الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 176
- بتاريخ: 16 - 11 - 1936
مشروع خطير
تطعيم الأدب العربي
كانت اللغة العربية في عصر من عصورها مجمع الثقافات، وملتقى المدنيات، ومنتهى الألسن؛ وكان الأدب العربي في حدود مراميه التعبير العام عن خوالج الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، لأن الإسلام الذي جمع قلوب الأمم على قرانه، جمع ألسنتهم على لسانه، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخضم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت عن مذاهبه الأنهار، وجفت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة المحدودة الراكدة، لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل في الحين بعد الحين. فإذا أردنا لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأجنبية، ونطعمه بأنواع الفنون الأدبية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة، ونخلي بينه وبين الحرية ليزدهر وينتشر ويساهم الآداب العالمية في تبليغ رسالة الجمال والخير والحق.
ذلك كلام يدخل في بدائه العقل لوضوحه، ويجري في قوانين الطبع لضرورته؛ فإذا عدنا إليه فإنما نعود لنحتال في تنفيذه لا لنلح في تعزيزه. وقد رغبنا إلى الحكومة في عدد مضى أن تنشئ دارا للترجمة تنقل آداب الأمم الكبرى نقلاً صحيحاً، ثم تنشرها كما تنشر دار الكتب الأسفار العربية القديمة؛ والأمر في ذاته قريب المنال قليل المؤونة، ولكن رغبة الفرد إلى الحكومة تكون في الغالب أملاً يتنفس به الصدر ولا يتعلق به صدق ولا ظفر. رغبنا إلى الحكومة هذه الرغبة اليائسة وما كنا نعلم أن ترجمة الآداب الغربية على خطة مرسومة هي مشروع في لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أنضجت له الرأي ووجَّهت إليه العزيمة. ولجنة التأليف والترجمة والنشر فرقة من فرق الجنود المجهولة، تجاهد في صمت، وتكابد في صبر، وتبذل في إيثار. وقد طوت في جهاد الجهالة اثنتين وعشرين سنة فلم تنخزل عن صعوبة، ولم تنهزم عن تضحية، ولا تزال تضطلع وحدها بحماية الكتاب وقد غلبه على مكانه الطفيليات العابثة من المجلات الهازلة والنشرات الهزيلة.
تريد لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تنقل إلى العربية آداب اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، كل أدب منها في عام. وستنتقي لكل أدب عشرة أو أكثر من أعلام
المترجمين الذين حذقوا أدب اللسانين المترجِم والمترجَم في دقة فهم وجمال صياغة. ثم تجعل مع هؤلاء أديباً من أهل اللسان الأوربي يتولى اختيار الكتب الخالدة لكل كاتب أو شاعر، ثم يكون مرجعاً للمترجمين فيما عسى أن يغمض عليهم من خفايا الكنايات وأسرار الجُمل؛ فإذا خرج الكتاب من الترجمة والمراجعة انتهى إلى أستاذين من أساتذة البيان العربية فيصقلان أسلوبه ويهذبان لفظه؛ ثم تنشر مطبعة اللجنة هذه الكتب تباعاً على غرار واحد وشكل رائق وتصحيح دقيق. واللجنة تهيئ الأسباب لتبدأ عما قريب في إخراج الأدب الإنجليزي، حتى إذا فرغت منه اشتغلت بغيره. والتعليق على مثل هذا المجهود الخطير المعجز لا يكون بغير الدعاء إلى الله أن يقرن العمل بالتوفيق ويقطع الأمل بالفوز. وليس بعد الله من يعين على هذا الجهد إلا الحكومة. فإن الجمهور القارئ في مصر وفي غير مصر قليل، وأكثر هذا القليل يكاد لا يعرف طريق المكتبة ولا يألف صحبة الكتاب. فترك اللجنة إلى أهواء القراء معناه حبس أموالها القليلة في المخازن والمكاتب فلا تقلبها في تأليف ولا نشر؛ والحكومة التي تساعد المدارس والمجامع والصحف، وتعول المجمع اللغوي ودار التمثيل ودار الكتب، لا تستطيع أن تضن بالمساعدة السخية على هذا المشروع الضخم تقوم به صفوة من أقطاب الثقافة في هذا البلد وقد كان من واجباتها الأولى أن تفكر فيه وتنهض به.
ولقد كان من فضل الله على (الرسالة) أن تحمل عبئها من هذا العمل الجليل المثمر، فقد أمضت النية على أن تصدر بجانبها أختها (الرواية) وهي مجلة أسبوعية تعتمد على نقل ما راع وخلد من بدائع الأدب الغربي في القصص على أوسع معانيه من الأقاصيص والروايات والمذكرات والاعترافات والرحلات والسِير. وسيكون شعار (الرواية) الجمال في الأسلوب، والحسن في الاختيار، والنبل في الغرض؛ فترضي الذوق كما ترضي (الرسالة) العقل، وترفع القصة كما ترفع (الرسالة) المقالة، وتسجل أدب الغرب كما تسجل (الرسالة) أدب العرب.
ولا جرم أن الأدب العربي سيكون له في كل عام مما تنتجه (اللجنة) وتترجمه (الرواية) وتنقله الصحف الأخرى، مورد ثَرُّ الينابيع، فياض الجوانب، من العبقريات الممتازة والقرائح السمحة، يحيي مواته، ويزكي نباته، ويجعل من سهوبه الفيح جناناً ناضرة، فيها
متاع الأذن بالتغريد والشدو، ولذة العين بالرواء والبهجة، وشهوة النفس بالزكاء والعطر، وسعادة العالم بالسلام والوئام والمحبة.
احمد حسن الزيات
3 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فرمقها وهي تلفت إليه التفات الظبية بسواد عينيها بجعل سوادهما الجميل في النظرة الواحدة نظرتين لعاشق الجمال، تقول إحداهما: أنت، وتقول الأخرى: أنا؛ ثم أراها وقد كسرت أجفانها وتفترت في يدي الممثل العشيق وأفصح منظرها ببلاغة. . . ببلاغة جسم المرأة المحبوبة بين ذراعي من تحبه؛ ثم اختلجت وصوبت وجهها، وأهدفت شفتيها؛ وتلقت القبلة.
وكان به منها ما الله عليم به، فانبعثت من صدره آهة مُعولة تئن أنيناً، غير أنها كلمته بعينيها أنها تقبله هو؛ فلا ريب قد حملت إليه إحدى النسمات شيئاً جميلاً عن ذلك الفم لمست به النفس النفس، والقبلة هي هي ولكن وقع خطأ في طريقة إرسالها. . .
ليس تحت الخيال شيء موجود، ولكن الخيال المتسرح بين الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود، إذ هو بطبيعته مجرى أحلام من فكر إلى فكر، ومسرحُ شعور يصدر ويرد بين القلبين في حياة كاملة الإحساس متجاوبة المعاني. وبهذا الخيال يكون مع القلبين المتحابين روح طبيعي كأنه قلب ثالث ينقل للواحد عن الآخر، ويصل السر بالسر، ويزيد في الأشياء وينقص منها، ويدخل في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي. ومن هنا لم يكن فرح ولا حزن، ولا أمل ولا يأس، ولا سعادة ولا شقاء، إلا وكل ذلك مضاعف للمحب الصادق الحب بقدر قلبين؛ والذين يعرفون قبلة الشغف والهوى يعرفون أن العاشق يقبل بلذة أربع شفاه.
وانسدلت بعد هذه القبلة ستارة المسرح، وغابت الجميلة المعشوقة غيبة التمثيل فقلت لصاحب القلب المسكين: إن روحيكما متزوجتان. . . قال: آه، ومدَّها من قلبه كأنه دنف سقيم.
قلت: وماذا بعد آه؟
قال: وماذا كان قبلها؟ إنه الحب فيه مثل ما في (عملية جراحية) من تنهدات الألم ولذعاته، غير أنها مفرقة على الأوقات والأسباب مبعثرة غير مجموعة. (آه)؛ هذه هي الكلمة التي لا تفرغ منها القلوب الإنسانية، وهي تقال بلهفة واحدة في المصيبة الداهمة، والألم البالغ،
والمرض المدنف، والحب الشديد. فحينما توشك النفس أن تختنق تتنفس (بآه).
قلت: أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق. . .؟
قال: لقد هجت لي داءً قديماً؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في زمن غرس الشجر، فبين الحين والحين تثمر هذه الساعات مرها وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتها ذات مرة في ساعة همها؛ ثم ضحك وسكت.
قلت: يا عدوَّ نفسه! ماذا رأيت منها؟ وكيف أراك الوجد ما رأيت منها؟
قال: أتصدقيني؟ قلت: نعم.
