنين وبنات، ثقفت الفتاة منهن أحسن ثقافة، وتحلت بأجمل ما في الأخلاق الغربية والشرقية، وبعد ذلك تقبر في بيت ذويها حيث تبقى مسلوبة الحرية، إلى أن يمن الله عليها بمن يخطبها من أهلها فتصبح زوجة لمجهول (نكرة ضمت إلى نكرة، فتبدأ المآسي. . . .) فهي فاقدة حرية التصرف في مسألة اختيار زوجها، كما أنها مضطرة إلى التسليم بمن يختار لها بعلاً كي تتخلص مما هي فيه من. . .
سيدي: إنني أشفق على نفسي وعليكم من ذكر بعض ما تتحمله الفتاة المصرية من آلام نفسية ومادية وهي بين أهلها. فهي دائماً في خلاف مستمر لما بينها وبينهم من تفاوت في العلم والتفكير والرقي، وتعسة مع زوجها النكرة لما بينها وبينه من تنافر الأخلاق والطباع. إن الأمة المصرية اليوم في دور انتقال من القديم إلى الجديد، ومن الاستعباد إلى الحرية في حياتها السياسية والعلمية والأخلاقية والنفسية؛ ومن الصعب جداً التوفيق بين القديم والجديد، ولابد لكل دور انتقال في حياة الشعوب من ضحية - والفتاة المصرية اليوم هي ضحية هذا التطور.
المشهد الثاني: ينقسم الشباب المصري إلى قسمين: قسم لا يفكر في الزواج مطلقاً بل يفضل أن (يتلاقى بالفتاة التي تركها وهي مثقلة بالأوصاب من أن يعيش وإياها مستنيراً
بأنوار شمس الله). وقسم يتطلب في الفتاة المستحيل من الكمال والجمال والمال، وأهمها المال، فيجعل نصب عينه الزواج كصفقة مالية فيبحث عنها أين كانت؛ وزواج أساسه المال هو بالطبع بدء حياة الشقاء للزوجين.
أراك يا سيدي بالرغم من دفاعك عن المرأة ومعالجة مسألتها معالجة صحيحة قويمة تلومها لنزولها إلى ميدان العمل. اسمح لي يا سيدي أن أقول إن المرأة المصرية الحديثة لم تتمرد مطلقاً على وظيفتها الطبيعية. فأنها بالرغم عن ثورة نساء العالم الربي المتمدين ومطالبتهن بالمساواة فإن المرأة المصرية ما زالت هادئة وادعة لا تهمها إلا شؤون بيتها وأولادها أو علمها وثقافتها - قانعة بكل ما يأتيها الزمان من سعادة أو شقاء. تقول يا سيدي (إن المرأة المترجلة الضلول ليست هي من نرجو لإحياء الأسرة وخلق الأمة الحية) وأظنك تقصد بالمترجلة المرأة العاملة. إن المرأة يا سيدي لا تنزل إلى ميدان العمل إلا إذا ألزمتها الحاجة القصوى إلى ذلك. أؤكد ذلك باختبار شخصي كما أنني شاهدت حالات كثيرة كان الدافع فيها لخروج الفتاة إلى العمل الاضطرار.
إن الفتاة المصرية هي الوحيدة التي لم تفقد أنوثتها ورقتها بالعمل؛ فهي وإن اضطرت إلى العمل تحن دائماً إلى تكوين بيتها والاهتمام بزوج مخلص يعولها وإيجاد أطفال يصلحون لتكوين الأمة القوية أجساماً السليمة عقولاً.
إنك يا سيدي تنكر على المرأة العمل ولكنك إذا بحثت في سبب ذلك تجد أن الرجل هو الذي دفعها إليه. فهو يهملها، أي يضرب عن الزواج، فتضطر إلى العمل لتمضية وقتها الطويل الممل، أو لكسب عيشها، وربما كانت تعول أسرة بأسرها. كل امرأة متهتكة أو عاملة هي صنيعة الرجل لأنه هو الذي حرمها العيش ومرّر حياتها فدفعها إلى ما هي فيه من بؤس.
وأخيراً تقول يا سيدي: (ليس كالمرأة من يصلح المرأة أو يفسدها. . .) ونقول: (ليس كالرجل من يصلح المرأة أو يفسدها. فهو بيده كل شيء. هو القادر أن يصونها في بيته فتصير له زوجة صالحة شريكة حياته وأم أولاده. كما لو كان أباً أو أخاً يمكنه أن يعول ابنته أو أخته فيعاملها بحنو ومحبة حتى لا يضطرها إلى السعي وراء عيشها. الفتاة المصرية الحديثة وديعة وضعيفة جداً، فهي تهاب العمل وتأباه ولا تلجأ إليه إلا مرغمة.
تجد يا سيدي اليوم ألوفاً من الفتيات المصريات المتعلمات الراقيات قعيدات البيوت؛ فماذا يفعلن وكيف يضعن ساعاتهن التي تبدو لهن أبدية؟؟ لذا تجدهن حيارى لا يعرفن كيف يتصرفن ليكسبن قلب الرجل. فإن هن اشتغلن قيل عنهن مسترجلات غير صالحات للزواج، وإن هن مكثن في منازلهن ذقن من أهلهن كل أنواع التقريع والهوان لأنهن بائرات. فكيف الحل وأين المصير؟).
عفواً يا سيدي ومعذرة، فما دعاني إلى كتابة هذا إلا يقيني من إخلاصكم في سبيل الخير العام لخدمة المرأة المصرية الحديثة. وما هذه إلا نفثة من نفثات حارة مكتومة.
(قصر الدوبارة)
أمينة
جواب الأستاذ فارس
سيدتي الآنسة الناهضة:
أشكر لك شكرك لما أدليت به من آراء في مبحث المرأة، وأعجب فيك بعاطفة تنير وفكر يحلل ما يراه ظلماً وإرهاقاً. وقد حقَّ على كل عربي يتوق إلى إحياء حضارته أن ينحني إجلالاً أمام الرجولة في خُلق فتاة قومه، كما حقَّ له أن يرد جموح الترجّل في حياتها الاجتماعية.
إن ما فاتني ذكره في مقالي (نهضة المرأة) من محن الفتاة المصرية خاصة والعربية عامة لم يفته إيلامي وإيلام كل مفكر وطني لا تفتح الحياة جرحاً في كيان قومه دون أن يشعر بذلك الجرح في صميم فؤاده. وما اصطدام الفتاة بمن وبما حولها، وتعارضُ حياتها وما استقرّ فيها من الحوافز شعوراً وتفكيراً إلا من أعمق هذه الجراح وأخطرها عاقبة وأصدقها إنذاراً.
إن ما تلفتينني إليه، أيتها الآنسة الفاضلة، يتناول جزءاً من بحث كامل في حالة المرأة أوردته في فصل (منابت الأطفال) في كتاب رسالة العنبر إلى الشرق العربي، ولكنتُ أكتفي بهذه الإشارة لولا أنني أعلم أن كل معضلة اجتماعية لها منافذها العديدة يتطلع إليها المفكرون كلٌ من موقفه الخاص، فلا يمكن للحلول التي يوردها أي كاتب إجمالاً في أية
قضية اجتماعية أن تشمل جميع دقائقها وأنواعها، لذلك رأيت من واجبي الوقوف معك أمام ما تبين لك من أعراض الداء لأحاول معالجته جهدي.
إنك ترين أولاً أن الفتاة المصرية ضحيةُ استبداد أهلها.
فعلَامَ يمكن أن يقع الخلافُ بين فتاةٍ وأهلها؟
إنه إن وقع على طُرق المعيشة في البيت، من حيث المأكل والملبس والرياش، فلا أحسب الأهل معارضين ابنتهم في كل تحسين تريد إدخاله، إذا هي لم تتجاوز حدود طاقة العائل، وليست المسألة في هذا الأمر من قبيل اصطدام الجديد بالقديم، بل هي مسألة تقدير بين ما يمكن الحصول عليه والطاقة المتوفرة. وللفتاة الرأي وليس لها الحكم في هذا، ولا أعتقد أن في العالم آباء وأُمهات يضنون على فلذة أكبادهم بما يرونه ضرورياً. فإذا كان هنالك أبٌ يجود على نفسه ويحرم رعيته، وهي وديعة الله بين يديه، فمثل هذا الأب مسخٌ لا يصح أن يتُخذ أساساً لبحثٍ اجتماعي.
لقد لاح لك، يا سيدتي، أن سوء التفاهم ناشئ من التطور، وأن الفتاة هي الضحية بين رقيها وجمود أهلها، أما أنا فيلوح لي أن في وصف كل قديم بالجمود، ووصف كل جديد بالرقي على الإطلاق خطأ قد يكون هو السبب في ازورار الأبناء عن الآباء في هذا العصر وفي كل عصر، فالحقيقة التي بقع الخلاف عليها إنما هي حقيقة لا دخل للقديم والجديد فيها، لأن الحقيقة قد تكون في أحدهما دون الآخر أو في كليهما، ولا يمكن للباحث أن يقف في جنب الأبناء على كل حال آخذاً برقيهم كبرهان على جمود آبائهم. وكثيراً ما تغتر الشبيبة بتطورها، فإذا ما تحسبه رقياً نوعٌ من الهوس وضربٌ من الغرور. ويقيني أن ليس للفتاة من يعطف عليها عطف أمها وأبيها مهما بعدت بينها وبينهما شقة الثقافة والعلم. ومهما بلغ حب الفتاة لأبويها فأنه يبقى دون حبهما لها، ولكن قد يتلبس حب الأبوين بعقيدة لهما في الحياة تختلف وعقيدة الفتاة فيبدو لها هذا الحب بغضاً وتحكماً واستبداداً. فإذا كان العلم والتهذيب لم يرفعا بروح هذه الفتاة إلى مرتبة الرقي الحقيقي ولم ينيلاها من النور ما تكشف به الظلام عن بصيرتها وبصائر من حولها أخذت بالظواهر فانقلبت ثائرة تطمح إلى إقناع أهلها بالعنف معتقدة أن من حقها وقد تعلّمت وجهلوا أن تصبح أماً لأبويها فلها الأمر وعليهم الطاعةُ العمياء.
إن الفتاة التي لا يوصلها علمها وثقافتها إلى إقصاء الأوهام عن كل قديم وعن كل جديد، وإلى الوقوف تجاه أهلها موقف من يحمل نوراً لا من يحمل ناراً، لا تكون قد قطعت شوطاً بعيداً في مجال الثقافة الحق.
إن في العالم اتجاهاً إلى التكامل بارتقاء الأنسال المتتالية، وفي طبيعة الأبوين ما يجاري هذا الاتجاه بشعورهم الخفي بتفوّق أبنائهما، وليس من كائن في الأرض لا يقف في نصف طريق حياته مدركاً أنه ضيَّع الكثير من عمره، فهو يؤمل أن يفوز أبناؤه بما فاته من الحياة. فإذا ما عرفت الفتاة هذا واستعانت على أبويها بحبهما لها، فلا بد لها من استجلابهما إلى ما ترى إذا هي اتجهت إلى الصواب ولم تؤخذ من بهارج التجديد بما يقودها ويقود أهلها معها إلى الدمار.
أما إذا كان الخلاف واقعاً من طموح الأهل إلى إرغام الفتاة في اختيار الزوج، فما أراه، هو أن الآباء في كل زمان يغالون في حرصهم على مستقبل بناتهن فيتجاوزن بحق الاختيار الحدَّ الذي يتحصّن وراءه الاختيار الطبيعي الكامن في فطرة الفتاة، وعلى حرية هذا الاختيار تُبنى السعادة في الزواج ويضمن إيجاد النسل الصحيح.
وظاهرة هذا التحكم تصطدم اليوم بما تنبّه في الفتاة من شعور وقد أصبحت تدرك مميزاتها الشخصية وتستجلي سريرتها. وما أخالني قصّرت في مقالي عن نهضة المرأة عندما حملتُ فيه على هذا التحكم الذي وصفتُه تحكماً في قضاء الله وقدره.
إنني وأنا أدرك الأسباب التي تحدو بالآباء إلى الاهتمام بمستقبل بناتهنّ، مقدراً هذا العطف وهذا الحنان قدرهما، لا يسعني إلا لفت هؤلاء الآباء إلى خطورة موقفهم في هذا الأمر فأدعوهم إلى احترام الأمانة الضعيفة ولها رجاحتها في الذمم، كما أدعوهم أيضاً إلى التبصر في عاقبة الزواج المبني على الإكراه.
أي أب يقدم على إكراه ابنته على الزواج بمن تنفر فطرتها منه، إذا هو عرف أن حفيده من هذا الزواج سيجيء الحياة معتّلاً بجسمه أو مختلاً بعقله. . .
وهل في الشرق العربي اليوم من لا يزال يقول:
بنونا بنو أبنائِنا وبناتُنا
…
بنوهنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعد؟
أبيننا من لا يزال يعتقد وهو في القرن العشرين أن الرجل هو مصدر الحياة وأن المرأة
ليست إلا مستودعاً للجنين.
لو يعلم القيمون المُكرهون أية جناية يأتون بتحكّمهم في الفطرة التي لا يسع الفتاة نفسها أن تتحكم فيها لكانوا يرعوون عن غيهم، إذ يتضح لهم أن وأْد البنت في الجاهلية كان أقل فظاعةً من وأدها في زواج تموت فيه حيةً لتقذف إلى الدنيا بأطفالٍ تتعثر الإنسانية بهم في سيرها نحو الرقي.
غير أنني لا أعتقد أن في هذه الأيام من هؤلاء القيمين الأغرار عدداً كبيراً؛ وإذا كان هنالك بقية منهم، فأنني لا أعتقد أن من فتيات اليوم من تستنيم لهذا الضيم، فأن الفتاة المهذبة التي تشعر بشخصيتها لا يسهل على وليها أن يرغمها على الزواج بمن تكره، وهي تعلم أن الشرع السامي لا يأخذ بالإيجاب دون قبولها الصريح، ولكن إذا كان الإكراه غير مباشر وكانت الفتاة تلجأ إلى القبول بأي زوج للتخلّص من أهلها، فإنها في هذا الموقف مشاركة لهم في جرمهم إذا هي تصنّعت الحب، وتكفلت الإغواء تكلفاً لرجل يريد إدخال الحياة إلى مسكنه فلا تدخل إليه إلا مبدأ الشقاء والموت.
على الفتاة المثقفة في مثل هذه الحال أن تجاري فطرتها وتتحصن بحوافزها فلا تستسلم للتمثيل الدنيء، لأنها إذا كانت مُرغَمة على عدم النفور فلا شيء يرغمها على التظاهر بالحب والقبول لتسقط أبرياء في شركٍ تكون هي الضحية الأولى فيه.
