الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 173
- بتاريخ: 26 - 10 - 1936
رغبات الأدب في العهد الجديد
ورغبات الأدب هي الخوالج القدسية العليا للشعب الكريم؛ تتمثل في عقله نزوعا إلى الحق، وفي نفسه طموحا إلى الخير، وفي ذوقه صبوّاً إلى الجمال. فإذا أتيح لها نفس من الديمقراطية وفرج من الحرية وروح من العدل، سطعت في أرجائه وأجوائه سطوع الأرج المنعش، فنضّرت الحياة وعطرت الأرواح وطهرت الأنفس، وإلا ذوت في مناشئها ذويّ النبات المكروب والأمل المخيب. وفي هذا العهد الجديد الذي انتعشت فيه عواثر المنى، وانفسحت به مناحي الجد، يحاول كل عامل من عوامل الرقي أن يستعيد قوته ويستفيد كماله. والأدب المصري ظل إلى اليوم فريسة الإهمال والفوضى؛ يكابد طغيان السياسة في استسلام، ويجاهد سطوة الجهالة في يأس، ويقاسي مضض الحرمان في ضراعة؛ وأولو الأمر يقابلون جهده بالاستهانة، ويكافئون بره بالعقوق، ويستغلون سلطانه في الصحف وعلى المنابر، ثم لا يدخلونه في الحساب يوم الغنيمة.
هاهم أولاء رجاله الصابرون البواسل، يؤدون رسالة الروح المضنية وقرائحهم المجهودة تنضح بالمداد كما تنضح الجباه الناصبة بالعرق، والصدور المحاربة بالدم، ثم لا يلقون ممن يحملون لهم الشعلة إلا ما لقي أصحاب الرسالات من الكفران الغادر والخذلان المهين. وما حال الأدب في الأمة الأمية، إلا كحال النبوة في الأمة المشركة، إذا لم يكن له سند من الله وعون من الحكومة ذهب ذهاب المصباح في عواصف البيد المظلمة. فالأديب المضطر إنما يشقى للقوت لا للفن، ويسعى للشهوة لا للمجد، وينتج للحاضر لا للمستقبل؛ وإذن لا يكون الأدب إلا كما نرى: بخس في الكيف، ونقص في الكم، وشعوذة في الوسيلة، وإسفاف في الغاية
يرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن يبسطوا عليه ظل الحماية، فما يستطيع اليوم لضعف دولته وجهل رعيته أن يستقل. يرغب إليهم أن يقوه تضييق الحرية ليتسع فكره، ويكفوه تمليق الجمهور ليسمو إنتاجه؛ فان العبث بحرية الرأيتعطيل لموهبة العقل وإفساد لفطرة الله وصد عن سبيل التقدم. ومزية الإنسان الحر في الحكومة الحرة أن يقول ما يعتقده صوابا، ويفعل ما يراه حسناً، ما دام هنالك دين يردع غواية النفس، وقانون يحبس عنان الإرادة. وان إذلال الأدب لشهوات الناس وضرورات العيش إضعاف لملكة الذوق وتدنيس لنقاء الضمير وتشويه لجمال الإلهام؛ ورقي الأدب قائم على استقلال رأيه ونبل
غرضه وتأمين حياته؛ ولا تجد أنهض به وأعود عليه من الجوائز والمكافآت، فإنهاتحفز القرائح للعمل، وتضمن الإجادة بالتنافس، وترفع المستوى بانتخاب الأجود؛ وبضعة آلاف جنيه من الخزانة العامة ينفق أضعافها في تمهيد طريق أو تجميل بناء تخلق في الأمة أدباء موهوبين عالميين، وتجمع لها من الأدب الصحيح ثروة
ويرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن يضيفوا إلى غذائه ثمار العقول الخصيبة لنوابغ الأمم الأخرى، فان لكل أمة مزايا ولكل بيئة خصائص؛ ولن يكون أدبنا عالميا ما لم يلقح بآداب العالم؛ والتقليد والاحتذاء من أقوى العوامل أثراً في الأدب. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك، ولسدوا في الأدب العربي خللا ما برئ منه حتى اليوم.
ذلك ميسور بإنشاء دار للترجمة في دار للكتب تنقل أدب الأمم الكبرى نقلا صحيحا، ثم تُنشر عن الدار على نحو ما تفعل اليوم في نشر الكتب العربية القديمة، فيجتمع للأدب الحديث رافدان زاخران يرفده أحدهما بعصارة المدنيات الغابرة، ويرفده الآخر بخلاصة المدنية الحاضرة. والواقع الأليم أنك تستطيع أن تقرأ أي نابغة في أي لغة محترمة إلا في اللغة العربية!!
كذلك يرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن تكون له مراجع عليا تقوم عليه، فتتعرف أطواره وتتعقب آثاره، وترتاد له سبل الكمال، فتسد ما فيه من خلل، وتعالج ما به من جمود، وتدفع ما عثا فيه من فوضى؛ ثم تكون لقرائح الشباب وهي في أول الشوط مناراً وحمى، ولعبقريات الشيوخ وهي في آخره أمناً ومثابة.
والمفروض اليوم أن مراجعه التي تقوم بطبيعة إنشائها على تسديده وتعضيده هي مجمع اللغة العربية الملكي بالمعارف، وإدارة الصحافة والنشر والثقافة بالداخلية، وجمعية كبار العلماء بالأزهر؛ ولكنها على هذا الوضع المقلوب والعزم المتخاذل والحركة الوانية لا تنفعه بنافعة؛ فإن العضوية في بعضها تشريف، وفي بعضها الآخر طعمة؛ أما العمل ففضل من العامل، فإذا تفضل به كان له في نهضة الأدب شأن ضئيل وأثر حائل.
على أن إدارة الصحافة والنشر والثقافة حديثة النشأة، والمظهر البادي عليها مظهر الطموح
والفتوة، ومن الممكن أن نعقد بها أسباب الأمل لأنها وليدة هذا العهد، ولكن الأدب لا يزال يرغب إلى زعماء العهد الجديد، أن يساعدوه على أن يكون خليقا بهذا العصر السعيد.
أحمد حسن الزيات
القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أقبل عليَّ صاحبي الأديب وقال: أنظر هذه هي، وقد حلت بهذا البلد وما لي عهد بها منذ سنة. ومد إلي يده فنظرت إلى صورة امرأة كأحسن النساء وجهاً وجسماً، تتأود في غلالة من اللاذ.
وكأن شعاع الضحى في وجهها، وكأنها القمر طالعاً من غيمه، ويكاد صدرها يتنهد وهي صورة، وتبدو هيئة فمها كأنها وعد بقبلة، وفي عينيها نظرة كالسكوت بعد الكلمة التي قيلت همساً بينها وبين محبها. . .
فقلت: هذه صورة ما أراها قد رسمها إلا اثنان: المصور وإبليس. فمن هي؟
قال: سلها، أما تراها تكاد تثب من الورقة؟ إنها إلاّ تخبرك بشيء أخبرك عنها وجهها أنها أجمل النساء وأظرفهن وأحسن من شاهدت وجهاً وأعيناً، وثغراً وجيداً، والذي بعد ذلك. . .
قلت: ويحك، لقد شعرتَ بعدي، إن هذا شعرٌ موزون
وأحسن من شاهدتَ وجهاً وأعيناً
…
وثغراً وجيداً والذي بعد ذلكا. . .
قال: إن شيطان هذه لا يكون إلا شاعراً؛ ألستَ تراه ناظماً من فنونها على الرسم شعراً معجزاً كل شاعر؟
قلت: وهذا أيضاً شعر موزون:
ألستَ تراه ناظماً من فنونها
…
على الرسم شعراً معجزاً كل شاعر
قال: بلى والله إنه الشيطان، إنه شيطانها يريك لهذا الجسم روحاً رشيقة، تلين كلين الجسم بل هي أرشق
قلت: وهذا أيضاً، والقافية التي بعد هذا البيت: وبها شقوا. . .
فضحك صاحبنا وقال: حرك الصورة في يدك، فإنها ستراها وما تشك أنها ترقص.
قلت: الآن انقطع شيطانك، فهذا ليس شعراً ولا يجيء منه وزن. . .
وتضاحكنا وضحك الشيطان، وظهر الوجه الجميل في الرسم كأنه يضحك. . .
قال صاحب القلب المسكين: أنظر إلى هاتين العينين، إنهما من العيون التي تفتن الرجل وتسحره متى نظرت إليه، وتعذبه وتضنيه متى غابت عنه. إن في شعاعهما قدرةً على
وضع النور في القلب السعيد، كما أن في سوادهما القدرة على وضع الظلمة في القلب المهجور. . .
وانظر إلى هذا الفم، إلى هذا الفم الذي تعجز كل حدائق الأرض أن تخرج وردةً حمراء تشبهه.
وانظر إلى هذا الجيد تحته ذلك الصدر العاري، فوقه ذلك الوجه المشرق؛ تلك ثلاثة أنواع من الضوء: أما الوجه ففيه روح الشمس، وأما الجيد ففيه روح النجم، وأما الصدر ففيه روحُ القمر الضاحي.
انظر إلى هذه المسافة البيضاء من أعلى جبينها إلى أسفل نهديها، تلك منطقة القُبُلات في جغرافيا هذا الجمال. . .
وانظر إلى الصدر يحمل ذينك الثديين الناهدين؛ إنه المعرض الذي اختارته الطبيعة من جسم المرأة الجميلة للإعلان عن ثمار البستان. . .
انظر إلى النهدين لِمَ برزا في صدر المرأة إلا إذا كانا يتحديان الصدر الآخر. . . .؟
وانظر لهذا الخصر الدقيق وما فوقه وما تحته، ألا تراه فتنةً متواضعةً بين فتنتين متكبرتين. . . .؟
انظر إليها كلها، انظر إلى كل هذا الجمال، وهذا السحر، وهذا الإغراء؛ ألا ترى الكنز الذي يحول القلب إلى لص. . .؟
هذه مخلوقة مرتين، إحداهما من الله في العالم، والأخرى من حبي أنا في نفسي أنا، فكلمة (جميلة) التي تصف المرأة التامة، لا تصفها هي إلا بعض الوصف؛ ورسمها هذا الذي تراه إنما هو حدود لتلك الروح التي فيها قوة التسلط، وهيهات يُظهر من تلك الروح إلا ما يُظهر من الجمرة المشتعلة رسم هذه الجمرة في ورقة.
أشهد ما نظرت مرة إلى هذا الرسم ثم نظرت إليها إلا وجدت الفرق بينها في نفسها وبينها في الصورة، كأنه اعتذار ناطق من آلة التصوير بأنها ليست إلا أداة. . .
قلت: اللهمَّ غفراً؛ ثم ماذا يا صديقي المجنون؟
فأطرق الأديب مهموماً، وكانت أفكاره تنفجر في دماغه انفجاراً هنا وانفجاراً هناك؛ ثم رفع إليَّ رأسه وقال:
هذه الغانية قد حبست أفكاري كلها في فكرة واحدة منها هي؛ وأغلقت أبواب نفسي ومنافذها إلى الدنيا، وألهبت في دمي جمرة من جهنم فيها عذاب الإحراق وليس فيها الإحراق نفسه كيلا ينتهي منها العذاب.
وبيننا حبُّ بغير طريقة الحب، فإن طبيعتي الروحانية الكاملة تهوى فيها طبيعتها البشرية الناقصة، فأنا أمازجها بروحي فأتألم لها، وأتجنبها بجسمي فأتألم بها
حبٌّ عقيم مهما يكن من شيء فيه لا يكن فيه شيء من الواقع
حب عجيب لا تنتفي منه آلامه ولا تكون فيه لذاته
حبٌّ معقد لا يزال يلقى المسألة بعد المسألة، ثم يرفض الحل الذي لا تحل المسألة إلا به
حب أحمق يعشق المرأة المبذولة للناس، ولا يراها لنفسه ألا قديسة لا مطمع فيها
حب ابله لا يزال في حقائق الدنيا كالمنتظر أن تقع على شفتيه قبلة من الفم الذي في الصورة
حب مجنون كالذي يرى الحسناء أمام مرآتها فيقول لها: اذهبي أنت وستبقى لي هذه التي في المرآة. . .
قلت: اللهم رحمة؛ ثم ماذا يا صاحبي المسكين؟
قال: ثم هذه التي أحبها هي التي لا أريد الاستمتاع بها، ولا أطيقه ولا أجد في طبيعتي جرأة عليه، فكأنها الذهب وكأنني الفقير الذي لا يريد أن يكون لصاً. يقول له شيطان المال: تستطيع أن تطمع؛ ويقول له شيطان الحاجة: وتستطيع أن تفعل؛ ويقول هو لنفسه: لا أستطيع إلا الفضيلة
إن عذاب هذا بشيطانين لا بشيطان واحد، غير أن لذته في انتصاره كلذة من يقهر بطلين كلاهما أقوى منه وأشد.
قلت: اللهم عفواً؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين؟
فأطرق ملياً كالذي ينظر في أمر قد حيره لا يتوجه له في أمره وجه، ثم تنهد وقال: يا طول علة قلبي. من أين أجيء لأحلامي بغير ما تجيء الأحلام به، وإنما هي تحت النوم ووراء وإنما هي تحت النوم ووراء العقل وفوق الإرادة؟ لقد بلغ بي هواها أن كل كلمة من كلام الحب في كتاب أو رواية أو شعر أو حديث - أراها موجهة إلي أنا.
ثم قال: انطلقْ بنا فتراها حتى تعلم منها علماً فهي في ذلك المسرح، هي في ذلك الشر، هي في تلك الظلمات، هي كاللؤلؤة لا تتربى لؤلؤةً إلا في أعماق بحر.
وذهبنا إلى مسرح يقوم في حديقة غنَّاءَ مترامية الجهات بعيدة الأطراف تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلةٌ بمعاني الهجر والعشق.
وتقدَّمَنا نسير في الغبش، فقال صاحبنا المحب: إني لأشعر أن الظلام هنا حيٌّ كأن فيه غوامض قلب كبير فما أرى فرقاً بين أن أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهمِّ اللانهاية. فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسرح لنراها وهي مقبلة فأن رؤيتها سيدةً غير رؤيتها راقصة، ولهذه جمالُ فن ولتلك فنُّ جمال.
ولم نلبث إلا يسيرا حتى وافتْ، ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنها تحترم أفكار الناس، يزهوها على ذلك إحساسٌ نبيل كإحساس الملكة الشاعرة بمحبة شعبها. وانتفض مجنوننا وأغمض عينيه كأنها تمر بين ذراعيه لا في طريقها، وكأن لذة قربها منه هي الممكن الذي لا يمكن غيره.
وكان عجيباً من العجب أن تحرك الهواء في الحديقة واضطربت أشجارها فقال: أنت ترى. فهذا احتجاج من راقصات الطبيعة على دخول هذه الراقصة. قلت: آه يا صديقي؛ إن المرأة لا تكون امرأة بمعانيها إلا إذا وجدت في جو قلب يعشقها.
ونفذنا إلى المسرح وتحرَّى صاحبنا موضعاً يكون فيه منظر العين من صاحبته ويكون مستخفياً منها. ثم رُفع الستار عنها بين اثنتين يكتنفانها، وقد لبسن ثلاثتهن أثواب الريفيات وظهرن كهيئتهن حين يجنين القطن.
وبرزت (تلك) في ثوب من الحرير الأسود وهي بيضاء بياض القمر حين يتم، وقد شدَّت وسطها بمشيدة من الحرير الأحمر فتحبكت بها وظهرت شيئين: أعلى وأسفل، ثم ألقت على شعرها الذهبي قلنسوة حمراء من ذلك الحرير أمالتها جانباً فحبست شيئاً منه وأظهرت سائره. وأخذت بيدها صفَّاقتين وأقبل الثلاث يرقصن ويغنين نشيد الفلاحة.
لم أنظر إلى غيرها فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالها لا أكثر ولا أقل. وما أحسب الحرير الأحمر كان معها أحمر ولا الأسود كان عليها أسود، ولا لون الذهب في معصمها كان لون الذهب. كلاَّ كلاَّ هذه ألوان فوق الطبيعة لأن ذلك الوجه يشرق عليها بالجمال
والحياة، وذلك الجسم يفيض لها بالخفة والطرب، وتلك الروح تبعث فيها المرح والنشوة؛ هذا مزيج من خمر الألوان لا من الألوان نفسها.
وقال مجنوننا: إن أجمل الجمال في المرأة الفاتنة هو ذاك الذي يجعل لكل إنسان نوع شعوره بها، وأنا أشعر الساعة أن قلبي نصف قلب فقط وأن نصفه الآخر في هذه وحدها، فما شعورك أنت؟
قلت، يا صديقي إن الله رحيم، ومن رحمته أنه أخفى القلب وأخفى بواعثه ليظل كل إنسان مخبوءاً عن كل إنسان، فدعني مخبوءاً عنك.
قال: لابد
قلت: إن المصباح في الموضع النجس لا يبعث النور نجسا، وما أشعر إلا أن النور الذي في قلبي قد امتزج بالنور الذي في عينيها.
ثم كأنها أحست بأن إنساناً قد امتلأ بها فأدارت وجهها وهي ترقص فتلمحت صاحبنا وجعلت تُقطّع الطرف بينها وبينه كأنها تعرفه وتجهله، ثم تبيَّنت إلحاح نظره فضحكت لأنها تعرفه ولا تجهله.
أما هو، أما المجنون، أما صاحب القلب المسكين؟
(لها بقية)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
تبسَّم!!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تبسم!!)
(إيه!!)
(تبسم!!)
(أتبسم؟؟)
(نعم. .)
(هل تريد مني أن أتبسم؟.)
(نعم. . هذا ما أعني)
(ولكن كيف؟. أعني أني لا أريد. . . لا أشعر بحاجة إلى الابتسام؟)
(ألا تستطيع أن تتبسم؟.)
(ربما أمكن أن أتبسم بفمي فقط ولكن هذا ليس ابتساماً)
(بفمك. . . . برجلك. . . تبسم والسلام)
فقلت: (طيب هه) وتكلفت الابتسام كما أراد فقال: (حسنا. . والآن. . جرب مرة أخرى)
فنظرت إليه - حدقت في وجهه فقد خامرني الشك في عقله ولكنه كان ساكناً لا يبدو عليه غير ما ألفت منه. ولما طال نظري إليه قال: (هل فرغت؟؟ إني منتظر)
فسألته (ماذا تنتظر؟.)
قال: (أن تتبسم. . تفضل)
فلم يسعني إلا أن أضحك وأن أضرب كفاً بكف فقال: (هذا أحسن. . . ولا بد أنك تشعر أنك أحسن حالاً بعد هذه الضحكة العالية)
فأمسكت من القهقهة - أعني حبست ما كنت أريد أن أنفجر به من ذلك - وقلت له: (ما هي الحكاية. . . . لست أكتمك أني مستغرب سلوكك في هذه الليلة)
فقال: (استغرب ما بدا لك أن تستغرب. . . إنما المهم أن تتبسم)
قلت: (شيء جميل ولكن ألا ترى أن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح. . الواقع أني لست فاهماً شيئاً)
قال: (لا بأس. إسمع. إنك رجل كاد ينسى الابتسام وهذا هو مرضك لا ما تتوهم أن معدتك وأمعاءك مصابة به. ليس بك شيء. كن من هذا على يقين جازم. وإنما الذي بك أنك لم تعد تعرف سرور الحياة. والذنب في هذا لك لا للحياة. لا تقل لي إن الحياة لم تعرض عليك إلا صفحاتها الدميمة التي تثير الاشمئزاز والتقزز وتغري النفس بالكآبة والجهامة فإن هذا الكلام فارغ. وأنت الذي أغريت عينك بهذه الصور القبيحة ولولا ذلك لاستطعت أن ترى الصفحات الأخرى المشرقة الوضيئة التي تنعش النفس وتحييها وتجددها. بل إن الذي تتعلق به عينك من صور القبح والدمامة لا يخلو من جمال يشرح الصدر ويفرح القلب. وليست هذه فلسفة ولكنما هي وصف للواقع من أمرك وأمر المتفلسفين الذين يقرءون ولا يفهمون. نعم لا يفهمون. . تقول إنك قرأت الأدب الإنجليزي وتوفرت عليه وأنا أعرف ذلك ولا أجهله، وأعرف أنك قرأت أديسون فلماذا لم تفهم صورته الوصفية لجبل الهموم أو تله أو ما شئت فسمه. الواقع أنك قرأت ولم تعن إلا بالجانب الذي يوافق مزاجك النفسي الذي أسمح لنفسي أن أسميه الأعور - أي الذي لا يرى إلا بعين واحدة ولا يتأثر إلا من جانب واحد. أتقول إن الأمر أمر خلقة وطباع. . لا يا سيدي. . . إننا نتعلم كيف نضبط غرائزنا وطباعنا الحيوانية، وكذلك نستطيع أن نهذب ما نظنه طباعا فطرية في نفوسنا لا تقبل التهذيب والتنقيح والصقل. على أن المسألة ليست مسألة طباع وإنما هي مسألة نظر، فلماذا تنظر إلى جانب السوء وحده ولا تنظر أيضاً إلى جانب الخير والحسن والجمال والفكاهة. . . باختصار - أنظر واضحك يا سيدي. . . ولن تعدم ما يضحك في أي أمر وأي حال، واعلم أنك حين تضحك يتأثر جسمك كله وأعصابك أيضاً. وثق أن ضحكة واحدة تطلقها كافية لتغيير حالتك النفسية. . . هذا علاجك. . فاذهب عني ولا تعد إلي فأن شفاءك في يديك).
وخرجت أقول إن هذه فلسفة جديدة لا تستحق ما غرمت في سبيلها، ومشيت أفكر في هذا ومضيت أبدي وأعيد فيه بيني وبين نفسي فاصطدمت برجل كان مقبلاً علي فصاح بي بعد أن حك أنفه كما حككت أنا أنفي (اللي واخد عقلك يتهنا به. . . مالك كده زي المسطول) فغلا دمي حين سمعت ذلك ثم ذكرت نصيحة الطبيب فضحكت فقال الرجل (وبتضحك كمان) فقلت له (يا أخي إذا كنت أنا مسطولاً فأنت مثلي، وإذا كان شيء قد أخذ عقلي فإن
عقلك لم يكن على ما يظهر في مكانه. ثم إن منظرنا حين اصطدمنا لا شك يبعث على الضحك. وقد ضحك الأطفال والرجال والنساء وكادت الحيوانات تضحك حين وقعت المصادمة والتقى الأنف بالأنف فلماذا تضحك الدنيا كلها ولا يعبس فيها ويتشاجر ويتشاتم إلا أنا وأنت (فقال صدقت. . معك الحق) وصافحني ومضى عني راضياً.