قال: رأيت الهمَّ على وجه هذه الجميلة كأنه همَّ مؤنث يعشقه همَّ مذكر. . . فله جمال ودلال وفتنة وجاذبية، وكأن وجهها يصنع من حزنها حزنين: أحدهما بمعنى الهم لقلبها والآخر بمعنى الثورة لقلبي.
قلت: يا عدو نفسه هذا كلام آخر؛ فهذه امرأة ناعمة بضّة مطوي بعضها على بعضها، لفّاء من جهة هيفاء من جهة، ثقيلة شيء وخفيفة شيء، جمعت الحسن والجسم وفناً بارعاً في هذا وفناً مفردا في ذاك، وهي جميلة كل ما تتأمل منها، ساحرة كل ما تتخيل فيها، وهي مزاحة دحداحة وهي تطالعك وتطمعك، وأنت امرؤ عاشق ورجل قوي الرجولة؛ فالجميلة والمرأة هما لك في هذا الجسم الواحد، إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك؛ ولو أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الأحمر مما في نفسك منها. ولعمري لو مرت عربة تدرج في الطريق ونظرت إليها نظرتك لهذه المرأة بهذه الغريزة المحتبسة المكفوفة لظننتك سترى العجلة الخلفية عاشقاً مهتاجاً يطارد العجلة الأمامية وهي تفر منه فرار العذراء. . .
فضحك وقال: لا، لا. إن نوع التصوير لإنسان هو نوع المعرفة لهذا الإنسان، ومن كل حبيب وحبيبة تجتمع مقدمة ونتيجة بينهما تلازم في المعنى؛ والمقدمة عندي أن إبليس هنا في غير إبليسيته، فلا يمكن أن تكون النتيجة وضعه في إبليسيته. وما أتصور في هذه الجميلة إلا الفن الذي أسبغه الجمال عليها، فهي في معرفتي وخيالي كالتمثال المبدع بداعة لا يستطيع أن يعمل عملاً إلا إظهار شكله الجميل التام حافلاً بمعانيه.
ليست هذه المرأة هي الأولى ولا الثانية ولا الثالثة فيمن أحببت؛ إنها تكرار وإيضاح
وتكملة لشيء لا يكمل أبداً، هو هذه المعاني النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشق. إن بطن المرأة يلد، ووجه المرأة يلد.
قلت: هذا إن كل وجهها كوجه صاحبتك، ولكن ما بال الدميمة؟
قال: لا هذا وجه عاقر. . .
قلت: ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنك تنظر إلى المرأة نظرة عملية تريد أن تعمل في تمنعها أن تعمل؛ فتأتي فلسفتك بعيدة من الفلسفة، وكأنك تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبر فقط.
قال: نعم هذا خطأ، ولكنه الخطأ الذي يخرج الحقائق الخيالية من هذا الجمال؛ فإذا سخرت من الحقيقة المادية بأسلوب فبهذا الأسلوب عينه تثبت الحقيقة نفسها في شكل آخر قد يكون أجمل من شكلها الأول.
أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه والى حسن هذه على القمر؟ إن القمر كان ينسيني بشربتها فأراها متممة له كأنه ينظر وجهه في مرآة، فهي خيال ووجهه؛ وكانت هي تنسيني مادية القمر فأراه لها كأنه خيال وجهها.
أتدري ما نظرة الحب؟ إن في هذا القلب الإنساني شرارة كهربائية متى انقدحت زادت في العين ألحاظاً كشافة وزادت في الحواس أضواءً مدركة، فينفذ العاشق بنظره وحواسه جميعا في حقائق الأشياء فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيادة في الإدراك يعمل بها عملا فيما يراه وما يدركه. وبهذه الزيادة الجدية على النفس تكون للدنيا حالة جديدة في هذه النفس؛ ويأتي السرور جديدا ويأتي الحزن جديدا أيضاً. فألف قبلة يتناولها ألف عاشق من ألف حبيب؛ هي ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة. ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمع نوع من الحزن ليس في الآخر.
قلت: فنوع تصورك لهذه الراقصة التي تحبها، أن إبليس هنا في غير إبليسيته. . .
قال: هكذا هي عندي، وبهذا أسخر من الحقيقة الإبليسية.
قلت: أو تسخر الحقيقة الإبليسية منك وهو الأصح وعليه الفتوى. . .
فضحك طويلاً وقال: سأحدثك بغريبة. أنت تعرف أن هذه الغادة لا تظهر أبداً إلا في الحرير الأسود؛ وهي رقيقة البشرة ناصعة اللون فيكون لها من سواد الحرير بياض
البياض وجمال الجمال. فلقد كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلى هذا المكان لأراها، وكان الليل مظلما يتدجَّى، وقد لبس وتلبس وغلب على مصابيح الطريق فحصر أنوارها حتى بين كل مصباحين ظلمة قائمة كالرقيب بين الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا؛ فبينا أقلب عيني في النور والغسق وأنا في مثل الحالة التي تكون فيها الأفكار المحزنة أشدَّ حزناً - إذ رفع لي من بعيد شبح أسود يمشي مشيته متفّترا قصير الخطو يهتز ويتبختر؛ فتبصرته في هيئته فما شككت أنها هي، وفتحت الجنة التي في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها من لذة الحب، وكان الطريق خاليا فأحسست به لنا وحدنا كالمسافة المحصورة بين ثغرين متعاشقين يدنو أحدهما من الآخر، وأسرعت إسراع القلب إلى الفرصة حين تمكن، فلما صرت بحيث أتبين ذلك الشبح إذا هو. . . إذا هو قسيس. . .
فقلت: يا عجباً، ما أظرف ما داعبك إبليس هذه المرة وكأنه يقول لك: إيه يا صاحب الفضيلة. . .
وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل إذ لم تكن نوبتها قد جاءت بعد؛ وألقى الشيطان على لساني فقلت لصاحبنا: ما يمنعك أن تبعث إليها فلانا يستفتح كلامها ثم يدعوها فليس بينك وبينها كلمة تعالي أو تفضلي.
قال: كلا، يجب أن تنفصل عني لأرها في نفسي أشكالا وأشكالا؛ ويجب أن تبتعد لألمسها لمسات روحية؛ ويجب أن أجهل منها أشياء لأحمق فيها علم قلبي؛ ويجب أن تدع جسمها وأدع جسمي وهناك نلتقي رجلاً وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة. بهذا الفهم أنا أكتب وبهذه الطبيعة أنا أحب ما هو الجزء الذي يفتنني منها؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه.
وما هو هذا الكل؟ هو الذي يفسر نفسه في قلبي بهذا الحب.
وما هو هذا الحب؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس نعم. أنا بائس ولكن شعور البؤس هو نوع من الغنى في الفن لا يكون هذا الغنى إلا من هذا الشعور المؤلم. والحبيب الذي لا تناله هو وحده القادر قدرة الجمال والسحر؛ يجعلك لا تدري أين يختبئ منه جماله فيدعك تبحث عنه بلذة؛ ولا تدري أين يسفر منه جماله فيدعك تراه بلذة أخرى. أنا أنضج هذه الحلوى على نار مشبوبة؛ على نار مشبوبة في قلبي.
قلت: يا صديقي المسكين هذه مشكلة عرضت بها المصادفة وستحلها المصادفة أيضاً. وما
كان أشد عجبي إذ لم أفرغ من الكلمة حتى رأينا (المشكلة) مقبلة علينا. . .
أما هو: أما صاحب القلب المسكين؟
(طنطا)
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي
المشيرة عايدة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قلما يستطيع الإنسان أن يضع نفسه موضع إنسان آخر في أمر يعنيه، ولو كان هذا يسعه في كل حال لكان الأرجح أن يضحكه الذي يمضه ويثقل عليه أو يبكيه. - في هذا كنت أفكر وأنا أسمع قصة صديقي وكان قد دخل على وهو ينفخ ويسمح العرق المتصبب - عرف الخجل لا التعب والنصب، فانه صاحب سيارة فخمة ضخمة لا تتعب الراكب ولا تكلفه جهدا غير النظر إلى الطريق وسكون الأعصاب واتزانها وهو يمرق بها بين المارة الذين لا يحلو لهم السير إلا وسط الشارع كأنما كان الشارع متنزها عاما وكأنما ينبغي على سائق السيارة أن يسير بها فوق الرصيف ليفسح لهم.
وكان يحاول أن يقص عليَّ القصة وهو يمسح وجهه بالمنديل فكان نصف ما يقول يخرج مخنوقا في مطاوي المنديل فقلت له: (هلا انتظرت حتى ينشف هذا العرق).
فغضب وقال: بلهجة المعاتب (وأنت أيضاً. . .؟؟)
فقلت: له وأنا أحاول أن أفئ به إلى الرضى (إنما أردت أن أقول إن المنديل يغيب فيه بعض الكلام فيجيء ما أسمع غير مفهوم. . . على كل حال يحسن أن تبدأ من البداية).
