الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 174
- بتاريخ: 02 - 11 - 1936
حماسة الشعب
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سر (م) باشا قال: لما رجع سعد باشا من أوربا في سنة 1921 كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله هو كله؛ وكانت المعارضة في الاستحالة يومئذ كاستحالة وجود رقعة في ريش الطائر.
على أن ثوب السياسة المصرية كثير الرقع دائما بالجديد والخلق. فرقعة من المعارضين، وأخرى من المتعنتين، وثالثة من المتخاذلين، ورابعة من المعادين، وخامسة وسادسة وسابعة من الحاسدين والمنافسين والمختلفين لشهوة الخلاف، ورقاع بعد ذلك مما نعلم وما لا نعلم، فإن من العجيب أن هذا الجو الذي لا يتقلب إلا بطيئاً يتقلب أهله بسرعة، وهذه الطبيعة التي لا تكاد تختلف لا يكاد أهلها يتفقون.
ولكن سعدا رحمه الله رجع من أوربا رجعة الكرامة لأمة كاملة، ففاز بأنه لم يخسر شيئاً من الحق، وانتصر بأنه لم يهزم، ودل على ثباته بأنه لم يتزعزع، وذهب صولة ورجع صولة وعزيمة؛ فكان إيمان الشعب هو الذي يتلقاه، وكانت الثورة هي التي تحتفل به، وبطلت العلل كلها فلم يجد الاعتراض ما يعترض عليه، واتفقت الأسباب فأجمعت الكلمة، وظهر سعد كأنه روح الأمة متمثلا في قدرة، حاكماً بقوة، متسلطاً بيقين. . . .
نعم لم ينتصر البطل ولكن الأمة احتفت به لأنه يمثل فيها كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار، فكانت حماسة الشعب في ذلك اليوم حماسة المبدأ المتمكن يُظهر شجاعة الحياة وفورة العزائم وفضيلة الإخلاص وشدة الصولة وعناد التصميم، ويثبت بقوة ظاهره قوة باطنة، وكان فرح الأمة عناداً سياسياً يفرح بأنه لا يزال قوياً لم يضعف، وكان ابتهاجها مجداً يشعر بأنه لا يزال وافراً لم يُنتقص، وكان الإجماع رداً على اليأس، وكانت الحماسة رداً على الضعف.
انبعثت صولة الحياة في الشعب كله وابتدأ المستقبل من يومئذ، فلو نزلت الملائكة من السماء في سحابة مجلجلة يُسمع تسبيحهم ليؤيدوا سعداً - لما زادوه شيئاً؛ فقد كان محله من القلوب كأنه العقيدة، وكان التصديق مبذولاً له كأنه الكلمة الأخيرة، وكانت الطاعة موقوفة عليه كأنه الباعث الطبيعي، وكان البطل في كل ذلك يشبه نبياً من قِبلِ أن كلاً منهما صورة
كاملة للسمو في أفكار أمة.
قال صاحب السر: ورجع الباشا من القاهرة وقد رأى ما رأى من مسامحة النفوس وصحة العهد واجتماع الكلمة وإعداد الشعب للمراس والمعاناة فقال:
تالله لقد أثبت (سعد) للدنيا كلها أن مصر الجبارة متى شاءت بنت الرجال على طريقة الهرم الأكبر في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة. ولقد صنع هذا الرجل العظيم ما تصنع حربٌ كبيرة فجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتناقض، ودفعها بروح قومية واحدة لا تختلف، وجعل عرق السياسة يفور كما يفور العرق المجروح بالدم.
إن هذه الأمة بين شيئين لا ثالث لهما: إما الحزم إلى الآخر وإما الإضاعة. ولا حزم إلا أن يبقى الشعب كما ظهر اليوم طوفاناً حياً مستوي الطبيعة مندفع الحركة غامراً كل ما يعترضه إلى أن يُقضى الأمر ويقول أعداؤنا يا سماء أقلعي.
هكذا يعمل الوطن مع أهله كأنه شخص حي بينهم حين يستوي الجميع في الثقة، ويتآزر الجميع في الأمل، ويشترك الجميع في العطف الروحي، ولا يبقى لجماعة منهم حظ في رغبة غير الرغبة الواحدة للجميع؛ وهكذا يعمل الوطن بأهله حين يعمل مع أهله.
كان أعداؤنا يحسبوننا ذباباً سياسياً لا شأن له إلا بفضلات السياسة ولا عمل له في أزهارها وأثمارها وعطرها وحلواها؛ فأسمعهم الشعب اليوم طنين النحل وأراهم إبر النحل، ليعلموا أن الأزهار والأثمار والعطر والحلوى هي له بالطبيعة.
وكانوا يتخرّصون أن مذهبنا في الحياة لمصلحة المعاش فقط، وأن المصري حاكما أو محكوماً لا يمدُّ آماله الوطنية إلى أبعد من مدة عمره سبعين أو ثمانين سنة، فإذا أطلقوا أيدينا في حاضر الأمة أطلقنا أيديهم في مستقبلها. ومن ثم طمعوا أن يكون الحق الناقص في نفسه حقاً تاماً في أنفسنا لهذه العلة؛ وحسبوا أن السياسي المصري لا يتجرأ أن يقول ما يقوله السياسي الأوربي من أنه لا يخشى الموت ولكنه يخشى العار، فانه إذا مات مات وحده، وإذا جلب العار جلبه على نفسه وعلى أمته وعلى تاريخ أمته بيد أن سعداً قالها؛ وفي مثل هذا قد يكون قول (لا) معركة.
وهاهي ذي معركة اليوم التاريخية، فان الذرات الحية التي تخلق من دمائنا نحن المصريين قد ثارت في هذه الدماء في هذا النهار تعلن أنها لا ترضى أن تولد مقيدة بقيود.
أتدري ماذا عرضوا على سعد؟ إنهم عرضوا عليه ما يشبه في السخرية طاحونة تامة الأدوات والآلات من آخر طراز، ثم لا تقدم لها إلا حبة قمح واحدة لتطحنها. . . . نتيجة تسخر من أسبابها وأسباب تهزأ بالنتيجة.
إن أوربا لا تحترم إلا من يحملها على احترامه، فما أدرى السياسيين في هذا الشرق عملا أفضل ولا أقوى ولا أرد بالفائدة من إحياء الحماسة في كل شعب شرقي، ثم حياطتها وحسن توجيهها؛ فهذه الحماسة الشعبية الدائمة القوية البصيرة هي قوة الرفض لما يجب أن يرفض، وقوة التأييد لما يجب أن يقبل وهي تعد ذلك وسيلة جمع الأمر وإحكام الشأن وإقرار العزيمة في الأخلاق وتربية الثقة بالنفس، وبها يكون إذكاء الحس وتعويده إدراك الأعمال العظيمة والتحمس لها والبذل فيها.
وما علة العلل فينا إلا ضعف الحماسة الشعبية في الشرق وسوء تدبيرها وقبح سياستها، وإنا لنأخذ عن الأوربيين من نظامهم وأساليبهم وسياستهم وعلومهم وفنونهم فنأخذ كل ذلك بروحنا الفاترة في خمول وإهمال وتواكل وتفرد بالمصلحة واستبداد بالرأي، فإذا دينارهم في أيدينا درهم، وإذا نحن وإياهم في الشيء الواحد كالنحلة والذبابة على زهرة.
ليست لنا حماسة الحياة وبهذا تختلف أعمالنا وأعمالهم، وذلك هو السر أيضاً في أن أكثر حماستنا كلامية محضة إذ يكون الصراخ والصياح والتشدّق ونحوها من هذه المظاهر الفارغة - تنقيحاً للطبيعة الساكنة فينا وتنويعاً منها بغير أن نجهد في التنقيح والتنويع. ومن هذا كانت لنا أنواع من الكلام ينطلق اللسان فيها للخروج من الصمت لا غير. . . . ومنه كثير من هذا الهراء السياسي الذي يدور في المجالس والأحزاب والصحف.
إن حماسة الشعب لا تكون على أعدائه فقط بل على معايبه أيضاً وعلى ضعفه بخاصة. والشعب الفاتر في حماسته لو نال حقين مغصوبين لعاد فخسر أحدهما أو كليهما؛ أما الشعب المتحمس القوي في حماسته، فلو غُصبَ حقين ونال أحدهما لعاد فابتزَّ الآخر.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
- 2 -
أثيرت مشكلة الوحي في العالم العربي منذ بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته. فكفار فقريش ما كانوا يريدون أن يقبلوا أن محمد بن عبد الله ينزل عليه وحي سماوي، وكثيراً ما رددوا جملتهم التهكمية المشهورة: هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء. واستبعدوا عليه كل البعد أن يتصل بالعالم الإلهي وهو بشر مثلهم يأكل ويشرب ويتردد إلى الحوانيت والأسواق: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق؛ لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها) بيد أن معجزاته بهرتهم وفصاحته أفحمتهم وهم أهل القول واللسن، وزعماء البلاغة والبيان. فأخذوا يتهمونه تارة بالسحر والشعوذة، وأخرى بالكهانة والتنجيم؛ وعزوا إليه قوى خفية لا حصر لها. ولم يكن له من جواب على هذه الدعاوى الباطلة والاتهامات القاسية إلا أن يقول:(ما أنا إلا بشر مثلكم يوحى إلي). فهو لا يجيء بشيء من عنده، ولا يفتري عليهم الكذب، وإنما يبلغ رسالة الله:(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين). ونظرية الإسلام في الوحي وطرائقه سهلة واضحة. فهناك ملك خاص هو جبريل عليه السلام، قادر على التشكل بأشكال مختلفة شان الملائكة الآخرين؛ وكل وظيفته تتلخص في أنه واسطة بين الله وأنبيائه. وعنه تلقى محمد صلى الله عليه وسلم كل الأوامر الدينية، اللهم إلا في ليلة المعراج فقد اتصل بربه مباشرة واستمع ما فرض عليه وعلى أمته. ويجب أن نشير كذلك إلى أن الأحلام وسيلة من وسائل الكشف والإلهام، فإن النفوس الطاهرة تصعد أثناء النوم إلى عالم الملكوت حيث تقف على الأمور الخفية والحقائق الغامضة. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبدأ دعوته أحلاماً آذنت بمهمته، وكانت إرهاصا لنبوته وبشيراً برسالته: والرؤيا الصادقة جزء من أربعين جزءاً من جزاء النبوة. وفي القران الكريم سورة كاملة تشرح الأحلام وأثرها في التنبؤ بالغيب، ونعنى بها سورة يوسف.
لم يتردد رجال الإسلام في الصدر الأول مطلقاً في التسليم بهذه الوسائل الخاصة بالوحي
والإلهام. ولم يحاول واحد منهم أن يسأل عن النبوة في سرها وأساسها، ولا عن المعجزات في عللها وأسبابها. وآمنوا إيماناً صادقاً بكل ما جاء من عند الله دون بحث أو تعليل. وقد عنوا من الفجر الأول للإسلام بالرؤيا وتعبيرها ووضعوا في ذلك أبحاثا مستقلة لم تلبث أن كونت علماً خاصاً. وإنا لنجد بين التابعين تلك الشخصية الجليلة المعروفة بين رواة الحديث، وهي شخصية ابن سيرين التي كانت تعد حجة في تأويل الأحلام وتفسيرها. وعل هذا في الغالب هو السر في أن المتأخرين نسبوا إليها في هذا الباب كتباً ليست من صنعها.
بيد أن هذا التسليم الهادئ لم يطل أمده، وهذا الإذعان الفطري لم يبق في مأمن من الشكوك والأوهام. فقد اختلط المسلمون بعناصر أجنبية مختلفة نفثت فيهم كثيراً من سمومها، لم ترع أصلاً من أصول دينهم إلا وضعته موضع النقد والتشكيك والتضليل. ولا غرو فقد كانت هذه العناصر موتورة من الدين الذي ألغى أديانها ومن الحضارة الجديدة التي سلبتها مجدها وعزها. لذا تألبت في كل جموعها، وأخذت تحارب الإسلام بشتى الوسائل لتثأر لنفسها ودينها وتسترد نفوذها وسلطانها، ولكنها عبثاً حاولت وباءت بالخيبة والفشل:(إنا نحن نزَّ لنا الذكر وإنا له لحافظون). فالمزدكية والمانوية من الفرس، وأنصارهم من زنادقة سادة العرب، بدأوا في القرن الثاني للهجرة ينشرون دعوة التثنية ويهدمون فكرة التوحيد التي قام عليها الإسلام. وكلنا يعلم خبر بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس الثنويين اللذين كانت لهم مجالس خاصة تذاع فيها الآراء المزدكية والمانوية السمنية وغيرهم من براهمة الهند أخذوا في ذلك العهد نفسه ينادون بتناسخ الأرواح، وينكرون النبوة والأنبياء، ولا يرون حاجة البشر إليهم. وصاحب الأغاني يقص علينا حديث جرير بن حازم الأزدي السمني وما كان بينه وبين عمر بن عبيد في البصرة من حوار ونقاش. وملأ اليهود كتب الحديث والتفسير باسرائيلياتهم، وقالوا بالرجعة والتشبيه وخلق القران كما قالوا بخلق التوراة من قبل. وأرسل آباء الكنيسة على المسلمين شواظاً من أسئلتهم واعتراضاتهم المتعلقة بمشكلة الجبر والاختيار فزادوها تعقيداً، وشغلوا الناس بها فوق عرفهم ومألوفهم، وذهبوا إلى إنكار أبدية عذاب النار فقال الجهم بن صفوان معهم إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما واجترأ الدهرية على أن ينكروا البارئ جل شأنه والعقاب والمسؤولية، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.
وقد سل المعتزلة وغيرهم من مفكري الإسلام لهؤلاء وهؤلاء سيف الحجة والرهان وجادلوهم جدالاً قد لا نجد له نظيراً في تاريخ الأديان الأخرى. فأبلى واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بلاء حسناً في معارضة بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس. وناظر أبو الهذيل العلاف الثنوية في البصرة وهدى بعضهم إلى الإسلام. وكان للنظام، وهو أحذق الجدليين في الشرق، قدم صادقة في مناقشة الزنادقة والدهرية والديصانية. ثم جاء من بعده تلميذه الجاحظ فسار على سنته، وبذل في هذا النضال همة طائلة ومهارة فائقة، واستعان عليه باطلاعه الواسع وأسلوبه العذب وقلمه السيال. وفي كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط المعتزلي الذي طبع في مصر أخيراً تفاصيل كثيرة عن هذه الملاحم الكلامية والمعارك الجدلية. وكثر الحوار بين المسلمين والنصارى من جانب وبين المسلمين واليهود من جانب آخر. وأخذت طائفة من الإسماعيلية على عاتقها رد شبه مفكري النبوة والأنبياء ومعجزاتهم. وفي اختصار كان القرنان الثالث والرابع للهجرة - أو التاسع والعاشر للميلاد - ميداناً فسيحاً لجدال عنيف شمل معظم أصول الإسلام ومبادئه.
وليس هناك شك في أن التسليم بالوحي والمعجزة ألزم هذه الأصول وأوجبها؛ فإن منكري النبوة ينقضون الدين من أساسه ويهدمون الحضارة الإسلامية كلها. وعلى الرغم مما في هذه الدعوى من جرأة وفي هذا الموقف من تهجم، فإنا نجد بين المسلمين من وقفوه. ودون أن نعرض لكل من خاضوا غمار هذا الموضوع في القرنين الثالث والرابع للهجرة نشير إلى رجلين: هما أحمد بن اسحق الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب. فأما الأول فشخصية غريبة للغاية، ولا يعرف بالدقة تاريخ مولده ولا وفاته، ويغلب على الظن أنه مات في أخريات القرن الثالث. وهو من أصل يهودي نشاً في راوند قرب أصبهان، ثم سكن بغداد واتصل بالمعتزلة، وكان من حذاقهم، وعده المرتضى بين طبقتهم الثامنة. إلا أنه لم يلبث أن خرج عليهم لأسباب لم يجلها التاريخ بعد، وحمل عليهم، بل وعلى الإسلام وتعاليمه المختلفة، حملة عنيفة. ولازم الملحدين واتصل بهم اتصالاً وثيقاً. ويظهر أنه أضحى دسيسة ضد المسلمين يدبر لهم المكائد ويُستأجر للطعن عليهم وينشر فيهم عناصر الزيغ والإلحاد. ولم يخف أمره على بعض اليهود المخلصين الذين حذروا المسلمين منه وقالوا لهم: ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا. وقد كتب كتباً كثيرة كلها
انتقاص للإسلام ورجاله؛ منها كتاب فضيحة المعتزلة في الرد على كتاب فضيلة المعتزلة، الذي وضعه الجاحظ من قبل، وكتاب الدامغ يعارض به القران، وكتاب الفرند في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب الزمردة في إنكار الرسل وإبطال رسالتهم. والكتاب الأخير يعنينا بوجه خاص فإنه يعطينا فكرة عن مسألة النبوة، وكيف كانت تثار في ذلك العهد. وقد بقي هذا الكتاب مجهولاً إلى زمن قريب؛ ويرجع الفضل في التعريف عنه إلى صديقنا المسيو كراوس الذي اهتدى إليه في مخطوطة من المخطوطات الإسماعيلية الموجودة في الهند، وهذه المخطوطة ليست إلا جزءاً من المجالس المؤيدية المنسوبة إلى المؤيد في الدين هبة الله بن أبي عمران الشيرازي داعي الدعاة الإسماعيلي أيام الخليفة الفاطمي المنتصر بالله وتشتمل المجالس المؤيدية في جملتها على 800 محاضرة ألقيت في (دار العلم) بالقاهرة في منتصف القرن الخامس الهجري، ودرست فيها المشاكل الإسلامية على اختلافها. وفي المجلس السابع عشر من المائة الخامسة إلى المجلس الثاني والعشرين يعرض المحاضر لأقوال الراوندي في الطعن على النبوة ويعقب عليها بالنقض والرد. وهذه المجالس الستة هي التي نشرها المسيو كراوس وترجمها إلى الألمانية وعلق عليها تعليقاً ضافياً يدل على اطلاعه الواسع وبحثه العميق في مجلة الرفستا الإيطالية سنة 1934. فهي لا تحوي كتاب الزمردة في مجموعه، بل فقرات منه تولى الإسماعيلية مناقشتها وإظهار ما فيها من خطأ ومغالطة. وقد صيغت هذه المناقشة في قالب مشوق جذاب، وإن تكن مسجعة سجعاً ثقيلاً أحياناً، وفيها دفاع وردود عقلية هي أثر من آثار الثقافة الإسماعيلية المترامية الأطراف. ولا يتسع المقام لعرض هذه المناقشة في تفصيلها؛ وسنكتفي بأن نستخلص دعاوى ابن الراوندي واعتراضاته.
قد يكون أول شيء يلحظه المطلع على هذا الحوار هو ما في ابن الراوندي من حذق ومهارة ومكر ودهاء. يقف موقفاً بعيداً عن التحيز - ولو في الطاهر على الأقل - كي يجتذب إليه كل القراء، فهو لا يتعرض للنبوة بالنفي والإنكار فقط، بل يناقش موضوعها مناقشة حرة طليقة يأتي فيها على أقوال المثبتين والمنكرين. وكم نأسف لأن صاحب المجالس المؤيدية أهمل جانب الإثبات في هذه القضية. ولو وافانا به لاستطعنا أن نحكم في وضوح ما إذا كان واضع كتاب الزمردة يكيل بكيلين. على أن هناك ظاهرة أخرى تؤيد أن
ابن الراوندي يمعن في الدهاء والمكر؛ فهو يعلن في أول بحثه أنه لا يعمل شيئاً سوى أنه يردد أقوالاً جرت على ألسنة البراهمة. في رد النبوات. وسواء أكانت هذه الأقوال من آثار الفكر الهندي أم من اختراع ابن الراوندي فهي تتلخص فيما يلي: إنكار للنبوات عامة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، نقد لبعض تعاليم الإسلام وعباداته، ثم رفض في شيء من التهكم للمعجزات في جملتها. فأما الرسل فلا حاجة إليهم لأن الله قد منح خلقه عقولاً يميزون بها الخير من الشر ويفصلون الحق عن الباطل، وفي هدي العقل ما يغني عن كل رسالة. يقول ابن الراوندي:(إن البراهمة يقولون إنه قد ثبت عندنا وعد خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يعرف به الرب ونعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي والترغيب والترهيب. فإن كان الرسول يأتي مؤكداً لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته؛ إذ قد غنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ. وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته). وسيراً في هذا الطريق العقلي المزعوم يرى ابن الراوندي أن بعض تعاليم الدين منافٍ لمبادئ العقل، كالصلاة والغسل والطواف ورمي الحجارة والسعي بين الصفا والمروة اللذين هما حجران لا ينفعان ولا يضران. على أنهما لا يختلفان عن أبي قبيس وحراء في شيء، فلم امتازا على غيرهما؟ وزيادة على هذا أليس الطواف بالكعبة كالطواف بغيرها من البيوت؟ والمعجزات أخيراً غير مقبولة في جملتها ولا في تفاصيلها؛ ومن الجائز أن يكون رواتها، وهم شرذمة قليلة، قد تواطأوا على الكذب فيها. فمن ذا الذي يسلم أن الحصى يسبح أو أن الذئب يتكلم؛ ومن هم هؤلاء الملائكة الذي أنزلهم الله يوم بدر لنصرة نبيه؟ يظهر أنهم كانوا مفلولي الشوكة قليلي البطش، فانهم على كثرتهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين معهم لم يقتلوا أكثر من سبعين رجلاً. وأين كانت الملائكة يوم أحد حين توارى النبي صلى الله عليه وسلم بين القتلى ولم ينصره أحد؟ وبلاغة القران على تسليمها ليست بالأمر الخارق للعادة، فإنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها، ويكون في هذه القبيلة طائفة أفصح من البقية، ويكون في هذه الطائفة واحد هو أفصحها. وهب أن محمداً صلى الله عليه وسلم غالب العرب في فصاحتهم وغلبهم، فما حكمه على العجم الذي لا يعرفون هذا
اللسان وما حجته عليهم؟
لسنا في حاجة مطلقاً لأن نرد على هذه الشبه الواهية والدعاوى الباطلة، وسيدرك القارئ بنفسه ما فيها من تضليل ومغالطة. ولا نظننا في حاجة كذلك إلى سرد الدفاع المجيد الذي دبجه يراع الإسماعيلية ضدها، وفي مقدور كل باحث أن يرد عليها بآرائه الخاصة وأفكاره المستقلة؛ وكل ما نريد أن نلاحظه هو أن ابن الراوندي يردد نغمة ألفناها لدى المعتزلة من قبل. فهو ينادي بالحسن والقبح العلقيين، ويذكرنا بذلك السؤال الذي وضعته مدرسة المعتزلة لأول مرة وهو: هل الإيمان واجب بالشرع أو بالعقل؟ بيد أن المعتزلة المخلصين لم يستخدموا العقل هذا الاستخدام السيئ، وبذلوا جهدهم في أن يوفقوا بينه وبين الدين، وأن يردوا على شبه الزنادقة والملحدين بكل ما أوتوا من حجة بينة وبرهان قاطع. ومسألة العقل والنقل هي عقدة العقد ومشكلة المشاكل في ذلك العهد! وسنعرف فيما يلي كيف استطاع الباحثون الآخرون حلها.