ودخلت (قهوة) أو (مقهى) فألفيت إخواناً لي يلعبون (الورق) وهو شيء لا أحسنه ولا استعداد عندي لفهمه. وكان مع أصحابي اثنان لا أعرفهم فقدموني إليهم وسموهم لي بأسمائهم فقعدت على كرسي بعيداً عنهم، ثم ضجرت فوقفت أنظر إلى اللعب وإن كنت لا أفهم شيئاً، ولكني رأيت هذا خيراً من الوحدة. ولم أشأ أن أظهر جهلي فجعلت أتظاهر بالفهم. ولم أكن أقول شيئاً ولكني كنت أبتسم كأني فاهم. واتفق أن أحد الغريبين كان أكثرهم كسباً فنظر إلي فألفاني أتبسم فقلب الورق وأشار إلي وقال:(كلمة من فضلك) وتراجع عن الكرسي فدرت إليه ووقفنا بجانب مرآة كانت خلفه فقال - أو همس على الأصح -: (إنك تعرف بالطبع أن هذا اللعب مزاح لا جد فيه)
قلت: وأنا أستغرب هذا الكلام الذي لا أرى له داعياً (لم أكن أظن هذا) وابتسمت، فقد بدا لي أن من المستغرب بل من المضحك أن يكلف نفسه عناء التأكيد لي أن اللعب لا يراد به أكثر من تزجية الفراغ. ومالي أنا. . ما شأني بهم. . . أتراه توهمني من الشرطة. . أم ترى هذا المحل من المحلات التي لا يباح فيها لعب الورق.
كان هذا يدور في نفسي وهو يقول لي: (بالطبع مزاح. . وسيرد كل منا ما كسبه إلى إخوانه. . وقد أردنا أن يظهر كل منا براعته في. . . في. . . فاهم. . . أليس كذلك. . . . هذا لا يسمى غشاً. . . لا لا. . أستغفر الله. . . لو كنا نلعب جادين لكان غشاً ولا شك، ولكن في المزاح يجوز ما لا يجوز عند ما يجد المرء. . أليس كذلك. . . هه هه. .)
ومضت أيام فلقيت واحداً أعرفه ومعه فتاة في بعض الطريق ولم أنظر إليهما ولكني كنت أنظر إلى الناحية التي أقبلا منها، وكنت أبتسم لخاطر في نفسي فوقعت عيني في عين صاحبي هذا والابتسامة على فمي فأقبل يعدو ورائي حتى أدركني ثم تنحنح وقال: (ممممممم أظنك. . . يظهر. . . أريد أن أقول. . . الحقيقة إنها بنت عرفتها أمس. . ولكن. . أعتقد أنك. . أعني أني. . الواقع أنه لاشيء هناك بيننا. . معرفة جديدة. . . بنت
حلال. . .)
وقد سقت عباراته بعضها وراء بعض ولكنه كان يتنحنح كثيراً ويمسح العرق المتصبب بمنديل كبير فلم يسعني إلا أن أضحك فما استطعت أن أفهم لماذا رأى من واجبه أن يجشم نفسه هذا البيان أو الاعتذار. . . لست أباه ولا أخاه ولا أنا وصي عليه ولا لي عليه أي سبيل. . .
وقد حال الضحك دون الكلام - أعني دون الجواب - فصافحته وتركته يمسح عرقه.
وركبت الترام مرة وكان الجالس أمامي في يده جريدة يتأمل صفحتها المصورة وكنت أنا أتسلى بالنظر إلى الطريق من النافذة التي وراءه فرأيت فتى علق ثوبه الفضفاض بدراجة ولم يستطع تخليصه منها فجعل يجري معها وراكبها لا يعني بالوقوف فابتسمت وكانت الدراجة تساير الترام فظللت أتبسم ولولا الحياء لقهقهت وإذا بجليسي يتكلف الابتسام ويتحركفي مقعده ويقول فجأة - فما كان بالي إليه بل إلى المنظر الذي وراءه - (الحقيقة أن الفن الصحفي تقدم جداً)
فتنبهت وقلت: (جداً. . صحيح) وجازيته ابتساماً بابتسام
فسعل وقال: (الإنسان معذور إذا بدأ بصفحة الصور وما فيها من المناظر الجميلة)
فاستغربت كلمة (المناظر) وسألته (المناظر)
قال: (أعني صور الفتيات الجميلات. . . ولكني لا أشتري الجريدة لهذا وحده. . . . لا لا لا أعوذ بالله. . أرجو ألا تكون جعلتني من هذا الفريق الذي لا يعنيه من الصحف إلا صور النساء لا لا لا. . . . أؤكد لك أني أقرأ. . . . أقرأ. . . . أقرأ كل شيء
قلت: (طبعاً. طبعاً. . . ظاهر يا سيدي ظاهر)
قال: (ثم إني موظف ورب عائلة. . لي زوجة وأولاد. .)
فهممت بأن أقول له إن كونه رب أسرة وذا زوجة وأولاد لا يبدو أنه منعه أن يعترف لي - وأنا غريب بما أراد أن ينفيه ولكني لم أقل شيئاً واكتفيت بالابتسام ونزلت عند أول محطة وقفنا عندها.
الحقيقة التي أعترف بها أن طبيبي هذا لم يكن مخرفاً فقد أفادني الابتسام صحة وعافية وانشراحاً وزاد فعلمني ما لم أكن أعلم، وإذا كان القارئ في شك مما أقول فما عليه إلا أن
يجرب فعل الابتسام لأمر أو خاطر لا علاقة له بجليسه مقترناً بسقوط النظرة في عينه عفواً. وليخبرني بعد ذلك بالنتيجة إذا شاء، فما أشك أنا في أنها ستدهشه وتكشف له عن كثير من أسرار النفوس لم يكن يخطر له على بال.
إبراهيم عبد القادر المازني
صور سياحة
4 -
ليالي باريس
مونمارتر ومونبارناس
المسارح والمنتديات الليلية
بقلم سائح متجول
للمدن العظيمة في الليل حياة أخرى غير حياة النهار، ولهذه الحياة الليلية متاعها وسحرها، ولها أحياناً خطرها وألوانها القاتمة؛ ففي تلك المقاهي والمنتديات الساطعة، وفي تلك المسارح الأنيقة، وفي تلك الأبهاء والحانات الليلية التي تزينها أسراب من الحسان ينفثن السحر من عيونهن ومن عطرهن، وفي تلك الأحياء الشهيرة التي غدت أسماؤها أعلاماً في القصة والأدب؛ هنالك في تلك الربوع والمنتديات ينسى الإنسان مدى لحظة متاعب الحياة الدنيا، ويستطيع أن يتذوق شيئاً من متاع الحياة الليلية الضاحكة واللهو المريء.
وباريس مدينة عظيمة، وفيها حياة ليلية مضطرمة، قوامها تلك المنتديات والمسارح والحانات الشهيرة التي كثيراً ما تقرأ عنها في القصص وتشاهدها في السينما، فيخيل إليك أنها عالم بأسره من الفتنة والجمال والسحر.
وسنعرض في هذا الفصل صوراً من تلك الحياة الليلية الباريزية الشهيرة مما رأينا وشهدنا.
تقع مراكز الحياة الليلية الباريزية في أحياء معينة اشتهرت بأسمائها كما اشتهرت بماضيها وتقاليدها، وأضحت علماً على حياة الليل في باريس.
وأشهر هذه الأحياء وأهمها من هذه الناحية هي بلا ريب أحياء: مونمارتر ومونبارناس وبيجال وكليشي وما إليها من مسالك ودروب.
ولقد كان حي مونمارتر يستأثر فيما مضى بأكبر قسط من الشهرة الليلية، بيد أنه على ما يظهر يفقد اليوم شيئاً من هذه الشهرة التي غدا ينافسه في أسبابها وبواعثها حي مونبارناس؛ وكان مونمارتر وما زال أعظم الأحياء الباريزية الشعبية شهرة، وأكثرها جاذبية لشباب الطبقات المتوسطة والدنيا، ومازال رغم تقلبات الزمن وفقدان الكثير من سحره السابق، يجذب إليه طوائف الشباب المثقف والناشئين من الكتاب والأدباء وذوي المهن، يجدون
ملاذاً سهلاً في فنادقه ومطاعمه ومقاهيه الرخيصة؛ ويستمرئون فيه ما استطاعوا من مسرات الحياة الليلية، حيثما يتفتح الحب السهل بين شباب كثير التواضع والطموح.
ويقع حي مونمارتر في قلب باريس، ومازال يحتفظ بكثير من معالمه القديمة؛ دروب ضيقة ملتوية، وأبنية عتيقة لم تنلها يد التجديد، وفنادق ومطاعم ومقاه لم تعرف شيئاً من الأناقة الحديثة؛ ومع ذلك فربما كانت هذه المطاعم والمقاهي المتواضعة في مظاهرها أفضل من كثير من المحال الأنيقة المحدثة، لأنها مازالت تحتفظ بشيء من التقاليد الحسنة من حيث تقديم الألوان والمشروبات الجيدة بأثمان معتدلة، وعدم التورط في تلك المظاهر الخلابة التي تؤذي الجيب دون مبرر.
هذا إلى أن مونمارتر مازالت تزخر بالمسارح والأبهاء والأندية الليلية، من حانات ومراقص شهيرة؛ وقد كانت مونمارتر ومازالت تستمد شهرتها من تلك الأندية الليلية ومما يعرض فيها من أصناف اللهو والمرح التي تقوم في معظمها على السحر النسوي؛ وأشهر تلك المنتديات بلا ريب هو مسرح (الفولي برجير) يقع في منعطف من شارع (فوبور مونمارتر)؛ ومسرح (الكازار) الذي يقع في هذا الشارع نفسه على مقربة من اتصاله (ببولفار الإيطاليين)، والذي تقوم بالتمثيل فيه سيبيل سوريل العجوز الحسناء وفرقتها الشهيرة؛ ومسرح (معرض العراء) الذي يقع أيضاً في نفس الشارع؛ هذا في (فوبور مونمارتر)، وأما في حي مونمارتر ذاته، وهو على مقربة من (الفوبور) فتقع حانات ومراقص لا حصر لها.
وتغص دروب بيجال وكليشي وهما على مقربة من مونمارتر بالحانات والمقاهي المريبة التي تؤمها الغانيات من طبقات متواضعة، ويؤمها طلاب اللهو من جميع الطبقات والجنسيات. ويمتاز شارع بيجال بالأخص بما يعرض فيه من الألعاب الصبيانية المختلفة مما يعرض عادة في (لونبارك)
وفيما بين بيجال وكليشي توجد عدة من المسارح والمراقص الممتازة؛ وهنالك يقع (كازينو دي باري) الشهير الذي تعرض فيه مناظر العراء المطلق من الممثلة الأمريكية الحسناء (جوان وارنر) وفرقتها؛ ويقع مرقص (الكليزيوم) في شارع روشوار، وهو من أشهر مراقص باريس، وفيه سرب من الفتيات الحسان لأجيرات أو كما يسمون، يرتدين أثواباً
مشقوقة من أحد الجانبين تسفر عن ساق عارية؛ وهؤلاء يرقصن مع الطالبين بتذاكر خاصة يصرفها المحل للراغبين وقيمة التذكرة التي تعطى عن رقصة واحدة فرنكان؛ هذا إلى عدة حانات ليلية للرقص والغناء تفتح أبوابها حتى الصباح.
وقد ذاعت مناظر الرقص العاري في باريس وأصبحت أشهر دعاية تذيعها المسارح والمراقص الأنيقة؛ ففي الفولي بريجر، والكازينو دي باري، والكازار، تعرض المناظر والرقصات العارية بانتظام؛ ويمتاز الكازينو دي باري بعرض أشهر هذه المناظر وأجملها، ويشترك في المنظر الواحد نحو عشرين فتاة عارية لا يسترن سوى ملمس العفة بغلالة صغيرة على شكل (فينوس) ويسدلن على ظهورهن شعوراً طويلة مستعارة لتستر الألية بعض الشيء؛ وبطلة الرقص العاري أو ملكته هي مس جوان وارنر التي ترأس فرقة العراء في (الكازينو)؛ وقد كان لها منذ عامين أو ثلاثة قصة مع القضاء، حيث عرضت بعض رقصاتها العارية الأولى، فاعتبرها البوليس عملاً فاضحاً، وحُقق معها، وقدمت إلى محكمة الجنح، ولكنها دافعت عن نفسها بأنها تقوم بمناظر فنية محضة، وأخذ القضاء بنظريتها وقضى ببراءتها. ومن ذلك الحين ذاع الرقص العاري في باريس، ونظم في أشهر المسارح، وسميت مس وارنر (ملكة العراء المطلق) والواقع أن مس وارنر تتمتع بجسم باهر التكوين والتقاسيم كأنه تمثال روماني رائع.
وقد شهدنا هذه المناظر الباريزية العارية في (الفولي برجير) وفي (الكازينو) وفي (الكازار)، وشهدنا عدة أخرى من المنتديات والحانات الليلية في مونمارتر وكليشي ومونبارناس، فماذا رأينا وماذا شعرنا؟ رأينا مناظر كثيرة الألوان والضوء، ولكن قليلة السحر حقاً. وإن منظر هذه الأجسام العارية قد يثير الغرائز الوضيعة، ولكنه قلما يثير السحر الرفيع، وأي سحر في مناظر تسودها مسحة البغاء أكثر مما تسودها مسحة الفن والجمال؟ والظاهر أن هذه المسارح الباريزية الليلية إنما تعتمد على الأجسام النسوية العارية كعامل أساسي في اجتذاب النظارة، وإنك لتقرأ الإعلانات الخلابة في الصحف عن مناظر العراء فيخيل إليك أنك سترى مناظر من الجنة ; ; ; ; 24 وأمثالها من العبارات الرنانة تقرأها دائماً في برامج هذه المسارح؛ ولقد كانت أسماء (الفولي برجير) و (الكازينو دي باري) و (الكازار) تثير فينا قبل رؤيتها سحراً لا يقاوم، فلما أتيح
لنا أن نراها آنسنا خيبة أمل مرة، لأننا لم نر فيها من المناظر الرفيعة الرائعة ما يتفق مع تلك الدعاية الرنانة التي تثار حول أسمائها في الصحف وفي السينما؛ وهي دعاية يفهمها الفرنسي، ولذلك فهو قليل الاقبال على هذه المسارح والمنائر التي ترتب لاجتذاب الأجانب وتقتضي من روادها أجوراً فاحشة حتى إن الكرسي المتواضع (في نهاية البارتير أو في الجاليري) في الفولي بريجير أو الكازينو لا يكلف أقل من ثلاثين أو أربعين فرنكاً (40 - 52 قرشاً).
ومونبارناس؟ إن اسم مونبارناس كمونمارتر يغمر الأدب الباريسي، ولكن مونبارناس أحدث عهداً في الأخذ بناصية الحياة الليلية الباريزية؛ ومونبارناس شارع مديد شاسع في جنوب باريس على مقربة من اللكسمبور وسان ميشيل، وهو أكثر رحابة وأقل صخباً من مونمارتر، وبه على مقربة من محطة (مونبارناس) عدة مقاه حسنة أشهرها وأجملها (لاكوبول) وهو مقهى أنيق وبه مرقص ليلي؛ وهنالك في الجانب الآخر أشهر حانة ليلية في الحي وهي حانة (جوكي)، وهي غنائية راقصة وينحصر الجانب الساهر المنير من مونبارناس بين (لاكوبول) والمحطة؛ وهنالك تلمح تحت أنوار الشارع والمقاهي كثيراً من الغواني وأنصاف الحرائر.
وقد اشتهرت مونبارناس بأنها مهبط الأدباء والفنانين الناشئين؛ والواقع أنك حين تتجول في مقاهي الحي ومطاعمه ترى كثيراً من الفنانين الذين أطلقوا لحاهم والذين تدل عليهم مظاهرهم يؤمون أندية الحي ويتجولون في دروبه؛ والمعروف أن رواد مونبارناس هم غالباً من الطبقة المثقفة، وهي بذلك تمتاز عن مونمارتر التي عرفت بأنها مهبط الطبقات الدنيا أيضاً؛ وقد أخذت مونبارناس في العهد الأخير تنافس مونمارتر في الأخذ بزمام الحياة الليلية، ونجحت في ذلك إلى حد ما؛ بيد أنها مازالت تضيق بأنديتها القليلة عن أن تضم كثيراً من تلك الجماهير الغفيرة التي تهرع إلى مونمارتر بالليل، هذا إلى أنها لا تحتوي كثيراً من تلك المنتديات الشعبية التي تغص بها مونمارتر والتي تموج بروادها دائماً.
والظاهر أن مونبارناس تقف في منافستها لمونمارتر عند ناحية خاصة، فهي بموقعها وشوارعها الشاسعة الفخمة أقدر على اجتذاب الخاصة من مونمارتر؛ وقد سمعت من بعض الباريزيين الخبيرين بشؤون الحياة الاجتماعية أن المستقبل لمونبارناس في تحول تيار
الحياة الليلية إليها؛ وأن مدى هذا التحول يتوقف على مدى قيام المقاهي والمنتديات الجديدة في حي مونبارناس.
هذه صورة موجزة مما استطعنا أن نقف عليه من نواحي الحياة الليلية في باريس؛ ولا ريب أن توجد ثمة نواح أخرى يعرفها أولئك الذين أقاموا في العاصمة الفرنسية أكثر مما أقمنا وعرفوها أكثر مما عرفنا. بيد أنا نعتقد أن ما أتيح لنا أن نشهده من المنتديات والمناظر المختلفة التي وصفناها هو عنوان الحياة الليلية الباريزية يعبر عنها تعبيراً حقيقياً؛ وقد حرصنا على تعرف هذه الحياة ما استطعنا، ولم نبخل بأنفاق ليال عديدة برمتها في التجوال والمشاهدة، ولم نضن بما اقتضاه التجوال من نفقات فاحشة في غالب الأحيان؛ ولم نر في كل ما شهدنا، في تلك الأحياء الشهيرة، وفي تلك المنتديات والمسارح الليلية ذات المظاهر الأنيقة والأنوار الساطعة والبرامج الخلابة، من المتاع والفتنة ما يتفق مع تلك الدعاية المغرقة التي يبثها في مصر عن باريس وعن منتدياتها ولياليها أولئك الذين لم يعرفوا غير باريس، والذين يقدمون إلينا عنها في كتبهم ومقالاتهم أجمل الصور وأروعها.
(يتلى)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
يستمد كل دين سماوي أولاً وبالذات على الوحي والإلهام، فمنهما صدر، وبما لهما من إعجاز فاز، وعلى تعاليمهما تأسست قواعده وأركانه. وما النبي إلا بشر منح القدرة على الاتصال بالله والتعبير عن إرادته؛ وهذا هو كل ما له من امتياز، فلا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، ولا يروي خبراً إلا وهو تنزيل من حكيم حميد، ولا يقضي بقضاء إلا وهو ينفذ إرادة الله. والإسلام ككل الديانات السامية يستمد قوته من السماء، فعقائده وقوانينه مأخوذة من الكتاب والسنة اللذين هما وحي مباشر أو غير مباشر:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)، فمن ينكر الوحي يرفض الإسلام في جملته، أو يهاجمه على الأقل في أساسه ويهدم دعائمه الأولى والرئيسية. وتلك جريمة شنعاء قل أن يجرؤ عليها أشخاص عاشوا فوق أرض الإسلام وتحت سمائه. وليس شيء ألزم لفيلسوف مسلم من أن يحتفظ في مذهبه بمكان للنبوة والوحي إذا شاء أن تقبل فلسفته وتقابل بالتسامح من جانب إخوانه المسلمين. وقد كان فلاسفة الإسلام حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين، بينا العقل والنقل، بين لغة الأرض ولغة السماء، لهذا لم يفتهم أن يشرحوا لغة السماء ويوضحوا كيفية وصولها إلى سكان العالم الأرضي وبينوا الدين في اختصار على أساس عقلي، فكونوا نظرية النبوة التي هي أهم محاولة قاموا بها للتوفيق بين الفلسفة والدين. والفارابي هو أول من ذهب إلى هذه النظرية وفصل القول فيها بحيث لم يدع فيها زيادة لخلفائه فلاسفة الإسلام الآخرين. وهذه النظرية هي أسمى جزء في مذهبه الفلسفي، تقوم على دعائم من علم النفس وما وراء الطبيعة، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والأخلاق، ذلك لأن الفارابي يفسر النبوة تفسيراً سيكلوجياً نفسياً، ويعدها وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، ويرى فوق هذا أن النبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحية السياسية والأخلاقية، فمنزلته لا ترجع إلى سموه الشخصي فحسب، بل لما له من أثر في الوسط الاجتماعي.
قد يكون الفارابي أكثر فلاسفة الإسلام اشتغالاً بالمسائل الاجتماعية، فهو يتعرض لها في كثير من مؤلفاته، ويعنى بها عناية تدل على الرغبة والاهتمام، وبين رسائله القليلة التي
وصلت إلينا رسالتان رئيسيتان موقوفتان على السياسة والاجتماع، وهما: السياسة المدنية، وآراء أهل المدينة الفاضلة. وله شرح مختصر على نواميس أفلاطون لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ومحتفظاً به في مكتبة ليدن، وقد رأيناه هذا الصيف فيما رأينا من مخطوطات عربية أخرى بالمكاتب الأوربية؛ وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة يكفي وحده في أن نعد الفارابي بين من فكروا تفكيراً منظماً في النظريات السياسية، وعله أشهر كتبه وألصقها به؛ وقد عرف المتأخرون له هذه المنزلة، فلقبوا مؤلفه به وسموه (صاحب المدينة الفاضلة)، وهذا الكتاب يحاكي جمهورية أفلاطون إلى حد بعيد، ويحوي كثيراً من الآراء الأفلاطونية. والواقع أن شيخ الأكاديمية انفرد تقريباً، بين مفكري الإغريق، بالتأثير في دراسة العرب الاجتماعية، وبرز في هذا المضمار على أرسطو الذي ساد الفلسفة الإسلامية في نواحيها الأخرى.
فعلى طريقة أفلاطون يرى الفارابي أن المدينة كل مرتبط الأجزاء ومتضامها؛ هي كالبدن إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. فالألم الذي يحس به أحد أفراد الجمعية لا بد أن يعدوه إلى الآخرين، والسرور الفردي لا يصح أن يعرف في جمعية صالحة. فلا يألم شخص وحده، ولا يُسر وحده، بل يجب أن تسري في الجميع روح واحدة تحس بإحساس مشترك. وإذا كانت أعضاء الجسم ذات وظائف متميزة فواجب أن يكون لكل فرد من أفراد المجتمع عمل خاص، ولن تتم للجمعية سعادتها إلا إذا قسم العمل بين أفرادها تقسيماً متناسباً مع كفايتهم ومشوباً بروح التضامن والتعاون، وبديهي أن الأعمال الاجتماعية متفاوتة بتفاوت غاياتها؛ وأسماها وأشرفها ما اتصل برئيس الجمعية ومهمته، لأنه من المدينة كالقلب من الجسم، فهو مصدر الحياة وأصل التناسق والنظام؛ وليست وظيفته سياسية فقط، بل هي أخلاقية كذلك؛ فإنه مثال يحتذى وسعادة الأفراد تتلخص في التشبه به.