ولكن هنالك من الرجال من غلظت رقابهم، وانطمس شعورهم إلى درجة لا يميزون فيها بين فتاة تميل إليهم وفتاة تنفر وتشمئز منهم. فويلٌ للمجتمع من مثل هؤلاء الرجال الذين تطفح فطرتهم بالشهوة وليس في قلبهم من الحب إلا خياله الأسود. أولئك الذين طغت عليهم الأنانية حتى خيّل لهم أن كل فتاة يطلعون عليها بمناكبهم العريضة وفي يدهم بعض المال وبعض الحليّ تخر ساجدة أمام بهائهم وعظمة أقدارهم، ويلٌ لبنات الأولياء المتغطرسين من رجل يحسب نفور الضحية حياء وازورارها دلالاً.
إن مثل هذا المخلوق لأشبه بالقابل الكهربائي لا بطّارية فيه ليحس باتصال الجهاز المقابل به أو انصرافه عنه. وكم من رجلٍ في القرن العشرين يذكّرنا برجل الكهف يترصد الأنثى على الطريق فيبدأ بقرع رأسها بحجر ليفقدها رشدها أولاً. . .
ولو عرف هؤلاء المغرورون عواقب اعتدائهم لابتعدوا عمن تجول شهوتهم حولها لا رحمة
بها، وهم لا رحمة فيهم، بل إشفاقاً على أنفسهم التي اتخذوها من دون الحق معبوداً.
لابدّ لنا ونحن في موقف الباحث يشفق على المعتدي في جهله كإشفاقه على الضحية في ضعفها، من أن نشير ولو تلميحاً إلى حقيقة أدى الجهل بها إلى معظم هذه المصائب التي تقضي على الأسر وتهدّ من بنيان المجتمع.
إن المرأة المُكرَهة في زواجها لا تُضار في جسمها ونفسها بقدر ما يُضار زوجها الباغي عليها، لأن في تكوين المرأة ما يساعدها على عزل قسطها من الإيجاب في وضعها السلبي، فتقي خلاياها من أن ينفذ إليها ما هو ترياق لها في حالة شوقها وما يصبح سماً زعافاً في حالة نفورها كما لها أن تقي أعصابها أيضاً من الهزّة الشاذّة عن طبقتها فينزلق الإكراه عليها انزلاقاً، وعندئذ تعمل الطبيعة عملها بردّ الفعل في جسم الرجل ونفسه وهو لا يدري، فكأنه لا حس المبرد يحس بالارتواء الكاذب وهو يشرب من دمه.
ما أكثر من عرفت من هؤلاء الرجال الذين تزوجوا بالإغراء، فقامت شهوتهم وأطماع الفتاة نفسها أو أطماع أهلها مقام الحب المتبادل، فرأيتهم يباهون بزوجاتهم كأنهن تكملة للرياش الفاخر في مساكنهم، ثم تمرّ الشهور فإذا هم يجرّون أرجلهم جراً بعد أن كانوا يسيرون في الأرض مرحاً، وإذا النور ينطفئ في أحداقهم وحق الطبيعة يكتب على جباههم آية الفاشلين.
ويلٌ لمن يخدع نفسه بمظاهر القبول ولا يبالي بإيجاب ما يشعر به كاملاً في سريرة من يريدها شريكة لحياته وأماً لأطفاله، إن هذا الرجل لأشبهُ بالتائه في الصحراء يتوقّع في كل مرحلة إرواء غليله من السراب يتوهج ماؤه، يتباعد إلى الآفاق كلما توهّم الوصول إليه.
هذا ما نراه في معضلة الإكراه الذي تشكو منه بعض فتيات البلاد، وما نشأت هذه المعضلة إلا من أطماع المزوّجين وضعف المروءات في المتزوجين.
أما علاج هذا الداء فميسور بعد بيان ما تقدم بيانه إذا نفذت أشعة الحقيقة إلى قلوب الغواة والطامعين، إذ لا يمكن أن يبصر عبيدُ الشهوات ما تفتح ضلالاتُهم من مهاوٍ تحت أرجلهم دون أن يرتدعوا عن الانتحار والقضاء على أنسالهم، ولكنَّ في الحياة كثيرين ممن اتسعت أحداقهم ولكنهم عميٌ لا يبصرون.
(تتمة البحث عن شباننا وسبب إضرابهم عن الزواج وعن
العلة في بوار الفتيات في مقال آخر)
(الإسكندرية)
فليكس فارس
نبوّة المتنبي أيضا
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 2 -
اللهمّ إنا نعوذ بك من فتنة الرأي والهوى، كما نعوذُ بك من سوء الاقتداء والتقليد.
4 -
يقول الأستاذ سعيد الأفغاني في العدد (171) من (الرسالة) بعقب حديثه عن رأينا في ردّ رواية اللاذقي - الذي كان قد آمنَ بنبوّة المتنبي أبي الطيب، وأسلمَ له، وبايعه بيعة الإقرار بصدق نبوّته، وزاد أن أخذ البيعة لأهله كذلك:(وقد رددتُ أنا قسماً كبيراً من رواية اللاذقيّ هذا لشيءٍ غير ما ذهب إليه الأستاذ الكريم، وسأبينه قريباً). وقد وفى الأستاذ بعدَته فأبان خيرَ الإبانة عن (الشيء) الذي من أجله (ردّ قسماً كبيراً) من رواية (اللاذقيّ هذا). وهذا بيانه بعد كلامٍ كثير، يقول:(وقد عجبتُ كل العجب من الأستاذ - وهو الناقد الأصوليّ الفنّان (أستغفر الله يا سعيد) - حين لم يدر لم اختصرتُ حديث اللاذقيّ؟ إذ أن الأمر ظاهر، فأن الزيادات التي أهملتها يرفضها العقل ويكذبها الواقع، ولم تكن ثمة حاجة لأدُلّ القراء على سبب إهمالها لأن تهافُتها بيّنٌ. وكثيرٌ أن تجردَ عليها حملةٌ كالتي نزل بها الأستاذ الميدان!! فخصَّص لها صفحتين من كتابه القيم، وهو يعلمُ حفظه الله أن من أدلة الوضع عند المحدّثين مخالفة الواقع والمعقول كما هو مستوفي بكتب مصطلح الحديث) اهـ.
عونكَ اللهمّ! فلستُ أدري من أين أبدأ في بيانِ تهافتِ هذا القول وتناقضه! هذا رجُلٌ سماهُ أبوهُ معاذاً فكان عند الذين قرءوا حديثه (أبا عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقيّ)، وهو في الرواة مجهول غيرُ معروف بصدق ولا بكذبٍ؛ وقد جاءَنا هذا الرَّجُل ينبئنا عن أبي الطيب خبر قدومه اللاذقية سنة نيفٍ وعشرين وثلاثمائة، فيأنى بحديث طويل ممتدٍّ،
(1)
يذكر فيه حلية أبي الطيب وصفته وسمته وحسن أدبه، (2) ثم يذكر حديثاً جرى بينه وبين أبي الطيب، فيقول له اللاذقي:(والله إنك لشابٌ خطير، تصلح لمنادمة ملكٍ كبير!) فيكون جواب أبي الطيب: (ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبيٌ مرسل)(3) ثم يذكر رسالة أبي الطيب إلى أمته الضالة المُضِلة! وغرض رسالته؛ (4) ثم ما سمع من قرآن أبي الطيب الذي وصفه بقوله: (فأتاني بكلامٍ ما مرّ بمسمعيّ أحسنُ منه)(5) ثم يذكُرُ عدد آيات
هذا القرآن، (6) ثم يخرجُ إلى ذكر معجزة هذا المتنبي في حبس المدرار (المطر)، لقطع أرزاق العصاةِ والفجار، (7) ثم يقول إنه خرج مع غلام أبي الطيب ليرى المعجزة، فلمّا استيقنها واطمأن بها قلبُهُ انفلت إلى أبي الطيب وهو يقول:(أبسُط يدك. . . أشهدُ أنك رسولُ الله) فبسط يدهُ فبايعه بيعة الإقرار بنبوّته، (8) ثم لم يَنِ هذا اللاذقيّ حتى أخذ بيعته لأهله، (9) ثم يقول بعد:(ثم (صَحَّ) أن البيعة عمّت كل مدينة بالشام) (يا سبحان الله)، (10) ثم يعقِّبُ على ذلك أن معجزةَ أبي الطيب كانت (بأصغر حيلةٍ تعلمها من بعض العرب وهي (صدحة المطر)، (11) ثم يزعُم أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي رضي الله عنه! (أنه رأي أهل السُّكون وحضرموت والسكاسك من اليمن يفعلون ذلك ولا يتعاظمونه، حتى إن أحدهم ليصدح عن غنمه وإبله وعن القرية التي هو فيها فلا يصيبها شيء من المطر، (12) ثم يقول إنه سأل أبا الطيب هل دخلت السكون، فيقول له: نعم! أما سمعت قولي:
مُلِثَّ القطرِ، أَعْطِشْها ربوعا
…
وإلاَّ فاسقِها السَّمَّ النقيعا
أُمنْسِيَّ السَّكونَ وحضرموتاً
…
ووالدتي وكندةَ والسَّبيعَا
ثم يقول هذا اللاذقي بعقب ذلك: (فمن ثمَّ استفادَ (أبو الطيب) ما جوّزه على طغام أهل الشام)، (13) ثم يختم حديثه بما كان يُمَخرقُ به أبو الطيب على أهل البادية بإيهامهم أن الأرض تُطْوى له وكيف كان ذلك؛ (14) ثم يزعمُ أن أبا الطيب سئلَ في تلك الأيام عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(أخبر بنبوَّتي حيث قال: (لا نبيّ بعدي)، وأنا أسمى في السماء (لا)).
هذا مختصر حديث هذا اللاذقيّ، وأنت إذا قرأته بتمامه رأيته أحمق قولٍ يعجزُ عن الإتيان بمثله أحمق معتوهٍ لما فيه من الاضطراب والسخف والتلفيق والكذب، وقلة مبالاة هذا الرجل بنسبة الكفر إلى نفسه حين زعم أنه قال لأبي الطيب:(ابسط يدك، أشهد أنك رسول الله) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه أغراضٌ في كلام اللاذقي قد بينا لك عددها (14) تناول منها الأخ سعيد ثلاثة أغراض هي الثلاثة المتتابعة في تعدادنا، وقذف بالباقيات وردها وأهملها لأنها مما (يرفضه العقل، ويكذبه الواقع) كما قال في كلمته الأخيرة، ومن قبل ما قال في كلمته التي نشرها في
(الرسالة - العدد 161): (وسأعفي نفسي من أشياء كثيرة، وردت في (الصبح المنبي) لا يقبلها عقلٌ ولا تؤيدها قرائن) ويعني هذه الرواية عن اللاذقيّ.
وأنا أسأل الأستاذ سعيد أن ينصف نفسه وينصفنا، وأن يعفينا من التأويل وطلب الحجة فيما لا تأتي منه الحجة إلا متكلفة على أبعد وجه وأضل سبيل. فانظر أيها الأستاذ سعيد إما جاءك رجل بحديث قد استيقنت أن نصفه كذب قد مزج بقول غير معقول، أفأنت مصدقه في سائر الذي جاءك به من الحديث؟ فإن قلت: لا أصدقه في سائر حديثه فقد بطل ما جاء به هذا اللاذقي كله، لأن أربعة أخماس من حديثه مما (يرفضها العقل ويكذبها الواقع) كما قلت أخيراً: ومما لا يقبلها عقل؛ ولا تؤيدها قرائن كما قلت أولاً. وإن شئت أن تتطلب الجدل فقلت أصدق بعضه، وأكذب بعضه، فأنت غير قادر على أن تنشئ لهذا الرأي حجة يلجأ إليها أو دعامة يعتمد عليها، فإن هذا اللاذقي رجُلٌ مجهول في الرواة لا يعلم حاله في صدق أو كذب، ومن كان كذلك نُظر في قوله، فإن كان الذي يأتي به من الرواية صدقاً كان ذلك مانعاً من اتهامه بالكذب إلا ببينة أخرى، وإن كان كذباً لم تجد بُدّاَ من وسمِه بالكذبِ وإسقاط روايته كلها، وجملةً واحدةً؛ ويصبحُ ما أتى به كله كأن لم يُرْوَ ولم يعرفْ، فلا ينظرُ إليه في رواية أو تاريخ؛ فإن قلت أقبل المعقول وأردُّ غير المعقول، فلا بُدّ من أن نقول لك إنك قد اعتمدت في بعض قولك على مذهب أهل الحديث في علم الرواية، فقلت:(إن من أدلة الوضع عند المحدثين مخالفة الواقع والمعقول)، ونعم، فإن رواية ما يستحيل أن يقع، وما لا يأتي على وجهٍ يرتضيه العقل، ساقط عند المحدثين، وهم يتهمون صاحبه بالكذب لوضع فلا تقبل له روايةٌ أبداً، ولو كانت صادقة، ولو كان في قول غيره من الصادقين ما يقع عليها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة. فهذا مذهب القوم بتمامه، ومذهب عقلاءِ الناس في أمر دينهم ودنياهم. واعلم أيها الأستاذ سعيد أن القول يُردّ ويُرفض ويكذب صاحبه لأنه غير معقول ويستحيل وقوعه، ولا يمكن في العقل أن يطرد عكسُ هذه القضية: فليس يقبل القولُ ويرتضي صاحبه لأنه معقول وجائزٌ وقوعه وحدوثه، ولست أشكُّ في موافقتك لي على هذا؛ إذن فليس من الحكمة ولا من الصواب ولا من العدل ولا من العلم أن تختصر حديث اللاذقيّ فتأخذ منه المعقول الجائز الحدوث، وأنت تردّ سائر حديثه بل أكثره، ثم تقول عنه في عدد الرسالة (161):(وقد حفظ لنا (التاريخُ) مشهداً من
مشاهد هذه الدعوة (النبوّة) في اللاذقية). فليس شيء من كلام الوضاعين والكذابين مما يصحُّ أن يعتمد عليه في تاريخ أو غيره.
ثم لو نظر الأستاذ سعيد إلى هذا الحديث الذي عدّه (مما حفظ التاريخ من مشاهد دعوة أبي الطيب إلى نبوته) لوجدَ يقيناً أن هذا المختصر من حديث اللاذقيّ هو أيضاً (مما يرفضُه العقل، ويكذبه الواقع) و (مما لا يقبله عقل، ولا تؤيده قرائن)، فأن فيه من الوهن والضعف والتخالف والتناقض ما لو تدبره الأستاذ - وهو يدرس شعر أبي الطيب، ويصوِّر منه نفسه وطبائعها وغرائزها - لعلم أنه موضوعٌ متكلفٌ ليس فيه من الصدق شيء؛ ولم أردك بسوءٍ أيها الأخ إذ قلت في كلمتي السابقة إنك تأخذ من الكلام ما تشاءُ، وتدع ما تشاء، فتزول بذلك شبهاتك.