(يتبع)
إبراهيم مدكور
صور سياحة
5 -
فرنسا وباريس
الحريات المتطرفة وبعض مظاهر الحياة الاجتماعية
بقلم سائح متجول
ليس بين أمم العالم أكثر ترديداً لكلمات الحرية والإخاء والمساواة من فرنسا.
ولا غرو فقد كانت الثورة الفرنسية مهد الحريات الديمقراطية في أوربا، ومنها انبثق فجر الديمقراطية الأوربية الحديثة، وفيها تقررت حقوق الإنسان، وكانت صيحة الحرية والإخاء والمساواة أقدس شعائرها.
وقد خاضت الأمة الفرنسية كثيراً من الحوادث والخطوب وبذلت كثيراً من دمائها للاحتفاظ بذلك التراث المقدس: تراث الثورة الفرنسية، وتراث الحريات الديمقراطية؛ وما زالت فرنسا على رغم الحوادث والخطوب حصن الديمقراطية في أوربا، ومازال شعارها المقدس:(الإخاء والحرية والمساواة) ترقمه على نقدها، وعلى جميع دورها العامة، وتقرؤه في كل مكان وكل مناسبة.
ولا ريب أن الحريات العاملة والحريات الشخصية أكثر توفراً في فرنسا منها في أي بلد أوربي آخر؛ حرية القول والكتابة، وحرية التصرف، في حدود القوانين طبعاً؛ وفي فرنسا يعقد أي اجتماع، ويلقى أي خطاب، وينشر أي كتاب أو مقال سياسي أو اجتماعي، دون أن تتدخل السلطات أو تعترض إلا ما كان واقعاً تحت طائلة القانون، أو ما كان ينذر فعلاً بتكدير الأمن العام.
هذا في فرنسا فقط؛ ولكن فرنسا تفهم الحريات خارج فرنسا فهماً آخر؛ والسياسة الفرنسية لا تطيق أن تسمع لفظ الحرية في شمال أفريقية مثلاً أو في غيرها من الأملاك والمستعمرات، ولها وسائلها الخاصة في إخماد كل نزعة أو حركة حرة، وفي سحق كل رأي حر.
ولكن ذلك لا يمنع أن تكون فرنسا ذاتها بلد الحريات المتطرفة، بل إن أولئك الذي يسلبون حرية الرأي والتصرف في بلادهم يجدون في فرنسا ملاذاً لهذه الحريات.
والحرية أسمى ما يتمتع به الإنسان، وأثمن ما تزدان به الكرامة الإنسانية، ولكن التطرف في فهمها وتطبيقها يخرجها أحياناً عن دائرة المعاني الرفيعة التي قصدت إليها، وعندئذ تغدو ابتذالاً وخروجاً على النظم والقوانين، وأحياناً على الحشمة والحياء.
وقد وصلت الحريات السياسية في فرنسا إلى حدود التطرف والإغراق، ووصلت الحريات الاجتماعية إلى حدود الإباحة والابتذال.
وإنه ليكفي أن نتتبع ما يقع في فرنسا كل يوم من مظاهرات واعتصابات عنيفة، وما يحيط المعارك والمناقشات الحزبية فيها من مناظر الاضطراب والفوضى، وما تتكشف عنه حياتها ونظمها العامة من ألوان الفساد والضعف في تكرار الفضائح المالية والسياسية المثيرة، لنحكم بأن هذه الصورة من النظم الديمقراطية التي تقدمها إلينا فرنسا ليست من افضل صور الديمقراطية وأحبها.
وفي وسع السائح المتجول أن يلمح كثيراً من ألوان الفوضى السياسية في فرنسا، في أقوال الصحف وفي مناقشات الأفراد، وفيما يعرض للبيع من النشرات السياسية والشيوعية التي تسمم الآراء وتذكي الشهوات والأحقاد. ولقد حدث ونحن في باريس في الأيام الأولى لاضطرام الثورة الإسبانية أن هب فريق كبير من الصحافة الباريزية يتهم الحكومة الفرنسية بأنها ترسل الذخائر والطيارات سراً إلى حكومة مدريد، وأنها بذلك تزيد نار الثورة ضراماً وتعرض السلام للخطر، فاضطرت الحكومة أن تصدر بلاغاً رسمياً تنكر فيه هذه الوقائع، واضطرت بعد ذلك أن تثير مسألة عدم التدخل في الحوادث الإسبانية، هذا بينما انتهزت الدول الفاشستية (إيطاليا وألمانيا) كل فرصة لإمداد الثوار بكل صنوف المعاونة في الوقت الذي لبثت تتظاهر فيه بقبول فكرة عدم التدخل؛ وهكذا أفسدت الصحافة برعونتها على الحكومة موقفها وسياستها.
وفي فرنسا اليوم حزب شيوعي قوي يحتل أربعة وسبعين كرسياً من كراسي البرلمان، ويبث دعايته في عدة صحف ونشرات قوية في مقدمتها جريدة (الأومانتيه) التي أسسها جان جوريس، ويكتب فيها اليوم أشهر الكتاب والنواب الشيوعيين مثل مارسل كاشان، وبول لوي، وفايان كوترييه، وموريس توريز وغيرهم.
وكثيراً ما سمعنا، عندما نشبت الثورة في إسبانيا، أن فرنسا قد تضطرم عما قريب بمثل
تلك الثورة، إذا لم تعمل الحكومة لتحسين الأجور وتأمين العمال على حقوقهم ورفاهتهم، كنا نسمع ذلك في مقاهي باريس ومطاعمها وشوارعها.
وكما أن الحريات السياسية تتخذ ألواناً من التطرف والإفراط فكذلك الحريات الاجتماعية في فرنسا.
ولا ريب أن معظم المجتمعات الأوربية تتمتع بحريات اجتماعية واسعة، ترجع إلى نظام المجتمع ذاته، والى ما تتمتع به المرأة من حريات مطلقة، كما ترجع إلى روح القوانين، والى فهم المبادئ الأخلاقية ومعيار الحياء بطرق وأساليب خاصة.
ولكن لا ريب أيضاً أن فهم الحريات الاجتماعية يتخذ في فرنسا ألواناً من التطرف قد لا يسيغها كثير من المجتمعات الأوربية، كما يتخذ التساهل في فهم معيار الحياء ألواناً تستهجنها المجتمعات الأخرى.
مثال ذلك منائر العري التي حدثناك عنها في مقال سابق؛ ففي باريس تنتشر مسارح العرى؛ وتعرض المناظر والرقصات العارية في أفخم مسارح باريس مثل الفولي برجير والكازينو دي باري، ويعلن عنها في أكبر الصحف مثل الطان والفيجارو والجورنال والماتان وغيرها، وتعرض أسراب الراقصات العاريات بلا حرج، ويعتقد القضاء أن هذا الضرب من التمثيل العاري عمل فني لا اعتراض عليه، ويتحدث النقدة الفنيون في الصحف المحترمة عن نجاح مس جوان وارنر (ملكة العراء المطلق) وعن رقصاتها العارية.
وفي باريس تصدر مجلات جنسية كثيرة، ويكتب بعضها بأساليب مثيرة، وينشر صوراً عارية، وإعلانات غرامية هي اتجار مكشوف بالحب، ولنمثل لذلك بمجلة (فروفرو) التي ربما كانت أكثر تحفظاً من غيرها، كذلك تعرض الكتب الجنسية بكثرة في المكاتب ومع الباعة وتلقى رواجاً مدهشاً.
وفي باريس ترى مناظر الحب في النهار وفي الليل، في الشارع وفي الحديقة، وفي المقهى، وفي المترو؛ ومن المناظر العادية أن ترى فتى وفتاة يتبادلان القبلات الحارة وقد أمسك الفتى بخصر الفتاة، أو يتبادلان العناق المضطرم؛ ترى ذلك في أي وقت وأي مكان، وتراه بنوع خاص في أقبية المترو، وفي المترو ذاته، ولا يمنع ذلك أن يكون وسط
الجمهور الحاشد، والأعين ترمقهما من كل صوب؛ بل ترى في أقبية المترو، في المنعطفات المستترة أو حين ينسدل الظلام كثيراً من المناظر الغرامية المريبة.
وتكثر مثل هذه المناظر المثيرة أو المريبة مساء في منعطفات مونمارتر وبيجال وكليشي وفي المراقص والحانات الليلية.
ولا تختص باريس وحدها بهذه المناظر الإباحية، فقد رأيت في الجنوب أثناء انتظاري بمحطة ناربون جماعة رياضية من طلبة الجامعات شباناً وفتيات وقد ارتدى الجميع الثياب الرياضية واشترك الفتيات في ارتداء السراويل القصيرة التي تترك الساقين عاريين؛ وفي أثناء انتظار القطار جاءت الفتيات فجلست كل واحدة منهن في حجر فتى، وساقاها العاريتان على ساقيه العاريتين وأخذ الجميع ينشدون النشيد الجمهوري، وقد طوق كل فتى فتاته بلا حرج.
ولكن من الإنصاف أن نقول إن الطبقات الدنيا هي التي تذهب في فهم الحب والحريات الاجتماعية إلى هذا الابتذال المثير.
على أننا نعرف كما يعرف الذين زاروا العواصم الأوربية الأخرى أن رقص العراء المطلق لا يسمح به إلا في باريس، وأنه يندر أن ترى في غيرها من العواصم مثل هذا الابتذال العلني في مناظر الحب والغرام، أو مثل هذه المجلات والكتب الجنسية التي تغمر باريس.
وإذا كانت الحريات الاجتماعية في برلين وفينا مثلاً لا تقل إطلاقاً وتسامحاً عنها في باريس، فإن معيار الحياء يرتفع فيهما كثراً عنه في باريس؛ ومن النادر أن ترى في الشارع أو الحديقة أو الترام أمثال هذه المناظر الغرامية المكشوفة التي تراها في باريس.
وإذا كانت باريس قد اشتهرت دائماً باللهو الخليع، فتلك شهرة في محلها، وباريس تموج بالملاهي الخليعة من كل ضرب، وتغمرها بالليل ريح شاملة من المرح الخليع، ومن الغريب أن هذه الملاهي يعلن عنها بمنتهى البراعة، وتصور في إعلاناتها وبرامجها كأنها أروع ما انتهى إليه الفن؛ فإذا ازدلفت إليها منيت بخيبة الأمل، ورأيت الابتذال بعينه، وأدركت ما في هذه الدعاية الخلابة من ختل وتضليل.
ولقد تحدثوا كثيراً عن سحر الباريزية وأناقتها ورشاقتها؛ ونحن نستميح عشاق العاصمة
الفرنسية عذراً، إذا قلنا إننا لم نستطع أن نكتشف في الباريزية كثيراً من هذا السحر وهاته الأناقة؛ فالمرأة الباريزية تعتمد في جمالها وسحرها على المظاهر والصناعة أكثر مما تعتمد على الحقيقة؛ وهي تكثر من صباغة الشعر والأظافر وتفرط في استعمال المساحيق؛ والشقرة هي لون الشعر المحبوب في باريس، ولكنها شقرة صناعية في الغالب؛ والواقع أن الباريزية لا تتمتع بذلك اللون الوردي الباهر الذي تتمتع به الإنكليزية أو النمسوية مثلاً، بل يغلب عليها اللون الثلجي أو اللون الباهت، فتعمد في تجميله إلى الصناعة؛ ويبدو عناء التجمل وفي وجهها دائماً؛ وأما عن الأناقة فإن الباريزية لا تتمتع منها بقسط كبير، فهي تميل إلى الأزياء المعقدة أو الغريبة، وتكثر من الألوان بلا تناسق؛ والخلاصة أن الباريزية تعشق المظاهر، وتفرط في التجمل، وتعتمد على الصناعة؛ بيد أنها تتمتع مع ذلك بخفة روح لا شك فيها.
وإن أولئك الذين عرفوا فينا وباريس معاً، يعرفون كم تحوي فينا من الجمال النسوي الرائع، وأي صباحة ورشاقة وأناقة طبيعية تتمتع بها الفتاة النمسوية، وأي فرق شاسع بين هذا السحر الطبيعي وبين ذلك السحر الصناعي الذي تلجأ إليه الباريزية في تكلف وعناء.
ويصح أن نشير هنا إلى مسألة الصحة العامة والنظافة الشعبية، فقد لاحظنا أن الصحة العامة ليست في أوجها، وأن الشباب لا يتمتع بكثير من النضرة ومظاهر القوة والفتوة؛ وتبدو مظاهر السقم والعناء على وجوه الطبقات العاملة من رجال ونساء؛ وقد لاحظنا فوق ذلك أن هذه الطبقات وربما بعض الطبقات الوسطى أيضاً لا تعنى كثيراً بمسألة النظافة؛ وإنه ليكفي أن تركب المترو ظهراً أو مساء حين يكتظ بالعمال والمستخدمين لتدرك هذه الحقيقة، ولا تشذ عن ذلك أسراب الفتيات الحسان؛ وربما كان في ظروف حياة هذه الطبقات ما يفسر هذه الظاهرة، فالنظافة تحتاج إلى كثير من النفقة، والاستحمام في باريس ترف يصعب على الفقراء الإكثار منه؛ وفي الفنادق المتوسطة قد يكتفي بغرفة حمام واحدة في طبقات الفندق كلها؛ والغرفة ذات الحمام الخاص ترف رفيع لا يسمع به إلا في الفنادق الأرستقراطية؛ وهذه حقائق لا يصعب على السائح اكتشافها.
والى هنا نقف في حديثنا عن باريس وعن الحياة الباريزية والمجتمع الباريزي؛ ولقد قلنا في بدء هذه الفصول إننا لا ندعي الوصول إلى أعماق المسائل والشؤون، وإننا إنما ندون
حقائق وملاحظات انتهينا إليها بالتجوال والمشاهدة، وأحياناً بالتجارب والدرس؛ وقد حفزنا إلى كتابة هذه الفصول ما سبق أن نوهنا به في البداية وهو أننا مازلنا نقرأ بالعربية عن فرنسا وعن باريس كتباً وفصولاً يطبعها الإغراق والمبالغة في التغني بمحاسن العاصمة الفرنسية وكل ما في الحياة الفرنسية؛ وهانحن أولاء قد حاولنا بهذه الفصول المتواضعة أن نقدم بعض الحقائق والصور حسبما رأينا وشعرنا بعيداً عن كل إغراق ومبالغة؛ وربما كانت باريس بالأمس أعظم فتنة وأشد سحراً منها اليوم، وربما فقدت العاصمة الفرنسية كثيراً من هذا السحر بفعل الظروف والتقلبات الاقتصادية والاجتماعية، ولكنا نصرح مخلصين أننا لم نشعر أن لباريس هذا السحر الفياض الذي ينسب لها، أو أن لها تلك الفتنة التي أملت على كثير من كتابنا تلك الفصول الوردية الرنانة. هذا ومما يبعث إلى الغبطة أن كثيراً من الأصدقاء البارزين الذين عرفوا باريس وعرفوا حياتها ومجتمعاتها أكثر مما عرفنا، يقرون كثيراً من هذه الصور التي قدمناها والملاحظات التي أبديناها.
(يتلى)
(* * *)
في الأدب المقارن
الخرافة في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تفشو الخرافة - وهي الاعتقاد بالمستحيل عقلاً - بين الجماعات الأولية، حتى تشمل ديانتهم وعلومهم وفنونهم القليلة، وعرفهم وتقاليدهم، لأن تلك الجماعات في نشأتها كالطفل في صغره، قليلة الإدراك للأسباب والمسببات، سريعة الانقياد للعواطف والأوهام والمخاوف، فلا تلبث أن تنمو بينها شتى الأساطير، تفسر بها قوى الطبيعة ومظاهرها، وتمجد بها أسلافها، وتدعم كيان مجتمعها. هكذا كان لقدماء المصريين خرافاتهم المتعلقة بواديهم ونهرهم، وآلهتهم وفراعنتهم؛ وكانت لليونان والرومان أساطيرهم التي تدور حول أعمال آلهتهم وحروبها، وحبها وغضبها.
وكانت للعرب خرافات شتى، انتزعت من حياتهم البادية، وما توحي إلى النفس من رهبة وبأس، بفلواتها وحزونها، وسباعها وأنوائها، وحيكت حول الآلهة والجن والغيلان، وحول أبطالهم وملوكهم وغابر دولهم، وتناولتها الأجيال المتعاقبة بالزيادة والتهويل، والتغيير والتبديل، في حوادثها ومشاهدها.
وكانت للإنجليز في عهود همجيتهم أساطير متشعبة، مشتقة من حياة أهل الشمال، المضطربة بين ظلمات الأحراج ومتون البحار، حافلة بأخبار هجراتهم وغزواتهم، ممتلئة بأوصاف شياطين البر والبحر، ممجدة لبلاء ملوكهم أمثال الملك آرثر، وألفرد الأكبر، في دفع هجمات المغيرين الذين تعاوروا الجزيرة على كر العصور، من رومان وسكسون ونرمانديين؛ وتمازجت أساطير كل هؤلاء، واختلط مسيحيها بوثنيها، وجنوبيها بشماليها.
والخرافة على ما بها من مجاوزة للمنطق وتهويل وتحريف واستحالة - لا تقل عن حوادث التاريخ صدقاً في وصف أحوال المجتمع الذي هي وليدته، والبيئة التي هي نتاجها؛ فالخرافة العربية التي نمت في البادية، مثلاً، ملأى بذكر الغيلان والسعالي والعنقاء، وبأسماء العدائين الذين يسبقون الظباء، والحديدي النظر الذين يرون القادم والمغير من رأس أميال، كزرقاء اليمامة. والخرافة الإنجليزية التي ترعرعت في الغابة ودرجت على أثباج اليم حافلة بحكايات عرائس الغاب وآلهة البحار، ومناظر الغسق والضباب.
على أن الخرافتين تلتقيان، والمخيلتين تتقابلان في نواح، حتى لتخال إحداهما صدى للأخرى أو محاكاة له، لولا بعد الأمتين في تاريخيهما بعداً يحول دون كل محاكاة أو اقتباس؛ فأخبار تأبط شراً، وسليك بن السلكة وأشباههما من شذاذ العرب وطريدي العرف والمجتمع، مماثلة لحكايات روبن هود وأصحابه الذين كانوا يعيشون على اقتناص الظباء في غابات ملك إنجلترا؛ وقصة مقتل أحد أقيال اليمن على يد أخيه الطامع في عرشه، التي وردت في كتب الأدب العربي وروى فيها شعر لشاعر يدعى ذا رُعَين، منه قوله:
فأما حِمْيَرٌ غدرت وخانت
…
فمعذرة الإله لذي رعين
واستشارة الخائن للعرّافين قبل اقتراف جريمته، والخدعة الحربية التي لجأ إليها جيش ابن الملك القتيل من استتار كل مقاتل بشجرة اقتلعها في طريقه وحملها أمامه، حتى بدا الجيش كأنه غابة تسير؛ كل ذلك مشابه للحوادث التي اتخذها شكسبير موضوعاً لروايته ماكبث، والتي تدور حول مصرع بعض ملوك اسكتلندا، وهي بلاد تشبه بوعورتها واستقلالها وبأسها وتأثيرها في عقول أهل إنجلترا، حالة اليمن في جزيرة العرب؛ وقد عبثت الخرافة بكلتا القصتين ونمقتهما بمظاهر السحر والتنبؤ بالغيب.
حتى إذا ما ارتقت الجماعة البشرية، وأخذت بأسباب العلم الصحيح، وعرفت الفلسفة المنطقي، واعتنقت ديناً راقياً، فترت حماستها لخرافاتها القديمة، وقل تصديقها لها، وسخر منها العلماء والفلاسفة الأتقياء، وهبطت إلى طبقة العامة، فوجدت فيهم وحدهم أمناءها الأوفياء، يتوارثونها كما توارثها آباؤهم من قبل، وتروي من نفوسهم ما لا تروي العلوم الجافة، فهم يؤثرونها على تلك العلوم، ويمزجون رواياتها بحقائق العلم تارة، ويخلطون عقائدها بعقائد دينهم الجديد الراقي تارة أخرى.
على أن أكثر الأمم، كاليونان والرومان وأمم أوربا الحديثة، حين بلغت طور نضجها العلمي والديني، لم تنبذ خرافات طفولتها ظهرياً، وإن بطل تصديقها برواياتها، وذهب إيمانها بخوارقها ومعجزاتها، ولكنها اتخذتها غذاء دسماً للعلم والفن؛ فجعلها العلم موضع فحصه وبحثه وتنقيبه، وأقامها مقام الشك حتى تثبت البينة على ما فيها من بذور الصدق؛ واستمد منها النحت والتصوير والشعر والنثر مادة لا تفنى للتفنن في الوصف والتأمل والتجوال في مشاهد الحياة ومرامي التاريخ ومنازع النفس الإنسانية.
ذاك أن أكثر تلك الخرافات - على ما بها من وهم ومغالات - تحوي ما لا يحصر من صفات الجمال ومظاهر الروعة، ودلائل العظمة، وأحاديث البطولة والمخاطرة التي يغرم بها الطبع الإنساني، وصور الفضائل والرذائل، التي يرتاح الإنسان إلى رؤيتها مصورة معروضة، كما أن تلك الخرافات، بما تقص من وقائع بعيدة العهد وتعرض من مشاهد نازحة المزار، تروي في النفس حب البعيد والشغف بالماضي القديم والولوع بالمثل الأعلى، وهي النزعة التي تعرف في الإنجليزية بالرومانس؛ زد على ذلك أن استعارة مشاهد تلك الخرافات ووقائعها وأسماءها في الوصف، يكسب التشبيه قوة ووضوحاً. فما أجود قول امرئ القيس، وليت الشعراء أكثروا الضرب على وتيرته:
أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟
لذلك حفل الأدب الإنجليزي بالخرافات الإنجليزية، وما تحني من جسائم الأعمال وبدائع الصور، كحروب الملك أرثر ومغامرات فرسان المائدة المستديرة، تلك التي كانت وحياً لسبنسر وتنيسون في أجود قصيدهما. ولم يكتف الأدباء بخرافاتهم الوطنية، فاصطنعوا خرافات اليونان والرومان، وتحدثوا طويلاً عن آلهتهم واقتبسوا كثيراً من الإلياذة والأوديسة؛ وزاد غيرهم فاستعاروا خرافات كل من عرفوا أو سمعوا عنهم من أمم الغرب والشرق: فاتخذ ملتون لقصيدته الكبيرة سمسون الجبار موضوعاً عبرانياً، وتحدث تنيسون عن هارون الرشيد، وطار كولردج على جناح الخيال إلى قصر قبلاي خان عاهل الصين. أما شكسبير فاستعار مواضيع رواياته من كل ما أصاب من تراث الأمم لا فرق بين تاريخّيها وخرافيّها، ورصعها بما كان لا يزال يساور أهل جيله من اعتقاد في عجائب السحر والمعجزات.
