الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 175
- بتاريخ: 09 - 11 - 1936
من ذكريات بغداد
الحلقة. . .
ذلك اسم كان يطلقه الزعيم (ياسين) على ستة من الإخوان جمعهم تشابه الذوق، وألف بينهم تجانس الهوى، فتساهموا الصفاء، وتقاسموا المودة، وخلطوا حياتهم بحياة بعض، فما كانوا يفترقون الصائل الأيام ولا عشايا الليالي. كانوا يتخذون سامرهم كل ليلة في دار أحدهم، فيتحلقون على مائدة الشاي السخية، أو يتقابلون أمام المدفأة الواهجة، ثم يديرون بينهم سقاط الحديث على أروع ما تشققه الأذهان الخصيبة من براعة الفكرة وملاحة النكتة وطلاوة الخبر وسلامة النقد وصحة الحكم، فلا يدعون شأناً من شؤون الحياة، ولا وجهاً من وجوه السياسة، ولا أمراً من أمور البلد، إلا تناولوه باللسان المرهف والفؤاد اليقظ والنظر المستقل؛ فهم معارضون ولا لسان لهم في حزب، ومصلحون ولا يد لهم في زعامة.
كانوا يمثلون نواحي النشاط الفكري في العراق أصل التمثيل؛ ففيهم رجل الجيش، ورجل التعليم، ورجل القانون، ورجل الطب، ورجل الشعب؛ ذلك إلى امتياز كل منهم بسمة من سمات الطبع وصفة من صفات الخلق، فطه الهاشمي عذب الروح، سرى الأخلاق، وقور النفس، مصروف الهم إلى القراءة المنتجة والتأليف المحكم فيما يتصل بالتاريخ والحرب، ولو ترك إلى نفسه لما خرج من مكتبته ولا قام عن مكتبه؛ وناجي الأصيل نبيل العاطفة، حلو الفكاهة، سمح المقادة، أفلاطوني النزعة، يعيش في السماء ويحلم دائماً بالمدينة الفاضلة؛ ويوسف عز الدين متئد اللسان، حصين الصدر، سريع الفطنة، يتبسط في هزل الكلام ويتحوط في جده، وهو لا ينفك لإخوانه موضع السر ومرجع المشورة؛ وكامل الجاردجي متوقد الذكاء، متمرد الطبع، متوثب العزيمة، دائب الحركة، صليب الرأي، يدين بالديمقراطية، ويميل إلى الاشتراكية، ويرفرف بجناحيه على الفلاح والعامل والعاطل؛ وموفق الآلوسي طموح القلب، سريع البادرة، بارز الشخصية، يعتد برأيه إلى حد العناد، ويعتز بنفسه إلى حد المخاطرة؛ وشوكت الزهاوي واسع البال، ضيق الأفق، قد قصر جهده على عمله فلا يكاد يطمح في شيء، ولا يشارك في رأي، ولا يحفل بحادث؛ وأولئك كانوا لما اجتمع لهم من ضروب الثقافة وشتى الخلال صورة مصغرة للأمة، يعيشون منعزلين وهم فيها، ويفكرون مستقلين وهم منها، كأنهم كانوا لآمالها رموزا تتميز تميز العنوان،
وتنفرد انفراد العلم. كانوا جميعاً في ربقة الحكومة إلا كاملاً، فكان للجماعة الكلمة الحرة والفكرة الطليقة. وقف على السياسة الصريحة قواه، وأيقظ لأطوارها المختلفة رأيه، فكان يناصر الحزب ما دام معارضا، فإذا قبل الحكم تركه إلى غيره، حتى انفرد ذات يوم بالمعارضة. كان اليد اليمنى لياسين في حزب الإخاء الوطني، وياسين أمل البلاد المرجو وزعيمها المنتظر، فلما رآه يقصد الحكم عن طريق الملاينة والمسايرة خالفه ومعه مقاعد البرلمان ووظائف الديون ومزايا السلطة، وخرج مغاضباً إلى الجهاد بالنفس والمال، فزاول المحاماة، وعالج الصحافة، ولقي في سبيل الله ما يلقى المعارضون المتزمتون من الضيق والعنت.
كان لي في هذه (الحلقة) كرسي وثير دائم، يحيطه الإخوان بالعطف ويخصونه بالكرامة؛ وكنت أجد في نفسي من الأنس بهم والطمأنينة إليهم ما لا أجده لجماعة أخرى، فكنت أناقلهم شجون الحديث فأعلم منهم ما لا أقرأ في الصحف ولا أسمع من الناس ولا أرى في الحكومة. كانوا يحملون في نفوسهم آمال العراق الناشئ، وفي رؤوسهم ثورة الشباب الجديد: سياستهم الجماعة قبل الفرد، والعامة قبل الخاصة، والعراق قبل العروبة. ولكن آراءهم كانت في رأيي أشبه بأحلام الفلاسفة تحت رواق المعبد؛ لأنك إذا استثنيت كاملا لا تجد فيهم من يفكر في انقلاب أو يجهر بمعارضة.
تركت العراق وفيصل ونوري وجعفر قد مكنوا لدولته بالمرونة اللبقة والسياسة التجارية التي تعطى لتأخذ؛ وكان شباب البلاد قد سئموا سياسة الأمر الواقع وبرموا بالإدارة المطلقة، فتمنوا حكومة زعيمهم المحبوب ياسين؛ وتسلم ياسين مقاليد الأمور، وانضوى إليه رفيقاه، وآل إليهم سلطان البلاط بالفعل، ونفوذ (دار الاعتماد) بالقانون؛ وسارت السفينة آمنة - كما يرى البعيد - من الألغام والصخور، ثم تفرقت السبل بعدئذ برجال الحلقة.
طخ! طخ! طخ! ثلاث قنابل ألقتها ثلاث طوائر على سراي الحكومة! فروعت الموظفين وأفزعت الآهلين، فأخلوا السراي وأغلقوا المدينة! ماذا؟ الجيش الثائر يحاصر بغداد ويطلب إلى المليك إقالة الوزارة! وبكر صدقي الفاتك الطماح يقترح للوزارة الجديدة حكمت سليمان! وحكمت سليمان يدخل في وزارته الحلقة ما عدا طرفيها. لقد كان صديق الحلقة، وكان في معارضته من طراز (كامل) لا يحفل الثراء ولا يبالي المنصب، حتى رووا أنه
ضاق يوماً براتب سائقه فذهب به إلى قائد الشرطة يرجو منه أن يجد له عملا يعيش عليه!
أحمد حسن الزيات
2 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فرأى الضحكة التي ألقت بها صاحبته وهي ترقص حين عرفته - غير ما رأيتها أنا غير ما رأى الناس. كانت لنا نحن ابتساما عذاب من فم جميل يتم جماله بهذه الصورة، وكانت له هو لغة من هذا الفم الجميل يتم بها حديثاً قديماً كان بينهما. واعترانا منها الطرب واعتراه منها الفكر، ووصفت لنا نوعاً من الحسن ووصفت له نوعاً من الشوق، ومرت علينا شعاعاً في الضوء ووقعت في يده هو كبطاقة الزيارة عليها اسم مكتوب. . .
وقوى إحساس الراقصة الجميلة بعد ذلك فانبعث يدل على نفسه ضروبا من الدلالة الخفية، ورجعت بهذا الإحساس كالحقيقة الشعرية الغامضة المملوءة بفنون الرمز والإيماء وكأنها زادت بهذا الغموض زيادة ظاهرة، وللمرأة لحظات تكون فيها بفكرين حينما يكون أحد الفكرين ماثلاً أمامها في رجل تهواه؛ ففي هذه الساعة تتحدث المرأة بكلام فيه صمت يشرح ويفسر، وتضطرب بحركة فيها استرخاء يميل ويعتنق، وتنظر بألحاظ فيها انكسار يأمر ويتوسل، وكانت هي في هذه الساعة. . . فغلبت والله على صاحبها المسكين وتركت نفسه كأنها تتقطع فيه من أسف وحسرة؛ ثم كانت له كالزهرة العبقة بينه وبينها جمالها وعطرها وهواؤها والحاسة التي فيه.
وجعل يستشفها من خلال أعضائها وهي ترقص، ثم قال لي: انظر ويحك! لكأن ثيابها تضمها وتلتصق بها ضم ذي الهوى لمن يهوى.
قلت: ما هي إلا كهاتين اللتين ترقصان معها: امرأة بين امرأتين وإن كانت أحسن الثلاث.
قال: كلا، هذه وحدها قصيدة من أروع الشعر تتحرك بدلا من أن تقرأ، وترى بدلا من أن تسمع؛ قصيدة بلا ألفاظ ولكن من شاء وضع لها ألفاظاً من دمه إذا هو فهمها بحواسه وفكره وشعوره.
قلت: والأخريان؟
قال: كلا كلا، هذا فن آخر، فالواحدة من هؤلاء المسكينات إنما ترقص بمعدتها. . . ترقص للخبز لا غير. أما (تلك) فرقصها الطرب مصنوعاً على جسمها ومصنوعاً من جسمها؛ إنها
كالطاووس يتبختر في أصباغه، في ريشه، في خيلائه، بخترةً يضاعفها الحسن ثلاث مرات. ولو خلق الله جسمين أحدهما من الجواهر أحمرها وأخضرها وأصفرها وأزرقها، والآخر من الأزهار في ألوانها ووشيها، ثم اختال الطاووس بينهما ناشر ذيله في كبرياء روحه الملونة - لظهر فيه وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة.
وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء الستارة بعد أن أرسلت قبلةً في الهواء. . . فقال صاحبنا: آه لو أن هذه الحسناء تصدقت بدرهم على فقير، لجعلته لمسة يدها درهماً وقبلة. . .
قلت: يا عدو نفسه؛ هذه قبلة محررة مسددة وقد رأيتها وقعت هنا. . . ولكنك دائماً في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة. تعشق القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيها، وتبني العش وتتركه فارغاً من طيره. إن المرأة التي تحبك لا بد أن تنتهي إلى الجنون ما دامت معك في غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن.
ثم بدأ فصل آخر على المسرح وظهر رجال ونساء وقصة؛ وكان من هؤلاء الرجال شيخ يمثل فقيها وآخر يمثل شرطياً، فقال صاحبنا الفيلسوف: لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنها الآن تنطق أن صحة أكثر الأشياء في هذه الحياة صحة الظاهر فقد ما دام الظاهر يخلع ويلبس بهذه السهولة؛ فكم في هذه الدنيا من شرفاء لو حققت أمرهم وبلوت الباطن منهم لرأيتهم إنما يشرفون الرذائل لأنهم يرتكبونها بشرف ظاهر. . . وكم من أغنياء ليس بينهم وبين اللصوص إلا أنهم يسرقون بقانون. . . وكم من فقهاء ليس بينهم وبين الفجرة إلا أنهم يفجرون بمنطق وحجة. . . ليست الإنسانية بهذه السهولة التي يظنها من يظن وإلا ففيم كان تعب الأنبياء وشقاء الحكماء وجهاد أهل النفوس؟
العقدة السماوية في هذه الأرض أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان إلا حيوانا متلطفا تلطيفاً إنسانياً؛ ثم أراه الخير والشر وقال له اجعل نفسك بنفسك إنسانا وجئني.
قلت: يا عدو نفسك، فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنت حيوان ملطف تلطيفاً إنسانياً؟
قال: ويحك! وهل العقدة إلا هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة، ثم هي لي كالضرورة القاهرة، فلا يكون حبها إلا أغراء بنيلها، ولا تكون سهولة نيلها إلا إغراءً لذلك الإغراء؛ فأنا منها في امرأة وحب، ولكني في امتحان شديد عسر أغالب ناموسا من نواميس الكون، وأدافع قانونا
من قوانين الغريزة، وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة بأسبابها، وهي أشد الضرورات عنفاً وإلحاحاً وقهراً للنفس من قبل أنها ضرورة لازمة، وأنها مهيأة سهلة. فلو أن هذه المرأة المحبوبة كانت ممتنعة بعيدة المنال لما كانت لي فضيلة في هذا الحب العفيف، ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى؛ فهذا هو الامتحان لأصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي.
ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيل فقد كان كالصورة العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها، وكانت (الحقيقة) في شيء آخر غير هذا. ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيه فن؛ وهذا هو سر كل امرأة محبوبة، فهي وحدها التي تثير شعور المحب في نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق، ويجد في معانيها جواب معانيه، وتأتيه كأنها صنعت له وحده، وتجعل له في الزمان زمناً قلبياً يحصر وجوده في وجودها وليس فن الحب شيئاً إلا استطاعة الحبيب أن يجعل شهوات المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقة عليه، كأن به وحده ظهور جسدية هذا الجسد وروحانية هذه الروح. وكل ما يتزين به المحبوب للمحب، فإنما هو وسائل من المبالغة لإظهار تلك المعاني التي فيه كيما تكبر فيدركها المحب بدقة، وتثور فيحسها العاشق بعنف، وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة
والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب الإنسان، وهي تتبع فكره وخياله؛ ولا تفاوت بينها إلا بالقوة والضعف، أو التنبه والخمود، أو الحدة والسكون؛ غير أنها في الحب تجد لها فكراً وخيالاً من المحبوب، فتكون كأنها قد غيرت طبيعتها بسرٍ مجهول من أسرار الألوهية. ومن هنا يتأله الحبيب، وهو لم يزد ولم ينقص ولم يتغير ولم يتبدل؛ وتراه في وهم محبه يفرض فروضاً، ويشرع شريعة من حيث لا قيمة لفروضه وشريعته إلا في الشهوة المؤمنة به وحدها.
ومن ثم لا عصمة على المحب إلا إذا وجد بين إيمانين أقواهما الإيمان بالحلال والحرام، وبين خوفين أشدهما الخوف من الله، وبين رغبتين أعظمهما الرغبة في السمو.
قان لم يكن الفاسق ذا دين وفضيلة فلا عصمة على الحب إلا أن يكون أقوى الإيمانين الحرص على مكانة المحبوب في الناس، وأشد الخوفين الخوف من القانون. . . وأعظم الرغبتين الرغبة في نتيجة مشروعة كالزواج.
فان لم يكن شيء من هذا أو ذاك فقلما تجد الحب إلا وهو في جراءة كفرين، وحماقة جنونين، وانحطاط سفالتين. وبهذا لا يكون في الإنسانين إلا دون ما هو في بهيمتين.
ثم جاء الفصل الثالث وظهرت هي على المسرح. ظهرت هذه المرة في ثوب مركيزة أوربية تخاصر عشيقاً لها فيرقصان في أدب أوربي متمدن. . . متمدن بنصف وقاحة؛ متأدب. . . متأدب بنصف تسفل، مشروع. . . مشروع بنصف كفر؛ هو على النصف في كل شيء حتى ليجعل العذراء نصف عذراء؛ والزوجة نصف زوجة. . .
وكان الذي يمثل دور العشيق فتاة أخرى غلامية مجممة الشعر ممسوخةً بين المرأة والرجل. فلما رآها صاحبنا قال: هذا أفضل. . . .
وهشت الحسناء وتبسمت وأخذت في رقصها البديع فانفصل عني الصديق وأهملني وأقبل عليها بالنظرة بعد النظرة بعد نظرة، كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه، ورجع وإياها كأنه في عالم من غير زمننا تقدمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره ساعة. وكانت جملة حاله كأنها تقول لي: إن الدنيا الآن امرأة! وكان من السرور كأنما نقله الحب إلى رتبة آدم ونقل صاحبته إلى رتبة حواء، ونقل المسرح إلى رتبة الجنة.
والعجيب أن القمر طلع في هذه الساعة وأفاض نوراً جديداً على المسرح المكشوف في الحديقة فكأنه فعل هذا ليتم الحسن والحب. وأخذ شعاع القمر السماوي يرقص حول هذا القمر الأرضي فكانت الصلة تامة وثيقة بين نفس صاحبنا وبين الأرض والسماء والقمرين.
ما هذا الوجه لهذه المرأة؟ إنه بين اللحظة واللحظة يعبر تعبيراً جديداً بقسماته وملامحه الفتانة. كل البياض الخاطف في نجوم السماء يجول في أديمه المشرق؛ وكل السواد الذي في عيون المها يجتمع في عينيه؛ وكل الحمرة التي في الورد هي في حمرة هاتين الشفتين.
ما هذا الجسم المتزن المتموج المفرغ كأنه يندفق هنا وهنا؟ إنه جسم كامل الأنوثة؛ إنه صارخ صارخ؛ إنه عالم جمال فيه كما تقول الفلسفة حين تصف العالم: فيه (جهة فوق) و (جهة تحت). لو امتدت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس. . .
ما هذا؟ ما هذا؟ لقد ختم الرقص بقبلة ألقاها الخليل على شفتي الخليلة، وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلاها راجعة برأسها إلى خلف، نازلةً به رويداً رويداً إلى الأرض، هاربة بشفتيها من الفم المطل عليها. وكان هذا الفم ينزل رويدا رويدا ليدرك
الهارب. . .
وقبل أن تقع القبلة التفتت لفتة إلى. . . ثم تلقت القبلة أما هو؛ أما مجنونا؛ أما صاحب القلب المسكين؟
(طنطا)
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي
الأدب والخلود
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
عشت سنين عديدة - أكثر عمري - بالخيال والهم. وكانت دنياي تحد من كل ناحية بجدران مكتبتي ومنظاري المكبر الذي أتدبر به الحياة وأستعين على درسها بقوته وقدرته على الجلاء والكشف والتوضيح، الكتب الكثيرة المرصوصة على رفوفها. وكانت رياضتي حين أكل وأتعب ويبلغ مني الجهد أن أدير عيني في صفوف هذه الكتب التي كنت أنتقي أنفس الطبعات منها وأحسنها ورقا وأجودها جلداً وأحلاها منظراً. فلما صدمتني الحياة - مرة وأخرى - ورأيت أزهار آمالي وورق آرائي التي كنت أحسبها خالدة النضرة دائمة البهجة ولا أظن بها إلا أنها ستظل رفافة أبداً - أقول لما رأيتها تصفر وتتساقط وتذوى وتجف وتتكسر وتنفرك في يدي وتحت قدمي راعني عظم جهلي، وهالني الشعور بالوحدة والوحشة والغربة في هذا العالم الزاخر الذي احتجت برغمي أن أخوض بحره وأرمي بنفسي في عبابه وأنا لا أدري كيف أسبح فيه وأتقي الغرق.
وأنصف الكتب فأقول إنها لم تغشني ولم تخدعني ولم تتعمد أن تزيف صور الحياة، ولكني اقتصرت عليها واستغنيت بها، فصرت لا أرى الحياة إلا بعيون أصحابها، ولا أحسها بغير أعصابهم، حتى ليخيل إلي الآن - من حيث معرفتي يومئذ بالحياة وإحساسي بوقعها وفهمي لها وتجربتي لأحوالها - أني كنت أشبه بكتاب مختارات من جملة ما قرأت وحصلت، ولست بإنسان له وجود وشخصية وكيان مستقل. ومن متناقضات ذلك العهد أني كنت من أعظم الكتاب تحمساً للدعوة إلى تحرير الأدب العربي من رق التقليد وأن كنت أنا لا أعدو أن أكون نسخة مختصرة لكل قديم من الآراء والمذاهب والاحساسات والخوالج. وليس هذا ذنب الكتب وإنما هو ذنبي. على أني لو كنت وجدت من يرشدني لرشدت ولانتفعت بما ضاع من عمري، ولكني لم أجد هذا المرشد والناصح الأمين والقدوة الحسنة لا في المدرسة ولا في البيت ولا في الإخوان، فقد كان شأنهم كشأني، سوى أنهم كانوا أحكم مني وأرشد بطبيعتهم وأهدى سبيلاً، فلم يقعوا فيما وقعت فيه ولم يضيعوا مثل ما ضيعت من عمري.
وأحسست بخيبة الأمل والضيعة في كل ناحية، فاسودت الدنيا في عيني وخامرني اليأس، وظهر ذلك في كل ما عالجت من فنون الأدب وألوانه، وهجرت العمار إلى الخراب،
وانتقلت من المدينة الحية التي تعج بالناس وتزخر بالحياة إلى الصحراء المنقطعة ورمالها الصفراء وجدبها الرائع وفضائها الرحيب وسعتها العقيمة، لأني رأيت أنها أولى بي، وأن المقام في خرابها العظيم أرفق بنفسي المتهدمة وآمالي التي درست وهماتي التي فترت.
وتعاقبت السنون - أربعة عشر عاماً كاملاً - وأنا أجد الأنس بالصحراء والروح فيها والراحة بها. نعم كنت أنحدر إلى المدينة كل يوم وأرى الناس وأعمل معهم وأكد وأسعى، ولكني كنت لا أشاطرهم شعورهم بالحياة وإن كنت لا أثقل عليهم بما أحس. وكنت أكون معهم، ولكني بقلبي وعقلي مع الصحراء، فلا أكاد أعود إليها حتى أحس أن حجراً قد انحط عن صدري وأنه صار في وسعي أن أتنفس وأن أنضو ما أتكلفه مع الناس وأواجه حقيقة نفسي التي أضمرها وأخفيها عن العيون واسترها حتى لا أوذي الناس بها.
ولكن الصحراء معدنها خصب وإن كانت ظاهرة الجدب حتى لتبدو كأن لا أمل فيها، وإن قلبها العامر وإن كانت في رأى العين خواء قواء. وإن الاحتمالات التي تنطوي عليها لأكثر من أن يأخذها حصر، وما ينقصها إلا أن تساعفها الأحوال. وهل مصر كلها إلا صحراء جرى فيها نهر واحد فانقلبت من جنات الدنيا؟ فهذه الصحراء أيضا جنة مضمرة وفردوس مكنون.
وصار مجرى هذا الخاطر في نفسي عميقاً على الأيام، فقلت لنفسي في خلواتي الكثيرة بها: إن هذه الصحراء فيها قوى مستورة مقيدة تنتظر الانطلاق، وخصباً محجوباً لو وجد ما يظهره لربا فيها النبات واهتز ورف وزكا. وأنا أيضاً مثلها. ولم لا؟ أأكون أعقم وأجدب من التراب والحصى والرمال الصفراء؟. . . وقد انتشرت على سطح نفسي طبقة كثيفة من القنوط غطت ما انطوى عليه من الزكاء والطيب والريع الكثير الوفير، وما أظن بها إلا أن فيها خمائل أمل مدفونة ورياض خير أحسبها على الرغم من كل شيء لا تزال مخضلة يترشش نداها. وإن النفس لأقدر - أو هي ينبغي أن تكون أقدر من التراب على تربيت الندى وحفظه وادخاره. وإذا كانت تربة بعض النفوس مبكاراً فليس بضائري أن تكون تربة نفسي مئخاراً. وما يمنعها التأخر بعد أن تبشر ويخرج نباتها أن يسرع ويطول ويقوى. وإذا كانت هذه الصحراء تنتظر أن يجيئها الغوث من الخارج فان النفس غياثها فيها. وللصحراء السحب التي تجري الماء على وجهها، وللنفس مدد كاف من حيويتها التي
هي في أعمق أعماقها. وأحسب أني لو حفرت في هذه الأرض لبلغت الماء ولو بعد عمق كبير. كذلك أحسب أني لو مهت نفسي وحفرت فيها لوقعت في بعض أعماقها على ماء غير قليل؛ وسأحتاج أن أرمي التراب وأخرج الطين والحجارة وأن أنكشها من حين إلى حين حتى لا تعود جميعها فتتجمع وتسدها مرة أخرى.