إن للرواية أصولاً لا يأتي لأحد أن يخرج عنها إلا بحجة لا تسقط عند النقد والنفض؛ ومن أصول الرواية ألا تُقبل رواية من كذَب في أحاديث أو وضعها، وإن كان سائر الذي يرويه مما يعضده فيه رواية غيره من الصادقين، فكيف بمن يكون أمرهُ في الحديث الواحد: أربعة أخماس كذبٌ غير معقول، والخمس الباقي تختلفُ عليه الآراء في وصفه بأنه صدق أو كذبٌ، أو معقول وغير معقول، أو تؤيده قرينة أو لا تؤيده قرينة؟ ألا إن هذا أولى بالإسقاط والرفض والنبذ حيثما ثُقِف، وكذلك هو حديث هذا اللاذقيّ المجهول.
5 -
وقد أراد أستاذنا سعيد أن يوهم قارئ كلامه أننا اتخذنا رأينا - في نسبة أبي الطيب إلى الشجرة العلوية المباركة - (برهاناً) على رد رواية هذا اللاذقيّ المجهول لقولنا في ص 48 (أما اللاذقي فمجهولٌ ولا يتيسر لنا نقد سنده، ولكن مما شك فيه أن اللاذقية التي نسب إليها، كانت لوقت أبي الطيب موطناً لفئة من العلويين ومحطاً لكثير من كبار الدعاة العلويين الذين أحدثوا أحداثاً عظيمة في التاريخ العربي كلّه). فلذلك لم يتورع عن بتر بقية كلامنا، فقد قلنا بعقب هذا وبغير فصل (فلا بأس من أن تجعل هذا ذكراً مذكوراً وأنت تتبّصر في أصل الرواية على وهنها وتضاربها، وتهالك معانيها التي يفسدُ بعضها بعضاً كما سترى). فلو كنا قد اتخذنا هذا (برهاناً) لقلنا مكان (فلا بأس)(فلابد) ليستقيم المعنى الذي أراده لنا الأستاذ الجليل. ويخيل إليّ أن الأستاذ سعيد سيحاول أن يقع في هذا الكلام بالتأويل. فأنا أضرب له المثل على الفرق بين هذا وذاك، ليدع هذا الذي يعمد إليه من
أفانين الكلام. فإنك لو أردت أن تعلم جاهلاً دين الإسلام بعد إيمانه بصدق القرآن وأنه وحيٌ من العزيز الحكيم، ثم أخذت تفهمه أن الصلاة عمود الدين وأن الله أمرَ بها عباده، والبرهان والدليل على ذلك قوله تعالى:(وأقيموا الصلاة)، فلست تقول له بعقب ذلك (فلا بأس) من الصلاة، وإنما تقول:(فلا بد من الصلاة).
ولو تدبر الأستاذ قليلاً كما سألناه في كلمتنا الأولى (عدد الرسالة 167) لعلم أن الإشارة في هذا الموضع هي إلى الذي قلناهُ في كتابنا ص17 - 19 من أنه كان بينه وبين العلويين عداءٌ وحفيظة بلغ من أمرهما أنهم ارصدوا له قوماً من السودان عبيدهم في طريقه بكفر عاقب ليقتلوه - وذلك مُنصرفَه من طبرية سنة 336 - حتى إن أبا الطيب لم يُحجم عن التعريض بهم، وهو يمدح كبيراً من أولاد عليّ رضي الله عنه بالرمْلة هو أبو القاسم طاهر بن الحسن بن طاهر العلوي فقال في مديحه:
أتاني وعيدُ (الأدعياءِ) وأنهم
…
أعدُّوا لي السودان في كفر عاقب
ولو صدقوا في جدِّهم لحذرتهم
…
فهل فيّ وحدي قولهم غير كاذب
وقال في مدح الأمير ابن طغج، وقد صحبه أبو القاسم العلوي وأقام معه في الرملة يحضر مجالسه.
وفارقت شرَّ الأرض أهلاً وتربة
…
بها (علويٌّ) جدُّه غير هاشم
فلهذا ولغيره من آثار العداوة والبغضاء بين أبي الطيب والعلويين (مذهباً أو نسباً) قلنا في ص17 (إن عندنا في أقوال العلويين المعاصرين عن أبي الطيب سبباً للتوقف دون التسليم).
هذا على أن عندنا من الأسباب ما يحملنا على رد رواية العلويين في أخبار أبي الطيب، وقد ذكرنا بعضها متفرِّقاً في كتابنا، وبعضٌ آخر لم نذكره لضيق الوقتِ، ورغبة في اختصار القول، واعتماداً على فطنة القارئ إذ كان في وضع كلامنا ما يُشيرُ إلى أطرافه.
6 -
قلت في كلمتي التي نشرتها الرسالة (العدد 167) إن الأخ سعيد قد لا يجد دليلاً على صحة هذه الروايات التي رويتْ في نبوّة أبي الطيب، فيما يزعم، إلا أنه قد رواها فلانٌ وفلانٌ ورواها المعري - وهو الحجة الثبتُ - وقلنا إن الحكم - بأن رواية المعري أو غيره من العلماء - هذه الأخبارَ مما يصححها أو يرجّح الصدق فيها - حكم خطأ لا يصح
لأحد أن يتابع عليه، ولم أقل ذلك إلا لقول الأستاذ في عدد الرسالة (161)، (وسأعتمد في قص الحادث (يعني النبوّة) على أبي العلاء خاصة، لفضله وتحريه وقرب زمانه)، وهذه الكلمة الأخيرة وحدها تدل على أن الأستاذ يَعُد ما يرويه أبو العلاءِ عن أبي الطيب مما ترجحُ فيه كفة الصدق على كفة الكذب، ولكن الأستاذ لم يرض قولنا هذا، فعادَ يقولُ في كلمته الأخيرة:(هذا وقد حمل الأستاذ أقوالي ما ليس تحمل: فأنا لم أدّع للمعرّي تنزُّها عن الخطأ، ولم أقل بأن (ورود خبر في كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره، وما جعلت قرب الزمن دليلاً على الصحة بل هو مما ييسر للمحقق وسائله) اهـ. وأنا لا أحبّ أن أكثر القول على أستاذنا في نقد كلامه هذا بل أقول: إن كان في يدك دليل على صحة هذه الروايات والأخبار فأظهرهُ ولا تكتمهُ، فمن قبلُ ما قلنا لك في مقالنا بعدد الرسالة (167) إن (الخبر لا يستحقّ صفة الصدق إلا بالدليل الذي يدُل على صدقه، فإذا لم تجد الدليل على صدقه ذهبت عنه صفة الصدق وبقي موقوفاً. فإذا اعترضت الشبهات من قبل روايته أو درايته مالت به الشبهة إلى ترجيح الكذب فيه. . .). ولكن أستاذنا لم يرد أن يقف عند هذا القول، وزعمه من (التهويل) ويقول:(وما التهويل بمغن عن أحدنا فتيلاً)، وزعم أني (لم أجد بأساً في أن أعرفه أنّ الخبر ما يحتمل الصدق والكذب، وانّ وأن. . . الخ الخ مما يدرسه الطلاب المبتدئون). وظنّ أن في هذا القول مذهباً لهُ عن الإتيان بدليله على صدق الروايات التي يزعمُ أنها من التاريخ وأنها صحيحة. ويخرجُ من هذا ويدعه لقول: (إننا نبزنا روايات التاريخ بالبطلان والكذب، ثم لا يكون دليلنا عليها إلا أنها كذب وبطلان). وليس الأستاذ ببالغ من كلامنا مبلغاً يسقطه أو يحزّ فيه إلا أن يثبت لنا أوّلاً صحة هذه الروايات، ومن أين لأحد أن يسلم بصحتها ويقتنع بأنها خالية من الكذب والوضع وسوء القصد في الإساءة والتشهير والتسميع بأبي الطيب؟ فإذا فعل ذلك فقد بلغ أوّل الحق، وكان لهُ أن يجابهنا بما شاء من القول مصرّحاً ومعرّضاً. فالدليل أيها الأستاذ سعيد.
7 -
ومن أعجب أمر الأستاذ سعيد أنه ينشئ من الكلمة الواحدة تردُ في الكلام جملة لها معنى يوجهه هو كيف أراد على ما خيّلتْ، ويضَعها حيث شاء من الحديث غير متهيب ولا متلفت عن يمين وشمال، ولو خرج بالكلام الذي أمامه من العربية. . . كما مرّ بك في كلمتنا السابقة. فمن ذلك أنه وقف عند قولنا في الكلمة الأولى (الرسالة عدد 167): (وتركُ
المعرّي الشكّ (في تلك الأخبار) أو تكذيبها ليس يقومُ أيضاً دليلاً على صحتها، وليس المعرّي بمنزه عن الخطأ والغفلة، وهو من هو، فذهاب وجه النقد عن المعرّي ليس يكون طعناً فيه، ولا يوجب نسبة الكذب إليه، ولا ينفي صفة الصدق عنه). وليس يذهب عن أحد من القراء أننا أردنا بهذا الكلام أن ندفع ظنَّ من يظنَّ - أي الناس كان - أن توقفنا دون التسليم بما رواه المعري في خبر نبوة أبي الطيب، أو نقدنا له، أو تكذيبنا أو إسقاطنا لما روي - يكون طعناً فيه، أو يعد مما يوجب نسبة الكذب إلى أبي العلاء. ولكن الأستاذ سعيداً ترك هذا، وأراد أن يبالغ وينشئ حول كلامه (خطا من النار)، فأخذ كلمتنا:(وليس المعري بمنزّه عن الخطأ والغفلة) وردّها بقوله: (وأنا لم أدّع للمعري تنزهاً عن الخطأ)، فكيف - أيهذا الأستاذ سعيد - تزعم أننا قلنا إنك ادعيت للمعرّي تنزهاً عن الخطأ وكيف تخرّج هذا الذي ذهبت إليه من كلامنا؟
ليعلم الأستاذ أني لا أحفلُ بمثل هذا، ولا أنظر إليه، ولا أقف عنده، ولكني أبينه له ولغيره، ليعلم أن كل أحد يستطيع أن يقول ما يشاء فيما يشاء على أي وجه يشاء. . . ولكن ذلك لا يجوز على أحد، ولا يغفل عنه من قرأ الأول والآخر، ونظر وفهم وجمع وعرف معاني الكلام، وكيف خرج وإلى أين ينتهي؛ وليعلم أيضاً أن كل أحد يستطيع أن يفهم من الكلام ما يشاء على غير قاعدة من منطق أو عربية، ولكن فهمه لا يكون حجة يأتي بها الناس ويظهر بها عليهم، ويحاول أن يسقط أقوالهم بها. لابد للكلام من منطق عقل وفقه عربية حتى يفهم، وإلا أصبحت المعاني فوضى لا ضابط لها ولا وكيل عليها ولا حفيظ.
وللقارئ أن ينظر إلى فعلات الأخ سعيد هذه فقد قلنا في كلمتنا الأولى (الرسالة عدد 167) عند رد اعتراضه: (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل (الرواية)، وقد أتى به القوم ليعضدوا قولهم في خرافة النبوة. . . الخ) فجاء ينقل هذا في كلامه مرتين هكذا (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل (الرواة)) فنحن نقول:(الرواية)، وهو يقول على لساننا (الرواة) وبين اللفظين فرق (كبير) في عربيتهما وفي موقعهما من الكلام. ولو أردنا الذي أراده الأخ سعيد لكلامنا لقلنا (من أكاذيب الرواة). ولو رجع الأخ إلى كلامنا الذي أعقب هذه الكلمة لعلم لم قلنا (أباطيل الرواية) ولم نقل (أكاذيب الرواة). هذا على أني أقول أيضاً إن الذي زعموه من خجل أبي الطيب حين كان يسأل عن أمر لقب المتنبي -
هو من أكاذيب الرواة. فإذا أراد الأستاذ أن يعرف من هم هؤلاء الرواة، فليرجع إلى الكتاب الذي نقل عنه هذا الكلام، فينظرَ من هم؛ ومع ذلك فليسَ تغني معرفة الرواة شيئاً في هذا الأمر. وتعب أن أمضي على هذا الوجه في تعريف الأستاذ سعيد بوجوه بطلان كلام هؤلاء الناس الذين نقل كلامهم، فعليه أن يريحنا قليلاً بتدبره في كلام هؤلاء الناس، والنظر في معاني رواياتهم بالذي توجبه العربية، مع المقارنة بين هذه المعاني المختلفة المتباينة فعند ذلك يعرفُ كيف كان التناقُضُ في الرواية، وكيف هدَمتْ الرواياتُ بعضها بعضاً في خبر نبوة أبي الطيب.
وبعد. . . فأن في كلام الأستاذ من وجوه التهافت ما لا تطيعني (الرسالة) على الإفاضة فيه، ولا يواتيني الزمنُ على إزهاقه من أجله، ولكني أنصح للأخ ألا يلجأ إلى ضروب القول التي يخرج بها الكلامُ عن حده إلى مجاهل من المغالطة والاعتراض، وإرادة الغلبة، واتباع الظن، وفتنة الرأي، والإصرار على خطرات النفس. وليعلم الأستاذ أني لست ممن يغفل عن مواضع التحريف في القول، أو الإحالة في الحجة، أو الفساد في التأويل، فإن أراد أن يعود إلى الحديث والكتابة، فليعد على مذهب مرضيٍّ متبع معروف غير منكر. فإن فعل فما أنا بالذي يسوءه أو يغضبه، وما أريد من شيء إلا أن أهتدي إلى الحق على يديّ من كان له فضلُ السبق، وحسنُ الحديث، وكمالُ الغلبة بالحق. . . هذا وقد أعفينا الأستاذ من كثير قولٍ في الذي جاء في مقاله الأخير - لو أردنا أن نكيل له من جرّائه بمثل كيله لفعلنا فأشوينا. . . ولكن.
عبَأت لهُ حِلمي لأُكرمَ غيره
…
وأعرضت عنه، وهو باد مقاتله
محمود محمد شاكر
النظرية العامة للالتزامات
في الشريعة الإسلامية
للدكتور شفيق شحاتة
إن صرح القانون مشيد على فكرة الالتزام. وقد ارتدت هذه الفكرة في القانون الخاص رداء خاصاً، حيث ظهرت في صورة الحق الشخصي، المقابل للحق العيني. ثم هي فيه، تخضع لقواعد عامة، تحكم مختلف المسائل التي تعرض للالتزام. وقد استخلص هذه القواعد فقهاء الرومان، ونقلت عنهم في القوانين المستمدة من التشريع الروماني. وجمعت هذه القواعد، النظرية المعروفة بالنظرية العامة للالتزامات، وهي نظرية أجمعت الآراء على أنها من خير ما أنتجت قريحة الرومان القانونية.