قال: (البداية؟. يا خبر!)
قلت: (عمن تتحدث؟. . يخيل إلى أنك ذكرت اسماً. . .)
قال: نعم. . . عايدة. . .)
قلت: (آه. . . عايدة؟؟ ومن عسى أن تكون هذه المجرمة؟؟)
قال: ألا تعرفها؟. هذا مدهش. . . كيف يمكن.؟)
قلت: (يا أخي لا تغضب. . . إنك تعرف أن ذاكرتي خوانة. . . وليس من النادر أن أنسى أسماء من أعرف من الناس. . . فإذا سمحت بأن تذكرني بها فأنى أعدك أن. . .).
فقال: (أوه. . . إنك تمزح ولا شك. . . لا يمكن أن تجهلها)
قلت: أشكر لك هذه الثقة بسعة معارفي. . . ولكني أؤكد لك أن الاسم لا يحرك في نفسي أي ذكرى. . . لا يثير أي اختلاج. . . وليس هذا لأنها لا تستحق الذكر بل لأن الأسماء تقع من رأسي في غربال واسع الخروق)
فاقتنع وشرع يصفها لي فهززت له رأسي وقلت: (خير من هذا الوصف الذي لا يصف شيئاً أن تقول لي: أين تسكن أو أن تذكر لي بقية اسمها. . . شيء من هذا القبيل. . . أما أن تظن أنه يكفي أن تقول: (بنت جميلة هيفاء ممشوقة القوام. . . فاسمح لي أن أؤكد لك أنك. . .)
فرماني بنظرة وأومأ إلى أن أقصر، فأمسكن إشفاقا عليه. وبلع ريقه ثم أخذ يصف لي بيتها فضقت ذرعا بهذا الحال وقلت له:(يا أخي ما حاجتي إلى كل هذا؟؟ وكيف تظن أن في وسعي أن أعرف إنسانا من قولك إن لبيته شرفتين وأربع نوافذ أو عشرا وأن فيه خمس غرف أو ستا.؟ إنما أسالك عن الموقع. . . عن الشارع أو الحارة أو الدرب. . . ماذا جرى لعقلك اليوم)
وبعد لأي ما استطعت أن أعرف الشارع الذي فيه بيتها فتذكرت.
وكانت عايدة هذه - كما قال - جميلة، ولكن في قولي (جميلة) اقتصاداً - أو إن شئت فقل إيجازا مخلا - وما أكثر الجميلات ولكن ما أقلهن أيضاً. والجميلات التي تقع العين عليهن أكثر من أن يأخذهن إحصاء، ولكن اللواتي يقعن من نفس المرء وتثبت على صفحة القلب صورهن - هؤلاء هن القليلات وعايدة هذه إحداهن. وإنه لسر ولغز لا يحل أنها بقيت إلى الآن بلا زواج، فما تنقصها لا الرشاقة ولا الظرف، ولا أنس الحديث وعذوبته، ولا دماثة الطباع وحلاوتها، ولا وفاء الثقافة ولا حسن التدبير وكياسة التصرف. وكانت - ولعلها لا تزال - تلازم شرفتها ولا تكاد تغادر بينها إلا لضرورة ملحة أو حاجة ملجئة، ولا تخرج حين تخرج إلا ومعها أبوها أو أمها أو واحد غير هؤلاء من أهلها. ولعل هذا الذي زهد فيها ونفر منها فما أدري. على أني أعرف أن هذا الحبس قد أغراها بضروب من العبث، فهي لا تزال في شرفتها في حفل من الزينة أو في قميص نوم هفهاف يتركها عارية النحر إلى الثديين، مكشوفة الذراعين إلى ما فوق الكتف، أو في منامة - بيجامة - من الحرير الرقيق محبوكة التفصيل على قدها الممشوق وجسمها الرخص، وإذا كانت لا تخرج وكان في البيت من يغنيها عن العمل ويعفيها من مشقاته، وكانت الشقة على اتساعها أضيق من أن تكفي فتاة متعلمة حديثة الآراء فإنها لا تكاد تفارق الشرفة - فيها تقعد لتروح عن نفسها ولتقرأ إذا شاءت، ولتنظر إلى الرائحين والغادين وتتسلى بالمناظر التي تأخذها عينها، وقد
ألفت ذلك فهي لا تستطيع أن تفطم نفسها عنه؛ وأحسب أنها لو صرفها أهلها عن الشرفة لجنت، فما لها عزاء غيرها ولا سلوى سواها، وإذ كانت ترى كل ما يرى من الشرفة ولا يفوت عينها المفتوحة ما يقع أحيانا بين بعض الرجال والنساء في حيها المكتظ بالناس وكانت لا تخالط إلا أهلها، فليس من المستغرب - بل هذا لا غيره هو المتوقع - أن يغلبها صباها أحياناً فيصدر عنها ما قد يعده المتشددون - وما أقلهم في هذا الزمان - مخالفا لمقتضيات الحشمة، وما هو كذلك؛ ولو قضى على شاب أن يحبس في بيت ولم يؤذن له في أكثر من النظر من الشرفة على حين يرى أنداده جميعا يخرجون متى شاءوا إلى حيث يشاءون لكان من المحقق أن ينتحر، ولكن عايدة لم تنتحر لأن نشأتها جعلتها تألف هذه الحياة، وان كانت لا تعزيها عن الحرمان مما ترى أترابها ينعمن به، وأقله أن تزور أترابها كما يزرنها، وحدهن، وفي غير حاشية من الأهل والآباء والأمهات.
ولكني استطردت عن حكاية صديقي فلأعد إليه، قال:(لعلك تذكر أني كنت جارا لهذه الفتاة - أعني كنت أسكن بيتا يقابل بيتها، وكان لابد أن أراها وأن أعجب بها فأنها كما يقول الشاعر: (بيرنز) - (يكفي أن تراها لتعشقها). . .)
فقاطعته عامدا وقلت: (عفوا!! لو كان بيرنز قد قال هذا لما كان في قوله ما يستحق الذكر، ومن الصعب ترجمة هذا البيت من شعره، ولكني أظن أن الذي أراده هو أن معنى أن تراها أن تحبها. . . أي أنه لا حيلة لمن يراها إلا أن يحبها. . . على كل حال تفضل)
فنفخ وتأفف وقام وتمشى ثم عاد إلى مجلسه فما له صديق غيري يستطيع أن يبيحه دخلته.
وقال بعد هنيهة: (طيب. . . قل ما بدا لك. . . المهم أني أعجبت بها. . . شغلت بها زمنا حتى لكدت أهمل عملي وأسئ إلى نفسي. . . ويجب أن أعترف لك بالفضل في رد ما ذهب من عقلي. . .)