واقتنعت بذلك وصح عزمي على إن من الواجب تنقية نفسي - أو بئرها - مما سد منابع الماء في أعماقها المجهولة، فأعددت العدة لذلك وجئت بالعتلات والمعاول والمجارف والحبال والمقاطف والدلاء إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه المرء في الحفر. وقلت لنفسي: (اسمع يا هذا. . . إنك لا تستطيع أن تحتفر إلا إذا وسعت، فما تدري أقريبة المنزع بئر نفسك هذه أم بعيدته؛ والأرجح أن تكون بعيدة وأن تكون قد تكدست فوقها أكوام شتى وطبقات متراكبة من أوحال السخافات المختلفة المتعددة التي عشت بها هذا العمر كله. فيجب من الآن - وقبل الشروع في الحفر - أن توسع صدرك وتوطن نفسك على الشك في كل ما أخذت به من الآراء والمذاهب، أي على اعتبار أن كل ما كان عندك بمنزلة العقائد التي لا تقبل الجدل يجب أن يعاد بحثه بغير هوى، وإلا كان ما يوشك أن تحاوله الآن من الحفر عملا لا خير فيه ولا جدوى منه، وأولى بك حينئذ أن تنصرف عنه. وكما أن الذي يحتفر بئراً لا يستطيع ذلك إذا هو اجتزأ بثقب ضيق إشفاقاً على الأرض أن يفسد منظرها بتوسيع الفوهة وأن يشوه استواءها، كذلك أنت لا تستطيع أن تصل إلى شيء إذا كنت ستصر على آرائك القديمة، فاضرب فيها كلها بمعولك وانظر كيف ثباتها، وهل تحتمل ذلك أم تتناثر وتتبعثر ذراتها وتنقلب ترابا يطير كالهباء، وهذا أول ما ينبغي أن تروض وتوطن نفسك عليه وإلا فتعبك ضائع مع الرياح الأربع.
ولم أجد لي معدي عن الرضى بمراجعة النفس وإعادة النظر بغير هوى في كل ما كنت أعده من الحقائق المفروغ منها. فقلت لنفسي: (يجب أن أبداً من البداية. والبداية هي أني خلقت لأعيش وأعطيت الحياة لأحيا. وهذا من البدائه، إذ لا يعقل أن أكون أعطيت الحياة لأرميها للكلاب، وإلا فلماذا أعطيتها إذن؟ وما دام الأمر كذلك فأن واجبي الأول هو أن أعيش وأحيا، وأن أحرص على الحياة وأضن بالعيش أن يفسده شيء بقدر ما يدخل هذا في الوسع. ثم إني لم أعط حياة الأبد، وإنما أعطيت حياة محدودة لها آخر كما لها أول، وهذا
يضاعف وجوب الحرص عليها والضن بها على المفسدات، لأنها فضلاً عن القصر يسهل زوالها ويضيع معناها بسوء الرأي. وعلى إذن أن أنفي من جوها كل ما ينغص هذه الحياة أو يقصر عمرها أو يفسد فترتها. وأول ما ينغص هذه الحياة ويضيع معناها ويفسد الغاية منها ويعكس الآية فيها ويقلبها عذابا وجحيما، هذا الأدب الذي جننت به وضيعت خير شطر من عمري فيه. وما هو الأدب على كل حال. .؟ هو شيء - أعني كلاما - يحاول صاحبه به أن يوهم الناس أنه خير منهم وأرقى وأذكى وأفطن وأحس وأعلم، وأن خطوهم وراءه بأجيال إذ يخطو هو على مهل. ثم يرتقي المرء من إيهام الناس إلى إدخال الوهم على نفسه هو فيزعمها خالدة باقية على الزمن بآثاره - أي بالكلام الذي يصوغه - على حين تفني كل هذه الملايين من معاصريه وممن جاءوا قبله ومن سيجيئون بعده. فلماذا بالله يخلد كلامه وحده دون كلام هذه المئات العديدة من الملايين في كل أمة وكل زمن؟. . . ثم كيف يتاح هذا الخلود في حياة قائمة على الفناء المحقق؟. . . وليس الخلود ألف سنة ولا ألفين ولا ثلاثة ولا أربعة أو أكثر. . . وانظر من ذا الذي خلد إلى الآن. . . وفكر في أمل الذين نذكرهم إلى اليوم في دوام الذكر على الزمن. . . وإذا كنت الآن أعجب لشيء فإني أتعجب لذلك الذي يستطيع أن يفهم الخلود ويقنع بما فهم من معناه نفسه.
وأعترف بأني كنت أومن بالخلود في هذه الدنيا الفانية، ولكني أعترف أيضا أنها كانت عندي كلمة حلوة أرتاح إليها وأحس لها ندى على النفس وبردا على القلب من غير أن أدرك لها معنى محدوداً جلياً. وإذا كان هناك من يؤمن بهذا الخلود فيخيل إلى أنه إما أن يكون شاباً لم يعان الحياة ولم يواجه حقائقها، أو هو رجل لا يزال قادراً على مغالطة نفسه أو على الإيحاء إليها، أو فيه لوثة تمنع أن يجيء تفكيره مستقيماً؛ وقد يكون هناك غير هؤلاء فما أدعى الإحاطة ولا ما هو قريب منها. وبدا لي وأنا أفكر في هذا أن من السخف أن يتصور المرء أنه سيخلد بآثاره لا لسبب إلا أنه نشر كتاباً وأن الصحف أثنت عليه ومدحته. كأن الأجيال المقبلة ستعقم صحفا وكتابا هم أقرب إلى نفسها ومزاجها وأساليب تفكيرها وإلى احساساتها واتجاهاتها ونزعاتها من كتاب الجيل الذي مضى أو الأجيال التي اندثرت. وغريب أن يعتقد إنسان إن آراءه وأساليب تفكيره وكتابته الخ تظل هي الحبيبة الأثيرة إلى كل عصر على الأزمان كلها!
كانت فكرة الخلود أول ما أخرجته وألقيته من الأوحال التي تراكمت على نفسي وحرمتني نعمة الشعور بالحياة - كما ينبغي أن يكون الشعور بها - والارتياح إليها. فقد كنت أستسخف الناس وأستحمقهم وأستقل عقولهم وأحتقر عواطفهم وأراهم دوني في كل شيء، ولا أكاد أطيق منها معارضة أو مخالفة يسيرة أو ملاحظة بريئة يحسن فيها القصد ولا تسوء النية؛ وكنت أترفع عنهم وأحس أني متواضع جداً حين أجالس أحدهم؛ وكان يزيد شعوري بالتواضع ويضاعفه أن أراني أكلمهم كما يتكلمون وأجاريهم في أحاديثهم الفارغة وثرثرتهم الجوفاء فأرضى عن نفسي كل الرضى وأقول لها في تسويغ هذا التواضع:(وماذا عسى أن يصنع المبصر بين العميان؟) وما أكثر الأعمال التي تركتها وفقدت رزقي منها لأني لم أطق من صاحبها الذي كنت أعمل معه أن يكلم رجلاً خالداً مثلي كأنه من أندادي - أو أن أسمع كلاماً يشعرني أنه لا يفطن إلى قيمة من هو معه ولا يدرك أنه خالد وأنه حقيق بالتقديس وجدير بأن يركع أمامه على ركبتيه. ولقد خاصمت مرة رجلاً لأنه لم يأخذ برأيي ولم يصدر عن مشورتي، فعددت منه هذا تطاولاً على مقامي؛ وغضبت على آخر لأنه نظر إلي نظرة تبينت فيها الحسد كان ما وهبنيه الله يمكن أن يطمع في مثله طامع. والويل لمن كان يحدثني ولا يحرص على أن تكون عينه في عيني. . . إذن هو يتعمد أن يفهمني أنه يستخف بي وأنا الذي يعي الزمان مكان نده.
وبعد أن أخرجت الخلود وأفرغت القفة من طينه أحسست أني حططت عن صدري جبلاً فقلت: (يا سلام. . . أما إنها لراحة كنت محروماً منها. . . والله لقد كنت مغفلاً. . . وما الذي أغراني بوضع هذا الجبل كله على صدري. . . وكيف بالله كنت أرجو أن أتنفس. . . أعوذ بالله. . . والحمد لله).
وبعد أن أخذت حظي من الراحة قلت لنفسي: (إذن ما الرأي في هذا الأدب الذي نكبني بفكرة الخلود وزين لي هذه المصيبة التي رزأت بها نفسي؟ (وفكرت ثم قلت) ما دمنا قد خلصنا من مصيبة الخلود، فالأدب أولا يكون وسيلة للتنفيس عن النفس والتخفيف عنها وإراحتها من ثقل العواطف والخوالج، وهذا هو الذي يسميه غيري فناً ذاتياً - وقد كنت مثلهم أفعل ذلك - وأسميه أنا سلوى شخصية، والمسألة ميل واستعداد. . فهذا يجد ما يسليه ويرفه عن في الألعاب الرياضية، وذاك يلتمس الترفيه في القمار، وثالث يجد التسرية في
الرقص، ورابع يفوز بها من الأدب - أي من رص الكلام الفارغ. وليس الكلام الفارغ هو الذي يسري عن النفس، وإنما هو المجهود الذي يبذله المرء في رصف هذا الكلام. ومجهود رصف الكلام هو مجهود بدني ككل مجهود آخر، والمرء يحس بالإعياء والتعب بعده كما يحس بعد لعب الكرة أو غيرها. ولعل الإعياء فيه أشد لقلة الحركة الجسمية، وكثرة ما ينهك من الأعصاب.
ثم ينقلب الأدب صناعة مع طول المزاولة والتدريب، كما يمكن أن ينقلب أي فن آخر؛ ويصبح كما هو الحال والواقع عندي. ومن الناس في الأدب الهاوي أي الأديب الذي لم يتحول على الأيام وبالمزاولة صانعا، فهذا لا يزال يتخذه سلوى وملهاة يزجى بها الفراغ ويريح بها النفس ويرفه عن الأعصاب وإن كان يتعبها من ناحية أخرى كما يتعب المرء نفسه بالتنس والسباحة وغير ذلك: أما من صار مثلي فالأدب عنده صناعة وإن شق عليه أن يعترف بذلك ورأى في الاعتراف به غضاضة أو توهمها على الأصح لطول ما راض نفسه على النظر إلى الأدب كأنه فن سماوي يغري به الذي تميزه الطبيعة وتكتب له عندها الخلود كأن الطبيعة تحابي الناس على نحو ما يحابي الخلق بعضهم بعضاً.
وخرجت من هذا التفكير بأني في الواقع فتحت دكان أدب إذا أحسنت الإعلان عنها ولفت النظر إليها وأجدت عرض ما فيها من البضاعة فأني خليق أن أفوز بالإقبال عليها والطلب لما فيها فيكثر كسبي ويعظم ربحي كما هو الحال في كل تجارة أخرى. ولا فرق بين غيري من الأدباء وبيني إلا على قدر اعتمادهم في رزقهم على الأدب؛ فمن كان معوله مثلي عليه فالأدب عنده صناعة لا شك في ذلك، وإلا فهو رجل يسر الله له رزقه ففي وسعه أن يتسلى بالأدب كما يمكن أن يتسلى باقتناء الديكة أو الثعابين أو السجاجيد أو بالكرة أو التنس أو السياحة أو التوغل في مجاهل الأرض لصيد الأسود والفهود والفيلة إلى آخر ما يمكن أن يلهو به إنسان إذا رزق الوسيلة.
ولما انتهيت من هذا كله سهل علي أن أتلقى الحياة كما يتفق أن تجيء وأن أتقبلها بلا تذمر أو تسخط. وهان علي ما كان يبدو لي عسيراً فيما مضى قبل أن يرتد إلي عقلي الذي ذهب به جنون الأدب، فان لكل فن ضرباً من الجنون، وليس الأديب الذي يتوهم أنه خالد ويطلب أن يعامله الناس على هذا الاعتبار بأقل جنوناً من بائع الفول المدمس الذي يأبى أن
يبيعك منه شيئاً ولو بذلت له مال قارون إلا إذا تقدمت إليه في تواضع ظاهر وقلت له إني أريد (لوزاً) بقرش. ولا فرق عندي - الآن - بين اعتداد الأديب بأدبه إلى ذلك الحد المبالغ فيه وبين تجبر بائع الفول وتحتيمه عليك أن تسمى فوله لوزاً لظنه أن تسميته لوزاً أبلغ في التبجيل وأدل على التوقير. وما يطلب بائع الفول في الحقيقة أن توقر الفول وإنما يطلب أن توقره هو، ولكنه يشعر أن طلب التوقير لشخصه مباشرة قد لا يلقى الارتياح، فهو يجعل من الفول أداة لما يشتهي ويروم ولا يفطن إلى أن الناس يجارونه ويضحكون منه ويتفكهون فيما بينهم بالتنكيت عليه لأنه لا يرى الضحك ولا يسمع النكت، وإنما يرى مظاهر الاحترام المتكلف ويسمع فوله يدعى لوزاً. وليست النعامة وحدها هي التي تستطيع أن تغالط نفسها وتتجاهل ما تغمض عينها عنه فأننا جميعاً مثلها وان كنا لغرورنا نضرب بها المثل في الحماقة. وكذلك الأديب الذي يطلب منك الاحترام والتوقير لخلوده إنما يطلب هذا لشخصه لا لأدبه؛ ولو أمكن أن يهتدي إلى وسيلة أخرى له ما يشتهى وما تتعلق به نفسه من الإجلال والإكبار غير الأدب لما قصر في اتخاذها، ولكان الأرجح - إذا وجدها أجدى عليها - أن يتساهل فيما يجب للأدب من الإكبار، بل لرأيته يدعي أنه إنما يكتب أو ينظم أحياناً للتسلية لا لمنافسة الأدباء المحترفين. وكل إنسان يشتهي المجد أو التمجيد من الطريق الذي يراه أوفق له ويرى نفسه أقدر على انتهاجه ولا فرق من هذه الناحية بين الأدب وبين رفع الأثقال والحرب والموسيقى والسياسة وغير ذلك، فإنها جميعاً وسائل يستعين بها الإنسان على ما يريد من الفوز بالتمجيد الذي تصبو إليه نفسه.
وقد وجدت وأنا أنقب وأحتفر حجارة كثيرة تفتتت من صخرة الخلود الضخمة زحزحتها وأخرجتها ورميتها مثل النبوغ والعبقرية وما أشبه ذلك فألقيتها جميعاً، فشعرت بالراحة وأحسست أن ما كان يسد متنفسات روحي قد زال والحمد لله على التوفيق؛ ورأيتني قد رجعت إنساناً بعد أن كنت دفتراً أو كتاباً كالكتب التي عندي، وكل ما كان ينقصني هو أن أجد من يغللني أو يجلدني ليتسنى أن أوضع على رف كبقية الكتب وعلى ظهري كما على ظهورها (كشكول المازني). والواقع أني لم أكن إلا كشكولاً فيه خليط مضطرب غير متسق من الآراء المستمدة أو المولدة من هنا وههنا فصرت بعد التنقية الدقيقة التي أجريتها في نفسي إنساناً يشعر بالحياة التي وهبها ويلتذها وينعم بها ويحرص عليها كما ينبغي أن يفعل
ويوفر لها الأسباب التي تعين على زيادة الإمتاع المستفاد منها.
وكنت كالذي وقف وفي يديه ما يشبه المنظار فإذا رفعه إلى عينيه لم ير إلا الصورة المطبوعة أو المنقوشة على زجاجة وهو يحسب انه يكبر له الأشياء ويجسم له المناظر. أما بعد التنقية فقد رميت هذا الذي كنت أحسبه منظاراً مكبراً ونظرت بعيني لا بعيون الغير فبدت لي الدنيا بما فيها من جمال وقبح ومن خير وشر ومن عرف ونكر، وأنا الآن أخوض العباب وأغالب التيار وأصارع الموج، وأطفو تارة وأرسب أخرى، ولا أعدم ما أتعلق به فأنجو وأستريح وأستجم إذا أدركنا التعب لاكما كنت - واقفاً على الساحل أصف ما لم أجرب وأتحدث عما لم أختبر تقليداً لإحساس غيري ومجاراة لنظراته وأنا لا أدري أني لست سوى مقلد وإن كنت أزعمني مبتكراً.
وخطرت لي حكاية، فقد زعموا أن صانعاً بارعاً منقطع النظير خاف المعجبون بحذقه وأستاذيته أن يدركه الأجل فيموت معه فنه ويلف عليه وعلى براعته كفن واحد، فتقدموا إليه يرجون منه أن يتخذ له تلاميذ يعلمهم فأبى، فألحوا فلم يلن، فشكوه إلى الحاكم فأمره أن يفعل فلم يطع فسجنه، ولبث في السجن أياماً، فتشاور محبوه وإخوانه في الأمر فقال أحدهم:(أنا أحل لكم هذا المشكل) ودعا إليه واحداً من أتباعه وقال له أنّا سنسجنك مع هذا الصانع في حجرة واحدة فكن معه الرفيق المخالف، فإذا ضحك فاعبس أنت، وإذا رأيته يعبس فاضحك أنت وقهقة، وهكذا في كل شيء. (ففعل الرجل كما أمره فكاد الصانع يجن وطلب أن يأخذوه إلى الحاكم، فلما صار عنده قال له إنه مستعد أن يعلم ألف تلميذ ولا يبقى ساعة واحدة مع هذا الرفيق المخالف في غرفة واحدة.
بمثل هذا يجب - في رأيي - أن يعالج الذين يصرون على الحكم لنفسهم بالخلود قبل أن تحكم لهم الأيام فما أعرف طريقة أجدى وأكفل بشفائهم من طريقة الرفيق المخالف.
إبراهيم عبد القادر المازني
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 3 -
أسلفنا القول عن إحدى الشخصيتين اللتين أثارتا مشكلة النبوة أثناء القرن الثالث والرابع للهجرة في شكل حاد، ونعني بها ابن الراوندي. واليوم نريد أن نتحدث عن الشخصية الأخرى التي ليست أقل من الأولى خطراً في هذا المضمار والتي ربما كانت أعرف لدى جمهور القراء، وهي شخصية أبي بكر محمد بن زكريا الرازي الذي ولد سنة 250 هجرية بالري حيث تعلم الرياضيات والفلك والأدب والكيمياء. ويظهر أنه لم يتقدم للدراسات الطبية إلا بعد أن بلغ سنا خاصة، ولكنه لم يلبث أن برز فيها على جميع معاصريه وأحرز شهرة كبيرة. فصار يتنقل من بلاط إلى بلاط، ومن مدينة إلى مدينة، يشرف على مستشفاها ويأخذ بيد العلاج والطب فيها. وكان في كل هذا يحن إلى الري ويعود إليها من حين لآخر إلى أن توفى بها في العقد الثاني في القرن الرابع. وليس هناك شك في أن الرازي هو أكبر طبيب في الإسلام، بل وفي القرون الوسطى على الإطلاق. فقد أحاط بكل النظريات الطبية القديمة وأدخل عليها عناصر جديدة هدته إليها تجاربه الكثيرة، ومنح الكيمياء كذلك قسطاً كبيراً من عنايته، ودرسها دراسة واقعية تجريبية قضت على كثير من الخرافات والأباطيل التي لصقت بها في ذلك العهد. ولم يكن الرازي طبيباً وكيميائياً فحسب، بل اتجه نحو الفلسفة وكتب فيها عدة أبحاث. ولقد كان حريصاً كل الحرص على أن يلقب بالفيلسوف؛ ولذلك لما أحس أن بعض معاصريه ينكرون عليه هذا اللقب سارع إلى الرد عليهم، وبين في رسالة خاصة مميزات الفيلسوف العلمية والعملية محاولاً أن يطبقها على نفسه. وهو في طبه وفلسفته واثق من نفسه كل الوثوق وإلى درجة لا نكاد نجدها لدي أي شخص من مفكري الإسلام. فهو ينتقد جالينوس في بعض آرائه، ولا يتردد في أن يرفض فريقاً من النظريات الأرسطية، ويضع نفسه في مصف أبقراط وسقراط من الأطباء والفلاسفة السابقين. وفوق هذا فهو لا يسلم بتلك الجملة المشهورة: (ما ترك الأول للآخر
شيئاً) ويعتقد على العكس منها أن السابقين تركوا للاحقين أشياء كثيرة. وقد استدرك هو نفسه على القدامى جزءاً من نقصهم وأصلح بعض أخطائهم. ولا نظنه ينكر علينا إذا حاولنا اليوم أن نثبت ما في آرائه من ضعف أو خطأ، وما أشبهه في هذا ببيكون بين الطبيعيين والفلاسفة المحدثين. وليس بغريب أن يقف هذا الموقف أشخاص ينادون بالتجربة ويؤمنون بنظرية التقدم العلمي المستمر. فالرازي إذن مجدد وذو آراء مستقلة يجدر بنا أن نعرفها بصرف النظر عن خطئها أو صوابها، شذوذها أو اعتدالها.
لم تستبق لنا الأيام، ويا للأسف، كثيراً من مؤلفات الرازي الطبية والكيميائية والفلسفية، إلا أنا ربما كنا أعرف بطبه وكيميائه منا بفلسفته. والسبب في ذلك أن الباحثين من المحدثين عنوا بالرازي الطبيب والكيميائي أكثر من عنايتهم بالرازي الفيلسوف. ونحن لا ننكر أن جانبه العلمي أوضح وأقوى من جانبه الفلسفي، وأن ما وصل إلينا من كتبه الطبية والكيميائية يزيد نسبياً على مخلفاته الفلسفية. بيد أن في فلسفته جرأة وغرابة تدفع الباحث إلى دراستها وتفهمها. وإذا كان شذوذها وخروجها على المألوف هما من دواعي الإعراض عنها والتنفير منها فأنهما في الوقت نفسه من وسائل الترغيب فيها والتشويق إليها. ونعتقد أنا نستطيع الآن أن نكون عنها فكرة كاملة على ضوء ما نقله أبو حاتم الرازي والبيروني والكرماني ونصيري خسرو، وبعض الرسائل القليلة التي وصلت إلينا والتي كتبها الرازي نفسه.
لئن كان الرازي قد اشتغل بالفلسفة فإنه يفترق عن فلاسفة الإسلام المعروفين في نواح كثيرة. فهو يهاجم أولا أستاذهم وزعيمهم أرسطو ويخرج على كثير من نظرياته الطبيعية والميتافيزيقية.