أما في الشريعة الإسلامية، فقد وجه الفقهاء جهودهم نحو الحلول الفرعية، ولم يحاولوا وضع قواعد عامة تحكم الالتزام في مصادره، وفي آثاره، وفي طرق انقضائه. على أن بالشريعة الإسلامية كنوزاً من الأفكار والآراء والتصويرات القانونية، فإذا نحن أردنا الانتفاع بها يتحتم علينا أولاً الوصول إلى القواعد العامة التي تحكمها جميعاً، إذ لا يقوم العلم إلا على أساس من القواعد العامة.
ثم إن الفقه الإسلامي، قام وترعرع في مدى أجيال عديدة، وساد في مختلف الأقطار التي جمعتها المدنية العربية، تلك المدنية التي تركت آثاراً خالدة في جميع مناحي العلوم والفنون. فليس من الغريب أن يكون أثرها كذلك في ناحية التفكير القانوني. وفي الواقع قد ظهر هذا التفكير في صورة من أبهى صوره، ولا تزال آثار هذا التفكير من أنفس ما يدخر الشرق من التراث العلمي.
فمن العقوق إذن أن يهمل هذا التراث؛ ومن العناية به أن يعمد إلى التأليف بين فروعه. ففي جميع الأمم وفي مختلف العلوم عمد العلماء إلى التركيب بعد التحليل؛ وقد قام الفقهاء بقسطهم الوافر من التحليل، فيتعين البدء من حيث انتهوا، وبهذا العمل نكون قد وصلنا ما كان قد انقطع. فعسى أن يكون الاهتمام بالآثار القانونية لفقهاء المسلمين على هذا الوجه فاتحة عصر إحياء لتشريع لا يمكن أن يكون ملائماً مثله في بلاد كانت مهداً له ومرتعاً.
وإن في هذا العمل تحقيقاً كذلك لغرض من أغراض التشريع المقارن، وقد أعلن المؤتمر
الدولي المنعقد بلاهاي في سنة 1932، ما يعلقه من الأهمية على التشريع الإسلامي، كمصدر من مصادر التشريع المقارن.
1 -
طريقة البحث
1 -
الطريقة الموضوعية
لا يخفى أن القيام بهذا العمل يقتضي من الباحث اعتماد خطة معينة، فقد لوحظ أن الخطة التي اتبعت للآن لم تكن مما ترتضيه دائماً القواعد العلمية.
فإنا نجد من جهة أن من تصدى من العلماء الغربيين لمعالجة هذه المسائل لم يصل أبداً إلى تفهم روح النصوص، وهم في الغالب، يجهلون أيضاً اللغة التي وردت بها هذه النصوص. أما المستشرقون، فلا نجد بينهم القانوني الفقيه الذي سرعان ما يلحظ ما للنص من خطر.
ومن جهة أخرى، نرى المؤلفين الشرقيين تنقصهم الروح العلمية، ومؤلف (سافاس باشا) على شهرته مثل ناطق لهذا النقص.
وكذلك الأمر في الرسائل والمؤلفات التي حاول فيها مؤلفوها التقريب بين الفقه الإسلامي وبين آخر ما وصلت إليه اتجاهات المحاكم في عصورنا هذه، فما كان من تأثير حماسهم الصبياني إلا مسخ الشريعة الإسلامية.
فمن المتعين إذن أن نضع في مواجهة هؤلاء وهؤلاء الطريقة التي نرى وجوب اتباعها، وقد سميناها الطريقة الموضوعية التاريخية لأنها تتناول موضوعات البحث وتقررها كما وردت في النصوص مراعية في ذلك منتهى الأمانة، ثم هي تتتبع هذه النصوص على مدى الأجيال لتتلمس تطورها التاريخي. فهي قائمة على فكرة أساسية، ألا وهي أن التشريع كائن حي وليد الهيئة الاجتماعية، ينمو بها ولها، ويتطور معها، ويجمد عند جمودها.
وهذه الطريقة تعمد لذلك إلى المسائل. فقد رأينا أن التشريع الإسلامي لم يعن إلا بالمسائل، فإذا أردنا تفهمه على حقيقته، وجب أن نتقصى المسائل ونستوعب ما ورد عليها من الحلول، فتكون هي الحجارة التي بها يتم بناء هيكل النظريات بصرف النظر عما حشر في الكتب حشراً لتفسير هذه الحلول إذا كانت هذه التفسيرات لا تتفق والواقع.
فمن يتصفح كتب الفقه يتبين أن التفسير الذي يرد على الحلول لا يكون صادراً دائماً عن
مبادئ عامة، متمشية في جميع أجزاء الجسم الواحد، بل هو يرمي إلى تبرير الحل الذي ورد بشأنه فقط، تبريراً يستند سواء إلى فكرة مقبولة عقلاً، أو إلى أن حلولاً مشابهة قد جاءت في مناسبات أخرى.
ولكن هذا التبرير المباشر لا يمكن اعتباره كافياً، إذ قد تكون هناك مسائل أخرى مماثلة أيضاً ولم تحل على نفس الشكل. فالتفسير الصحيح يكون بإيراد التعليل الذي ينطبق على أكثر المسائل المتشابهة، مع ذكر ما دعا إلى الأخذ بغير ما يقضي به في مسائل معينة أخرى.
وهذه الطريقة تصل بنا إلى العلل الرئيسية والأخيرة للحلول، وهذه العلل وحدها هي التي يقبلها العلم، ويجب اعتبارها دون غيرها وإحلالها محل ما استبعد من التعليلات.
وقد تتعدد في كتب الفقه الطرق لتبرير الحل الواحد. أما تعدد الأدلة فأمر لا شائبة فيه لو كانت الأدلة جميعها تتضافر لتكوين مبدأ واحد يقضي بالحل موضوع النظر.
ولكنا نجد في الغالب الطرق لا الأدلة تتعدد، وكل طريق منها صادر عن فكرة قد تكون متنافرة مع الفكرة التي أوحت بالطريق الآخر.
ففي الخطة التي نقول بها تلزم الاستعانة بالروح العامة للتشريع، لاستبعاد ما يتبين فضوله من الطرق. فإذا ما اكتفى بأحدها وجب الاحتفاظ به في جميع المناسبات، حتى إذا ما اضطر الباحث اضطراراً إلى الرجوع إلى الطريق الآخر في حالات أخرى معينة وجب اعتبار هذه الحالات استثناءات لما سبق تقريره كمبدأ عام، وقد تنم هذه الحالات عن اتجاه التطور في التفكير.
وكذلك التكييف القانوني النظري لا يخضع دائماً عند الفقهاء لفكرة واحدة. صحيح أن تعقد الظاهرة القانونية قد يحول في بعض الأحوال دون تصويرها على أساس الفكرة والواحدة. ولكن في هذه الأحوال يقتضي منا المنطق أن نغلب العنصر المسيطر على هذه الظاهرة؛ وعند تصويرنا لها نلاحظ ما شذ على تكييفنا القانوني من الحلول؛ ولا يلجأ إلى ذلك إلا إذا لم يعثر في التشريع الإسلامي نفسه على تصوير ينتظم النظرية بما حوته من الحلول جميعاً.
يتضح مما تقدم أنه إذا كان تقيدنا بالحلول وثيق العرى فالأمر بخلاف ذلك بالنسبة للشروح؛
ولا يخشى من هذا التحرر على صحة تفهم روح التشريع، فقد قلنا إن التشريع الإسلامي قائم على هذه الحلول، وروحه فيها وحدها.
على أن هناك محظوراً آخر. فأنا إذا نحن فرضنا على التشريع الإسلامي أفكاراً غريبة، اقتضتها أساليب التشريعات التي نشأت فيها نكون قد مسخنا هذا التشريع بالفعل.
فيلزمنا إذن التجرد من أساليب هذه التشريعات، وإذا نحن حاولنا الوصول إلى المبادئ الأولية، فلن تكون إلا تلك التي يتطلبها كل تشريع لمجرد كونه وليد العقل البشري، وهو واحد مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة.
وذلك كله لا يحول دون الاستعانة في عرض المسائل بما جربنا عليه في بحث قوانيننا الحديثة على أن يكون هذا إطاراً خارجياً، وعرضة للتحوير وفقاً لمقتضيات التشريع الإسلامي.
لذلك لن نعير كثيراً من الاهتمام ما حوته الكتب الفقهية من الأمثال والأصول، فهي في الغالب عبارة عن مبادئ يقضي بها المنطق أو العدل، لا نفس النصوص التي وردت بمناسبتها. ونذكر هنا أن مما استنفد نصيباً من نشاط الفقهاء مقارنة الحلول بعضها ببعض لإظهار الفروق والأشباه، على أنهم في هذا كله قلما يرتقون إلى المبادئ الأولية العامة.
أما علم أصول الفقه فهو شديد الاتصال بعلم الكلام، ولا يفيد في دراسة موضوعية للنصوص، فهو أشبه بفلسفة القانون منه بالقانون.
وقد قرب فقهاء الحنفية بينه وبين الفروع، ومع ذلك يقول (الحموي)(أنظر (الغمز) ج1، ص245) إنه:(لا عبرة بما في كتب الأصول إذا خالف ما ذكر في كتب الفروع كما صرحوا به).
وكذلك لا يلتفت في دراستنا الموضوعية إلى مصادر التشريع، ذلك أن (القرآن الكريم)، لم يأت إلا بقليل من الآيات في موضوع الالتزامات، وهي في الغالب من قبيل القواعد الأخلاقية.
أما (الأحاديث النبوية)، فهي أيضاً قليلة العدد، وسيؤخذ بها على أنها نصوص إذا جاءت بحلول معينة لبعض المسائل. ولن نتعرض لما وجه من الطعون إلى بعض هذه الأحاديث، فهي لمجرد ورودها تنم عن اتجاه خاص في التفكير.
فالعبرة إذن دائماً بالمسائل وأحكامها. ومما يؤيد وجهة النظر هذه أن في عقد البيع قد وردت أحاديث متعددة في صيغة النهي، وقد فرع الفقهاء عليها البطلان في بعض الأحوال، ومجرد الكراهية في البعض الآخر بالرغم من اتحاد الصيغة في جميع الأحوال.
يتضح من ذلك أن التشريع الإسلامي في موضوع الالتزامات يفقد صبغته الدينية.
ونذكر هنا أن هذا التشريع لا يمنع مصدره الديني من اعتباره تشريعاً بالمعنى الصحيح، ذلك أنا إذا نظرنا إلى ماهية القاعدة القانونية في هذا التشريع ألفيناها تتضمن جميع العناصر التي تلاحظ في القواعد القانونية.
من ذلك ابتناؤها على المظّان، وابتعادها عن التوغل في الدوافع النفسية؛ ومن ذلك أيضاً الجزاء المترتب على مخالفتها، فقد فرق الفقهاء بجلاء بين ما هو واجب قضاء، وما هو واجب ديانة.
أما (القياس) وقد اعتبروه مصدراً من مصادر التشريع، فهو، في الواقع، عملية من عمليات الاستدلال يقوم بها العقل، إذا أراد الوصول إلى حكم عن طريق الاستنتاج.
وهذه العمليات العقلية تؤدي إلى وضع حدود وتقسيمات، وشأن علم الفقه منها شأن سائر العلوم الأخرى.
وإذا استعمل العقل في مهمة استنباط الأحكام، فقد يؤدي به منطقه الجامد إلى حلول قد تتعارض مع فكرة العدالة المطلقة أو مع بعض الأحاديث الصريحة فيلجأ الفقهاء عندئذ إلى ما يسمونه (الاستحسان).
فالحكم الذي يقضي به الاستحسان ليس في الواقع إلا استثناء اقتضته قواعد العدل والإنصاف أو أسباب أخرى.
وقد يستعمل الاستحسان لإدخال ما استقر عليه (الإجماع) في التشريع.
وقد يتعين اعتباره كالعادة والعرف، عاملاً من عوامل التطور، إذا تبين أن التشريع الإسلامي قد تأثر بالفعل بواسطته. وهذا هو موضوع الطريقة التاريخية.
(يتبع)
شفيق شحاتة
الجوائز الأدبية ومغزاها
بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف
ستصبح الجوائز الأدبية يوماً ما، وإن بعد، موضوع رسالة أحد طلاب العلم يتقدم بها إلى إحدى الجامعات لينال إجازة (الدكتوراه) في الآداب. ولا ريب في أن مثل هذا الموضوع سيكون في نظر أدباء ذياك الجيل المقبل طريفاً غاية الطرافة، كما يجد أدباء هذا العصر متعة وأي متعة في حديث التقدير الأدبي الذي لقيه أدباء القرن التاسع عشر في أوربا وأمريكا. فقد كان تقدير الأدباء لذلك الجيل يجري على منوال خاص. ففي إنكلترا مثلاً منح الشاعر (لوريت) الذي نشأ راعياً مرعى خصيباً. ومنح الكثير من الأدباء ألقاباً بمناسبة إحياء أيام مولدهم أو نحوها من المناسبات. أما تقدير الأدباء في أمريكا فكان يجري على منوال آخر أساسه الانتفاع الضمني بالناحية المادية لمظهر الهبة أو المكافاة، إذ يذكر عن (ناتانيل هوثورن) أنه عين قنصلاً لأمريكا في ليفربول لمجرد الاعتراف بقدره الأدبي. وكذلك قلد (هرمن ملفيل) مثل هذه الوظيفة ليتمكن من التغلب على ضائقته المالية. وتابعت أمريكا السير في ذلك حتى عام 1904 حين عين الرئيس روزفلت (ادوين أرلنجتون روبنصن) في إدارة المكوس تشجيعاً له على النهوض بالشعر. جرى مثل ذلك على البعض في حين أن فطاحل الأدباء للعصر الفيكتوري مثلاً لم يصيبوا شيئاً من هذه الهبات، إلا أنهم استعاضوا عن ذلك بإدراك الحقيقة الراهنة التي كانت تتجلى لهم يوماً بعد يوم في زيادة طبقات القراء، فأوحت لهم ثقتهم بأنفسهم ألا يضعوا أمانيهم في غير المستقبل. وسرعان ما اطمأنت نفوسهم عندما صدر عام 1880 قرار يجعل حق الطبع والنشر ملكاً للمؤلف. وقضى هذا القرار على قرصنة الناشرين وسطو المغتصبين على أعمال الأدباء. وبطبيعة الحال كان تكرار نشر عمل أدبي يدر على صاحبه رزقاً جديداً. ولهذا لم يأبهوا للهبات والجوائز.