ومن الأدباء من لم يكفه كل هذا المدد الزاخر من غرائب الأساطير وأفانين خيال الأقدمين، فأطلق لخياله هو نفسه العنان، وابتكر مواضيع لقصائده من صنعة الوهم، وحلاها بروائع الصور وممتع الخطرات، كما فعل كولردج في خريدته الملاح القديم، وبروننج في فريدته تشايلد رولاند، وتوماس هود في أنشودته أينس الحسناء، وكما صنع سويفت في كتابه العالمي الصيت (رحلات جليفر).
ألفى أدباء الإنجليزية في أرجاء تلك الخرافات، مجالاً رحباً لفنهم وخيالاً، وتحريراً
لأفكارهم من عقال الحقائق المتحجرة، وغذاء لقولهم الجوالة في مظاهر الكون وشؤون الخلق، المستطلعة إلى المجهول، ووسيلة لتصوير المناظر الطبيعية، بين جبال ووهاد، وغياض ومياه، ورصعوا أشعارهم في كل ذلك وكتاباتهم بأشتات الآراء، في المسائل التي كانت تشغل أذهان معاصريهم، ولونوا خرافات الأجيال المتقادمة بألوان أجيالهم ومجتمعهم الذي عاشوا في مضطربه.
أما موقف العرب من خرافات أسلافهم - حين اعتنقوا دينهم الحنيف وتحضروا وتثقفوا - فكان غير هذا: فقد أعرضوا عنها ترفعاً وازدراء، ولم يحفظوا منها إلا ما كان شبه بالصدق، وما دار حول يوم عظيم من أيامهم، أو شاد بمجد بعض قبائلهم. وفي تلك الحال كانت الروايات تختلق اختلاقاً، ويبذل الجهد لوسمها بميسم الصدق. ولما اطلع العرب على ثقافات الأمم الأخرى من يونان وفرس وهند، لم يهتموا إلا بما صدقوه من تواريخهم، وما استملحوه من حكمهم وأمثالهم، ولم يعنَّ لأحد من الأدباء أن يستخدم الخرافة مادة لفنه، أو يستعير ما فيها من جمال وروعة ليفيد بهما أدبه.
وغاية ما يذكر في هذا الباب، أن بعض الأدباء - كابن دريد أطلق لخياله شيئاً قليلاً من الحرية، ومضى يخترع الروايات والنوادر، يفسر بها بعض الأمثال السائرة المنحدرة من عهود الجاهلية، كقولهم (عند جهينة الخبر اليقين)، و (الصيف ضيعت اللبن)، و (جزاء سنمار)؛ وقد أخرج من صنعوا ذلك أحاديثهم مخرج الحق، وأسندوا بعضها، كي يضمنوا لها الرواج بين المتأدبين، كما أن أصحاب المقامات الذين أسلسوا لخيالهم العنان قليلاً حرصوا على ألا يبعدوا كثيراً عن حيز الإمكان، لئلا يعرض عنهم أولو الألباب.
ذلك بأن العرب كانوا شديدي الحرص على العلم الصحيح حيث ثقفوه، موكلين بالصدق التاريخي، زاهدين جداً في الأساطير وجمحات الخيال، وهو خلق أورثهم إياه دينهم منذ اعتنقوه، فإنه وإن أثبت وجود الجان وائتمارهم بأمر سليمان، واستماع نفر منهم إلى القران، قد أوسع أساطير الأولين سخراً واستخفافاً؛ وكثيراً ما جمع بينها وبين الشرك، وهو قد جب ما قبله مما هو شبيه بالكفر والزيغ، ودعا المؤمنين إلى التفكير في خلق السموات والأرض، وطلب العلم الصحيح، فلا غرو أن زهد المسلمون في تخريف الجاهليين وأوهامهم؛ وقد زادهم نفرة من الأساطير ومختلق الأقاصيص ما تنبهوا إليه من جرأة بعض
الدخلاء والمغرضين على الأحاديث النبوية، يخترعونها ويفسرونها بما تمليه أهواؤهم.
زد على ذلك أن الإسلام قد حرم الخمر، وهو تحريم راعته أغلبية الأمة، وإن تجوزه بعض الشعراء، بل الخلفاء والكبراء. وهذا الإمساك عن المسكر قد كسب الأمة عامة صفات التؤدة والصحو والتوقر والإحجام عن مجاراة الخيال، والتحليق في فضاء الأوهام؛ وطبيعة بلادهم ذاتها تبث هذا الصحو في طبائعهم، فإنها في الغالب مصحية سريعة التحول من وضح النهار إلى حلك الظلام، لا تطول بها كما تطول في البلاد الشمالية فترات ذلك التحول، من غلس وغسق، ولا يكثر بها انتشار الضباب الذي يحجب الأشياء إلا أشباحها ويوقع في النفس التوجس والوهم، والخرافة الإنجليزية حافلة بتلك المشاهد بين غلس وغسق وضباب.
كل ذلك جعل مثقفي المسلمين سريعين إلى إنكار الخوارق ونبذ الأغراب والسخرية من المغربين، فدعبل الخزاعي مثلاً يهزأ ملياً بنفر من قبيلته ذاتها زعموا أن أحد أجدادهم حادث ذئباً، فهو يقول:
تِهتُم علينا بأن الذئب كلمكم
…
فقد لعمري أبوكم كلم الذيبا
فكيف لو كلم الليث الهصور؟ إذن
…
أفنيتم الناس مأكولاً ومشروباً
ومن جهة أخرى لم يحس أدباء العربية كبير حاجة إلى ذلك الضرب من الأدب، تحفزهم إلى التأول في الدين وتمييز ما نهى عنه مما لم ينه، فهم لم يكونوا شديدي الولع بتقصي مناظر الطبيعة وتصويرها، فيتوسلوا للتفنن في ذلك بالطيران على أجنحة الخيال إلى شتى المنائر والأودية والشطآن؛ ولا كانوا شديدي التوفر على نقد أحوال عصورهم السياسية والاجتماعية، فينتزعوا لذلك الصور من خرافات الأقدمين مماثلة لصور مجتمعهم؛ أضف إلى ذلك ما لازم الأدب العربي دائماً من نزعة محافظة وولع بمحاكاة بدائع المتقدمين، ولعاً لا طموح معه إلى تجديد شديد المباينة لمناهجهم في الأدب.
تلك هي العوامل التي صرفت أدباء العربية عن الاحتفال بالأساطير، وجعلتهم جميعاً يسلكون الطريق (المباشر) للإفصاح عن خواطرهم، طريقة القصائد المتوسطة الطول، والأبيات المحكمة الموجزة، ورائدهم قول قائلهم:
وإنَّ أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته: صدقا
وقد رُوي أن سهل بن أبي غالب صنف كتاباً في سير الجن وأحوالهم ورفعه إلى الرشيد، فقال له الخليفة: إن كنت رأيت ما ذكرت فقد رأيت عجباً، وإن كنت اخترعت ما رأيته فقد وضعت أدباً. ولكن أحداً من معاصري ذلك المؤلف أو من جاءوا بعده لم يحفل بهذا الضرب من الأدب، وأهمل الكتاب حتى ضاع.
أقصيت الخرافة عن حظيرة الأدب العربي، وتركت للعامة يخففون بالاستماع إليها أعباء عيشهم، ويُسرُّون بالإنصات إلى مغامراتها ومصاولاتها هموم حياتهم المتشابهة الرتيبة، ويلونها لهم القُصاص بألوان الدول المتعاقبة والأحوال المتوالية، وتنفث فيها السياسة أحياناً أغراضها، حتى أتيح لها مَن دونها فكان منها أقاصيص ألف ليلة وليلة، وعنترة ومهلهل، وسيف بن ذي يزن، وقد اطلع عليها بعض أدباء العربية في العصر الذي دونت فيه فاستخفوا بها ونبذوها.
بيد أن تلك الأقاصيص على عاميتها وركاكة أسلوبها، وفحش بعض مواقفها، تحوي من روائع الوقائع، وجميل المناظر، وآثار الخيال، ما يعوز الأدب العربي كله؛ وبفضل ما فيها من روعة وجمال وخيال قد نالت الخلود وحظيت بالشهرة والترجمة إلى شتى اللغات، وأعجب بها من الغربيين من لم يسمعوا بحِكَمِ المتنبي، وأمثال الطائي، وبديع ابن المعتز.
فخري أبو السعود
الدكتور ألفرد بتلر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
نعت لنا الأخبار منذ قليل المغفور له الدكتور ألفرد بتلر المؤرخ الإنجليزي الكبير والعالم بالآثار المصرية.
وقد كان ذل الرجل العظيم إنجليزي الجنس واللغة، ولكنه كان مصري العقلية عربي الثقافة؛ قضى الشطر الأكبر من حياته منصرفاً إلى دراسة الحياة في وادي النيل وتاريخ حضاراتها الغابرة، حتى لقد قيل إن عاطفته كانت في قرارتها مصرية، فكانت آخر أنفاسه متجهة إلى النيل، وآخر أمنياته منصرفة إلى التملي به وتنسم نسماته.
وقد كان ارتباطه الروحي والعقلي بمصر وواديها داعياً إلى أن تكون كل آثاره العلمية مرتبطة بها، فليس له مؤلف لا يتصل بمصر وتاريخها وآثارها، وكان همه الأكبر منصرفاً إلى تلك الفترة التي تتعسر دراستها على الأكثرين، وهي فترة الحكم الروماني الأخير وأول العصر الإسلامي، فألف كتاباً في الأديرة والكنائس المصرية، وكتاباً آخر في تاريخ الفتح العربي لمصر؛ ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ مصر في هذه الفترة مدين أكبر الدين لهذا المؤلف الكبير، إذ لولا دراسته العميقة وعقله الكبير وعلمه الواسع لظلت هذه الفترة من أظلم فترات تاريخ هذه البلاد.
لقد فقدت مصر استقلالها على يد الرومان بعد أن استولى عليها قيصر وذهبت دولة البطالسة عنها، ودخلت منذ ذلك العهد في دائرة الدولة الرومانية الكبرى، واختفى تاريخها في غمار تاريخ الدولة المتبوعة، ومازالت بعد ذلك تنحدر على جوانب الحوادث من هوة إلى هوة كما تنحدر البلاد التابعة المغلوبة في كل عصور التاريخ، وغطت على صورتها ركام من آثار المظالم والمهانة والاضطراب.
فإذا كان الدكتور بتلر قد استطاع أن يستخرج صورة مصر في تلك الحقبة من طبقات تلك الركام، فقد أدى أكبر خدمة لأبنائها، فليس من الهين أن يستطيع باحث الوصول إلى مثل هذا الكشف، ولاسيما إن كان يحيط بعلمه الظلام والإبهام وتقادم العصور.
على أن ظلام تلك العصور التي جلاها الدكتور بتلر لم يقتصر أثره على إخفاء معالم تاريخ البلاد، بل لقد أدى إلى نتيجة أشد ضرراً وأقسى وقعاً؛ وذلك أنه قد نشأت في هذه الأثناء
قصص لا أساس لها وخرافات من خلق الخيال والجهل وجهت الباحثين إلى وجهة مضلة جعلت التاريخ يظلم أهل مصر في تلك العصور، فيصمهم بأقسى الوصمات والتهم، وكان للدكتور بتلر فضل إظهار الحق وإعادة الكرامة المصرية إلى ذكرى أهلها.
ولما فتح العرب مصر كانوا لا يعبأون بغير الفتح في أول فورة التوسع والنضال، وما كانوا يخرجون من حرب إلا ليدخلوا في غمار حرب جديدة، ولم يكن لهم سجلات عند ذلك يقيد بها تسلسل الحوادث ولا يثبت فيها وصفها، فلم يكن بد من أن يلجأ المؤرخون في القرون التالية إلى روايات المحدثين وقصاص الأخبار؛ وكان المؤرخون يبذلون في التحري عن أخبارهم جهد المستطاع، ولكنهم مع ذلك كانوا لا يجدون مناصاً من تلقفها من أصحابها وإسنادها إلى أصحابها تخلصاً من عبء الأمانة، ولهذا صار تاريخ الفتوح العربية خليطاً من الأخبار والقصص والروايات؛ فإذا أراد باحث أن يتتبع سلسلة من الحوادث وجد نفسه حيال إبهام شديد وغموض يسد عليه السبل؛ ثم تتابعت العصور على هذه الأخبار فتناولها الباحثون وتصرفوا فيها واستخدموها في تأليفهم بالزيادة والنقص والتصرف، حتى صارت الأخبار الصحيحة مختفية تحت طبقات أخرى من الركام المتخلفة من العصور المتعاقبة.
فإذا نظرنا إلى عمل الدكتور بتلر نظرة عادلة عرفنا مقدار خدمته لتاريخ مصر، إذ استطاع أن يستخرج تاريخ العصر الروماني في مصر أولاً، وأن يصفي أخبار العصر العربي الأول مما شابه من القذى والصدأ. ولقد كان عمله عظيماً في نواح متعددة لا نستطيع هنا حصرها. على أننا نضرب مثلاً أو مثلين منها:
نشأت خرافة سخيفة في العصور المتأخرة من التاريخ الإسلامي وهي خرافة إحراق العرب لمكتبة الإسكندرية عندما تم لهم فتحها، ولسنا ندري على سبيل التحقيق ما هي الخطوات الأولى التي أدت إلى خلق تلك الخرافة، ولكن أحد المؤرخين أوردها في بعض مؤلفاته فرددها من جاء بعده، ومازال صداها يتردد بعد ذلك حتى صار الناس يتلقونها بغير تمحيص ويوردونها موارد الحقائق الثابتة التي لا يرون ضرورة لمناقشتها؛ واتخذ أهل الأغراض تلك الخرافة وسيلة يتوصلون بها إلى الحط من شان المدنية العربية والغض من الذكاء العربي. وأي وسيلة أنجع في الدعاية على العرب والإسلام من أن يذكر اسم مكتبة
الإسكندرية العظمى ويقال إن العرب قد أحرقوا تلك الثروة الفكرية النادرة وأبادوا بذلك ما خلفته أذهان النوابغ في كل العصور القديمة؟
ولقد كان للدكتور بتلر الفضل الأكبر في أنه تتبع أثر تلك المكتبة كما يتبع الرائد آثار الأقدام وهو هادئ النفس مطمئن العين حتى أظهر لأهل القرن العشرين تقلب القرون الماضية على تلك المكتبة وبين لهم ما آل إليه أمرها على يد قيصر ثم على يد أحزاب المسيحية الأولى المتحمسة التي دفعتها حماسة الدين أو سورة العصبية إلى القضاء على ذلك الأثر العلمي النفيس.
ولقد حمد المنصفون للدكتور بتلر ذلك المجهود العظيم في إظهار الحق والإبانة في نصرته، وكان من بين هؤلاء المنصفين اللورد كرومر إذ كتب إلى ذلك المؤلف خطاباً خاصاً جاء فيه:(لقد قضيت القضاء الأخير على تلك الخرافة السخيفة، خرافة إحراق العرب لكتبة الإسكندرية).
ولعل الدكتور بتلر أول من حاول محاولة منتجة أن يكشف القناع عن شخصية لم تزل منذ بدء الإسلام مثار التساؤل والإبهام ألا وهي شخصية (المقوقس) فإنه استطاع بعد جهد عظيم وبحث علمي يكاد يكون معجزاً أن يبين للناس من هو ذلك الرجل أو من هم هؤلاء الذين أطلق عليهم ذلك الاسم. ولم يكن في بحثه يدع ثغرة للإبهام ولا للشك، بل كان ينخل الحقائق ويصفيها حتى لا يتسرب إليها في أثناء البحث ما يشوبها.
ولقد كان من أكبر آماله أن يرى كتابه منقولاً إلى لغة العرب، ولكن ذلك الأمل قد طال العهد به حتى بلغ نيفاً وعشرين عاماً، ثم توقفت لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى ترجمته، فلما بلغه نبأ ذلك الحدث كان اغتباطه أشد اغتباط حتى أنه لم يتمالك أن لام المصريين في خطاب بعث به إلى بعض أصدقائه على أنهم لم يعنوا بنقل ذلك الكتاب من قبل مع أنه كتاب يخدم تاريخهم ويسد فيه فراغاً عظيماً.
وكان الدكتور بتلر فوق خدمته لتاريخ مصر كثير العناية بما يهمها. ولقد أرسل إليه صديق كتاباً مرة يشير فيه إلى ما جاء في كتابه (فتح العرب لمصر) من أن قبر سيدنا عمرو بن العاص غير معروف، وأن ذلك الصديق ذكر له أن ذكر قبر ذلك الرجل العظيم وارد في بعض المؤلفات العربية وأنه بجوار مدفن سيدنا عقبة بن عامر بالقرافة الصغرى.
فأثار ذلك النبأ حماسة الشيخ الإنجليزي فأرسل إلى صديقه يقول: (لئن صح أنك استطعت معرفة مكان قبر عمرو بن العاص واستطعت التثبت من ذلك بالوسائل العلمية التي لا تدع مجالاً للشك، فما أحراك أن تثير في الناس دعوة لإقامة أثر عظيم على ذلك القبر جدير بعظمة فاتح مصر الكبير).
ولا أجد لهذه الكلمة خاتمة خيراً من أن أقتطف قطعة من الخطاب الذي أرسله إلى صديقه يذكر له فيه ثناء اللورد كرومر عليه، وقد جاءت في تلك الكلمة حكمة بالغة أحب أن أسوقها لأهل البحث والعلم. قال:(ولكن أهل البحث الذي يجيدون في أعمالهم قلما ينتظرون ثواباً على عملهم، اللهم إلا ما يجدون فيه من لذة البحث ونشوة الكشف عن الحقائق).
وهذه صورة تلك القطعة من خطابه بخطه أقدمها لقراء الرسالة أثراً من ذلك الصديق الكبير عليه رحمة الله.
محمد فريد أبو حديد
الخطابة مَلَكَةٌ وفن
للأستاذ عبد المجيد نافع
يولد الإنسان خطيباًن كما يولد شاعراً أو فناناً، أو عسكرياً أو سياسياً؛ وتلك الملكة، وهي وليدة الفطرة، لا تنمو وتؤتي ثمارها إلا بالمران والصقل؛ فالخطابة إذن موهبة وفن معاً، فلا يسيغ العقل أن يكون المرء عاطلاً من الموهبة الخطابية ثم يصبح بين عشية وضحاها من الخطباء الخالدين في التاريخ، كما لا يهضم الفكر أن يكون الإنسان خطيباً موهوباً ثم يصبح بين بياض يوم وسواد ليلة من الخطباء المعدودين دون درس وتحصيل ومران. ولقد يحلو لبعض المؤرخين أن يرسم صورة لخطيب مفوه كان في حداثته خلواً من ملكة الخطابة، بل يصورونه في طفولته مثال الفهاهة والعي، ثم يصيرونه في رجولته الخطيب المصقع، والمفوه المنطيق! فقد زعموا أن (ديموستين) خطيب اليونان العظيم كان في حداثته به عي وفهاهة، فطمح إلى الخطابة وصحت عزيمته على مغالبة ذلك النقص والتغلب عليه، فكان في كل يوم يذهب إلى البحر فيملأ فمه بالحصى، ثم يقف أمام الموج المضطرب المصطخب، فيصيح الصيحات العالة، وما لبث أن تغلب على الفهاهة والعي وبات في طليعة الخطباء القادرين! تلك صورة أدنى إلى خيال الشعراء منها إلى تحقيق الثقات من المؤرخين، بل لعلها أسطورة من الأساطير التي تحيط بحياة عظماء الرجال عادة، أو التاج الذي يضعونه على رأس البطل، أو إكليل الغار الذي يضعونه على هامته، أو هالة المجد التي يحيطون بها تاريخه. فقد يكون صحيحاً أن الخطيب اليوناني كان يقف حيال الموج المصطخب فيرسل الصيحة عالية؛ على أن العقل لا يسلم بأنه كان عييَّاً، وكل ما يستطاع التسليم به أنه يروض نفسه على الكلام بنجوة من الناس.
وقد تبقى ملكة الخطابة دفينة إذا لم تتح الظروف لبعثها؛ وقد يظل الخطيب الموهوب خاملاً مغموراً إذا لم يوجد أمامه الميدان الذي تتجلى فيه مواهبه، ولولا الثورة الفرنسية ورغبة الفرنسيين في ثل عرش الاستعباد، وكسر قيود الاستبداد، وتقويض دعائم الماضي وتشييد صروح المستقبل وهدم النظم العتيقة البالية، وبناء النظم الدستورية الحديثة، وغرس مبادئ الحرية والمساواة والإخاء - لولا ذلك الغليان الفكري لما ارتفع (ميرابو) من غمرة الخمول إلى ذروة الشهرة والمجد. وما كان الزعيم الشاب مصطفى كامل لتتجلى مواهبه الخطابية،
فيلقي بالإسكندرية في عام 1907 خطابه الذي يعد برنامجاً وطنياً، لولا رغبة المصريين في الجلاء وتشييد صروح الاستقلال؛ بل لولا فورة عام 1919 ورغبة الشعب المصري في تقرير مصيره بنفسه، ما بات سعد زغلول الخطيب الخالد في التاريخ.
ولا مندوحة لمن ينشد الكلام أن يدرع بالعلم، فالخطيب ينبغي له أن يعلم ما يقول، وأن يعلم جمهور سامعيه منه جديداً، وإلا عد من تجار الكلام لا من الخطباء، وكان قوله ثرثرة لا طائل تحتها ولا غناء فيها، لا خطابة تحق حقد وتبطل باطلاً، وتنصر دعوة وتخذل أخرى، وتبث مبدأ قويماً وتكافح غيره فاسداً.
إن الخطيب الذي يقرأ شعر الشعراء ونثر الناثرين وخطب الخطباء، ويكون على اتصال روحي بالحركة العلمية والأدبية، لهو الخطيب الذي يعرف كيف يضفي على فكرته الثوب الذي يلائمها ويأتي بالصور الأخاذة والعبارات الخلابة والآراء الناضجة ويملك شعور سامعيه.
والخطيب الذي لا يعنى دائماً بتجديد ثروته العلمية واللفظية خليق ألا يسمع الناس منه إلا الرأي المبتذل، والفكرة الغثة التافهة، والعبارات الممجوجة المملولة.
على أن الإسراف في المطالعة يوشك أن يصيب المرء بنوع من الشلل العقلي، وإن شئت فإنه يصيب الذهنية الخصبة بضرب من الأجداب والأمحال، فمن يفكر برأس غيره دائماً، وينظر بغير عينه، ينتهي أن تشل حركة تفكيره فلا يفكر ولا يرى. ومن ير العالم من ثنايا الكتب يمش رجلاً خيالياً لا يدرك من شؤون العالم شيئاً. ومن لا يقتصد في المطالعة خليق أن يداخله اليأس فيهتف: ليس في الإمكان أبدع مما كان! وينادي: لا جديد تحت الشمس، ويصيح صيحة اليأس: ما ترك الأوائل للأواخر شيئاً!
والحق أن الأوائل خاضوا في كل شيء، على أنهم تركوا للأواخر كثيراً، ومن يذهب غير هذا المذهب فإنما ينكر حركة التطور العقلي والفكري في العالم.