فهممت بأن أقول شيئاً مثل (العفو) أو ما هو من هذا بسبيل، ولكنه أشار إلى فرددت الكلمة التي كانت على لساني ومضى هو في كلامه فقال:(وتعلم أني تركت البيت إلى سواه فراراً منها)
قلت: (أعلم ذلك وأظن أني أشرت به فأن البعيد عن العين بعيد عن القلب)
قال: ولكني أمس مررت من هناك ووقفت أتحدث إلى البواب زمناً وأنا أرجو أن تلتفت
إلي، فلما لم تفعل شرعت أنفخ في البوق وعيني على الشرفة، فرمت إلي نظرة وضيئة وابتسمت، فكدت أطير من الفرح، وكان البواب يحادثني وأنا لا أصغي إليه ولا أدري ماذا يقول ولعله كان يرد على كلام لي نسيته، فما كان لي غاية إلا أن أجعل لوقوفي مسوغا في نظر البواب. ولما كان البواب لا يكف عن الكلام وكان ينتظر مني أن أقول شيئاً فقد طلبت منه أن يجيئني بقليل من الماء أفرغه في جوف السيارة وما كانت بها حاجة إلى ذلك، ولكن هذا ما خطر لي أن أصرفه عني به فمضى عني فرفعت عيني إليها فألفيتها لا تزال تبتسم فتظاهرت بأني أصلح البوق ولكن عيني كانت عليها، فأشارت إلي بيدها أن أمضي إلى آخر الشارع وأن أنتظرها هناك فأسرعت إلى مقعد القيادة ولم أنتظر البواب المسكين الذي أرسلته ليجيئني بالماء وذهبت في الطريق الذي أشارت إليه ووقفت أنتظر)
فقلت: (على أحر من الجمر؟)
قال: (لا تتهكم. . . إن المسألة ليست مزاحاً. . . نعم كنت على أحر من الجمر. . . فماذا تريد؟)
قلت: (لا شيء. . . إنما أنتظر أن تذكر بيتاً لشاعر. . . ألا يحضرك شيء من محفوظك.؟)
قال بلهجة جادة لم أكن أنتظرها: (أنا أقول لك ماذا كان يجول في خاطري. . . لقد كنت أمني النفس بوشك اللقاء الذي ظللت أرجوه عاماً كاملاً ولم يصرفني عنه سواك. . . وكان لك حق. . . الآن فقط أدركت أن الشباب يحتاج إلى التجربة التي تغري بالتؤدة وتقص أجنحة الخيال. . . كنت أحلم بأن أراها إلى جانبي في السيارة وأحدث نفسي بقربها؛ ولا أكتمك أني ذهبت أنشئ أحاديث بيني وبينها. . . أحاديث كانت تبدأ بالعتاب وتنتهي بالقبلات والعناق. . . وكنت أتصورها تدني ساقها مني - عفوا بالطبع - فأغتنم الفرصة وأدني أنا أيضاً ساقي من ساقها فتنأى بها فأرد ساقي على مهل كأن الأمر كله جاء عفواً، ثم نعود إلى هذا التداني ولا تبعد عني هذه المرة بل تبقي ساقها ملاصقة لساقي فأنعم بهذا القرب الذي لم أكن أطمع فيه بل الذي قطعت الأمل من إمكانه في هذه الدنيا. . . ونذهب إلى مكان خلوي. . . وكان خيالي يتشبث بأن يكون المكان خلويا لا يخلوا من أنس ولكنه لا يبلغ من ضجة الناس وزحامهم فيه أن يعكر وجودهم الصفو وينغصه، فإذا بلغناه وقفنا
وطلبنا شيئاً نبل به ريقنا ويدور الحديث بغير انقطاع، كما لابد أن ينقطع والسيارة تخطف في الطريق، وتلتقي العين بالعين ويحن القلب إلى القلب وتتصل الأيدي وتتداخل الأصابع وتسري الوقدة منها إلي، ومني إليها، فتتلامس الشفاه ويستريح الصدر إلى الصدر ويحف ذراعي بخصرها ويحيط ذراعها بعنقي، ثم نتباعد ونتنهد وقد شفى كل منا بعض ما يجد وأوحي بشيء مما يجن في تلك القبلة الطويلة التي يفرغ فيها روحه ويفضي بشوقه وصبوته. . . وكنت على استغراق هذا الحلم اللذيذ لمشاعري وحواسي أنظر إلى الطريق ولا يفوتني أحد ممن يمشون فيه. . . ولم يكن حلمي يمنعني أن أنظر في الساعة كل بضع ثوان. . . وليس أشق من الانتظار ولكني استطعت أن أنتظر نصف ساعة. . . وما أقلها لو فكرت. . . وما نصف ساعة يقضيه شاب في انتظار الفوز بلقاء ظل عاما كاملا يطمع فيه ثم انتهى به الأمر إلى اليأس منه؟؟ ولكني على هذا مللت وحدثتني النفس أن شيئاً لابد أن يكون قد عاقها. . . ذلك أني أعلم أنها لا يسهل الخروج عليها وحدها؛ فقلت لنفسي إنه لا ضرر على كل حال من الرجوع والمرور ببيتها لعلي أرى ما يهديني إلى سبب هذه الغيبة الطويلة على الرغم من إشارتها الملحة أن أسير بسرعة وأنتظرها في آخر الطريق. . . وأوجز فأقول إني رجعت من حيث جئت وتظاهرت بأن شيئاً في السيارة يحوجني إلى الوقوف وترجلت وفتحت غطاء المحرك ولكني لم أنظر إليه وإنما رفعت عيني إلى الشرفة، وكانت عائدة واقفة فيها ومستندة كعادتها على حافتها وكأنما لا شيء هنالك. . . لا أحد ينتظرها في آخر الشارع منذ نصف ساعة. . . كأنها لم ترسلني إلى آخر هذا الشارع. . . أدهى من هذا يا صاحبي أنها لم تكد تراني حتى كادت تسقط على الأرض من الضحك. . . نعم الضحك. . . كانت تضحك لأنها ضحكت علي وكلفتني أن أنتظرها وهي لا تنوي أن تجيء. . . ماذا يضرها أن أنفلق نصف ساعة؟؟ ماذا خسرت هي إذا كنت أنا مغفلا؟؟ ماذا عليها إذا كنت صدقتها وتوهمت أنها تجن لي مثل الذي أجنه لها وأني لبثت نصف ساعة أحلم وأمني النفس بقربها وحديثها وابتسامها وقبلاتها وضماتها وعناقها؟؟ لا يضيرها شيء بل يسرها أنها ضحكت علي وخدعتني واستغفلتني واستحمقتني وتركتني أرتفع بخيالي إلى حيث شاءت لي السخافة ثم رمت بي إلى الأرض الصلبة. . . هل يعنيها أن عظامي رضت أو أنها تحطمت؟؟ هل تبالي أن آمالي خابت؟؟ هل تحفل الصدمة التي
لابد أن أحسها حين أعرف أنها كانت تعابثني وتستغفلني. .؟؟)
فقلت له (خذ) ومددت لي يدي بسيجارة فتناولها وهو ذاهل، وأضرمت له عود الثقاب وأنا أرد الضحك الذي أحس أني سأنفجر به. . . ونفخ الدخان مرة وأخرى، وأحسست أنه صار أهدأ أعصابا، فقلت (الحقيقة أنه) فصل (بارد. . . لا شك في ذلك)
وكان لابد أن أتألفه بكلام كهذا ليهدأ ثائره، ثم قلت له وقد آنست منه إقبالا (هي فتاة تعد محرومة من متع الحياة. . . كل ما تعرفه من متع الدنيا أن تجلس في الشرفة وتنظر. . . أظن أن هذا لا يجوز أن يحسب في المتع. . . أولى به أن يزيد شعورها بالحرمان الذي تقاسيه. . . بالحجر المضروب عليها. . . أهلها ليسوا مخطئين لأنهم لا يعرفون إلا هذا الأسلوب. . . وهي ليست مسرفة في إحساسها بالحرمان لأنها تعلمت ما لم يتعلمه أبوها وأمها، وعرفت ما لم يعرفا. . . والمجتمع المصري عرف السفور، ولكنه لا يزال بعيدا عن الحياة الاجتماعية التي تجعل السفور ذا معنى وفائدة. . . والبنت المصرية سافرة ولكنها لا تحيا الحياة الاجتماعية التي يستدعيها السفور. . . فكأنها تسفر لترى بعينها ما هي محرومة منه. . . والنتيجة أن الفتاة صارت كالحجلة في حكايات كليلة ودمنة. . لا هي بقيت محبوسة في البيت، ولا هي فازت بالمتع البريئة التي يقتضيها السفور. . . ليست أريد أن ألقي عليك محاضرة، وإنما أريد أن ألفت نظرك إلى أن هذه الفتاة معذورة إذا هي التمست التسلية والضحك. . . وليس من العدل والإنصاف أن نأبى عليها أن تضحك، وأن نحرم عليها أن تتسلى. . . وليس من حقك أن تدعي أن لك عليها حقا فما هي بزوجة لك ولا صاحبة. . . ولقد عرفت اسمها من أفواه الناس لا من أبيها ولا من أحد من أهلها. . . والمغازلة يا صاحبي مقامرة. . . والمقامر يجب أن يحتمل الخسارة كما ينتظر من ملاعبيه أن يحتملوا الخسارة حين يربح هو. . . وقد قامرت وخسرت. . . ومن واجبك أن تتلقى حظك بابتسامة. . . ضع نفسك في مكانها. . . فأنك خليق أن تضحك مما حدث كما أضحك أنا الآن)
وانفجرت بالضحك المكتوم فنهض كالمغضب وقال: (أو تضحك؟)
قلت: (سبحان الله. . . وهل كنت تنتظر مني أن أبكي؟؟ والله إني لأراها قد عاملتك كما تستحق. . . برافو عليها. . . ويا سخيف. . . ألا تعرف أنها لا تخرج قط فكيف صدقت
أنها لاحقة بك. . .)
قال: (يا أخي ألم أقل لك إنها أشارت إلى أن أسبقها)
قلت: (أنا أيضاً أشارت إلى مرات حين كنت أزورك. . . وكنت أرى يدها تشير إلى أن أسبق فأتريث حتى أرى ما يؤيد ما فهمته من هذه الإشارة فكان تريثي يريها أني لست بالخفيف الطياش. . . ويخيل إلي الآن أن أساليبها لا تعدد فيها ولا ابتكار. . . مسكينة لا تعرف إلا أن تشير إلى الرجل أن يسبقها فإذا فعل ضحكت. . . هذا كل ما عندها على ما يظهر)
قال: (أو تعذرها؟. . . تلتمس الأعذار لها؟)
قلت: (المرة الآتية. . . حين تستغفلك مرة أخرى. . . اضربها علقة. . . قم يا أبله. . . واجبك الآن أن تقلب الصورة لترى وجهها الآخر. . . صورتك أنت وأنت تنتظر وتحلم ولا تعرف ما أعدت لك. . . اقلب الصورة واضحك. . .)