يبني الفارابي كل آماله على رئيس المدينة ويعلق عليه كل الأهمية، كما علق شيخ أثينا أهمية كبيرة على رئيس الجمهورية، ويشترط فيه شروطاً كثيرة تشبه تمام الشبه الشروط التي قال بها أفلاطون من قبل، بل هي مأخوذة عنها نصاً. ويعقد لها في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) فصلاً مستقلاً عنوانه:(في خصال رئيس المدينة الفاضلة)، وفي هذا
الفصل يقرر أنه لابد أن يكون رئيس المدينة سليم البنية قوي الأعضاء تامها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، سريع البديهية، حسن العبارة، محباً للعلم والاستفادة، متحلياً بالصدق والأمانة، نصيراً للعدالة، عظيم الإرادة، ماضي العزيمة، قانعاً متجنباً للملذات الجسمية. شرائط صعبة التحقيق ونادرة الوجود مجتمعة في شخص واحد كما يلاحظ الفارابي نفسه، ومع هذا لا يتردد في أن يزيدها تعقيداً؛ فيضيف إليها شرطاً آخر أملاه عليه مذهبه العام واستعداده الصوفي، أو بعبارة أخرى يضيف إليها الشرط الذي يبعده عن أفلاطون بقدر ما يقربه من التعاليم الإسلامية، وذلك الشرط هو أنه لابد لرئيس المدينة من أن يسمه إلى درجة العقل الفعال الذي يستمد منه الوحي والإلهام، والعقل الفعال، كما نعلم، أحد العقول العشرة المتصرفة في الكون، ونقطة الاتصال بين العبد وربه، ومصدر الشرائع والقوانين الضرورية للحياة الخلقية والاجتماعية، وعلنا تلحظ من هذا أن خيال الفارابي - ولو في هذه النقطة على الأقل - أخصب من خيال أفلاطون. ففي حين أن مؤلف الجمهورية يريد أن يرغم الفيلسوف على النزول من سماء التأملات إلى عالم الشؤون السياسية، يطلب الفارابي من رئيس مدينته أن يندمج في العالم الروحي وأن يحيا بروحه أكثر من حياته بجسمه، ويشترط فيه أن يكون قادراً باستمرار على الاتصال بالعقل الفعال. فالحاكم الفيلسوف الذي قال به أفلاطون يتحول إلى حكيم واصل عند الفارابي. يقول دي بور في حق:(يُبْرز الفارابي رئيسه في كل الصفات الإنسانية والفلسفية؛ فهو أفلاطون في ثوب محمد النبوي). وواجب على رئيس كهذا قد حظي بالسعادة الحقة ونعم بالاتصال بالكائنات الروحية أن يجتذب مرءوسيه نحوه، ويقوم على تهذيب أرواحهم أولا وبالذات، ويصعد بهم إلى مستوى النور والإشراق. فنحن إذن أمام مدينة سكانها قديسون ورئيسها نبي، وهي مدينة لا وجود لها إلا في مخيلة الفارابي.
بيد أن الفيلسوف العربي يأبى إلا أن يصور لنا من هذا الخيال حقيقة ويحملنا على التسليم بإمكان المدينة الفاضلة التي ينشدها، ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال، وإن يكن نادر الوجود وخاصاً بعظماء الرجال، ميسور من طريقين: طريق العقل وطريق الخيالة، أو طريق التأمل وطريق الإلهام؛ فبالنظر والتأمل يستطيع الإنسان أن يصعد إلى درجة العقل المستفاد حيث تتقبل الأنوار الإلهية، وليست النفوس كلها قادرة طبعاً على هذا الاتصال، وإنما تسمو
إليه الأرواح القدسية التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتدرك عالم النور. يقول الفارابي: (الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق؛ ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن؛ وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه؛ وتقبل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس). فبفضل الدراسات النظرية الطويلة والتأملات العقلية الكثيرة يستطيع الحكيم الاتصال بالعقل الفعال، وهذا الحكيم الواصل هو الذي يسمح الفارابي بأن يكل إليه مقاليد أمور مدينته، وبهذا يحل (صاحب المدينة الفاضلة)، على طريقته طبعاً مشكلة الرئيس السياسي والاجتماعي، وهو حل صوفي كما ترى؛ وليس غريباً أن يصدر عن فيلسوف يقول بنظرية السعادة والاتصال. فآراء الفارابي السياسية، وإن اعتمدت على دعائم أفلاطونية مشوبة بنزعة صوفية واضحة.
على أن الاتصال بالعقل الفعال ممكن أيضاً عن طريق الخيالة، وهذه هي حال الأنبياء؛ فكل إلهاماتهم وما ينقلون إلينا من وحي منزل أثر من آثار الخيالة ونتيجة من نتائجها، وإذا ما رجعنا إلى علم النفس عند الفارابي وجدنا أن المخيلة تلعب فيه دوراً هاماً وتنفذ إلى نواحي الظواهر النفسية المختلفة. فهي منبتة الصلة بالميول والعواطف وذات دخل في الأعمال العقلية والحركات الإرادية. تمد القوى النزوعية بما يستثيرها ويوجهها نحو غرض ما؛ وتغذي الرغبة والشوق بما يؤججهما ويدفعهما إلى السير في الطريق حتى النهاية. هذا إلى أنها تحتفظ بالآثار الحسية وصور العالم الخارجي المنقولة إلى الذهن عن طريق الحواس، وقد لا يقف عملها عند ادخار الصور الذهنية والاحتفاظ بها، بل تخلق منها قدراً مبتكراً لا تحاكى فيه الأشياء الحسية، وبهذا يشير الفارابي إلى الخيالة المبدعة التي تنبه إليها علماء النفس المحدثون بجانب الخيالة الحافظة ومن الصور الجديدة التي تخترعها الخيالة تنتج الأحلام والرؤى. ويعنينا هنا قبل كل شيء أن نبين أثر الخيالة في الأحلام وتكوينها. فإنا إن فسرنا الأحلام تفسيراً علمياً استطعنا أن نفسر النبوة وآثارها. ذلك لأن الإلهامات النبوية إما أن تتم في حال النوم أو في حال اليقظة؛ وبعبارة أخرى إما أن تبدو على صورة الرؤيا الصادقة أو الوحي. والفرق بين هذين الطريقين نسبي، والاختلاف بينهما في الرتبة لا في الحقيقة. وما الرؤيا الصادقة إلا شعبة من شعب النبوة تمت إلى الوحي بصلة وتتحد معه في الغاية وإن اختلفت عنه في الوسيلة. فإذا فسرنا أحدهما أمكن
تفسير الآخر. وقد عقد الفارابي في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة فصلين متتاليين (في سبب المنامات، وفي الوحي ورؤية الملك)؛ وفي هذا ما يبين الصلة بين هذين المبحثين.
فهو يبدأ أولا بالأحلام فيوضحها توضيحاً يقرب كثيراً من بعض الآراء العلمية الحديثة، ويرى أن المخيلة متى تخلصت من أعمال اليقظة تفرغت أثناء النوم لبعض الظواهر النفسية، فتخلق صوراً جديدة أو تجمع صوراً ذهنية قديمة على أشكال مختلفة محاكية ومتأثرة في ذلك ببعض الاحساسات والمشاعر الجسمية أو العواطف النفسية والمدركات العقلية، فهي قوة مخترعة قادرة على الخلق والإيجاد والتصوير والتشكيل، ولها أيضاً قدرة عظيمة على المحاكاة والتقليد، وفيها استعداد كبير للانفعال والتأثر فأحوال النائم العضوية والنفسية واحساساته ذات أثر واضح في مخيلته، وبالتالي في تكوين أحلامه، وما اختلفت الأحلام فيما بينها إلا لاختلاف العوامل المؤثرة فيها، فنحلم بالماء أو السباحة مثلاً في لحظة يكون مزاجنا فيها رطبا، وكثيرا ما مثلت الأحلام تحقيق رغبة أو الفرار من فكرة بغيضة؛ فقد يتحرك الإنسان أثناء نومه تلبية لنداء عاطفة خاصة، أو يجاوز مرقده ويضرب شخصاً لا يعرفه أو يجري وراءه، وعلى الجملة الميول الكامنة والاحساسات السابقة أو المصاحبة لحلم ما ذات دخل عظيم في تكوينه وتشكيله. ولسنا في حاجة لأن نشير إلى أن هذه الملاحظات على بساطتها تشبه التجارب العلمية التي قام بها فرويد وهرفي وموري من علماء النفس المحدثين الذين اشتغلوا بالأحلام وتحليلها. وقد أبان فرويد في جلاء أثر الميول الكامنة في تشكيل الرؤى والأحلام، وخاصة لدى الكهول والشبان؛ واستطاع هرفي وموري أن يبرهنا على أن الحلم غالباً ما يكون امتداداً لإحساس سابق أو نتيجة لإحساس مقارن، فقد يحلم الإنسان بحريق في حجرته في الوقت الذي يقع فيه بصيص من الضوء على حدقته أثناء نومه، أو بأنه يضرب على أثر ألم في ظهره. وقد حدث مرة أن رأى شخص أن داره تنهار به في الوقت الذي انكسرت فيه إحدى قوائم سريره. ولقد وصل الأمر بهرفي أن ظن - بناء على ما سبق - أنه يمكن أن يتصرف في أحلامه ويشكلها كما يشاء، فمتى ربط صلة بين بعض الاحساسات وذكريات معينة استطاع في نومه استعادة هذه الذكريات بإثارة الاحساسات المتصلة بها. وقديماً حاول الإغريق أن يحتفظوا بأحلامهم أو يثيروها بواسطة بعض الطقوس الدينية.
وإذا كان في مقدور الخيالة أن تحدث كل هذه الصور فهي تستطيع أن تشكلها بشكل العالم الروحاني، فيرى النائم السموات ومن فيها، ويشعر بما فيها من لذة وبهجة. وفوق هذه فقد تصعد المخيلة إلى هذا العالم وتتصل بالعقل الفعال الذي تتقبل منه الأحكام المتعلقة بالأعمال الجزئية والحوادث الفردية، وبذا يكون التنبؤ؛ وهذا الاتصال يحدث ليلاً ونهاراً، وبه نفسر النبوة، فهو مصدر الرؤيا الصادقة والوحي. يقول الفارابي:(إن النبوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جداً، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، ولا يستخدمها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضاً أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم. . . اتصلت بالعقل الفعال وانعكست عليها منه صور في نهاية الجمال والكمال، وقال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود واحد منها في سائر الموجودات أصلاً، ولا يمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة والتي يبلغها الإنسان بهذه القوة فميزة النبي الأولى في رأي الفارابي أن تكون له خيالة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال أثناء اليقظة وفي حال النوم، وبهذه الخيالة يصل إلى ما يصل إليه من إدراكات وحقائق تظهر على صورة الوحي أو الرؤيا الصادقة، وليس الوحي شيئاً آخر سوى فيض من الله عن طريق العقل الفعال، وهناك أشخاص قويو الخيالة، ولكنهم دون الأنبياء فلا يتصلون بالعقل الفعال إلا في حال النوم، وقد يعز عليهم أن يعربوا عما وقفوا عليه، أما العامة والدهماء فمخيلتهم ضعيفة هزيلة لا تسمو إلى درجة الاتصال هذه لا في الليل ولا في النهار. يقول الفارابي: (ودون الأنبياء من يرى بعض الصور الشريفة في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره، ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط؛ وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يبرون بها أقاويل محاكية ورموزاً وألغازاً وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتاً كثيراً). وهنا يشير الفارابي
إلى جماعة الأولياء والواصلين الذي يتفقون مع الأنبياء في بعض النواحي ويختلفون عنهم في نواحي أخرى.
هذه هي نظرية النبوة التي انتهى إليها الفارابي بعد أبحاثه الاجتماعية والنفسية. فالنبي والحكيم في رأيه هما الشخصان الصالحان لرياسة المدينة الفاضلة؛ وكلاهما يحظى في الواقع بالاتصال بالعقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والقوانين الضرورية لنظام الجمعية، وكل ما بينهما من فارق أن الأول يحظى بهذا الاتصال عن طريق الخيالة والثاني عن طريق البحث والنظر. وسندع الحكيم وطريق اتصاله جانباً فقد تعرضنا له من قبل على صفحات الرسالة حين تكلمنا عن نظرية السعادة، وسنوجه عنايتنا فيما يلي إلى بيان أصول نظرية النبوة وأثرها فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
في الأدب المقارن
أثر الدين في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
للدين في أدب كل أمة أثر عميق متشعب، بل هو أخل الآداب والفنون والعلوم، تنشأ كلها في الجماعات البدائية لخدمته، ويستأثر بالتبحر فيها رجاله، ثم تذيع عنهم في بقية الشعب وتنفصل تدريجياً عن الدين، ويستقل كل منا بنفسه، ويظل للدين مع ذلك أثر فيها قل أو كثر، يؤثر فيها من جراء تأثيره في المجتمع الذي تستقي منه العلوم والفنون؛ هكذا كان الدين عند قدماء المصريين واليونان والرومان واليهود وغيرهم من الأمم.
ولا يشد الأدبان العربي والإنجليزي عن هذه القاعدة: فقد تأثر كل منهما بالوثنية أولاً ثم بدين سماوي وكتاب منزل، وشهد
نهضة دينية كبرى كان لها أثر عظيم في مجتمعه، واختلط الدين بالسياسة في كلتا الأمتين وتأثر الأدب بهذا الاختلاط، وكان من رجال الدين في الأمتين بلغاء ذوو أذواق أدبية أتحفوا أدب اللغة بآثار جليلة في الحض على الفضيلة والكمال الروحي، وكان من أدباء كلتا الأمتين متشيعون للطوائف الدينية دافعو عنها في نظمهم ونثرهم.
شهد الأدب العربي أعظم النهضات الدينية طراً بظهور الإسلام، الذي غير وجه المجتمع العري وأغنى الأدب بخير ما فيه من الخطب الدينية والسياسية، وإن يكن الأدب الإنجليزي لم يشهد نشأة النصرانية فلم تفته نهضة دينية عظيمة الشأن هي الإصلاح الديني الذي شمل أوربا في عهد الحياء وامتد في إنجلترا إلى القرن السابع عشر، وانتهى بانتصار طائفة المطهرين، وأنجب هذا العهد رهطاً من الكتاب والشعراء المبرزين أمثال ملتون وبنيان ودَن وهريك وهربرت وكراشو، الذي خلفوا أحسن ما في اللغة من أشعار الورع والطهر والسمو الروحي.
وحبت تلك النهضة الدينية الأدب العربي بكتاب سماوي لن يزال مثلاً أعلى في البلاغة ومعيناً لا ينضب للبلغاء، ومنذ ترجم الإنجيل إلى الإنجليزية ترجمة بليغة، كان له فضل عظيم على اللغة وعلى أدبها، فقد أقام قواعدها ووضح أساليبها، ولم يزل مثلاً للسلاسة والإمتاع.
واختلط الدين بالسياسة في الدولة العربية، وكان محور التقائهما مشكلة الخلاف التي اصطرعت حولها الأحزاب وقامت باسمها الدولات، وامتزج الدين السياسة في إنجلترا عهداً، وكان مدار امتزاجهما سلطة الملك وحقوق الشعب، فالملكية تدعي الحق الإلهي والسلطان المطلق في شؤون الدين والدنيا، والشعب يريد الحرية في كلا الأمرين ويحد سلطة الملك في الناحيتين، وتأثر الأدبان بهذا التداخل بين الدين والسياسة.
ويدين الأدب الإنجليزي للديانة بثلاث أياد: الأولى وضع من أوضاع الأدب هو الرواية التمثيلية، التي نشأت في العصور الوسطى في الكنيسة حيث كان يمثل عذاب المسيح والآم الشهداء وخبائث إبليس، وتمثل الفضائل والرذائل شخوصاً متحاورة، فمن هذا البدء الساذج نمت الرواية التمثيلية التي ازدهرت في عهد شكسبير، والتفتت إلى دراسة الإنسان والمجتمع، واليد الثانية أثر أدبي خطير من نفائس الأدب الإنجليزي، هو ملحمة ملتون الفردوس المفقود، التي أوحى إليه بها الروح الديني الذي ساد عصره، والعراك الديني الذي خاض غماره، واستعار مشاهدها ومعالمها من الإنجيل الذي كان به في عهده أسمى مكانة، وأخيراً للكنيسة فضل على الأدب الإنجليزي إذ كان من رجالها من ساعدهم الفراغ الذي ينعمون به على الانصراف إلى الأدب، بل كان منهم من ألحقوا بالكنيسة عمداً ليحظوا بذلك الفراغ وذلك الانصراف، ومن مشهوريهم سويفت ودَن وكنجزلي.
وليس في الأدب العربي ما يقابل هذه الأيادي التي أسدتها الديانة والكنيسة إلى الأدب الإنجليزي: فقد أكبر المسلمون شخص نبيهم عن كل تمثيل وتشخيص، وانتهت حياته بالظفر الأكبر لا بمأساة كمأساة المسيح. وإن يكن في تاريخ الإسلام ما يشابه تلك المأساة فهو مصارع أبناء الإمام علي التي خلدتها الأشعار الباكية، وإذا كانت رسالة الغفران تشابه الفردوس المفقود في امتداد مشاهدها في العالم الآخر فهي تخالفها في كل شيء آخر لاختلاف المؤلفَين؛ ثم إنه لم تكن في الإسلام هيئة دينية رسمية تكاد تقصر على أبناء العلية ومن يلوذ بهم كالكنيسة الإنجليزية.
وفي الأدبين العربي والإنجليزي آثار طريفة للنزعة الصوفية، التي هي من أسمى مظاهر الروح الديني، وإن خرجت عن مألوف المتدينين في أشياء، وأنكر منها رجال الدين أحياناً أموراً، واتخذت لها رموزها وطرقها الخاصة التي تستغلق على غير أربابها، وأظهر
أصحاب هذه الطريقة الرمزية في الأدب الإنجليزي بليك، وأجزلهم في العربية شعراً وأسيرهم ذكراً ابن الفارض.
وجاءت النهضة العلمية والفلسفية بعد النهضة الدينية في كلتا الأمتين، تمثل ذلك عند العرب في ذيوع الفلسفة اليونانية، وعند الإنجليز في ارتقاء العلوم المادية كعلوم الحياة وطبقات الأرض والكيمياء والطب، وتطبيق نظرية النشوء والارتقاء عليها وعلى العلوم الاجتماعية، فقام الصدام بين الدين والعلم والفلسفة، وانعكس ظله في الأدب، وأوضح مثال للشك العلمي في العربية شعر المعري، وفي الإنجليزية شعر تنيسون وهاردي.
كان انتصار المطهرين الذين وضعوا أساس حرية الشعب الدينية والسياسية أوج احتفال الإنجليز بالمسائل الدينية وظهور آثارها في أدبهم، وبعدها هبط إلى المحل الثاني من تفكيرهم، ولم تقم له إلا حركات قليلة الشأن في القرن الماضي، إذ كان يحاول كل من فريقي البروتستانت والكاثوليك جمع الأنصار حوله، وظهر في ذلك المعترك من الأدباء المتحمسين للدين جملة، أشهرهم نيومان ثم تشسترتون المتوفى حديثاً، وكانت آراء داروين في منتصف القرن الماضي ضربة شديدة وجهت إلى روايات الإنجيل في شأن الخلق، فانصرف جمهور الناس نهائياً عن التحمس للدين ورجاله، وهكذا بعد الأدب الإنجليزي عن الدين وتأثيره في العصور الحديثة بعداً كبيراً.
أما تأثر الأدب العربي بالإسلام فكان أشمل وأبعد مدى وأطول أمداً من تأثر الأدب الإنجليزي بالمسيحية لأسباب عديدة: أولاً إن الإسلام نشأ بين أظهر العرب فشهدوا مبعثه وجهاده وظفره على الوثنية؛ وثانياً أنه كان أساس دولتهم وقطب سياستهم الداخلية؛ وثالثاً أنه ظل دائماً مجاهداً أعداءه مغيراً تارة ومدافعاً أخرى، فكان قطب السياسة الخارجية أيضاً في أحوال كثيرة؛ ورابعاً أنه كان بعد انتشاره محور العلوم والآداب وكان القران أساس الثقافة التي يؤخذ بها الناشئون؛ وخامساً أنه سوَّى بين الداخلين فيه فقام منهم مقام الوطنية في الأمم الأخرى؛ وأخيراً أنه بأحكامه يشمل أمور الدنيا شموله شؤون الآخرة، ويحيط بقواعد المجتمع الذي هو مبعث الأدب، فلا غرو إن تأثر الأدب العربي في كل عصوره بالدين روحاً ومظهراً وغرضاً وأسلوباً.
فظهور الإسلام بين العرب ترك أثره في شعر الشعراء، بين مهاجم له ومدافع عنه ومادح
للرسول (ص)، وظلت مدحة الرسول في كل العصور غرضاً من أغراض الشعر؛ وجهاد الإسلام أعداءه فاتحاً أو منافحاً مدى القرون الطويلة، تجلى أثره في خطب الخلفاء والقواد وأشعار المادحين للأمراء المنتصرين على الروم أو الوثنيين أو الأسبان أو الصليبيين، لاسيما وقد كان ذلك دائماً مصطبغاً بصبغة القومية، فقد كان الإسلام يجمع شعوبه في عصبة أمم واحدة ذات شعور مشترك وأعداء مشتركين، ومن أشهر آثار ذلك كله في الأدب يائية أبي تمام في فتح عمورية، ومدائح المتنبي لسيف الدولة، وقصائد الأبيوردي، والبهاء زهير، وابن مطروح في الحروب الصليبية، ومدائحهم للأيوبيين، ومراثي الأندلس وصقلية، كل هاتيك يخفق فيها الروح الديني، ممتزجاً بالوطنية والسياسة وتمجيد الدولة القائمة.
وفي داخل الدولة كان الدين - متمثلاً في مسألة الخلافة - محور السياسة ومصطرع الفرق ومشتجر الآراء ولثام المطامع ولواء الثورات وشغل الشعوب، فلم يكن هناك صراع بين ملكية مستبدة وشعب متشبث بحرياته، ولم يكن هناك محافظون وأحرار، ولا اشتراكيون ورأسماليون، ولكن كان هناك خوارج غلاة في الدين يحبذون الشورى ويقرون الخلافة في الأصلح لها، وأمويون وعباسيون وعلويون، كل منهم يدعي الإمامة، ومرجئة ومعتزلة يحظون حينا بتقريب البلاط، ويستهدفون حينا لمقته، وعامة الشعب في أغلب العصور مع شيعة عليّ لمكانة سلفهم العظيم من النبي وقدمه في الإسلام، ولما حاق بالغطاريف من ذريته من تنكيل جَمَعَ بينهم وبين الشعب المقهور بعطف متبادل.