ويبالغ ثانيا على العكس منهم في التعليق بأهداب الآراء المزدكية والمانوية والمعتقدات الهندية. وينكر أخيراً كل الإنكار محاولتهم التوفيق بين الفلسفة والدين. ويرى أن الفلسفة هي السبيل الوحيد لإصلاح الفرد والمجتمع، وأن الأديان مدعاة التنافس والتطاحن والحروب المتتالية. وقد كتب كتابين عدهما البيروني بين الكفريات، وهما: مخاريق الأنبياء أو حيل المتنبئين، ونقض الأديان أو في النبوات. وقد صادف الكتاب الأول نجاحا لدى بعض الطوائف التي انتشر فيها الزندقة والإلحاد وخاصة لدى القرامطة. ويذهب
الأستاذ ماسنيون إلى أن أثره تعدى إلى الغرب وكان منبع تلك الاعتراضات التي وجهها عقليو أوربا إلى الدين والنبوة في عهد فرديك الثاني. وحتى اليوم لم يوقف له على أثر بين المطبوعات والمخطوطات العربية. وأما الكتاب الثاني فقد وصلنا منه فقرات عن طريق غير مباشر في كتاب أعلام النبوة لأبي حاتم الرازي المتوفى سنة 330 هجرية. وأبو حاتم هذا من أكبر دعاة الإسماعيلية الذين أبلوا بلاء حسنا في طبرستان وأذربيجان في أوائل القرن الرابع للهجرة. وقد كان معاصراً ومواطناً للرازي الطبيب، ودارت بينهما مناقشات حادة ومتعددة حضرها بعض العلماء والرؤساء السياسيين
وقد شاء أبو حاتم أن يدون هذه المناقشات في كتابه أعلام النبوة. حقا إنه لا يصرح في هذا الكتاب باسم الرازي ويكتفي بأنه يوجه نقده إلى من سماه الملحد؛ غير أن هناك أدلة قاطعة على أن هذا الملحد ليس شخصاً آخر سوى الرازي. فان حميد الدين الكرماني المتوفى سنة 412هـ وزعيم الدعاة الإسماعيليين في عصر الحاكم بأمر الله يصرح في كتابه الأقوال الذهبية بأن مناقشات في النبوة والمناسك الشرعية دارت بين الرازي والشيخ أبي حاتم بجزيرة الري أيام مردادج وفي حضرته. والكرماني حجة في هذا الباب فإنه أعرف ما يكون بأخبار الإسماعيليين زملائه وبمواقف الرازي وآرائه التي أخذ على عاتقه أن ينقض بعضها في كتابه الآنف الذكر. ومما يؤسف له أن مخطوطة أعلام النبوة الوحيدة، التي وصلت إلينا، بدون مقدمة؛ ويغلب على الظن أن هذه المقدمة المفقودة كانت تشتمل على غرض الكتاب والدافع إلى تأليفه. فكتاب أعلام النبوة يقفنا على الاعتراضات الرئيسية التي وجهها الرازي إلى النبوة وأثرها الاجتماعي؛ وعليه نعتمد هنا أولاً وبالذات.
وهذه الاعتراضات في جملتها تقترب بعض الشيء من الاعتراضات التي أثارها ابن الراوندي من قبل. وكأن الرجلين يرددان نغمة واحدة ويصدران عن أصل معين، أو كأن تعاليم هندية وآراء مانوية اختفت وراء حملتهما. ونحن نعلم من جهة أخرى أن الرازي يقول بالتناسخ الذي عرفت به السمنية من الهنود، ويتشيع للمانوية الذين كانوا يدسون في غير ملل للإسلام ومبادئه؛ ولا يبعد أن يكون قد وقف على نقد الإغريق للديانات على اختلافها. وسواء أكان الرازي متأثراً بعوامل أجنبية أم معبراً عن آرائه الشخصية فإنه يصرح بأن الأنبياء لا حق لهم في أن يدعوا لأنفسهم ميزة خاصة، عقلية كانت أو روحية،
فان الناس كلهم سواسية، وعدل الله وحكمته تقضي بالامتياز واحد على الآخر. أما المعجزات النبوية فهي ضرب من الأقاصيص الدينية أو اللباقة والمهارة التي يراد بها التغرير والتضليل. والتعاليم الدينية متناقضة يهدم بعضها بعضا ولا تتفق مع المبدأ القائل إن هناك حقيقة ثابتة؛ ذلك لأن كل نبي يلغي رسالة سابقه وينادي بأن ما جاء به هو الحق ولا الحق سواه؛ والناس في حيرة في أمر الأمام والمأموم والتابع والمتبوع.
والأديان في جملتها هي أصل الحروب التي وقعت فيها الإنسانية من قديم، وعدو الفلسفة والعلم. وربما كانت مؤلفات القدامى أمثال أبقراط وأقليدس وأفلاطون وأرسطو أنفع من الكتب المقدسة. يقول الرازي:(الأولى بحكمة الحكيم ورحمة الرحيم أن يلهم عبادة أجمعين معرفة منافعهم ومضارهم في عاجلهم وأجلهم ولا يفضل بعضهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا. وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمةً لبعض فتصدق كل فرقة أمامها وتكذب غيره، ويضرب بعضهم بالسيف ويعم البلاء ويهلكوا بالتعادي والمجاذبات، وقد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى).
نظننا في غنى عن أن نشير إلى أن أقوال الرازي هذه تمثل أعنف حملة وجهت إلى الدين والنبوة طوال القرون الوسطى. بيد أن الشيخ أبا حاتم استطاع أن يقابل هذه الحملة وجهاً لوجه ويخذلها، وأن يهدم هذه الفتنة من أساسها. وفي كتابه أعلام النبوة صفحات تفيض إفحاماً وإعجازاً، ومناقشات تسد على المكابرين والمعاندين سبل التخلص والفرار. وحبذا لو نشر هذا الكتاب في جملته فضم آية إلى آيات الإسماعيلية الكثيرة وأثراً من آثارهم العلمية النفيسة. وأبو حاتم ممن أحسنوا الجدل والمناقشة والأخذ والرد. وكيف لا وهو داع مهمته أن ينتصر لدعوته، ويرد عنها شبه الخصوم والمعارضين؟ فهو لا يرد على الرازي بقضايا مسلمة وأدلة مشهورة، وإنما يحمله على أن يرفض نفسه بنفسه، ويبين له أن أقواله وآراءه متهافتة ومتناقضة. وهو فوق هذا لا يتكلم باسم الإسماعيلية وحدهم، بل باسم الإسلام والعقل والإنسانية جمعاء. ذلك لأن مشكلة النبوة لا تتصل برفقة دون فرقة، ولا تعني طائفة منفردة من طوائف الإسلام.
وقارئ كتاب أعلام النبوة لا يشعر مطلقاً أنه يحمل شارة خاصة على عكس كتب الفرق المختلفة. وهنا نقطة نحب أن نلفت النظر إليها، وهي أن حملة الرازي وابن الراوندي من
قبله على الأديان والنبوات أثارت الأوساط الإسلامية على اختلافها، وحفزتها إلى الدفاع عن معتقداتها. فأبو علي الجبائي الكبير (المتوفى سنة 303هـ) وابنه أبو هاشم (المتوفى سنة 324هـ) المعتزليان، وأبو الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324هـ) زعيم أهل السنة رأوا من واجبهم أن يردوا على ابن الراوندي؛ ومحمد بن الهيثم الفلكي والرياضي (المتوفى سنة 430هـ) أخذ على عاتقه أن ينقض رأي الرازي في الإلهيات والنبوات.
إلا أن الإسماعيلية بوجه خاص قد بذلوا في هذا المضمار همة عالية ومجهودا صادقا؛ ومعظم الردود على منكري النبوة إنما وصلتنا عن طريقهم. وليس هذا بغريب، فأن الإسماعيلية في تعاليمها الدينية ومبادئها السياسية تقوم على النبوة وتعتمد عليها.
في هذا الجو المملوء بالحوار والمناقشة في موضوع النبوة الخطير نشأ الفارابي، وكان لا بد له أن يقاسم في هذه المعركة بنصيب. لاسيما وهو معاصر لابن الراوندي والرازي معا؛ فقد ولد سنة 259 هجرية وتوفى سنة 339. ويروى المؤرخون أنه كتب ردين، أحدهما على بن الراوندي والآخر على الرازي؛ ونأسف جد الأسف لأن هذين الردين لم يصلا إلينا. وقد نستطيع أن نتكهن بموضعهما على ضوء الملاحظات السابقة. فإنه لا يتوقع أن يرد الفارابي المنطقي الفيلسوف على ابن الراوندي إلا في شيء يتصل بالمنطق والجدل اللذين أخل الأخير بقواعدهما، أو في مبدأ من مبادئ الفلسفة والإلهيات التي خرج عليها.
ولابد أن يكون الفارابي، وهو الأرسطي المخلص والمعنى بالسياسة والاجتماع، قد أخذ على الرازي كذلك أشياء كثيرة، في مقدمتها التهجم على أرسطو وإنكار مهمة الرسول السياسية والاجتماعية. على أن الفارابي لم يكتف بهذا الموقف السلبي وهذا الدفع الذي إن رد عن النبوة بعض خصومها الحاضرين فهو لا يمنحها أسلحة تستعين بها على هجمات المستقبل. وعلى هذا أجهد نفسه في أن يقيم النبوة على دعائم عقلية ويفسرها تفسيرا علمياً، وبذا استطاع أن يبطل كلمة أنصار العقل الموهومين، ويدحض دعوى المتفلسفين الذين يزعمون أن الدين لا يمكنه التآخي مع الفلسفة، ولا القرب منها. ومن غريب المصادفات أن هذه الدعائم الجديدة ترجع إلى أصل أرسطي؛ فكأن الفارابي قد تمكن في نظرية النبوة أن يصوب إلى هدفين ويحظى بغايتين، فأسس الأديان تأسيسا عقلياً فلسفياً وأبان للناس أن أرسطو الذي تهجم عليه الرازي وأنكره آخرون جدير بحظ كبير من الإجلال والتقدير.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
الحرب الأهلية الإسبانية
صراع بين الطغيان والحرية
خطر الفاشستية على السلم الأوربي
بقلم باحث دبلوماسي كبير
انتهت المأساة الإسبانية إلى موقف شديد الحرج، فمنذ أسابيع تطوق القوات الثائرة مدريد، وتشدد عليها الحصار والضغط، وتصلى المدافعين عنها والمسالمين من أهلها ناراً تحصد الأرواح بلا رأفة؛ ومنذ أسابيع تضطرب الجمهورية الإسبانية في يد القدر، وتبذل جهود المستميت للدفاع عن حياتها وكيانها؛ وقد لاح مدى لحظة حينما زحف الجيش الثائر على مدريد، وطوقها من معظم النواحي أن مدريد ستسقط تواً، وأن الجمهورية الإسبانية قد تلفظ أنفاسها الأخيرة في أيام قلائل؛ ولكن الجيش الثائر لقي مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها؛ وتدل الأنباء الأخيرة التي وردت ونحن نكتب هذه السطور أن القوى الجمهورية التي تدافع عن مدريد قد عادت إلى الهجوم، واستردت بعض المواقع التي تشرف على العاصمة، وأن الأمل قد يتجدد بإنقاذ مدريد وإنقاذ الحكومة الجمهورية؛ بيد أن مصا ير الحرب قد تتغير فجأة، وقد تقسط مدريد في يد الثوار قبل أن تطلع (الرسالة) على القارئ بهذا المقال.
على أنه يجب أن نلاحظ أولاً أن سقوط مدريد لا يعني ختام الحرب الأهلية الإسبانية؛ ولا يعتبر نصراً حاسماً للثورة العسكرية؛ ذلك أن سقوط العاصمة قد قدر منذ بعيد وبحثت الحكومة الجمهورية كل ما يترتب عليه من الاحتمالات؛ ولن يترتب عليه من الوجهة المادية سوى كسب الثوار لمدينة جديدة، وإن كان يعتبر من الوجهة المعنوية فوزاً له قيمته؛ وما زالت الجمهورية مسيطرة على شرق إسبانيا كله من قطلونية حتى مالقة، وكذلك على قسم كبير من الأقاليم الوسطى والشمالية؛ فإذا سقطت مدريد؛ قامت الحكومة الجمهورية في برشلونة أو في قاعدة أخرى، واستمر النضال مضطرماً بين الفريقين.
ولكن هزيمة الثوار أمام مدريد قد تكون بالعكس موقعة الفصل في هذه الحرب البربرية المخربة؛ ذلك أن قوى الثوار ومواردهم محدودة، وقد دفعوا إلى المعارك الأخيرة بكل قواهم ومواردهم الاحتياطية. فإذا هزموا أمام العاصمة بعد أن لاح لهم أمل الظفر، تفككت قواهم
وخبت روحهم المعنوية، وربما اضطروا إلى الانسحاب عن جزء كبير من الأقاليم التي يحتلونها؛ وعندئذ تتطور مصا ير الحرب في صالح الجمهورية.
ولقد عالجنا موضوع الحرب الأهلية الإسبانية منذ نشوبها في أواخر يوليه الماضي، وقلنا يومئذ والحوادث في بدايتها إن هذه الحرب الأهلية الداخلية ليست إلا طوراً من أطوار الصراع الأوربي العام بين الديمقراطية والفاشستية، أو بعبارة أخرى بين النظم الحرة والطغيان العسكري؛ وقد أيدت الحوادث رأينا وما زال كل يوم تكشف لنا عن هذه الحقيقة بأدلة مادية لا شك فيها؛ وإذا كان مما يدعو إلى الأسف أن حكومة مدريد الشعبية قد اضطرت إزاء الظروف القاهرة أن تعتمد في نضالها على بعض العناصر غير المرغوب فيها من شيوعية وفوضوية؛ فليس معنى ذلك أنها حكومة شيوعية كما تصورها لنا الدعاية الفاشستية، بل هي في الواقع حكومة جمهورية شعبية من ورائها العمال والفلاحون والطبقات الوسطى أو بعبارة أخرى من ورائها الشعب الإسباني. أما الثورة التي يرفع لواءها الجنرال فرانكو وزملاؤه من القواد والضباط الخوارج فهي ثورة النظم الطاغية التي حطمتها الجمهورية في سنة 1931، ومن ورائها الملوكية الذاهبة والكنيسة وأحبارها وكبار الملاك وأصحاب الأموال، والقواد والضباط الخوارج، وهي العناصر التي كانت تتمتع بالنفوذ والسلطان في ظل الملكية الذاهبة، وترهق الشعب الإسباني بطغيانها وامتيازاتها وجشعها؛ فلما ظفر الشعب الإسباني بالقضاء على الملوكية في سنة 1931 لبث أنصارها من الأحبار والملاك يترقبون الفرص للانتقاض على النظام الذي قضى على نفوذهم؛ وقامت الوزارة الجمهورية الأولى التي يرأسها السنيور أزانا ببعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية كنزع ملكية بعض الضياع الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين، وفصل جماعة من الضباط الذين يشك في ولائهم، والحد من سلطات الكنيسة وأحبارها، فزادت هذه الإجراءات في غضب العناصر الرجعية؛ وفرت رؤوس الأموال الكبيرة إلى الخارج، وزادت العطلة والبأساء وأخذت الجمهورية الجديدة تتخبط في غمار من الصعاب السياسية والاقتصادية؛ وجاءت بعد وزارة أزانا في أواخر سنة 1933 وزارة محافظة فألغت هذه الإصلاحات، ولكنها فشلت في معالجة الأزمة الاقتصادية؛ وأسفرت هذه الأزمة غير بعيد عن قيام بعض الحركات الثورية الخطرية، ولا سيما في منطقة الاستورياس وفي قطلونية
حيث يشتد الاحتشاد الصناعية؛ وعملت العناصر الرجعة على إذكاء الثورة، ولكنها أخفقت وسحقت في سيل من الدماء؛ وقامت وزارة اشتراكية جديدة برآسة السنيور أزانا في فبراير الماضي، وعاد الفلاحون إلى المطالبة بنصيبهم من الأرض، واستولوا على كثير من الضياع واضطرت الحكومة أمام الضغط العام أن تقر هذه الحركة، واشتدت في محاسبة الكنيسة ونزع أملاكها وفي مطاردة أحبارها وتجريدهم من كل حول ونفوذ؛ ولكنها لم تفعل شيئاً لإصلاح الجيش وتطهيره من العناصر الناقمة، مع أن الجيش كان مصدر الخطر على الجمهورية، ولو فعلت لتغير سير الحوادث؛ ورأت العناصر الرجعية أن تلتف حول العناصر الناقمة في الجيش من قادة وضباط، وأن يتحد الجميع على مقاومة هذه الحركة الخطيرة التي ستنتهي بالقضاء عليهم وعلى أملاكهم وامتيازاتهم، وكانوا يضعون آمالهم في الجيش والحرس المدني، ويعولون على إسقاط الجمهورية بثورة عسكرية محلية، لأن الشعب لا يحبهم ولا يمكن أن يصغي إليهم؛ ولكن الحكومة الجمهورية كانت على شيء من التحوط والحذر، فاضطروا أن يولوا شطرهم إلى مراكش حيث تكثر العناصر الناقمة في الجيش، وحيث يستطيعون الاعتماد على الجند المغاربة، وعلى المعاونة الخارجية.
هكذا اجتمعت أسباب الثورة الإسبانية التي انفجرت في 17 يوليه الماضي، وتولى قيادتها الجنرال فرانكو حاكم جزر الكناري، وأحد زعماء الجيش الناقمين؛ على أن هذه الثورة لم تنشأ مستقلة، ولم تكن داخلية محضة، فقد كانت تعتمد منذ الساعة الأولى على المعاونة الأجنبية، ولم يك ثمة شك في المصدر أو المصادر التي قدمت هذه المعاونة؛ فقد رأت الفاشستية الإيطالية وهي عماد النظم العسكرية الطاغية في أوربا الجنوبية لأسباب سياسية وعسكرية أن تشد أزر الجنرال فرانكو، وأن تعاونه بكل الوسائل؛ ورأت ألمانيا النازية من جانبها أن تشترك في هذه المعاونة لأسباب وبواعث مشابهة، ذلك أن قيام حكومة عسكرية رجعية في مدريد تقوم على وسائل الطغيان والعنف التي تقوم عليها الفاشستية الإيطالية والنازية الألمانية، مما يقوي هذه النظم من الوجهة المعنوية، ومما يضعف جبهة الديموقراطية الأوربية التي تقف في وجه الفاشستية والنازية؛ وحصن الديموقراطية الأوربية إنكلترا خصيمة إيطاليا منذ الحرب الحبشية، وفرنسا خصيمة ألمانيا التاريخية؛ وإيطاليا ترى في قيام حكومة فاشستية في إسبانيا تقع تحت نفوذها وتأثيرها وسيلة لتقوية
نفوذها في غرب البحر الأبيض وتهديد مركز إنكلترا في هذه المياه؛ ولذلك لم تدخر إيطاليا وألمانيا وسعاً في إمداد الثورة الإسبانية بالسلاح والذخائر والرجال؛ ولم يبق سرا أن أسطول الثوار الجوي كله يتكون من طيارات إيطالية وألمانية، وأن ضباطه جميعاً من الإيطاليين والألمانيين؛ وأن إيطاليا قد اتخذت من جزيرة ميورقة مركزاً لإمداد الثور الإسبانية وتموينها، وإن الإمدادات الألمانية تصل إلى الثوار من الشمال، ومن الغرب بواسطة البرتغال التي تعمل أيضاً في معاونة الثورة وإمدادها تحقيقاً لأطماع ومصالح خاصة؛ وقد ترددت فوق ذلك إشاعة قوية بأن هنالك اتفاقاً سرياً بين الثوار وبين إيطاليا وألمانيا والبرتغال، يقضي بأن تأخذ إيطاليا جزر البليار ثمناً لمعاونتها، وتأخذ ألمانيا جزر الكناري، وتأخذ البرتغال بعض الأراضي المجاورة لحدودها الشرقية؛ وهو اتفاق لا يبعد صدوره من زعماء عسكريين يعملون بمال الأجنبي وسلاحه لسحق الحريات الشعبية في بلادهم وإراقة دماء مواطنيهم على هذا النحو الذريع الذي تطالعنا به الأنباء كل يوم؛ وهذا الاحتمال مما يثير اليوم في فرنسا وإنكلترا أشد الجزع، لأن جزائر البليار على مقربة من المياه الفرنسية وهي واقعة في طريق الجزائر، ولأن حلول إيطاليا بها يعرض سيادة إنكلترا في غرب البحر الأبيض ومواصلاتها الإمبراطورية من طريق جبل طارق إلى أشد الأخطار على أن الدولة الفاشستية في الحوادث الإسبانية على هذا النحو كان له رد فعل مماثل؛ فقد رأت روسيا السوفيتية من جانبها أن تقاوم نفوذ الفاشستية في إسبانيا بمعاونة الحكومة الجمهورية، وقد قابلت المثل بإرسال السلاح والذخائر والطائرات إلى حكومة مدريد، وقد ظهر أثر هذه المعاونة أخيراً بثبات الجنود الجمهوريين وانقلابهم إلى الهجوم في كثير من المواقع حول مدريد؛ ولهذا التدخل الثنائي في الحوادث الإسبانية قصة دولية مضحكة، فقد اقترحت فرنسا في بدء نشوب الحرب الأهلية الإسبانية على الدول أن تتبع إزاءها سياسة الحياد المطلق، ووافقت على هذا الرأي إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وروسيا والبرتغال، وأنشئت لجنة عدم التدخل لتراقب تنفيذ هذه السياسة المشتركة ولكن الدول الفاشستية كانت تعبث منذ الساعة الأولى بمبدأ الحياد، وكانت روسيا تقابلها بالمثل، وقد اشتركت فرنسا أيضا في معاونة حكومة مدريد ولكن بشكل مستتر؛ فلما ظهر أن الدولة الفاشستية تتمادى في معاونة الثورة، رفعت روسيا القناع أيضاً وأنذرت أنها تستأنف كل
حريتها في العمل إذا لم تقم الدول الأخرى، أعني ألمانيا وإيطاليا، بالكف عن مساعدة الثوار؛ والآن تبدو مساعدة روسيا لحكومة مدريد بشكل واضح وتتقاطر السفن الروسية من البحر الأسود إلى مياه برشلونة وبلنسية واليقنت مشحونة بالذخائر والمؤن، وقد يتطور الموقف إلى أشد من ذلك، وقد يفضي هذا التدخل المزدوج غير بعيد إلى مصادمات وحوادث لا تؤمن عواقبها على السلام الأوربي.
لقد غدت الفاشستية مصدر الخطر على سلام أوربا، وكانت البلشفية قبل عامين مصدر هذا الخطر العام، ولكن روسيا السوفيتية رأت في النهاية أنها لا تستطيع أن تبقى في عزلتها الخطرة خصوصاً بعد أن استعادت ألمانيا جيشها وتسليحاتها في ظل الفاشستية الهتلرية، فانضمت إلى جبهة الدول الغربية، وعقدت مع فرنسا الميثاق الشهير الذي اتخذته ألمانيا ذريعة لنقض جميع تعهداتها العسكرية في معاهدة الصلح؛ وقد حل الخطر الفاشستي الآن في تهديد سلام أوربا محل الخطر البلشفي؛ وقوام هذا الخطر مطامع ألمانيا وإيطاليا العسكرية والاستعمارية؛ وقد رأت روسيا أن قيام دولة فاشستية جديدة في إسبانيا مما يقوي جبهة الدول الفاشستية ضدها، فرأت أن تخوض المعركة في إسبانيا ضد التدخل الفاشستي، وأن تعاون حكومة مدريد ما استطاعت لأن في فوزها فوزا للجبهة الديموقراطية التي اندمجت فيها روسيا.
فالمعركة التي تضطرم الآن في إسبانيا هي معركة مبادئ تذكيها المصالح والمطامع السياسية والعسكرية؛ وهي مظهر محلى لتلك المعركة العامة التي تضطرم في أوربا بين الجبهتين الخصيمتين؛ ومن الخطر على سلام أوربا وعلى حريات الأمم الضعيفة أن تنتصر هذه الثورة الفاشستية؛ وربما كان انتصارها نذير حرب أوربية إذا لم تنجح أوربا في حصر هذه الشعلة المضطرمة داخل إسبانيا؛ بيد أن المعركة ستستمر حينا آخر، وقد تتغير مصاير الحرب بين آونة وأخرى، فتحرز الجمهورية الإسبانية نصرها الحاسم، وتتحطم مشاريع الدول الفاشستية، وينجو السلام الأوربي مما يتهدده من الأخطار.