فسرني أن وقف هنيهة كالمفكر ثم انطلق يقهقه
إبراهيم عبد القادر المازني
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
لم يكن عبثا أن يسمى فلاسفة الإسلام أرسطو عظيم حكماء اليونان والرجل الإلهي، وأن يرفعوه إلى منزلة لم يسم إليها واحد من الفلاسفة السابقين أو اللاحقين. ذلك لأنهم وجدوا لديه حلولا لكل مشكلة اعترضتهم، ووقفوا في كتبه على مختلف المعلومات التي تاقت إليها نفوسهم. ودائرة المعارف الأرسطية واسعة وشاملة حقيقة بحيث يصادف الإنسان فيها كل المسائل الفلسفية مدروسة دراسة مفصلة أو مشارا إليها على الأقل. ولا تكاد توجد مشكلة من المشاكل الحديثة إلا وفي عبارات أرسطو ما يتصل بها تصريحا أو تلويحا. ويمكننا أن نقول إن هناك كتبا دبجها يراع أرسطو على أن تخدم فلاسفة الإسلام أولاً وبالذات. وحظ كتابٍ ما لا يقاس في الواقع فقط بمقدار ما يحوي من أفكار، بل يرجع أيضاً إلى ما يحيط به من ظروف ومناسبات. فقد يكون ثانويا في نظر مؤلفه، ولكن الخلف يقدره تقديرا كبيرا لأنه اهتدى فيه إلى أجوبة على أسئلة العصر وحلول لمشاكل الجيل. ومن هذا الباب تماما رسالتان صغيرتان لأرسطو لا يذكران في شيء قطعا إذا ما نسبا إلى مجموعة مؤلفاته، ومع هذا صادفا نجاحا عظما في الفلسفة المدرسية الإسلامية ونعني بهما رسالة الأحلام أو ورسالة التنبؤ بواسطة النوم ونحن لا ننكر أن هاتين الرسالتين تحتويان على ملاحظات دقيقة في علم النفس فاقت كل النتائج التي انتهت إليها المدارس القديمة، وإن تلاميذ أرسطو وأتباعه من المشائين اليونانيين عنوا بهما عناية خاصة. ولا سيما الأحلام وتعبيرها كانت من المسائل التي شغلت العامة والمفكرين في القرنين السابقين للميلاد والقرون الخمسة التي تليه، وبعبارة أخرى في ذلك العصر الذي سادت فيه العرافة والتنجيم. غير أنا نلاحظ إن الرسالتين الآنفتي الذكر أحرزتا في العالم العربي منزلة لا نظير لها، ولا نظن أن أرسطو نفسه كان يحلم بها. ويكفي لتعرف هذه المنزلة أن نشير إلى أنهما الدعامة الأولى التي قامت عليها نظرية الأحلام والنبوة عند الفارابي.
لا نظننا في حاجة إلى أن نثبت أن هاتين الرسالتين أرسطيتان، فأسلوبهما وطريقتهما دليل واضح على ذلك، وأرسطو يشير إليهما في بعض رسائله الأخرى الثابتة. وقد تولى زلر
من قبل توضيح هذه النقطة بما لا يدع زيادة لمستزيد. والذي يعنينا هنا أن نبين ما إذا كانت هاتان الرسالتان ترجمتا إلى العربية أولا. وهذه مسألة غامضة بعض الشيء، وليس من السهل البت فيها برأي جازم. فأن المؤرخين، وخاصة ابن النديم والقفطي، حين يتحدثون عن كتب أرسطو التي ترجمت إلى العربية لا يشيرون إليهما؛ وكأن ما ترجم من كتبه السيكلوجية ليس إلا كتاب النفس المعروف، ورسالة الحس والمحسوس.
والفارابي نفسه في رسالته المسماة: (ما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة) يقسم الكتب الأرسطية من حيث موضوعها إلى ثلاثة أقسام: تعليمية وطبيعية وإلهية. وبين الكتب الطبيعية لا يذكر رسالتي الأحلام والتنبؤ بواسطة النوم اللتين اعتاد المشاءون السابقون عدهما فيما بينهما. وكل ما يحظى به الباحث إنما هو إشارة غامضة إليهما في ثبت الكتب المنسوبة إلى أرسطو، والذي أخذه العرب عن بطليموس الغريب. بيد أنا على الرغم من كل هذا نميل إلى الاعتقاد بأن هاتين الرسالتين إن لم تكونا قد ترجمتا إلى العربية رأسا، فقد وصلتا إليها عن طريق غير مباشر. وابن النديم يحدثنا عن كتاب في تعبير الرؤيا لأرطا ميدورس نقله حنين بن اسحق إلى العربية؛ ولا يبعد أن يكون العرب قد استقوا من هذا الكتاب أو من أي مصدر تاريخي آخر أبحاث أرسطو المتعلقة بالأحلام وتأويلها. ذلك لأن فلاسفة الإسلام يدلون في هذا الصدد بآراء تشبه تمام الشبه الآراء الأرسطية. فحديث الفارابي عن النوم وظواهره والأحلام وأسبابها لا يدع مجالا للشك في أنه متأثر بأرسطو وآخذ عنه. وقد كتب الكندي من قبل رسالة في ماهية النوم والرؤيا وصل الأمر ببعضهم أن عدها ترجمة لبعض الرسائل الأرسطية. وربما كان أقطع شيء في هذه المسألة أن نلخص آراء أرسطو، وفيها وحدها ما يكفي لإثبات أن فلاسفة الإسلام تتلمذوا له هنا كما أخلصوا له التلمذة في مواقف أخرى.
يذهب فيلسوف اليونان إلى أن النوم هو فقد الإحساس، وأن الحلم صورة ناتجة عن المخيلة التي تعظم قوتها أثناء النوم على أثر تخلصها من أعمال اليقظة. وبيان ذلك أن الحواس تحدث فينا آثارا تبقى بعد زوال الأشياء المحسة. فإذا ما جاوزنا الشمس إلى الظل قضينا لحظة ونحن لا نرى شيئاً، لأن أثر ضوء الشمس على العينين لا يزال باقياً. وإذا ما حدقنا النظر إلى لون واحد طويلا خيل إلينا بعد مفارقته أن الأجسام كلها ملونة بهذا اللون. وقد
نصم بعد سماع قصف الرعد، ولا نميز بين الروائح المختلفة إذا شممنا رائحة قوية. كل ذلك يؤيد أن الاحساسات تترك فينا آثارا واضحة. وهذه الآثار الخارجية تعطينا فكرة مقربة عن آثارها الداخلية التي تحتفظ بها المخيلة وتبرزها عند الظروف المناسبة. فالأحلام إذن احساسات سابقة، أو بعبارة أدق، صور ذهنية لهذه الاحساسات تشكلها الخيالة بأشكال مختلفة. على أن الاحساسات العضوية أثناء النوم قد تؤثر في الأحلام كذلك، فيحلم الإنسان بالرعد مثلا إذا صاح صائح أو ديك بالقرب منه، أو أنه يأكل عسلاً أو طعاماً لذيذاً لأن نقطة غير محسوسة من المزاج جرت على لسانه. وقد يرى النائم أنه يحترق في اللحظة التي يقترب فيها من جسمه لهب ضئيل. وليست الاحساسات وحدها هي التي تؤثر في الأحلام، فأن الميول والعواطف ذات دخل كبير فيها. فالمحب يحلم بما يتفق وحبه، والخائف يرى في نومه عوامل خوفه ويعمل على اتقائها. وكثيرا ما نحلم بأشياء رغبت فيها نفوسنا أو فكرنا فيها طويلا. هذه هي الأحلام في حقيقتها وأسبابها. وعل في هذه الأسباب ما يسمح لنا بتأويلها أحيانا. وقد يستعين الأطباء على معالجة مرضاهم وتشخيص دائهم بسؤالهم عن بعض أحلامهم. وإذا عرفت الاحساسات والظواهر النفسية المحيطة بحلم ما أمكن تعبيره. ومهارة مفسري الأحلام قائمة على أنهم يتلمسون وجوه الشبه الموجودة بين الأحلام بعضها وبعض، والعلاقات التي بينها وبين ظروف أصحابها الخاصة. بيد أن كل هذا لا يبيح لنا أن نتقبل الرأي الشائع القائل بأن الأحلام وحي من الله، فأن العامة والدهماء يحملون كثيرا بل العصبيون والثرثارون أكثر أحلاما من غيرهم؛ ولا يستطيع العقل أن يسلم بأن الله خص هؤلاء أو أغدق عليهم فيضه.