ومرآة كل ذلك جلية في أشعار أقطاب الخوارج، ومتشيعي الشعراء من عهد الكميت وكُثيّر والفرزدق، إلى زمن ابن الرومي إلى عصر عمارة اليمني الذي رثى دولة الفاطميين رثاء موجعاً، وفي أشعار طالبي الدنيا المناصرين للدولة القائمة المؤيدين لدعواها، كمروان بن أبي حفصة، وفي نثر زعماء المذاهب ونظمهم في بيان آرائهم والنضح عن مبادئهم، كخطب واصل بن عطاء وشعر صاحب المرجئة الذي يقول منه:
نرجي الأمور إذا كانت مشابهة
…
ولا نحاور فيمن جار أو عندا
ولا نرى أن ذنبنا بالغ أحدا
…
ما الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا
وشمول روح الدين أو مظهره لكل مرافق المجتمع وقواعده الدولة على هذا النحو ترك في
الأدب عامة: إذ صبغ أكثره بصبغة الجد والرزانة والقصد في القول واجتناب الإيغال في الخيال، والولع بالحكم والعبر والأمثال، ورغّب الأدباء في الأخبار الصادقة عن السلف من جاهليين وإسلاميين، وزهدهم في الأساطير ومختلق الأحاديث، والى رهبة الدين الذي كان عماد الدنيا والآخرة ترجع أشعار الزهد والوعظ التي يحفل بها الأدب كأشعار أبي العتاهية وابن عبد القدوس، والى جلالته وجلالة الانتماء إليه ترجع مسحة التسامي والعفة التي تزين على شعر الشريف الرضى.
كان الدين دائماً منبث الروح، وإلا فمتجسم المظهر في شوْون الحياتين، وإن صدمته الأهواء السياسية كثيراً، وغلبته الأهواء الفردية، وتغافل عنه حماته فلم ينشطوا للذود عن حرمانه إلا أن يكون في ذاك قضاء لمآربهم أو شفاء لسخائمهم، حتى كان من المتناقضات حقاً أن الأدب العربي الذي ازدهر في ظل دول إسلامية حوى من جريء القول ما لم يحو غيره.
وخلاصة القول أن كلا الأدبين العربي والإنجليزي تأثر بدين قومه تأثرا بينا، ولكن بينما كان تأثر الأخير بالمسيحية مقصوراً على عهود بذاتها وأمور بعينها، ثم ركد أمر الدين، وأحس الأدب أنه قد استفاد منه كل ما يمكنه أن يستفيد، فانصرف عنه، ظل للدين في الأدب العربي دائما مكانة عالية وأثر بعيد، وسيظل له مثل هذه المكانة ومثل هذا الأثر، في كل أدب يدين مجتمعه بالإسلام وينطق بالضاد.
فخري أبو السعود
بين شوقي وابن زيدون
بقلم الدكتور زكي مبارك
- 1 -
عرفنا ابن زيدون العاشق الذي يحسن التحدث عن مآسي القلوب، ويكاد يعرف أسرار النفوس، فماذا نقول عن شوقي؟ لقد طال الحديث عن هذا الشاعر في فصول هذا الكتاب، ونخشى أن يتحيَّف حقوق من عرضنا لهم من الشعراء، ولكن كيف نستكثر القول في شوقي، وقد بذَّ ابن زيدون؟ إن نونية شوقي أعجوبة من الأعاجيب، وقد أرسلها من الأندلس في أعقاب الحرب العالمية فضجّ لها شعراء مصر، وأجابه إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وعبد الحليم المصري؛ ولكنهم عجزوا جميعاً عن الجري في ميدانه، ولم يُؤثَرْ لهم في معارضته شيء ذو بال بالقياس إلى أمير الشعراء.
ابتدأ ابن زيدون نونيته بشكوى البين والأعداء والزمان، وكانت الأبيات السبعة التي تحدث بها عن جواه زفرة محرقة لم يعيها ما وشيت به من الزخرف، ولكن أين هي من بداية شوقي حين خاطب الطائر الحزين في وادي الطلح بضاحية إشبيلية؟ لقد تمثل الطائر شبيهاً به في لوعته وجواه فاندفع يقول:
يا نائح الطَّلحِ أشباهٌ عوادينا
…
نشْجى لواديكَ أم نأسى لوادينا
ماذا تَقُصُّ علينا غير أنَّ يداً
…
قصت جناحيك جالت في حواشينا
رَمى بنا البينُ أَيكا غير سامِرنا
…
أخا الغَريب وَظِلاً غير نادينا
كلٌّ رَمَتهُ النَّوى، ريشَ الفِراقُ لنا
…
سَهما، وسُلَّ عَليكَ البَينُ سِكِّينا
إذا دعا الشوقُ لم نبرَح بمُنصَدِعٍ
…
من الجناحين عَيٍّ لا يُلَبِّينا
فإن يكُ الجنسُ يا ابن الطلح فرَّقنا
…
إن المصائب يَجمعن المصابينا
لم تألُ ماَءكَ تحناناً ولا ظَمأ
…
ولا ادِّكاراً ولا شجوَاً أفانينا
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ
…
وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم
…
فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
والشاعر في هذه الأبيات حيران، يجعل الطائر في حالتين: حال المغترب، وحال المقيم، فما تدري أيبكي من الغربة أم ينوح من فقد الأليف؛ ومع حيرة الشاعر وضلاله عن تحديد
ما يريد نراه بلغ غاية الرفق حين قال:
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ
…
وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
وهي حال نشهدها في الطائر المحزون، فقد نرى الطائر يتنقل على غير هدى من أيك إلى أيك، فنعرف أنه يبحث عمن يواسيه، ولكن أين من يواسي الطائر الحزين؟ إن شوقي نفسه أخطأ حين قال:
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم
…
فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
فإن الطائر لا يجد من يأسو جسمه، وإنما يجد من يذبحه ويشويه، والناس ألأم من أن يطِبُّوا لطائر جريح!
وانتقل ابن زيدون من شكوى البين والأعداء والزمان إلى معاتبة حبيبته، فذكر أنه لم يستمع وشاية ولم يعتقد إلا الوفاء، أما شوقي فقد انتقل من خطاب الطائر إلى بكاء الأندلس والحنين إلى مصر، فقال:
واهاً لنا نازحي أيكٍ بأندلسٍ
…
حللنا رَفيفاً من رَوابينا
رسمٌ وقفنا على رسمِ الوفاءِ لهُ
…
نجيشُ بالدمع والإجلالُ يثنينا
لفتيةٍ لا تنالُ الأرضُ أدمعهم
…
ولا مفارقُهم إلاَّ مصلينا
لو لم يسودُوا بدينٍ فيه منبهةٌ
…
للناس كانت لهم أخلاقهم دينا
لم نسر من حرمٍ إلا إلى حرمٍ
…
كالخمر من بابل سارت لدارينا
لما نبا الخلْدُ نابت عنهُ نُسختهُ
…
تماثُلَ الوردِ خيرياً ونسرينا
نسقي ثراهمْ ثناءً، كلما نُثِرَتْ
…
دموعُنا نُظمت منها مراثينا
كادت عيونُ قوافينا تحرِّكهُ
…
وكدنَ يوقظن في الترب السلاطينا
وللقارئ أن يتأمل الحسن في هذه الأبيات، فالشاعر يغلبه الدمع، وهو يتذكر ملوك الأندلس، ولكن الإجلال يثنيه عن البكاء، لأنه في ديار قوم لم تنل الأرض أدمعهم ومفارقهم إلا عند السجود، فهم لم يعرفوا الخشوع لغير الله، وذلك من أبعد الغايات في الثناء.
ويأبى شوقي غلا أن يحرص على المعاني الشعرية، فهو في الأندلس لا يسري من حرم ألا إلى حرم، ولكن كيف؟ كالخمر سارت من بابل إلى دارين! وقديسة الخمر لا تجوز في غير مذاهب الشعراء.
ثم قال في الحنين إلى وطن النيل:
لكن مصر وإن أغضت على مقةٍ
…
عينٌ من الخلدِ بالكافور تسقينا
على جوانبها رفَّت تمائمُنا
…
وحول حافاتها قامت رواقينا
وهذا معنى قديم سبقه إليه من قال:
أحبُّ بلاد اللهِ ما بين منعِجٍ
…
إلي وسلمى لو يصوبُ سحابها
بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائمي
…
وأول أرض مسَّ جسمي ترابُها
والبكر هو قول شوقي:
ملاعبٌ مَرحَت فيها مآرُبنا
…
وأربُعٌ أنِسَتْ فيها أمانينا
وإنما كان هذا معنى بكراً لما فيه من طرافة الخيال، أرأيتم كيف تمرح المآرب، وكيف تأنس الأماني؟
لقد رأيت شوقي أول ما رأيته سنة 1921، وكان دعاني للغداء عنده بالمطرية مع الأصدقاء الأكرمين مصطفى القشاشي، وسعيد عبدة، وأحمد علام، فعجبت يومئذ لذلك المبسم الساحر وسألت نفسي: كيف كان ذلك الملاك في صباه!
إن حنين شوقي إلى مصر حنينٌ عميق، وإنما كان كذلك لأن الشاعر شهد في مصر دنيا من الحب والمجد لم يظفر بها إلا الأفلون؛ ودنيا شوقي لم تكن مثل دنيا الناس في هذا الزمان، كانت الدنيا في شباب شوقي تفيض بالبشر والإيناس، وكان الشاعر يعيش فيها عيشة مضمخة بالسحر والفتون، وكان للجمال قدسية، وكان للصبا سلطان، وكانت خطوب الزمن لا تهد النفوس كما تفعل في هذه الأيام.
ومن البكر أيضاً قول شوقي:
بنَّا فلم نخلُ من رَوحٍ يُراوحنا
…
من برِّ مصرَ وريحان يُغادينا
كأُمِّ موسى على اسم الله تكفلنا
…
وباسمه ذهبت في اليمِّ تلقينا
يريد ان يقول إن مصر لم تلقهِ في النفي غلا خوفاً عليه من كيد فرعون، فرعون القرن العشرين المستر جون بول!
- 2 -
تذكرون قول ابن زيدون:
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به
…
من كان صِرفَ الهوى والودِّ يسقينا
واسألْ هنالك هل عنى تذَكُّرُنا
…
إلفاً تذكرهُ أمسى يُعَنِّينا
وهذا شعر جميل، ولكن انظر كيف عارضه شوقي فقال:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا
…
بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
لما ترقرقَ في دمعِ السماءِ دماً
…
هاجَ البكا فخضبنا الأرضَ باكينا
الليلُ يشهدُ لم نهِتك دياجيَهُ
…
على نِيامٍ ولم نهِتفْ بسالينا
والنَّجمُ لم يرَنا إلاَّ على قدمٍ
…
قيامَ ليلِ الهوى للعهدِ راعينا
كزفرةٍ في سماءِ الليلِ حائرَةٍ
…
مِمَّا نُردِّدُ فيهِ حينَ يضوينا
َباللهِ إن جُبتَ ظلماَء العبابِ على
…
نجائبِ النور مَحْدواً (بجرِّينا)
ترُدُّ عنكَ يداهُ كلَّ عاديةٍ
…
إنْساً يعِثنَ فساداً أو شياطينا
حتى حوتْكَ سماءُ النيل عاليةً
…
على الغيوثِ وإن كانت ميامينا
وأحرزتك شفوف اللاَّزَورْد على
…
وشى الزبرْ جدِ من أفوافِ وادينا
وحازكَ الريفُ أرجاءً مؤرَّجة
…
ربت خمائلَ واهتزَّت بساتينا
فقفْ إلى النيل واهتفْ في خمائِله
…
وانزل كما نزلَ الطَّلُّ الرَّياحينا
وآس ما باتَ يذْوي من منازلنا
…
بالحادثاتِ ويضوي منْ مغانينا
انظروا. ابن زيدون يسأل البرق أن يسقي القصر، وشوقي يسأل البرق أن يأسو المنازل الذاوية، والمغاني الضاوية، والمعنيان مقتربان، ولكن شوقي أعطانا صورة شعرية لتنقل البرق من أفق إلى أفق، وانحداره من أرض إلى أرض، وأعطى صوراً من ريف مصر وخمائل النيل لا تشوقُ غلا شاعراً ودَّع دنياه حين ودَّع النيل.
وقال ابن زيدون:
ويا نسيمَ الصِّبا بلّغ تحيتنا
…
من لوْ على البعد حيَّاً كان يحيينا
عارضه شوقي فقال:
ويا معطّرة الوادي سَرت سحراً
…
فطاب كلُّ طروحِ من مرامينا
ذكيَّةَ الذَّيل لو خِلنا غلالتها
…
قميصَ يوسف لم نُحسب مُغالينا
جَشِمتِ شوك السرى حتى أتيت لنا
…
بالورد كُتْباً وبالرَّيا عناوينا
فَلوْ جزيناكِ بالأرواحِ غاليةً
…
عن طيبِ مسراكِ لم تنهَضْ جوازينا
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه
…
غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
إلى الذين وجدنا وُدَّ غيرهمو
…
دُنيا ووُدَّهمُ الصافي هو الدِّينا
إن ابن زيدون لم يزد على أن قال: (يا نسيمَ الصِّبا)، وهو تعبير ورد في مئات القصائد، أما شوقي فراح يَفتنُّ افتناناً يدل على قوة الشاعرية، وبراعة الخيال، فوصف النسمة بأنها معطرة الوادي، وأنها سارت في السحَر فطاب بمسراها كلُّ مرمىً سحيق، وأنها ذكيةُ الذيل كأنها قميص يوسف، وأنها جشِمت شوك السرى حتى أتت بالورد مجسماً في رسائل، وأتت بالريَّا مُمثَّلةً في عناوين، وشكر لها النُّعمى فقال:
فَلوْ جَزَيناكِ بالأرْوَاحِ غالِيَةً
…
عن طيبِ مسراكِ لم تنهض جَوَازينا
وابن زيدون يقول: (بلِّغ تحياتنا) وهي عبارة جافيةٌ، لأنها وردت في صورة الأمر، أما شوقي فيترفق، ويقول:
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه
…
غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
وابن زيدون يصف أحبابه بالقدرة على إحيائه لو أسعفوه بتحية، وشوقي يجعل كل هوى غير هوى أحبابه بمصر صورة من الدنيا، أما هوى أحبابه الذين يتشوق إليهم فهو في صفاء الدِّين
ولا ننكر أن أخيلة شوقي مقتبس من ابن زيدون، فقول شوقي:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا
…
بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
اختلس برفق وحذق من قول ابن زيدون:
بنتم وبنَّا فما ابتلَّت جوانحُنا
…
شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
والمعنى الذي عرضه ابن زيدون في ثلاثة أبيات بسطه شوقي في ثمانية عشر بيتاً، وإنما اتفق له ذلك لأنه كان يعارض ابن زيدون، فكان لابدَّ له من توشيةٍ بارعة تُعَفِّ على النظرة الفطرية في أبيات ابن زيدون، ولابن زيدون فضل السبق، ولشوقي فضل البراعة في تلوين الصور الشعرية، وهو فضل ليس بالقليل.
وأراد ابن زيدون أن يتذكر أيام الأنس فقال:
حالت لفَقْدِكُمو أيامُنا فغدت
…
سُوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانِبُ العيش طلق من تألُّفنا
…
ومربع اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فُنون الوصل دانية
…
قُطُوفُهُ فجنينا منه ما شِينا
ليُسق عهدُكُمُ عهد السرور فما
…
كُنتم لأرواحنا إلا رَياحِينا
وهذا شعرٌ صافي الديباجة، رائع المعاني، ولكن انظروا كيف عارضه شوقي فجمع بين الأسى والفخر حين قال:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً
…
أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ
…
ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ
…
والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والشمسُ تختالُ في العِقْيانِ تحسَبُها
…
بَلْقيسَ تَرْفُلُ في وشي اليمانينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت
…
لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
والسعد لو دام والدنيا لو اطردت
…
والسيل لو عفَّ والمقدار لو دِينا
ألقى على الأرضِ حتى ردّها ذهباً
…
ماءً لَمسنا به الإكسير أو طينا
أعداءُ من يُمنِهِ (التابُوتُ) وارْتسمتْ
…
على جَوانبهِ الأنوَارُ مِنْ سينا
له مبالغُ ما في الخُلقِ من كرم
…
عهدُ الكرام وميثاق الوفيِّينا
لم يجر للدهرِ إعذارٌ ولا عُرُسٌ
…
إلاَّ بأيامنا أوْ في ليالينا
ولا حوى السعدُ أطغى في أعنته
…
منَّا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحنُ اليواقيتُ خاضَ النارَ جَوهَرُنا
…
وَلم يَهنْ بيدِ التشتيت غالينا
ولا يَحولُ لنا صبغ ولا خلق
…
إذا تلوَّن كالحرباءِ شانينا
والقارئ حين يوازن بين هاتين القطعتين لا يدري أيهما أجود، لأن ابن زيدون على قصر نفسه في هذا الشوط بلغ غاية الرشاقة حين قال:
وإذا هصرنا فنون الأنس دانية
…
قطفه فجنينا منه ما شينا
وبلغ غاية الدقة حين قال:
إذ جانب العيش طلق من تألفنا
…
مورد اللهو صاف من تصافينا
والدقة في هذا البيت تؤخذ من صدق التعليل، فالعيش لم تتسع جوانبه إلا بفضل التألف، تألف القلبين، واللهو لم يصف مورده إلا بفضل التصافي، تصافي الحبيبين، والدنيا لا كدر
فيها ولا صفاء، وإنما تصفو حين تصفو النفوس، وتقسو حين تقسو القلوب، فالزهر الذي يبسم لك لا يبسم لك وحدك، وإنما تراه يخصك بالرفق لأن الدنيا صفت لك، وقد يراه غيرك في ابتسامه صورة من صور العبوس، والنهر الذي تنظر إليه في الليالي المقمرة فتراه عاشقاً يغازل القمر ويتلقى دعابته في حنان، هذا النهر لا يتمثل لك كذلك إلا لأنك تشاهد أمواجه الفضية بقلب مرح وحس طروب، وهو نفسه قد يبدو للمحزون صورة من صور الاكتئاب.
ويروقنا قول شوقي:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً
…
أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ
…
ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ
…
والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت
…
لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
يروقنا هذا الشعر، لأن الشاعر جعل عهده في نضرة الزهر الذي يتفتح في أكناف الربوات، ولأنه رأى اللِّين في أيام الأنس شبيهاً باللين في أعطاف الصبا، وأعطاف الصبا جوهرٌ نبيل لا يعرف طيب لينها إلا شاعر أمكنته من أعطاف الصبا سَورَةُ الصبوات، ويروقنا أيضاً لطرافة هذا الخيال:
(ترف أوقاتنا فيها رياحينا)
ورفيف الأوقات معنى يعرفه العشاق الذين دار بهم الزمن في أرجوحة اللهو الجموح.
ويروقنا هذا الشعر مرة ثالثة لأن الشاعر يرى إقبال النيل كالدنيا حين تحتفل، وانظروا كيف تكون الدنيا حين تحتفل، ثم تأملوا روعة هذا الاستدراك:
(لو كان فيها وفاء للمصافينا)
ولكن هذه الطرافة في أخيلة شوقي لا تنسينا براعة ابن زيدون حين جعل محبوبته كل شيء حين قال:
يا روضة طالما أجنت لواحظنا
…
ورداً جلاء الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها
…
منىً ضروباً ولذاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من نضارته
…
في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
إن لم يكن هذا هو الشعر فما عسى الشعر أن يكون؟ أترون العذوبة في الهتاف بالروضة التي (طالما أجنت لواحظنا ورداً جلاه الصبا)، تأملوا عبارة (أجنت لواحظنا)، وانظروا كيف تغزونا الروضة فتقهرنا على تذوق جناها المرموق، والشاعر لا ينتظر حتى تهفو نفسه إلى مناعم الروضة، وإنما تهجم الروضة عليه فتعلمه كيف يهصر الأفنان، وكيف يجني القطوف، وعبارة (جلاه الصبا) ما رأيكم فيما تحويه من سحر أخاذ؟ ثم ما هذا التعبير الطريف:
(منىً ضروباً ولذات أفانينا)
أتعرفون كيف يكون للمعنى ألوان وللذات أفانين؟ إن هذا خيال شاعر غرق مرة في كوثر الوصال.
وانظروا هذا البيت:
ويا نعيماً خطرنا من نضارته
…
في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
أتحسون قوة هذا المعنى؟ ألا يُريكم الخيال صورة فتىً منعم يسحب ذيل النعيم؟ إن ابن زيدون في هذه الأبيات أقوى من شوقي في التحسر على ما ضاع من دنيا الهوى المفقود
(البقية في العدد القادم)
زكي مبارك
في الأدب التحليلي
صورة. . .!
(مهداه إلى أخي الأستاذ أنور العطار)
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . كان معروفاً بالشذوذ والخروج عن المألوف، لا يبالي إذا اتجه له الرأي ما يقول فيه الناس، ولا يحفل إذا أزمع الأمر نهى ناهٍ ولا نصيحة ناصح، وكان يعرف ذلك من نفسه ولا يغضبه أن يوصف به، بل كثيراً ما سمعناه يتحدث به ويطيل الحديث، يجد في كشف دخيلته للناس لذة وارتياحاً، كأنما هو يلقي عن عاتقه حملاً ثقيلاً. . .
يجمع في نفسه المتناقضات: فبينما هو منغمس في لج الحياة المضطربة المائجة يفزع من الوحدة، ويكره الهدوء، ويركب متن المغامرات في الأدب وفي السياسة، يحطب في المجامع، ويناقش في الصحف، وبينما هو مطمئن إلى هذه الحياة، مقبل عليها، إذا به قد استولت على نفسه (فكرة صوفية. . .)، فغمرت الكآبة روحه، وفاض اليأس على قلبه، وأحس الحاجة إلى الفرار من الناس، والرغبة في العزلة المنقطعة، وأصبح يكره أن يرى أمس أصحابه به، وأدناهم إلى فلبه، ويحب الحياة الساكنة الهادئة، ويجد الأنس في حديث قلبه ومناجاة ربه. . .
وهو أسرع الناس إلى المزاح والفكاهة، وأضيقهم بمجالس الجد، وأبعدهم عن تكلف الوقار، واتباع (الرسميات)، فلا يكون في مجلس إلا حركه بحديثه وإشاراته ونكاته، وأفاض عليه روح المرح، والود الخالص، ولكن موجة من الحزن المفاجئ، قد تطغى على قلبه في أشد الساعات سروراً، وأكثر المجالس طرباً فإذا هو حزين كئيب. قد ضاق بالناس وتبرم بمزاحهم وهزلهم، وغدا راغباً في الجد محباً للوقار، متلبساً بالصرامة والحزم، منصرفاً عما كان فيه منذ لحظة واحدة، لا يعرف الناس ولا يعرف هو، ماذا أصابه، فنقله من حال إلى حال.