(* * *)
من النيل. . . إلى الرافدين
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
حينما قيل لي في وزارة المعارف: إنك ممن اختيروا لانتدابهم للتدريس في مدارس العراق، أحسست أن واجباً يناديني ويطلب التلبية مهما كانت فجأة النقلة ووعثاء السفر ولوعة الفرقة للأهل والوطن. . . تحقيقاً للثقة العراقية في السمعة المصرية التي رفع الله ذكرها في الشرق العربي الإسلامي، ووفاء لناشئة العراق ببعض ما لأجدادهم على العقلية العربية العامة من دين المجد والدين والعلم. . . وإيغالا بالجسم في صميم الشرق. . . وملأ للنفس من روحه الذي أومن بسره وسحره. . . وتوثيقا للعلائق بين البلدان العربية التي ما يبزغ فجر يوم جديد إلا وفيه أمل مشرق بوحدتها التي يرسم القلم الأعلى حدودها، وينسج الزمان بنودها، ويصنع جنودها.
وانطلق الجسم من حدود الأرض التي له فيها تاريخ وأطوار. . . إلى الأرض التي للروح والعقل فيها أشواق وأوطار! فقد عاشا في ميراثها، وقبسا من هداها للجنان واللسان، واعتز بفتوح أقلامها وسيوفها، فهما منها على غير نكرً.
واستدبرت السفينة شاطئ الوطن الذي في ترابه أبي، وعلى ترابه أمي، فأحسست شعور الانفصال له وقدة على كبدي! وصارت الفلك واحتواها الماء الذي قامت على عبريه بواكير الحضارات، وذابت في عبابه دولات، فقرأناه ككلمة خالدة في التاريخ، وعبرناه كقطرة في محيط الطبيعة.
وأقبل الليل ونحن على موج نرى جهاد السفينة فيه، والتقاء الظلام به، وإشراق النجوم عليه، فإذا القلب خافق صريع بسحر هذه الأكوان الثلاثة التي في كل منها محراب لعبادة الجمال الأعلى.
وتنفس الصبح على صفحة البحر فإذا لون من بهجة الحياة يشيع في النفس فتود لو أن الفلك والفلك وقفا فلا يريمان! ولاح حاجب الشمس من صوب فلسطين الثائرة ضد البطش والدس، فإذا بالعيون تشخص والخيال يطوف في بطون الوديان وقنن الجبال، فلا يرى إلا ثائراً رابضاً وراء صخرة، أو طائراً يقذف (بالبيض) مصارع، أو شلوا في فم ذئب، أو عيناً في منقار طير، أو طراداً عنيفاً بين قوة جبارة تعتمد على حذق للجديد من أساليب
الحرب، وبين مقاومة صلبة فدائية تعتمد على الحق وإمداد الايمان؛ فسألنا الشمس أم الحياة أن تشرق بالأمل على قلوب أبناء عمومتنا، وأن تنضح مضاجع الشهداء بالشعاع المسكوب!
ثم أوفت بنا السفينة إلى بيروت وقد مال ميزان النهار إلى الغروب، فلاحت (الحمراء) في سفح لبنان كغادة نائمة في حضن جبار. فودعنا البحر واستجممنا قليلاً، ثم اجتزنا لبنان في طريق كسير الأفعي فلم نر منه غي جماله النائم، وعهدي به منذ ثلاث سنين في ضحوة النهار، أرض الفتنة والسحر.
لبنان والخلد اختراع الله لم
…
يوسم بأجمل منهما ملكوته
ونزلنا دمشق عرش أمية الفاتحة الماهدة لدولات العرب طريق الحضارة والاستقرار في الوطن الكبير، فما رأينا منها إلا كما يرى النظر الطائر من مدينة تتثاءب لهجعة الليل. وما هي إلا بقية من سواد قضيناها في فندق أمية حتى غدونا مصبحين مسرعين إلى سيارات الصحراء. . . وهكذا خرجنا من الفيحاء من غير أن نرى أفراحها ومباهجها لاسترداد حريتها واستقبال وفدها، ومن غير أن نحج إلى مناسك جهادها وأعلام تاريخها.
فلما جاوزنا أرباض المدينة، وابتدأت صفرة الصحراء تطغى على خضرة الزرع، أخذت أجمع نفسي وأرهف حسي لأستقبل المجهول الذي طالما تاقت الروح إلى اختراق غيوبه وهتك حجابه حتى ترى ما فيه من صور الصمت والهول والوحشة، ونستلهم سماءه بعض المعاني التي فتقت ألسنة آبائنا بهذه الألفاظ البدوية الواعية لما أتت به الحضارات والمترجمة عن خلجات النفسي ودقائق الأحاسيس.
وهنا ابتدأ شعور مفاجئ لا تاريخ له في قلبي، فحملق البصر وتفرس في ذلك الرحب ليرى ظلال الأجناد والأحداث التي قلب بها القدر أوضاع الأرض بأيدي محمد وأبي بكر وعمر، وطغيان الموجات العربية في فترات التاريخ، وولادة الجزيرة، واحتضان العراق والشام ومصر لما تلد؛ ثم انحسرت هذه النظرة الأولى وارتدت تستنشد اللسان قول لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
…
وتبقى الديار بعدنا والمصانع!
ثم احتدمت الهاجرة، والتهب الهواء، والمع السراب، وبرزت الصحراء الحمراء عارية تحت عين الشمس، ونحن فيها (كركْبٍ م الجَنّ في ِزي ناسٍ) فوق مركب (يملأ الآفاق
صوتاً وصدى) فتصطف له أرواح الصحراء ترى، في عجب، سحر الحياة الجديدة!
وفي خطفة من خطفات الروح تلفت القلب صوب الجنوب فرأي المدينتين الغريقتين في أمواج الرمال تتحديان بصمتهما وعزلتهما ضجة الدنيا بالشهوات، وسعارها بالآفات، فحييتهما تحية القدوم على أقرب الحدود لهما، وأخذت الطمأنينة والسلام لنفسي منهما. . .
وفي مغرب الشمس وافينا (الرطبة) أول محطة عراقية، فكان أول صوت رن في آذاننا صوت الحاكي يغني أغاني من (دموع الحب) في مقهى هناك وقد التف حوله السمار في إنصات وطرب. فقلنا ها هي ذي مصر تسبقنا إلى العراق، فلا وحشة ولا اغتراب. ثم وجدنا من البشاشة لنا والأنس بنا ما إنسانا أننا في صحراء تبعد عن مصر بأربعين ساعة بالوسائل السريعة!
وما غشى الليل وحبك الظلام حتى واصلنا السير فكنا في الصحراء كسر في ضمير حليم! وجعلنا نسرح الطرف من خلال زجاج السيارة وقد غشيه الغبار فلا نرى غير نجوم وهنانة وأمانة من طول الوقوف على هذا الديموم.
وجاءت سكرة النوم فهمدت الأجساد ونام كل (على نفسه) في مجلسه، واستراحت المقل من التصويب والتصعيد في الأفق البعيد، وهكذا نمنا على دوي الرحى. . . ولم يوقظنا إلا وقوفها في (الرمادي) في الهزيع الأخير. . . فألممنا بها للتأشير على جوازات السفر. . . ثم وصل ما انقطع. . . اطراد السير والنوم حتى نرد بغداد مع الصباح. . .
(هذه هي بغداد أيها الركب؟) هكذا قال الصبح الوليد. . . فمسحت جفوني، وجعلت أتلفت عن شمالي ويمني لأرى مدخل دار السلام. . . المدينة التي احتضنت نتاج مكة ويثرب ودمشق وأثينا وروما والمدائن والإسكندرية، وزاوجت بين ألوانه، ومزجت ثقافاته حتى رأت الدنيا من تفاعلها عالماً جديداً غريباً. . .!
المدينة التي اضطلعت بالوصاية على ميراث الدين والعلم في زمن الجهل فربا في أيدي بنيها الممثلين لأجناس الناس وأديانهم وألوانهم، فجمعوا خلاصة ما في الإنسانية من تسامح وتلاقٍ على المعنى الموحد والرأي المجتمع.
المدينة التي كان الحج إليها واجباً على من كان يريد أن يتملى من دنيا القرون الوسطى في عظمة ملوكها وبطولة قوادها وفحولة علمائها وبلاغة صناع الكلام بها وضجة سوامرها
بالإنشاد، ورنين الكؤوس، وضحك المجان، وعزف القيان. . .
ومهما يكن من عبث الزمان بها وتقلب الأحداث عليها، وتبدل المشاهد فيها، فان أطياف الماضي لا تزال تخايل أمام العيون التي تعرفت إليها في دنيا الكتب وصحائف الآثار. والذين يجدون في أنفسهم قدرة على ذكرى الأضواء والألوان لا يستطيعون أن يمروا على تراب كتراب بغداد، وقد ضم بين معادنه أشعة سقطت من أمجاد تاريخهم وعرش دينهم وعلمهم. . . دون أن يتفرسوا بين طياته، وتحن قلوبهم إلى الالتصاق بذراته!
وبعد. فإن ما رأيناه من حفاوة إخواننا العراقيين حكومة وشعبا بنا، وتقديرهم الجميل لجهود المصريين في المعاونة على تنفيذ سياسة الإنشاء والتعمير، وثقتهم فيهم حتى لقد أسلموا إليهم أعز شيء في الدولة وهو نفوس الناشئين، ووقوفهم على الدقيق والجليل من شؤون مصر. . . وامتلاء دورهم ونواديهم بأغاني مصر في المذياع والحاكي. . . كل أولئك مما يجعل الأمل يوشك أن يكون يقيناً بأن الشرق العربي قادم على عهد من وحدة المنزع ومجابهة الحياة في صفوف يجمعها نظام موحد وإن اختلفت أوضاعها في الميدان العام.
وإنه ليسرني إلى ما يقارب الفخر. . . أن تكون مهمتي في مصر والعراق من أمس المهمات بإعداد العقلية العامة في الناشئين لهذه الحال الموموقة والتوسيد لها. . . وأنعم بها من رسالة لمعلم!
(كوت العمارة)
عبد المنعم محمد خلاف
في الأدب المقارن
أثر الفنون في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تختلف الفنون في مجالاتها وبعض وسائلها: فللشعر من القدرة على وصف الحركة وتناول الأشياء المتباعدة في الزمان والمكان ما ليس للتصوير، ولهذا من المقدرة على بيان دقائق الموصوف وتحديد ماهيته ما يعوز الشعر؛ ولكن الفنون تتفق جميعاً في غايتها التي هي التعبير عن تأثر الإنسان بروائع الحياة وشغفه بجمالها، وفي كثير من وسائلها التي تتصل بطبائع الإنسان وميوله: كالتناسب والتماثل والتكرار في الشكل أو في النغمة أو في الروي، والتقابل والتضاد في كل أولئك.
فالفنون على تعددها مظاهر شتى لصفة إنسانية واحدة، هي ترهف الشعور وحب الجمال. ولا يخلو المبرز في أحد الفنون من بصٍر بسائر وإن قل، وحب لها يعلو على حب الفرد العادي. وكثيراً ما جمع الفنان الموهوب بين فنون عديدة يبرع فيها جميعاً؛ وقد نبتت الموسيقى والشعر والرقص بين الجماعات الأولية من أصل واحد ونمت حتى استقل كل منها. وكان الشعر في بدئه موسيقى عجماء وصيحات غنائية غير ذات معنى، ثم داخلها المعنى تافهاً في أول أمره، وما زال يتعاظم شأنه حتى احتل المكانة الأولى في الشعر، وإن لم تفقد الموسيقى أهميتها في رصانة القصيد، فأي شعر خلا منها قصر عن أوج الكمال مهما سما معناه.
وقد مارس العرب والإنجليز تلك الفنون الثلاثة: الموسيقى والرقص والشعر، منذ عهودهم الأولى، وارتقت موسيقاهم بمخالطة الأمم الأخرى: فأخذ العرب عن الفرس، والإنجليز عن الإيطاليين خاصة والفرنسيين ما لم يكونوا يعرفون من أصوات الموسيقى وآلاتها ومصطلحاتها وبان أثر ذلك في أدبهم. وأبدع أمثلة لشعر الغناء والرقص في الإنجليزية قصائد ملتون التي نظمها قبل انغماره في حركة المطهرين. وممن تغنى من شعراء الإنجليزية بتأثير الموسيقى والغناء دريدن في قصيدته (مأدبة الاسكندر)، وكولنز في قصيدته (العواطف).
وبذلك تغنى أيضاً شعراء العربية، بل بلغ انكبابهم على غشيان مجالس الغناء والرقص حداً
بعيداً، بعد أن انتشر الترف عقب الفتوح، حتى كاد شعر كثير منهم، كبشار وأبي نواس، ينقسم إلى بابين رئيسيين: المدح الذي يطلب من ورائه المال الوفير، والتغني بمجالس اللهو والطرب التي ينفق فيها ذلك المال. ومن جيد ما قيل في وصف المغنيات وآلات الموسيقى قول ابن الرومي:
وقيان كأنها أمهات
…
عاطفات على بنيها حوان
كل طفل يدعى بأسماء شتى
…
بين عود ومِزْهَرٍ وكران
أمه دهرَها تترجم عنه
…
وهو بادي الغنى عن الترجمان
ذات صوت تهزه كيف شاءت
…
مثلما هزت الصَّبا غصنَ بان
وقوله في راقصة:
إذا هي قامت في الشفوف أضاءها
…
سناها فشفَّتْ عن سبيكة سابكِ
وارتقى بين الأمتين حين تحضرنا فن العمارة، وقامت في بلادهما بيوت الملك والعبادة، والحصون والمعاقل، وتأثر فن العمارة في كلتيهما تأثيراً كبيراً بالطراز القوطي، واسترعت الأدباء تلك المباني الضخمة والحصون المشيدة، تروع الناظر فخامتها، ويعجب اللب من مغالبتها كر السنين ومصاحبتها جيلا من الناس بعد جيل؛ وشغل شعراء العربية خاصة بوصف قصور الملوك، وما حوت من ضروب الزخرف. ولفتت أذهان شعراء الإنجليزية وكتابها القصور والبروج المتخلفة من عصور الإقطاع تلك التي تجيش بذكريات الماضي والتي شهدت مصارعات الأمراء ومحنهم في غياباتها. وكانت لكثير من الأدباء مواقف بالكنائس والكتدرائيات، ولا سيما وستمنستر أبى التي تعج رحابها بآثار الماضي.
ووصلت يد كل من الأمتين إلى تراث اليونان، فاختلف موقفاهما: فأما الإنجليز فلم يتركوا شاردة ولا واردة من آثار ثقافة اليونان وفنونهم إلا تزودوا منها، فأحدث اطلاعهم على روايات سوفوكليس وأوربيدس انقلاباً في (رواية المعجزات) التي ترعرعت في الكنيسة في العصور الوسطى، فالتفتت إلى تصوير طبائع النفس الإنسانية، أي صارت فناً؛ وأخذ الإنجليز عن اليونان وتلامذتهم الطليان النحت والتصوير. وكانت بلاد اليونان وإيطاليا وما تزالان محج رجال الفنون الإنجليز من شعراء ومصورين ونحاتين وموسيقيين، وكانت صورهم وتماثيلهم وما تزال وحياً ونماذج لفناني الإنجليز؛ وأنجبت إنجلترا عدداً عديداً من
نوابغ المصورين والمثالين جاروا أساتذتهم من أهل القارة في مجالات النحت والتصوير، كما جاورهم في مضمار الأدب.
وظهرت آثار تلك الفنون في الأدب الإنجليزي: فالتمثيل صار باباً من أبواب الأدب له خطره، وتوفر عليه أكثر نوابغ العصر الاليزابثي وكثير ممن تلاهم. والصور والتماثيل التي أبدعها رجال الفن الإنجليز أمثال رينولدز وكنستبل وترنر، والأجانب أمثال رافائيل ودورر وفان ديك، وسير أولئك النوابغ، صار كل ذلك مجالاً لتأمل الشعراء والكتاب، ومهبطا لآثار أخرى في عالم الأدب لا تقل مكانة عن تلك الآثار في عالم النحت والتصوير؛ وصرف بعض الأدباء همهم إلى نقد أعمال المصورين والنحاتين والممثلين، ومن أولئك هازلت ورسكن، وإلى الأخير يرجع الفضل في إظهار المصور ترنر.
وقد قضى كيتس وشلي وبيرون وبروننج وهاردي ردحاً طويلاً أو قصيراً من أعمارهم في إيطاليا، حيث استطابوا مناظر الطبيعة وتفيأوا ظلال آثار الرومان واستلهموا بدائع المصورين والمثالين الطليان، بين رومة وفلونسة والبندقية، وقضى الشاعران الأولان نحبيهما هناك، ودفنا في أرباض تلك المعاهد التي ألفاها حيين. وبين أطلال رومة نبتت فكرة عمل من أكبر أعمال النثر الفني في الإنجليزية، ألا وهو تاريخ جيبون عن انحطاط الدولة الرومانية وسقوطها، فهو يحدثنا في مذكراته أن الرغبة في وضع مؤلفه عنت له أثناء تجواله هناك بين آثار الوثنية ومعالم النصرانية.
ولم تقتصر الصلة بين الأدب وغيره من الفنون على اقتباسه منها واستلهامه إياها، بل حدث العكس: إذ عمد أعلام تلك الفنون إلى الأدب يطلبون الوحي وينشدون النماذج، فوجودا في روايات شكسيبر العديدة، ومناظرها الكثيرة، وشخصياتها الحية، ومواقفها الحافلة بشتى العواطف، وفي خرائد ملتون المملؤة بالأوصاف والصور والحالات النفسية، وفي روائع تنيسون وبروننج المنسوجة من أشتات الخرافات البديعة، منادح لفنهم ومسرى لخيالهم. والمتاحف الإنجليزية ملأى بتلك الآثار المنتزعة من قصائد الشعراء. كصور ليدي شيلوت، وأوفيليا، والحسناء القاسية.
وكان من شعراء الإنجليزية المعدودين من ضربوا بسهم في الفنون الأخرى، واشتهروا بها اشتهارهم بصناعة القلم: فشكسبير كان ممثلاً كما كان شاعراً ومؤلفاً للمسرح، ووليم
موريس كان مصوراً وشاعراً، وروزيتي ألف جماعة (ما قبل الرافائيليين) التي كانت لها مبادئها في التصوير، كما كان لها مذهبها في الأدب؛ وأكثر من هؤلاء من لم تدركهم الشهرة في غير الأدب من الفنون، وإن كانوا شديدي الولع بها، شديدي الشغف بممارستها والتثقف فيها.
وهكذا أصبح من غير النادر في الإنجليزية أن ترى الأسطورة أو القصة التاريخية، كوقائع يوليسيز ومخاطرات فرسان المائدة المستديرة. وقد تناولها الشاعر والممثل والمصور والنحات كل من ناحيته مستقلاً بنظرته، أو معتمداً على الآخرين، مستلهماً محاسنها ومغازيها، مبرزاً من صورها وأفكارها ما يلائم فنه ويجري في مجال صنعته، نافثاً فيها من خلاصة تفكيره وعصارة شعوره واتجاهات عصره ما يزيدها جدة وروعة.
هذا التواصل والتجاوب والتعاون المستمر بين الفنون زاد الأدب الإنجليزي خصباً على خصب أفسح أمامه أغراض القول، وزاد رجاله بصراً بحقائق الفن وغاياته ووسائله، واعتقاداً بوحدة الفنون جميعاً وتلاقيها في الوسائل والغايات؛ فحرصوا في نثرهم ونظمهم على صدق النظرة وصحة الشعور ونشدان الجمال، واستعاروا وسائل الموسيقار والمصور والممثل والنحات، فاهتموا بالأوصاف الجميلة للطبيعة والإنسان، واعتنوا بتوضيحها وإبرازها، متوسلين لتصوير المعنى بجرس اللفظ ومناسبة التعبير واختيار القوافي. وتصرفوا في الوزن والروي بما يلائم الحالة الموصوفة من سكون أو حركة، وفرح أو حزن، وقسوة أو لطف: وتأنقوا في صوغ الحوار بين أبطال قصائدهم، معبراً حوارهم عن منازعهم؛ فإذا قرأت القصيدة القصيرة أو الطويلة لأحدهم، لم تجدك حيال معان ذهنية متزاحمة، بل رأيت صوراً محكمة التصوير، وموسيقى مطربة النغمات، وأشخاصاً ممتلئين حياة وقوة وألواناً وظلالاً.
ولم يغفل الشعراء الذين مجدوا الفنون الأخرى ذلك التمجيد عن فنهم الخاص، فنظم بوب وكيتس وتنيسون وغيرهم من الأعلام قصائد غراء في الشعر والشعراء. ولملتون وماثيو أرنولد أشعار في شكبير تفيض إعجاباً وتقديساً، ولوردزورث وتنيسون وأبركرومبي الشاعر المعاصر في ذكرى ملتون أشعار كهذه. وكان هاردي لا يمل ذكر شلي وتعظيمه في قصيده؛ وكانت لشعراء الأمم الأخرى لدى شعراء الإنجليز منزلة كهذه، فأشعارهم ملأى
بمحاكاة الشعراء الأقدمين كهوميروس وفرجيل ودانتي والخيام، والمحدثين كشيلر وجيته وهيجو، وترجمتهم والتحدث عنهم، لأن الفن يجمعهم طراً في صعيد واحد، ويمحو بينهم فوارق الزمان والمكان.
وما أعظم الفرق بين هذا الإعجاب النبيل بمتقدمي الشعراء، وبين ما نراه في العربية من وثوب بعض الشعراء ببعض، ووقوع حماد في بشار، وحملة ابن الرومي على البحتري، وحقد دعبل على الطائي؛ أذهلهم التناحر على متاع الدنيا عن الصلة السامية التي يصلهم بها الفن؛ وقد نعلم أن البحتري كان يقدم أبا تمام، وأن المعري كان يعظم أبا الطيب، ولكن ذلك التقدير لم يتخذ شكلا فنياً، ولم يبرز في عالم الشعر قصيداً رائعاً يفيض بتقديس الفن وتبجيل رجاله. وبينما كان ذاك التحاقد ديدن شعراء العربية فيما بينهم كان جهلهم بشعراء الأمم الأخرى مطبقا.
لقد حجب العرب عن تلك العوالم الفنية إعراضهم عن تراث اليونان الفني، ودعاهم إلى ذلك الأعراض تمكن الملكة البيانية منهم؛ تمكنت من نفوسهم في البادية، حيث لا تتوفر أدوات فن من الفنون سوى فن البيان الذي لا يحتاج إلى أدوات غير صفاء الذهن وطلاقة اللسان، وقوى اعتداد العرب بتلك الملكة وتوفرهم عليها نزول القرآن الكريم الذي زادهم كلفا بالفصاحة، وكان دائماً أساس ثقافتهم التي يؤخذون بها من الصغر. فالإنجليز اتصلوا بتراث اليونان وهم بعد مقصرون دون جميع غايات الثقافة، فاغترفوا من جميع مناهله؛ ولم يتصل العرب به وبغيره من تراث الأمم إلا بعد أن توطد أدبهم وتمكن سلطانه من نفوسهم، فشمخوا به على سائر الآداب، واستغنوا به عن كل الفنون.