لابد أن تكون هذه الأفكار الأرسطية قد وجدت السبيل إلى العالم العربي حيث شغل موضوع الأحلام المفكرين على اختلافهم. فأهل الحديث، معتمدين على بعض الآثار، يفرقون بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام. وهناك أحاديث كثيرة متصلة بالأحلام وأنواعها نكتفي بأن نشير إلى بعضها. روى ابن ماجة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله، وحديث من النفس، وتخويف الشيطان. وفي الصحيحين: (الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان. والمعتزلة يرون في الأحلام آراء مختلفة: فيرجعها بعضهم إلى الله، ويذهب بعض آخر إلى أنها من
فعل الطبائع ومنهم من يجع بين هذين ويقول إنها على ثلاثة أنحاء: نحو يحذر الله به الإنسان في منامه من الشر ويرغبه في الخير، ونحو من قبل الإنسان، ثم نحو أخير من قبل حديث النفس والفكر. ويقول النظام إن الرؤيا خواطر مثل ما يخطر البصر. وهذا التفسير على اختصاره يحمل في ثناياه بعض الأفكار الأرسطية.
إلا أن رأي أرسطو في الأحلام يبدو بشكل واضح لدى الفلاسفة. وقد خلف الكندي رسالة في ماهية النوم والرؤيا سبق أن أشرنا إليها. وهذه الرسالة لا تزال حتى اليوم بين مخطوطات استامبول، ونرجو أن نوفق إلى نشرها قريبا وقد وقفنا عليها من طريق آخر، فان المستشرق الإيطالي البينو ناجي نشر في أخريات القرن الماضي بضع رسائل للكندي مترجمة إلى اللاتينية وبين هذه الرسائل واحدة عنوانها (النوم والرؤيا)، ويكاد يكون من المحقق أن هذه الرسالة اللاتينية ليست إلا ترجمة للرسالة العربية المتقدمة. ونظرة إلى هذه الترجمة اللاتينية تكفي لإثبات أن الكندي تأثر تمام التأثر بأبحاث أرسطو السابقة المتعلقة بالنوم والرؤيا. وقد قارن البينو ناجي بعض التعريفات الكندية بما يقابلها من التعريفات الأرسطية وأظهر في جلاء ما بينهما من قرابة. وبهذا وضع الفيلسوف العربي أساس نظرية الأحلام الفلسفية في السلام.
(يتبع)
إبراهيم مدكور
صور سياحة
6 -
يوم في فرساي
بقلم سائح متجول
في باريس جمهرة من الصروح والمشاهد التاريخية العظيمة التي تجذب الزائرين بماضيها وروعتها؛ ولكن فرساي تتمتع بشهرة خاصة في التاريخ والسياسة؛ وقد كانت مسرح بعض الأحداث العالمية الكبرى التي غيرت مصاير التاريخ والأمم؛ وبستان فرساي آية في العظمة والروعة والجمال.
فمتى كنت في باريس، فيجب ألا تفوتك زيارة فرساي وقصرها العظيم.
وفرساي في الواقع من ضواحي باريس، ولا تبعد عنها أكثر من ثمانية عشر كيلو مترا؛ وفي وسعك أن تصل إليها بواسطة قطر خاصة من المترو تيسر إليها يوم الآحاد، وفي وسعك أن تقصد إليها بواسطة القطار العادي من محطة مونبارنارس
وفرساي مع ذلك مدينة كبيرة يبلغ سكانها زهاء ستين ألفا تخترقها شوارع كبيرة، وبها كثير من الفنادق والمطاعم التي أعدت على ما يظهر خصيصا للوافدين عليها؛ وفي يوم الآحاد تبدو فرساي كأنها في عيد، وتكثر فيها الحركة بما يتقاطر عليها من وفود الزائرين من أهالي باريس، ومن الأجانب من مختلف الأمم.
قصدنا إلى فرساي في صباح يوم أحد بالقطار العادي، وكان غاصا بالقاصدين إليها من فرنسيين وأجانب؛ وكان يوما بديعا سطعت شمسه بعد أن أزعجنا المطر في باريس أياما متوالية؛ فوصلنا إلى فرساي في نحو نصف ساعة؛ وقصدنا إلى القصر توا، وهو قريب من المحطة، يشرف على ساحة واسعة؛ ولفت نظرنا لأول وهلة كثرة الجند الذين يتجولون في المدينة، وفي فرساي كما علمنا حامية كبيرة.
ومن الغريب أن واجهة القصر الخارجية لا تتمتع بكثير من الجمال والروعة، ومنها يبدو البناء كأنه معسكر ضخم؛ ولقد ذكرنا ذلك بواجهة قصر الفاتيكان الخارجية التي لا تدلي بشيء من عظمته الداخلية؛ بيد أننا ما كدنا نجوز إلى ساحة القصر الداخلية، ونشرف منها على بستانه العظيم حتى وقعنا على منظر من أروع ما شهدنا.
يشرف قصر فرساي من الوجهة الخلفية على بستان شاسع، قد نظم أبدع تنظيم، ونمت به
الأشجار الباسقة من أنواع لا نظائر لها في حدائقنا. وفي مقدمة البستان مما يلي القصر مباشرة بحيرة صغيرة ساحرة؛ وأرض البستان مدرجة، تمتد منحدرة في حظائر بديعة من الأحراج الصغيرة، وحظائر من الزهر تأخذ اللب بمناظرها وألوانها الرائعة، ويطبع مناظر البستان كلها طابع ساحر من الرشاقة والأناقة والتنسيق.
وقد حول قصر فرساي كما حول قصر اللوفر إلى متحف، ولكن القصر في ذاته تحفة فنية رائعة؛ وأعتقد أنه يفوق قصر اللوفر من حيث الجمال والخواص الفنية، وإن كان اللوفر يفوقه من حيث الجلال والهيبة الملوكية؛ ذلك أن قصر اللوفر كان مقر العرش، ومقر الملوكية الفرنسية في أوج عظمتها وازدهارها، ولم يكن قصر فرساي إلا مصيفا ومقاما مؤقتا، ولم يغد مقر البلاط الدائم إلا في فترات قليلة في أواخر عصر لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر.
وقصر فرساي أحدث عهدا من قصر اللوفر؛ وقد بدأ قصرا متواضعا أنشأه لويس الثالث عشر؛ ولكن ولده لويس الرابع عشر فكر في أوائل حكمه في توسيع البناء وتحويله إلى قصر ملوكي عظيم الشأن، فعهد بذلك إلى المهندس (لي فان) أشهر مهندسي العصر، وخلفه في تلك المهمة المهندس مانسار، ثم دي كوتيه؛ وقام بتنظيم البستان وإنشائه (لي لوتر) وأشرف على زخرفة القصر الفنان (لي بران) وكلهم من أعلام هذا العصر الزاهر، فجاء القصر وبستانه آية من آيات الفخامة الملوكية والفن الرائع.
وقد كان القصر في المبدأ مصيفا ومقاما مؤقتا للملك وخاصته، ولكنه غدا في عصر لويس الخامس عشر مقرا للملك والبلاط، وكان لويس الخامس عشر يؤثر الإقامة فيه ويمضي فيه معظم أوقاته تحيط به خاصته، وتقيم فيه خليلاته إلى جانب زوجه الملكة الشرعية كما سنرى.
ويتألف قصر فرساي من طبقتين غير الطبقة الأرضية؛ والطبقة الثانية والوسطى هي أبدع ما فيه، وهي التي تضم تحفه وذخائره؛ وتتكون هذا الطبقة من عدة أجنحة وأبهاء ملوكية شاسعة، وتضم مجموعة ثمينة من الصور التاريخية التي تمثل كثيرا من المناظر الشهيرة والشخصيات الملوكية في عصر لويس الرابع عشر، ولويس الخامس عشر؛ ويشغل جناح الملك لويس الخامس عشر الطرف الأيمن من القصر، وقد عرضت في غرفه الأنيقة
مجموعة من الأثاث الملوكي النفيس، ومنها أثاث غرفة الاستقبال، وغرفة المكتبة وغرفة النوم، والمتزين وكلها مما لا يزال يعتبر في عصرنا من أجمل وأبدع النماذج الفنية؛ وقد زينت الجدران ببعض المناظر الملوكية من حفلات الاستقبال والصيد وغيرها، وزينت السقف بأبدع النقوش؛ وتوجد في هذا الجناح مجموعة من الصور للملك لويس الخامس عشر وزوجه الملكة ماري لكزنزكا، وبعض أفراد الأسرة المالكة ورجال الدولة من صنع أعظم مصوري العصر؛ وفي هذا الطرف أيضاً، وإلى جانب جناح الملك يوجد الجناح الذي كان مخصصا لسكني خليلته المركيزة دي بومبادور، ومن بعدها لسكين خليلته الدوقة دوباري، ومن الغريب أنه لا يبعد كثيرا عن الجناح الذي كان مخصصا لسكني الملكة الشرعية ماري لكزنزكا.