وأول الجوائز الأدبية التي ظهرت خلال القرن العشرين ولم تكن لها سمة التجارة هي (جوائز نوبل) في بلاد السويد و (جائزة جونكور) و (جائزة فمينا) في فرنسا، والجائزة (الهوثورنية) في إنكلترا، و (جائزة بولتزر) في أمريكا. وظهرت بعد ذلك جوائز أخرى في هذه البلاد وغيرها. ومهما تكن هذه الجوائز صادقة في التعبير عن عصر بذاته، أو عن
أثرة الروح القومية، أو هي مسألة قاصرة على المؤلف دون غيره، فهي على أي حال جوائز اعتراف بالتفوق الأدبي.
وليس من شك في أن جوائز نوبل خلدت ذكر الفرد برنهارد نوبل ذلك المخترع السويدي الذي تمكن من اكتشاف الديناميت فيما بين سنة 1865 وسنة 1866. وكأنما أراد أن يوازن بين خطر ما اخترعه بعمل آخر فأثبت في وصيته عدداً من الهبات ظنها مؤدية إلى القضاء على استعمال الديناميت. ولعل ذكرى السنين العجاف من حياته، التي أضناه فيها الكفاح بعدما زار الولايات المتحدة عام 1850 ليعمل في خدمة المخترع الاسكندنافي الأسبق جون إريكسون أوحت إليه بوجوب تخصيص إعانات للعلماء كي يتيسر لهم متابعة أبحاثهم ووجوب مساعدتهم حين الإخفاق. فلما واتاه الحظ حقق ذلك في وصيته إذ أثبت فيها قبل وفاته أن فوائد ما يتركه من رأس مال يجب أن تقسم سنوياً إلى خمس جوائز، تبقى إحداها وقفاً على علم الطبيعة، وأخرى وقفاً على الكيمياء، وواحدة للطب أو علم التحليل النفساني، ورابعة تخص مشكلة السلام، وخامسة ترصد للأدب. وتمنح جائزة الأدب سنوياً كما هو نص الوصية، (إلى الشخص الذي أنتج في عالم الأدب أحسن كتاب حوى نزعات مثالية). ووكل أمر اختيار ذلك إلى المجمع السويدي. والحق أن هذه الجائزة التي تتراوح بين اثني عشر ألفاً وخمسة عشر ألف جنيه تهيئ لأي أديب حياة راضية مرضية.
أما جائزة جونكور فلا زالت على عهدها منذ نشأتها في سنة 1903 أشهى ثمرة يتهافت عليها الأدباء في فرنسا. وهذه تمنح دون استثناء للأدباء الناشئين. وهي أرفع منزلة من مقعد ثابت في المجمع الفرنسي. وتعد جائزة جونكور الدرجة الأولى من سلم العلياء الأدبي. وهنالك جائزة فرنسية أخرى لها صداها في خارج البلاد الفرنسية هي جائزة فمينا. وكانت (مجلة فمينا) قد تآزرت عام 1904 مع (مجلة لافي أوروز) على منح جائزة قدرها خمسة آلاف فرنك لأحسن رواية توضع باللغة الفرنسية في نظر لجنة الكاتبات الفرنسيات. وأنشأت هذه اللجنة النسائية عام 1919 جائزة شبيهة بتلك وقفتها على المؤلفين الإنكليز لما بين البلدين من صداقة. ثم أنشأن عام 1932 (جائزة فمينا الأمريكية) لتكون قاصرة على الأدباء الأمريكيين.
وأهم الجوائز الأدبية التي تمنح في بريطانيا العظمى هي أولاً: الجوائز التذكارية لجيمس تيب بلاك التي تمنح في ربيع كل عام من أجل تاريخ حياة شخص عظيم أو من أجل رواية طابعها بريطاني. وعلى أستاذ آداب اللغة الإنكليزية في جامعة أدنبرج أن يختار أحسن الأعمال. وثانية الجوائز (جائزة هوثرن) التي تمنح لأحسن قصة يضعها كاتب إنكليزي دون الحادية والأربعين من عمره. أما جوائز بولتزر فقاصرة على الكتاب الأمريكيين من ذوي المواهب الفذة، على أن تظهر هذه المواهب في أعمالهم الأدبية.
ولا ريب في أن جائزة نوبل اليوم هي أعظم الجوائز في عالم الأدب إطلاقاً، إذ هي لا تؤثر قومية على أخرى. ثم إنه لا يحكم بها من أجل كتاب مفرد، بل يجري الحكم بها بعد التثبيت من صلاحية شطر من مؤلفات أديب بذاته، وهي لهذا السبب غالباً ما تمنح في خريف حياة الكاتب الأدبية وبعد أن يستكمل نضوجه الأدبي. وتشبه جائزة نوبل في ذلك اعتراف الشهود على ميت بطيبته وحسن عمله في الحياة، ولعل مستر سنكلر لويس أحد الشواذ الذين يثبتون صحة هذه القاعدة، فقد أنتج كثيراً بعد ما أحرز جائزة نوبل.
أما الجوائز الأخرى التي تقل عن جائزة نوبل شأناً، وقد ذكرت من قبل، فهي كثيراً ما كانت متحزبة في قصدها متأثرة بروح العصر في اختيارها. ثم إن الضيق المالي الذي شمل العالم في السنين الأخيرة لم يدع لواحدة من هذه الجوائز أن تصل إلى جزء من أربعين جزءاً من جائزة نوبل، وإن كانت تطبع صاحبها بطابع الجودة وتدمغه بخاتم الذهب الإبريز في نظر القارئ والناشر على السواء. ومن ثم يحرز المؤلف مكانة بعد أن يكون مهملاً الإهمال كله. والحق أن الجائزة أياً كانت تدق الطبول لصاحبها فيتنبه الناس إلى أن لهذا الرجل كتاباً لا يمكن التغاضي عن قراءته. وهذا مثلاً هنري وليمصن لم يكن معروفاً إلا لنفر قليل، فما هو إلا أن منح جائزة هوثورين من أجل كتابه (تاركا، كلبة الصيد) حتى تهافت الناس على قراءة كتابه وذاع اسمه في كل محيط. وعندما قضى المحكمون بمنح جائزة جونكور لأندريه مارلو لكتابة حظ شخص ' لفتوا العالم إلى واحد من أدباء الشباب في فرنسا الذين يعملون ويجاهدون للمثل العليا. وكانت جوزفينا جونصن قد باعت من كتابها (الآن في نوفمبر) مدى أحد عشر شهراً من بدء ظهوره 10 آلاف نسخة. وما إن منحت جائزة بولتزر من أجله حتى وصلها بين عشية وضحاها 9 آلاف
طلب ممن يريدون الاستمتاع بهذا الكتاب. وخلاصة القول إن هذه الجوائز القومية تحرض الناس على القراءة وتدفع الأدباء إلى تحسين الإنتاج.
ثم هنالك معركة حامية أبداً مستعرة دائماً في الخفاء بين الكتب، وليس لدى الذين لم يندمجوا بعد في تجارة الكتب أي فكرة عنها، فالتنافس بين المؤلفين بلغ شدته القصوى، وهو في هذه الشدة قاس عظيم القسوة صلف قوي، وليس للتسامح أو اللين أو الهوادة إليه سبيل؛ ولعل هذه الحرب اليوم أشد استعاراً مما كانت عليه في سابق الأيام.
ومهما تكن الحال فستبقى الديموقراطية عرجاء حتى يكون من واجبات الدولة تمرين الجماهير على كيفية القراءة المنتجة. وأول الخطوات في ذلك أن تبين للناس أحسن وأثمن وأنفع الكتب، ولكن إلى أن نصل إلى مثل هذا العهد ستبقى أسواق الكتب مملوءة بما يظهره الناشرون في كل يوم، أولئك الناشرون المنتشرون في كل بلاد الشرق والغرب، وستبقى جمهرة القراء في حيرة عندما يعمدون إلى انتخاب كتب للقراءة، ويكفي دليلاً على هذا حال الولايات المتحدة، فقد أصدر الناشرون فيها برغم كساد سوق الكتب منذ عام 1930 قدرا لا يقل عن 5000 كتاب جديد في كل سنة من سني الأزمة، ومع ذلك فالكتب التي تقرأ محدودة العدد.
ولهذا فالحاجة ماسة إلى حسن الانتخابات وصحة التأكيد. وليس أجدر بحل هذا المشكل من الجوائز الأدبية. وليتنا نحن الناطقين بلغة الضاد نأخذ بهذه السنة.
إبراهيم إبراهيم يوسف
ملخص عن:
تعزية باطلة
للأستاذ خليل هنداوي
(إن في العمر مرحلة تتفق الحقيقة والذكرى فيها على بث
الألم)
سمرنا إلى أن غفا السامر
…
وأَعيا من السهر الساهر
تعالي إليَّ لنطوي الزمان
…
وننشر ما لفَّه الغابر
فليس لنا من غد حاضر
…
وليس لنا أَمل سافر
تعالي نفر إلى عزلة
…
يفر إلى مثلها الشاعر
تعالي نعود إلى نجوَياتٍ
…
تقر بها النفس والناظر
تعالي نعود إلى الذكريات ال
…
عتاق، فقد يشتفي الذاكر
تعالي إلي حيث لذاتنا
…
خفقن كما يخفق الطائر
ففي كل صوب لنا مشهد
…
نضير بآمالنا زاهر
وفي كل وادٍ لنا نشوة
…
يعربد شيطانها الفاجر
تعالي إلى حيث فاح القديم
…
بأحلامنا، وانتشى الحاضر
دنا ودنت، والشفاه التقت
…
فما باح من سرها خاطر
ولم تتوثب عليها أمانٍ
…
ولم يمش فيها هوى ساعر
فأدركه وجل خائف
…
وأدركها وجل حائر
أيرجع عهد الشباب النضير
…
ويسطع منه الشذا العاطر؟
هو العمر غاضت بشاشاته
…
يعذبنا طيفه الزائر. . .
(دير الزور)
خليل هنداوي
وحي الريف
زهرة القطن أو ذات الثوب الذهبي
بقلم أحمد فتحي مرسي
أشرقت في البلادِ سهلاً فسهلاً
…
زهرة في الحقولِ ياما أُحَيْلَى
تنثني في الغصون إن هبت الري
…
حُ وجر النسيمُ في الحقل ذيلا
الندى سائلٌ على وجنتيها
…
رطَّب الخد والجبين وحلَّى
تلثِمُ الريحُ ثغرَها ثم تمضي
…
وتجوب الحقول حقلاً فحقلا
وتُسِرُّ الغداةَ في مسمعيها
…
عن مدى حبِّها حديثاً وقولا
قمتُ بين الرياض ذات صباح
…
أقتل الوقت والفراغ المُمِلا
وتخيَّرتُ في الفضاءِ مكاناً
…
راقَ في ناظري مياها وظِلا
ووقفتُ الغداةَ أرعى الحقول ال
…
خضر مستعرضاً بهاَهاَ مُطلاَّ
شدَّ ما راقني جمالُ رياضٍ
…
أشرقت في الضحى شعاعَا وطَلاَّ
وزهورُ القطن البهيجة في الحق
…
ل تَهاوى على الرُّبى وتَجَلى
يرقصُ اللوْزُ في سنا الصبح رقصاً
…
وتميل الزهورُ في الغصن ميلا
والحقول الوِضاءُ تبدو سماءً
…
أطلعت زاهر الكواكب ليلا
وكأنَّ الحقول مائدة خض
…
راءُ والريح لاعبٌ يتسلى
وكأن الزهور أوراق لعب
…
نُثرت فوقها وحلت محلا
قد أنرت الربوع يا زهرة القط
…
ن فهلا أنرت قلبيَ هلا
أنت حسن الحقول في ذلك الري
…
ف ومصباحها الجميلُ المحلى
أنت دنيا الفلاح والعقل والما
…
ل ولولاك ضاع مالاً وعقلا
أنت ليلاهُ في الغدوِّ وفي الرو
…
ح وقد جُنَّ في الحياة بليلى
أنت سؤل البلاد والأمل المنشو
…
د والمطمح العزيز المُجلَّى
أحمد فتحي مرسي
القصص
صديقة الطلبة
للشاعر الفرنسي الفريد ديمسيه
ترجمة السيد مظفر البقاعي
- 1 -
كان بين طلاب معهد الطب في جامعة باريس فتى لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر يدعي (أوجين أوبرت)، وهو من أسرة طيبة أقام أبواه في الريف وخصصا له نفقات ضئيلة كانت تقوم بأوده، وكان الشاب محبباً إلى رفاقه لطيب عنصره ودماثته وسخائه، وإنما كانوا يأخذون عليه انصرافه إلى الوحدة ورغبته عن الملاهي حتى لقبوه (بالطفلة) فكان يبتسم لدن سماع اللقب يقيناً منه أنه دعابة نزيهة.
وكان أوجين يمقت الغانيات ويعدهن من جنس خطر غادر، فيسرد بين سمع صحبه وبصرهم أدلته الوفيرة على رأيه، إلا أن هؤلاء كانوا يسخرون من مزاعمه، وبذهم في ذلك فتىً من خلانه مرح ماجن يدعى مارسيل كان لا يفتأ يحاوره ويجادله:
- أتزعم أن خطأ أو عارضاً حدث اتفاقاً يجيز لك وضع قاعدة مطردة!. . .
- بل إني أرى وجوب اجتناب أمثال هذه الأخطاء خيفة تكررها.
- هذه سفسطة. . .
ويطول الحوار في المقهى، والرفاق شهود، ويحرص مارسيل خلاله أن يثبت لأوجين أن النساء وخصوصاً العاملات منهن طاهرات وفيات، ثم يتخلص من ذلك إلى وصف جارة لأوجين اسمها ميمي بنسون بأوصاف مغرية يمل منها هذا فيتناول قبعته وينسل بلطف تاركاً مارسيل والمواعظ تتدفق من بين شفتيه. . .
- 2 -
لم تكن ميمي بنسون جميلة بالمعنى المعروف لدى الباريسيين، ولكنها كانت عاملة فتانة، وهناك فرق بين الغادة الوسيمة والعاملة الوضيئة، فتلك إذا ما ارتدت ثوباً بسيطاً وصداراً من حرير وخماراً صارت عاملة رشيقة، وأما هذه فأنها لو لبست رداء زاهياً ومعطفاً
مخملياً فوقه وغطت رأسها بقبعة، فربما بدت حسناء، وقد تترآى للعيان كمشجب علقت عليه الثياب المذكورة.
وقد كانت الآنسة بنسون ذات أنف أخنس وفم أشدق وأسنان جميلة ووجه مستدير وعينين براقتين فيهما حور، وشعر أسود؛ وليست هذه أوصاف حسن باهر، ومع ذلك فقد قرر مارسيل إغواء أوجين وإغراءه بحب هذه الفتاة؛ ولعل هذا لأنه كان هو نفسه مغرماً بالآنسة زليا صديقة الآنسة بنسون الحميمة، راجياً أن يكون التحبب داعية الحب. ولئن كان ذلك ممكناً، بل لو كانت المصادفة أقوى الفتن والغوايات، فكم من أناس عجز الاتفاق عن التغلب عليهم وباءت المصادفة بالفشل إزاءهم. . . ومن تلكم النفوس كانت نفس أوجين.