لذلك لم يحفل العرب بالتمثيل، ولم يزدهر بينهم التصوير والنحت، ولم يتعديا حدود الصناعة ذات الغرض المادي إلى حدود الفن السامي الذي هو غاية نفسه، واقتصروا من التصوير والزخرفة والنحت على ما كان يزين قصور كبرائهم من تهاويل ودمي قليلة الحظ من الفن، لا تحمل وراءها من المعاني السامية ما تحمله الصور والتماثيل الفنية؛ واستبد الأدب بالتعبير عن أسمى مشاعر العرب وأرقى أفكارهم. وإذا تذكرنا أن الفنين الآخرين سالفي الذكر - الموسيقى والرقص - لم يتخلصا من ربقة المادية وشبهة الشهوات إلى عوالم الفن المتسامي بالنفوس، وظلا دائماً مقرونين بالشراب والقصف وخلع العذار، تبين
لنا أن الأدب كان فن العرب الفرد، وأن الشعر ظل ديوانهم في مختلف عصورهم، أودعوه حوارهم فاستغنوا عن التمثيل، وأوصافهم فاستغنوا عن التصوير، وأمداحهم فقام مقام التماثيل.
ومن ثم نرى أثر فنون التمثيل والتصوير والنحت في الأدب العربي ضئيلاً: فلم يكن بين العرب ممارسون لتلك الفنون ينعكس ظل فنونهم في الأدب؛ ولم يكن لدى أدباء العربية كبير اهتمام بمخلفات الأمم السالفة في مشارق دولتهم ومغاربها. ومن القليل الجيد الذي نظموه في تلك المناحي سينية البحتري التي يصف فيها نقوش إيوان كسرى، ورائية ابن احمد يس التي يصف فيها تماثيل الأسود في بعض القصور، وسينية أبي نواس التي يصف عرضاً في أثنائها تصاوير كأسه في قوله:
قرارتها كسرى وفي جنباتها
…
مهاً تدَّريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زُرت عليه جيوبها
…
وللماء ما دارت عليه القلانس
وقول بعض شعراء الأندلس في تمثال امرأة وولدها:
ودمية مرمر تزهو بجيد
…
تناهي في التورد والبياض
لها ولد ولم تعرض خليلا
…
ولا أَلَمتْ بأوجاع المخاض
ونعلم أنها حَجَرٌ ولكن
…
تتيمّنا بألحاظٍ مِراَض
ولا تخلوا كل هذه الشواهد من آيات البراعة وحسن الملاحظة والوصف، حتى ليأسى المرء على أن لم يول العرب هذه المناحي من القول اهتماماً أكثر مما أولوها. وسينية البحتري مثل شرود من أمثلة الشعور الصادق والعاطفة الإنسانية والروح الفنية في الأدب العربي؛ وأعجب من تفردها في الأدب العربي صدورها عن البحتري الذي سخر بيانه للمدح والهجاء. وقد كان نقاد العرب يطربون لهذه الأشعار الفنية الجميلة، البعيدة عن آثار المدح والهجاء والنسيب المتكلف، فقد أعجب الجاحظ وغيره بسينيتي البحتري وأبي نواس سالفتي الذكر، وعدوهما من ذخائر الشعر العربي، ولكن دواعي مثل هذا النظم كانت نادرة، وتيار محاكاة السابقين كان يدفع الأدباء في غير هذا الاتجاه.
فالأمتان العربية والإنجليزية تتفقان في ظهور الأدب فيهما على سائر الفنون واجتذابه أغلب نوابغهما، واشتهارهما بالسبق فيه بين الأمم، فان الإنجليز وإن جاروا الأوربيين في
مجالات النحت والتصوير لم يبلغوا شأوهم كما بلغوا الشأو والغاية في صناعتي الشعر والنثر، ولم ينجبوا من أعلام النحت والتصوير من توازي مكانته العالمية مكانة شكسبير وملتون وبيرون؛ ولكن تفترق الأمتان في أنه بينما مارس الإنجليز الفنون الأخرى وهاموا بها ومجدوا آثار الأمم الأخرى فيها أهمل العرب الفنون الأخرى إهمالاً يكاد يكون تاما، فلم تجتذب اهتمام نوابغهم ومثقفيهم، وظل ما عرفوه منها أدنى إلى الصناعات منه إلى الفنون، وظل الأدب - ولا سيما الشعر - يشغل في عالم الفن والوجدان مكاناً عالياً وسلطة مطلقة فردية بين العرب، كسلطة الخلفاء والأمراء المستبدة في عالم السياسة، متوحداً بالإفصاح عن أفكارهم مستأثراً برعايتهم وإجلالهم.
وقد خسر الأدب العربية بتفرده هذا الشيء الكثير، لأن الفن الواحد لا ينمو خير نموه بعزلته، بل بمواصلته الفنون الأخرى؛ خسر ما كان ينتظر أن تمده به تلك الفنون من إلهامات ومنادح للقول، وما كان ينتظر أن تبثه في رجاله من فهم دقيق للفن وسمو غايته وتعاليه عن المادة وبعد مراميه، وما توحيه إليهم من وسائل للتعبير والتصوير والملاءمة بين المعنى واللفظ، وجعل الأخير دائماً خادما للأول. وبالجملة خسر الأدب معاونة الفنون التي استأثر بالمكانة دونها، كما خسر مساعدة الآداب الأجنبية التي ترفع عنها.
فخري أبو السعود
صديق!
للأستاذ علي الطنطاوي
أستأذن أستاذنا المازني فأستعير منه تلك الكليشيه المعهودة التي كان يصدر بها مقالات ذات الثوب الأرجواني، لأقول: إن المقالة خيالية لا حقيقة، وأؤكد هذا للقراء!
(علي)
قال:
. . . لا أدري كيف عرفته، ولا أعلم السبيل التي دخل منها إلى قلبي؛ فاحتل فيه هذه المنزلة، ولم أنتبه له إلا وهو ملء سمعي وبصري وعقلي. . .
وإنني لأعرفه منذ عشرين يوماً، ولكني أحاول عبثاً حين أحاول ادكار بدايتي معه، لأنه عماد حياتي؛ لا أستطيع أن أتصور لصلتي به بداية؛ عرفته يوم عرفت الدنيا؛ لم أجهله قط ولم أنفرد عنه ساعة؛ وهو دنياي، إن لقيته لقيت الحياة، وإن نأى عني وجدت كل شيء في الحياة ميتا.
ولست أدري أي صلة هذه، ولا أعرف لها تحديداً مضبوطاً، ولكن الذي أدريه وأعرفه أنه ليس له في أعماق قلبي إلا الصداقة. إنني لم أنظر إلا إلى روحه، بل أنا لا أقدر أبداً أن أتخيله بشراً من لحم ودم. إنني أراه فكرة سامية، صورة شعرية بارعة، معنى من المعاني العبقرية. . . إنني أراه وحده معنى كلمة الوجود. . . لقد ضاعت معه حدود شخصيتي، ومحيت معالمها، فلم أعد أعرف أين أنتهي (أنا)، وأين يبدأ (هو)، وامتزجت نفسي بنفسه، فكأني (أنا من أهوى ومن أهوى أنا. . .)، وكدت أقول بالحلول، وأرتكب هذه الحماقة الكبرى، التي لا يقول بها ذو عقل. . . حين رأيتني أضحك إذا سر (هو)، وأحزن إذا تألم، وأشبع إذا أكل، وإذا أصابه الصداع وجعني رأسه، وإذا رأى (هو) حلماً هنيئاً تبسمت وأنا غارق في منامي، أجد اللذة الكبرى في رفاهيته وراحته، وآلم لشقائه أكثر مما آلم لشقائي، وأريد أن أمنحه صحتي وحياتي وكل ما أملك؛ أريد أن أفني فيه ولا أجد في شيء من ذلك عملاً كبيراً، ولا أحس أني مقدم على تضحية، لأنه اندمج في أعمق عاطفة من عواطفي، ونزل إلى أبعد غور من نفسي، وسيطر على قواي كلها، فلم يبق لي عاطفة مستقلة أو حاسة حرة أفكر بها فيه، وأزن صلتي به. . .
اختلف نظري إلى الحياة، وتبدلت المشاهد في عيني، فكأن الدنيا كانت في ظلام، حتى طلع في سمائه بدراً منيراً فأصبحت أرى كل شيء جميلاً في بصري: هذا السطح المشرف على الفضاء الرحيب، سطح دارنا في (الأعظمية)، وهذا النخيل الممتد إلى غير ما نهاية، وبغداد التي تلوح منائرها وقبابها كأنها معلقة في السماء حيال الأفق، ودجلة التي تبدو من خلال الأغصان لامعة كصفحة المرآة المجلوة تشق عبابها الزوارق، تتمايل شرعها البيض مع نسيم المساء الناعش الخفيف، والبدر الذي طلع من الشرق يبدو منه حاجب ويختفي حاجب وراء نقاب من الغيوم. . . وهذا الطريق الذي لم تمتد إليه يد الحكومة بالتعبيد فبقى على فطرته وجماله لم تشوهه كف الإنسان، يظهر تارة، ويلتوي تارات، ويضيع بين النخيل ويضل الطريق. . . والفلاحين الذي يرجعون إلى دورهم حين تعود الشمس إلى خدرها، ويزدحمون على هذا الطريق الشعري الضيق، هم ودوابهم ومواشيهم تطنطن الأجراس في أعناقها والقطعان يسوقها الرعاة الذين تنكبوا عصيهم ثم ساروا وراءها يزمرون أو يغنون، وهؤلاء الأطفال من تلاميذ المدارس الذين يلعبون في هذه الرحبة، يتقاذفون الكرة يتصايحون ويتراكضون، فإذا أمسك أحدهم بها ضربها برجله فانطلقت تشق الفضاء كأنها القنبلة، ووقف الصبية صامتين قد علقوا أنفاسهم وتبعتها عيونهم، تبصر مسيرها، فإذا هبطت واستقرت على الأرض عادوا يركضون ويصيحون.
أصبحت أرى كل شيء جميلاً في عيني حبيباً إلي: الفلاحين الآوين إلى بيوتهم، والأطفال العاكفين على كرتهم، والدواب والمواشي. . . وأسمع في كل صوت أغنية عذبة، أسمعها في حفيف الأوراق، وزقزقة العصافير، ونباح الكلاب، ودوي الرعد. . . وأرى الجمال في ظلام الليل الدامس، كما أراه في صفحة البدر المنير، وأبصره في الصحراء المقفرة، كما أبصره في الروضة المزهرة، وأسمعه في صفير الرياح الرعب، كما أسمعه في تغريد البلبل المطرب، وألمسه في الخريف كما ألمسه في الربيع؛ بل إني لأعجب من هؤلاء النظامين المتشاعرين الذين يسميهم الناس شعراء، كيف يعمون عن صفحة الكون، ثم يذهبون فيحدقون في صفحات الكتب، وينظرون فيها بالمجهر: هؤلاء المقلدين الذين يظنون أن الخريف معناه الوحشة أبداً والموت والكآبة، وأن معنى الربيع الأنس دائماً والبهجة والسرور، كأن العواطف البشرية تسير على التقويم الفلكي، وتدور مع الأيام. . . فليس
على الشاعر إلا أن ينظر في التقويم حتى يرى أيوم حزن هو، أم يوم سرور؟! وكأن في وجه الأديب زجاجتي فوتوغراف لا تريان إلا ما في الوجود، لا عيني إنسان يحس ويشعر.
أين إذن عاطفة الشاعر؟ وهل يرى الشاعر الحزين اليائس ربيعاً مشرقاً جميلاً؟ ألا يرى في الربيع الوحشة والكآبة والحزن؟ وهل يشعر المسلول القانط بجمال الزهر؟ والشاعر الفرح؟ ألا يرى في الشتاء وفي الخريف جمالاً وبهجة، ويبصر فيهما ورداً وزهراً؟
إن في شعر هؤلاء المتشاعرين المقلدين كل شيء إلا الحياة، إلا العاطفة، إلا الروح. هو شعر ميت، تمثال حسناء، ولكنه من الشمع!
لقد ظهر هذا الصديق فجأة في طريقي، فملك علي أمري، وأخذ بيدي فسلك بي طريقاً جديدة، حتى نأى به عن الناس فأصبحت لا أرى في الدنيا غيره، ولا أبصره سواه، وصب في نفسي عزيمة وقوة، فأحسست بالنشاط في جسمي وروحي، ودفعني إلى أداء الواجب علي، فوفيته على وجهه، وساقني في سبيل الاستقامة والشرف، وسما بي عن (الأنانية) والاستئثار فأضحيت أشفق حتى على أعدائي المخاصمين، وأعطف حتى على المجرمين والساقطين؛ وفتح لي مغاليق هذا الكون، فإذا وراء هذه المظاهر دنيا من الجمال والجلال والسحر والفتون، وإذا حيال هذه الدنيا دنيا أكبر، وأحفل بالكائنات، هي في نفسي، فرأيت وأبصرت ونعمت وانتفعت. . .
لقد دفعتني هذه الصداقة إلى الصلة بربي، والقيام بواجبي، والتعلق بأهلي، فلست أريد بعدها شيئاً، فخذوا الدنيا كلها، حسبي أني أخذت منها صديقاً.
(بغداد)
علي الطنطاوي
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فرديك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الجزء الأول
مستهل زرادشت
- 1 -
لما بلغ زارا الثلاثين من عمره، هجر وطنه وبحيرته وسار إلى الجبل حيث أقام عشر سنوات يتمتع بعزلته وتفكيره إلى أن تبدلت سريرته، فنهض يوماً من زقادة مع انبثاق الفجر وانتصب أمام الشمس يناجيها قائلا:
- لو لم يكن لشعاعك من ينير، أكان لك غبطة، أيها الكوكب العظيم؟ منذ عشر سنوات ما برحت تشرق على كهفي، فلولاي ولولا نسري وأفعاي، لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرع هذا السبيل، ولكننا كنا نترقب بزوغك كل صباح لنتمتع بفيضك ونرسل بركتنا إليك. أصغ ألي، لقد كرهت نفسي حكمتي كالنحلة أتخمها ما جمعت، فمن لي بالأكف تنبسط أمامي لأهب وأغدق إلى أن يغتبط الحكماء من الناس بجنونهم ويسعد الفقراء منهم بثروتهم.
تلك هي الأمنية التي تهيب بي للجنوح إلى الأعناق، كما تجنح أنت كل مساء منحدراً وراء البحار حاملا إشعاعك إلى الشقة السفلي من العالم، أيها الكوكب الطافح بالكنوز.
لقد وجب علي أن أتوارى أسوة بك، وجب علي أن أرقد على حد تعبير الأناسي الذين أهفو إليهم.
باركني، إذن، أيها الكوكب، فأنت المقلة المطمئنة التي يسعها أن تشهد ما لا يحد من السعادة دون أن تختلج كمقلة الحاسدين بارك الكأس الدهاق تسكب سلسبيلاً مذهباً ينثر على الآفاق وهجاً من مسراتك.
أنظر! إن هذه الكأس تريد أن تندفق ثانية، ويريد زارا أن يعود إنساناً.
وهكذا بدأ جنوح زارا إلى المغيب.
- 2 -
وانحدر زارا من الجبال فما لقي أحداً حتى بلغ الغاب حيث انتصب أمامه شيخ خرج من كوخه بغتةً ليفتش عن بعض الجذور والأعشاب، فقال الشيخ:
- ليس هذا الرحالة غريباً عن ذاكرتي، لقد اجتاز هذا المكان منذ عشر سنوات، ولكنه اليوم غيره بالأمس.
لقد كنت تحمل رمادك في ذلك الحين إلى الجبل، يا زارا، فهل أنت تحمل الآن نارك إلى الوادي؟ أفما تحاذر يا هذا أن ينزل بك عقاب من يضرم النار؟
لقد عرفت زارا، هذه عينه الصافية، وليس على شفتيه للاشمئزاز أثر؛ أفما تراه يتقدم بخطوات الراقصين؟
لقد تبدلت هيئة زارا، إذ رجع بنفسه إلى طفولته. لقد استيقظت يا زارا فماذا أنت فاعل قرب النائمين.
كنت تعيش في العزلة كمن يعوم في بحر والبحر يحمل أثقاله، وأراك الآن تتجه إلى اليابسة، أفتريد الاستغناء عمن حملك لتسحب هامتك على الأرض بنفسك؟
فأجاب زارا: إنني أحب الناس
فقال الشيخ الحكيم: أنني ما طلبت العزلة واتجهت إلى الغاب إلا لاستغراقي في حبهم، أما الآن فقد حولت حبي إلى الله، وما الإنسان في نظري إلا كائن ناقص، فإذا ما أحببته قتلني حبه.
فأجاب زارا: ومن يصف لك الحب الآن! إنني لا أقصد الناس إلا لأنفحهم بالهدايا.
فقال الحكيم القديس: إياك أن تعطيهم شيئاً، والأجدر بك أن تأخذ منهم ما تساعدهم على حمله، ذلك أجدى لهم على أن تغنم سهمك من هذا الخير، وإذا كان لا بد لك من العطاء فلا تمنح الناس إلا صدقة على أن يتقدموا إليك مستجدين أولاً.
فأجاب زارا: أنا لا أتصدق، إذ لم أبلغ من الفقر ما يجيز لي أن أكون من المتصدقين.
فضحك القديس مستهزئاً وقال: حاول جهدك إذن إقناعهم بقبول كنوزك، إنهم يحاذرون المنعزلين عن العالم، ولا يصدقون بأننا نأتيهم بالهبات؛ إن لخطوات الناسك في الشارع وقعاً مستغرباً في آذان الناس. إنهم ليجفلون على مراقدهم إذ يسمعونها فيتساءلون: إلى أين يزحف هذا اللص؟! لا تقترب من هؤلاء الناس. لا تبارح مقامك في الغاب، فالأجدر بك أن
تعود إلى مراتع الحيوان، أفلا يرضيك أن تكون مثلي دبا بين الدببة وطيرا بين الأطيار؟
فسأل زارا: وما هو عمل القديس في هذا الغاب؟
فأجاب القديس: إنني أنظم الأناشيد لأترنم بها، فأراني حمدت الله إذ أسر نجواي فيها بين الضحك والبكاء، لأنني بالإنشاد والبكاء والضحك والمناجاة أسبح الله ربي، ومع هذا فما هي الهدية التي تحملها إلينا؟
فانحنى زارا مسلماً وقال للقديس: أي شيء أعطيك؟ دعني أذهب عنك مسرعا كيلا آخذ منك شيئاً.
وهكذا افترقا وهما يضحكان كأنهما طفلان.
وعندما انفرد زارا قال في نفسه:
- إن لأمر جد مستغرب، ألما يسمع هذا الشيخ في غابة أن الإله قد مات.
- 3 -
وإذ وصل زارا إلى المدينة المجاورة، وهي أقرب المدن إلى الغاب، رأى الساحة مكتظة بخلق كثير أعلنوا من قبل أن بهلواناً سيقوم هنالك بالألعاب، فوق زارا في الحشد يخطبه قائلاً:
- إنني آت إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوق عليه؟
إن كلا من الكائنات أوجد من نفسه شيئاً يفوقه، وأنتم تريدون أن تكونوا جزراً يصد الموجة الكبرى في مدها؛ بل إنكم تؤثرون التقهقر إلى حالة الحيوان بدل اندفاعكم للتفوق على الإنسان. وهل القرد من الإنسان إلا سخريته وعاره؟ لقد اتجهتم على طريق مبدؤها الدودة ومنتهاها الإنسان، غير أنكم أبقيتم على جل ما تتصف ديدان الأرض به. لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى؛ على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته.
ليس أوفركم حكمة إلا كائن مشوش لا يمت بنسبه إلى أصل صريح، فهو مزيج من النبات والأشباح، وما أدعو الإنسان ليتحول إلى شبح أو إلى نبات.
لقد أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق.
إنه من الأرض كالمعنى من المبنى، فلتتجه أراداكم إلى جعل الإنسان المتفوق معنى لهذه
الأرض وروحًا لها.
أتوسل إليكم، أيها الأخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم فلا تصدقوا من يمنونكم بآمال تتعالى فوقها؛ إنهم يعللونكم بالمحال فيدسون لكم السم، سواء اجهلوا أم عرفوا ما يعملون، أولئك هم المزدرون للحياة، لقد رعى السم أحشاءهم فهم يحتضرون؛ لقد تعبت الأرض منهم فليقلعوا عنها.
لقد كانت الروح تنظر فيما مضى إلى الجسد نظرة الاحتقار فلم يكن حينذاك من مجد يطاول عظمة هذا الاحتقار. لقد كانت الروح تتمنى الجسد ناحلاً قبيحاً جائعاً متوهمة أنها تتمكن بذلك من الإنعتاق منه ومن الأرض التي يدب عليها. وما كانت تلك الروح إلا على مثال ما تشتهي لجسدها ناحلةً قبيحة جائعة، تتوهم أن أقصى لذتها إنما يكمن في قسوتها وإرغامها.
أفليست روحكم، أيها الأخوة، مثل هذه الروح؟ أفما تعلن لكم أجسادكم عنها أنها مسكنة وقذارة وأنها غرور يسترعي الإشفاق؟
والحق ما الإنسان إلا غدير دنس، وليس إلا لمن أصبح محيطاً أن يقتبل انصباب مثل هذا الغدير في عبابه دون أن يتدنس
تعلموا من هو الإنسان المتفوق.
إن هو إلا ذلك المحيط تغرقون احتقاركم في أغواره.
وهل تتوقعون بلوغ معجزة أعظم من هذه المعجزة؟
لقد آن للاحتقار أن يبلغ أشده فيكم، بعد أن استحال شرفكم ذاته كما استحالت عقولكم وفضائلكم إلى كرهٍ واشمئزاز لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني شرفي، وما هو إلا مسكنة وقذارة وغرور، في حين أن على الشرف أن يبرر الحياة نفسها لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني القوى العاقلة في، إذا لم تطلب الحكمة بجوع الأسد، وما هي الآن إلا مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني فضيلتي فإنها لم تصل بي إلى الاستغراق، وقد أتعبني خيري وشري، وما هي إلا مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني عدلي، إن العادل يقدح شرراً ولما أشتعل.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني رحمتي، أفليست الرحمة صليباً يسمر عليه من يحب البشر. ورحمتي لما ترفعني على الصليب أقلتم مثل هذا وناديتم به؟ ليتني سمعتكم تهتفون بمثله!
إن ما يرفع عقيرته على السماء إن هو إلا غروركم لا خطاياكم، إن هو إلا حرصكم حتى في خطاياكم.
أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين هو الجنون الذي يجب أن يستولي عليكم؟
هاأنذا أنبئكم عن الإنسان المتفوق.
إن هو إلا ذاك اللهب وذلك الجنون.
(يتبع)
فليكس فارس
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون المستشرق الإنجليزي
المدخل لتاريخ العرب
- 3 -
هـ - من الفتح المغولي إلى اليوم (من 1258 - )
انتهى عصر الخلافة بسقوط بغداد عام 1258 في يد المغول الرحل الذين كانوا تحت زعامة هولاكو. وما كادوا يتقدمون إلى الأمام حتى صدهم المماليك المصريون وردوهم على أعقابهم إلى فارس التي اعتنقوا فيها الإسلام بعد زهاء خمسين عاماً، أما الخانات خلفاء هولاكو فقد حكموا في فارس.
ثم أغار على آسيا الغربية فريق من البرابرة بقيادة تيمور واندفعوا كالأتي المزبد، ونشروا الفساد والفوضى في ربوعها (1380 - 1405 م) وإذ ذاك تفككت رابطة الإسلام من الناحية السياسية. وفي هذه الفوضى الضاربة بأجرانها نشأت ثلاث إمبراطوريات إسلامية. ففي سنة 1358 عبر الأتراك العثمانيون البسفور ودخلوا القسطنطينية عام 1453، حتى إذا كان عام 1517 دخلت في حوزتهم سورية ومصر وبلاد العرب وأصبحت فارس مملكة مستقلة تحت حكم الصفويين (1502 - 1736) بينما أسس بابر وهو من ولد تيمور - إمبراطورية التتار العظمة والهند، وظلت قوية الشوكة تحت خلفائه وخاصة أكبر وأورنجزيت (1525 - 1707).