تغلب عليه العاطفة حيناً فيمسي ارق الناس شعوراً، وأرهفهم حساً؛ يرى المشهد الجميل من مشاهد الكون، أو يسمع النغمة العذبة الشجية، أو يقرأ البيت الغزلي الرقيق، أو القصة
العاطفية المحزنة، فتوقظ في نفسه عالماً من الذكريات، فيخفق لها قلبه، ويهفو لها فؤاده، ويحس بها تلذعه لذعاً، وتفيض على نفسه شعوراً طاغياً، بحب مبهم غامض، لا يجد طريقاً ينبعث منه، فيزلزل كيانه زلزلة، كما يزلزل البركان الأرض، إن لم يجد فوهة يندفع منها. . . ويدعه شخصاً متهافتاً، لا يقوم إلا على أعواد من العواطف الرقيقة المتداعية. . . ويسيطر عليه العقل أحياناً فيحتقر العاطفة، ويدعو إلى أدب قوي نافذ، ويسخر من الحب ويهزأ بالعاشقين، ويزدري هذه القصص وهذه الأشعار التي كان يرقص لها قلبه وتفيض لها مدامعه. . .
ويقبل على العمل بهمة عجيبة ورغبة قوية، فيطالع ويكتب، ويعمل كآلة دائبة الحركة، لا يأخذه ضعف ولا خور، ثم يشعر فجأة بكراهية العمل والنفور من المطالعة الجدية والعزوف عن الكتابة والتأليف ويستولي عليه كسل عقلي عجيب، لا يطيق معه عملاً من الأعمال. . .
عرفته في دمشق، وقد كان يعمل في مدرسة ابتدائية، نزلوا به إليها، فلا يكلفه العمل فيها جهداً ولا مشقة، ولا يشغل من تفكيره شيئاً، فكان يستمتع بوقته ونفسه كما يشاء، ويشتغل بالأدب للذة والمتعة الفنية. فيقرأ ما طابت له القراءة، ويكتب ما رغب في الكتابة، ويؤلف ما مال إلى التأليف. . . فكرة هذه الحياة وهوى الحياة العقلية المنظمة التي تضطره إلى نوع من الدرس بعينه، وتجبره على نوع من الكتابة بذاتها - وكان يعيش في أسرة رفرف عليها الحب، وسادها الإخلاص وأسبغ عليها ثوب السعادة، بين اخوة له ما رأى الراءون مثلهم في ذكائهم واستقامتهم وطاعتهم إياه، وحبهم له، وحرصهم على رضاه، وصحابة له ما فيهم إلا أريب طيب النفس، صادق الود صافي السريرة حسن السيرة، وكان له في بلده منزلة يحسده عليها من هو أكبر منه سناً وجاهاً، وأكثر علماً ومالاً، فمل هذه الحياة ومال إلى الهجرة وانتجاع أفق جديد. . . وأزمع السفر إلى بغداد، تاركاً عمله في وزارة معارف الشام، عاصياً الناصحين والناهين من الأهل والأصحاب. . . وجاء معنا إلى بغداد، فلم يكد يلقي فيها رحله حتى عراه اكتئاب وملل لا يعرف له سبباً، وأحس الحنين يحز في قلبه والشوق يدمي فؤاده، وانتابته إحدى نوباته العاطفية، فلم تدع في رأسه إلا فكرة واحدة، هي الرغبة في العودة، لا يبالي معها ماذا قيل عنه، وماذا ضاع من عقله، فصحا من نوبته،
وتخلص من عاطفته، فآثر البقاء وأقبل على العمل، فلم يمض عليه يوم حتى سمع من ينشد:
فيم الإقامة بالزوراء؟ لا شكني
…
بها ولا ناقتي فيها ولا جملي!
فنشطت عاطفته المكبوتة من عقالها، تصرخ في وجه العقل، أن: فيم الإقامة بالزوراء؟ فغلب العقل واستحذى وذهب يستعد لمعركة أخرى. . .
ولقد وجد في بغداد من الإكبار فوق ما كان يرجو ونرجو له، ووجد اسمه قد سبقه إليها، وحف به قراؤه والمعجبون به، وأسرعوا للسلام عليه والاجتماع به، فلم يكن أبغض إليه وأشد عليه من هذه الاجتماعات، فكان يعرض عنهم ويرتكب في هذا الباب أشد الحماقات، حتى إنه ليدع الجماعة من علية القوم في ردهة الفندق ويفر منهم، وما جاءوا إلا من أجله، فيقوم من غير استئذان ولا اعتذار، ويذهب إلى غرفته فيعتصم بها. . وإنه ليعلم ما في عمله من الجفاء، ولكنه يضطر إليه اضطراراً، فهو يشعر أن جو هذه المجالس ثقيل عليه حتى ليوشك أن يخنقه ويغدو فيه كمن سد أنفه وفمه، وإنا لنلومه ونثقل عليه الملام، فلا يدفع عن نفسه لوماً ولا يحاول إنكاراً، ويعترف بالضعف، ويقر بالعجز، فنرحمه ونكف عنه.
إنه لا يستطيع أن يحمل اسمه، لا يقدر أن يتلقى بوجهه وجسمه هذا الإعجاب الذي يزعمون أنهم يوجهونه إلى الشخص الآخر الذي ينشر في (الرسالة) كأن له شخصيتين، فهذه التي يأكل بها ويشرب ويمشي ويضحك ويمزح غير تلك التي يفكر بها ويكتب ويؤلف وليس بينهما من صلة ولا يربطهما سبب من الأسباب. والعجيب من أمره أنه يضيق بالكلام في مثل هذه المجالس ويتهيبه، وتظنه أول ما تلقاه حيياً عيياً لا يفصح ولا يبين، فإذا أنت اتصلت به وعلقت حبالك بحباله، رأيته مفوهاً طلق اللسان شديد البيان. وإن أنت خالطته وعرفت دخيلته أبصرته لا يتهيب موقفاً خطابياً مهما كان شأنه، ولا يخشاه ما يخشى الرد على ألفاظ المجاملة ويتهيب مجلس تعارف وانتساب.
كان يأمل أن يجد لذة في تدريس الأدب، ولكنه لم يكد يمارسه حتى اجتواه ومله، وعلم أن الاشتغال بالأدب للذة لا يستقيم مع هذا العمل النظامي المستمر، إنه يصبح وفي رأسه فكرة يريد أن يكتب فيها فصلاً، فيدركه وقت المدرسة، فيذهب وتذهب الفكرة في طريقها، أو
يصبح وهو يكره الكلام ويميل إلى الصمت، يحب أن يفكر فيطيل التفكير، ويحلم فيغرق في الأحلام، فيراه ملزماً بالكلام خمس ساعات أو ستاً، وهو يحب الشاعر أو الكاتب ويميل إليه فيكرهه المنهج على درس شاعر آخر لا يحبه ولا يفهم أدبه، ويضطره الطلاب إلى إطالة الحديث حيث ينبغي له الإيجاز، أو إيجازه حيث تطلب الإطالة، أو لا يفهمونه ولا يسايرونه فيهبط من سماء متعته الأدبية، ليمشي مع أفهامهم وعقولهم. . .
إنه رجل شاذ الطباع متناقض العواطف، يشتاق إلى بلده فإن عاد ندم على العودة، وإن أقام هاجه الشوق، وإن لجأ إلى عقله ثارت عاطفته، وإن اتبع عاطفته أبى عقله. . .
لا يفهمه أحد، ولا يفهم هو نفسه. . مسكين! إنه أديب!
(بغداد)
علي الطنطاوي
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
المستشرق الإنجليزي
ذلك هو كتاب تاريخ الأدب العربي للأستاذ رينولد نيكلسون ننشره ابتداء من هذا العدد تباعاً كما وعدنا في العدد الماضي
المدخل لتاريخ العرب
العرب أمة من الأمم العظيمة التي تناسلت كما يقال من سام ابن نوح، ومن ثم يعرفون عادة بالساميين ذلك اللفظ الذي يدخل فيه البابليون والآشوريون والعبرانيون والكنعانيون والسبئيون والأحباش والآراميون والعرب، وبالرغم من أن هذا مبني على تقسيم غير مضبوط اجتماعياً (لأنه ورد في الإصحاح العاشر من سفر التكوين، أن الكنعانيين والسبئيين من ذرية حام) بالرغم من هذا فقد أحسن الاختيار المتوفى سنة 1828م في فهمه للشعوب الشديدة الارتباط ببعضها التي ذكرناها. وسواء أكان الموطن الأصلي للجنس السامي المتماسك جزءاً من آسيا (كبلاد العرب أو أرمينية أو أدنى الفرات) أم أنه دخل آسيا من أفريقية فهذا شيء لم يثبت بعد، فهم (منذ زمن بعيد فبل بدء العصر الذي ظهروا إبانه على مسرح التاريخ) قد تشعبوا وكونوا أقواماً منفصلة، ولا يمكن في هذا المجال شرح علاقات اللغات السامية ببعضها البعض. ولكن قد يستطاع ترتيبها ترتيباً زمنياً حسب انتشار الأدب كما يلي:
1 -
البابلية أو الآشورية (من 3000 - 500 ق. م)
2 -
العبرية (من 1500 ق. م)
3 -
العربية الجنوبية أو كما تسمى أحياناً السبئية أو الحميرية (نقوش منذ 800 ق. م)
4 -
الأرامية (نقوش منذ 800 ق. م)
5 -
الفينيقية (نقوش منذ 700 ق. م)
6 -
الحبشية (نقوش منذ 350 ق. م)
7 -
العربية (من 500 م)
وبالرغم من أن العربية على هذا الاعتبار أحدث اللغات السامية إلا أنها تعتبر عادة أقرب صلة من أية واحدة أخرى إلى النموذج الأصلي السامي الذي اشتقت جميعها منه، كما هو الحال في العرب - تبعاً لمركزهم الجغرافي وحياتهم الصحراوية المطردة التناسق - فقد حافظوا على الطبع السامي وظل فيهم - لاعتبارات خاصة - أنقى وأبرز مما هو عند بقية الأمم المتفرعة من هذا الجنس. ومنذ عصر الفتوح الإسلامية الكبرى (700 م) حتى اليوم نشر العرب لغتهم ودينهم وثقافتهم في مساحة كبيرة من المعمورة تفوق كل ما كانت تشمله الإمبراطوريات السامية القديمة. حقاً إن العرب لم يلبثوا طويلاً على الحال التي كانوا عليها خلال العصور الوسطى، فلم يعودوا الأمة المسيطرة على العالم، إلا أنهم قد استعاضوا عن ضياع السلطة الزمنية بالجد في نشر سلطانهم الديني. ولا يزال الإسلام حتى اليوم الحاكم الأعظم لآسيا الغربية؛ أما في أفريقيا فهو في تقدم مستمر، حتى في أوربا، فقد وجد في تركيا عوضاُ له عن طرده من إسبانيا وصقلية. وبينما نرى أن معظم الشعوب السامية قد امحت غير مخلفة وراءها سوى ثبت طفيف غامض لا نأمل من ورائه أن نلم بتاريخها تماماً نرى في دراستنا للعرب مادة وفيرة تساعدنا على دراسة معظم أطوار تقدمهم منذ القرن السادس للميلاد، تساعدنا على كتابة التاريخ العام للحياة والتفكير عندهم. ولست في حاجة لأن أقول إن هذا الكتاب لا يحاول أداء هذه المهمة حتى ولو زاد حجمه مراراً؛ إذ لا بد من انقضاء زمن طويل قبل أن يقتحم الباحث ميدان الأدب العربي الواسع المناحي المختلفة، وقبل أن تكون النتائج مقبولة لدى المؤرخ
لم يكن (الربع الخالي) فحسب - الذي يخترق شبه الجزيرة ويقوم فاصلا طبيعيا دون الاتصال بالداخل - هو الذي يقسم بلاد العرب منذ القديم إلى قسمين: شمالي وجنوبي، بل كان هناك أيضاً العداء الناشب بين جنسين بينهما بون شاسع من ناحية الطبع وأسلوب العيش. فبينما كان سكان القسم الشمالي (الحجاز وهضبة نجد الوسطى) بدوا غلاظاً يسكنون بيوتاً من الوبر وينتقلون من مكان إلى آخر انتجاعا للعشب والكلأ لأبلهم كان أهل اليمن معروفين لدى التاريخ - قبل كل شيء - كورثة لحضارة تالدة وأصحاب ثروة ضخمة خيالية من الطيب والذهب والأحجار الكريمة تحت إمرة الملك سليمان. وقد تكلم بدو الشمال اللغة العربية - أي لغة قصائد العصر السابق للإسلام والقرآن - على حين
كان أهل الجنوب يستعملون لهجة يسميها المسلمون (الحميرية) التي عثر حديثاً على نموذج من خطوطها وفُسّر. وسنهب في الكلام حالاً عن هؤلاء السبئيين الذين أطلق عليهم هذا الاسم جغرافيو اليونان والرومان. وقد أخذ نجمهم في الأفول في القرون الأولى للمسيحية حتى تلاشوا نهائياً من صفحة التاريخ قبل سنة 600م حينما أخذ جيرانهم أهل الشمال في الظهور والقوة.
وليس من شك في أن ما نشر بين علماء الأنساب المسلمين الفكرة القائلة بأن العرب يرجعون في أصلهم إلى رهطين منفصلين تسلسلاً من جدهم المشترك سام بن نوح هو الفارق الجنسي العظيم من الذكاء. أما فيما يختص بأهل الشمال فإن تسلسلهم من عدنان (من ذرية إسماعيل) أمر معترف به من الجميع. أما أهل الجنوب فيرجعون إلى قحطان الذي يزعم النسابون
كان أهل الجنوب يستعملون لهجة يسميها المسلمون (الحميرية) التي عثر حديثاً على نموذج من خطوطها وفُسّر. وسنهب في الكلام حالاً عن هؤلاء السبئيين الذين أطلق عليهم هذا الاسم جغرافيو اليونان والرومان. وقد أخذ نجمهم في الأفول في القرون الأولى للمسيحية حتى تلاشوا نهائياً من صفحة التاريخ قبل سنة 600م حينما أخذ جيرانهم أهل الشمال في الظهور والقوة.
وليس من شك في أن ما نشر بين علماء الأنساب المسلمين الفكرة القائلة بأن العرب يرجعون في أصلهم إلى رهطين منفصلين تسلسلاً من جدهم المشترك سام بن نوح هو الفارق الجنسي العظيم من الذكاء. أما فيما يختص بأهل الشمال فإن تسلسلهم من عدنان (من ذرية إسماعيل) أمر معترف به من الجميع. أما أهل الجنوب فيرجعون إلى قحطان الذي يزعم النسابون أنه نفس يقطان بن عابر؛ وتحت اليقطانيين الذين هم الأصل القديم نجد مدرجاً مع السبئيين كثيراً من القبائل القوية كطيء وتنوخ وكندة وغيرها من التي استوطنت بلاد العرب الوسطى قبل ظهور الإسلام بوقت طويل، ولم يكن هناك ما يميزهم من البدو الذين يرجع أصلهم إلى إسماعيل. أما فيما يتعلق بعدنان فإن سلسلة نسبه لا تزال موضع جدال وحجاج وإن اتفق الجميع على أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من هاجر. وتذكر القصة أنه عند ميلاد إسماعيل أمر الله إبراهيم أن يرحل إلى مكة بزوجه هاجر وابنها ويتركهما هناك، فامتثل لأمره وتركهما، وجاءت رفقة من جرهم (وهم من ولد يقطان) فنزلوا شعاب مكة فنشأ إسماعيل مع أولاد الغرباء، وتعلم الرمي، ونطق بلسانهم ثم خطب إليهم فزوجوه امرأة منهم.
ولا جدال في أن هذه الأنساب خيالية إلى حد ما، إذ لم يكن علم النسب موجوداً في العصر السابق للإسلام، حتى لم يكن لدى المحققين المسلمين سوى أخبار طفيفة محيرة اعتمدوا عليها. أضف إلى هذا أنهم راعوا الظروف السياسية والدينية وغيرها، ومن ثم فإن دراستهم للقرآن والتاريخ الديني قادتهم لدراسة رءوس القبائل الذين يوضعون في المقدمة. أما سلسلة النسب التي تبدأ بعدنان فلسنا نستطيع قبولها كمسألة تاريخية خالصة، ولن أن أغلبها قد تراكم في ذاكرة العرب قبل ظهور الإسلام، يؤيد هذا شهادات شعراء الجاهلية؛ ومن ناحية أخرى أن نسبة كل قبيلة إلى جدها الأول تخالف الحقائق التي أثبتها البحاث
المحدثون، من أن كثيراً من الأسماء تشير إلى اتحاد محلي، فمعد مثلاً تشير في الأصل إلى جماعات كبيرة أو محالفات قبلية. وقد يكون الخلاف الاجتماعي بين عرب الشمال وعرب الجنوب (كالعداء الحاد الذي فرق بينهم منذ صدر عهد الإسلام) قد يكون هذا الخلاف مقبولاً إذا قصرنا لفظ اليمنية (أهل الجنوب) على أهل سبأ وحمير وغيرهم من المتحضرين الذين سكنوا اليمن وتكلموا لهجتهم الخاصة، ولكن يصعب أن يقصد به البدو اليمنيون المتكلمون بالعربية الذين انتشروا في جميع رحاب شبه الجزيرة. وإن مثل هذا النقد لا يؤثر في قيمة وثائق النسب باعتبارها صورة للعقلية العامة، ومن وجهة النظر هذه تكون الخرافة أحياناً أهم من الحقيقة. وينبغي علينا أن يكون هدفنا في الفصول التالية إيضاح معتقدات العرب غاضين النظر عن نقدها وبيان حظها من الخطأ والصواب.
إن للعربية بأوسع معانيها لهجتين رئيسيتين هما:
أ - العربية الجنوبية وهي لسان اليمن، وتشمل السبئية والحميرية والمعينية واللهجات القريبة منها كلهجة مهرة والشحر.
ب - العربية الفصحى التي ينطق بها في بلاد العرب عامة ماعدا اليمن. أما عن اللغة الأولى - دون التعرض لمهرى وسكنزى وغيرهما من اللهجات الحية - فليس لدينا سوى هذه المخطوطات العدة التي جمعها الرواد الأوربيون، وستكون موضوع بحثنا في الفصل التالي الذي سأقدم فيه بحثاً موجزاً يتناول تاريخ السبئيين والحميريين القديم. والعربية الجنوبية تماثل العربية في تراكيبها القوية من الجمع الشاذ وعلامة التثنية، وإشارة الجمع بإضافة م (وتستعيض العربية عنها بحرف ن) وكذلك في كلماتها. أما حروفها الهجائية التي تشمل تسعة وعشرين حرفاً فهي أقرب إلى الحبشية؛ وقد استولى الأحباش على الإمبراطورية الحميرية في القرن السادس الميلادي، حتى إذا كان حوالي سنة 600م أصبحت العربية الجنوبية لغة ميتة، ومنذ ذلك الحين صار للهجة عرب الشمال السيطرة العظمى واتخذت لنفسها كلمة (العربية).
إن أقدم الآثار المكتوبة للعربية جديدة إذا قورنت بالنقوش السبئية التي يرجع بنا بعضها إلى 2500 سنة أو ما يقرب من ذلك إلى الوراء، وباستثناء نقوش الحجر في شمال الحجاز ونقوش الصفا المجاورة لدمشق (التي بالرغم من أنها قد كتبت بالعربية الشمالية قبل العهد
المسيحي فهي أقرب إلى السبئية ولا يستطاع تسميتها بالعربية بالمعنى المفهوم من هذا اللفظ) باستثناء ذلك فان معظم أقدم أمثلة الخط العربي التي اكتشفت قد كتبت بخطوط لهجات زبد الثلاثية، وهي السريانية والإغريقية والعربية وترجع إلى سنة 512 أو 513، ولغتي حران اليونانية والعربية التي ترجع إلى سنة 568م. ولسنا نريد أن نشغل أنفسنا كثيرا بهذه الوثائق خاصة؛ وإن ترجمتها تتطلب مشقات عظمى، وكان القليلون من عرب العصر السابق للإسلام ملمين بالقراء أو الكتابة، ويرجع الفضل في قدرة هذا النفر إلى المعلمين اليهود والنصارى، أو إلى الثقافة الأجنبية التي انبثقت أضواؤها من الحيرة وغسان، ولكن بالرغم من أن القرآن (وقد جمع لأول مرة بعد واقعة اليمامة سنة 633م) هو أول كتاب عربي، إلا أنه يمكن إرجاع بداءة الكتابة بلغة الضاد إلى عصر متقدم. ومن الأرجح أن كل قصائد عصر قبل الإسلام التي وصلت إلينا إنما ترجع إلى القرن السابق لظهور الإسلام (أي من 500 - 622) ولكن يد التفنن الصناع وإبداعها الفني اللذين غيرا من شكلها الأول يقفان حائلا دون الأمل بأن نعثر خلالها على الصورة الأولى للقصيدة العربية. وقد يمكن القول بشأن هذه القصائد الفخمة - كما هو الحال في الإلياذة والأوديسة - إنها (نتيجة فن بالغ حد الإتقان، يستحيل أن يكون قد صار إلى ما صار إليه إلا بعد مرور عهد طويل على ممارسته) وقد ظلت هذه القصائد محفوظة طوال مئات السنين بالحديث الشفهي كما سنوضح ذلك في مكان آخر. وفي صدر عهد بني العباس أي بين عامي 570 و 900م شرع الأدباء المسلمون في تدوين معظمها. ومن الحقائق الثابتة أن اللغة واحدة في القصائد التي يمثل أصحابها قبائل عدة مختلفة ونواحي متعددة من شبه الجزيرة. كما أن الفروق اللسانية طفيفة جداً إلى درجة لا يؤبه بها، ومن ذلك نستنبط أن الشعراء كانوا يتخذون لهجة صناعية تخالف لغنة المحادثة وهي أشبه ما تكون باللهجة الأيونية التي استعارها الشعراء الدوريون والأيوليون.
(يتبع)
ترجمة محمد حسن حبشي
النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية
للدكتور شفيق شحاته
- 2 -
2 -
الطريقة التاريخية
أما عن منشأ التشريع الإسلامي، فإنا نرى الإعراض عن البحوث التي حاول بها العلماء تأييد رأي دون آخر. أما حججنا فسنتلمسها من دراستنا الموضوعية نفسها، ذلك أنه من العبث الاستناد إلى التشابه بين بعض الأفكار للقول باتحاد المصدر أو بالاستمداد. فإن أهمية هذا التشابه لا يصلح تقديرها إلا إذا وضعت الأفكار في الجسم الذي انتزعت منه.
لذلك لن يوجد أبداً دليل أقطع على التشابه أو عدمه من استعراض نظرية الالتزامات في التشريع الإسلامي بعد بناء هيكلها. فعندئذ فقط سيظهر لنا إن كانت ثمة استعارات ومن أين أتت، وما هي؛ وإن لم تكن، فكيف كان التشريع متماسك الأطراف ظاهر الإبداع.