ومن الناس من يلتهم الكتب التهاماً دون تفهمها والتغلغل في روحها، وخير من هذا للخطيب الطامح أن يطيل النظر في خطب الخطباء فيتذوق الأثواب التي يسبغونها على آرائهم، بغير أن يتعسف في محاكاة طرائقهم فلكل خطيب شخصيته وأسلوبه في عرض أفكاره.
ويجمل بمن يأنس في نفسه الاستعداد الخطابي أن يستمع إلى كبار الخطباء ليشهد وسائلهم
في بسط آرائهم وإقناع جمهور السامعين.
ومن نافلة القول أن يلفت الخطيب إلى وجوب تفهم نفسية الجماعة التي يوجه إليها الخطاب ليتولى إقناعها، فالخطب البرلمانية تفترق عن المرافعة في مجلس القضاء، والكلام في اجتماع انتخابي يختلف عن التحدث إلى مجمع علمي، على أن الخطيب الموهوب مطبوع على فهم روح الجماعة التي يخاطبها.
وفي كل حال ينبغي أن يتوفر في كل خطاب عناصر وضوح الفكرة وترتيب المنطق وروعة الأسلوب، ولكن التأنق في العبارة لا ضرورة له على الإطلاق، بل قد يأتي التزويق والتنميق هادماً لدعوى الارتجال الخطابي، والجمهور لا يتعنت فيطالب الخطيب بما يطالب به الكاتب، والأسلوب الذي يخلو من الكلفة والصنعة يكون أفعل في النفوس من الأسلوب الذي تغلب عليه البهرجة والتأنق. والخطيب الذي يتراءى أمام السامعين وقد ضاق صدراً بالعبارة التي يبرز فيها فكرته ثم يرفق إليها يكون شأنه في التأثير شأن من يلقي قنبلة، أو من يشهد بركاناً ينفجر. وإني لأذكر فيما أذكر قول أحد كتاب الفرنسيين إنه يؤثر بربرية (جمبتا) في الخطابة على أناقة (جوريس) فيها؛ فالغابة الطبيعية أحب إلى القلب، وأشهى إلى النفس، وأمتع للنظر من الغابة التي نسقتها يد الإنسان.
ولقد ألِفَ الكتاب تقسيم الخطباء إلى: قارئ، وحافظ، ومرتجل؛ فأما القارئ فهو الذي يتلو من ورقة يحملها بيده؛ وأما الحافظ فهو الذي يلقي خطابه عن ظهر غيب كما يلقي الطلبة محفوظاتهم في المدارس؛ وأما المرتجل فهو الذي يلقي من وجي الخاطر وحاضر البديهة.
ولقد دلت التجارب على أن السامعين يتبرمون بالخطيب القارئ، ويشيع السأم في نفوسهم، وبخاصة حين يلمحون أكداس الورق أمامه، وإذا لم يُجد الإلقاء جاءت عباراته بمثابة قطع الثلج تتساقط فوق رؤوسهم، وهم يؤثرون أن يتلوها حين يخلون إلى ضمائرهم ليتذوقوا جمال الأسلوب ونضوج الفكرة فيها. والخطب المكتوبة تدعو للإطالة والإسهاب فتبعث على الملل، ولذلك جرت التقاليد البرلمانية على تحريمها. ثم إن ما يغتفر للخطيب المرتجل الذي يلقي من حاضر البديهة لا يغتفر للخطيب القارئ الذي أمعن في التحضير وأطال في الكتابة. فالأول، خلال فورة الخطابة وغليانها، إذا جرح أحداً، أو فاه بعبارة نابية، افترض فيه حين النية، وسقط عنه ركن العمد. فأما الثاني وقد قال عبارته في دم بارد، وضمير
جامد، فإنه يتحمل الظروف المشددة المترتبة على العمد وسبق الإصرار.
على أنه لا مندوحة عن تلاوة الخطب الرسمية؛ فخطورة الموقف، ودقة المسئولية، تحتمان وزن العبارات، ولا تسمحان بمغامرات الارتجال الخطابي. وهنا تحضرني رواية (فون بيلوف) مستشار الإمبراطورية الألمانية قبل الحرب العالمية إذ قال في مذكراته أنه كان يعد لغليوم الثاني إمبراطور ألمانيا السابق الخطب التي يزمع إلقاءها في المواقف الرسمية الخطيرة، مخافة أن يتورط، وقت الاندفاع الخطابي، في عبارات تمس مسئولية الدولة الألمانية. على أن الإمبراطور كان كلفاً بالخطابة، وكان يزعم لنفسه قدرة على الارتجال لا تجارى ولا تبارى. وتحدد يوم ليلتقي بقيصر الروسيا على ظهر بارجة حربية، وأعدَّ له (فون بيلوف) الخطاب الذي سيلقيه، فما أن نهض غليوم للخطابة حتى ضرب صفحاً عن الخطبة الرسمية، وفاه بعبارات أقامت الدوائر السياسية البريطانية وأقعدتها؛ ففطنت الدبلوماسية الألمانية للمر، ونشطت لإنقاذ الموفق، وإصلاح ما أفسده زهو الطاووس.
والخطيب القادر على الارتجال لا يلبث أن يشعر بثقل قيود التلاوة حتى في أدق المواطن الرسمية وأخطرها. وسعد زغلول، وهو المثل الأعلى للخطيب المرتجل، كان يضيق بالتلاوة صدراً، فيلقي الأوراق من يده ويعمد إلى الارتجال، فيحلق في سماء البلاغة.
ولابد للخطيب الحافظ من ذاكرة جبارة لأنه إذا خانته الذاكرة بات في أدق المواقف وأحرجها؛ فقد يروى أن نائباً من نواب الإمبراطورية الفرنسية ألقى خطاباً شهد الجميع بأنه رائع فما لبث محرر صحيفة (الفيجارو) أن أماط اللثام عن أن الخطاب منتحل. فأقر النائب بمصدر الخطاب، وقال إن له ذاكرة قوية فيحفظ عن ظهر قلب أغلب ما يقرأ. وأنه قرأ ذاك الخطاب فوعته ذاكرته. فلما حمي وطيس الجدل في المجلس ألقاه وهو يؤمن بينه وبين نفسه (أنه له)! ودارت الأيام دورتها وأصبح عضواً بمجلس الشيوخ، فقام للخطابة وظل يهدر ويتدفق حتى اصطدم بكلمة فما يدري ما بعدها؛ ولبث يحاول ثم يحاول فلا يجد ما يقوله كأن ما بذهنه قد تبخر. فأنقذ رئيس المجلس الموقف بأن رفع الجلسة، فلما أعيدت نهض صاحبنا وعالج الكلام فلما بلغ تلك الكلمة ارتج عليه، وما كان يغني عنه أن يبدأ الجملة من أولها إذ كان عندما يبلغ تلك الكلمة يرتج عليه ثانية، فبادر الرئيس إلى إنقاذ الموقف برفع الجلسة نهائياً، وما ارتقى صاحبنا المنبر بعد ذلك أبداً.
والخطيب الحافظ إن لم يكن حسن الإلقاء، لطيف الإيماءة، كان ضعيف التأثير في سامعيه؛ وشعور الجمهور يهديه إلى اكتشاف الخطب المحفوظة عن ظهر قلب. فالألفاظ البراقة، والصور الخلابة، والعبارات المصقولة، والجمل المسجوعة، مضافة إلى الاندفاع الخطابي؛ كل أولئك يمزق القناع عن وجه الخطب المحفوظة ويهدم دعوى الارتجال من أساسها.
استغفر الله أن يفهم من قولي أن الخطيب لا ينبغي له أن يلبس فكرته ثوباً جميلاً، وإنما أريد أن أقول إن الخطيب الجدير بحمل هذا اللقب لا يجمل به أن يكون أسيراً لألفاظ رصها وعبارات رصفها. فليس العيب في العناية بإعداد الخطاب، وإنما العيب أن يكون الخطيب عبداً للاستعارات والمجازات والتشبيهات والكنايات، وعلى الجملة عبداً لكافة المحسنات اللفظية وعبارات البديع والبيان.
كان (جان جوريس) الخطيب الاشتراكي العظيم يعترف صراحة بأنه يعد خطبه ولا يرى في ذلك عيباً على الإطلاق. ففي 21 نوفمبر من عام 1893 كان يستجوب الوزارة الفرنسية عن سياستها العامة، فلما فرغ من خطابه نهض المسيو شارل ديبوي رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية للرد عليه فقال:(أعتقد أنكم بعد أن سمعتم خطاب مسيو جوريس تجدون بعض العناء في تصديق دعواه بأني لم أدع له الوقت الكافي لإعداد خطابه) فنهض جوريس وجهر بتلك العبارة: (إني لأشعر قلبي الاحترام لمنبر الخطابة ولزملائي فأعد ما ألقيه).
وكان (بربو) المحامي الفرنسي المدره يترافع يوماً فدفعت الصفاقة خصمه لأن يداعبه مداعبة ثقيلة، فقال: إن رائحة الزيت تنبعث من ثنايا مرافعته؛ كناية عن أنه أفنى الليل في إعدادها على ضوء المصباح. فأجاب (بربو): (ليس يضيرني أن يسجل علي أني أعد مرافعاتي بدقة، وإن إجلالي للقضاء يحول بيني وبين التورط في العبارات الجوفاء والصيحات الفارغة التي تجد لها موطناً في ساحة أخرى غير ساحة العدل)، وكان المحامي الخصم عضواً بمجلس النواب فأفحمته عبارة شيخ المحاماة.
ومن الأوهام الشائعة أن الارتجال في الخطابة يعني أن الخطيب ينهض ولم يعد خطبته، بل إن ذهنه خلو من كل ما يتعلق بالحديث الذي سيخوض فيه، ولسنا نتردد في الجهر بأن مثل هذا الخطيب عاجز إلا عن الثرثرة والكلام الأجوف الفارغ، وكل بضاعته ألفاظ طنانة
وعبارات رنانة لشد ما لاكها حتى حفظها عن ظهر غيب، فأصبح يتجر بها في كل موقف خطابي. وصدقوني أن الخطيب لا يستطيع أن يرتجل الكلام عن موضوع إلا إذا درسه دراسة عميقة، ولا يقوى على الارتجال في كل المواقف إلا إذا كانت له ثقافة عالية ومعلومات عامة واطلاع واسع في العلم والفلسفة والأدب والتاريخ؛ وفي كلمة، أن يكون عبارة عن (دائرة معارف). ولابد له من إعداد فكرته، أستغفر الله، بل لابد له من إعداد ألفاظه وعباراته قبل إلقاء خطابه، إنما لا ينبغي له أن يكون أسيراً لألفاظ بعينها أو عبداً لعبارات بذاتها وإلا انحدر إلى طبقة الخطباء الحافظين. وليست تهم طريقة إعداد الخطبة وإنما تهم إجادتها، فمن الخطباء من يفكر وهو يكتب، ومنهم من يفكر وهو يمشي، ومنهم من يفكر وهو يتحدث إلى صحبه، ومنهم من يفكر وهو في مضجعه، ومنهم من يفكر في الفترة بين دعوته للخطابة ووقوفه على المنبر؛ وإنما يلتقي الخطباء المرتجلون عند أمرين: سعة الاطلاع، وهبوط وحي الفكرة وسط حرارة الاندفاع الخطابي.
وما أخالك بعد هذا الشرح الموجز إلا قد فهمت مغزى عبارة (برييه) الخطيب الفرنسي العظيم: (إن سر الخطباء المرتجلين هو أنهم لا يرتجلون على الإطلاق).
عبد المجيد نافع المحامي
بين شوقي وابن زيدون
بقلم الدكتور زكي مبارك
تتمة
- 4 -
واشترك شوقي وابن زيدون في التفجع والحنين، أما ابن زيدون فيقول:
يا جنة الخلد أُبدِلْنا بسَلْسلها
…
والكوثر العذب زقوماً وغسْلينا
كأننا لم نبتْ والوَصلُ ثالثُنا
…
والدهر قد غض من أجفان واشينا
سِرَّان في خاطر الظلماء يكتُمنا
…
حتى يكادَ لسانُ الصبح يُفشينا
لا غَرْوَ أنَّا ذكرنا الحبَّ حينَ نهتْ
…
عنهُ النُّهى وَتركنا الصبرَ ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً
…
مكتوبةً وأخذنا الصبرَ تلْقيِنا
أما هَواَكِ فلم نعدِلْ بِمَنهَلهِ
…
شِرباً وإن كان يُروينا فيُظمينا
لم نجفُ أُفقَ جمالٍ أنتِ كوكبهُ
…
سالينَ عنه ولم نهْجُرْهُ قالينا
ولا اختياراً تجنبناكِ عن كثب
…
لكن عَدتنا على كرهٍ عوَادينا
والشاعر في هذه الأبيات يصف أيام الوصل أجمل وصف، ويرى نفسه انتقل من كوثر الخلد إلى الزَّقوم والغسلين، ويرى ورد الهوى القديم شرباً لا بعد له شرب، وإن كان يرويه فيظميه، ونعيم الوصل يرهف الحس فيزيد القلب ظمأ إلى ظمأ والتياعاً إلى التياع، وتحدث الشاعر عن البين فذكر أنه لم يقع عن سلوة ولا صدود، وإنما أكرهته العوادي.
ويروقنا هذا التعبير المؤنق:
(لم نجفُ أفقَ جمالٍ أَنتِ كَوكبُه)
فكأن الدنيا كانت لعهده أفقاً من المفاتن، وكانت محبوبته كوكب ذلك الأفق المطلول بأنداء الفتون.
هذا جزع من صنع الدهر صرخ به ابن زيدون، وعارضه شوقي فقال يصف قسوة الليل وقسوة الفراق:
ونابغىٍ كأنَّ الحشرَ آخِرُهُ
…
تُميتُنا فيهِ ذِكراكم وتحيينا
نطوي دُجاهُ بجُرحٍ من فِرَاقِكُمو
…
يكاد في غَلَسِ الأسحار يطوينا
إذا رسا النَّجم لم ترقأ محاجرنُا
…
حتى يزولَ وَلم تهْدَأ ترَاقينا
بتنا نُقَاسي الدَّوَاهِي مِنْ كَوَاكِبِه
…
حتى قَعَدْنا بها حَسرَى تُقاسينا
يبدُو النهارُ فيُخفِيه تجلدُنا
…
للشَّامِتِينَ ويأسُوه تأسِّينا
وهذا من الشعر الرفيع، ومن العجز ألا نجد غير هذا الوصف، وإلا فكيف نصل إلى بيان الفتنة في هذا البيت:
يطوي دُجاهُ بجرح من فراقكمو
…
يكادُ في غلس الأسحار يطوينا
أترون كيف يطوى الدجى بالجرح؟ أترون كيف تكون الجراح أعظم من ظلمات الليل؟
ثم ما هذه الوثبة الشعرية حين يقاسي الشاعر بطء الكواكب، ثم ينظر فيراها ابتليت به فباتت تقاسيه، وهي حسرى لواغب؟ والشاعر قد يعظم سلطانه على الوجود فيرى الدنيا تجزع لجزعه وتأسى لأساه.
وكان الشعراء الأقدمون يرون النهار يبدد الأشجان يفضل ما فيه من الشواغل، أما شوقي فيرى أشجانه لا تهدأ نهاراً إلا بفضل التأسي والتجلد للشامتين.
- 5 -
بقي النظر فيما تفرد به الشاعران
ونحن نرى ابن زيدون تفرد بهذين البيتين في خطاب حبيبته التي أقصاه عنها الزمان
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة
…
فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغنِّينا
لا أكؤس الرَّاح تبدي من شمائلنا
…
سِيما ارتياحٍ ولا الأوتارُ تلهينا
وهذا من أدق المعاني النفسية، فالشراب والعناء يهيجان العواطف الغافية، ويبعثان الوجد الدفين؛ وللشوق في أمثال هذه اللحظات لذعات أعنف من الجمر المشبوب. وأين الجمر بجانب ما يثور في القلب عند الشراب والسماع؟ إن هذه لحظات تكشف المقنع من سرائر النفوس، وتصنع ما تصنع الحمى العاتية حين تنطق المحموم بأسماء لم يهذ بها لسانه ولا وجدانه منذ سنين.
وقول ابن زيدون:
ولو صبا نحونا من علو مطلعه
…
بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
هو أصل المعنى الذي ساقه شوقي في السينية:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
…
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهو أخذ رفيق لا يحاسب على مثله الشعراء
وتفرد شوقي بالفخر، الفخر بنفسه وبأمجاد النيل، فقال:
لم يجر للدهر إعذارٌ ولا عُرس
…
إلا بأيامنا أو في ليالينا
ولا حوى السعدُ أطغى في أعنَّته
…
منَّا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحن اليواقيتُ خاض النارَ جوهرُنا
…
ولم يَهُن بيدِ التشتيت غالينا
ولا يحول لنا صِبغ ولا خُلقٌ
…
إذا تلوَّن كالحرباء شانينا
لم تنزل الشمس ميداناً ولا صعِدت
…
في ملكها الضخم عرشاً مثل وادينا
ألم تُؤلّهْ على حافاته ورأت
…
عليه أبناءها الغُرَّ الميامينا
إن غازلت شاطئيه في الضحى لبسا
…
خمائل السندس الموشية الغينا
وبات كل مجاج الواد من شجر
…
لوافظَ القزِّ بالخيطان ترمينا
وبهذا دافع الشاعر عن الوثنية المصرية أجمل دفاع، وهل عبد المصريون الشمس إلا لأنهم عرفوا فضل الشمس؟ وما الدنيا بدون الشمس إلا وجود تافه سخيف!
وشوقي لم يعن إلا نفسه حين قال:
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا
…
ولم يَهُن بِيدَ التَّشتيت غالينا
وقد صدق، فقد قامت في وجه الرجل أحداث تهد الجبال، وانتاشه الخصوم أشد انتياش، ولكن من كان يملك مثل قلبه وإحساسه وشاعريته يصعب هدمه، وإن تكاثرت المعاول، واستحصدت سواعد الهادمين
وتفرد شوقي بالحديث عن الأهرام فقال:
وهذه الأرض من سهل ومن جبل
…
قبل القياصر دِنّاها فراعينا
ولم يضع حجراً بان على حجر
…
في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن أهرام مصرَ حائط نهضت
…
به يدُ الدهر لا بنيانِ بانينا
إيوانه الفخم من عُليا مقاصره
…
يُفنى الملوك ولا يُبقي الأواوينا
كأنها ورمالاً حولها التطمت
…
سفينة غرقتْ إلا أساطينا
كأنها تحت لألاء الضحى ذهباً
…
كنوز فرعون غطين الموازينا
وللقارئ أن يتأمل هذه الأبيات، له أن يتأمل قوة الفخر في هذا البيت:
ولم يضع حجراً بان على حجر
…
في الأرض إلا على آثار بانينا
وله أن يعجب من روعة الخيال في هذا البيت:
كأن أهرام مصر حائط نهضت
…
به يد الدهر لا بنيان بانينا
وله أن يتأمل دقة التشبيه في هذا البيت:
كأنها ورمالاً حولها التطمت
…
سفينةٌ غرقت إلا أساطينا
ذلك شوقي وتلك آياته البينات.
- 6 -
وتفرد ابن زيدون بوصف الجمال الإنساني، وتفرد شوقي بوصف الجمال الطبيعي. أعطى ابن زيدون محبوبته صورة هي تحفة في الصور الإنسانية، وأعطى شوقي مفاتن النيل صورة هي غرة في الصور الطبيعية؛ أما صورة النيل فقد رآها القارئ من قبل. وأما محبوبة ابن زيدون فقد صورها بهذه الأبيات:
ربيبُ ملكٍ كأن الله أنشأهُ
…
مسكاً وقدَّر إنشاَء الورى طينا
أو صاغه وَرقاً محضاً وتوَّجه
…
من ناصع التبر إبداعاً وتحسينا
إذا تأوَّدَ آدتهُ رَفاهيةً
…
تومُ العقودِ وآدته البرى لينا
كانت له الشمسِ ظئراً في أكلَّته
…
بل ما تجلى لها إلا أحايينا
كأنما أُثبتت في صحن وجْنتهِ
…
زُهر الكواكب تعويذاً وتزيينا
ما ضرَّ أن لم نكن أكفاَءه شرفاً
…
وفي المودة كافٍ من تكافينا
وهذه نظرة شاعر يعرف جواهر الصَّباحة. وفي الحسن ألوف من الأفانين يعرفها الراسخون في علم الجمال، فالجمال المنعم غير الجمال المحروم، والزهر النضير الذي يضاحك الشمس في حديقة غناء بقصر من قصور الملك، غير الزهر الظمآن المنسي الذي يتفتح وهو مهجور في ربوة قاصية لا يعرفها غير الذئاب. إن جواهر الجمال تختلف أشد الاختلاف، ولكل لون من ألوان الجمال وحي خاص. وجوهر الشعر يتبع جوهر الجمال، وهل يمكن أن يكون ما يوحيه الجمال المحجب شبيهاً بما يوحيه الجمال المباح؟ إن الطبيعة
قد يبدو لها أحياناً أن تكايد الناس فتنشئ من الحسن في حي بولاق ما تغيظ به الناعمين في حي القصر العالي، ولكنها لا تفلح، فالجمال الذي ينبت في البيئات السوقية يظل سوقي الشمائل والنوازع، أما الجمال الذي يفتح في البيئات المنعمة فيظل ملحوظ المشارب والميول.
فمعشوقة ابن زيدون ربيبة ملك، وربيبة الملك تألف السيطرة منذ أيام المهد، ويظل دلالها طول الحياة دلالاً سماوياً يأخذ فيضه من قوة الطبع، لا من لؤم التمنع، وينزل رضاها على القلب نزول الطل على الريحان. وابن زيدون يتمثل محبوبته خلقت من المسك، ويرى الناس ما عداها خلقوا من طين، وكلمة (طين) وقعت قبيحة في شعر ابن زيدون، إلا أن يكون أراد الإشارة إلى بعض الناس؛ والمرء حين يغضب يرى الناس خلقوا من طين، وإن كان الطين أشرف من بعض من نرى من المخلوقات؛ والطين تربة يحيا بها الزهر ويتغذى منها الشوك، وفوقه تتخطر الظباء، وعليه تزحف الأفاعي والصلال.
وبلغ ابن زيدون نهاية الترفق حين قال:
إذا تأوَّد آدته رفاهية
…
توم العقود وأدمته البرى لينا
والجمال الذي تؤذيه العقود والدمالج والأساور والخلاخيل جمال غض رقيق يشبه في رقته نواظر العيون، ولفائف القلوب، وهذا الجمال منثور في المدائن نثر الزهر واللؤلؤ، ولولا وجوده في هذه الدنيا لما عرف شاعر قيمة النعمة العظيمة، نعمة البصر والحس والذوق، لولا الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفيء ظلاله غبي ولا لئيم لأقفرت الدنيا من الشعر وخلت من الأنفاس العطرة، أنفاس الشعراء؛ لولا الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفئ ظلاله غبي ولا لئيم لما استطاب شاعر سهر الليل، وألم الجفون. وهل يعني القلب في سبيل الجمال المبتذل الذي ترنو إليه جميع العيون؟ إن الجمال المبتذل شبيه بالكوكب المتهالك الذي لا تألم من النظر إليه عين رمداء، أما الجمال المنعم المصون فشبيه بالشمس لا يقوى على النظر إليه إلا الفحول من الشعراء، والأقطاب من الكتاب، هو الجمال الفرد؛ ولا يصاوله إلا الرجل الفرد، وإن كان يتواضع فيقول:
ما ضرَّ أن لم نكن أكفاءه شرفاً
…
وفي المودة كافٍ من تكافينا
هذا تواضع، فإن جوهر الحب في قلب الشاعر أنفس من جوهر الحسن في وجه الجميل.