لم يكن مارسل يجهل سجايا خدينه، فرسم خطة سهلة أيقن أنها رائعة فعالة في التغلب على ثبات صاحبه ومقاومته، ذلك أنه أولم احتفاء بعيد مولده وليمة كان قد هيأ لها بضع زجاجات من الجعة، وقطعة لحم قديد، وشيئاً من السلطة، وقرص حلوى كبير، وزجاجة من خمر شمبانيا. ودعا طالبين من رفاقه، وطلب إلى صديقته زليا أن تأتيه مساء يومئذ وبصحبتها الآنسة بنسون. وفي الموعد المضروب عندما كانت الساعة تدق السابعة طرقت العاملتان الباب ودخلتا: زليا مرتدية ثوباً قصيراً مشطباً، وبنسون رداء أسود لم يكن يفارقها. وبعد أن جلستا واحتستا الكأسين الأوليين استأذنهما رب المنزل في التغيب قليلاً، وقصد تواً إلى منزل أوجين فوجده كعادته محاطاً بكتبه مكباً عليها، فبعد كلمات منمقة غير ذات معنى، بدأ يلومه برقة وينعى عليه إجهاده نفسه، وبنصحه بوجوب الاستراحة والتلهي، ثم اقترح عليه القيام بنزهة قصيرة، فقبل أوجين الاقتراح لأنه كان متعباً بعد إذ قضى يومه في الدرس والمطالعة. وبعد جولة لم يعد صعباً على مارسيل أن يستزير صديقه، وكان الفتاتان قد أطلقتا لنفسيهما العنان إذ داخلهما السأم من الانتظار، فخلعتا وشاحيهما وحسرتا، ثم أخذتا ترقصان وتتذوقان ما على الخوان على سبيل التسلية. فلما دخل الشابان وقفتا في ذهول وقد توردت وجنتاهما، ثم حيتا أوجين في استحياء وحيرة ودهشة لعرفانهما سلوكه واعتزاله، وبعد أن أجالتا فيه النظر عادتا إلى الرقص والغناء؛ أما أوجين فقد تقهقر ليولي الأدبار لولا أن أقفل مارسيل الباب وألقى المفتاح على المائدة وصاح:
- لقد امتلكنا هذا النافر المعتكف. . أقدم لكما يا آنستيّ أفضل شاب في فرنسا، وهو راغب
في التشرف بمعرفتكما منذ زمن طويل، وإنه جد معجب بالآنسة بنسون.
فكفت الصبيتان عن الرقص، وحيتا أوجين كرة أخرى، وقال له مارسيل:
- إني قدتك بالرغم منك لتشاركني في عيدي الخاص، فهلا فعلت؟
وبإشارة من مارسيل قالت له بنسون بصوت عذب: ذلك رجاؤنا يا سيدي.
ووافى القوم آنئذ الطالبان المدعوان، فلم يعد لأوجين سبيل إلى الخلاص فجلس على مضض.
- 3 -
دام العشاء إلى ساعة متأخرة أكثر خلاله الفتية من تدخين اللفائف واحتساء العقار. أما العاملتان فكانتا فكاهة المجلس وتعلة السامر بأحاديثهما الشائقة وفيها المعقول والمبالغ فيه: فمنها أن كاتبين ربحا في القمار عشرين ألف فرنك وبدداها مع عاملتين خلال ستة أسابيع؛ وأن ابن أحد أعاظم أغنياء باريس قدم لغسالة معروفة (لوجا) في الأوبرا وداراً في الضاحية فرفضتهما وآثرت أن تظل بارة بأبويها العجوزين، وأن وجيهاً زار عاملة فنفاها أولو الأمر إلى أمريكا وأعطوها محفظة مفعمة بالأوراق المالية. . .
فقاطعهما مارسيل أخيراً قائلاً: إن زليا تبتكر وتغرق، أما الآنسة ميمي فقد فاتها أن الكاتبين ما ربحا شيئاً، وما قدم الغنى غير برتقالة، والعاملة في المستشفى في أشد حاجة إلى القوت. . .
نهضت عندئذ بنسون - وقد لاح لأوجين أنها اصفرت عند سماعها الجملة الأخيرة - فقالت:
- إن كان مارسيل لا يصدق القصص فليسمع هذه الحادثة وقد كنت أحد أبطالها:
ذهبت في الأسبوع الفائت مع اثنتين من صديقاتي وهما بلانشت وروجيت إلى مسرح (الأديون) لمشاهدة رواية، فاستأجرنا لوجاً ودفعت روجيت الثمن - إذ كانت قد ورثت مالاً، فرآنا ثلاثة طلاب ودعونا للعشاء، فقمنا إلى مطعم المسرح مع الأبطال وأخذنا نطلب أفخر الأطعمة وأغلاها وأسرفنا في الطلب؛ وكنا كلما قدمت صفحة تناولنا منها لقمة أو لقمتين ثم نستبدلها من غيرها، والشبان الثلاثة يحرقون الأرم على أن لو استطاعوا ازدراد شيء من الصحون المرفوضة أو المعادة؛ وجعلوا أخيراً يفكرون في أمر الدفع فقد كان مع أحدهم
ستة فرنكات ومع الثاني دون ذلك ومع الأخير ساعته. ثم قاموا متثاقلين يجرون أرجلهم نحو المحاسب الذي ابتدرهم بقوله: الثمن مدفوع، لأن روجيت دفعت الثمن سلفاً. ثم عرضنا على السادة المذكورين إبلاغهم إلى دورهم ولكنهم مانعوا ورفضوا جهدهم فأصررنا وقد تظاهرنا بأننا ثريات نبيلات، وكانت روجيت تقول لي:
- يجدر بنا أيتها المركيزة أن نقود السادة إلى منازلهم.
فأجيبها: حباً وكرامة يا كونتس!
لم ترق هذه القصة للتلميذين صديقي مارسيل، فوجما وقد اغبر وجهاهما، ولعلهما كانا يعرفان تفاصيل الحديث أكثر من الآنسة بنسون التي طلب منها مارسيل أن تسميهم له فرفضت، فسر أوجين من إبائها وأثنى عليها قائلاً:
- أنت محقة أيتها الآنسة، إذ ليس بين الشبان الذين يملئون الجامعات والمدارس من خلا من خطيئة ارتكبها، أو طيش فعله، ومع ذلك فكل رجال فرنسا البارزين من سياسيين وقضاة وأطباء إنما يخرجون من هناك. . .
وقال مارسيل: هذا حق، فكم من عين قضى طفولته يتناول الطعام في أحقر المطاعم، بل ربما لم يكن لديه ثمن القوت ثم سألها وهو يغمز بعينه: ألم تري بعدئذٍ العشاق المجهولين؟ فأجابته غضبى نافرة: من تحسبنا؟ أولا تعرف بلانشت وروجيت. . . فقاطعها قائلاً: حسناً لا تغضبي، ولكنها قصة ثلاث طائشات بددن مالهن وأضعنه جزافاً كي يسخرن بثلاثة مساكين لا يد لهم في الأمر!
فأجابته: ولم إذن دعونا؟
- 4 -
طلب مارسل إلى ميمي أن تغني، فأنشدت مديحاً قيل فيها يتلخص فيما يلي:
(ليس لميمي غير ثوب واحد وقبعة. رداؤها لا يرتهن مدى الزمن مهما اعتراها من محن).
وكانت الجمل الثلاث الأخيرة لازمة الأغنية، جعل السامعون يرددونها، ويضربون الطاولة بمقابض السكاكين أو بالغلايين فيحدث من ذلك دوي شديد أزعج الآنسة المغنية فقالت: كفى، ليت عندنا آلة موسيقية نرقص شوطاً على إيقاعها.
قال مارسل: لدي قيثارة لكن أوتارها ناقصة.
وقالت زليا: هو ذا بيانو وسيعزف عليه مارسل. فحدجها هذا بنظرة غضب قاسية وقال: إنك تعلمين أنني لا أكاد أعرف عزفاً، وأن ليس سواك من يستطيع أن يلاعب أصابع العاج؛ ولو كنت طلبت ذلك من أوجين لسقطت على الخبير ولكني لا أريد إزعاجه.
فاحمر وجه أوجين وانسل بكياسة فجلس إلى البيانو وأخذ يعزف فابتدأ الرقص، ولكنه لم ينته إلا بعد أمد طويل إذ جعل القوم ينتقلون من رقص إلى رقص دون كلال أو ملال، وأنهك السهر والصياح أعصاب أوجين فاستولى عليه النعاس ولكنه استمر يعزف بصورة آلية كالفارس النائم على فرسه، وكانت الراقصات تمررن من أمامه كأشباح في الحلم. ولا مرية في أن الحزن يستولي على من يرى غيره يضحك بمعزل عنه، وكذلك عاودت أوجين بلابله ووساوسه فجعل يناجي نفسه:
هذا لعمري سرور من حزن واغتباط من بؤس، وإنها لحظات يخيل إلى أنها اختلست من أوقات الشقاء. ومن يدري أي واحد من هؤلاء الخمسة لديه ما يسد به رمقه غداً؟!
وبينا هو غارق في لجة أفكاره وهواجسه مرت بقربه الآنسة بنسون وخيل إليه أنها اختلست قطعة الحلوى من الخوان ودستها في جيبها.
- 5 -
وانبلج الصباح فانفض السامر وتفرق السمار، ومضى أوجين يدلف في الدروب والسكك يستنشق نسيم الصباح العليل وهو ممعن في خوض عيلم من أفكاره السوداء وصار يردد على رغمه:
(ليس لميمي غير ثوب واحد وقبعة). ويتساءل: - هل تدفع التعاسة الإنسان إلى التظاهر بالجذل والسخر من البؤس؟ وهل يفتر ثغر جائع عن ابتسامة!. . .
وكان يعتاده الأسى إذا ما ذكر أمر اختلاس الحلوى فيهتز حنواً ورحمة ويقلب الأمر ظهراً لبطن ويقول:
- ترى لم سرقت الحلوى ولم تسرق الخبز!. . . ثم لا يلبث أن يلتمس لها عذراً.
لم ينتبه أوجين ليرى أين طاحت به قدماه، فدخل اتفاقاً بعض المنعطفات التي أدت به إلى أزقة ضيقة، فلما تبين ذلك عاد أدراجه فرأى امرأة هزيلة صفراء الوجه شعثاء الشعر أطمارها بالية خرجت من دار قديمة، وقد بدا عليها السقام واصطكت ركبتاها حتى لم تكد
تستطيع مشياً فجعلت تعتمد على الجدران.
وبدا لأوجين أنها تقصد صندوق البريد القريب فابتدرها مضطرباً وسألها عن أمرها وهدفها، ثم مد لها ذراعيه لتستند عليهما وقد شارفت على السقوط فازورت في كبرياء ووجل وألقت إليه بالبطاقة التي تحملها، وأشارت إليه أن يضعها في الصندوق وعادت تجر ساقيها مشية النزيف أمضه الونى حتى دخلت دارها، فتحرك لها فؤاده ورقت لها حناياه وأشاطه الحنو بعد رزانة ففض غلاف الرقعة دون ما روية أو تريث إذ أدرك أن هذه السقيمة قد تقضي قبل أن تتلقى جواباً، وكان عنوان الغلاف:(إلى حضرة البارون. . .) وفحواه ما يأتي:
(اتل يا سيدي كتابي ولا تهمله، فأنا أموت جوعاً إذ لم أحصل على بلغة منذ أيام، وأمس بت على الطوى وما أزال، وقد لا يصل كتابي إليك إلا وأصبح شريدة بلا مأوى، فقد أقعدني المرض عن العمل لأكسب قوتي وأدفع أجرة المسكن. أرسل لي بربك ديناراً بلا تأخر، ولا تدعني في شك يلتهم ما أبقت الآلام مني، إني منتظرة حتى نهار الخميس في داري: شارع المهماز، واسمي الجديد الآنسة برنان)(روجيت).
دهش أوجين أشد دهشة لما رأى التوقيع وتمتم قائلاً:
- إنها الفتاة التي بددت دراهمها نفسها. . . لقد ألقى بها الداء إلى هذه الهاوية من الذل!. . . وأردف يتابع نجواه:
- ليت شعري ألم تعلم صديقاتها بأمرها؟ أم ترى تركنها تتضور جوعاً وفي العراء من غير ملجأ!. . .
وأفاق من ذهوله كأنما كان في حلم مريع فسارع إلى طاه كان يفتح حانوته فاتباع طعاماً ثم سار يقود أجير الطاهي إلى دار روجيت، فلما وصلها أوعز للغلام أن يطرق الباب ويعطيها الطعام فإن سألته عن مرسله فليقل إنه (البارون. . .) ثم سار متثاقلاً فأصلح من شأن الرسالة وألقاها في صندوق البريد وهمس يحدث نفسه:
(أما إذا رأت روجيت أن جواب بطاقتها كان سريعاً فستفهم السر من البارون).
- 6 -
كان أوجين يرى من الواجب أن يرفق المائدة المرسلة بالدينار المطلوب ولكنه كان خالي
الوفاض صفر اليدين. فإن الطلاب كالعاملات فقراء، وليست الدراهم بضاعة رائجة في الحي اللاتيني؛ لذا قصد فتانا حلاقاً مرابياً في ساحة البانطيون ليرهن بعض حاجاته وهناك ألفى خليله مارسل يحلق لحيته ويقترض مالاً يفي به ثمن عشاء الأمس، فلما أبصره هذا سأله عن جلية أمره فأطلعه بإيجاز على قصده، فسخر منه مارسل وصار يعنفه وأوجين لا يزداد إلا متانة وعزماً، وأخذ يلوم ميمي بنسون وإضرابها من الصديقات اللواتي يتناسين عشيراتهن بالأمس ويوجه إليهن سهاماً صائبة من الانتقاد والاحتقار الشديد إلى أن قال:
- إن فتاتك بنسون غول فظيع عدا كونها متهللة خليعة ماجنة. أما صداقتها فمادية ممقوتة.
فقال الحلاق المرابي واسمه الأب كاديديس:
- إنك قاس وحكمك جائر لأني أعرف الآنسة بنسون وأعتقد أنها نبيلة سامية وهي عظيمة.
فأجاب أوجين: - نعم هي عظيمة في شراهتها وكثرة تدخينها.
فقال المرابي: - ذلك ممكن وأكثر الشبان ما بين آكل وضاحك ومغن ومدخن، على أن منهم من له قلب يحس ويتألم فسأله مارسل: - ماذا تقصد؟
فأجاب الحلاق: - هناك في مؤخرة الحانوت ثوب حريري تعرفانه يا سيدي لأنكما تعلمان أن صاحبته لا تملك سواه، وهي الآنسة ميمي التي رهنتنيه فجر اليوم لكي تسعف روجيت أولاً فإنها في أشد عوز.