ونلاحظ هنا فقط فشل المحاولات التي ظهرت قديماً وحديثاً لإثبات استمداد التشريع الإسلامي من القانون الروماني. أما محاولة (كاروزي) فقد هدمها المستشرق (ناللينو). وحديثاً ظهرت رمالة في الشفعة (طبعت في ميلانو سنة 1933) رمى بها مؤلفها إلى إثبات هذا الاستمداد. على أن استنتاجاته لم تقنع أحداً كما يظهر من تعليق الأستاذ (روسييه) على هذا الكتاب في (مجلة تاريخ القانون ص 323 لسنة 1934).
على أنه ليس بين أيدينا في الواقع من الآثار القانونية شيء يرجع إلى ما قبل العصر العباسي. أما عن الجاهلية فإن هناك بعض الإشارات البعيدة مبعثرة في آثار متأخرة عن هذا العهد؛ وكذلك يقال عن عصر الخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين، فإن جل ما نجد هو بعض الحلول لمسائل عرضت على بعض الحكام ولكن لا يظهر أنه في مدى هذه العصور الطوال قد كانت هناك مجموعة من القواعد أوحت بهذه الحلول الطفيفة.
ويبدو لنا أن التشريع في هذا العهد لم يكن شيئاً آخر سوى العادات المحلية السائدة سواء في جزيرة العرب أو في الأقطار المفتوحة، وإن ما ورد من الأحكام يعبر تماماً عن هذه العادات مع اتجاه خاص أملاه الدين الجديد.
ثم يضعنا العصر العباسي فجأة في أول عهده أمام مجموعة كاملة من الأحكام؛ ففي نظر التاريخ لا يظهر التشريع الإسلامي كتشريع بالمعنى الصحيح إلا مع (أبي حنيفة) الذي وردت آراؤه في جميع المسائل كما وردت آراء صاحبه (أبي يوسف) بمجموعات الكتب التي وضعها (محمد) صاحبه الآخر المتوفى سنة 189هـ.
فأول أثر من الآثار القانونية هو إذن اثر كامل الأجزاء. وإذا كانت هذه الكتب قد ذكرت في بعض الأحوال آراء لبعض الفقهاء ممن سبقوا (أبا حنيفة) فإن هذه الآراء لا تكون في مجموعها تشريعاً يعتد به.
فهذه الكتب تعطينا صورة كاملة للتشريع الإسلامي كما ارتأاها (أبو حنيفة)، وفي نفس هذا الكتب نلحظ اتجاها خاصاً يمثله (أبو يوسف) وهو اتجاه ظاهر الميل نحو الأخذ بقواعد العدل والإنصاف.
وقد انتقل هذا التشريع كما هو مع اتجاهاته المختلفة إلى الأجيال المتعاقبة من الفقهاء - بواسطة كتب (محمد) وإذا كان الفقهاء في زمن (السمرقندي)(حوالي سنة 573هـ) قد وضعوا حلولاً لبعض المسائل التي استجدت والتي أسموها (النوازل) فلم يكن عملهم هذا إلا بمثابة الملحق من الكتاب.
ولم يكن للفقهاء حتى في عصور الاجتهاد سوى تطبيق الأحكام الموضوعة على مسائل يقيسونها قياساً على ما سبقها، أو الترجيح بين حلين قام بشأنهما الجدل؛ ويلاحظ أن الفقهاء لم يترددوا في الواقع عن القياس والترجيح حتى في العصور التي تلت ما أسموه (إقفال باب الاجتهاد).
ولذلك نلاحظ أن القرون التي مرت على هذه الكتب لم تضف إليها الشيء الكثير. وما قد جاء من الحلول عن طريق الإجماع أو العادة موجود في الغالب بتلك الكتب. ومع ذلك فمما لا شك فيه أن (العرف والعادات) قد ساعدت على جعل بعض القواعد أكثر مرونة أو على تحديد مدى تطبيقها، إلا أن الأسس بقية ثابتة كما كانت من (المبسوط) إلى (رد المحتار)(2521هـ).
ويلاحظ أخيراً أن بعض المسائل أتتنا لا عن طريق كتب (محمد) الستة، بل عن طريق كتب أخرى له أو لغيره، وهي معتبرة أضعف سنداً من الكتب الستة؛ ولذلك عبر عنها
(بغير ظاهر الرواية) على أن المفهوم أن هذه المسائل كذلك قد عرضت (لأبي حنيفة) أو لأصحابه.
أما مؤلفات (ابن سماعة) و (ابن رستم) التي وردت بها هذه الرواية فلم تصلنا، وعلى ذلك تكون ثقتنا بصحة هذه الرواية بقدر ثقتنا فيمن رواها من المؤلفين وهم يوردون هذه الرواية كغيرها أثناء عرضهم للموضوع.
وفي بحثنا هذا قد رجعنا أولاً وبادئ ذي بدء إلى كتب (محمد) وبذلك انتهجنا نهجاً كان الباحثون بعيدين عنه، فهم في الغالب يرجعون إلى أحد الكتب المتداولة للمتأخرين.
ولما كان (مبسوط)(محمد) هو (الأصل) كما يسمونه كان من المتعين الرجوع إليه أولاً. والواقع أن الرجوع إليه ليس من الميسور فهو لم يطبع بعد، والمخطوطات الموجودة منه بمصر أكثرها ناقص، على أنا قد وفقنا إلى العثور على نسخة وردت حديثاً على دار الكتب وهي من محتويات مكتبة المغفور له (محمد على الكبير).
أما ثاني الكتب الستة وهو (الجامع الصغير) فهو مطبوع، على أنه لا يروي غلة لاختصاره.
و (الجامع الكبير) هو ثالثها وقد عثرنا على جزء صغير منه بدار الكتب وتمكنا من تتبع بقية النصوص خلال ما ورد عليه من الشروح الكثيرة، وهو يختلف كثيراً في أسلوبه عن (المبسوط)، ذلك أن المسائل ترد به موجهة، بينما (المبسوط) خلو تماماً من التفسير والتوجيه.
أما رابع الكتب الستة وهو (الزيادات) فقد تقصينا نصوصه من خلال شروح (العتابي) و (قاضي خان).
والخامس والسادس من الكتل الستة موضوعان في السير، أي في قوانين الحرب فلم يدخلا في نطاق بحثنا.
وبعد أن تمكنا من هذا الأساس، سرنا في بحثنا متتبعين المؤلفين، على حسب الترتيب الزمني، ابتداء من (الخصاف)(261هـ)، لغاية (السندي)(1257هـ).
ولم نتراجع أمام المخطوطات القديمة فتيسر لنا بذلك الانتفاع ببعض المؤلفات العظيمة التي لم تتداولها الأيدي بعد. ومن ذلك (مختصر)(الطحاوي)(المتوفى سنة 321هـ). و
(محيط)(رضي الدين السرخسي) المتوفى سنة (544هـ)، وقد ذكر هذا المؤلف الأخير، المسائل مرتبة، وهو يورد دائماً مسائل غير ظاهر الرواية ومسائل النوازل في فصول مستقلة. ونذكر من ذلك أيضاً (الذخيرة البرهانية)، و (خلاصة)(افتخار الدين).
أما مؤلفات (العصر الذهبي) للفقه الإسلامي، وهو الذي يمتد من مجموعات (محمد) لغاية (قاضي خان)، فنذكر منها (مبسوط)(السرخسي)، وهو شرح لما اختصره (الحاكم الشهيد) من الكتب الستة. و (جامع الفقه)(للعتابي) وهو مجموعة مسائل، تمتاز بشيء من الطرافة وبدائع (الكاساني) وهي بلا ريب أروع ما ألف في الفقه الإسلامي، وهي تمتاز بحسن ترتيبها، ووضوح أسلوبها. وهذا المؤلف هو في الواقع فريد في تقسيماته، وطريقة عرضه للمسائل. وقدجعلناه عمدتنا في جميع بحوثنا.
أما في العصر الذي يلي العصر الذهبي، وقد سميناه (عصر الشرح والتحشية)، فأول ما يقابلنا من المؤلفات العظيمة، (الهداية) وقد كتب في شرحها ما تقوم به مكتبة واسعة الأرجاء. ونذكر أيضاً مجموعة الشروح التي وردت على (الكنز)، وكذلك مجموعة الشروح التي وردت على (الدر المختار).
وعند الحلقة الأخيرة نجد (رد المحتار)(لابن عابدين) وهو عبارة عن دائرة معارف فقهية، على أنها تفتقر إلى التنسيق، وقد تبعه (السندي)(7521هـ) في شرح (الدر المختار)، ومؤلفه يقع في ستة عشر مجلداً ولا يزال مخطوطاً، وهو من محفوظات مكتبة الأزهر.
وهناك بعض المؤلفات اكتفى أصحابها بسرد المسائل، دون إيراد وجوهها، وقد سميت (بالفتاوى). وليس معنى ذلك أنها، في الواقع، أجوبة عن أسئلة عرضت، ونذكر منها (الظهيرية) و (التتارخانية) و (الهندية).
ومما يستحق التنويه، تلك المؤلفات، التي حاول مؤلفوها الارتقاء بها عن مجرد الحلول والعلل المباشرة، متقصين أسباب الفروق والنظائر؛ ونذكر منها (فروق)(الكرابيسي) ولا يزال مخطوطا، وأشباه (ابن نجيم) وشهرتها تغني عن وصفها، وشرح (التاجي) عن هذه (الأشباه) ولا يزال مخطوطا.
وأخيراً، نجد فريقا من المؤلفين، قد وجه عنايته إلى الناحية القضائية للمسائل. وأهم ما وضع في ذلك (جامع الفصولين)(لابن قاضى سماوه) وتنقيحه (نور العين).
ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى ما كابدناه من الصعاب عند البحث في هذه المؤلفات، وقد اقتضى ذلك منا مجهودا مضاعفاً يعرفه فقط من عالج هذه البحوث. فمن ذلك أنه لا يكفي الباحث التطلع إلى العنوان ليتعرف ما سيتناوله الباب من الموضوعات. فالمسائل في الواقع مبعثرة في مختلف الأبواب لغير ما سبب ظاهر.
ولا يستطيع الباحث الجزم بأن مسألة بعينها ليست موجودة في كتاب معين إلا إذا طالع جميع صفحات هذا الكتاب بإمعان تام. ولذلك نجد المؤلفين في إشاراتهم إلى المراجع ينقل بعضهم عن بعض. فإذا ذكر أحدهم عن مسألة أنها وردت (بالمبسوط) فلا يفيد ذلك أنه تحقق بنفسه من صحة ورودها.
لهذه الأسباب اضطررنا إلى دراسة بعض الكتب من الغلاف إلى الغلاف، وراجعنا جميع أبوابها باباً باباً لتقصي ما يهم موضوعنا من المسائل.
ويلاحظ أيضاً أن هذه المؤلفات لا تتبع ترتيباً واحداً في تسلسل الأبواب، ولو أن هذه الأبواب أو الكتب واحدة لم تتغير في الغالب منذ وضع (المبسوط).
على أن (المبسوط) جاء خليطاً من الأبواب ولا يراعي ترتيباً ما. أما الترتيب الذي نجد عليه (الجامع الصغير) فهو ليس (لمحمد) وقد اتبع هذا الترتيب غالب المؤلفين.
ومهما يكن الأمر فلا أهمية في الواقع لهذا الترتيب، فهو لم تقض به أسباب مقبولة، أما ما يذكره أحياناً المؤلفون من الأسباب فهو مجرد أسباب لفظية أو شكلية لا قيمة لها. وأنا نجد مثلاً أن كتاب الإجارة جاء في (بدائع الصنائع) قبل كتاب البيع، مع أن (الكاساني) نفسه قد أحال في كتاب الإجارة على كتاب البيع في كثير من المسائل.
(يتبع)
شفيق شحاته
دمشق
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
زنبقَةَ الصحراءِ
…
يا فِتْنَةَ الوجودِ
نَشرتِ في الفضاء
…
روائح الخلودِ
وشوشْتَ في الأسماع
…
قصائِدَ البقاءِ
من أطيبِ الأسجاع
…
وأسلسِ الغِناءِ
سرِبْتَ في الأفكار
…
روحاً يفيضُ عطفا
وغِبت في الأنظار
…
طيفاً يذوب لُطفا
يا مُتْحَفَ الدُّهور
…
ومعرِض الألباب
خبأتِ لِلعصورِ
…
سُلافةَ الأحقاب
لم تأْسَنِ الدِّنانُ
…
ولا ذَوى العُنقودُ
كأنها الزَّمانُ
…
قديمُهُ جديد
غوطتكِ المِفتَانُ
…
ما إن لها مثيل
سماؤُها الألحانُ
…
وأرضها الحقول
وبرَداكِ الطُّهر
…
ينسابُ في الوِهادِ
نايٌ براهُ السكْر
…
يفتنُّ في الإنشاد
خطٌّ من البقاءِ
…
في مصحفِ الوجود
وسِلسِلُ الشِّفاءِ
…
فرَّ من الخلودِ
وقاسيونُ لاحا
…
وأنت بين سوحِهِ
مُترَعَةٌ مِراحا
…
تلعبُ في سُفوحِهِ
كملك ينامُ
…
وسفحُه وسادَه
عاش له السلامُ
…
وما اشتهاهُ عاده
رباعُك الجميلة
…
تطفحُ بالمنائِر
ألحانُها الجليلة
…
أصداؤُها سوائر
تموج في الفضاء
…
كما يموجُ النورُ
تسري إلى السماءِ
…
يحفزُها السرورُ
والرَّبوةُ الفتانة
…
عرسٌ على الأيامِ
أنهارُها طنانة
…
تحفِلُ بالأنغام
والنيربانِ فتْنهْ
…
وعبقٌ وعطرُ
ومسرب للجنه
…
وبهجةٌ وسِحر
دِمَشقُ أنتِ مأوى
…
للحسنِ والفنونِ
عِشتِ الدُّهُورَ نجوَى
…
للشاعِرِ المفتون
زَنَّرَتِ الرِّياضُ
…
أنحاءها البعيدة
ولَفَّتِ الغياض
…
أفياءها السعيدة
فيالها مطافاً
…
للحُبّ والرساله
تزيَّنَت أعطافاً
…
وائتَلَقَتْ غلاله
أنَّى التَفَتَّ عُرْسٌ
…
وحُلُمٌ مديدُ
وفرَحٌ وأُنْسُ
…
وعالم جديد
وهاتف يُغنِّي
…
يذيبه الغرامُ
يعيشُ بالتَّمني
…
وقوتُهُ الأنغام
وبلبلٌ صداح
…
يهيمُ بالوِرادِ
تهدُّه الجراح
…
وهو على الوِداد
وهاهنا الآباد
…
لم يطوها الفناءُ
تكلَّم الجماد
…
واختلج العفاءُ
وهاهنا الليالي
…
كأنها الأعياد
تناجتِ الدوالي
…
وانتشتِ الأعواد
ظلّتْ على الأحقاب
…
ندية الأفياءِ
زاهيةَ الشباب
…
ضاحكة الرُّواءِ
وهاهنا حسانُ
…
ينشدُ آل جفنه
فيزدهي الزمانُ
…
وترقص الأسِنه
أين هو أُميَّة
…
وأين عبد الملِك
والراية البهيّة
…
على جبين الفلك
وأين ملك زاهر
…
تجري الفتوح باسمه
طاحت به الدائِرُ
…
لم يبق غيرُ رسمه
ودالتِ الأيام
…
من جِلِّقَ البهيه
فانطوتِ الأعلام
…
وحاقتِ الأذِيه
وغاضت البشائر
…
وضاعت الأفراح
وناحت المنائرُ
…
وعمت الأتراح
أخيلة تمُرُّ
…
أرواحُنا فداها
وصورٌ تكرُّ
…
ما تنتهي رُؤاها
(بغداد)
أنور العطار
مساء القرية
بقلم محي الدين الدرويش
جثم الصمت على هام الطُّلول
…
وأقام الهمُّ فيها مأتما
فهي من حيرتها سكرى ملول
…
تتنزَّى من عناء الما
تجمد العينُ لدى رؤيتها
…
ويطير القلب منها هلعا
تلمح الوحشةَ في نظرتها
…
وترى البؤس عليها رتعا
وإذا ما الليل أرخى السُّجفا
…
واستسرَّ الناس في سُدفته
خِلتُ جنّاً في عراء هُتَّفا
…
فيلجُّ القلب في رعدته
ضمت الأطلالُ قوما حُرموا
…
لذَّة العيش وعدل القدر
شظف العيش لديهم مغنمُ
…
وصفير الريح صوت الوتر
رب غيداء كما شاء الهوى
…
تأسر القلب بلحظ أصيد
هي من شقوتها رهن الجوى
…
تتلظى في بلاء أنكد
حملت يا ويحها أكوابها
…
والى (العاصي) تولت مسرعة
قد نفت من حرقة جلبابها
…
وتعايت من وناها جازعة
قد سئمت العيش في هذي الربوع
…
حيث لا عيش بها يحتمل
ذكريات تتوالى ودموع
…
كلما ترتادها تنهمل
أين مني زمن طالعني
…
من ثنايا العمر رفّافٌ أنيق؟
ما عهدت الهمَّ يوماً ضافني
…
أحتسي اللذات فيه لا أفيق
آه لو ترجع هاتيك العهود
…
ويسود الصفوُ أيام الحياة
فنعيم العيش في لثم الخدود
…
وانتعاش الروح من (ماء الحياة)
إنما الدنيا بلا قصف جمود
…
موحش يغمره يأس عميق
فاغنم اللذات في هذا الوجود
…
فحياة المرءِ إيماض بروق
غاية العلم ضلال باطل
…
وجهالات بها تضطرب
هل درى والموت فينا نازل
…
ما مصير الروح أنى يذهب؟
ينشد المرءُ نبوغاً سامياً
…
وهو لا يعقل ما رام النبوغ
سيريه الكون شراً طامياً
…
هو عنه يتجافى ويروغ
يجتني الناس أفانين الهناء
…
وهو في عزلته مكتئب
ما جنى من عيشه غير العناء
…
هو يشقى والليالي تلعب
(حمص)
محي الدين الدرويش
القصص
من الحياة الواقعية
مليم العظماء. .؟!
بقلم السيد محمد زيادة
وقف هذا العظيم وقفة ناطقة بعظمته أمام دكان حلاق، ثم جاز بابه متهادياً منتفخاً كما يجوز باب داره التي لا تحوي إلا ما هو مالكه؛ وكان الحلاق جالساً كالنائم، لا يصل بصره وذهنه إلى أبعد من مجلسه، فهب واقفاً تدق على قلبه هيبة الداخل عليه.
وجلس الرجل على الكرسي جلسة أمير متواضع، ووقف الحلاق من خلفه كما يقف المتهم في ساحة العدل. . . وكان دهشاً يزدهيه ويربكه أنه على فقره وخموله يحظى بشرف التصرف في نبات ذلك الرأس العظيم وتزيينه وريه بأغلى ما عنده من العطور؛ ولكنه استجمع نفسه وذهب يجلب من نواحي دكانه أجود مقصاته وأحد أمواسه، وبدأ يعمل بفكره وعينيه ويديه، حتى يخرج من مهارته تحفة فنية رائعة ترضي عظمة (الزبون) وتفتح للدكان باباً في الشهرة ومن ورائه باباً في السعادة. . .
وتواردت على رأس الحلاق أحلام خلابة تنبئه بحياة هنيئة ناعمة، وصيت ذائع منتشر. . . فتصور أن بعد ذلك الرأس الرفيع رؤوساً رفيعة أخرى ستظهر عليها بدائع يديه. . . وأيقن أن قد حان الوقت لينال حقه المهضوم وينصف فنه المظلوم. . .
وتصور أنه إذ يتعب في تزيين ذلك الشعر وتجميله إنما يتعب في تزيين دنياه الجميلة التي الجميلة التي في خياله. . . ثم اعتقد أنه ولا شك بالغ بعد ذلك غاية الأمل ما دام قد حلق لهذا العظيم، وما دام العظيم يرضى عنه، فجعل يبذل ما في وسعه من حذق لتجيء الصنعة فاتنة لا عيب فيها فتجيء الدنيا كاملة لا نقص فيها.
وراح الزبون الكريم المتواضع يطلب موسى غير الموسى لتكون أمضى، ويطلب فرشاة غير الفرشاة لتكون أطهر؛ ثم أخذ ينبسط مع الحلاق ويؤنسه من نفسه العظيمة ويحاضره في تواضع العظمة وعظمائها. ويقص عليه نوادر تبين له أن الكبير من لا يتكبر، وأن الحلال حلو ولو مرَّ، والحرام مرٌّ ولو حلا، وأن الدنيا والآخرة للأمين، والدنيا والآخرة
على الخائن؛ ثم كان يفصل قصصه بأحكم الحكم وأصدق الأمثال. والحلاق غارق بسمعه في لذة الحديث، مستغرق بعينه في لذة الصنعة، سابح بفكره في لذة الأحلام. . .
قال الزبون فيما قال: كل شيء يقع في هذه الحياة بقضاء، فما من شر يصيب وما من خير يصاب إلا وهو مكتوب من قبل في لوح القدر.
قال الحلاق: صدقت والله يا أفندينا. . . فقد يكون الإنسان غافلاً فتنساق إليه الأسباب من تلقاء نفسها، وقد يكون خاملاً فينصب عليه الرزق من حيث لا يدري. والمثل فيّ أنا. . . أنا جالس يا أفندينا في غفلتي وخمول شأني ضعة مكاني - فإذا بك تشرفني بالدخول علي؛ فهل هذه إلا مفاجأة؟ (وفي السماء رزقكم وما توعدون).
قال الزبون: وفي حقيقة الأمر أنها لم تكن مني عن تدبير ولا نيّة، ولم تكن في حسباني ولا ألقيت لها بالاً، ولا كنت في حاجة ماسة للحلاقة اليوم. . . فما هي إلا خطرة مالت بي إليك ولا أدري سببها، وكأنما كان للإلهام فيها عمل.
فأحس الحلاق أن في حديث زبونه ما في حديث نفسه، فانتشى ظاهره بما في باطنه وقال: إي والله إنه لإلهام وإنه لحظ سعيد وإنه لشرف عظيم؛. . وأرجو ببركة تواضعك الميمون أن أصبح في القريب حلاق إخوانك العظماء من هامات الناس وكبرائهم. وبذلك أكون صنيعة فضلك وخادم إحسانك.
قال الزبون: لا ريب في أنك ستكون حلاقي الخاص وحلاق إخواني الدائم إذا ما أعجبتُ أنا بحلاقتك وصنعتك.
وانتهى الحلاق من جهاده في سبيل المجد، ووقف مضموم اليدين ينتظر الرضى والثناء! وأعجب العظيم بحلاقته أيما إعجاب ووقف يعرض نفسه على هذه المرآة وتلك المرآة وهو ينثر كلمات الإعجاب في كرم وسخاء. والحلاق لا يدري أهو كالناس على الأرض أم طائر مع ملائكة الحظ والسعادة. . .
وأخرج الزبون من جيبه دخينة ضخمة فخمة كأنها من نوع ممتاز لخلق ممتاز - وأشعلها ثم قال: ألا تدري أن هذه الدخينة من صنع بلادنا؟.