وهل تعربد معاني الصباحة في الوجه المليح كما تعربد عرائس الشعر في قلب الشاعر الذي يقلى الأنوار والظلمات وحوله جيش من الهوى المتمرد والوجد المشبوب؟
إن قلب الشاعر جوهر نفيس، ولولا فضله على الدنيا ما عرف أحد جمال الصبح المشرق، ولا تنبه مخلوق إلى لمح الكواكب ولألاء النجوم، ولا تلفت باحث إلى شعر ابن زيدون وقد طمره الزمن بتسعة أحجار تسمى تسعة قرون.
- 7 -
ثم ماذا! بقي أن نشرب صبابة الكأس من نونية شوقي، وكل صبابة في الكأس صاب، بقي أن نتوجع لبلواه وهو يتشوق إلى مصر فيقول:
أرض الأبوّة والميلاد طيبها
…
مر الصبا في ذيول من تصابينا
كانت محجَّلة فيها مواقفُنا
…
غرّاً مسلسلة المجْرى قوافينا
فآب من كُرة الأيام لاعبُنا
…
وثاب من سِنة الأحلام لاهينا
ولم ندع للَّيالي صافياً فدَعتْ
…
(بأن نغص فقال الدهر آمينا)
لو استطعنا لخضنا الجو صاعقة
…
والبر نار وغى والبحر غسلينا
سعياً إلى مصر نقضي حق ذاكرنا
…
فيها إذا نسي الوافي وباكينا
أرأيتم هذا الشعر؟ أرأيتم الخيال في هذا البيت:
فآب من كرة الأيام لاعبنا
…
وثاب من سنة الأحلام لاهينا
أرأيتم صورة الهول المقتحم في هذا البيت:
لو استطعنا لخضنا الجو صاعقة
…
والبر نار وغى والبحر غسلينا
ثم ماذا؟ بقي ختام القصيدة، وهي أبيات ما قرأتها إلا بكيت على أمي يرحمها الله. وانظروا كيف هفا قلب الشاعر إلى أمه في حلوان:
كنز بحلوان عند الله نطلبه
…
خير الودائع من خير المؤدينا
لو غاب كل عزيز عنه غيبتنا
…
لم يأته الشوق إلا من نواحينا
إذا حملنا لمصر أو له شجناً
…
لم ندر أي هوى الأمين شاجينا
طيب الله ثراك أيها الشاعر، ورحم والدي ووالديك، فالدعاء في أعقاب شعرك كالدعاء في أعقاب الصلوات.
زكي مبارك
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
مقدمة لابد منها
نشر نيتشه كتابه هذا في أربعة أجزاء بين سنتي 1883 و1885، فأشعل ثورة فكرية لا في ألمانيا فحسب، بل في سائر الأقطار الأوربية والعالم الجديد. ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية، فلم يسمع بنيتشه وفلسفته حتى مر زهاء ثلث قرن، فورد اسمه على بعض الأقلام عرضاً، وكل ما عرف عنه حينذاك في هذه البلاد هو أنه يدعو إلى مذهب تمجيد القوة والعمل على إيجاد الإنسان الأعلى بالقضاء على كل اعتقاد يشل الإرادة ويثبط الهمم في معترك الحياة.
وفي الواقع أن نيتشه الفيلسوف الألماني الأشهر قد دعا إلى هذا المذهب ليعارض الفلسفة الدينية التي أخذ بها الغرب عن المسيحية فأغرق في احتقار الحياة باسمها، وضل ضلالاً بعيداً في تفهمها، إذ اعتبرها دعوة عن الإعراض عن الزائلة إعراضاً تاماً، ورأى الكمال للإنسان في التقشف والزهد والترفع حتى عن العاطفة الجنسية التي يقوم الكون عليها.
ولاح لنيتشه أن هذه النظريات الاجتماعية منحدرة من الإيمان بالخالق وخلود الروح ما وراء المنظور فثار بعقله الجبار عليها وأنكرها جاحداً معها كل إيمان بغير الإنسان نفسه والحياة نفسها
ولو كان تسنى لنيتشة أن ينفذ إلى حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه لكان تجلى له إيماناً بالقوة التي ترفع الضعفاء، لا بالضعف الذي يسلط الأقوياء عليهم. ولو كان تسنى لنيتشه أن يستنير بما في الإسلام من مبادئ اجتماعية عليا لأدرك أنه باتباع مثل هذه المبادئ ينشأ الإنسان الأعلى لا بالالتصاق بالأرض دون الالتجاء إلى السماء.
ولقد يلوح للبعض أن لا فائدة من ترجمة نيتشه إلى العربية لأن فلسفته راسية على الجحود؛ أما نحن فنرى أن خلو المكتبة من هذا المؤلف الذي أثر التأثير الكبير في تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن الثامن عشر في العالم الغربي يعد نقصاً فيها وقصوراً
علينا؛ إذ لم يتردد أي شعب في نقله إلى لغته. وفوق ذلك فإن ما يتجلى في فلسفة نيتشه من جحود لا نراه يتجه إلى الله الواحد الأحد الذي نعبده وبوحيه ندين، بل هو يتجه إلى الألوهية المزيفة التي ارتسمت في ذهنه من إدراكه الناقص لحقيقة الوحي كما يفهمه المؤمنون
فلنمر، إذن، بجحود نيتشه باسمين، ولنقف عند نظراته في الحياة مفكرين
إن في كتاب زرادشت من المبادئ الاجتماعية ما يجدر بنا الوقوف عنده، لأنه يتفق والقاعدة التي وضعها الإسلام للحياة بحديث للنبي (صلعم) على قول، أو بكلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر وهي:
(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.)
لقد أدرك نيتشه الشق الأول من هذه الحكمة، وفاته الشق الأخير فلم يأمن الضلال والعثار؛ أما نحن أبناء هذا الشرق العربي فآخر هذه الحكمة راسخ في أعماق نفوسنا مما يجعل الشق الأول منها هداية لا ضلالاً
هذا وإننا سنورد في آخر الترجمة بعد بسط فلسفة نيتشه التحليل الذي تقتضيه لإظهار فاسدها وصحيحها، فنقف في وجه المادية التي تطغى موجتها على المدنية، ونثبت أن لا خير في حضارة يعمل الإنسان فيها لدنياه كأنه يعيش أبداً دون أن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً.
فليكس فارس
وسنوالي نشر الكتاب كاملاً ابتداء من العدد القادم
كلمة أخيرة
حول (نبوة المتنبي أيضاً)
للأستاذ سعيد الأفغاني
قرأت للأخ شاكر مقاليه الأخيرين المطولين جداً في الرسالة (171، 172) فإذا ما أريد أن أقوله قد قلته سابقاً في الرسالة (170) فليرجع إليه فهو رد على مقاليه هذين أيضاً
لما عرف الأستاذ شاكر أنا (لا نحفر رداً ولا نقداً إلا إذا كان حقاً، وسبيلنا حينئذ أن نأخذ به أنفسنا ونشكر لصاحبه.) عاذ بذلك فراغ روغة عدل فيها بالكلام عن وجهه الذي يجب أن يكون فيه، فلم تظفر اعتراضاتنا - لسوء حظها - منه بجواب. وقد كنا طلبنا اليه التعرض لهذه الأخبار التي رماها جملة بالكذب فيبين وجوه بطلانها والسبب الحادي لرواتها على وضعها ببيان يزيل اللبس ويرضي الأمانة والعقل، فأبى وطفق يتعلق بتوافه الأمور: فهذا كلام شغل أربعة أعمدة من (الرسالة) في تزييف رواية اللاذقي وقد عرف القراء قيمتها عندنا، وذاك كلام يعرض لبسطي عذري في التأخر بالرد، وذلك كلام آخر طويل يدور حول ياء سقطت من كلام له نقلناه. . . الخ
استوفى الأخ ستة عشر عموداً زوى عنا فيهن حججه المزعومة ونافع بيانه وأطلق قلمه فسطر من القول النبيل ما نمر به مر الكرام؛ ولما أشرف على الختام قال: (وتعب أن أمضي على هذا الوجه في تعريف الأستاذ سعيد بوجوه بطلان كلام هؤلاء الناس الذي نقل كلامهم.) وقد علم أصلحه الله وعلم القراء أن البحث والحوار كله يدور حول هذا فقط، ففيم الهرب منه والاشتغال بغيره؟ ولست أنا الذي ادعي بطلان الروايات فأحتاج لمعرفة وجوه البطلان، وإنما نفع ذلك وغناؤه - إن تم - عائدان عليه وحده، فهو الذي ألف واستهدف، وهو الذي ادعى وأعوزه البرهان.
وقد كنت ظننت أني مع أستاذ يعينني في إزالة ما حول هذا البحث من شبه بالعلم الواسع والحجة البالغة ولطف التأني وحسن القصد، فإذا بي أمام امرئ يريدها جدلاً ومراء أو استطالة قول وحب غلبة مع معرفته من نفسه الحدة وضيق الصدر.
فما أنا - وقد عرض الأستاذ لنا أدبه عرضاً صحيحاً - بالذي يجاريه في أسلوبه. وكل ما تفضل به من غمز احتل من كلامه محل الحجة لا يحدوني على مقابلته أو مشاكلته، ولا
على الخروج على قاعدتي التي أطمعته فورطته وكانت خليقة منه بغير ما فعل.
ليت الأستاذ شاكراً كان تريث قليلاً فلم يحرص على صدور رده عقب كلمتي بلا تأخر، ولم يخرج عما أخبرنا من طبعه في الإبطاء والتخلف، فإن الناس لا يقدرون الكلام بسرعة صدوره، وإنما يقدرونه بما يحمل من الحق والصواب.
ليته تريث وتدبر وأنعم في كلامه وكلام غيره، إذن لما أعجله حب الرد للرد فجعله ينقض فكرة هي له على أنها لغيره، ويستنجد لدفعها بالعربية والمنطق والأصول؛ وبيان ذلك باختصار أنه:
كان أشكل عليه في كلام أبي علي بن أبي حامد أمر الوثيقة التي كتبوها على المتنبي بعد أن استتابوه من دعوى النبوة؛ فذهبنا نحن إلى أنها في إبطال علويته لا تنبئه، وأمر علويته ورد في روايات ثانية، فكان من الأستاذ أن أورد رواية أبي علي ثم علق على كلامنا فيها بقوله:(الرسالة ص1665)
(فأنت ترى أن لا ذكر للعلوية في هذا الخبر ولا في غيره مما روي عن علي بن أبي حامد هذا، فكيف يتأتى لك أن تقحم العلوية فيه وهو لم يذكرها فيه ولم ترد عنه في خبر غيره، ثم تعمد إلى الكلام فتؤول بعضه على النبوة وبعضه على العلوية فتجعل التوبة للأولى والوثيقة للآخرة؟)
والذي قلناه نحن هو هذا (الرسالة 170): (وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض ولا داع لأن يرجح الأستاذ (ص 49) من كتابه إقحام لفظ النبوة بين العلويتين في حديث الهاشمي، وليقول:(إن المراد بالنبوة (تأمل) في حديث أبي علي بن أبي حامد العلوية) فمن المقحم ومن المؤول أيها البحاثة المحقق الذي لا ينسى اليوم ما قاله أمس؟! ثم قلنا: (فعلوية أبي الطيب التي أراد أن يفسر بها النبوة الواردة في الروايات على اختلاف مصادرها لم تسلم له من الأصل، وبقي المتنبي جعفياً يمنياً، وإذا كان لابد (تدبر) من إيراد احتمال فالأولى أن تجعل العلوية الثانية من زيادات النساخ وإقحامهم. على أن الروايات في غنى عن هذا الفرض أيضاً (تأمل وتدبر) وليس فيها داع إلى شكل أو تأويل. فمن الغريب جداً أن ينكر أبو الطيب دعوى النبوة من ساعة القبض عليه وأن يظل على العلوية طول أيام سجنه حتى كتابة الوثيقة)
فنظرية الإقحام أنت قلت بها أيها الأستاذ الجليل لا نحن، وكلمتنا بدئت بقولنا (إذا كان لابد من احتمال) أما كلمتك فبدئت:(إن المراد بالنبوة في حديث أبي علي. . العلوية ص 49 من كتابك القيم) وأياً كان صاحب اكتشاف الإقحام ومؤول النبوة بالعلوية فهو ونظريته خليقان بما تفضل به الأستاذ من استنكار واستبشاع.
لقد رماني الأستاذ بدائه: عدم التدبر والتحريف، وأراد أن يتناول فكرة لي كيفما اتفق له لينقدها، فوقعت يده على فكرته هو منقولة في كلامي! وقاتلك الله العجلة، فقديماً ذكروا أن تاجراً أضمر أخذ عدل من أعدال شريكه فوضع رداءه عليه ليعرفه في الظلمة؛ ثم ذهب وجاء رفيقه ليصلح أعداله فوجد رداء رفيقه على عدله وظن أنه نسيه فرفعه ووضعه على عدل شريكه. ولما كان الليل أتى الشريك بحمال واطأه ففتح الحانوت واحتمل العدل الذي عليه الرداء وأخرجه هو والرجل، وجعلا يتراوحان على حمله حتى أتى منزله ورمى نفسه تعباً، فلما أصبح افتقده فإذا هو بعض أعداله!!
فعلى القارئ المتتبع أن يرجع حيثما وجد نقلاً لكلامي إلى الأصل المنقول عنه فلست أفرغ دائماً لبيان ما حرف ولا أحتمل إلا تبعة ما قلت على ما قلته بحروفه، غير مروي بكلام من غيري. ومن أول كلامي بجمل من عنده ثم شرع في ردها فإنما رده على تأويله فحسب
كان رغب إلينا الأخ شاكر ألا نتبع ظننا في أنه من أهل الغرور والذهاب بالنفس والجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم والجدال فيما لا جدوى منه ولا منفعة. وقبل كلمته هذه كان ادعى لنفسه تدبراً وإمعاناً وأصولاً ودراية، ثم في الأخير حلماً عند المقاتل البادية حين لمزنا بالحاجة إلى هذه الصفات، وكلام كلينا معروض لمن أراد تثبتاً، وسبحان الذي قال:(كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
فهل أجد حرجاً في أن أقول ثانية (صحف الرسالة أحوج إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاص) وإن القراء (لا يخفى عليهم وجه الحق في كلام اثنين، ولا يصرفهم عنه نيل من صاحبه ومراوغة في الحط منه)، وحرام أن أقتل الوقت في تتبع المزالق التي زل فيها صاحبنا في مقاليه هذين، فما هي بنافعتنا فيما ظهر لتباين أسلوبينا في البحث و (اختلاف في الجبلة) على ما قال الأخ شاكر.
وما أنا بعائد إليه لأن الحقيقة لم تفد شيئاً بخوض هذا البحث معه، ولن أجاري أخي في
طريقه التي سلكها فما هي لي بطريق، ولا أرب لي بتعسف المتاهات، ولولا أن يظن العجول من القراء أن نظرية الإقحام وتأويل النبوة بالعلوية التي رماني بها الأستاذ على عجلة وخطأ هي نظريتي وفكرتي لما خططت حرفاً من كلمتي هذه.
وبعد، فليس عندي لأخي الأستاذ على أقواله في غير السلام.
سعيد الأفغاني
الفصل في نبوة المتنبي من شعره
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
يعتمد الباحثون في نبوة المتنبي على تلك الأخبار المتناقضة في أمر نبوته، فيذهبون فيها مذهبين متناقضين: فريق يجزم بوقوع هذه الدعوى منه، وفريق يجزم بأنها من اختراع أعدائه؛ وكل فريق يتعصب للأخبار التي تؤيد مذهبه، ويجزم بصحتها كل الجزم، ويطعن في صحة الأخبار التي لا توافق مذهبه، وتؤيد مذهب الفريق الآخر، وقد ضاع الحق في ذلك بين التعصب للمتنبي والتعصب عليه، ولم تنهض فيه حجة واضحة تقطع بالحق من ذينك المذهبين، وتقضي على هذا الخلاف الذي لم ينته إلى الآن.
ولا خلاف بين الفريقين في إطلاق لقب المتنبي على أبي الطيب، وإنما الخلاف في أنه أطلق عليه لادعائه النبوة في حداثته، أو لقوله:
أنا تِرب الندى وربّ القوافي
…
وسِمام العدى وغيظ الحسُود
أنا في أمةٍ تداركها الل
…
هـ غريب كصالح في ثمود
ما مُقامي بأرض نخْلة إلا
…
كمقام المسيح بين اليهود
هذا هو ما حكاه أبو الفتح عثمان بن جني عن أبي الطيب نفسه؛ وأما الأول فحكاه أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي قال: قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة نيف وعشرين وثلثمائة وهو لا عذار به، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته، فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته، واقتباساً من أدبه، قلت: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير، فقال: ويحك أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل، فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له ما تقول؟ فقال أنا نبي مرسل، فقلت له: إلى من مرسل؟ فقال إلى هذه الأمة الضالة المضلة. قلت تفعل ماذا؟ قال: أملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً. قلت بماذا؟ قال: بإدرار الأرزاق، والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الرقاب لمن عصى وأبى. فقلت له: إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه، وعذلته على ذلك، فقال بديهة:
أبا عبد الإله مُعَاذ إني
…
خفيٌّ عنك في الهيجا مقامي
ذكرتَ جسيم مطَّلبي وأني
…
أخاطر فيه بالمُهج الجسام
أمثلي تأخذ النكباتُ منه
…
ويجزع من ملاقاة الحمام
ولو برز الزمان إلي شخصاً
…
لخضَّب شعر مفرقه حُسام
وما بلغت مشيئتها الليالي
…
ولا سارتْ وفي يدها زمامي
إذا امتلأت عيون الخيل من
…
فويل في التيقظ والمنام
ثم ذكر بعد هذا أنه لم يزل معه حتى قال له: أبسط يدك اشهد أنك رسول الله، قال: فبسط يده فبايعته بيعة الإقرار بنبوته، ثم قال:
أيَّ محلٍّ أرتقي
…
أيَّ عظيم أتقي
وكلُّ ما قد خلق الل
…
هـ وما لم يخلق
محتقر في همتي
…
كشعرة في مفرقي
وقد يكون هذا الذي ذكره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي صحيحاً، ولم يكن المتنبي إذا صح أنه ادعى النبوة أول من ادعاها في الإسلام، فقد ادعاها قبله وبعده خلق كثير، وقد يكون هذا غير صحيح؛ وربما يؤيد هذا أن الأبيات الأولى رويت في ديوانه على أنه قالها وقد عزله معاذ في إقدامه في الحرب، وأن الأبيات الثانية لا تتفق مع دعواه النبوة، وكثير من الناس يتخذها دليلاً على إلحاده.
وقد يكون ما رواه ابن جني هو الصحيح، وله شواهد كثيرة في الأدب العربي، ومن هذا أن شاس بن نهار من شعراء الجاهلية لقب بالممزق لقوله:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلاً
…
وإلا فأدركني ولما أُمزَّق
وأن محصن بن ثعلبة وهو شاعر جاهلي أيضاً لقب بالمثقب لقوله:
رددْن تحية وكنَنَّ أخرى
…
وثقبن الوَصاوِصَ للعيون
وأن خداش بن بشر المجاشمي وهو شاعر إسلامي لقب بالبعيث لقوله:
تبعث نمي ما تبعثُ بعد ما
…
(م) استمر فؤادي واستمر عزيمي
ومن ذلك أن جران العود العبدي سمي بهذا لقوله:
خذا حذراً يا جارتي فانني
…
رأيت جرانَ العود قد كاد يصلح
فخوفهما بسير قدَّ من صدر جمل مسن
ومن ذلك أن المرقش الأكبر لقب بهذا لقوله:
الدار قفر والرسومُ كما
…
رقَّش في ظهر الأديم قلم
واسم المرقش ربيعة بن سعد بن ملك
ومن ذلك أن مدرج الريح لقب بهذا لقوله:
ولها بأعلى الجزع رسمٌ دارس
…
درجت عليه الريح بعدك فاستوى
فإذا نظرنا إلى هذه الأخبار المتناقضة في ذاتها لم تشف غليلنا في هذه النبوة المزعومة؛ وليس أمامنا فيها إلا اللجوء إلى ما سموه علم الجرح والتعديل، وإني لا أثق كثيراً بهذا العلم، لأنه مختلف أيضاً في أمر رواة الأخبار، ولأنه يعتمد على ظاهر أمرهم وهو لا يدل حقيقة عليهم.