أما الحوادث السياسية التي أجملناها آنفاً فسنعالجها بالتفصيل في صلب هذا الكتاب؛ على حين أن غيرها لن يكون نصيبه منا سوى الإشارة الموجزة والنظرة العابرة. ولما كانت الآراء التي انتشرت في الأدب العربي شديدة الارتباط بتاريخ الناس ولا سبيل إلى فهمها بعيدا عن الحوادث الخارجية التي نشأت فيها، فقد وجدت نفسي مضطراً إلى الإسهاب في بعض النواحي التاريخية حتى يتبين القارئ الحقائق المهمة من وجهة نظرنا الخاصة. كما سيرى أن ليس من إطناب في الكلام عن العصور المتقدمة السابقة (500 - 750م) خاصة إذا علم أن هذه تعد محور التاريخ العربي ومركزه. وقد بلغت الحضارة الإسلامية أقصى
شأوها خلال القرنين التاليين لهذا التاريخ وإن أخذ العرب يتراجعون إلى الوراء سريعاً. وقد طمس الهجوم التتاري - في الغالب - معالم حياتهم الأهلية وإن ظلوا متمسكين في سورية ومصر تحت الحكم التركي بأهداب ثقافتهم كما نراهم يستميتون في الكفاح بإسبانيا ضد النصرانية. وفي أيام ازدهار الدولة العباسية كان أثر العرب الخلص في الأدب الذي حمل اسمهم ضئيلاً قياسياً؛ ولم ألتزم جادة القياس الوطني وإلا استثنيت جميع الأجانب والمولدين الذين كتبوا بالعربية. أما الفرس الذين ألفوا حتى يومنا هذا استعمال الضاد في كتاباتهم الدينية أو الفلسفية فيمكن القول بأن عملهم لا يصور تاريخ الفكر العربي؛ ومن ثم كان من الضروري دراستها معاً كي نصل إلى الغاية المقصودة. ولكن ماذا يكون موقفنا إزاء هؤلاء المؤلفين الكثيرين الذائعي الصيت الذين ليسوا عرباً أقحاحاً ولا فرساً خالصين، بل هم مزيج من الجنسين. أترانا نسترجع أنسابهم ونحاول أن نزن أي دم الجنسين أرجح كفة؟ إن مثل هذه المحاولة يطول أمدها، وليس من ورائها جدوى. والمؤكد أنه بعد العصر الأموي لا يستطاع وضع حد فاصل صحيح بين العناصر الأهلية والأجنبية الموجودة في الأدب العربي، فقد امتزج كل منها بالآخر امتزاجاً قوياً. وإذا كان لا بد من التمييز بينهما إلى أبعد حد مستطاع، فلابد لنا من اتباع طريقة ضيقة واهية في عرض التاريخ الأدبي إذا أصررنا على اعتبار كل منهما منفصلا عن الآخر.
الفصل الأول
سبأ وحمير
قد يمكن القول بأن تاريخ العرب يبدأ بما نعرفه عن أهل سبأ، ولكن كخطوة تمهيدية ينبغي لنا أن نلم ببعض الأجناس التي تعرض علينا صورها في الأساطير والقصص، والتي يعتبرها المؤرخون المسلمون السكان الأصليين للبلاد. ومن بين هؤلاء قوم عاد وثمود، أولئك الذين طالما ورد ذكرهم في القرآن مثلاً للكبرياء والجبروت اللذين أديا بهم إلى التهلكة. وكان موطن (عاد) أرض حضر موت التي تتاخم بلاد اليمن على حدود الصحراء المسماة بالأحقاف. ولا يستطاع الجزم أهم من الجنس السامي من سلالة الآراميين الذين أخضعهم وأبادهم الغزاة المغيرون على بلادهم من الشمال أم أنهم - كما يقرر هومل -
ممثلو ثقافة غير سامية خلفت إرم ذات العماد، تلك الجنة الأرضية التي بناها (شداد) أحد ملوكهم. وإن قصة هلاكهم لتروى على النمط التالي: ذلك أنهم كانوا جبارين ضخام الأجسام، يعبدون الأصنام ويقترفون شتى الموبقات، فلما بعث الله فيهم نبيه (هودا) نصح لهم أن يتوبوا عما اقترفوه من الأثام فقالوا له:(يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين، إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء). ثم نزل قحط شديد بأرض عاد فأرسلوا بعض رءوسهم إلى مكة ليصلوا عسى أن ينزل القطر ويستقوا، وإذ بلغت رسلهم مكة لقيهم أمير العمالقة (معاوية بن بكر) بالبشر والترحاب، ومد لهم الموائد، فشربوا الخمر ودارت بالدفوف جاريتان ذواتا غناء شجي تسميان بالجرادتين، فألهاهم ذلك عما جاءوا من أجله شهراً كاملاً، فلما حان وقت أوبتهم قام أحدهم ليصلي، فلم يكد ينتهي من صلاته حتى حلقت في السماء ثلاث سحابات مختلفة الألوان إحداها حمراء والثانية بيضاء والثالثة دكناء، ثم رن صوت من خلف السموات يقول (يا قيل: اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب) فاختار الرسل السوداء ظنا منهم أنها تعج بالماء، وأنها أكثر السحاب فيضا، وحينذاك أنشد الصوت:
خذها رماداً رمددا
…
لا تدع من عاد أحدا
لا والداً تترك ولا ولدا
…
إلا جعلته همدا
ثم ساق الإله السحابة السوداء حتى حومت فوق أرض عاد فانبعث منها إذ ذاك ريح صر صر عاتية أفنت الناس جميعاً إلا فئة قليلة لبت نداء هود وأجابته إلى دعوته ونبذت عبادة الأوثان. وإذ ذاك ظهر بطبيعة الحال وعلى ممر الزمن شعب آخر يدعى بقوم عاد الثانية وكان مقره اليمن في مملكة سبأ؛ وإن السد العظيم سد مأرب لينسب إلى ملكهم لقمان بن عاد الذي تحاك حوله طائفة من الخرافات، وكان يكنى بذي النسور إذ أوحى إليه أنه سيعمر ويفنى سبعة أنسر كلما مات واحد خلا إلى آخر
وفي شمال بلاد العرب بين الحجاز وسورية سكن قوم ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن بأنهم كانوا يسكنون مغارات نحتوها في الجبال. ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يجهل طبيعة هذه البيوت المنحوتة في الصخور، والتي لا تزال آثارها قائمة في الحجر (مدائن صالح) على مسيرة أسبوع من شمال المدينة، والتي تدل عليها النقوش
النبطية التي عثر عليها في القبور. وقد أخطأت ثمود كما أخطأت عاد من قبل. وتشابهت النهايتان، فهزأت ثمود من نبيها صالح وأبت أن تطيعه أو يأتي بمعجزة خارقة، فأطلع لهم صالح من الصخر ناقة ضخمة وفصيلها، وأمر ثمود ألا تمس بسوء؛ بيد أن أحد الآثمة الأشرار واسمه (قدار الأحمر) عقرها وذبحها (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دراهم جاثمين) وصارت العرب تقول لكل من باء بجرم كبير، وحظ أغبر (أنكد حظاً من عاقر الناقة أو أحمر ثمود) وينبغي أن نشير إلى أن ديودور الصقلي وبطليموس قد أشار إلى وجود آل ثمود، أما قوم عاد فلا نجد لهم أثراً يذكر في العصور التاريخية، على حين أن ثمود عاشوا حتى القرن الخامس الميلادي، وكان أباطرة الدولة البيزنطية يستخدمونهم كفرسان ثموديين في جيوشهم.
وبجانب عاد وثمود نرى العمالقة مدرجين بين أهل الفترة، وقد جاء في علم الآثار العربية الإسلامية ما ينبئ عن وجود عدة أقوام سلفوا في عصر بعيد، كالكنعانيين والفلسطينيين. وأنّا لنسمع أن مقر العمالقة كان في تهامة مكة، وفي بعض أنحاء أخرى من شبه الجزيرة. ويجب أن نشير أخيراً إلى قبيلتي طسم وجديس اللتين لم يدون عنهما شيء إلا حقيقة هلكهما، والدواعي التي أدت إلى ذلك. وإن القصص الخرافية التي أشارت إليهما لا تخلو من لذة بالنسبة لوجودهم في المجتمع العربي القديم.
أما تاريخ القحطانيين - أو عرب الجنوب - قبل الإسلام فهو تاريخ شعبين: السبأي والحميري اللذين خلفا زعماء الإمبراطورية العربية الجنوبية التي امتدت من البحر الأحمر حتى الخليج الفارسي. وسبأ (أو شبا كما هي في العهد القديم) تستعمل خطأ إذا قصد بها كل بلاد اليمن على حين لم تكن سوى إقليم منها وإن كانت بلا جدال أقوى شكيمة وأعظم أهمية من كل الممالك والأقاليم التي ورد ذكرها في كتابات الإغريق والرومان القدامى؛ ومهما بولغ في عظمتها وثراها فمن المحقق أن سبأ هذه كانت ذات مركز تجاري ممتاز قبل ظهور المسيح بعدة قرون. (ولقد قامت السفن منذ زمن بعيد تمخر عباب المياه بين مواني بلاد العرب الشرقية وبين الهند محملة بالبضائع، وكانت منتجات الأخيرة وخاصة الطيب والبخور والحيوانات النادرة (كالقردة والطواويس) تنقل إلى ساحل عمان؛ ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد كانت لهم دراية بالخليج الفارسي حيث كانوا ييممون شطر مصر
يبيعون لفراعنتها وأمرائها بضائعهم، وقد كانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر سبباً في تفضيل الطريق البري للتجارة بين اليمن وسورية، وكانت القوافل تقوم من (شبوت) في حضر موت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ، ثم تتجه شمالاً إلى مكربة (مكة فيما بعد) وتظل في طريقها من بترا حتى غزة المطلة على البحر الأبيض المتوسط).
وظل رخاء السبئيين قائماً حتى أخذت التجارة الهندية تهجر البر وتسلك عبر البحار على طول شواطئ حضر موت وخلال مضيق باب المندب، وكانت نتيجة هذا التغير - الذي يظهر أنه حدث في القرن الأول للميلاد - أن أخذت قوتهم تتضعضع شيئاً فشيئاً، كما أن جزءا كبيراً من السكان اضطر للبحث عن مساكن جديدة في الشمال، ومن ثم أقفرت مدنهم ونضبت العيون المائية، وسنرى حالاً، كيف بلورت القصة العربية نتيجة انحطاطهم الهائل في حقيقة واحدة تلك هي انفجار سد مأرب.
وأن إمحاء السبئيين قد أخلى الطريق لظهور جماعة من نفس الجنس يسمون بالحميريين أو كما يسميهم المؤلفون القدامى وتقع بلادهم بين سباْ والبحر، وتحت حكم ملوكهم المعروفين بالتبابعة أصبحوا قوة يرهب جانبها من الجنوب في بلاد العرب. وظل عظم نفوذهم - ولو ظاهرياً - على القبائل الشمالية حتى القرن الخامس بعد الميلاد حينما ثار الأخير ون تحت زعامة كليب ابن ربيعة، وأزالوا قوة اليمن المسيطرة عليهم في واقعة تعرف بواقعة (خزازة). ولم يفلح الحميريون كما أفلح السبئيون فان موقعهم البحري جعلهم عرضة للغارات كما كان جدب البلاد من السكان مضعفاً لقوتهم الحربية. وقد قام الأحباش - وأصلهم من مستعمري اليمن - بمحاولات عدة لتثبيت أقدامهم، وكانوا يتخذون عادة حكاماً قد نفاهم أمراء وطنيون، ومن أشهر الولاة الأحباش (ابرهة) الذي سنقص خبر مهاجمته الفاشلة لمكة في موضعها الخاص، وانتهى الأمر بأن وقعت إمبراطورية حمير أخيراً تحت حكم فارس ولم تقم لها قومة سياسية مدة قرن من الزمان قبل ظهور الإسلام.
ترجمة حسن حبشي
الفصل في نبوة المتنبي من شعره
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
وتوجد قصيدتان تنسبان إلى المتنبي في هذا العهد، إحداهما قالها وهو بأرض نخلة، وهي ديار بني كلب الذين يقال إنه تنبأ فيهم وهي هذه القصيدة:
كم قتيلٍ كما قُتِلْتُ شهيدِ
…
ببياضِ الطُّلي ووَرد الخدودِ
وعيونِ المهَا ولا كعيونٍ
…
فتكتْ بالُمتَيَّم المعمود
دَرَّ دَرُّ الصِّبا أأيامَ تجْرِ
…
يرِ ذيولي بدار أثلة عودي
عمْرَكَ الله هل رأيتَ بدورا
…
طلعتْ في براقع وعقود
رامياتٍ بأسهم رِيشُها الهُدْ
…
بُ تشق القلوبَ قبل الجلود
يَترَشَّفْنَ من فَمي رشفات
…
هُنَّ فيه أحلى من التوحيد
كلُّ خَمصَانَةٍ أَرَقَّ من الخم
…
ر بقلبٍ أقسى من الجلمود
ذَات فرعٍ كأنما ضرب العن
…
بر فيه بماء ورد وعود
حالكٍ كالْغُدَافِ جَثْلٍ دَجُوِج
…
ىٍ أَثِيثٍ جَعْدٍ بلا تجعيد
تحمل المسْكَ عن غدائرها الرِّ
…
يحُ وَتفْترُّ عن شتِيتٍ برود
جمعتْ بين جسم أَحمدَ والسُّقْ
…
م وبين الجفون والتسهيد
هذه مهجتي لديك لَحِيْنى
…
فانقصى من عذابها أو فزيدي
أهل ما بي من الضنا بطلٌ صي
…
د بتصفيف طُرَّةٍ وبجيد
كلُّ شيء من الدماء حرام
…
شربُه ما خلا دم العنقود
فاسقنيها فدًى لعينيك نفسي
…
من غزال وطارفى وتليدي
شيبُ رأسي وذلتي ونحولي
…
ودموعي على هواك شهودي
أيّ يوم سررتني بوصالٍ
…
لم تَرْعُني ثلاثةً بصدود
ما مُقامي بأرض نخلةَ إلا
…
كمُقام المسيح بين اليهود
مفرشي صهوة الحصان ولك (م)
…
ن قميصي مسرودة من حديد
لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دِلاصٌ
…
أحكمت نسجها يدا داود
أين فضلي إذا قنعتُ من الده
…
ر بعيش مُعجَّل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرِّز
…
ق قيامي وقلَّ
عنه قعودي
أبداً أقطع البلاد ونجمي
…
في نحوس وهمتي في سعُود
فلعلي مؤمِّلُ بعض ما أب
…
لغ باللُّطف من عزيز حميد
لِسريٍ ّلباسُهُ خشنُ القط
…
ن ومرُويُّ مرْ وَليس القرود
عش عزيزا أو مت وأنت كريمٌ
…
بين طعن القنا وخفق البنود
فرؤوسُ الرِّماح أذهبُ للغي
…
ظ وأشفى لغلِّ صدر الحقود
لاكما قد حييتَ غير حميد
…
وإذا متَّ متَّ غير فقيد
فاطلب العِزَّ في لظىً وذر الذُّ
…
لَّ ولو كان في جنان الخلود
يقتلُ العاجز الجبان وقد يع
…
جز عن قطع بخنق المولود
ويُوَقى الفتى المخسُّ وقد خوَّ
…
ض في ماء لبَّة الصنديد
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
…
وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا
…
د وعوذُ الجاني وغوث الطريد
إن أكن معجباً فعُجبُ عجيب
…
لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا تربُ الندى وربّ القوافي
…
وسمامُ العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الل
…
هـ غريبٌ كصالح في ثمود
ويجب قبل أن ننظر في هذه القصيدة من جهة اتفاقها مع دعوى النبوة التي تنسب إلى المتنبي، أن ننبه إلى أن النبوة لا تتفق مع صناعة الشعر، لأن الشعر العربي إلى ذلك الوقت كان صناعة أوزان وكلام، ووظيفة النبوة أسمى من أن تتقي بقيود الشعر، أو تعني عنايته بزخرف اللفظ، أو تعتمد اعتماد على الخيال، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى في سورة يس:(وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين -) كما يشير إلى ذلك وإلى بعد النبوة مما كان يلابس الشعر من اللهو والعبث قوله صلى الله عليه وسلم: لما نشأت بغضت إلى الأوثان، وبغض إلى الشعر، ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى
أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معه لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ولم أقض شيئاً. عراني مرة أخرى مثل ذلك.
وهذا كله لم يكن المتنبي ليجهله، وما كان له أن يقدم على دعوى النبوة معه. ولعل الذين نسبوا إليه هذه الدعوى قد شعروا شيء من هذا حينما جعلوا له قرأنا يعارض به القرآن الكريم، لأنهم رأوا أن الشعر وحده لا يصح أن يستقل بأمر النبوة، أو لا يلتئم معها. ومن ذلك الذي نسبوه إليه وذكروا أنه زعم أنه قرآن أنزل عليه: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سنتك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين، وضل عن السبيل.
وكم يكون الشعر أبعد من وظيفة النبوة إذا كان صاحبه يتكسب به كصاحبنا المتنبي، فإنه نشأ شاعراً مداحاً يتكسب بشعره، ويسأل به، ومن هذا قصيدته في مدح محمد بن عبيد الله العلوي، ومطلعها:
أهلاً بدارٍ سباك أغيدُها
…
أبعدُ ما بان عنكَ خردَّها
وقد ذكر فيها أن ناقته حملته إلى هذا الممدوح:
إلى فَتَى يُصدر الرماحَ وقد
…
أنهلها في القلوب مُوردُها
له أَياد إليَّ سالفةٌ
…
أعُدُ منها ولا أُعَدِّدُها
ثم طفق يمدحه إلى أن قال:
وكم وكم نعمة مُجَلَّلةٍ
…
ربيتها كان منك مولدُها
وكم وكم حاجةٍ سمحت بها
…
أقرب مني إليّ موعدُها
ومكرمات مشت على قدم ال
…
بر إلى منزلي تَردُّدُها
أقرّ جلدي بها عليّ فلا
…
أقدرُ حتى الممات أجحدُها
فعد بها لا عدمتُها أبداً
…
خيرِ صلات الكريم أعودُها
وقد عذله أبو سعيد المجيمري في ذلك العهد على تركه لقاء الملوك وامتداحهم، فقال له:
أبا سعيدٍ جَنِّب العتابا
…
فرُبَّ رأى أخطأ الصوابا
فانهم قد أكثروا الحجَّابا
…
واستوقفوا لردَّنا البوابا
وإن حَدَّ الصارِم القرضابا
…
والذّابلات السُّمر والعرابا
ترَفعُ فيما بيننا الحجابا
ولاشك أن طبقة الشعراء المتكسبين أدنى طبقات الشعراء نفوساً، وأبعدها عن الصلاح والتقوى، وهي طائفة تتخذ الشعر وسيلة لجمع المال، ولا يهمها في دنياه غيره، ولا تطمح نفوسها إلى وظيفة كوظيفة النبوة تكليفاً من الكمال الروحي ما ليس في طبيعتها.
وإن هذه الحادثة لتدل على مقدار ما بلغ إليه المتنبي في ذلك قال: أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت بجانب منديلي خمسة دراهم، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة فاستحسنتها ونويت أن أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ! فقال بغير اكتراث: أذهب فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه وقلت: يا هذا دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال ثمنها عشرة دراهم، فلشدة ما جبهني ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً، ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان ذاهبا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من الدكان ودعا إليه وقال: يا مولاي بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى البيت فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال بخمسة دراهم، قال بل بدرهمين، فباعة الخمسة بدرهمين وحمله إلى داره، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل، فقلت له: يا هذا ما رأيت أعجب من جهلك! استمت على في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم فبعته بدرهمين محمولاً! فقال: أسكت. هذا يملك مائة ألف دينار، قال المتنبي: فعلمت أن الناس لا يكرمون أحدا إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولوا إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار.
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي
من ديوان البغضاء
عقوق. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
ملْ بنا، يا فؤادُ! ننسى المودَّا
…
ت، ونُلقى إلى العدواة حَبَّا
وتعالَىْ! يا ربة الأرقش الخدّا
…
ع، وارعى ما بين جنبيَّ خصبا
وجناحيك، فانشري وظلِّي
…
بقعةً من مقابر الحب جربا
وامنعي نفثةَ الوفَا واحجبيها
…
رُبّ ذكرى أحيتْ مواتاً أجبَّا
وانظري نظرةَ العُقاب إذا
…
أبصر صيداً، فرامه فاشرأبَّا
وانفضي الناس نفضةَ الأسد المج
…
روح أشلَاء صيده والأرْبا
وتعالَىْ! أنا الصديق، ويا أع
…
جب من يجعل العداوة صحبا!
ولئن كان ما رعيت من الأض
…
لاع جدباً، فلن أسومكِ جدبا
واعلمي أنني تركتُ وفاَء ال
…
حُب زُهداً، ورمتُ فيك الحبا
هذه كفُّ خائضٍ غمراتِ ال
…
حب أبلى فيها بلاءً صعبا
مستميتاً قد غالب الموت والح
…
ب ونال الحياة كسباً وغصبا
تيك أُنثى! ودونها الآبُد الطّ
…
اوى إذا ساور الفريسةَ وثْبا
يا لعينيك. . . شبتاَ في دمي النا
…
رَ شُواظا، يعبُّ في الدم عبَّا
وبنانٍ أقسى من القِدِّ في النف
…
سِ، وإن خلتُه بناناً رطبا
آهٍ من غفلة. . . إذا خطرت لي
…
ملأتنْي غيظاً وحِقداً وحربا
قد رمتني في جاحمٍ يتلظّى
…
فإذا مات أرَّثتْه فشبَّا
أَوَفَاءً. . . لغادِرٍ يتسلى
…
بعذابي! تبًّا - لذا الحب - تبَّا
الْمَحَبَّات تقُتلُ القلب قتلاً
…
والعداوات تُردف القلب قلبا
فتعالي! يكن كمكْركِ مكري
…
وأكن في الحروب روعاً ورُعبا
لا توليْ، وتتركيني وحيداً؛
…
لست أبغي بغير قُربك قربا
وانفثي فيَّ السِّحر حتى
…
أقهر الناسَ والأسودَ الغُلْبَا
فألَدُّ الأعداءِ من علّمتْهُ
…
مِحَنُ الحب أن يعُق الحُبَّا. . .
محمود محمد شاكر
الشاعر وسريره
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
- 3 -
تهللٌ يعلو محياكا
…
وبسمةٌ لاثمة فاكا!
وفرحة خجلى عروسية
…
تطلقها كالفجر عيناكا
وأي عطر منعش، مؤسف
…
هذا الذي يحمل رُدناكا
قل يا سريري، أي شيء جرى
…
أنساك شكواي وشكواكا؟
أتاركي أنت بلا رحمة
…
قد عوّدتنيها سجاياكا؟
أشامتٌ بي أنت في محنتي؟
…
معاذ إخلاصك لي في هوايْ
بالله حدثني عما جرى
…
لعل فيه ما يسرّي أساي
ها هو ذا يهمس - رؤيا محت
…
بلواه؛ ويلي! أين ضلت رؤاي؟
جاءته طيفاً في الكرى ماسحاً
…
شكواه؛ ويلي! أين ولى كراي؟
رأى، وعى، لامس - يا ليته
…
يداي، أو أذناني أو مقلتاي!