قال الحلاق: يا عجيباً!! وهل تقدمت بلادنا إلى هذا الحد؟
قال الزبون: أنت تعجب فكيف عجبك لو علمت أن ثمن العلبة من هذه عشرون قرشاً؟
وكيف بك لو علمت أن هناك نوعاً آخر ثمن العلبة منه مائة قرش؟. وكل الذين يتشرفون بزيارة السراي الملكية يقدم لهم من هذا النوع. . وأنا أكاد لا أصدق أن في (السجائر) ما هو رخيص، فكم هو ثمن أرخص (سيجارة) عند الناس؟
قال الحلاق: يا مولاي أن معظم السجائر من هذا النوع الرخيص الدون، وثمن الواحدة منه مليم واحد وهو ثمن نصف رغيف للفقير المسكين. .
قال الزبون: إذن فالمليم له معنى كبير!!؟ ياله بؤساً وشقاء للإنسانية. . أمعك واحدة من هذا النوع الرخيص؟. لا ريب انها ستكون لذة جديدة مشتهاة لغرابتها.
قال الحلاق: أنا يا أفندينا لا أدخن فمليم ومليم ثمن رغيف.
قال: آه. . . أضن أن معي مليماً فريداً حائراً في جيبي. خذه فاشتر لي به واحدة لأرى.
وذهب الحلاق يتكفأ ومعه المليم، وغاب دقائق ثم عاد يتوثب ومعه (السيجارة) الرخيصة. . . ونظر فلم ير أحداً في الدكان؛ ثم نظر فلم يجد آلاته لا في موضعها ولا في غير موضعها، وحينئذ. . . حينئذ فقط أدرك الحلاق أن الزبون العظيم ما هو ألا محتال عظيم، وأن الأحلام التي ألقاها في خياله إنما ألقاها غشاءً على بصيرته؛ فلطم وصرخ واستغاث؛ واجتمع الناس يتناولون الحادث كما حدث ويتبادلون الرأي فيه. . . ومال بعضهم إلى الأرض يقلب شعر اللص الجريء لعله يعثر فيه على سر.
وقال بعضهم: ما أغلى التضحية! لقد طمع الحلاق المسكين في العظيم والعظماء فضيع آلاته وأسباب رزقه ليعلم من كل ذلك أن العظمة قد لا تساوي في بعض أهلها غير مليم.
(طنطا)
السيد محمد زيادة
دون جوان لبنان يفكر. . .
بقلم الآنسة فلك طرزي
جلس (موفق) على حافة البركة التي تتوسط حديقة منزله الصغير وأخذ يداعب المياه الصافية التي تتساقط في الحوض وتتسابق بأصابعه، ويرسم على صفحتها خطوطاً وحلقات سرعان مت كان سير الماء يبددها ويمحوها لتتعود صفحته جلية ملساء تتراكض في
وسطها الحبات اللؤلؤية، وكأنها قطع صغيرة من الماس تتقاطر من ثقوب النافورة وتتساقط على صفحة الماء رذاذاً فتبعث نغمة خافتة ووسوسة شجية. لم يصغ موفق إلى الموسيقى العذبة التي كانت تنبعث من لحنها لأن نفسه كانت بعيدة، بعيدة جداً عن هذا الحوض الصغير الذي كانت أنامله تعبث بمائه وتلهو به.
لقد ذكر موفق في هذه اللحظة أياماً ولّت وليالي انقضت كان خلالها يتمتع بأهنأ اللذات والمسرات، إذ كان النعيم يكسو ساعاتها ولحظاتها بأثواب السعادة الزاهية الألوان المختلفة الأشكال، ويبسط عليها ظلال الهناء والمرح والسرور، فكان كل من هذه الظلال الثلاثة يرشده إلى جنات وفراديس تجري من تحتها الأنهار، وتغرد على أفنانها الأطيار. . . فكان موفق يتمتع ويتلذذ، وكان يرشف كؤوس اللذة صافية حتى الثمالة، وكان يقطف ما حلا له من الزهر وما طاب من الثمر، ثم يعرض عن هذه وتلك حينما يتضح له أن ذبولاً قد ذهب بنضرة الزهر، أو أن مرارة قد مازجت حلاوة الثمرة، حتى شاع أمره بين الناس وذاع بين جميع البيئات، فدعوه (دون جوان لبنان) لما عرف عنه من حبه للنساء وإغرائه إياهن بشتى الوسائل، وإيقاعهن في حبائله بمختلف الطرق والأساليب.
وكان موفق يسر بهذا اللقب أما سرور؛ وهل من شيء يعتز به كل دون جوان في الحياة أكثر من اعتزازه بالحظوة الرفيعة التي يلاقيها عند النساء؟ فكان يذيع هذا النبأ الجديد هنا وهناك ويطلع الذين لم يعلموا بأمره أنه كان يحلم بهذا اللقب منذ حداثته، بل منذ كان صبياً يلعب والصبية الصغار من أبناء الحي. وكان كثيراً ما يقص عليهم حوادث وحكايات جرت له وهو مازال في الثامنة عشرة من عمره، وكم من مغامرات غامرها، وكم من نسوة ساذجات كان يغريهن بالكلمات المعسولة والمجاملات اللطيفة ليجذبهن إليه ويوقعهن في شباكه؛ ثم ليعرض عنهن ويوليهن ظهره بعد أن ينال منهن بغيته ويتركهن وشأنهن ويذهب ليبحث عن اللذة عند غيرهن.
ولما كبر وصار رجلاً جعله أبوه مديراً للمتجر الكبير الذي كان يعد من أشهر المحال التجارية في بيروت، وقسم الأعمال الأخرى على اخوته الثلاثة الذين يصغرونه ببضع سنين، وترك له حرية التصرف في الدخل الذي كان ينهال على هذا المحل كأنه النهر المتدفق يجرف في طريقه كل الأشياء ولا يبقي منها شيئاً واحداً. . . أخذ موفق ينفق
بسخاء وإسراف ويبدد الأموال هنا وهناك وفي كل مكان دون أن يفطن للآخرة ودون أن يحسب لها حساباً، وكم كلفته شخصية دون جوان، هذه الشخصية التي تقمصته وامتزجت به واختلطت بنفسه فصارتا نفساً واحدة.
أجل! كم كلفته أموالاً وإسرافاً، بل كلفته جهوداً في العدو وراء كل امرأة يستهويه جمالها وتجذبه حمرة شفتيها.
وما لبث موفق أن أخذ يستعرض في ذاكرته أشكال النسوة اللاتي تولى زمامهن في الحياة إلى حين. وأخذ يذكر النعيم والهناء اللذين تذوق حلاوتهما في عشرتهن ومصاحبتهن، ويذكر هذه النشوة التي كانت تعتريه حينما كان يظفر بفريسة يشبع نهمه بلحمها ودمها. . .
فهذه التي تمثل الآن شبحها وتجسم في مخيلته، كانت هيفاء القد نحيلة الخصر، وتلك التي عقبت أختها الآن وتصورها خياله كانت، ويا شد ما كانت! كانت ناعسة الجفون، حالمة العينين، تزيد نظراتهما رقة وعذوبة أهداب كثيفة سوداء كثيراً ما كانت تسدل فوقهما لتخفي بين الجفون معاني تلوح في حدقتيهما. وأما هذه الأخرى فيا لشفتيها! كم كانتا رقيقتين كأنهما وردتان نضرتان متفتحتان في روض وجهها الذي تتلألأ فيه فتنيره عينان وضاءتان كحيلتان تريقان عليه نوراً مشرقاً ساطعاً يزيد في إشراق سمائه وجماله، وهؤلاء الفتيات الخمس اللائي وضعهن يوماً في السيارة وسار بهن من بيروت إلى أحد مصايف لبنان حيث قضى معهن سهرة أحياها إلى الصباح. . . لقد جلس بينهن أمام مائدة قد صف عليها جميع أنواع الكحول، وتكدست فوقها أصناف النقل المتنوعة والأثمار المشكلة. . . وما أسعدها ليلة قضاها موفق بين نزعات الهوى الباسم ونغمات الهواء البليل الناعم، يتمتع بمغازلة خمس حسان من أجمل الفتيات وأرشقهن قدوداً وأعذبهن صوتاً وأحلاهن حديثاً. . . وما أهنأها ليلة وما أجملها، تنشق موفق النسمات اللطيفة التي ينفحها جو لبنان الصافي العليل.
غير أن الأوراق المالية كانت في هذه الليلة تسيل من جيبه كما كانت الشمبانيا تسيل من القوارير.
كان موفق يفعل هذا كله لإرضاء نفس لا يستطيع كبحها، وأهواء ليس في وسعه ردها؛ ولم يذكر موفق أن الحب، الذي يدعونه بالحب الخالص الصافي، قد خالط نفسه يوماً من الأيام.
كلا؛ فهو ما شعر قط بلذة الروح - هذه اللذة العالية التي ترفع بصر الإنسان إلى ما فوق المادة وتجعل القلب يخفق بأنبل العواطف وأشرفها - تعتور نفسه، وتشعرها برعشة تهتز لها أضالعه وتختلج جوانحه. كلا! إنه لم يعرف من الحب سوى المعنى الوضيع الذي تولده حيوانيته، وجهل ومازال يجهل المعنى الرفيع الذي تولده نورانيته، والذي يضئ الروح بنور الفضيلة والهدى والحق. . .
لقد كانت أهواؤه شغل حياته الشاغل، إذ هو لا يجيد من فنون الحياة إلا فن الإغراء والإغواء والمخادعة. . . وما فكر قط أن آخرة مؤلمة ستنتج عن حياة الطيش والفوضى؛ لقد انتهى موفق إنفاق ما في خزائن المتجر وتجاوزها إلى رأس المال، فأفلست التجارة. . ولم يجد الدائنون بداً من عرض جميع ما يملك موفق وأسرته في المزاد العلني، فبيع المنزل وجميع مفروشاته الفاخرة، وبيعت الحديقة الغناء الواسعة الجوانب التي تحيط به من جميع أطرافه، ونزحت الأسرة المنكودة عن البيت بعد أن نعموا باجتماع الشمل حقبة، وراح موفق ينشد العمل في كل مكان فلم يعثر عليه إلاَّ بعد جهد جهيد مقابل أجر زهيد يكاد لا يكفي نفقته ونفقة أخته التي تقاسمه الحياة وتشاطره البؤس. . .
أحس موفق حين رجع بذكرياته إلى هذه الذكرى المؤلمة، كأن هزة عنيفة تعتري جسمه فانتفض واختلج، وشعر كأن شيئاً أخذ يحز في نفسه حزاً مؤلماً، فانتصب واقفاً وغادر حافة البركة التي كان جالساً عليها يداعب مياهها، وأخذ يجول بنظره في أطراف الحديقة، ويتلفت يمنة ويسرة، يحدق بكل ما يبصر، ويصغي إلى كل ما يسمع، فإذا به يشاهد براعيم الأزاهر ترنو إليه وترفع نحوه أكمامها المتضوعة العبير تشكو ظمأها، فاقترب من البركة وأخذ إبريقاً من المعدن الأبيض وملأه وسقى الأزاهر وبلل أغصانها بقطرات الماء النمير، ثم بعد ما فرغ من سقيها أخذ وعاء صغيراً ووضع فيه دقيقاً خلطه بماء، ثم أخذ يعجنه حتى إذا تماسك قدمه إلى حمامة سمعها تنوح شاكية له جوعها. . .
وهكذا تعزى دون جوان المنهزم عن عزه الغابر المفقود بإطعام الحمام وسقى الأزهار!
فلك طرزي
البريد الأدبي
وفاة الأبيوردي - رد على الأستاذ علي الطنطاوي
أخي الأستاذ صاحب الرسالة
كتب إليَّ الأديب الفارسي المحقق عباس إقبال نزيل باريس أثناء رسالة فارسية يقول ما ترجمته:
قرأت في العدد 158 من مجلة الرسالة مقالاً بقلم الأستاذ علي الطنطاوي تحت عنوان (الأبيوردي المتوفى في مثل هذا اليوم سنة 557 بمناسبة مرور 798 سنة على وفاته) والظاهر أن الكاتب الفاضل خدع برأي ناشر الديوان قليل الاطلاع الذي أخطأ فجعل وفاة هذا الشاعر سنة 557، وهذا غلط صريح. والصواب أن وفاته سنة 507 كما روى ابن خلكان وياقوت في معجم الأدباء (ج 4 ص 341) وسائر المؤرخين، ويؤيد هذا ما رواه ياقوت في المعجم (4 ص 343) نقلاً عن خريدة القصر للعماد الكاتب من أن الأبيوردي تولى في آخر عمره عملاً للسلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، وأنه سُمَّ وهو يتولى هذا العمل، وبينما كان واقفاً عند سرير السلطان محمد ضعفت رجلاه وسقط على الأرض وقال:
وقفنا بحيث العدل مدّ رواقه
…
وخيّم في أرجائه الجود والبأس
وفوق السرير ابن الملوك محمد
…
تخر له من فرك هيبته الناس
وغياث الدين أبو شجاع بن ملكشاه مات سنة 511، فمحال أن يكون الأبيوردي الذي وقع في مرض موته أمام سرير السلطان قد مات سنة 557. وبهذا يبطل اجتهاد الأستاذ الطنطاوي ودعوته إلى الاحتفال بعد سنتين بمرور ثمانية قرون على وفاة الأبيوردي، إلا أن يحتفل بعد سنتين بمرور 850 سنة على وفاة الشاعر أو يمد الله في عمر الكاتب اثنتين وخمسين سنة أخرى ليحيي ذكرى الشاعر بعد تسعة قرون.
وناشر ديوان الأبيوردي قليل الاطلاع جدا، فقد نشر في الديوان قصائد من شعر أبي اسحق إبراهيم بن عثمان بن محمد الكلبي الغزي (441 - 524) ولا شك أنها من شعر الغزي ومنها اللامية المطبوعة في الصفحات 274 - 279 من ديوان الأبيوردي والتي يقول فيها الشاعر صراحة:
قصدتك لا بالشعر من أرض غزة
…
ولكن بقولي أنني لك آمل
(ومثل هذا الغلط في مواضع أخرى لا يتسع المجال لبيانها الآن.)
ولم يطلب إلي الأديب الفاضل نشر كلمته، ولكنني آثرت نشرها إفادة للقراء، وإذاعة لتحقيقات هذا الأديب البحاثة الذي يطرفنا بين الحين بأبحاثه في الأدب العربي وكتبه.
عبد الوهاب عزام
مهرجان أدبي عظيم تمثل فيه مصر
أشرنا من قبل إلى أن مهرجانا أدبياً كبيرا سيقام في لندن في الثالث عشر من شهر أكتوبر الجاري لتكريم الكاتب الإنجليزي الكبير المستر هربرت جورج ولز (هـ. ج. ولز)، لمناسبة بلوغه السبعين من عمره، وأتينا بهذه المناسبة على ترجمة وجيزة لمستر ولز، ونزيد الآن أن هذا المهرجان الأدبي العظيم قد أقيم في الموعد المحدد له بفندق سافوي بلندن، واتخذ صورة مأدبة عشاء كبرى شهدها أربعمائة كاتب وأديب يمثلون معظم دول العالم. ولما كان مستر ولز رئيس نادي القلم الدولي، ورئيس نادي القلم الإنجليزي، فان معضم المندوبين الذين شهدوا المأدبة كانوا يمثلون نوادي القلم في أنحاء العالم وعددها نحو خمسين ناديا. وكانت مصر ممثلة في هذا الاحتفال بواسطة نادي القلم المصري على يد الأستاذ حسين محمد قنصل مصر في لندن الذي شهد الاحتفال بالنيابة عن نادي القلم المصري، ورأس الاحتفال الكاتب الإنجليزي الشهير مستر جون بريستلي؛ وبعد تناول العشاء تعاقب على الخطابة كل من مستر برناردشو الكاتب الأشهر ووكيل نادي القلم الإنجليزي، ومسيو اندريه موروا الكاتب الفرنسي، ومسيو كاريل شابيك الكاتب البولوني، وجوليان هكسلي الكاتب الإنجليزي، والكاتبة الإنجليزية مس ج. سترن؛ وقد تبارى الخطباء في تحية مستر ولز والإشادة بمواهبه وعبقريته الأدبية، فرد عليهم بخطاب طويل يفيض شكراً وعرفاناً. وقد ناب الأستاذ حسين محمد في إبلاغ مستر ولز تهنئة نادي القلم المصري وتحياته، فرجاه أن يحمل شكره وتحياته للنادي المصري.
وقد أفاضت الصحف الإنجليزية في ذكر هذا المهرجان الأدبي العظيم، وقالت إن لندن لم تشهد منذ بعيد احتفالاً أدبياً في عظمته وروعته.
ترجمة للسير جرنفيل
من أهم كتب الموسم التي صدرت أخيراً بإنكلترا كتاب عن السير رتشارد جرنفيل أمير البحر المشهور في القرن السادس عشر، ومؤلفه مستر جورج هربرت بوشنل؛ وقد كان العصر الذي ظهر فيه السير جرنفيل، وهو عصر الملكة اليزابيث، أشهر عصور البحرية الإنجليزية، وفيه ظهر مع جرنفيل عدة من أمراء البحر المشهورين مثل السير فرنسيس دريك، والسير رالي، وجون هوكنس وغيرهم. وكانت البحرية الإسبانية يومئذ في أوج قوتها، وكانت المعارك الهائلة تنشب بين الإنجليز والأسبان باستمرار في المياه الأوربية والمياه الأمريكية، وتملأ سير هذه المعارك وتراجم أبطالها من الإنجليز والأسبان أسفاراً بديعة تفيض بأغرب الحوادث حتى يخيل لقارئها أنه يتلو صحفاً من الخيال المغرق. وكتاب مستر بوشنلي عن السير جرنفيل وعنوانه: أحد هذه الأسفار العجيبة التي تذكرنا بكل ما يحتويه القرن السادس عشر من الحوادث والمعارك البحرية المدهشة ومن أعمال البطولة الرائعة.
وقد كان السير جرنفيل من أبناء كورنوال، وظهر في البحر منذ حداثته، وقاد أول حملة بحرية إلى مياه فرجينيا (أمريكا) في سنة 1586، واشترك في كثير من المعارك البحرية التي وقعت يومئذ بين الإنكليز والأسبان، وحارب أيضاً ضد الترك في البحر الأبيض، واشترك في موقعة (الأرمادا) الشهيرة ضد الأسطول الأسباني؛ بيد أن أعظم موقعة خلدت اسم جرانفيل هي موقعة (آزورس) التي قتل فيها؛ وكان يومئذ قائد سفينة (رفنج) الشهيرة في الحملة التي سارت بقيادة الأميرال توماس هوارد لضبط السفن الأسبانية القافلة من أمريكا محملة بالذهب والفضة؛ وفي مياه (آزورس) نشبت المعركة، وكان الأسطول الأسباني يفوق السفن الإنكليزية ضعفين. ولما رأى الإنكليز ضعف مركزهم قرروا الانسحاب، وكانت سفينة جرنفيل في المؤخرة فاشتد عليها الضغط، ولكنها لبثت تقاتل حتى آخر لحظة وجرنفيل يرفض التسليم حتى جرح جرحاً عميقاً، وعندئذ سلمت برغم إرادته، بيد أنها لم تسلم إلا بعد أن أغرقت عدة سفن أسبانية؛ وتوفي جرنفيل بعد ذلك بساعات قلائل.
هذه الحياة المضطربة الحافلة يعرضها مستر بوشنل عرضاً قوياً ممتعاً يخيل إليك عند
تلاوته أنك تقرأ قصة رائعة الخيال.
كتاب جديد لجون كنتل
مستر جون كنتل من أكابر الكتاب السويسريين المعاصرين، وهو من ضيوفنا الأجانب، يستقر بمصر كل شتاء ويمتزج بالمجتمع المصري، ونعرف الكثير عن مصر وشؤونها؛ وقد ساح كثيراً في شمال أفريقيا، وأقام حيناً في مراكش وتونس، وله خبرة واسعة بشؤون البلاد العربية وأحوالها السياسية والاجتماعية.
وقد كان لهذا الاتصال بالأمم الشرقية وهذه المعرفة بأحوالها تأثير كبير في توجيه كنتل الأدبي في الأعوام الأخيرة، وظهر هذا الأثر واضحاً في روايته الدكتور إبراهيم التي صدرت في العام الماضين وصدرت في نفس الوقت بالألمانية بعنوان ففي هذه القصة التي اختار كنتل أبطالها من المصريين واختار مصر مسرحاً لحوادثها يدلل كنتل على خبرته بشؤون القرية المصرية والمجتمع المصري الريفي، وأحوال المستشفيات المصرية، وما هنالك في ذلك المجتمع من مثالب وعيوب يجب إصلاحها.
على أن جون كنتل لم ينس وطنه الأصلي حيث نشأ وترعرع فهو من أبناء مقاطعة (تسين) السويسرية، وقد كتب عنها روايته الشهيرة (فيامالا) وهو يصدر الآن بالألمانية روايته الجديدة عن سويسرا، (تريز اتيين) وصدرت أخيراً ببرلين عن مطبعة (كتر بحر) ومسرح هذه الرواية الجديدة هضاب ولاية (برن) وبطلتها فتاة من سويسرا الفرنسية من مقاطعة (فاليه) أو (فاليش) هي (تريز) وهي فتاة بائسة شريدة، تجوب البلاد والطرقات باحثة مستجدية لقوتها، ولكنها كانت فتية حسناء، نحيلة القوام جذابة المحيا؛ وفي ذات يوم بينما كانت تستجدي في إحدى ضياع برن لمحها قروي شيخ من أعيان الناحية فأشفق عليها وألحقها بخدمته وكان يحبوها بعطفه، ولكن الخدم كانوا يكرهونها لحسنها وتأثيرها على السيد؛ وأخيراً أحبها الشيخ وتزوجها؛ ولكن الشيخ كان له ولد فتي يدرس في المدينة، فلما عاد إلى المنزل وألفى تريز هنالك شغف بها حباً، وشغفت به حباً؛ وذهب الهيام بتريز إلى أن فكرت في التخلص من الوالد الشيخ، فلم تجد سبيلاً غير الجريمة، فقتلته؛ ولكنها وقعت بين براثين القضاء، واختتمت بذلك حياتها.
هذا هو مجمل القصة الجديدة التي يخرجها جون كنتل؛ وقد لوحظ أنها ضعيفة الخاتمة كما
لوحظ ذلك في روايته الدكتور إبراهيم؛ بيد أن كنتل يبدي فيها كما يبدي في معظم رواياته براعة فنية في العرض والوصف، ولا سيما في عرض مجتمع القرية، وسيدها الذي يتمتع بالحول والنفوذ.
ولجون كنتل بالإنكليزية عدة قصص شهيرة أخرى نذكر منها: ، ، ، ، وغيرها.