فلا بد من اللجوء إلى أمر آخر يشفي غليلنا في أمر هذه النبوة، وذلك الأمر هو الشعر الذي قيل في العهد الذي يقال إن المتنبي ادعى فيه هذه الدعوى، وسنبدأ بهذا في المقال الآتي
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون المستشرق الإنجليزي
المدخل لتاريخ العرب
- 2 -
وإذا وجدنا أن اللغة لا تجري فحسب على ألسنة الشعراء الجوالين (الذي كانوا عادة على جانب من الثقافة) أو عرب الحيرة المسيحيين، بل تتداولها ألسن الرعاة واللصوص والبدو الغلاظ في كل البقاع، إذا وجدنا هذا فليس ثمت داع للشك في أننا نسمع من خلال شعر القرن السادس اللغة العربية التي كانت مستعملة في طول بلاد العرب وعرضها. وقد زاد انتصار محمد والفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين من شأن هذه اللغة وأصبحت العربية لساناً مقدساً في جميع الأمصار الإسلامية. ولا مراء أن الفضل في هذا يرجع إلى القرآن، ولكن من ناحية أخرى أمر اعتبار لهجة مكة (التي نزل بها القران) الأصل للعربية، وتسمية العربية (لغة قريش) كافٍ لدحض كل حقيقة حول هذا الموضوع. وقد اتخذ محمد (ص) - كما لاحظ نلدكه - الشعر القديم مثالاً. وفي صدر الإسلام كانت سلطة الشعراء الجاهليين (وقليل منهم كان من قريش) هي التي ثبتت قدم اللغة الفصحى وعممت استعمال الأسلوب الفصيح. وطبيعي أنن يكون المسلمون - وهم الذي عدوا القران كلمة الله والمعجزة البالغة في أسلوبها - قد قدموا لهجة قبيلة النبي على كل لهجة أخرى، كما أنكروا القول بأن كل قبيلة أبعد من مكة أقل فصاحة، ولكن هذه النظرة لا تلقى قبولاً لدى الباحث المحايد. ولو أنه كان للقران تأثير عظيم في تاريخ اللغة العربية وآدابها، وسنرى في فصل خاص أن ضرورة حفظ أصل الكتاب الكريم سليماً، وشرح غوامضه بعثت المسلمين على استنباط علم النحو واللغة، ودعت إلى جمع شعر الجاهلية والأخبار التي لابد قد تطرق إليها الضياع. ولما استقر العرب - كفاتحين - في سورية وفارس واختلطوا بالشعوب الغريبة عنهم، لم تلبث لغتهم محافظة على فصاحتها الأولى، أما في بلاد العرب نفسها وخاصة بين بدو الصحراء فلم يكن الفارق محسوساً، وكذلك في البلدان المجاورة ومراكز التجارة الكبرى كالبصرة والكوفة حيث كان معظم السكان من الأجانب الذين اعتنقوا
الإسلام وسرعان ما استعربوا؛ وظل الباب مفتوحاً على مصراعيه لجميع ضروب الفساد. وقد أعلن علماء اللغة حرباً ضروساً على هذه العربية التي شابتها العجمة، وإن الفضل في انتصار العربية الفصحى وتغلبها على الأخطار الجسام التي هددتها ليرجع إلى ما بذله هؤلاء من جهود، وبالرغم من أن لغة البدو الوثنيين لم تبق كما هي - أو ظلت على أي حال حية على ألسنة المتحذلقين والشعراء فحسب - إلا أنها أصبحت بعد تحوير قليل الوسيط العالمي للحديث بين الطبقات العليا في المجتمع الإسلامي، وفي مستهل العصور الوسطى كانت لغة الحديث والكتابة لجميع مثقفي المسلمين من أي جنسية كانوا: من بلاد الهند حتى المحيط الأطلسي، فكانت لغة البلاط والدين، ولغة الشرع والتجارة، ولغة السياسة والأدب والعلم، وفي القرن العاشر حينما ثل الغزو المغولي عرش الخلافة العباسية وانفرط عقد الوحدة الإسلامية السياسية لم تعد العربية أو اللغة العامة للعالم المحمدي، بل حلت مكانها لهجة سوقية في بلاد العرب وسورية ومصر وبعض الأقطار الناطقة بالضاد، ولو أنها ظلت في هذه الأمصار لغة الأعمال والأدب والتعليم. ونسمع اليوم من مصدر ثقة (أنها آخذة في النهوض، وأنها على وشك أن تسترد ثانية مكانتها الأدبية العظمى) وهي إذا كانت تشغل - بالنسبة إلى هؤلاء المسلمين من غير العرب - نفس المكانة التي تشغلها اللاتينية والإغريقية في الثقافة الأوربية الحديثة، فينبغي ألا يغرب عن ذهننا أن القرآن (وهو أروع آثارها) يحفظه كل مسلم لأول ذهابه إلى المدرسة، وهو يتلوه في صلواته اليومية، ويسيطر على مجرى حياته كلها إلى درجة يكاد لا يصدقها المسيحي العادي.
وآمل أن يغفر لي القارئ تجاهلي - في كتاب كهذا - ما يتعلق بالتاريخ العربي القديم الذي يمكن الإلمام به من الآثار الآشورية والبابلية، كما أن أي كتابة يحاول من ورائها دراسة العرب من سنة 2500 ق. م. حتى بداية العصر المسيحي لأشبه بخريطة رسمتها يد سير جون ماندفيل؛ بيد أن شعباً (غير سبأ أو حمير) من بين شعوب الجزيرة استطاع أن يترك أثراً أبقى من غيره، ذلك هو شعب النبط الذين سكنوا المدن واحترفوا التجارة قبل ميلاد المسيح بزمن طويل، وأسسوا مملكة (بترا) التي كانت رخية متقدمة في الزراعة حتى كان عام 105م. حين ضربها ودمرها تراجان، وكان هؤلاء الأنباط يتكلمون العربية بالرغم من أنه قد ورد خطأ في أحد نقوشهم أنهم كانوا يستعملون الآرامية في الكتابة؛ ويخلط المؤلفون
المسلمون بينهم وبين الآراميين إلا أن الدراسة العميقة لنقوشهم أثبتت خطأ هذه الفكرة التي أقرها كاترمير، وإن كتاب (الفلاحة النبطية) الذي ألفه عام 904م للكاتب المسلم ابن وحشية الذي اعترف بأنه ترجمه من الكلدانية، فقد ظهر الآن أنه مختلق، وما أشرت إليه في هذا المجال إلا كمثال للوسيلة التي يستعمل فيها المسلمون لفظ (نبطي)، لأن العنوان المشار إليه حالاً لا يرجع بالطبع إلى بترا ولكن إلى بابل
من كل ما قيل يستطيع القارئ أن يلاحظ أن تاريخ العرب - وجل معلوماتنا عنه مقتبسة من مصادر عربية - يمكن تقسيمه إلى ثلاثة عصور
(1)
العصر السبأي والحميري من 800ق. م. وهو تاريخ أقدم نقوش العربية الجنوبية حتى سنة 500م.
(2)
العصر السابق للإسلام (أي من 500م - 622م)
(3)
العصر الإسلامي ويبدأ من هجرة الرسول من مكة إلى المدينة أي من سنة 622 حتى الوقت الحاضر
أما عن العصر الأول الذي يتعلق بتاريخ اليمن أو بلاد العرب الجنوبية فليس لدينا مراجع عربية معاصرة له سوى النقوش؛ كما أن المورد القيم الذي تمدنا به هذه النقوش على نقصه هو الأحاديث الواردة في قصائد الجاهلية والقران وخاصة في الدب المحمدي المتأخر؛ ولا مراء في أن معظم هذه الأخبار أساطير، ومن الأجدر أن يتجاهلها الباحث المشتغل بالبحث التاريخي، ولكني سأخصص جزءاً وافياً لدراستها، خاصة وأن غرضي الأول هو التعريف بمعتقدات العرب أنفسهم وآرائهم.
أما العصر الثاني فيسميه المسلمون عصر الجاهلية أو عهد البربرية وتنطبع مميزات هذه الفترة في دقة وأمانة فيما وصلنا من أغاني وقصائد الشعراء الوثنيين، إذ لم يكن هناك إبان هذا الوقت أدب نثري فكان من مهمة الشاعر التغني بتاريخ قومه والافتخار بنسبهم، وتمجيد استعمالهم للسلاح، وتبجيل فضائلهم، ورغماً من أن مقداراً عظيماً من شعر الجاهلية قد فقد إلى الأبد، إلا أنه لا تزال لدينا بقية كبيرة (بإضافتها إلى ما وضعه علماء اللغة والآثار المسلمون من قصص تترى) تساعدنا على تصوير حياة هذه الأيام الغابرة تصويراً دقيقاً.
أما أهم العصور الثلاثة وآخرها فهو تاريخ العرب تحت ظل الإسلام، وينقسم طبيعياً
الأقسام التالية التي ألممت بها في هذا المكان حتى إذا ألقى القارئ عليها نظرة تبين من خلالها مجمل المظاهر السياسية المتعددة لهذا العهد المضطرب الدقيق الذي يقوم تجاهه؛ وهذه الأقسام هي:
أ - حياة محمد
حوالي مستهل القرن السابع المسيحي ظهر في مكة رجل من قريش هو محمد بن عبد الله بكتاب سماوي هو القرآن، دعا قومه لنبذ الأوثان ولعبادة (الله الواحد)، وقد ظل مثابراً عدة أعوام على الدعوة لدين الإسلام في مكة على رغم ما لاقاه من سخرية القوم منه واضطهادهم إياه، ولما وجد أن تقدم دعوته ضئيل هاجر عام 622م إلى بلدة مجاورة تلك هي المدينة، ومنذ ذلك التاريخ كان النصر المؤزر حليفه، وفي خلال السنوات العشر التالية دانت بلاد العرب جميعها لديانته، ودعت بلسانها للإيمان الجديد
ب - خلافة الراشدين (632 - 661)
بعد أن قبض الرسول (ص) تعاور حكم المسلمين بالتتابع أربعة من أعظم صحابته، هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسمي كل منهم خليفة، ويعرفون عادة بالخلفاء الراشدين، وفي ظلهم وبإرشادهم ثبتت دعائم الإسلام في شبه الجزيرة وخفق لواؤه بعيداً وراء الحدود، أما أعداؤه من البدو فقد استقروا كمستعمرين حربيين في السهول الخصبة من سورية وفارس، وسرعان ما وقعت الإمبراطورية الحديثة النشأة في حرب أهلية، وكان مقتل عثمان إيذاناً باشتعال النضال بين طلاب الخلافة المتنافسين، وتمسك علي - صهر الرسول - بلقبه، ولكن حاكم سورية القوي معاوية بن أبي سفيان أنكر خلافته ونافسه
ج - الدولة الأموية (661 - 750)
لما سقط علي صريعاً بضربة خنجر اعتلى معاوية عرش الخلافة الذي ظل وفقاً على أسرته تسعين عاماً، وكان الفارق الوحيد في الأمويين أنهم كانوا عرباً قبل أن يكونوا مسلمين، وكان أثر الدين فيهم ضئيلاً، ولكن ظهر منهم بعض حكام أكفاء مهرة، جديرين بأن يكونوا قادة جنس آمرٍ. وقد بلغت الفتوح الإسلامية أقصى اتساعها عام 732م، وكان للخليفة القائم في دمشق قواده فيما وراء أكسوس والبرانس وعلى شواطئ بحر قزوين
ووادي النيل؛ وفي غضون ذلك كان بأس الدولة آخذاً في التدهور والانحطاط من جراء المنازعات السياسية والدينية القائمة فيها؛ أما الشيعة الذين تمسكوا بحصر الخلافة في علي وأبنائه بأمر مقدس، فقد ثاروا مراراً عدة، وانضم إليهم المسلمون الفرس الذين كانوا يمقتون العرب والحكومة الأموية الظالمة، كما كان العباسيون - وهم ذوو وشيجة قربى قوية بالرسول - قادة الاضطراب الذي انتهى بخلع البيت الحاكم نهائياً واستئصال شأفته.
د - الدولة العباسية (750 - 1258)
كان العرب حتى ذلك الوقت أصحاب السلطان في المجتمع الإسلامي، وقد شمخوا بأنفهم تيهاً على المسلمين من غير العرب وازدروهم، ولكن انعكست الآية بعد ذلك، إذ نجد أنفسنا قد انتقلنا من عصر العصبية العربية إلى عصر النفوذ الفارسي والثقافة الجامعة، وكان صفوة القوات العباسية من فرس خراسان، وشاد العباسيون (بغداد) عاصمتهم الزهراء على أرض فارسية، ونال أشراف الفرس أسمى مناصب الدولة أرفعها في بلاط بني العباس، وإن لم تكن الدولة الجديدة دينية، إلا أنها كانت على الأقل حدية على الدين مجتهدة في أن تحيط نفسها بمظاهر الورع، ونسي العرب والفرس حيناً ما بينهم من خلاف وفروق، وتعاونوا جميعاً كما ينبغي على المسلمين الأتقياء، ولقي التعليم تشجيعاً عظيماً، وكان هذا العصر العصر الذهبي للإسلام، وقد بلغ أوجه أيام هرون الرشيد الزاهرة (786 - 809). ولما مات تداعت عمد السلام مرة ثانية، وابتدأ نجم الإمبراطورية القوية البأس في المغيب، وأخذت المقاطعات تنسلخ واحدة بعد أخرى عن الخلافة، وتقتطع نفسها منها، ومن ثم ظهرت دول مستلقة كثيرة، بينما صار الخلفاء دمى في أيدي الجند الأتراك، وظلت معظم الأقطار الإسلامية معترفة بسيادتها اسمياً، ولكن منذ أواسط القرن التاسع لم يعد لهم إلا القليل منها، أو لم يعد لهم شان مطلقاً.
(يتبع)
ترجمة محمد حسن حبشي
مشرقيات
في الأدب العربي الحديث
للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي
الأستاذ بجامعة ليننجراد
- 3 -
وهنالك محولات فردية بذلت في سبيل كتالة القصة الأخلاقية (سعيد البستاني ويعقوب صروف). والقصة النفسية (فرح أنطون 1874 - 1922)، وإن كانت لم تضارع قصص زيدان في مضمار النجاح
لكن معين القصة التاريخية عند العرب لم ينضب بعد كما يتضح من قصة (ابنة المملوك) التي وضعها في عام 1926 القصصي المصري محمد فريد أبو حديد. وهي من نوع يختلف كل الاختلاف عن قصص زيدان، بل إنها وصلت من بقض الوجوه إلى مستوى أعلى. أما الأقصوصة فقد رأت النور في مصر بخلاف القصة التاريخية، ولا بأس من ذكر المحاولات التي بذلت في سوريا، ولكن ما كتب هناك من الأقاصيص كان قاصراً على طبقة من المبتدئين. فقد شرع جبران خليل جبران وهو في شرخ الشباب في كتابة الأقصوصة على سبيل التمرن، لكنه لم يعد إلى ممارسة هذا النوع من الكتابة. أضف إلى ذلك أن المجال لم يفسح لهذا النوع الجديد في مصر إلا ببطء كبير. ولقد حاول الجيل القديم أن يستعمل أسلوب المقامات في النقد الاجتماعي، كحديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي المتوفى في عام 1930، وهو ابن الصحفي النابه إبراهيم المويلحي (1846 - 1906). أما المحاولات الأخرى (عائشة التيمورية ومحمد حافظ إبراهيم) فقد كانت أقل توفيقاً. وهناك مؤلف معروف جرب حظه في الأقصوصة، هو المنفلوطي، وكانت أقصوصته تارة موضوعة، وتارة أخرى منقولة بتصرف، لكن كتابته امتازت بجمال التنسيق وسلامة الأسلوب دون دقة الموضوع أو البراعة القصصية. أما محمد تيمور الذي توفي في شرخ الشباب (1892 - 1921) فيمكننا أن نعده منشئ الأقصوصة المصرية ومبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة. فقد كان ملماً كل الإلمام بالآداب الأوربية، قوي
الملاحظة، دقيقاً. فوضع أقاصيص صغيرة مأخوذة من صميم الحياة المصرية، بأسلوب يحاكي أسلوب موباسان أو تشيكوف تحت هذا العنوان (ما تراه العيون).
وتقدمت الأقصوصة خطوات إلى الأمام في مؤلفات شقيقه محمود تيمور (المولود في سنة 1894) وهي مجموعة في ستة مجلدات. وأقاصيص محمود تيمور واقعية كأقاصيص شقيقه محمد، لكنها أكثر تنوعاً، وأعمق تحليلاً، وأفصح لغة، وأسهل أسلوباً.
وقد اثر فن التيموريين القصصي تأثيراً كبيراً في جيل الكتاب المعاصرين، ولنذكر منهم: أخوي عبيد، المرحوم عيسى عبيد المتوفى عام 1924، الذي وضع مجموعتي (إحسان هانم وثريا)، وشحاته عبيد الذي كتب (درس مؤلم)، وطاهر لاشين مؤلف (سخرية الناي، ويحكى أن. . . وحواء بلا آدم). وهي مجموعة قصصية امتازت بالطلاوة والفكاهة، ومحمد أمين حسونه مؤلف (الورد الأبيض).
ومن المميزات الجديرة بالملاحظة أن هذا النوع من الأدب وجد أنصاراً مخلصين في البلاد العربية، وجلها تأثرت بمصر إلى مدى بعيد.
وفي العراق كاتبان ذاعت شهرتهما إلى ما وراء وطنهما هما: محمود أحمد (المولود في سنة 1901)، وقد وضع قصة طويلة بعنوان (خالد)، ومجموعة باسم (الطلائع) وأخرى موسومة (في ساع من الزمن)، والقصصي العراقي الثاني هو أنو شاؤول الذي كتب مجموعة (الحصاد الأول).
ولقد ظهرت الأقصوصة العربية في أمريكا (المهجر) في الوقت الذي ظهرت فيه في مصر، وربما قبل ذلك، ولنذكر أولاً عبد المسيح حداد الذي كتب أقاصيص صغيرة كلها فكاهة بعنوان (حكايات المهجر) وهي تكاد تكون صوراً سريعة للحياة العربية في أمريكا، وقد أخذ المؤلف كثيراً من روح أقصوصات جبران، وهناك أيضاً ميخائيل نعيمه الذي خصص في أقصوصته النفسية مجالاً واسعاً لتحليل الروح تحليلاً عميقاً، متأثراً بالأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
إذا استطعنا القول بأن الأقصوصة العربية الجديدة وجدت أمامها الطريق اللائق بتقدمها وازدهارها حتى بلغت المكانة الجديرة بها، فإن القصة لم تصل إلى هذا المدى من النشاط، وكل ما رأيناه في هذا المضمار هو بعض محاولات طفيفة.
وقد استهل هذا النشاط بقصة (زينب)، وهي قصة طويلة وضعها في عام 1914 محمد حسين هيكل بك الذي أصبح فيما بعد صحفياً وأديباً نابهاً، وموضوعها منقول عن الحياة الريفية في مصر. أما من حيث اللغة والأسلوب وطريقة الكتابة فقد فتحت فتحاً جديداً، إذ امتازت القصة بأسلوبها الطبيعي الخالي من الصناعة والتكلف، لكنها رغم ذلك لم تلفت الأنظار في بدء ظهورها.
ووضع الدكتور طه حسين (المولود في سنة 1889) قصة دعاها (الأيام) في عام 1927، وسار فيها على أسلوب الأخبار العائلية، وهي تصف طفولة صبي مصري يافع، عاش في قرية صغيرة على ضفاف النيل، والقصة جديرة حقاً بالتقدير، لا من حيث الوصف الحي للحياة الواقعة فحسب، بل كمؤلف أدبي من الطراز الأول في اللغة والأسلوب وطريقة الرواية.
أما مجموعة القصص الثلاث لتوفيق الحكيم فقد رسمت لها خطة واسعة النطاق، ولم ينشر منها حتى الآن سوى القسم الأوسط (عودة الروح) في جزءين (كتبا في سنة 1927 ونشرا في سنة 1933)، وقد خصص هذا القسم للحوادث التي توالت على مصر ابتداء من عام 1920.
وكان لظهور توفيق الحكيم في سماء الأدب أحسن وقع لما امتاز به من التعمق في الفن الروائي، وبراعة الوضع، وسلاسة اللغة؛ وهذه الأمثلة تحملنا على أجنحة الأمل وتدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بأن القصة ستحل قريباً المحل اللائق بها في الأدب العربي الحديث.
ج المسرحية (الدرامة)
لم تنبت المسرحية العربية الجديدة من أصول محلية، شأنها في ذلك شأن القصة (فهي لم تأخذ شيئاً من المقامة أو القراقوز أو أسرار الدين الشيعي). وقد شاع فن التمثيل بين الطلبة بفضل الحفلات السنوية التي كانت تقيمها المدارس الأوربية، واعتاد المدرسون أن يضعوا بأنفسهم المسرحيات التي يقوم الطلبة بتمثيلها إذ كانوا يختارون موضوعاتها من التوراة أو من التاريخ اليوناني والروماني القديم (الكلاسيك)، وأخيراً من ماضي العرب.
لم يقتص المسيحيون وحدهم على توجيه عبقريتهم نحو هذا النوع، بل اشترك معهم المسلمون. ففي سوريا، كتب إبراهيم الأحدب مسرحيتي (إسكندر المقدوني) و (ابن زيدون
الأندلسي)، ووصل فن المسرحيات الهزلية الأخلاقية إلى نتائج جديرة بالثناء منذ أوائل عهد النهضة الأدبية، بفضل التأثير الأوربي، فقد زار الكاتب السوري مارون نقاش (1817 - 1855) إيطاليا عدة مرات، واطلع على مؤلفات موليير ودرس حالة المسرح الإيطالي الجديد. وما إن عاد إلى وطنه حتى شرع في كتابة ثلاث مسرحيات هزلية على أسلوب موليير، وعهد بتمثيلها إلى فرقة من الهواة، وفي اثنتين منهما صور المؤلف الحياة السورية الحالية. أما الثالثة فهي مقتبسة عن (ألف ليلة وليلة)، وقد نالت تلك المسرحيات بعض النجاح، لكن بعد وفاة المؤلف وهو في ريعان الشباب، لم يحاول أحد أن يسير على خطته، اللهم إلا في بعض المسرحيات الهزلية الصغيرة التي وضعها طنوس الحر (عام 1860) فإنها لم تصاف من النجاح إلا القليل.
وبعد مضي عشرين سنة ألف الكاتب السوري أديب إسحاق (1856 - 1885) فرقة تمثيلية صغيرة بمدينة الإسكندرية، وهو شقيق سليم النقاش المتوفى عام 1884، واتجهت الميول وقتئذ شيئاً فشيئاً إلى المأساة شبه الكلاسيكية. وكان أغلب أنصار هذه النزعة من رجال حلقة اليازجي والبستاني.
وأول ما ظهر من المآسي (المروءة والوفاء، لخليل اليازجي (1856 - 1889)، وهي قطعة شعرية مستقاة من حادث معروف في أساطير الأدب الجاهلي. ويعد نجيب حداد (1867 - 1899) من أغزر الكتاب المسرحيين في هذا العهد إنتاجاً، فقد ترك ست عشرة رواية مسرحية، أغلبها منقول بتصرف عن مؤلفات كورني وفيكتور هيجو واسكندر دوماس وشكسبير، لكنه ليس من السهل غالباً العثور على الأصل. وكتب أيضاً بعض تراجيديات من وضعه، وهي لا تختلف عن سابقتها في النوع، نذكر منها (صلاح الدين) و (ثارات العرب). ونالت مسرحيات حداد إعجاب الجمهور إذ ظل يتذوقها ويفضلها على سائر المسرحيات العربية حتى نشوب الحرب العظمى، وإن كان الأوربيون يعتبرونها فطرية وغير متناسقة مع حاجات المسرح.
وحاول الكاتب المصري محمد عثمان جلال (1829 - 1898) أن ينفث روحاً جديدة في المسرحية الهزلية الأخلاقية، وفيما عدا ترجمته لمسرحيات راسين وكورني إلى اللغة العربية الفصحى، عزم هذا الكاتب على تنفيذ فكرة جريئة، هي نقل مؤلفات موليير إلى
اللهجة المصرية العامية مع مراعاة الأحوال الأخلاقية المصرية.
لسنا ننكر أن محاولته تدل على مهارة فائقة وعبقرية ناضجة، ولكن اللهجة العامية كانت غريبة على المسرح الذي لم يألفها، ولذا لم تمثل مسرحياته إلا في سنة 1912.
تلك هي أهم البواعث التي يعزى إليها قصور التأليف المسرحي العربي على النوع شبه الكلاسيكي.
لما جاءت سنة 1920 كانت بعض الروايات مترجمة وبعضها موضوعة على طريقة نجيب حداد، الذي كان قد أفسح المجال لعدة مؤلفين قديرين نسجوا على منواله. أما بعد سنة 1920 فقد بدأ عهد جديد للأدب المسرحي في مصر بفضل جهود محمد تيمور الذي تحدثنا عنه في صدر هذا المقال.