رق سريري لي، ورقت له
…
حسناءُ مما قلته فيه!
مرَّت بيمناها على صدره
…
فانتعشت بيض أمانيه!
لكن قلبي الحي. . . قلبي الذي
…
يستنزف الرحمة داميه!
قلبي الذي يصرخ في سره
…
من ألم مّرٍ يقاسيه
يلم يُلف قلباً من بني آدم. . .
…
يحنو عليه أو يسليه!
إهنأ سريري بالذي ناله
…
جدُّك إذ أخطأني الجدُّ
لست بغيران ولا حاسدٍ
…
يمنعني - أن أحسد - الودُّ
ولي نصيبي بعد في كل ما
…
حلّتك من أطيافها (هند)
لكن كفَّا أنت قبَّلتها
…
أشتاق أن الثمها بعد!
لعل أن يُطعمني بعدها:
…
الثغر والعينان والخد!
ويلي عليها. .! لكأني بها
…
مقبلة نحوك في لطف
حاملة في ثغرها بسمة
…
حائرة تبدو وتستخفي
كعائش في جنةٍ وحده. . .
…
نازعه شوق إلى ألْفِ!!
يا ليت شعري: أنت مقصودها
…
أم ربك البائس - بالعطف؟
فابنة حوّاء متى أظهرت
…
فربُّها يعلم ما تخفي!
علي أحمد باكثير
على النيل
بقلم العوضي الوكيل
وقفت على النيل الوديع عشية
…
أطالع في أمواجه ما أُطالِعُ
وأسمع من أمواجه لحن فتنةٍ
…
ومعنى يُغشّيني، وذكرى تتابع
كأني إليها من قديم مُوَجَّهٌ
…
وكلّيَ إصغاءٌ، وكلي مسامع
كأني قبل الآن أسمعت مرة
…
صداها، له دفق وفيه تدافُع
وما ذاك إلا رمز ما أنا حالم
…
به قبل أن تهتزّ مني الأضالع
وناجيت ماَء النيل في صمت راهب
…
بأسطورة الحب الذي لا يخادع
أيا نيل حدثْني فإني عالم
…
ولكن لساني شامسٌ أو ممانع
علمت وكم معنى يدور بخاطري
…
أضلته في نفسي فيافٍ قواطع
لكم مرت الأجيال عجلى مُخِبة
…
عليك وإذ تبدو كأنك هاجع
وأنت الطهور الفرد في هذه الدنى
…
وفي قُدسك الأسمى معان تطالع
عليك هدوء الهازئين، وربما
…
يلوح لنفس في الهدوء تواضع
أتلحظني هيمان في العيش سادراً
…
قد انعدمت مني إليه الدوافع
وصرت أعيش اليوم للأهل وحدهم
…
فما أنا في دنياي - ما عشت - طامع
أتلحظ دمعي وهو ينهلُّ مسبلا
…
وأبْينُ شيءٍ فيَّ هذى المدامع
أسير فلا أدري لأية غاية
…
أسير وتدعوني إليَّ المواجع
خلقنا لندري العيش وهو يضلنا
…
كمن بت تثنيه وبات يُقاطع
أيا نيلُ قُصَّا السرَّ إنك عالمٌ
…
به من شباب الكون والكون ياِفع
وحدِّثْ عن المجهولِ واكشف دفينَه
…
فإنك نور في الأحاسيس ساطعُ
وبُلَّ بنفسي غُلّةً بعد غُلّةٍ
…
ولا تنس أني عابد لك خاشع
تمل فؤادي في غلاف من الشجى
…
وفيه جراحات، وفيه مصادع
أيا شاهد الأدهار مرَّت بناسها
…
كمسبحة مرت عليها الأصابع
فأُفْنِىَ منها الناس؛ والزمن الذي
…
حواهم تبقى لم تَضِرْهُ الفواجع
كمسبحة يُستلُّ معدود حبِّها
…
ويبقى بها الخيط الذي هو جامع
العوضي الوكيل
القصص
من صور الحياة
قصة مجرم
للآنسة نعيمة المغربي
انعقدت محكمة الجنايات للنظر في قضايا مختلفة ومنها جناية قتل اتهم فيها فتى طيب الأحدوثة لم يسبق له الإجرام. وظهر من التحقيق أن الجناية لم تقع بقصد السرقة، إذ أن خاتم القتيل الماسي وساعته الذهبية - وهو كهل غني - وأشياء أخر ذات قيمة لم يمسها القاتل، مع أن المجال كان فسيحاً أمامه لسرقتها والاختفاء بها، وإنما اكتفى القاتل بما فعل واللجوء إلى مسكنه الذي كان قريباً من محل الحادثة والذي كان يأوي إليه مع أمه المقعدة، وقد قضت المسكينة نحبها حينما قبض الجند على ابنها من غلبة الخوف والرعب عليها.
ذلك ملخص خبر الجناية التي شغلت أهل المدينة وخاصة سكان الحي الذي وقعت فيه الحادثة وكانت موضع سمرهم لا أسفاً على القتيل الذي عرف بعتوه وصلفه وشحه، بل شفقة على القاتل الذي عرفوا فيه الفتى الحسن الخلق، يكد ويشتغل لينفق على أمه البائسة التي لم يك لها من عائل سواه. لذلك كله امتازت هذه الجلسة بوفرة عدد المستمعين فيها، وكلهم مشفقون على القاتل راثون له.
ظهر في قفص المتهمين شاب لا يتجاوز العشرين من عمره، نحيل الجسم غائر العينين لا تظهر عليه علامة من تلك العلامات التي يمتاز بها المجرمون، بل كان بادي الانكسار هادئ النظرات مستسلما لخواطر تجول في رأسه وأحاديث تهجس في نفسه. وبعد سماع شهادة الشهود ومرافعة النيابة ومحامي الدفاع سأله الرئيس الأسئلة المعتادة التي تلقى على المتهمين وطلب منه إذا كان عنده ما يدافع به عن نفسه. وهنا أرهف المستمعون آذانهم وتطاولوا بأعناقهم حتى لا تفوتهم كلمة من قصة ذلك المجرم البائس قال:
إنني إذا سردت قصتي فأنني لا أسردها بغية الدفاع عن نفسي أو حباً في الحياة فقد سئمت العيش واستولت علي النفرة من الناس، بل لتعلموا أنني فرد من أفراد المجتمع البشري قدر عليه أن يعيش عيشة ضنك وشقاء ويحيا حياة مليئة بضروب الألم والعذاب، وكنت في
ربيعي الثاني عشر حينما فتحت عيناني على صورة من صور الحياة المؤلمة التي تركتني أرزح تحت كلكلها وأصبحت حياتي بعدها جافة قاسية خالية من المباهج التي تساعد المرء على اجتياز ما قد يتخلل طريقه من حصى وأشواك
مات أبي وأنا صغير، ولم يترك لنا أنا وأمي من حطام الدنيا سوى أساس عتيق بال في مسكن صغير تداعت أركانه، وتشققت سقوفه وجدرانه، وكان ذلك المسكن لجار لنا غني كنا نؤدي إليه أجرته من دون مطل أو تسويف. وكان أبي بنّاء يتناول في يومه بضعة قروش يأتي بها إلينا وهو فرح مغتبط مع ما يحيط به من فاقة وبلاء. فيملأ البيت بهجة ورواء، ويحوله إلى قصر من أوفر القصور سعادة وأعظمها هناء.
وبالرغم من قدم العهد فأنا أذكر ذلك اليوم الرهيب يوم أن عرفت أن ذلك الإنسان الذي يستنزف قواه ليدفع عنا غائلة السغب والعرى قد أخرسه الموت ونام نومه الأبدي.
ففي أمسية من أمسيات الشتاء الباردة، وفي ليلة دجوجية الجناح غدافية الأديم، كانت الريح صر صرا عاتية، وكرات الجليد تتساقط على جوانب بيتنا المتداعي فيسمع لسقوطها صوت كأصوات الأرواح الهائمة. طرق الباب فدخل رجلان يماثلاننا في الفاقة والبؤس يحملان جثة أبي مهشمة أو كتلة من لحم ودم. ولقد نسيت كيف مرت علينا تلك الليلة المشؤومة، غير أنني أذكر أن جثمانه ظل مسجى طول اليوم التالي حتى شعر بذلك من لم تخل قلوبهم من عناصر الرحمة والشفقة فأمدونا بقليل من المال جهزنا به فقيدنا وأودعناه مرقده الأخير. ومما زاد لوعتنا أن الطبيب الذي قام بفحص الجثة قرر أنه كان مريضاً بعلة القلب فلم يستطع احتمال العمل المجهد تحت حر الشمس في أعلى البناء فأصابه دوار عرضه للسقوط والموت السريع. وكأن ذلك الأب الشفيق كان يخفي علته هذه عن أمي خشية قلقها أو محاولتها منعه من متابعة عمله المضني، وقد أصيبت تلك التاعسة على أثر هذه الصدمة التي بلينا بها بمرض عضال أقعدها عن مواصلة السعي لكسب القوت ودفع أجرة المسكن، ومع هذا فقد كانت تتحمل الفقر والشقاء والمرض والإعياء بصبر واستسلام.
لقد ألقت الأقدار بي من حيث لا أشعر في بيداء هذه الحياة وضربتني ضربة قاسية لا رفق فيها ولا هوادة، وأرادتني أحداث الزمان على أن أحمل حملاً أعجز عنه وأنا صبي صغير
فتلاشت ابتسامتي واربد وجهي، وعادت الحياة في نظري هماً ناصباً. أمي مقعدة لا تستطيع حراكا وهي تحتاج إلى قوت ودواء، وصاحب المسكن يطالبنا بأجرته في نهاية كل شهر، وعلينا أن نؤديها إليه صاغرين وإلا كان الشارع لنا مأوى، وقد أشار عليّ بعضهم بإيداع المريضة في إحدى المستشفيات، فقبلت ذلك على مضض، ولكن إدارة المستشفى أبت قبولها بحجة أن مرضها عضال لا يرجى منه شفاء. على أنني مع ذلك لم أيأس ولم أحزن رغبة في أن أظل بجانبها أخدمها وأروح عنها ما تجده من آلام محرقة تحاول جهد طاقتها أن تخفيها عني فتتكلف لي الابتسام، ابتسام المريضة الصبور المستسلمة. لقد ذاق أطفال قبلي مرارة اليتم، وذاق الكثيرون مثلي مرارة الحرمان والعدم، ولكن آلامهم لم تك تشبه آلامي: إذ كانت آلامي آلام صبي في أول مرحلة من مراحل حياته يرى تحت نظره أعز الناس لديه يدنو من الموت أو يدنو الموت منه بخطى سريعة فلا يستطيع التخفيف عنه أو إسعافه بجرعة دواء.
أجل كنت أذرع البلدة وأجوس خلال شوارعها باحثاً بحث اليائس عن لقمة أتبلغ بها أو عن عمل يكفل العيش لي ولتلك المريضة المدنفة، وكنت إذا حصلت على بضع دريهمات أضن بها على نفسي فأعود وأنا أطفر فرحاً فأشتري لها ما تحتاج إليه من غذاء ودواء وأوفر الباقي أجرة لمسكننا الحقير.
وقد كنت أستطيع أن ألجأ إلى تلك الطريقة التي يلجأ إليها الكثيرون من أمثالي - أعني السرقة - وكانت أحياناً تتجسم هذه الفكرة في مخيلتي حينما أصاب بتلك الآفة الغشوم - آفة الجوع - ولكنني لا ألبث أن أرجع عن هذا العزم إذ أربأ بنفسي أن تنحط إلى هذه المنزلة مفضلاً كل شقاء على الوقوع في هذا المنحدر الرهيب.
وكنت أعرف أيضاً أن هناك سبيلاً أفضل من هذا كله أقصر مدى وأقل تعباً وجهداً. سبيلاً ينتهي بي إلى تخفيف متاعبي وآلامي وينقطع به همومي وأحزاني. فقد كان في استطاعتي أن أقصر ساعات عذابي بالانتحار، ولكن ذكرى المريضة المقعدة كانت تبعد عني هذا الخاطر، وتجعلني أبتسم لليأس المميت في ظل الحياة التعيسة التي أحياها.
سدت في وجهي أبواب الرزق، وأمي تزداد مرضاً على مرض فلجأت إلى بيع أثاثنا البالي، فبدأت بالفراش الذي أنام عليه والكرسي الذي أجلس فوقه وجميع الأمتعة الحقيرة
التي يضمها مسكننا، فنفذ ذلك كله وهو مبلغ تافه لا تأثير له في دفع الشقاء. ومما زاد في بليتنا أن صاحب المسكن أخذ يطالبنا بتأدية ما تأخر له عندنا من الأجرة التي لا نملك منها شيئاً، وأمهلنا بذلك ثلاثة أيام وإلا طردنا دون شفقة أو ورحمة.
طوفت في هذه الأيام الثلاثة في الشوارع ضاوياً متعباً مريض النفس والجسم والفكر، صفر الكف، فلم يفتح علي بشيء حتى أعياني التجوال، وأرهقني اليأس، فرجعت إلى البيت أبكي بدموع غزار.
انقضت المهلة المعينة لتنفيذ وعيد ذلك الظالم، ولم يبق منها سوى ليلة واحدة لم يغمض لي فيها جفن ولم يرقأ لي دمع. وشعرت آنئذ بجميع ضروب اليأس، وذقت من الألم أشكالا، ثم اعتراني بحران عميق، أصبحت فيه أشبه بالصنم. وعندما انبلج الصبح ولاح لي وجه ذكاء بدا وجه أمي النحيل الشاحب، وهي تتنفس تنفساً خافتاً، فانبثق في لبي خاطر استجبت له: هو لقاء صاحب المسكن واستعطافه علني أجد بذلك من الضيق مخرجاً. فنهضت متثاقلاً، وأنا ضائع الفكر مضطرب البال، أقرب إلى اليأس من ذلك الغريق الذي يرتجف وسط الخضم وقد تعلق بأوهى الأسباب أملاً في النجاة.
وعندما وصلت قصر صاحب الدار تجلدت وطرقت الباب ففتح لي خادم كنت أجد عنده بعض العطف، فسهل لي لقاء سيده فدخلت عليه وأنا أرتجف كريشة في مهب الريح.
تذللت بين يديه واستعطفته وشرحت له ما أقاسيه من بؤس وهم، واستلهمته ريثما تقضي تلك البائسة فهي على أبواب الأبدية، وكنت أحدثه وهو صامت ساكن لا تطرف عينه ولا يرفع نظره إلي، حتى إذا فرغت من شكواي صرخ في وجهي صرخة جافة قاسية ملؤها العنف والقسوة وختمها بأبشع الشتائم وأقبح النعوت.
يصبر عزيز النفس على الموت والخطر والعذاب والجوع، ولكنه لا يصبر على الإهانة والطرد. يهون على أبي النفس كبيرها أن يرمي في أتون ملتهب يشوي جسمه شياً دون أن تلقى عليه نظرة ازدراء أو كلمة اشمئزاز. ومع هذا لم أحرك ساكناً بادئ ذي بدء بل تصاممت عن سماع كلماته المرة عسى أن تهدأ ثورة غضبه ويثوب إلى رشده ويرفق بي. ولكنه أعاد الكرة وأمعن في طردي وتحقيري بلهجة تفوق الأولى عظماً وهولا، فكانت كلماته هذه كسهم أصاب مركز الصبر من فؤادي فمزقه، فأحسست أن الدم يتصاعد إلى
رأسي، وأن الأرض تدور بي، ولاح لي طيف أمي وهو ملقى في العراء. فلم أشعر إلا وأنا ممسك بخناقه أضغط عليه بين يدي حتى سقط جثة هامدة.
يقولون عني إنني مجرم خطر، وإني أستحق الموت عبرة لأمثالي، وما أنا إلا إنسان حكمت عليه الظروف القاسية بأقسى أحكامها، وأراد له أخوه الإنسان أن يصبح مجرماً بعدما تعب واجتهد اجتهاد الأبي ليعيش عيشة الكفاف فلم ير قلباً يعطف عليه وينتشله مما هو فيه.
هذه قصتي المكتومة أعلنتها. وأحزاني الحبيسة أطلقتها، فلتحكم علي محكمتكم الموقرة بما يمليه ضميرها ويرضاه عدلها
وأخيراً خلت المحكمة للمداولة، فأجلت البت في هذه القضية إلى أسبوع آخر.
نعيمة المغربي
البريد الأدبي
كتاب عن تاريخ الحبشة وبلاد العرب
أصدرت الجمعية الجغرافية الملكية مجلداً جديداً من كتاب (البحر الأحمر والحبشة وبلاد العرب منذ العصر الغابر) ' ' ' بقلم المسيو (كامرر)؛ وفي هذا المجلد الجديد مباحث شائقة عن (حرب الفلفل) وعن اكتشافات البرتغاليين البحرية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛ ومن المعروف أن هذه الاكتشافات كانت ذات أثر فعال في تطور مركز مصر التجاري؛ لأنها لبثت عصوراً طريق الهند، ولبثت ثغورها مهبط هذه التجارة، فلما اكتشف البرتغاليون طريق الهند تحول قسم عظيم من تجارة الغرب إلى هذه الطريق الجديدة، وهجرت الطريق القديمة التي كانت تمر بمصر أو الشام، ودخل البحارة البرتغاليون الميدان وأنشئوا مراكز تجارية وحربية في موزنبيق وقاليقوط وجوا ومسقط وغيرها، وغزوا جزائر الهند الشرقية ووصلوا إلى شواطئ الصين؛ وانتبه سلاطين مصر لهذا الخطر المحدق بموارد بلادهم فتحالفوا مع البندقية على محاربة هذا الخطر لأنه يمس تجارتها أيضاً؛ ولبثت مصر مدى حين قابضة على مفتاح البحر الأحمر، ولكن البرتغاليين قبضوا على طريق الهند، ورأوا من جهة أخرى أن يغزوا البحر الأحمر فتحالفوا مع الحبشة، وكانت تخشى مصر؛ وأرسلت بعثة برتغالية إلى بلاط النجاشي؛ ولكن الحبشة لبثت حذرة من أولئك الأصدقاء الجدد ومن نيا تهم.
واستمرت المعركة مدى حين على سيادة البحر الأحمر والمحيط الهندي، وفي المشرق للاستئثار بغنم السيادة التجارية، ولعبت منتجات الشرق مثل الفلفل والبهار دوراً في هذه المعركة؛ وتخللتها معارك وأحداث بحرية عظيمة ما زالت مضرب الأمثال في الروعة والشجاعة.
ولكتاب مسيو كامرر مزية أخرى، هي أنه يتتبع تاريخ الآراء والتطورات الجغرافية في كتابه خلال هذه العصور؛ وهذه التطورات مشروحة بالخرائط والوثائق الوافية، وفيها خرائط قديمة كانت سرية لم تعرف في عصرها، لأن الخرائط التي كانت توضع عن الطرق البحرية في ذلك العصر، كانت كالخرائط الحربية يحرص أصحابها على سرها.
وقد زين الكتاب فوق ذلك بعشرات من الصور التاريخية الهامة.
الكاتب الألماني رودلف شتراتس
نعت إلينا أنباء ألمانيا الأخيرة الكاتب القصصي الألماني الكبير رودللف شتراتس ، توفي في الثالثة والسبعين من عمره في ضيعته في (كيم زي) على مقربة من ميونيخ؛ وبوفاته اختفى كاتب من أخصب وأعظم الكتاب الألمان في عصر الإمبراطورية، وكان شتراتس مدى الحرب ومن بعدها أيضاً في طليعة الكتاب الذين يدهشون الجمهور بوفرة إنتاجهم وبراعة ابتكارهم؛ وقد نشأ شتراتس ضابطاً، وقضى أعواماً عديدة في خدمة الجيش، وكتب أولى قصصه عن حياة الجندية، وشرح فيها حالة الضباط وأحوال معيشتهم. وكان يدعو دائماً إلى ابتعاد الجيش عن الأحزاب والسياسة؛ وكان شتراتس يتمتع بمواهب القصصي البارع، ووفرة في الخيال، وهو يصف لنا في رواياته، مدينة برلين وحياتها قبل الحرب وصفاً بديعاً مدهشاً، وكان يختار دائماً لأبطال قصصه النبلاء وكبار الأغنياء فيصف حياتهم وأحوالهم بدقة مدهشة، ولم يتخذ قط من بين الطبقات الدنيا أبطالاً لقصصه، ولم يعن بمعالجة المسائل الاجتماعية ولا يتوخى الغايات الاجتماعية، وإنما كان يكتب قصصاً شائقاً مشجياً مؤثراً فحسب؛ ولكن ذلك لم يمنع من انتشار كتبه انتشاراً هائلاً حتى إن بعضها طبع مائة مرة. ومن أشهر كتاباته بعد الحرب قصص يصف فيها حالة برلين أيام التضخم النقدي؛ وقد ساح شتراتس كثيراً، وظهر أثر سياحاته في كتبه، ولكنه كان دائماً في أعماق نفسه (وطنياً) ألمانياً، يتجه بالوصف إلى إذكاء الوطنية الألمانية؛ وأشهر رواياته على الإطلاق هي رواية (هيدلبرج القديمة) ومن رواياته الشهيرة الأخرى:(مكان في الشمس)(المعجزة الألمانية)(سفينة بلادفة) (لو كان العالم مليئاً بالعفاريت ? وغيرها وقد بلغت كتبه زهاء ثلاثمائة مجلد.
لجنة تفسير معاني القرآن الكريم
أصدرت مشيخة الأزهر قراراً بتأليف لجنة لتفسير القرآن الكريم توطئة لترجمته من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية رئيساً، والأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف، والأستاذ علي الجارم مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف، والشيخ مصطفى عبد الرازق
والأستاذ أحمد أمين من الجامعة المصرية، والشيخ إبراهيم حمروش شيخ كلية اللغة العربية، والشيخ أمين الخولي من الجامعة المصرية، والشيخ علي سرور الزنكلوني من كلية أصول الدين، والشيخ إبراهيم الجبالي من كلية أصول الدين، والشيخ محمود الغمراوي من كلية اللغة العربية، والشيخ محمود شلتوت من كلية الشريعة، والشيخ محمد أحمد العدوى من كلية أصول الدين أعضاء.
استكشاف جبال هملايا
استطاعت البعثة الألمانية التي أوفدت لتسلق جبال هملايا الهندية أن تصل إلى أكمة سمفو الواقعة في شرق كانشن جونجا على ارتفاع أكثر من 22ألف قدم، وهي أول مرة يستطيع الإنسان أن يصعد إليها، والبعثة المذكورة مكونة من الدكتور باور البافاري وهو من الأخصائيين في صعود الجبال، والهر فين والهر هاب، والهر جتنر؛ وقد وصلت البعثة إلى قلب أراضي نبال منذ أشهر؛ ووصلت منطقة زيمو الثلجية في سبتمبر، ثم انقسمت إلى فريقين؛ فسار الهر فين مع بعض الحمالين إلى وادي تالونج، ونفذ منه الطعام بعد أيام، وقضوا نحو يومين بلا طعام قبل أن يصلوا إلى المساكن؛ وكان تقدمهم بطيئاً حتى كانوا يقطعون في هذه الهضاب ميلاً واحداً فقط في اليوم، ثم تلاقى الفريقان بعد ذلك وسارت البعثة كلها إلى سنجيك، وصعدت إلى قمة سيمفو.