ويلي هذا الجناح، في وسط القصر، جناح لويس الرابع عشر، وهو أفخم وأروع، وبه غرفة نوم ملوكية مازالت تحتفظ بأثاثها، وإلى جوارها ترى متزين الملك، وخزائن الثياب؛ وقد زين هذا الجناح بصور عديدة للويس الرابع عشر، في أوضاع ومناسبات مختلفة؛ والملك يبدو فيها جميعا قصير القامة، محدودب الأنف، وقد انسدل على كتفيه شعره الغزير، وبدت على وجه ملامح الكبر والخيلاء.
ويوجد في الطرف الآخر من القصر بهو شاسع تزينه مجموعة كبيرة من الصور التاريخية الضخمة التي تمثل أعظم المواقع الحربية التي انتصرت فيها فرنسا منذ فجر العصور الوسطى حتى عصر نابوليون، وقد صورت معظم هذه المناظر في عصر نابوليون واشترك في تصويرها أعظم مصوري العصر مثل لوي دافيد، وايزابي، وفرنيه؛ وتبدأ المجموعة بمنظر يمثل انتصار الملك كلوفيس على الرومان الغاليين (سنة 486م)، ويليه منظر استوقفنا طويلا لروعته وطرافته، هو منظر انتصار الفرنج على العرب في سهول ثوروبواتييه سنة (732م)، وهي الموقعة الشهيرة التي تعرف في التاريخ الإسلامي بموقعة البلاط أو بلاط الشهداء، وفيها يبدو عبد الرحمن الغافقي قائد العرب شيخا مهيب الطلعة تتدلى لحيته البيضاء الطويلة حتى صدره، وقد وثبت بجواده المضطرم إلى الطليعة وهو شاهر سيفه، ولكن جنده يتساقطون من حوله أمام ضربات الفرنج؛ وأذكر أنني رأيت هذه الصورة منذ أعوام في طبعة إنكليزية لكاتب المستشرق دوزي عن الأندلس، وكنت أتوق
إلى معرفة الأصل الذي نقلت عنه، فإذا بي في بهو فرساي أمام المنظر الرائع وجها لوجه.
ويلي ذلك في صفين متقابلين مناظر لأعظم المعارك التي انتصرت فيها فرنسا مرتبة حسب العصور والتواريخ؛ مواقع شارلمان، ولويس الحادي عشر، ولويس الرابع عشر، وموقعة فالمي أشهر معارك الثورة الفرنسية ضد أوربا، ثم طائفة كبيرة من مواقع نابوليون مثل مارنجو، فاجرام، أوسترلتز، وغيرها.
بيد أن أعظم ما يثير الخيال في أرجاء هذا القصر الشاسع، هو الذكريات التاريخية العظيمة التي كان مسرحا لها، والتي أسبغت عليه طابعا خاصا من الروعة والخلود؛ ففي قصر فرساي عقدت مؤتمرات ووقعت معاهدات كان لها أكبر الأثر في تاريخ فرنسا وتاريخ العالم بأسره؛ نذكر منها عهد استقلال الولايات المتحدة (أمريكا) الذي وقعته إنكلترا في سنة 1783 على أثر هزيمتها في حرب الاستقلال الأمريكية، وقد وقع هذا العهد في قصر فرساي ترضية لفرنسا وتكريما لها لما بذلته من كبير عون للأمريكيين في هذه الحرب التحريرية؛ وكانت نتيجة هذا العهد الخالد أن قامت في العالم الجديد أمة حديثة مستقلة من أعظم الدول الديموقراطية؛ وفي سنة 1871، على أثر محنة فرنسا وهزيمتها أمام ألمانيا في الحرب السبعينية (سنة 1870) أرغمت فرنسا على أن توقع وثيقة هزيمتها وذلتها في قصر فرساي نفسه، في بهو المرابا الشهير وهو البهو الشاسع الذي يتوسط القصر فيطل على البستان من ناحيتيه، وأرغمت على أن تتنازل لألمانيا عن الألزاس واللورين؛ وفي بهو المرايا أيضاً أعلنت الإمبراطورية الألمانية، وتوج أول إمبراطور ألماني، وهو فلهلم الأول (جيوم)، وأجريت مراسيم التتويج في نفس البهو بحضور ملوك الولايات الألمانية المتحدة، وهذه ذكريات من أسود الذكريات وأتعسها في تاريخ فرنسا القومي.
على أن فرنسا اعتزمت غداة ظفرها في الحرب الكبرى أن تمحو هذه الصفحة المشجية وهذه الذكريات الأليمة من تاريخها وأن تثأر لشرفها القومي من ألمانيا، وأن ترغمها على أن توقع وثيقة انكسارها وذلتها في نفس المكان الذي اختارته ألمانيا من قبل لإرغامها وإذلالها؛ ففي هذا البهو الشهير ذاته - بهو المرايا - وقعت ألمانيا معاهدة الصلح - أو معاهدة فرساي - التي فرضها عليها الحلفاء الظافرون في يونيه سنة 1919، والتي تثقلها بمختلف الفروض والمغارم الهائلة، وتقضي عليها برد الالزاس واللورين إلى فرنسا.
وليس في بهو المرايا اليوم ما يذكرنا بأعظم معاهدة عرفها التاريخ سوى لوحة بسيطة مؤثرة كتب عليها. (في 28 يناير سنة 1919، ردت الألزاس واللورين إلى فرنسا)
وفي نهاية البستان الشاسع من الناحية الأخرى صرحان آخران منعزلان هما قصر تريانون الكبير، وقصر تريانون الصغير؛ وقد أنشأ أحدهما لويس الرابع عشر، وأنشأ الآخر لويس الخامس عشر؛ وكلاهما حافل بالذكريات العذبة، وكلاهما كان مسرحاً لليالي والحفلات الباهرة؛ وكان تريانون ملاذا محبوبا للملكة ماري أنتوانيت، والإمبراطورة جوزفين بوهارنيه زوج نابوليون.
قضينا عدة ساعات في التجوال في هذه المعاهد والمشاهد التي تذكى الخيال إلى الذروة وتحملنا إلى عصور وعوالم أخرى؛ وكانت الساعة الثانية بعد الظهر حينما انتهينا من هذا التجوال الممتع، وغادرنا القصر المنيف والبستان الشاسع إلى قلب المدينة حيث طفنا بطرقاتها برهة، ثم عطفنا على مطعم نتناول فيه الغداء، وقد رأينا أن الأثمان في فرساي ليست أقل ارتفاعا منها في باريس، وأن موجة الغلاء المرهق التي قدمنا لك منها فيما تقدم أمثلة عديدة تعم فرنسا بأسرها.
ولقد كان يوم فرساي خاتمة التجوال في رحلتنا الباريزية؛ وكانت الإقامة في باريس بما فيها من تكاليف وأثقال مرهقة، وبما استوعبناه من مشاهدها ولياليها المتماثلة، قد أخذت تثقل على النفس، فأزمعنا مغادرة العاصمة الفرنسية إلى عواصم ومجتمعات أكثر ترحابا وأقل إعناتا وإرهاقا، وأرفع خلالا ومثلا وقد يكون فيما اتخذته فرنسا أخيرا من الخروج عن معيار الذهب وتخفيض قيمة الفرنك بالنسبة للعملات الأجنبية شيء من التخفيف على السائحين وإغراء لهم بزيارة فرنسا بعد ما انصرفوا عنها في الأعوام الأخيرة، ولكن الظاهر أن التخفيض الجديد لم يحدث أثرا يذكر إذ صحبه ارتفاع مماثل في الأثمان، فإذا صح ذلك، وإذا لم توفق الحكومة الفرنسية إلى تخفيض معيار العيش وإخماد تلك النزعة الجشعة التي تبدو في كل صنوف التعامل فأن أولئك الذين زاروا فرنسا أيام ارتفاع الفرنك واكتووا بنار هذا الغلاء، يترددون كثيرا في العودة إليها.
(* * *)
في الأدب المقارن
شخصيات الأدباء في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يكثر التشابه بين أفراد الجنس الواحد في عالم الطبيعة في الطبقات الدنيا من الأحياء، وكلما ارتقى الجنس في سلم الحياة ازداد الاختلاف في المظهر والصفات بين أفراد الجنس؛ وكذلك الحال في المجتمعات البشرية: يتشابه الناس ويتقاربون في المشارب والأغراض في عصور الانحطاط، ويختلفون خلقا وعبقرية في عصور النهضات، ويتفرقون في شعاب الحياة ودروب المطامح فلا يتفقون إلا في تدفع الحياة في نفوسهم وعلو هممهم وولوعهم ببعيدات الأمور، فالتشابه والاتفاق من إمارات الانحطاط. والاختلاف والتميز من دلائل الرقي.