الحرف
أشارت هذه المجلة في أحد أعدادها الفائتة إلى ما وافق عليه المجمع اللغوي من الاصطلاحات في كتابة الأعلام الأعجمية، وكان من ذلك الاصطلاح على كتابة الحرف واواً بثلاث نقط فوقها عوضاً عن كتابته فاء بثلاث نقط، وذلك لأن أهل المغرب يستعملون هذا الحرف للإشارة إلى حرف الخلاف بين أهل اللغة الواحدة، فلا معنى لمراعاة ما يستعمله أهل المغرب ولا أهل المشرق، لأن الاصطلاح على شيء مع إبقاء خلافه ينافي المقصود من المهمة التي يعمل لها المجمع، فيجب إذا حصل الاتفاق على شيء - مع مراعاة انه لابد من أخذ رأي جميع ممثلي الأقطار العربية - وجب نبذ خلافه وعدم اعتباره بعد ذلك أصلاً.
على أن العلة المذكورة في عدول المجمع عن كتابة الحرف بفاء منقوطة ثلاثاً غير صحيحة، لأننا في المغرب نكتب الكاف بفاء منقوطة ثلاثاً، بل الغالب عندنا كتابته بكاف ذات ثلاث نقط على ما اصطلح عليه المجمع، وسبق إلى قريب من ذلك العلامة ابن خلدون. وبعض الناس عندنا يكتبه بقاف منقوطة كذلك بثلاث؛ ولعل هذا ما اشتبه على أعضاء المجمع الكرام، فظنوا القاف فاء، مع أن الاشتباه بعيد، إذ أن أهل المغرب ينقطون الفاء من تحت لا من فوق فلا اشتباه بينها وبين القاف.
وعلى كل حال فإن العدول عن كتابة بالفاء لا موجب له إلا هذا التوهم الخاطئ، ولا سيما والواو حرف غير معجم، وقد اصطلح الناس قبل المجمع بكثير على كتابته بالفاء، فعسى أن يتفضل المجمع بتعديل قراره بالنسبة إلى هذا الحرف، وينظر في إدخال عضو جديد إلى هيئته من علماء المغرب.
(المغرب)
ع. ك
رباعيات عمر الخيام تعرض للبيع في لندن
ستباع في قاعة سونبي في التاسع من نوفمبر أقدم نسخة خطية من رباعيا عمر الخيام وهي مكتوبة على خمس وعشرين ورقة مذهبة وعمرها أكثر من خمسة قرون.
وكان يملكها رجل يدعى (محمد سالم) وجيء بها من لاهور منذ خمس سنوات إلى معرض الفن الفارسي، والأرجح أن تبقى في إنكلترا. وقد درس العلماء - من الشرق والغرب - الأوراق وقرروا أنها تلي في القدم نسخة أوزلي المكتوبة في سنة 1460 وهي المكتبة البودلية وعنها ترجم فتزجرالد الرباعيات.
ولا تزال هذه النسخة الأخرى كأزهى ما كانت عندما كتبها (حافظ فرج الله) في بغداد سنة 1473.
وقد صينت نسخة (لاهور) على القرون؛ وبعد كتابتها بمائتي عام أهداها (محمد شافني)(كذا) إلى محمد مهدي بن موسى دهلمي.
الكتب
صدى أحلامي
للآنسة الشاعرة جميلة العلايلي
بقلم الأديب محمود البدوي
ديوان صغير الحجم أنيق الشكل جيد الشعر عذبه، فيه روح الفنانة الملهمة والشاعرة المطبوعة على قول الشعر دون تكلف ولا صنعة ولا محاكاة. . ولا يعييه كثرة ما فيه من نواح وشكوى وأنين فهذا كله لا بأس به إذا جاء من المرأة، ومن فتاة كجميلة العلايلي فنانة بطبعها تعشق الحرية وتتعلق بالمثل العليا - التي لا تتحقق - وتحس بثقل البيئة الخانقة التي تكتم أنفاسها وتهيض جناحيها وتبدد أحلامها الذهبية وتذيب في صدرها أمانيها العذاب. . وفي الديوان قطع شعرية جزلة تحسد عليها، وقصيدة تديرها الشاعرة دوران القصة القصيرة، وهذا توجيه منها حسن ومقبول يحبب الشعر إلى نفوس القراء الذين انصرفوا عنه - مع الأسف - إلى القصة!
والقارئ لهذا الديوان سيشعر بعواطف المرأة الخالصة الصادقة الصريحة، وهذا ما نطلبه من كل فتاة تحاول المحاولات الأدبية مثلها وتجاري الرجل في الفن. . فليست البراعة في تقليد الرجل في عواطفه ومشاعره وتفكيره وحبه، وإنما البراعة في أن تبرز خصائص المرأة وتبدو أنوثتها قوية من خلال السطور؛ والدنيا بأسرها تصفق اليوم (لفيكي باوم) لأنها تمتاز بالحنان. . الحنان الذي لا يعرفه الرجل. والذي يقرأ لكثير من فتياتنا المتأدبات يرى أن أقلام الرجال تجول في أعمالهن الأدبية وتصول، وهذا عيب فاضح تضيع معه شخصية المرأة، ولكن المرأة عندنا تحس بضعفها وعجزها وتستسلم للرجل حتى وإن ضيع شخصيتها وهي أسمى ما يمكن أن تعتز به.
والدراسة القوية المتواصلة لبعض شعراء العرب العباسيين كالبحتري وابن الرومي والنواسي، ولطائفة من شعراء الإنجليز الخالدين كشيلي وبيرون وهاردي ووردثورث - وهذا عاشق للطبيعة كجميلة - سيصقل فنها وأسلوبها، ويكسب شعرها الرنين الموسيقي الذي لا حياة للشعر بدونه، ويوجهها التوجيه الذي نرجوه لها، ويدفعها على توالي السنين
إلى القمة.
هذا ونحب أن تسقط الشاعرة من ديوانها - في طبعته الثانية - القصيدتين اللتين سمتهما الشعر المنثور فما نعرف لهذا الشعر الغث المرذول لوناً ولا طعماً حتى ولو كان قائله ابن الرومي.
الواقع أن ديوان (صدى أحلامي) هو خير الجهود الأدبية الموفقة التي بذلتها فتاة في السنين الأخيرة وصاحبته تستحق عليه التهنئة القلبية الخالصة. . . من بنات جنسها!!.
الحياة الجديدة
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
للآنسة أمينة شاكر فهمي
لقد دفعني مقال الأستاذ دريني خشبة المنشور (بالرسالة) عن كتاب (الحياة الجديدة) للأستاذ نقولا يوسف إلى مطالعة الكتاب ودرسه درساً دقيقاً، فدهشت جداً لما ذكر الأستاذ من محاسن الموضوعات وما أنكر عليه من طوبيات وتوحيد وعالمية، دون أن يذكر شيئاً عما حاول المؤلف إثباته بقوة وبلاغة عن عدم صلاحية اللغة العربية للتمشي وأدب القرن العشرين.
يخيل إلي أن الأستاذ دريني خشبة مرّ سهواً بقول المؤلف الفاضل في موضوعه (الأدب الجديد) صفحة 91: (لم نعد اليوم في عصر الفراغ والعبث بالوقت نقتله فيخرج لنا الكتاب دواوين مطولة في السجع والتورية والكنايات والمجازات والاستعارات مما اكتظ به الأدب التقليدي الجامد القديم). فلا يسعني إلا أن أنكر على المؤلف انتقاده المر للغتنا العربية وما بها من مجازات واستعارات وهي أجمل ما في لغتنا وأرقها.
فهلا قرأت أجمل من فن العرب في قول أحدهم:
ولما برزنا لتوديعهم
…
بكوا لؤلؤاً وبكينا عقيقا
أداروا علينا كؤوس الفراق
…
وهيهات من سكرها أن نفيقا
تولوا فاتبعتهم أدمعي
…
فصاحوا الغريق وصحت الحريقا
أو قول بعضهم:
سألتها عن فؤادي أين موضعه
…
فإنه ضل عني عند مسراها
قالت لدينا قلوب جمة جمعت
…
فأيها أنت تعني؟ قلت أشقاها
لقد قرأت الكثير من دواوين الشعر الإنجليزي والفرنسي فلم أجد أجمل ولا أدق تعبيراً من الشعر العربي القديم الذي تقول عنه يا سيدي في كتابكم صفحة 193: (إنه يشبه القبر المزين بالنقوش وفي جوفه الرمم)
إن التجديد يا سيدي الأستاذ لا يكون في تغيير اللغة وتشويهها، بل في تغيير الأفكار والنزعات والأخلاق. إنه ليؤلمني جداً أن أقرأ لأحد كتابنا النابغين المجدين العصريين قوله:(إن الأدب العربي القديم محتاج إلى زركشة اللفظ وزخرف الكنايات ليسترا عيبه وقبحه)، فهل تعد جمال اللفظ والمعنى زخرفاً؟ وطرافة التورية وبساطتها زركشة؟
فما قولك في قول ابن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
…
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها كالبدر كأس وهي شمس يديرها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما قولك في الأدب العصري الحديث، كقول الأستاذ عبد الرحمن شكري في قصيدته (البحر):
ألا ليتني لج كلجك زاخر
…
أعب كما تهوى النهى والبصائر
خيرك يحكي صدحة الدهر صامتاً
…
كأنك دهر بالحوادث مائر
وقوله:
فلعل الحياة كالماء تجري
…
بين هذا الثرى وبين السماء
وقول الأستاذ محمود محمد شاكر في قصيدته (حيرة):
أتنهاني عن الجزع الليالي
…
وما تنفك تتركني مصابا؟!
فتسلبني الأحبة عن عيان
…
وتمنحني بذكرهم عذابا
لذا تجد يا سيدي أن اللغة العربية ليست بقاصرة عن التعبير ووصف حياتنا العصرية. إنني يا أستاذي لست ممن يدين بالرجعية والتمسك بالقديم ولكني في كل ما قرأت من لغات أجنبية لم أجد أجمل ولا أقوى من لغتنا العربية القديمة. وأراك يا سيدي تعيب على العرب وضعهم مائة اسم للأسد ومائتين للجمل كأن لم يكتب العرب شيئاً إلا أسماء الأسد والجمل.
لقد دهشت لقولك في (الحياة الجديدة) صفحة 135: (ولسنا نجهل مركز الأدب العربي بين تلك الآداب وهو الأدب الذي تتخذه مصر لها أدباً قومياً حتى اليوم، وهو لا يمت إلينا بصلة ولا بنسب، فنحن لا نتحادث في حياتنا اليومية بلغته الفصحى. .) إنني والحق يا سيدي عاجزة عن الرد على هذا القول، وإنني أترك الرد لأدبائنا الأفاضل. فهل نفهم من ذلك أن اللغة العربية الفصحى ليست بلغتنا وأننا يجب أن نتكلم بلغة أخرى؟ وأي لغة يا ترى تشير بها علينا: الهيروغليفية أم الإنكليزية أم العربية العامية؟ عفواً يا سيدي ومعذرة، فإنني لا أقصد التهكم أو الانتقاد، ولكن آلمني جداً احتقاركم للغتنا العربية بكل ما فيها من جمال وقوة. وبالرغم من كل هذا فإنه لا يسعني إلا أن أبدي إعجابي الوافر بكل ما حوى الكتاب من بحوث علمية وعالمية، ودفاعكم الحار عن الفلاح المصري، وقولكم:(إذا أنصفنا أخانا الفلاح فإنما ننصف البلاد المصرية كلها) وكم كنت أود لو أذكر كل فصل على حدة لما جمع كل منها من أبحاث قيمة ودرس عميق وتحليل سيكولوجي دقيق وإحصائية مدهشة عن تاريخ تقدم العلم في سبيل الوقاية من الأوبئة الفتاكة التي اجتاحت في القرن الماضي عدداً عظيماً من سكان العالم. أما بحث (عدة النجاح في العصر الجديد) فهو فصل ممتع وأبحاث قيمة دقيقة عن تاريخ أجناس الشعوب المختلفة وتطور الأديان والعلوم والفنون ونشأتها في كل الأمم، ويختم مقاله بقوله:(كذا الفن كالعلم والأدب لا وطن له ولا لغة لأنه ينبثق من النفس البشرية ويعود إليها).
وهو - على طول الخط - يدل على ثقافة والمؤلف الواسعة ودرسه التحليلي العميق. ولقد أعجبت جداً بفصول المؤلف الخيالية، وخصوصاً فصل (مصر بعد خمسة قرون) إذ جمع بين الخيال الواسع والحقيقة والنبوءة. كما أبدع في التحدث عن فلسفة الجمال والحياة في فصل (فن الحياة) و (البشرية). أما تأملاتكم يا سيدي (على شاطئ البحر) فهي من أجمل وأرق ما قرأت في الخيال، وأخص بالذكر منها قولكم (وما تلك الفترات التي يسعد فيها بنو البشر إلا لحظات مختلسة في غفلة الزمن لا بد أن ندفع لها ثمناً غالياً).
أما فصول الساعات مع نوابغ الأدب الشعري والفلسفي والعلمي مثل تاجور وشللي وملتون وويلز وغيرهم فهي مجموعة ثمينة جداً عن تاريخهم وكتاباتهم وفلسفاتهم. ولكن فات حضرة الأستاذ أن يذكرنا بساعة مع شوقي أو حافظ إبراهيم.
وأخيراً أضم صوتي إلى حضرة الأستاذ د. خ. وأقول إن بحوث (الحياة الجديدة) دسمة غزيرة الفكر. فهي مجموعة ثمينة جامعة بين جمال الخيال ودرس التاريخ وتحليل للعصر الجديد دقيق، وتراجم متقنة للأدب القدم والحديث، وهو حقيقة يكاد لا يكون له نظير في مكتباتنا العربية.
أمينة
العالم المسرحي والسّينمائي
موسم الفرقة القومية الجديد
من حديث للأستاذ طاهر حقي لمحرر (الرسالة) الفني
في مجلس يضم بعض كبار المشتغلين بالمسرح جرت أحاديث الموسم المقبل على الألسنة، فمن قائل إنه مزدهر، وأصحاب الرأي الأخير يستندون إلى قيام أكثر من فرقة واحدة تعمل إلى جانب الفرقة القومية وما سيجره قيام الفرق من منافسة قوية.
فإلى جانب الفرقة القومية تقوم فرقة رمسيس وقد بدأت عملها هذا الأسبوع برحلة إلى الأقاليم؛ وتتكون في هذه الأيام فرقة فاطمة رشدي للسفر إلى العراق وسوف تستأنف العمل في القاهرة بعد عودتها. وهنالك فرقة استعراضية ألفتها السيدة بديعة مصابني، ثم فرقة مختار عثمان، هذا إلى جانب فرقة الريحاني التي تبدأ متأخرة كعادتها.
وقد خطر لي أثناء الحديث أن أوجه بعض الأسئلة عن الفرقة القومية ومبلغ استعدادها للموسم الجديد إلى سكرتيرها الأستاذ طاهر حقي وهو كما يعرف القراء من الأدباء الذين اشتغلوا بالمسرح من زمن بعيد، وقد أخرجت له أكبر الفرق المصرية فيما مضى أكثر من رواية تمثيلية نالت نصيباً كبيراً من التوفيق والنجاح، فآراؤه في المسرح لها قيمتها.
قلت: (ما هو مدى النجاح الذي تتوقعه للفرقة القومية في الموسم الجديد؟ والى أي شيء يعزى؟) فأجاب قائلاً: (إني أتوقع للفرقة نجاحاً هائلاً في الموسم الجديد، لأن استعدادنا تام من جميع النواحي؛ فالنظام يسود أعمال الفرقة من انتقاء للروايات، إلى توزيع الأدوار على الممثلين توزيعاً عادلاً بحيث ينال كل ممثل الدور الذي يليق به ويصلح له، إلى حفظ الممثلين لأدوارهم. ولا أظنك تجهل قرار اللجنة بأن تسير الفرقة في التمثيل على القاعدة الإنجليزية التي تقضي على الممثلين بأن يستظهروا أدوارهم ويشتغلوا دون ملقن، وفي رأيي أن هذه الطريقة ستخطو بالمسرح خطوات واسعة إذ تجعل الممثل يعتمد على نفسه ويدرس دوره دراسة كافية، فلا إهمال بعد اليوم اعتماداً على الملقن.
قلت: (ما رأيك في المنافسة بين الفرقة والفرق الأخرى؟)
قال: أعفني من هذا السؤال. إن بضاعتنا غير بضاعة الفرق الأخرى، فالفرقة القومية قامت للنهوض بالمسرح، ونحن ننشد الفن الخالص والأدب الرفيع لا نهتم بكسب مادي أو
نجاح اسمي؛ ولكني أقول إن الفرقة القومية ترحب بكل منافسة وهي على استعداد لمساعدة الهيئات والنوادي والجمعيات بكل ما يتيحه لها قانونها.
قلت: (هل لك أن تبدي رأياً في الروايات التي وقع عليها الاختيار للموسم الجديد، وفي قيمة هذه الروايات الأدبية والفنية)
فأجاب قائلاً: (إن الموسم سيكون حافلاً بروايات منتقاة بعناية زائدة وهي بين مصرية مؤلفة وأجنبية ممصرة أو مترجمة.
فأما الروايات المؤلفة فهي من قلم أدباء معروفين، وقد حازت رضاء أعضاء اللجنة وهم كما تعرف من زعماء الأدب العربي، ولا أظن الجمهور إلا معجباً بهذه الروايات. ويسرني أن أقول إن الفرقة القومية قد فتحت الطريق أمام ذوي العقول الخالقة المنتجة ليخرجوا إلى عالم الأدب والفن روايات هادئة لا تحوي طعاناً ولا تقتيلاً ولا أحاديث ثائرة عنيفة تصدم الأعصاب وتلهب الحواس، بل تحوي أحاديث هادئة فيها من الجمال ما يصدم الأعصاب ويبعثها على التأمل والاعتبار، وتعالج الشؤون الاجتماعية التي تشغل الرأي العام وتوجه تيار المدنية إلى الناحية التي تجدي على البيت والأسرة.
والروايات الممصرة مأخوذة عن روايات أجنبية لأكبر الكتاب نالت في بلادها من النجاح ما جعل شركات السينما تتهافت على اقتباسها. وقد بذل الكتاب المصريون مجهوداً كبيراً في تمصيرها حتى أصبحت وكأنها مصرية الفكرة والموضوع والحوادث. ولا شك أن هذه الروايات ستنال رضا رواد المسرح كما تنال رضا الأدباء. أما الروايات المترجمة، فهي من روائع الأدب الأوربي الحديث، وقد أخرجت على أكبر مسارح أوربا. ولم نوجه أنظارنا عند الاختيار إلى ناحية المسرح الفرنسي وحده كما كانت الحال فيما مضى، بل كان الاختيار موزعاً بين الأدب الروسي والإنجليزي والألماني والفرنسي. وليس بين الروايات واحدة لكاتب مغمور، بل جميع الروايات لكتاب معروفين في بلادهم والبلاد الأخرى، فالموسم كما ترى حافل، حافل.
قلت: ومتى تبدأ الفرقة عملها، ومتى ينتظر إنشاء المعهد؟
قال: ليس لدي قرار أستند إليه، فلجنة المسرح التي يرأسها صاحب المعالي حافظ عفيفي باشا هي التي تقرر ذلك، وينتظر أن تجتمع بعد عودة معاليه من أثينا قريباً. على أني
أعتقد أن الافتتاح سيكون في النصف الثاني من شهر نوفمبر، وذلك ريثما تتم الإصلاحات القائمة في دار الأوبرا. ومن المنتظر أن يشرف حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول حفظه الله دار الأوبرا ويشهد أكثر من رواية. أما المعهد وإرسال البعوث إلى أوربا فقد أرجئ البت فيهما لحين مجيء المخرج الفرنسي الذي استدعته اللجنة ليعاونها في تنظيم المسرح المصري.
قلت: على ذكر هذا المخرج أو الخبير الفرنسي، هل تعتقد أن في مجيئه فائدة كبيرة، وفي أي ناحية يفيدنا، والى أي مدى؟
فأجاب: (ليس من شك في أن آراء الخبرات ذات قيمة كبيرة، فإن لهؤلاء الرجال من الخبرة ما يجعلهم جديرين بإبداء الآراء التي تؤدي إلى الإصلاح السريع. وقد يرى بعض الناس أن مسرحنا مصري، فكيف يستطيع هذا المخرج، وهو أجنبي عنا لم يدرس أدبنا العربي ولم يعرف خلقنا المصري، أن يساهم في رقي المسرح وتنظيمه، ولكن الواقع يا صديقي أن المسرح لم يكن يوماً مصرياً أو عربياً، وهو ليس من أدبنا بل منقول عن الغرب ورجال الغرب أجدر بإرشادنا إلى الإصلاح.
وقد عانى المسرح في فرنسا بعض ما يعانيه مسرحنا المصري، وقد بذلت جهود عديدة لإقالته من عثرته وقد وفق القوم هناك. فمجيء هذا المخرج سيفيدنا دون ريب، وأعتقد أنه سوف يشير بإجراء إصلاحات كبيرة في مسرح دار الأوبرا سيكون لها شأن غير قليل في تسهيل مهمة المخرج المصري).
(يوسف)
السينما
اليد السوداء
إخراج ابنكمان الصغير
دار العرض، سينما النهضة
لست أدري لم اختار المؤلف للفلم هذا الاسم المخيف الذي يبعث الرعب في نفوس رواد
السينما ويمنعهم من الإقبال على مشاهدته في حين أن التسمية لا تتفق مع غرض القصة وموضوعها وروحها ولا تتصل بها كبير اتصال. فالناقد يرى بجلاء أن الحوادث العنيفة والمؤامرات بالشكل الذي عرضت به تجعل الجزء المضحك غير مرتبط بالجزء الآخر حتى ليبدو العنف دخيلاً على قصة الفلم، وفي رأيي أن نجاح الفلم يكون مضاعفاً لو أن المؤلف عالج قصته على أنها كوميدية فقط.
وليس للقارئ من فائدة في تلخيص هذا الفلم إلا أن يأخذ عنه فكرة سيئة، مع أن الواقع أن الفلم ظريف ومضحك وهو من نوع روايات الجزائرلي ولكنه أرقى موضوعاً.
قام عبد النبي بالدور الأول، وعبد النبي محمد من الممثلين المسرحيين المعروفين، وقد أدى دوره بنجاح كبير؛ وأعتقد أن الشركة التي عهدت إليه بهذا الدور سوف تستغله في أدوار أخرى. وقامت السيدة عقيلة راتب بدور البطلة فكانت موفقة هي الأخرى. وأبدى مختار حسين مجهوداً كبيراً ولكن طبيعة جسمه تجعله لا يصلح لتمثيل دور رجل الشرطة السري لاسيما وأنه كان يبدو دون تخف. ونصيحتي للمخرج ألا يختار الأسماء وحدها، بل الشخصية التي تصلح للدور، وما أقوله في مختار أقوله في حامد مرسي فلم يكن هو الآخر ناجحاً في دوره النجاح المنتظر.