كان الفن المسرحي موضع عنايته الخاصة، وطالما كتب عن المسائل الخاصة بنظريات الفن المسرحي وتاريخه، كما أنه وضع عدة منولوجات لإلقائها على المسرح، وقد ترك أربع روايات مسرحية: روايتين هزليتين، ودرامة وأوبريت. أما حوادثها فتجري كلها في مصر الحديثة، عدا الأخيرة فهي مقتبسة عن مصر في عهد المماليك.
ومسرحيات تيمور تمتاز بالروح القوي، وتراه يدب فيها بفضل استعماله اللغة المصرية الدارجة، كما أن صفاتها المسرحية العظيمة جديرة بالتسجيل، ولا شك أنها في مقدمة المسرحيات المعبرة عن الحياة العصرية، وهذا من أقوى البواعث التي يعزى إليها نجاحها.
وفيما عدا هذه المسرحيات، فقد نجح ميخائيل نعيمه في المهجر، وفي وضع مسرحية هزلية أخلاقية، امتازت بما فيها من التحليلات النفسية الأخلاقية الرائعة؛ هي رواية (آباء وأبناء) - 1917 - ووقائعها مأخوذة عن الحياة السورية العصرية، وخصصت المقدمة لمسائل مبدئية، مما يدل على اهتمام المؤلف اهتماماً جدياً بالمشاكل التي يثيرها التأليف المسرحي، ولا ريب في أن هذه الجهود تعد فاتحة خير للفن المسرحي العربي.
والمسرحيات المصرية التي وضعها أنطون يزبك (خصوصاً الذبائح) المكتوبة باللهجة العامية، تدل على تقدم مطرد بالنسبة لسابقاتها. وقبيل عام 1930 حاول الشاعر الكبير احمد شوقي بك أن يعيد إلى التراجيدية شبه الكلاسيكية رونقها وبهاءها، فخلف بعد وفاته عدداً من المسرحيات الشعرية المنقولة عن التاريخ المصري القديم أو تاريخ العرب
ونحجت هذه المسرحيات نجاحاً باهراً بفضل تناسق روحها الشعرية الجميلة المكتوبة بأسلوب عربي قديم صحيح (كلاسيك) فجاءت مطابقة لذوق الجيل الحالي، وإن كانت لا تعد تقدماً في تاريخ المسرح العربي.
(يتبع)
ترجمة محمد أمين حسونة
إلى الوفد السوري
أيها الظافر المتوج بالنور!
للشاعر (أبو غسان)
أقبل الفجر يا هزار ومَنْ من
…
ك ومني بمتعة الفجر أحرى
ما ترى الورد قد تفتح للنو
…
ر وقد أوشك الندى أن يفرا
والشحارير قد تيقظن للشد
…
ووأيقظن في الخمائل عطرا
والفراشات قد جرين إلى الحق
…
ل يفيض النثير عنهن تبرا
وسرت رعشة الحياة إلى الكو
…
ن تهز الوجود أنساً وبشرا
موكب من مفاتن وجلال
…
هب يستقبل الصباح الأغرا
موكب للجمال، للحق، للحب
…
ترف المنى حواليه سكرى
طِرْ بنا يا هزار نلتمس الرو
…
ض فقد آن للأسى أن يُسَرَّى
ننفض الصبر والأسار فقد كد
…
نا، رعاك الإله، نهلك صبرا
نحن في هدنة الكفاح مع الليل
…
وقد يعقب الكفاح الأمَرَّا
فتعجل شذا الصباح فما تد
…
ري لعل المساَء يحدث أمرا
كم ترقبت ذا الضياء وقد جن
…
(م) عليك الدجى أذىً واكفهرا
وشكوت الظلام يصهر جنبي
…
ك عذاباً ويفعم الأرض ذعرا
فاستمع للبشير يا لدة النف
…
س يساقط عليك أسعد بشرى
ويضح الأفق بالسناء فتفتر
…
(م) الروابي ويرقص الدوح سكرا
ويغني الرواح بالأمل العذ
…
ب فتهفو الأرواح لله شكرا
هو فجر الخلود إثر دياج
…
غمرت بالفناء عشك دهرا
هو فجر الأحلام منَّ به الله
…
(م) على أنفسٍ إلى الفجر حَرَّى
أي بشير السماءِ: ألأرضُ قد ضا
…
قت لك الله بالتنظُّر صدرا
هاتها نفحة من النغم العل
…
ويّ ترجعْ ذوابل الحلم نضرا
هات ما شئت عن وفادة باريس
…
وأحدث مما هنالك ذكرا
هل عنا الخصم بعد كبرٍ وهل آ
…
من بالحق بعد كفر وبرا
وصراخ الضعيف هل لقي السم
…
ع وقد طالما نأى عنه وقرا
وهل القوم أيقنوا أن في الشا
…
م أباة لا ترتضي العيش أسرا
قد نماها إلى العلاء أماجي
…
د لهم في الزمان أمجد ذكرى
لقنوا الكون برهة مثل العد
…
ل وفاقوا الأنام عزماً وفكرا
وأفاضوا على دُنى الغرب بالنو
…
ر وكانت، إلا من الجهل قفرا
والأماني يا بشير أحقَّا
…
شوهت حسنها الثعالب مكرا
أم أراجيف ذو الضلالة قد دس
…
(م) لظاها على الحقيقة كفرا
فأزل باليقين من يدك الري
…
ب وأدرك به النفوس فتبرا
قد شرى الشعب بالدماء أماني
…
هـ فلا غرو إن غلا الشعب حذرا
ولأنت الحكيم يا قائد الشعب
…
وحاشاك أن تُزَلّ وتغرى
إن في وجهك النبيل من العز
…
لآيا على جبينك تُقرا
وبكفيك من جراح العوالي
…
لخضاب الكمى أحرز نصرا
أو لست الصفيَّ من حرس المجد
…
عركت الأيام مداً وجزرا
فيك من قلب (هاشم) حكمة الده
…
ر ودنيا من رأس (فارس) أخرى
وبك العبقري من دوحة الصل
…
ح يروع النهى جلالاً وسحرا
ومن (السعد) عزمة الليث قد سي
…
م اعتسافاً فطبق الجو زأرا
ودهاء ابن (مردم) في السياسا
…
تِ ومن ثمَّ كابن (مردم) خبرا
همم تصدع الجبال وتنهد
…
لديها معاقل الدهر حسرى
ليس بدعاً أن تسترد إلى الر
…
بع سليب الرجاء والحق قسرا
أي بشير انظر الخلائق يكتظ
…
(م) بها الرحب كالخضمات زخرا
زحفت من جوانب الأرض تجتا
…
ز إليك الدروب سهلاً ووعرا
ترهف السمع ترقب النبأ الأعلى
…
وترنو إليك تسأل بشرى
ملت العيش في القيود فما تأ
…
لو كفاحاً أو تنزع العيش حرا
راعها الأفك من حضارة أورو
…
با تجني على الحضارة وزرا
تحجب المخلب المحدد بالصب
…
غ خداعاً وتزعم الخير شرا
وستراق الشعوب أمناً وتحر
…
يراً وقتل الأرواح بالرق نشرا
فمشت تنشد الحياة لتمحو
…
وصمةَ الغرب بالحضارة غرا
تستمد اليقين من شرف الأم
…
س وتنضو إلى الغد العزم بكرا
فتوقل بها ذرى المجد تطلع
…
في سماء التاريخ ما شئت فخرا
جادلتك الخصوم فيها وما كن
…
ت لتعيى وأنت أكرم عذرا
فأقم للخصوم في مقبل العه
…
د على قدرها الدليل الأغرا
وأدر دفة السفينة تجنبْ
…
عاصفاً يرمق السفينة شزرا
لأرى الأفق قد تلبد بالسح
…
ب وقرن الخلاف في الركب ذرا
شرر يستطير في الوطن الباكي
…
وخطب يكاد أن يستحرا
فتدارك بالمبضع الداَء في المه
…
د وإلا فيا له الله أمرا
واصطلمها فوضى يسعرها الطي
…
ش على الحي ذو الحماقة غرا
قد ختمت اليوم الجهاد صغيراً
…
وبدأت الجهاد أكبر حرا
إن يك العهد في النضال عسيراً
…
إن عهد البناءِ أوفر عسرا
ولأنت المرجو إن حزب الده
…
ر وأعظِم (بكتلة) الحزم ذخرا
أيها الظافر المتوج بالنو
…
ر تباركت للهداية بدرا
قد مَهَدْتَ السبيل للهدف الأس
…
مى ووفيت جهدك العهد برا
فتقبل تحية الساحل الشا
…
كر عصماَء صغتها لك شعرا
حرة لم تهم بغيرك عرساً
…
وَهْيَ تأبى إلا رضاءك مهرا
حفها بالحياة والروح غرا
…
ن بهم أنت والمكارم أدرى
من بقايا سيوف (فيصل) في الشط
…
رعى الله عهد (فيصل) ذكرى
المشبين ثورة الجبل السا
…
مي دجى الأمس والشدائد تترى
جبناء اللسان في زمن القول
…
وأُسد الوغى إذا الهول كرا
وعظيم تحية الوطن المفجوع
…
يمناه في مدى الروع تُغرى
يتملى بمقلة فرح الشا
…
م وتبكي منه فلسطين أخرى
غرقت بالدماء في الحرم الأ
…
قصى وعاثت بها يد اللص غدرا
تتلظى حمراء في (جبل النا
…
ر) وتهوى بجانب (المهد) كسرى
تسأل الغوث أهلها فإذا الغو
…
ثُ من الأهل كالقطيعة نزرا
لكأني بالقوم قد حسبوا لحق
…
عطاء والواجب المحض برا
وكأن لم تكن فلسطين للإسلا
…
م قلباً وللجزيرة طرا
أيبيت الأحرار في حُفر الأر
…
ض ونأوى إلى القصور مقرا!
وتعاني الطوى ويُتخمنا الشب
…
ع، ونختال في الحرير وتعرى!
ونصبُّ الأموال في سُبل اللهـ
…
وونشكو إذا دعا الجد فقرا!
نوَّر الله يا دمشق محيا
…
كِ ولا زلت للعروبة ظئرا
قد شفيت الأخاء نحو فلسطين
…
وقاسمتها الأسى مستمرا
فأعدى، وَقد فرغت، لها الجه
…
د جديداً وَالعون أعظم قدرا
(اللاذقية)
(أبو غسان)
القصص
نومان. . .
- مكانكم!
لويت عنان فرسي نحو مصدر الصوت الآمر، ولكن العثير الذي أثارته
حوافر الشياه حال دون أن أرى شيئاً، وصبرت قليلاً فلاح لي خلال
ذرات التراب الحائرة أربعة أشباح قد اعترضت سبيل الماشية فحالت
دون سيرها، ولما همد الغبار تبينت في الأربعة الأشباح أربعة رجال
قد ضرب كل منهم لثامه على وجهه فلم يبن منه إلا عينان كعيني
الصقر، وتمنطق كل منهم بحزام من الرصاص لمعت ظروفه النحاسية
تحت أشعة الشمس المائلة للمغيب، وسدد كل منهم فوهة بندقيته الكامدة
نحونا، لا يتحرك ولا تطرف عينه.
وانطلق الصوت الآمر مرة أخرى أجش:
- مكانكم قبل الهلاك!. . .
وأدرت رأسي ببطء نحو رفاقي في رحلتي، وكانوا ربعة نفر من جنود الشرطة السورية، فتبينت وجوهاً علاها الاضطراب، ورؤوساً منكسة الأذقان؛ ورأيتهم وكل قد خفض بصره فزعاً، يخالسون الأنظار ويسترقون الرؤية؛ فكدت، أنا موظف الحجز في محكمة (الرقة) أقهقه في الموقف العصيب من أمر هؤلاء النفر، يرتعدون هلعاً وفي كتف كل منهم بندقية كأنما علقت بإشارة ناطقة على الجبن والخور.
وساد صمت قصير لم يقطعه إلا حوافر الخيل تضرب الأرض، وارتفع بعدها الصوت الأجش:
- هذا الطريق إلى (الحان) فدونكموه. . . هيا!
سكت أصحابي ولكني قلت مستفهماً:
- وهذه الماشية المحجوزة؟
- هيا. . . الماشية لنا. . .
كان جواباً حاسماً، ولكن رئيس الجنود جمع شتات شجاعته وصاح معترضاً:
- وكيف نتركها لكم؟ هذا لن يكون
وقبل أن يلفظ الحرف الأخير دوى صوت الطلقة التي أطاحت قبعته. . .
- هاه! هيا سيروا، ولا يلتفتن أحد وراءه. . .
وكان أول من لكز حصانه رئيس الجنود وقد ملكه الذعر فأرسل العنان لفرسه لا يلوي على شيء، وأرسلنا الأعنة لخيلنا، نريد أن نبلغ (الحان) قبل المغيب.
لاحت لنا بيوت الشعر من قرية الحان وبين الشمس وبين أن تغيب قليل، وكانت خيولنا تسير ببطء وتثاقل، كأنما تحس بما عليها من عار وخزي، وكان الجنود ساهمين لا ينبس أحدهم ببنت شفة، فكأن الخوف والخجل تكاتفا على إظهارهم بمظهرهم هذا الذليل؛ وسرت خلفهم منعزلاً عنهم أفكر في هذه المهزلة التي أكرهنا على تمثيلها. فلما لاحت لي أطلال (الحان) العتيق تحيط بها بيوت الشعر عنت لي فكرة، فعزمت على أمر.
تلقانا مختار القرية، الذي كنت به وبأهل قريته عارفاً، بخير ما يتلقى المرء، ولما ترجلت انتحيت به ناحية وقلت له:
- أريد نومان
فرفع إلى رأسه ثم ألقى على أصحابه الجنود نظرة أعادها إلي في دهشة وتساؤل، فتبسمت وقلت:
- لا تخش شيئاً، لست أجهل أن نومان طريد الحكومة ولكني أطلبه
فحرك كتفيه باستسلام وقال:
- كما تشاء
ومضى، ولم تكن إلا برهة حتى عاد وأسر إلي:(هو سينتظرك عند الجدار الغربي من الحان)، فيممت المكان الذي ذكر، فلاح لعيني فتى طويل القامة متين البناء، ملق عباءته على رأسه، ومرخ لثامه على وجهه، وفوق منكبيه تنوس ضفيرتان بلون الليل على ثيابه البيضاء، قد اقترن حاجباه فوق اللثام، ولمع مقبض خنجره خلف الحزام؛ ومذ رآني خف إلي مصافحاً فتعانقنا، وبادرته:
- هيه يا نومان!
فأجابني صوت صافي النبرات رنان:
- يا لبيك! ما وراءك؟
فأخبرته الخبر وما سينجم عنه، ثم قلت له:
- أنت وما ترى، فلقد طرحت الأمر عن عاتقي
فلمعت الابتسامة خلف اللثام الكثيف، وقال بلهجة الحازم الواثق:
- لعينيك أبا خالد، فسيبلغك خبري. . .
وابتعد عني يتخطى الأطناب متغلغلاً بين البيوت، وعاد بعد يسير معتلياً صهوة فرسه وقد تمنطق بحزامين من الرصاص وبندقيته في يده، فلما بلغ موقفي لكز الجواد وجال على ظهره جولة ثم قذف بالبندقية في الهواء وتلقفها بأصابعه والجواد يعدو، ثم هتف بي:
- إلى اللقاء، فاتنظرني
وأتبعته نظري وقد سار في الطريق الذي جئنا منه حتى حجبه عن عيني الغبار الثائر
تعددت الطلقات تمزق سكون الليل البهيم، فانتبه رفاقي بعد أن أخذ الكرى بمعاقد أجفانهم فهوموا، وأرجف من في مضيف المختار من رجال القرية أسماعهم إلى الأصوات برهة، ثم انصرفوا إلى ما هم فيه من حديث؛ أما المختار فقد نظر إلي نظرة المستفهم، فأجبته بابتسامة الخبث وقد فهمت ما يريد؛ فهز رأسه وتمتم بكلمات غير مفهومة. وكانت أصوات البنادق لا تزال تلعلع حيناً بعد حين، آناً متفرقة وطوراً متوالية متقاطعة؛ وبعد هنيهة سكت كل شيء، فوجب قلبي وتوجست خوفاً من هذا السكون، وقد حدثتني النفس بمصاب نومان، غير أني طردت أفكار السوء وخرجت من المضيف.
كان ليل البادية زاهياً، نجومه الوضيئة المنتثرة في نواحي السماء الزرقاء، ونسيم أول الربيع البليل يعبث بأروقة البيوت وكواسرها، وعواء الكلاب يتردد في أطراف المنازل تارة وينقطع أخرى، ولاح لي (الحان) كشبح جبار أسود حاثم في الفلاة المترامية الأطراف، فوضعته نصب عيني وأصخت بسمعي إلى الطبيعة الساكنة.
كم هي رهيبة هذه القناطر المعقودة والأقواس المتتالية في ردهات (الحان) العتيق!
كم هي مهيبة هذه الأعمدة المتوازية التي تملأ أبهاءه مشققة السطوح مهشمة الرؤوس! وهذه
الجدران التي لم يذهب من حجارتها، على كر القرون والعصور، إلا ما أخذ أثافي للقدور وأركاناً للمواقد! لقد جلت في قاعات هذا القصر القديم ونظرت خلال خروق السقوف من غرفة إلى الكواكب الزاهرة، ثم رقيت الجدار وأرسلت بصري يجوب أنحاء البادية، ولكن عيني لم تقع إلا على فلاة موحشة سوداء ونجوم تليها نجوم لا يبلغها حصر، ويعيا عن عدها الفكر.
وانتابتني الهواجس مرة أخرى، ولكن الغبار القاتم الذي ثار عند مد البصر قشع غيومها؛ فقد ميز سمعي في هدأة الليل وقع حوافر الشياه على رمال الطريق فانجابت عني الشكوك وملأ قلبي الفرح وقد تبينت صوت نومان يحث الشياه على المسير.
ونبحت الكلاب هذا الفوج من الطارقين فأوقدت النيران وحمل كل قبساً ليتبين هذه الغبرة الغريبة، قلما اقترب القادمون رأيت على ضوء المشاعل منظراً يملأ الصدور حبوراً ويثير العواطف والشعور: قطيع من الغنم يتلوه أربعة رجال مشمرو المآزر ملثمو الوجوه، قد كتفت أيديهم مكن خلاف وعلقت بنادقهم في الأعناق، يسوقهم سوق الماشية فتى متين الهيكل، شديد الأسر، ملطخ الثياب بالدماء القانية، قد اعتلى صهوة جوادٍ أشقر، تنوس على كتفيه ذؤابتان طويلتان كلما حرك رأسه ليرد تحية محي.
فقزت عن الجدار وعدوت أشق الجموع إلى نومان هاتفاً
- المذبَّة المذبَّة أبا صخر!
- أبشر أتاك الخير. . .
ومد ذراعيه فاعتنقته.
كان لهيب النار الموقدة في ساحة (الحانة الكبرى) يتلوى كرؤوس الثعابين فترقص له الظلال على الأقواس الرهيبة والأعمدة المرمرية الهائلة، وكان نومان قائماً في وسط الساحة معتمداً على بندقيته ينظر إلى أسراه نظر الصقر إلى الفريسة، كرمز للبطولة والنبل.
رفع البطل رأسه ثم أداره ببطء على الحاضرين ثم قال:
لقد اجترأ هؤلاء فقطعوا الطريق على فلان وصحبته، فأشهدكن أنه حر في حكمه عليهم. . . أعندك ما تقول يا أبا خالد؟
- لا، غير الشكر الذي أعجز عن وصفه.
فأطرق قليلاً ثم قال:
- لقد وفيت بما وعدت، وحكمتك فحكمني
فقلت له:
- إنما أنا رهن إشارتك، وحكمك نافذ. فمر تطع
- أسراي أطلقهم
. . . وبين زغاريد النساء وهتاف الرجال فك نومان وثاق الأسرى، وسار إلى الباب رافع الرأس، بقدم ثابتة وخطى جبارة.
(حلب)
(ع)
البريد الأدبي
نقل تراث الأندلس من الاسكوريال
في الأنباء الأخيرة عن الحرب الأهلية الأسبانية أن حكومة مدريد قد نقلت على جناح السرعة جميع التحف الفنية والكتب الخطية من دير الاسكوريال إلى مدريد خوفاً عليها من التلف الذي تتعرض إليه من جراء الحرائق والقنابل، ونحن نعرف أن قوات الثوار تحدق الآن بمدريد وأنها على قيد مسافة قليلة من ضاحية الاسكوريال، وقد وقعت أخيراً حول الاسكوريال عدة معارك طاحنة. وفي تصرف حكومة مدريد ما يعدو إلى الثناء خصوصاً إذا علمنا أن بين هذه التحف الفنية التي نقلت إلى مدريد مجموعة الكتب الأندلسية التي كانت محفوظة بالاسكوريال؛ ويبلغ عدد هذه المخطوطات النفيسة التي هي آخر بقية من تراث الأندلس الفكري نحو ألف وتسعمائة مجلد؛ بيد أن نقلها إلى مدريد لا يبعد عنها كل الأخطار المحتملة، ذلك لأن مدريد أصبحت محصورة بالقوات الثائرة من كل ناحية، وقد لا تمضي أيام قلائل حتى تسقط في يد الثوار، وعندئذ يعلم الله وحده ما يصيب المدينة وكل ما فيها من ألوان التخريب، غير أن هنالك من جهة أخرى ما يحمل على الاعتقاد بأن حكومة مدريد تغنى بنقل جميع هذه التحف الفنية إلى مكان أمين بعيد عن العاصمة، وربما نقلت إلى برشلونة حصن الحكومة الديموقراطية وملاذها بعد مدريد، وهي أبعد ما يكون عن الخطر. فإذا صح ذلك كان باعثاً إلى نوع من الاطمئنان على هذا التراث النفيس الذي يزعجنا اليوم مصيره، والذي نوهت (الرسالة) غير مرة بما يتهدده من الأخطار، وما يجب على الأمم الإسلامية والعربية في شأن الدعوة إلى حمايته وصونه.