وقد اقتنعت الفرقة أن طريق سيمفو هو أفضل الطرق للصعود إلى الآكام العالية التي لم يتوصل المكتشفون بعد إلى ارتيادها؛ ويزمعون العودة إلى الهند في العام القادم، وقد سبق أن استطاع الدكتور باور مع بعض زملائه الصعود إلى ما دون ثلاثة آلاف قدم من هذه الأكمة الشهيرة، ولكنه رد بعاصفة من الثلج، فعاود الكرة في هذا العام ونجح في محاولته.
وثيقة مصرية قديمة
اكتشفت أخيراً في إحدى قرى الفيوم المسماة ارسيم أو مدينة التماسيح وثيقة غريبة تدل على أن العقود الخاصة بأعمال الصبيان موجودة من أقدم العصور؛ وقد استطاع الأستاذ فولزن العلامة الدانمركي أن يقف على محتويات هذه الوثيقة فإذا فيها ما يأتي: -
(يشهد تريفون بأن ولده القاصر تيونيس قد عين صبيا لمدة سنة من تاريخه عند
تولوماتوس النساج).
وسوف يتعلم الصبي طول مدة العقد من أستاذه كل أصول حرفة النسج، ويتقاضى فوق ذلك كل شهر خمسة دراهم مقابل الكسوة، وفي آخر العام يتقاضى 12 درهما.
وفي مقابل ذلك يدفع والد تيونيس إلى الحكومة ضريبة الأحداث عن ولده، ويجب عليه أن يدفع عن كل يوم يتغيب فيه الغلام درهما بصفة غرامة، وفي حالة فسخ العهد يجب عليه أن يدفع مائة لخزينة الدولة؛ وإذا لم يقم المعلم تولوماتوس بتعليم الغلام كما يجب، فإنه يدفع مثل هذا القدر للخزينة.
جواهر الطيب المفردة ليوحنا بن ماسويه
احتفل المجمع العلمي المصري بافتتاح جلساته لعامي 1936 و1937 فألقى القس بولس سباط محاضرة عن كتاب (جواهر الطيب المفردة) ليوحنا بن ماسويه العالم النصراني الكبير، والطبيب الشهير الذي عاش في القرن التاسع، وكان رئيس دار الحكمة التي أنشأها الخليفة المأمون ببغداد سنة 830.
وفي هذا الكتاب النفيس وصف ابن ماسويه جواهر الطيب المفردة وذكر أسماءها ومعادنها وأنواعها وخواصها وفوائدها بالنظر إلى الطب والعطارة وقسمها قسمين: الأصول، والأفاويه، وقال: إن الأصول خمسة: المسك والعنبر والعود والكافور والزعفران، وأن الأفاويه أربعة وعشرون: السنبل والقرنفل والصندل والجوزبوا والبسباس والورد والفلنجة والزرنب والقرفة والهرنوة والقاقلة والكبابة والهال بوا وحب الميسم والفاغرة والمحلب والورس والقسط والأظفار والبنك والضرو واللاذن والميعة والقنبيل.
ولهذا الكتاب مخطوطان: أحدهما محفوظ في دار الكتب بمدينة ليبسيك بألمانيا، والآخر عثر عليه القس بوليس سباط في مدينة حلب سنة 1933 نسخة الأرخيد ياكون يوحنا بن عبد المسيح الانطاكي بمدينة حلب سنة 1563.
وقد اهتم القس بولس سباط بتنقيح هذا السفر الجليل والتعليق عليه، وإضافة فهارس علمية له وسينشره المجمع العلمي المصري في مجلته لهذا العام.
الحركة الفكرية العنصرية في ألمانيا
تمضى ألمانيا الجديدة في سياستها العنصرية إلى النهاية؛ وآخر ما قررته في هذا السبيل القضاء على الآثار والمؤلفات الفقهية اليهودية. ومن المعروف أن أعظم الآثار القانونية الألمانية كتبها اليهود الألمان ولا زالت إلى اليوم مرجع البحث في ألمانيا، ولكن الدكتور فرنك رئيس الجمعية القانونية الألمانية أصدر أمره إلى جميع المكاتب العامة ودور البحث أن تستبعد جميع المؤلفات اليهودية في القوانين الألمانية، كما أصدر أمره إلى جميع الناشرين بالا يعيدوا طبع شيء من هذه المؤلفات أسوة بالامتناع عن نشر المؤلفات الجديدة التي يضعها اليهود، وبذلك لا يمضي طويل حتى تختفي هذه الآثار اليهودية من الأدب القانوني الألماني.
ويرى الدكتور فرنك أنه يجب على العنصر الألماني أن يبدأ عصراً جديداً في التأليف القانوني، وأن الذهن الآري يجب عليه أن يعرب عن عبقريته ونقائه في هذه المؤلفات.
الكتب
موسى بن ميمون
حياته ومصنفاته
تأليف الدكتور إسرائيل ولفنسون
بقلم الدكتور إبراهيم بيومي مدكور
هنالك كتب تقرأ لموضوعها وأخرى لأصحابها! وكأن منظمي المكتبات العامة أدركوا هذا المعنى تماماً فأعدوا طائفتين متميزتين من الفهارس: إحداهما للمادة والأخرى للمؤلفين؛ والكتاب الذي نحن بصدده يجذب القراء بموضوعه وبما يبذله مؤلفه من وسائل في سبيل نشره. فهو يدرس أولاً أعظم شخصية بين مفكري اليهود في القرون الوسطى، ومن ذا الذي لا يرغب في أن يعرف شيئاً عن ابن ميمون بعد ذلك الحفل العظيم الذي أقيم في العام الماضي تخليداً لذكراه المئوية الثامنة؟ وأعتقد أن هذا الحفل نجح نجاحاً كبيراً؛ فقد وجه الباحثين إلى دراسته وتعريف الناس به، وأضحت شخصيته بعده شعبية إلى حد ما، ولو لم يكن من آثاره إلا كتاب اليوم لكفى. وعلنا نحتذي هذه السنة الصالحة ونخلد ذكرى فلاسفة الشرق وعلمائه الآخرين كي نبعثهم من مرقدهم وننشر تراثهم ونلفت الأنظار إليهم ونحلهم في المحل اللائق بهم. وفوق هذا ففي الدكتور ولفنسون نشاط يغبط عليه؛ وليس نشاطه في التحدث عن كتبه بأقل من نشاطه في جمعها وتأليفها، ولا تكاد تلقاه إلا ويحدثك عن أبحاثه الماضية ومؤلفاته الحاضرة ومشروعاته المستقبلية؛ وإذا ما ظهر له في عالم التأليف كتاب خيل إليك أنك تلمح باستمرار على وجهه السؤال الآتي: هل قرأت كتابي؟ ولسنا ندري ماذا كان يصنع لو قدر له أن يشتغل بالأعمال المالية والشؤون الاقتصادية! يغلب على ظننا أنه ما كان يباري في هذا المضمار!
ولسنا في حاجة لأن نؤكد للدكتور ولفنسون أنا قرأنا كتابه الأخير؛ فهو يعلم أنّا عنينا به وهو لا يزال في مهده، وقمنا بعض الشيء على تنشئته وتكوينه، وقد ناقشناه غير مرة في طريقته وأسلوبه وموضوعه ومصادره؛ وها نحن أولاء مسرورون بظهوره في ثوبه الحاضر سروراً مزدوجاً، فيسرنا منه ما فيه من أبحاث قيمة أضافت إلى اللغة العربية ثروة
طائلة، ونغتبط بأن نرى فيه زهرة يانعة شهدنا من قبل ساعة تفتحها وتابعنا أدوار نموها وكمالها. وإذا كنا قد أسررنا بالأمس إلى الدكتور ولفنسون بما لاحظنا على مخطوطته، فنحن اليوم في حل من أن نعلن إلى قرائه ما خلفه كتابه في نفسنا من أثر؛ والأبحاث العقلية وقف على أصحابها ما لم ينشروها؛ فان نشرت أصبحت ملكاً للإنسانية جمعاء.
يشتمل كتاب موسى بن ميمون على تصدير، وأربعة أبواب وفهرس بأسماء المصادر العربية والعبرية والإفرنجية. ففي التصدير يبين المؤلف الأسباب التي دفعته إلى وضع كتابه، والطريق الذي سلكه، والصعوبات التي صادفته، ويلخص النتائج التي انتهى إليها؛ وفي الباب الأول يدرس حياة ابن ميمون ويأتي على الظروف المختلفة التي أثرت في نشأته وتكوين آرائه، ويعرض في إسهاب لمشكلة إسلامه مدلياً فيها بأقوال المؤرخين السابقين ومناقشاً لها مناقشة طويلة. وهذا الباب حافل بالمعلومات يدل على اطلاع واسع بحث مستفيض، إلا أنه لم يرتب ترتيباً كافياً. وقد عنى فيه بجمع الحقائق وسردها أكثر مما عنى بطريقة عرضها وربط بعضها ببعض. وكنا نود أن يرجع المؤلف العوامل التي أثرت في حياة ابن ميمون إلى نقط رئيسية يأتي عليها الواحدة بعد الأخرى. نحن لا ننكر أن ملخصه الجامع الذي صدر به كل باب من أبوابه حدد بحثه بعض الشيء؛ ولكن كنا نفضل أن يقسم هذه الأبواب إلى فقرات يعنون لكل واحدة منها بعنوان خاص، كما صنع في مشكلة إسلام ابن ميمون مثلاً وهذه الفقرات في جملتها لا تخرج عن الملخصات الآنفة الذكر. وقد وقف المؤلف على إسلام أسرة ابن ميمون 14 صفحة كاملة؛ وهذا الموضوع هام حقاً وجدير بهذه العناية. غير أنا لا نكاد نجد فيه جديداً؛ ذلك لأن المؤلف شغل بجمع ونقل آراء الباحثين السابقين دون أن يرجح واحداً منها على آخر ترجيحاً واضحاً. والواقع أن هذه المسألة درست من قبل دراسة موسعة، فلم ير صاحب كتاب موسى بن ميمون بداً من أن ينقل آراء من سبقوه ويعول عليها التعويل كله حتى في مناقشة النصوص التي عرض لها. ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه قد يسهب أحياناً في سرد هذه النصوص وينقل منها ما يجاوز بحثه ويناقشها مناقشة سطحية. ونعتقد أنه كان في مقدوره، وهو ذو خبرة لغوية واسعة أن يشرح النصوص العربية شرحاً أضبط، ويستكمل ما فات المستشرقين السابقين.
وفي الباب الثاني الذي هو أصغر أبواب الكتاب درست مؤلفات ابن ميمون الدينية. وهذا
الباب واضح في جملته ومحتو على ملاحظات ونقد لا بأس به، وما اتصل فيه بتثنية التوراة والتلمود جيد للغاية. ولا غرو فالمؤلف حين يدرس الفقه والتشريع الإسرائيلي إنما يتكلم عن خبرة تامة ومعرفة حق؛ فهنا يبدو بجلاء اختصاصه وتمكنه من مادته. هذا إلى أنه أحسن اختيار ما قدمه؛ فلم يشغل القارئ العربي بتفاصيل جزئية عن الديانة اليهودية قد لا تعنيه كثيراً معرفتها.
والآن ننتقل إلى الباب الثالث الذي هو عمدة الكتاب وأكبر أبوابه، وقد عنون له المؤلف كالآتي: - (فلسفة موسى بن ميمون ومصنفه دلالة الحائرين). ويخيل إلينا أنه كان الأولى أن يكون عنوانه كما يلي: (دلالة الحائرين وما يحوي من آراء فلسفية ودينية). فان المؤلف لم يشرح في هذا الباب فلسفة ابن ميمون شرحاً نظرياً وتاريخياً منظماً؛ وإنما جعل كل همه أن يلخص كتاب دلالة الحائرين وينقل أهم ما جاء فيه من آراء وأفكار، ويعطي فكرة عامة عن تاريخ تأليفه والأدوار التي مر بها منذ ابن ميمون إلى اليوم، ويبين أثره في العالم الغربي والشرقي. ولئن فاته أن يدرس فلسفه ابن ميمون الدرس اللائق بها لقد وفق توفيقاً كبيراً في تلخيص كتابه دلالة الحائرين، ونستطيع أن نقرر أن هذا الملخص الذي يقع في نحو خمسين صفحة قد يغني عن قراءة أجزاء دلالة الحائرين الثلاثة. ولم يلخص المؤلف هذا الكتاب بالمعنى، بل ترك ابن ميمون يعبر في أغلب الأحايين عن آرائه بنفسه. وفي هذا ما يسمح للقارئ أن يتصل اتصالاً مباشراً بالفيلسوف المترجم له. ويجدر بنا أن نلاحظ أنا في حاجة ماسة إلى طبع دلالة الحائرين بحروف عربية. ففي انتظار هذه الطبعة المنشودة قدم لنا الدكتور ولفنسون فصولا ممتعة من كتاب عربي هام كتب بالعربية دون أن يعرفه كثير من أبنائها. وكل ما يؤخذ على هذا الملخص نقص في الترتيب وربط المسائل بعضها ببعض أحياناً، أو قصور في عرض بعض النقط أحياناً أخرى. ففي صفحة 58 يحكم المؤلف مثلا على المترجمات العربية حكماً غير مبني على أساس صحيح، ويشير إشارة ناقصة إلى أثر الفلسفة الإسلامية في الفلسفة اليهودية. وكنا نتوقع أن يعير هذه المسألة ما تستحق من أهمية، ولا سيما وهو يدرس شخصية يبدو فيها الأثر الإسلامي بشكل واضح. والتاريخ والواقع يشهدان بأن الفلسفة اليهودية في جملتها ليست إلا امتداداً للفلسفة الإسلامية. وفي صفحة 121 يتكلم عن أسلوب ابن ميمون؛ وفي رأينا أنه كان
ينبغي أن يقدم هذه النقطة ويبدأ بها قبل الدخول في تفاصيل كتاب دلالة الحائرين؛ على أن المؤلف فاته أن يشير إلى جلاء ابن ميمون، ووضوح لغته، وعنايته بتوصيل المعنى إلى القارئ، وطريقته المنطقية البرهانية في المناقشة والتعليل.
وفي الباب الرابع والأخير يدرس المؤلف كتب ابن ميمون الطبية. وهذه تكملة لا بد منها؛ فان ابن ميمون فوق تشريعه وفلسفته كان طبيباً يشار إليه بالبنان في علمه وعمله، وقد خلف كتباً طبية عديدة استفاد منها الشرق والغرب أثناء القرون الوسطى. وقد نجح المؤلف في التعريف عنها، وعرض نماذج من موضوعاتها؛ وإن كان قد فاته أن يبين في وضوح الصلة بينها وبين المؤلفات الطبية العربية الأخرى المعاصرة لها أو السابقة عليها. وعلى هذه الدراسة ألصق بكتاب طبي منها ببحث تاريخي.
وفي الفهرس نرى مجموعة طبية من المراجع القديمة والحديثة العربية والعبرية والإفرنجية التي تتصل بحياة ابن ميمون وآرائه ومؤلفاته. ويا ليت المؤلف أضاف إليها بعض الملاحظات النقدية التي تبين قيمتها العلمية وما احتوت من أبحاث مفيدة. وعلى كل فهذا الفهرس ثمرة من ثمرات اطلاعه الواسع، وأداة صالحة من أدوات البحث والدراسة. وسيجد فيه القراء والمطلعون نبراساً يستضيئون به في ظلمات القرون الوسطى، وهادياً يرشدهم إن أرادوا التوسع في بعض النقط التاريخية والفلسفية.
هذا هو كتاب موسى بن ميمون في محتوياته. وأما أسلوبه فمقبول في جملته، وإن أعوزه شيء من العناية والدقة. وأما مصادره - على الرغم من تعددها وحسن اختيارها - فلم تستخدم استخداماً كافياً. ونعتقد أنه لو كان المؤلف قد تريث أكثر في دراستها، ودقق أطول في قراءتها، لأخرج لنا عن ابن ميمون بحثاً أشمل وأوسع.
ومهما يكن من اعتراض يمكن أن يوجه إلى كتابه فأنا لا نتردد مطلقاً في أن نقرر أنه ضم إلى سلسلة أعماله المتواصلة حلقة ذهبية ناصعة. وهو من غير شك، كما قرر فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق في المقدمة التي قدم له بها (ثمرة جهد كبير في الاطلاع على مراجع مختلفة في لغات شتى) وإذا لاحظنا أنه يدرس شخصية جليلة من كبار المفكرين الذين تربوا فوق أرض الإسلام وتحت سمائه أكبر ما له من قيمة؛ وسيستعين به أصدقاء الفلسفة الإسلامية وطلابها على تفهم كثير من الآراء والأفكار
العربية. وأملنا كبير في أن ينحفنا الدكتور ولفنسون وهو مؤرخ استكمل وسائل البحث التاريخي، بمؤلفات أخرى تكشف الغطاء عن فلسفة القرون الوسطى اليهودية.
إبراهيم مدكور
العالم المسرحي والسينمائي
أدب السيناريو
صورة جديدة من الأدب أوجدها الفيلم الناطق
لناقد (الرسالة) الفني
ظل الأدباء حتى السنين الأخيرة لا يعرفون الفنون والآداب إلا في صورها القديمة من الشعر والنثر الفني والقصص التمثيلي وغير التمثيلي. وظهرت صورة جديدة من الأدب في القصة القصيرة، وهي على رغم انتشارها وذيوعها ليست جديدة وإنما هي صورة مصغرة من القصة الطويلة، أو هي قصة ملخصة تلخيصاً حكيماً.
واخترعت السينما الناطقة فرأينا القصص تعرض على اللوحات ولم يؤثر هذا الاختراع أي تأثير في العالم الأدبي حتى ظهرت السينما الناطقة فسمعنا الممثلين ينطقون بحوار فني وضعه المؤلفون من أكبر رجال الأدب والفن في العالم.
بعض هذه القصص بما تحوي من حوار مقتبس عن قصص معروفة، ولكنه يظهر في صورة خاصة وترتيب فني جديد لم يألفه الناس وعرف بالسيناريو.
والسيناريو كلمة أطلقها رجال السينما على القصة السينمائية في وضعها الخاص الذي يعاون المصور والمدير الفني ومساعديه على القيام بمهمتهم في سبيل إخراج فيلم من الأفلام.
ظلت هذه الصورة الجديدة لا يعرفها الناس وكأنها سر من الأسرار، وكان المتلهفون على المجلات السينمائية وكتب السينما يعرفون القليل عنها من أمثال بسيطة يضربها المؤلفون والكتاب في بعض ما يكتبون، حتى جازفت إحدى دور النشر في أوربا وقامت بطبع أكثر من سيناريو فكان هذا العمل الجريء هو الباعث على ظهور هذه الصورة الجديدة من الأدب.
أقبل الناس على قراءة هذه الكتب للتسلية والدرس، وهناك من المؤلفين والكتاب من كانت لديهم الموضوعات التي تصلح وتليق بأكبر الأفلام، ولكن جهلهم بشؤون السينما وعدم تمكنهم من التفصيلات كثيراً ما صرفهم عن السير في هذا السبيل، فظهور هذه المطبوعات
أفادهم فائدة كبيرة، فهي في الحقيقة شرح تفصيلي عملي يمكنهم من فهم السيناريو وطريقة وضعه.
وليست فائدة هذه المطبوعات قاصرة على هذا وحده، فقارئ السيناريو يجد لذة كبيرة في تلاوة قصة سبق له أن شاهدها على ستار السينما.
قرأت أكثر من كتاب واحد مما أخرج، وأقرر أنني وجدت تسلية كبيرة فيما قرأت، وخرجت بفائدة لم أكن أحلم بها، فقد جعلتني أفهم السينما على حقيقتها وأعرف دقائقها تمام المعرفة إذ وجدت تطبيقاً عملياً على كل ما قرأت من الكتب الخاصة بالسينما وأحوالها.
فهذه الصورة الجديدة من الأدب تدين بخلقها إلى الفلم الناطق، وأنا زعيم بأن الأدباء سوف يجدون في هذه الصورة ما يرضي ميولهم ويدفعهم إلى تأليف السيناريو. ولقد كتب المؤلفون قصصاً تمثيلية وقاموا بطبعها قبل أن يعرضوها على الفرق التمثيلية ووجدت من الرواج والإقبال ما يعوض على الكاتب مجهوده؛ وأعتقد أننا سوف نرى في القريب من المؤلفين من يقوم بطبع (سيناريو) قبل أن تقوم شركة من الشركات بإخراجه، وسوف يقبل الناس على تلاوته بدافع اللذة والتسلية وهكذا يضيف الفلم الناطق صورة جديدة إلى الآداب والفنون.
يوسف
في الفرقة القومية
تأكدت لدينا استقالة الأستاذ زكي طليمات من الفرقة القومية المصرية فهو قد قدم فعلاً استقالة إلى الأستاذ خليل بك مطران مدير الفرقة، وسوف تعرض على لجنة ترقية المسرح المصري في أول اجتماع لها، وقد كان من المنتظر أن تعقد اللجنة اجتماعاً في تمام الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء الماضي ولكنه أجل لتغيب معالي رئيس اللجنة حافظ عفيفي باشا في الإسكندرية.
وقد رفع الأستاذ طليمات أيضاً إلى معالي وزير المعارض التماساً يرجو فيه إلغاء انتدابه في الفرقة القومية المصرية.
ولسنا ندري حقيقة الأسباب التي دفعت الأستاذ طليمات إلى تطليق المسرح والفرقة القومية
التي طالما تمنى قيامها وعمل كثيراً في سبيل إنشائها، فالإشاعات كثيرة: منها أن هنالك من يضع في طريقه العقبات وأن بين رجال الفرقة من يعمل على الحد من السلطة التي كانت له في الموسم الماضي ويذكرون مسائل معينة للتدليل على صحة ما يقولون.
والسبب المباشر في استقالته أنه تقرر سحب رواية الجريمة والعقاب التي نقلها إلى العربية الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي والممثل فتوح نشاطي بعد أن استعد لها وأتم دراستها واختار لنفسه أحد أدوارها، وقد عهد بإخراج هذه الرواية إلى الأستاذ عزيز عيد، وكان الدور الذي اختاره الأستاذ طليمات لنفسه من نصيب الأستاذ حسين رياض.
وقد يرى القارئ الملم بالوسط المسرحي المصري أن هذا التصرف عادي في الفرق ولهذا فإن دهشتهم لتقديم الاستقالة كانت كبيرة، ولكن المتصلين بالأستاذ طليمات يقولون إن هذه الحادث هو القشة التي قصمت ظهر البعير.
ونحن يسوؤنا جداً أن تنتهي المسألة بهذه النتيجة المؤلمة، ونحن نأسف جد الأسف على خروجه من الوسط المسرحي ونعد اعتزاله خسارة كبيرة فهو المخرج الوحيد في مصر الذي درس فن الإخراج والتمثيل في أوربا دراسة تهيئه لأن يتولى هذه المهمة في مصر، وهو إلى جانب هذا أديب مطلع لا نجد بين الممثلين أكثر من اثنين في مثل اطلاعه وإخلاصه للفن.
والمسرح المصري في هذه الفترة في حاجة إلى توحيد الجهود لإقالته من عثرته. وخروج الأستاذ طليمات يضعف من الجهود التي تبذلها اللجنة ورجالها المحترمون. ونحن نرجو مخلصين أن يعدل الأستاذ طليمات عن هذه الاستقالة، وأن تمهد له اللجنة الطريق إلى سحبها بأن تزيل ما في النفوس من الصغائر التي تفسد الجو المسرحي، كما نرجو ألا يوافق معالي وزير المعارف وسعادة وكيل الوزارة الأستاذ العشماوي بك على إلغاء انتدابه.
يوسف