ودخل مارسل إلى أقصى الحانوت ليشاهد الثوب العتيد وتبعه أوجين فقال الأول:
- إن أنشودة ميمي كاذبة إذ رهنت ردائها!. . . كم أعطيتها أيها الأب كاديديس على هذه الرهينة الثمينة.
- أقرضتها أربعة فرنكات وكنت لها محسناً لأن الثوب بال قديم. فصاح مارسل:
- مسكينة ميمي! أراهن على أنها رهنت الرداء لتساعد روجيت؟
فقال أوجين: - أو لتدفع ديناً ممطولاً.
وأردف المرابي قائلاً: وإني لأذكر أن بعض دائنيها حجزوا على أثاث دارها ولم يتركوا لها سوى سريرها وكانت نائمة عليه وقد ارتدت أربعة أثواب فوق بعضها كيلا يأخذ الغرماء واحداً منها، وقد كانت يومئذ في حال خير من حالها اليوم، فلم ترهن ثوبها إذن لتفي ديناً، ويدهشني أن يكون ذلك لمعونة بائسة مثلها.
واسترد مارسل الثوب بعد أن دفع قيمة الرهن، وخرج مع صديقه - الذي أصر على أن الرهن ليس من أجل روجيت - فقصد دار ميمي تنفيذاً لرهان عقداه.
- 7 -
- ذهبت الآنسة إلى الصلاة.
هذا ما قاله البواب للطالبين عندما سألاه عن ميمي.
فصاح أوجين في عجب: إلى الصلاة!
وردد مارسل: إلى الصلاة! هذا مستحيل لأنها لم تبرح الدار. دعنا ندخل فنحن أصدقاء قدماء.
ولكن البواب أكد لهم أنها خرجت مذ هنيهة إلى الكنيسة المجاورة دأبها كل صباح. وفيما هم كذلك إذ ظهرت تجتاز الشارع فأسرع مارسل ينعم النظر في أثوابها فرآها ترتدي غلالة عتيقة مؤتزرة بستارة نافذة من الصوف الأخضر، وقد سترت رأسها بنصيف أبيض فبدت بهذه الأطمار خلابة وأزاحت الستر قليلاً فبانت قامتها الهيفاء. وقالت للفتيين: - هذا ثوب تفضل.
فقال مارسل - لعمري إنك فاتنة. قالت: إني غدوت كحزمة. قال: بل طاقة ورد، وإني نادم إذا رددت لك ثوبك. قالت: وأين وجدته؟!
قال: فككت أسره، وأطلقت رقه، ودفعت فديته، فهل تغفرين جرأتي؟
قالت: نعم وسأنتقم.
وأخذت ترقى الدرج إلى غرفتها وخلفها الصديقان حتى وصلت إليها، فدخلوا جميعاً. وقال مارسيل: - لا أعيد لك الرداء إلا على شرط.
قالت: ويحك! أشروط! إنها حماقة لا أريدها.
قال: لقد تراهنا! فقولي بصراحة لم رهنت ثوبك؟
قالت: دعني أرتديه ثم أخبركما عن السبب. استرا وجهيكما كي لا أضطر إلى لبسه في الخزانة أو على السطح. فأجاب مارسل: - اطمئني فلن نختلس نظرات.
- إني أثق بكما ولكن قيل: أحذر الأمين.
وخلعت الستارة وألقتها على وجهي الشابين، وأمرتهما بالصمت والخضوع، فقال مارسيل:
إحذري أن يكون في الستر خرق نراك منه، فقد جعلنا فعلك في حل من كلامنا.
فهتكت الستار ضاحكة فقالا:
- سرك يا آنسة هلا بحت لنا به وأنجزت وعدك؟
فترددت هنيهة ثم دفعتهما نحو الباب وقالت:
- تعاليا معي فتريا.
- 8 -
بعد مسير غير قصير في طرق ملتوية ودروب ضيقة سار فيها أوجين من قبل وصل الثلاثة إلى دار روجيت فدخلوها، وقد ربح مارسل الرهان لأن الأربعة فرنكات وقطعة الحلوى التي سرقتها الآنسة بنسون أمس كانت على المائدة مع فضلات الدجاجة التي أرسلها أوجين.
وكان حال المريضة خيراً من قبل، وكان شكرها للمحسن المجهول عظيماً. وقد اعتذرت بواسطة صديقتها بأنها غير قادرة أن تستقبل الشابين فانصرفا متعجبين من هذه الكبرياء وهذه العفة.
وبعد أن حضرا دروسهما في المعهد تغديا معاً، وفي المساء خطرا يتنزهان في الشارع الإيطالي. وأخذ مارسل يحاور عشيره ويحاول إقناعه قائلاً:
- طالما لمتني على حبي هؤلاء العاملات، وقد رأيت من طيب أنفسهن ونبلهن البرهان القاطع. من هو ذلك المحسن الذي قام بما قامت به ميمي من أجل صديقتها؟ إن فتاة ترهن ثوبها الوحيد وتسرق قطعة حلوى لتساعد رفيقتها لجديرة بالتقديس وخلود الذكر. أما تلك العليلة فإنها لا تقل عن خدينتها شرفاً وطهراً؛ ولو أن فيها أدنى شائبة لما طلبت كسائلة صدقة من أحد. وكادت تقضي منتظرة لولاك، فلم تخش موتاً محققاً، وهي التي عرفت حلاوة العيش عندما ألقت بنفسها في النهر مرة من قبل.
فقال أوجين: حسبك يا مارسل! أتظن أن أيامي كهؤلاء بلا عائل ولا سند هن ذوات حنكة أو دراية كافية؟ وهل يا ترى نذرن أنفسهن البائسة للشقاء والتعاسة؟ ليت شعري متى يعدن إلى جادة الخير والصلاح؟ ألا قل لي أولا تعاملونهن يا معاشر الشباب بطيشكم ومجونكم المعهودين؟! هيا بنا إلى دار روجيت المريضة علنا نحملها على أن تسلك الصراط
المستقيم، ولن أطلب منها قسماً بل لا أؤنبها ولا أوبخها، ولكني سأقترب من سريرها فآخذ بيديها ويدي صاحبتها وأقول لهما. . .
ومرّ آنئذٍ أمام مقهى لاح لهما فيه على ضوء المصباح وجها فتاتين تأكلان حليباً مجمداً، فلما رأتا الشابين لوحت لهما الأولى بمنديلها وقهقهت الأخرى ضاحكة. فقال مارسل مقاطعاً أوجين:
- واهاً! إن كنت ترغب أن تحدثهما فهم هنا في مرح ولهو، ويظهر أن البارون قام بالمطلوب.
فأجابه:
أولا يخيفك جنون كهذا؟
نعم! لكني أرجو أن لا تطعن في العاملات وخصوصاً اللواتي على شاكلة بنسون.
(دمشق)
مظفر البقاعي
البريد الأدبي
كتاب عن الحبشة للجنرال فرجين
صدر أخيراً في السويد كتاب جديد عن المسألة الحبشية بقلم شخصية كانت تشغل في الحبشة حتى الغزوة الإيطالية المكانة الأولى، تلك هي شخصية الجنرال فرجين السويدي مستشار إمبراطور الحبشة السياسي والعسكري من مايو سنة 934 إلى ديسمبر سنة 935، وقد ذاع اسم الجنرال فرجين أثناء الحرب الحبشية، وكاد وجوده إلى جانب الإمبراطور في بدء الهجوم الإيطالي يؤدي إلى اضطراب العلائق السياسية بين إيطاليا والسويد؛ ذلك أن الجنرال فرجين عين مستشاراً للإمبراطور بواسطة حكومته، وكان تعببنه حلقة اتصال قوي بين الحبشة والسويد، وكان يوجد في الحبشة في بدء الهجوم الإيطالي عدة ضباط من السويد يعملون لتنظيم جيش النجاشي، وكانت المعامل السويدية تصدر الأسلحة والذخائر إلى الحبشة، ولكن السويد رأت في النهاية أن تبتعد عن التدخل في هذه المغامرة فأمرت الجنرال فرجين وزملاءه بالانسحاب من الحبشة.
والكتاب الذي ألفه الجنرال فرجين بالسويدية، وترجم أخيراً إلى الإنكليزية عنوانه الحبشة كما عرفتها وفيه يعرض الجنرال إلى الظروف والحوادث التي انتهت بهجوم إيطاليا على الحبشة، ويفصل حوادث الغزو حتى ديسمبر الماضي أي إلى انسحابه من ميدان الحوادث، وربما كان هذا القسم الأخير هو أهم أقسام الكتاب، ففيه يسرد الجنرال كل المقدمات والوسائل التي تذرعت بها إيطاليا لتنفيذ اعتدائها، ويقول إنه لم يكن جافياً أن إيطاليا تدبر هذا الاعتداء منذ زمن طويل، وأنها أرسلت قبل وقوع الاعتداء بعامين عدة من الرسل والمندوبين بصفة قناصل في طول الحبشة وعرضها؛ واشتغل هؤلاء ببث الدعاية لإيطاليا وكسب ولاء القبائل والزعماء بالرشوة والوعود، واشتغلوا أيضاً بتدبير المشاكل والمشاغبات مع السلطات المحلية لإثارة الخواطر وتحدي الإمبراطور.
ومن جهة أخرى، فقد عملت إيطاليا من جانبها على إذاعة دعوى قوية في أنحاء أوربا والعالم كله ضد الحبشة وصورتها بصورة أمة همجية تهدد باستعداداتها الحربية مركز البيض في أفريقية، وتدبر الاعتداء على مستعمراتها، وأنه يجب على أوربا أن تشد أزر إيطاليا في موقفها وفي محاولتها أن تحمي مركز البيض في أفريقية، وأن تحمل رسالة
الحضارة الأوربية إلى تلك البلاد الهمجية الوعرة.
ويعتبر كتاب الجنرال فرجين بما فيه من حقائق وبيانات وثيقة عن هذه الحوادث الخطيرة أهم الوثائق التي صدرت عن الحبشة قبيل محنتها وسقوطها في يد الاستعمار الغربي.
حول مقالات الأستاذ كراتشقوفسكي
وردت في (ترجمة) الفصول التي تنشرها الرسالة للأستاذ المستشرق أغناتيوس كراتشكوفسكي عدة وقائع ونقط تحتاج إلى الضبط والتصحيح وهذا بيان ما لفت نظرنا منها.
(1)
إن الأستاذ كراتشوفسكي يشغل منصبه العلمي (بأكاديمية العلوم بلننجراد) وليس بجامعة لننجراد كما ورد في تعريف المترجم، وأنه ليس هو مترجم قصة (عودة الروح) لتوفيق الحكيم ولكن الذي ترجمها هو كاتب روسي آخر يدعى مسيو ساليير.
(2)
وأن كتاب (زعماء الأدب العربي المعاصر) ليس من تصنيف الدكتور كمبفماير وحده ولكنه اشترك في وضعه مع الدكتور طاهر خميري الأديب التونسي الذي يشغل الآن منصب محاضر في المعهد الشرقي بهامبورج.
هذا عن المقال الأول.
(3)
وأما عن المقال الثاني فقد ورد في آخره ما يأتي: (وفي عام سنة 1884) وضع جميل المدور (أخبار أيام هارون الرشيد)؟
ونحن نجيب المترجم عن استفهامه وهو أن الكتاب المشار إليه يسمى (حضارة الإسلام في دار السلام) بقلم جميل بن نخلة المدور؛ وقد طبع بالقاهرة سنة 1888.
ذكرى الموسيقي بروكنر
من أنباء فينا أنه قد احتفل فيها في الأسبوع الماضي بذكرى الموسيقي النمساوي الشهير أنتون بروكنر وذلك لمناسبة مرور أربعين عاماً على وفاته؛ فأقيمت عدة احتفالات موسيقية كبيرة في بهو جمعية الموسيقى النمساوية وفي بهو الكونسر فتوار وفي معظم أبهاء العاصمة النمساوية الأخرى، واتخذت هذه الاحتفالات صفة رسمية. وأنتون بروكنر أحد أقطاب هذه الموسيقية الزاهرة التي غمرت النمسا وأوربا بفنها الرائع في أواخر القرن
الماضي، وكان مولده في سنة 1824؛ وتوفي في سنة 1896؛ وتخصص في الموسيقى الكنسية؛ واشتغل أولاً موسيقياً لكنيسة لنز، ثم انتخب موسيقياً لكنيسة البلاط؛ وعين بعدئذ أستاذاً للكونسر فتوار؛ وطاف بروكنر أنحاء العواصم الأوربية وعرض فيها (سيمفونياته) الشهيرة وهي من أبدع ما وضع من مقطوعات الموسيقى الكنسية. ومما يؤثر عنه أنه كان ورعاً جداً حتى إنه أهدى مقطوعته الأخيرة المعروفة (بالمقطوعة التاسعة) إلى (الله سبحانه وتعالى ولكن الموت عاجله ولم يتمها؛ وكان القيصر فرانز يوسف يغدق عليه حبه وعطفه حتى إنه أهدى إليه مسكناً فخماً في قصر (البلفدير) الشهير.
هرمان فندل
نعت إلينا أنباء باريس الأخيرة الكاتب الألماني المعروف هرمان فندل فقد توفي فيها في الثانية والخمسين من عمره؛ وقد ولد هرمان فندل ألمانياً في مدينة متزمن من أعمال اللورين، ولكن اللورين ضمت بعد الحرب إلى فرنسا، فغدا فرنسياً، وتلقى فندل دراسته في ميونيخ ودرس الفلسفة والتاريخ؛ وخاض منذ الحداثة غمار السياسة، وانضم إلى الحزب الديموقراطي، واشتغل بالصحافة، واشتهر بمقالاته القوية اللاذعة، ثم اعتزل السياسة واشتغل بالتاريخ، وتوفر على دراسة تاريخ يوجوسلافيا السياسي والاجتماعي، وقام فيها برحلات ومباحث عديدة حتى غدا مؤرخها الأخصائي. وأهم كتبه عنها كتابه المسمى:(نضال السلافيين في سبيل الحرية والوحدة)
وله كتاب آخر في دراسات مختلفة عن يوجوسلافيا عنوانه: (في أرجاء يوجوسلافيا الجنوبية)
وفي سنة 1920، طلبت إليه الحكومة الألمانية أن يكون سفيراً لها في بلغراد فأبى؛ وفي سنة 1929، أنعمت عليه جامعة بلغراد بلقب الدكتوراه الفخرية لخدماته الجليلة لقضية السلافيين.