ترجمة للفيلسوف مندلسون
صدرت ترجمة جديدة جامعة للفيلسوف الألماني اليهودي الأشهر موسى مندلسون بقلم الكاتب الألماني أوتو تسارك وقد ظهر الكتاب في امستردام (هولانده) لأن الكتب المتعلقة بالتاريخ اليهودي أو الفلسفة اليهودية لا يسمح الآن بنشرها في ألمانيا، وعنوانه (ترجمة مندلسون) وفيه يستعرض الكاتب حياة هذا الفيلسوف منذ مولده في سنة 1729 في دساو، وهي نفس السنة التي ولد فيها الشاعر لسنج صديقه الحميم فيما بعد. وقد اشتغل مندلسون بادئ بدء كاتباً في محل تجاري، كما اشتغل الفيلسوف موسى بن ميمون بتجارة
السمك، والفيلسوف اسبينوزا بصقل الزجاج؛ وفي سنة 1754 تعرف بالشاعر لسنج وتوثقت بينهما أواصر صداقة أدبية متينة، وأصدرا معاً كتاباً عنوانه (بوب المشتغل بما وراء الطبيعة)، ونشر له لسنج بعد ذلك (محادثاته الفلسفية) غفلاً من اسمه، لأن العصر لم يكن يسمح بالتوسع في المسائل الفلسفية العميقة؛ وأصدر لسنج بعد ذلك كتابه (ناتان الحكيم) واتخذ مندلسون بطلاً لقصته. ولكن مندلسون بلغ ذروة القوة والابتكار حين أصدر كتابه (فيدون) في سنة 1767؛ ويعتبر كتاب مندلسون بداية عصر جديد في الأدب الألماني الصحيح لأنه يحمل فيه على الحركة الأدبية المتأثرة بنفوذ الأدب الفرنسي ونفوذ فولتير، ويحمل كذلك على فردريك الأكبر لأنه شجع هذه الحركة؛ ولم يغضب فردريك الأكبر لهذه الحملة بل بالعكس سر لها وطلب مندلسون لرؤيته؛ ولمندلسون نظرية في الجنسية اليهودية خلاصتها أن يندمج يهود كل أمة في جنسية هذه الأمة اندماجاً تاماً، وإلا يجعلوا لأنفسهم من اليهودية نفسها جنسية خاصة، ولكن المتعصبين لم يقبلوا نظريته، وأصروا دائماً على اتخاذ اليهودية ذاتها جنساً وديناً؛ وقد كان لمندلسون تأثير عظيم في توجيه الأدب الألماني الحديث.
وموسى مندلسون هو جد الموسيقي العظيم فيلكس مندلسون الذي ولد في سنة 1809 وتوفي في سنة 1847
وتعتبر هذه الترجمة الجديدة من أقوى التراجم التي صدرت عن مندلسون، وقد اشتهر مؤلفها اوتو سارك من قبل بترجمته لكوسوت بطل المجر القومي.
الوطنية واستعباد الفكر
خطب الدكتور جبلز وزير الدعاية الألمانية في معرض الكتب في مدينة فيمار، فأشار إلى مركز الكاتب بالأمس ومركزه اليوم في ألمانيا النازية، وشبه الكاتب بالجندي الذي لا يصح له أن يطلق الرصاص إلا متى أمر وحيث أمر، فكذلك الكاتب يجب أن يكون جندياً من جنود الوطن لا يكتب إلا فيما اتفق مع مثل الوطن وغاياته؛ ويجب أن تحد حرية القلم بالحدود التي يتطلبها الوطن وألا يتخذ الكاتب من (فرديته) وحريته الفكرية سبيلاً إلى التصريح بما يخرج عن المثل القومية. والدكتور جبلز هو أوفر العصبة النازية ثقافة، وربما كان أشدهم شعوراً بما انتهت إليه الحركة الفكرية والثقافية في ألمانيا النازية من
التدهور، ولذا نراه ينتهز كل فرصة للدفاع عن السياسة النازية في تصفية الذهن والقلم؛ بيد أن الدكتور جبلز يدافع عن قضية لا يمكن الدفاع عنها؛ فالفردية وحرية الفكر هما أساس المدنية؛ والفردية معناها الكرامة الإنسانية، وحرية الرأي هي أسمى ما يتمتع به الفرد في أمة متمدنة، ويكفي أن تعرف أن الصحافة الألمانية انتهت في عهد النازي، وبفضل القوانين الحديدية التي يسهر على تنفيذها الدكتور جبلز إلى حالة تدعو إلى الرثاء، وقد اختفت الصحف الكبرى الصحافة الألمانية، وأضحى الألماني يرغب عن قراءة الصحف الألمانية، ويؤثر قراءة الصحف الأجنبية، ولم تظهر في الأعوام الثلاثة الأخيرة عبقرية فنية ذات شأن أو أي إنتاج أدبي يلفت النظر، ولا يمكن أن تظهر في ظل هذا النظام الحديدي الذي يجعل من القلم أداة مصفدة توجهها السلطات حيث شاءت. ومما يدعو إلى التأمل أن الدكتور جبلز يلقي خطابه في استعباد حرية الذهن في فيمار حيثما سطعت أعظم عبقرية أدبية ألمانية في ظل الحرية ونعني جيته.
كتاب عن روبرت والبول
روبرت والبول من أعظم ساسة إنكلترا وساسة العصر الحديث؛ ويعتبر هو الواضع للأساليب السياسية المحافظة التي مازالت إلى اليوم توجه السياسة الإنكليزية.
وقد صدرت أخيراً ترجمة مطولة لهذا السياسي الكبير في ثلاثة أجزاء بقلم الكاتب الإنكليزي ف. س. أوليفر الذي توفي قبل تمام ظهر كتابه، بعنوان (المغامرة اللانهائية) ومستر أوليفر ليس من الكتاب المحترفين، ولكنه كاتب هاو، وقد كان تاجراً كبيراً، ولكنه اشتهر حينما أصدر كتابه عن (اللورد هاملتون) السياسي الكبير، وظهرت مقدرته في الوصف والتحليل في كتابة التراجم.
ويعرض مستر اوليفر حياة روبرت والبول في إفاضة، ويصف الأساليب السياسية في القرن الثامن عشر في العصر الذي ملك فيه والبول زمامها (أوائل القرن الثامن عشر)؛ ويدلل على أن هذه الأساليب كانت تقوم على نوع من الطغيان السياسي الذي يسود اليوم بعض الدول العظمى؛ ويقص علينا خلال ذلك حوادث هذا العصر السياسية.
ويرى مستر أوليفر أن أعظم فارق بين السياسة في ذلك العصر وبين السياسة في عصرنا هو في مقدار القوى التي يجب على السياسي العظيم أن يسيرها؛ ففي القرن الثامن عشر
كان عليه أن يقود زمام جماعة من الملاك، وملك، وملكة، وبعض الحظايا؛ ولكن عليه اليوم أن يقود زمام ملايين الناخبين، وزمام صحافة غدت في عصرنا قوة هائلة تختلف نزعاتها ومصالحها.
مدرسة للفن المسرحي
أنشأت الحكومة النمسوية أخيراً مدرسة فنية من نوع خاص هي (مدرسة أساتذة الفن المسرحي)؛ وتعنى هذه المدرسة الجديدة التي ألحقت بأكاديمية الفنون الجميلة، بتعليم كل ما يتعلق بتنظيم المناظر المسرحية وزخرفة المسرح والإخراج المسرحي، وانتدب للتعليم فيها أشهر أساتذة هذا الفن من الأخصائيين في الزخارف وتنظيم الثياب والإخراج وغيرها. ومدة التعليم فيها سنتان؛ ويدخلها الطلبة بعد جواز امتحان فني يثبت أهليتهم لتلقي الشؤون المسرحية؛ والتعليم علمي وعملي بحيث يقضي الطلبة نصف اليوم في تلقي الدروس النظرية، ثم يقضون باقي اليوم في نفس المسارح لتلقي التجارب العملية. وتمنح للطلبة الفائزين بعد عامين (دبلوم فنية) للعمل في المسارح كأساتذة للإخراج الفني.
ذكريات صحفي شهير
صدر أخيراً بالفرنسية كتاب للصحفي الشهير لوسيان كوربشيه عنوانه (ذكريات صحفي) ` في مجلدين كبيرين؛ وقد كان كوربشيه من أعظم صحافيي ما قبل الحرب، يكتب في أشهر الصحف الباريزية، وكانت له علائق أدبية وثيقة بأعاظم كتاب العصر ولا سيما الكاتب اللوريني الأشهر موريس باريس. ويتناول الجزء الأول منه ذكريات كوربشيه أحوال باريس ومجتمعاتها قبل الحرب، وهو بهذه الصفة وثيقة تاريخية ثقافية لها قيمتها؛ ويتناول الجزء الثاني حياة كاتبين عظيمين هما موريس باريس وبول بورجيه، وقد كان باريس يتولى زعامة فرنسا الأدبية في بعض المناحي ولاسيما الكتابة السياسية الوطنية، وكان بورجيه يتولى الزعامة الأدبية في عالم النقد والتحليل النفسي؛ وقد استطاع كوربشيه أن يقدم لنا صوراً حية قوية من هذين الكاتبين، ومن الآثار العميقة التي أحدثاها في جيل عصرهما الأدبي والثقافي؛ ويبدي كوربشيه فوق ذلك حبه وإعجابه العميق لهما. ويعتبر كتاب كوربشيه نداء للشباب والجيل الجديد يذكره بالقديم وما كان فيه من عظمة تفي
التفكير، وارتفاع عن مناحي الأدب المنحل الذي يغمر كل شيء في عصرنا.
ذكرى الموسيقي لست
احتفل أخيراً في فينا بذكرى الموسيقي الشهير فرانز لست لمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته؛ وهذا الاحتفال هو صدى احتفالات قومية عديدة أقيمت في بودابست احتفاء بهذه الذكرى لأن لست مجري المولد والجنس، ولكنه درس في فينا، وفيها بزغ مجده، وكان مولده في سنة 1811 ووفاته سنة 1886؛ وبرع لست في العزف على البيانو وفي التصنيف الموسيقي، وله بالأخص قطع كنسية رائعة؛ وطاف بباريس ولندن ومعظم عواصم القارة وخلب الألباب بافتنانه وسحره، وكتب عن رحلته كتاباً سماه (أعوام الحج)، وله مصنفات موسيقية في المقام الأول.
وقد أهدت الحكومة المجرية بهذه المناسبة إلى مدينة فينا لوحة تذكارية عن لست؛ واحتفلت الحكومة بوضعها في دير (شوتنهوف) في احتفال رسمي فخم شهده وفد عن الحكومة المجرية، وشهده جمع كبير من الوزراء وأقطاب الفن؛ وألقيت خطب عديدة عن حياة لست وعن عبقريته الفنية؛ وعزفت قطع من تصنيفه ونوه الفريقان بالدور العظيم التي تقوم به ذكرى لست في توثيق الروابط الثقافية والفنية بين الشعبين المجري والنمسوي
دوهامل ومستقبل الكتب
يكتب الآن مسيو جورج دوهامل عضو الأكاديمية الفرنسية في مجلة (مركير) الشهيرة عدة مقالات عن مستقبل الكتب، وما يهددها من أخطار عظيمة من جراء السينما والراديو وغيرهما من الوسائل المصطنعة لنشر الثقافة السطحية؛ وقد كان مسيو الفريد فاليت يكتب في مجلة (مركير) في نفس الموضوع قبل جورج دوهامل؛ ويلاحظ مسيو دوهامل في مقالاته القوية الممتعة أن هذا العصر الذي يهدد فيه مصير الكتب بأشد الأخطار، هو العصر الذي اشتدت فيه حاجة الإنسان إلى (الكتاب) الجيد، وينعى على الحركة الأدبية المعاصرة ما تبديه من الميل إلى جعل الأدب سلعة تجارية وجعله آلياً وتجريده من كل عناصره المعنوية، وذلك طبقاً لأساليب تجعل من الذهن سلعة تجارية منحطة. ويزمع مسيو دوهامل أن يجمع هذه المقالات في كتاب خاص تنتظره الدوائر الأدبية بفارغ الصبر.
وفاة علامة أثري
نعت أنباء فينا الأخيرة العلامة الأثري الدكتور ولهلم كوبتشك توفي في التاسعة والسبعين من عمره، وكان مولده بمدينة برسبورج؛ ودرس التاريخ القديم واللغات القديمة في فينا وبرلين، واشتغل منذ شبابه بالتدريس في جامعة فينا، ثم عين بعد ذلك أميناً لمتحف النقود والمداليات القديمة، وأستاذاً للتاريخ الروماني في جامعة فينا.
وقد اشتهر الأستاذ كوبتشك بمباحثه في مسائل التاريخ، القديم ولاسيما التاريخ الروماني وقراءة النصوص والآثار القديمة وفحص النقود والمداليات القديمة واستقراء التواريخ والحوادث فيه؛ واشتهر أيضاً بمباحثه في الجغرافيا الرومانية القديمة
خريدة القصر للأصبهاني والذخيرة للإمام القرافي
ذكرنا في العدد 168 من (الرسالة) أن الجمعية الآسيوية البنجالية عثرت على جزء من كتاب (خريدة القصر) للأصبهاني، وأنه عثر على نسخة من كتاب الذخيرة للإمام القرافي في مكتبة الأزهر. وقد جاءنا من أمين مكتبة كلية القرويين بفاس ما يأتي:
يوجد بخزانة كلية القرويين العامة بمدينة فاس تحت نمرة (البرنامج الجديد) ل 576 جزءان من كتاب خريدة القصر وجريدة العصر للإمام أبي عبد الله محمد بن محمد الكاتب عماد الدين الاصبهاني المتوفى سنة 597هـ موافق 1200م وهما الجزء الخامس والسادس من النسخة. أول الخامس (قافية العين من شعر القاضي أبي بكر الأرجاني في مدح الوزير جمال الدين أبي علي وزير المسترشد بالله، وفي آخره آخر القسم الثاني من كتاب خريدة القصر وجريدة العصر يتلوه القسم الثالث في ذكر محاسن شعراء الشام في الجزء السادس، وينتهي هذا الجزء السادس بقوله: تم الجزء السادس ويتلوه الجزء السابع وهو الثاني من القسم الثالث الأمراء الكنانيون من شيراز، وهما جزءان ضخمان كتبا بخط جميل أندلسي في كاغد متين خاليين من كل طرة فاقدين اسم الناسخ وتاريخ النسخ إلا أن إمارات القدم تلوح عليهما، وقد كانا مملوكين لجناب أمير المؤمنين المنصور الذهبي السعدي المتوفى سنة 1012هـ موافق 1785م بآخر أحدهما ما نصه: برسم خزانة مولانا أمير المؤمنين الخليفة المجاهد أبي العباس المنصور بن مولاه أمير المؤمنين الخليفة
المجاهد أبي عبد الله محمد الشيخ. وعلى الجزءين معاً وقف هذين الجزءين على خزانة كلية القرويين العامرة، على التحبيس خط يد السلطان المنصور الذهبي السعدي سنة 1012هـ موافق 1782م.
ويوجد أيضاً منه قطعة أخرى مبتورة الأول والآخر كانت مجهولة فأعملت المجهود لكشف عنها فوجدتها من جريدة القصر ونظمت تحت عدد ل 604.
كذلك توجد الذخيرة على مذهب إمام دار الهجرة للعلامة الشهير الإمام القرافي شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس المالكي مذهباً المتوفى سنة 684هـ 1282م تحت نمرة ل 354 غير تامة. الموجود منه الآن تحت النظام ثلاثة أجزاء ضخام جداً، وأصل هاته النسخة من ثمانية أجزاء بدليل ما رقم على الجزء الثامن منها ونصه: (السفر الثامن من كتاب الذخيرة على مذهب إمام دار الهجرة النبوية وفيه من الأبواب الفقهية كتاب أمهات الأولاد، كتاب الجنايات، كتاب موجبات الضمان، كتاب الفرايض والمواريث، كتاب الجامع. فلا شك أن هذا هو الجزء الأخير، وعندنا الجزء السادس وفيه من الأبواب الفقهية كتاب الحبس والوصية والشفعة والشركة. وبآخره: كمل الجزء السادس من الذخيرة بحمد الله وحسن عونه يتلوه في السابع إن شاء الله كتاب الرهون.
وعندنا جزء آخر كتب عليه أنه الخامس من كتاب الذخيرة وعند الفحص لوضع البرنامج الجديد تبين أنه جزء مختلط إذ أوله في الجنايات والمواريث وآخره في العتق والكتابة، وبآخره: تم السفر الخامس من كتاب الذخيرة على يد عبد الملك بن محمد بن عبد الملك الحضرمي سنة 727هـ ويظهر أن هذا غلط من الناسخ حيث ضم أول الثامن مع آخر الخامس وجعلهما سفراً واحداً. أما الأولان أعني السادس والثامن فسالمان. أجزاء ثلاثة ضخام جداً في أوراق متينة مكتوبة بالسواك بخط أندلسي جميل خاليين من اسم الواقف.
محمد العربي
الكتب
كتاب البلاغة العالية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
130 صفحة من القطع الكبير، طبع المطبعة السلفية، ثمنه
خمسة قروش
يمتاز الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي المدرس في كلية اللغة العربية، بحرية الرأي وحب التجديد، والمثابرة على البحث والتأليف، فهو لا يفتأ الفينة بعد الفينة يدبج الرسائل الضافية، والكتب العالية التي تنم عن علم غزير، وأدب وفير، وفكر دقيق لاقف، وهن رهيف خاطف
وقد أخرج للناس في هذه الأيام الجزء الأول من كتابه البلاغة العالية، وهو خاص بعلم المعاني. وأهم ميزة لهذا الكتاب أنه خالف الترتيب المعهود من عهد السكاكي والخطيب، إلى ترتيب آخر جديد، فزاد في علم المعاني فصولاً وحذف منه فصولاً، واجتهد في مسائله برأيه الذي يحرص الحرص كله على إظهاره في كل ما تخطه براعته.
وهناك ميزة ثانية لا تقل عن هذه الميزة أهمية، وهي أنه أزاح طائفة كبيرة من المسائل النحوية التي أقحمها الأقدمون في البلاغة إقحاماً عابثاً، كما ذكروا في أحوال التعريف بالإضمار أنه يكون لأن المقام للتكلم أو للخطاب أو للغيبة، وكإرغائهم وإزبادهم في تقسيم القصر باعتبار المقصور إلى قصر موصوف على صفة وقصر صفة على موصوف، وباعتبار حال المخاطب به إلى قصر أفراد وقصر قلب وقصر تعيين، إلى غير ذلك من المباحث النحوية التي طفحت بها كتب البلاغة وهي أبعد ما تكون عنها. وقد صنع الأستاذ المؤلف خيراً بإزاحته تلك الأعباء النحوية عن كاهل البلاغة، وجعلها خالصة لمعانيها الخاصة بها.
وإنا نشكر للأستاذ إتحافه طلاب البلاغة بهذا الكتاب الذي جرد فيه العناية وأظهر الكفاية حتى استحصفت وثائقه، واستحصدت علائقه، وغدا حريا - من أجله - بأن يوشح حلل المجد والثناء، حجياً بأن يطوق قلائد الشكر والدعاء.
س. ص
ديوان السري الرفاء
طبعته مكتبة القدسي بباب الخلق
السري شاعر من شعراء سيف الدولة كان في صباه يرفو الثياب ويطرزها ثم تولع بالأدب ونظم الشعر وتفنن في التشبيهات والأوصاف فأحسن في كثير منها، وشعره نمط سهل يتحدر عن طبع صاف كما يجري الماء من الينبوع وليس وراءه العلم والفلسفة ولكن وراءه النفس والطبيعة.
وقد قال فيه الإمام أبو هلال العسكري صاحب كتاب الصناعتين: ليس فيمن تأخر من الشاميين أصفى ألفاظاً مع الجزالة والسهولة وألزم لعمود الشعر منه. ويريد أبو هلال بلزوم عمود الشعر تجنب الغموض في تركيب النظم والبعد من تدقيق المعاني تدقيقاً فلسفياً، وذلك رأي كان قديماً في النقد يفرقون بين الشاعر الذي يصنع شعره صناعة عقلية دقيقة وبين المطبوع الذي يرسل شعره في جمال سبكه وصفاء لغته وإشراق معانيه كما يرسل الطائر المتغرد لحنه في التغريد.
وشعر الطبع من أحسن ما يفيد الناشئين في نهضتنا هذه فإنه صقل وجلاء وتصحيح للطريقة وتهيئته للسمو في هذه الصناعة، وديوان السري قوي الأثر في ذلك؛ وهل في الغزل أصفى وأرق وأجمل من مثل قوله:
بنفسي من أجود له بنفسي
…
ويبخل بالتحية السلام
ويلقاني بعزة مستطيل
…
وألقاه بذلة مستهام
وحتفي كامن في مقلتيه
…
كمون الموت في حد الحسام
وله في شكوى الدهر:
يرتد عنه جريحاً من يُسالمه
…
فكيف يسلم منه من يحاربه؟
ولو أمنت الذي تجنى أراقمه
…
علي، هان الذي تجنى عقاربه
الإسلام في بولونيا
تأليف علي فورونوفتش ومحمد سيد الحموي
بلقم الأديب محمود البدوي
رسالة صغير في أربع وستين صفحة من القطع المتوسط طبعت بمطبعة الاعتماد على ورق جيد ومحلاة بكثير من اللوحات والخرائط وصور كبار رجال الإسلام في بولونيا وبعض الفرق الإسلامية والأندية والمساجد هناك. . . وتقرأ فيها كيف نشأ الإسلام في بولونيا وامتد وتشعب واضطهد من الروس وثار عليهم وتحرر وثبتت دعائمه بعد أن استقلت بولونيا حتى غدا الآن عصره الذهبي.
والرسالة في إيجازها تشبه المختصرات التي تلقى على تلاميذ المدارس. وأسلوبها سهل بسيط يفهمه كل قارئ، يود أن يقف على حال المسلمين في تلك البلاد.
وليقرأ معنا القارئ الكريم:
(يبلغ عدد المسلمين في بولونيا 12000 نفس وليس هذا العدد بالقليل إذا نحن وازنا بينه وبين عدد المسلمين في دول غرب وشمال أوربا، وحالتهم المعيشية على جانب عظيم من التحسن، وهذا التحسن آخذ في الزيادة لاهتمام الدولة بهم ومحافظتها على مصالحهم الدينية؛ وهم يعترفون بفضل الحكومة القائمة وكرمها، ويعتبرون هذه الأيام العصر الذهبي للإسلام في تلك البلاد، وهم ينعمون في بحبوحة من العيش وقد توطدت صلاتهم بالخارج وزادت معارفهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية وسافر بعضهم لطلب العلم في الخارج وخصوصاً العلوم الدينية وحج بيت الله الحرام وزيارة الأماكن المقدسة.
وحيد
تأليف الأستاذ حسين عفيف المحامي
قصة تمثيلية طريفة في 191 صفحة من القطع الصغير طبعت بمطبعة حجازي بالقاهرة على ورق جيد. وهي في أربعة فصول طوال وحوارها شائق وأسلوبها متماسك وخيال مؤلفها فياض يروق القارئ المصري. وبطلها وحيد شاعر موسيقي فنان يعيش في كوخ في الجبل، مرت عليه سميرة إحدى بنات الباشوات فأحبها الشاعر وأحبته من أول نظرة. . . وجاءته في اليوم الثاني يدفعها وجدها وحبها ودار بينهما حديث غرامي طويل انتهى إلى عناق أطول. . وافترقا على وعد بلقاء قريب. . . ومرضت سميرة في اليوم التالي
وأرسلت أختها (ألفت) ومعها رسالة رقيقة إلى وحيد فأعجب الشاعر بجمالها وأحبها وأحبته وضمهما عناق. . . وعلمت سميرة بخيانة ألفت وحب وحيد الجديد فكسر قلبها، ومرضت وماتت. . .!! ولحقت بها ألفت ومات بعدهما وحيد وهو يقول:
(هأنذا الآن أقضي ومن قبل قضت سميرة، غداً يلتقي الخلان ويعودون كما كانوا إلى الصفاء بعد أن لم يبق ثمت للعداوة موجب.
والقصة كما قلت خيالية ممتعة وسيعجب بها القارئ كثيراً.