تبادل المؤلفات بين البلاد العربية
قررت الحكومة المصرية أن تتبادل إدارة الصحافة والثقافة والنشر مع حكومات البلدان العربية العراق والحجاز وسوريا وفلسطين واليمن وغيرها المؤلفات والمطبوعات التي تطبع في مصر وفي تلك البلاد فترسل هذه الإدارة إلى هذه الحكومات نسخة من كل ما يطبع أو يصدر في مصر وترسل هذه البلاد إلى الإدارة نسخة من كل ما يطبع أو يصدر بها من المؤلفات. وهذا القرار جزء من الخطة التي رسمتها الحكومة المصرية لتوحيد الثقافة العربية في جميع هذه الأقطار.
تاريخ العرب الأدبي للأستاذ نيكلسون
تبدأ (الرسالة) من العدد القادم في نشر كتاب (تاريخ العرب الأدبي) للمستشرق الإنجليزي الكبير الأستاذ رينولد نيكلسون صاحب التآليف المعروفة لكل مشتغل بالدراسات الإسلامية والتاريخ العربي. والأستاذ نيكلسون من المستشرقين الذين درسوا الأدب العربي دراسة دقيقة ووقفوا على أسرار العربية، وله معرفة تامة بكثير من اللغات الغربية كالفرنسية والألمانية واليونانية واللاتينية والإيطالية وبعض اللغات الشرقية كالسريانية والعبرية والفارسية والعربية. وقد ولد في 19 أغسطس سنة 1868 وتعلم في جامعة أبردين التي صار فيها - فيما بعد - أستاذاً للعربية والفارسية، وكذلك في جامعة ترينتي كولدج بكمبردج، وله كثير من المؤلفات والمترجمات التي تتعلق بالآداب الشرقية وعلى الأخص العربية والفارسية ومن أهمها:(1) مختارات من ديوان شمس تبريزي (1898) وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار (جزءان 1900) ومبادئ العربية (3 مجلدات) 1907، 1909، 1911، وتاريخ العرب الأدبي (طبع لأول مرة سنة 1907 ولآخر مرة سنة 1931) وترجمان الأشواق لابن العربي مع ترجمته الإنكليزي وتعليقات بقلمه (1911) وكتاب (في التصوف الإسلامي) وصوفيو الإسلام (1914) ونظرات في التصوف، وأسرار الروح (عن محمد إقبال) 1920، ودراسات في الشعر الإسلامي، وكتاب كشف المحجوب مع ترجمة وتعليق بقلمه (1911) وأشعار عمر الخيام ترجمة وتعليق 1909 والمسعودي وغير هذه من الكتب القيمة. وهو يعيش اليوم في هدوء الشيخوخة بين أسفار الأدبين العربي والفارسي. ولكتابه في الأدب العربي قيمة ممتازة بين كتب المستشرقين
تتجلى في سداد بحثه ووضوح أسلوبه واستقامة منهجه وقوة إدراكه لمختلف الآثار والعوامل التي طبعت أدب العرب في كل عصر وفي كل بيئة.
الكتب
تاريخ الفلسفة اليونانية
تأليف الأستاذ يوسف كرم
المدرس بكلية الآداب
بقلم الدكتور إبراهيم بيومي مدكور
منذ عام تقريباً ندبنا على صفحات (الرسالة) حظ الفلسفة في بلدنا؛ وأخذنا على العامة ازدراءهم لها وإعراضهم عنها وجهلهم بها، وساءنا من الخاصة أنهم لا يأخذون بيدها ولا يقومون على نشرها ولا يحببون الناس فيها، وربما كان قسط الخاصة من شكوانا أعظم من غيرهم؛ فإنهم إن قاموا بواجبهم وكتبوا لنا فلسفة بلغة العصر وروح العصر اجتذبوا القراء إليهم ورغبوهم في أبحاثهم. وكم شكا عشاق الفلسفة - وحق لهم أن يشكوا - من أنهم لا يجدون منها في العربية الغذاء الكافي لأرواحهم وعقولهم، وكأنى بهذه الشكوى جاءت إرهاصاً لما بعدها وإعلاناً عن نقص اتفقت عليه الآراء، ولا أدل على هذا من أن لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي أعرف ما يكون بحوائج البلد العلمية ووسائل مدها، قد وجهت عناية خاصة في هذا العام إلى الدراسات الفلسفية وأخرجت لنا خمسة كتب في نواحيها المختلفة.
ومن بين هذه الكتب تاريخ الفلسفة اليونانية الذي وضعه زميلنا الأستاذ كرم بعد خبرة طويلة وتجارب عديدة، فقد وكل إليه تدريس الفلسفة بكلية الآداب بالجامعة المصرية منذ عشر سنوات أو يزيد استطاع فيها أن يعرف فلاسفة الإغريق عن قرب وأن ينفذ إلى صميم أفكارهم. ويقع مؤلَّفه في ثلاثمائة وخمسين صفحة تقريباً من القطع الكبير درست فيها المدارس الفلسفية اليونانية منذ عهد الشعراء إلى أواخر أيام مدرسة الإسكندرية؛ وذيلت ببيان عن المراجع الهامة وقاموس مفيد في الأعلام والألفاظ الفلسفية. وينقسم هذا الكتاب إلى خمسة أقسام: مقدمة وأربعة أبواب. ففي المقدمة يعرض المؤلِّف للفكر اليوناني قبل الفلسفة ويتحدث عن عصر الشعراء والحكماء السبعة، وفي الباب الأول يدرس الطبيعيين الأول والمتأخرين والفيثاغوريين، والأيلبين، والسفسطائيين، وسقراط الذي يفصل بين
مرحلتين متحيزتين من مراحل تاريخ الفلسفة؛ ويقف الباب الثاني على أفلاطون، والثالث على أرسطو. أما الباب الرابع والأخير فيتكلم فيه عن صغار السقراطيين والأبيقوريين وأصحاب الرواق والشكاك ورجال مدرسة الإسكندرية. وإنا لنلحظ في هذا التقسيم أنه عني عناية خاصة وجديرة بالتقدير بالشخصيتين العظيمتين في تاريخ الفلسفة اليونانية وهما أفلاطون وأرسطو؛ فقد درس كل واحد منهم في باب مستقل، وليس هذان البابان من الأبواب الصغيرة، فحديثه عن أفلاطون يقع في ست وستين صفحة، وترجمته لأرسطو تشغل ما يزيد على ثلث الكتاب جميعه (134ص).
وفي الواقع لقد وزن المؤلف المدارس الفلسفية الإغريقية بميزان صحيح وقسم بحثه بينها قسمة عادلة ومتناسبة دون أن يفوته منها شيء هام، اللهم إلا أصحاب مذهب الاختبار الذين أهملهم رأساً وبعض شراح أرسطو في الدور الأخير وفي مدرسة الإسكندرية بوجه خاص مثال الإسكندر الأفروديسي، وسميلسيوس، وثامسبتوس، الذين لم يشر إليهم إشارة كافية. وبالرغم من تشعب هذه المدارس وتعددها فقد عرضها في صورة مرتبة مهذبة، وقسم أبحاثه إلى أبواب وفصول وفقرات هي غاية في الدقة والوضوح. وليس بغريب أن يعنى مدرس بوسائل العرض والإيضاح! فهذه سنته كل يوم في دروسه ومحاضراته. وهي سنة صالحة من غير شك ومعينة على تذليل بعض الصعاب التي يلاقيها القارئ في أبحاث دقيقة كهذه. وقد ضم المؤلف إلى هذا حسنة أخرى، فختم كثيراً من مباحثه بنظرة عامة وربط تاريخي شائق.
ليس صعباً على من يدرس الفلسفة اليونانية أن يجد المصادر التي يستقي منها، فهي كثيرة ومتنوعة؛ إنما الصعب أن يختار من بين هذه المصادر أصلحها. وقد وفق المؤلف في هذه كما وفق في غيرها؛ فقد اعتمد فيما وراء أفلاطون وأرسطو على أوثق مصادر الفلسفة اليونانية. وكنا نفضل أن يحيل على هذه المصادر في صلب الموضوع بدل أن يكتفي بسردها في الفهرست. وفيما يتعلق بأفلاطون وأرسطو سلك سبيلاً يحمد عليها؛ فقد درسهما دراسة مباشرة وقدم لنا صورة ناصعة عن مؤلفاتهما وحكم عليهما بناء على ما قالا لا اعتماداً على ما قال الناس عنهما. وهذه الطريقة علمية قطعاً ومعينة على تفهم الفيلسوفين على ضوء ما كتبنا. غير أنها مدعاة التكرار والاستطراد أحياناً، كما قد تسوق إلى سرد
تفاصيل جزئية قليلة الفائدة وفي حذفها ما يفسح المجال للمشاكل الهامة. ذلك لأن الملخِّص قد يؤخذ أحياناً بما هو أمامه وينسى بحثه الرئيسي. وعلى كل فلئن فات المؤلف إبراز بعض المشاكل الأفلاطونية والأرسطية في ثوبها الكامل لقد نجح نجاحاً كبيراً في إعطاء فكرة صحيحة عن مؤلفات أفلاطون وأرسطو وتلخيصها على وجه حسن. وكنا نود أن تستخدم المصادر العربية في بحث كهذا؛ وفي استخدامها ما يسمح بتحقيقات ومقارنات علمية وتاريخية جديدة فاتت مؤلفي الغرب ومؤرخيه، وقد تنبه زميلنا إلى هذه النقطة في بعض الفصول، إلا أنه لم يلتزمها في كل بحثه.
الأستاذ كرم هادئ في كل شيء؛ هادئ في أسلوبه، فلا يحفل بالتراكيب الضخمة والعبارات الطنانة، وما أحوج اللغة العلمية إلى هذا الهدوء. فهو يكتب كتابة موضوعية كل همه فيها أداء المعاني العلمية في عبارة مقبولة. بدأ كلامه وختمه بالتحدث عن الفلسفة وتاريخها دون أن ترى في أسلوبه حشواً أو فضولاً. إلا أنه قد يصل به حبه للإيضاح أحياناً إلى استعمال بعض الألفاظ والتراكيب الدارجة بالرغم من ابتذالها أو ضعفها. ومع هذا ينبغي أن نشير إلى المجهود الصادق الذي بذله في اختيار الألفاظ العربية الملائمة لأداء الأفكار الأجنبية. وقد كلَّلَ هذا المجهود بذلك القاموس اللغوي الاصطلاحي الذي ختم به كتابه. وفي اختصار لقد استطاع أن يقدم لنا تاريخ الفلسفة اليونانية في قالب علمي لا بأس به. وهذه ناحية يجب أن يتنبه لها الباحثون إن كنا نريد لأنفسنا لغة علمية محترمة. وهاكم قطعة من قلم المؤلف يلخص فيها الفلسفة الأفلاطونية ويبين أصولها ومميزاتها يقول:(أما أسلوبه (يعني أفلاطون ولو قال أما مذهبه أو طريقته لكان أولى) في الفلسفة فهو التوفيق والتنسيق: لم ير في تعارض المذاهب سبباً للشك مثل السوفسطائيين، وإنما وجد أنها حقائق جزئية، وأن الحقيقة الكاملة تقوم بالجمع بينها وتنسيقها في كلٍّ مؤتلف الأجزاء. وطريقة التوفيق حصرُ كل وجهة في دائرة، وإخضاع المحسوس للمعقول، والحادث للضروري، فنحن نجد عنده تغير هرقليطس، ووجود بارمنيدس، ورياضيات الفيثاغوريين وعقيدتهم في النفس، وجواهر ديموقريطس، وعناصر أنبادوقليس، وعقل أنكساغورس فضلاً عن مذهب سقراط، وسندل على هذه الظاهرة كلما صادفناها، وثمة ظاهرة أخرى هي محاولته تحويل العقائد الأرفية آراء فلسفية، أي وضعها في صيغة عقلية ودعمها بالدليل. فهو لم يزدر شيئاً من تراث
الماضي، وأراد أن ينتفع بكل شيء، ثم طبع هذا التراث بطابعه الخاص، وزاد فيه فتوسع وتعمق إلى حد لم يُسبَق إليه).
والأستاذ كرم هادئ كذلك في مناقشاته وأحكامه، فهو يناقش النظريات الفلسفية في هدوء وسكون، ويحكم على مختلف الآراء أحكاماً بعيدة في جملتها عن الشطط والمغالاة. بيد أن هدوءه هذا قد يؤخذ عليه، وكم كنا نوده عنيفاً نوعاً في بعض المواقف. فأن هدوءه دفعه إلى تبسيط المسائل إلى درجة ربما ضاع معها لبها، ولم يمكنِّه من استيفاء بعض المشاكل التاريخية. فلم يثر مثلاً أسئلة كهذه: هل سقراط أو ميتافزيقي؟ وكيف تفسر الرموز في أسلوب أفلاطون؟ وعلام يحمل التذكر عنده؟ ولم يفصِّل القول في مشكلة الإله عند أفلاطون ونظرية العقل عند أرسطو تفصيلاً مقنعاً ومرضياً، وكأنه تناسى ما كتبه الباحثون السابقون هذه في المسائل واكتفى بعرضها كما يرى هو دون أن يبين آراء الآخرين. وقد حال هدوء المؤلف أيضاً دونه والاسترسال في النقد بعض الشيء. نحن لا ننكر أنه نقد طائفة من الآراء والنظريات التي عرضها في حكمة ودقة؛ ولكنا كنا نتمنى أن يعنى بالنقد أكثر من هذا وخاصة في دراسة الفلسفة الأرسطية، ويظهر أن الخلاف بيننا وبينه ي هذه النقطة راجع إلى المبدأ ووجهة النظر؛ فإنه فيما يبدو لنا، يرى في أرسطو الكمال والتبرؤ من كل نقص وخطأ، وهذا رأي قد لا يقره عليه كثيرون الآن.
وكيفما كانت الاعتراضات التي يصح أن توجه إلى تاريخ الفلسفة اليونانية فأنه يحوي أكبر وأنفس مصدر عربي عرف حتى اليوم في هذه الناحية، ولم يدع مؤلِّفه أنه جاءنا بنظرية جديدة أو طريقة مبتكرة في دراسة تاريخ الفلسفة؛ وكل ما صنع أنه قرأ ودرس ومثَّل في تأن وتؤدة، ثم استخلص من قراءته ودراسته تلك الثمرة الطيبة. وهو لم يمنِّنا مطلقاً بأمان ولم يعدنا بوعود حتى نحاسبه على إنجازها؛ بل ترك تاريخ الفلسفة يتحدث عن نفسه، ولم يزل هذا التاريخ في حديثه حتى انتهى إلى مرحلة نرجو أن تكون أخيرة لا آخرة. ويقيننا أن من بدأ تاريخ الفلسفة على هذا النحو وبهذا التوفيق لابد واصل إلى نهايته.
إبراهيم مدكور