وذلك الشأن في آداب الأمم: فان أظهر ميزات عصور النهضات فيها اختلاف مشارب الأدباء وتباين شخصياتهم واستقلال نظراتهم إلى الحياة ووجهاتهم في الفن، فهم وإن اتفقوا على مبدأ أو مذهب في الأدب، لا يتشاكلون ولا يكرر بعضهم بعضا ولا يغني أحدهم عن سائرهم، بل ينتحي كل منهم ناحية من الحياة يوكل بها، ويرى الحياة جمعاء بمنظار نفسه لا بمنظار غيره، وينفث في أدبه خلاصة عبقريته الفردية؛ أما في عصور إدبار الأدب فيتماثل الأدباء حذوك النعل بالنعل، ويتهافتون جميعا على نموذج الأدب أو الإنشاء الأدبي، لا ينفكون يقلدونه ويعارضونه ويغفلون بمحاكاته عن حقائق الحياة ولباب الفن، فيخرج أدبهم جميعا صورا مكرر من أنفسهم وأشكالا ممسوخة من ذلك النموذج المحتذى أو القالب المصبوب.
ويمتاز فحول الأدب الإنجليزي، ولاسيما في عصور نهضاته ببروز شخصياتهم واستقلالها واختلاف بعضها عن بعض اختلافا تاما، إلا في اقتباسها جميعا من نور الصدق، وإصدارها جميعا عن معدن الشعور: فالنهضة الرومانسية في مستهل القرن التاسع عشر مثلا، كانت ذات أغراض معينة مشتركة بين جميع أعلامها: كانت ثورة على قيود الفكر وصناعة اللفظ وتقاليد النظم وعودة إلى الطبيعة والبساطة، ونزوعا إلى جمال الحياة، ومع ذلك يتباين فحول شعرائها وتبدو شخصياتهم بارزة واضحة الاختلاف في الأخلاق
والمشارب والأساليب:
فوردزورث كان موكلا بالطبيعة ومجاليها وأسرارها، مؤمنا بضرورة استخدام لغة النثر السهلة في الشعر؛ وشلي كان معينا بالإصلاح الاجتماعي وعدوا لدودا للملكية والكنيسة والتقاليد الحمقاء؛ وكولردج كان هائماً في عوالم المجهول وأغوار الماضي السحيق؛ وسكوت كان مغرما بالعصور الوسطى وتاريخها في بلاده اسكتلندا، متغنيا بمجدها وفروسيتها، محييا لأغانيها الشعبية؛ وبيرون كان بوهيمي النزعة جريء الفكرة مشغولا بقصص الأبطال، جزل الأسلوب رائعه دون تدبيج ولا ترو
ولنضرب مثلا آخر مؤرخي الإنجليزية الثلاثة، الذين توخوا الفن والأسلوب الأدبي في تواريخهم: جبيون وماكولي وكارليل، فأولئك شخصيات ثلاث متميزة: فالأول رصين الأسلوب واللفظ، محكم البنيات ميال إلى الموازنة في المعاني والازدواج في التراكيب، والثاني يراوح بين طويل الجمل وقصيرها، مولع بتصوير المناظر التي يمر بها تصويرا يقف بك أمامها وجها لوجه، كلف بتأريخ مآثر وطنه وعظائم أبنائه ومواقف فخاره، أشد تشبعا بالوطنية وأقل نصيبا من النظرة الإنسانية الشاملة من صاحبيه، والأخير قصير الجمل فجائي الأفكار، معني بعظماء الرجال أخلاقهم وسحناتهم وآثارهم في عصورهم.
وقل مثل ذلك في سائر مشهوري الأدباء الإنجليز: كلهم مختلفو الشخصيات مستقلوها، واضحو النفسيات، متميزة شخصياتهم ونفسياتهم إحداها عن الأخرى، تقاربوا في العصور أو تباعدوا، اتفقوا في المذهب الأدبي أو اختلفوا، وذلك أول دليل على حيوية الأدب، وأصدق شاهد باستمداده من ينابيع الحياة الجارية، لا من بطون الكتب الجافة، فالحياة لا تفنى صورها تعددا، وهي تبدو لكل أديب صادق النظر والشعور في صورة جديدة.
وإنما تشابهت شخصيات الأدباء وتماثلت آثار الشعراء في عصور تدهور الشعر في أواسط القرن الثامن عشر، حين بعد الشعراء عن الطبيعة وانغمروا في المدينة، وهجروا الحياة وغرقوا في صفحات الكتب، وأعرضوا عن وحي شعورهم وقلدوا من سبقوهم، فعدوا بوب ودريدن المثل الأعلى الذي يحتذى، والمطلب الأسمى الذي لا يطلب سواه، واحتذوهما في الغرض والأسلوب والعروض، وتعاوروا أشعارهما معارضة واقتباسا واختلاسا، فخرجت آثارهم جميعا متشابهة متشاكلة بعيدة عن الفن لا تصور شخصيات قائليها، وخملوا جميعا
من دون ذينك الشاعرين اللذين احتذوهما. فلا يهتم بآثارهم اليوم إلا مؤرخ الأدب المدقق المستقصي.
وفي تاريخ الأدب العربي شخصيات مستقلة واضحة متميزة، مخالفة كل منها للأخريات قولا وخلقا وأسلوبا، كالمعري الحكيم المشفق على أمة الطير والحيوان، المعنى بتنازع البقاء وبغي الأحياء، والمتنبي الطموح (المتعاطي للكبر وعلو الهمة) كما قال بعض معاصريه؛ وابن الرومي المشغوف بالجمال الطبيعي والإنساني، المنهوم بنعيم الحياة ولذاتها، الدقيق النظرة، الرائع التصوير؛ وأبي نواس الماجن المستهتر؛ والجاحظ الموكل بفنون الثقافة؛ وبديع الزمان المعتد بنفسه، الحريص على المادة المكاثر بثروته اللغوية ومهارته الصناعية، السهل الديباجة، الرائق الفكاهة. كل هاتيك شخصيات بارزة متميزة.
ولكن بجانب أمثال أولئك حفل كبير من مشهوري الأدباء الذين آتتنا آثارهم وانحدرت إلينا بعض أخبارهم، ولكن شخصياتهم مبهمة مطموسة، يكتنفها الضباب ولا يستجليها الخيال، وتتشابه كثيرا حتى لنضيف آثار بعضها الأدبية إلى آثار الأخرى فلا ترى فارقا، ولا تحس مانعا يحول دون ذلك من تباين الأساليب أو اختلاف النفسيات أو تضاد النزعات؛ بل إن شخصيات بعض من تقدم ذكرهم من فحول العربية، على كثر ما وصل إلينا من كتاباتهم وأخبارهم، مبهمة في كثير من نواحيها.
ولا ريب أن لطول العهد وكر الزمن أثرا كبيرا في تبديد الآثار، وتغيير الأفكار والمشارب والأذواق، وإحاطة شخصيات المتقدمين بغمام من الغموض والغرابة مهما تحدث الشعراء بذكر الخلود؛ ولكن هناك عدا هذا عوامل لابست الأدب العربي فأدت إلى غموض كثير من شخصيات كثير من أعلامه، وتشابهها واختلاطها، أولها شيوع الأمية في الجاهلية وصدر الإسلام، مما أدى إلى تبدد أخبار كثير من الشعراء وضياع أشعارهم واختلاطها، ودخول الزيف والتمويه عليها، مع أن شعر ذينك العصرين كان أصدق حديثا وأكثر إفصاحا عن شخصيات قائليه من شعر العصور التالية، لو لم تعبث به يد الأمية والنسيان.
ولما انتشرت الكتابة لم تكن الطريقة التي جرى عليها المؤرخون في ترجمة الأدباء هي المثلى: فقد اقتصروا على تواريخ ووقائع - كوفود الأديب على ممدوح أو اتصاله بديوان أمير - لا أهمية لها في شرح نفسياتهم، ولا غناء وراءها في توضيح شخصياتهم، وجاء
كثير من التراجم مختزلا مجتزأ. وناقض بعض الروايات بعضا، وصعب تصديق بعضها، فظلت جوانب من تلك الشخصيات مغلقة؛ فما أقل ما يعرف عن عبد الحميد وابن المقفع والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي، فهم لا يكادون يظهرون في ضوء التاريخ إلا في جناح أمير أو ركاب عظيم؛ أما نشأتهم فمهملة، وهي التي لها أكبر الأثر في آدابهم؛ وأما حياتهم اليومية فمغفلة، كأن ليس لها خطر ولا شأن.
وما قصر فيه المؤرخون لم يعوضه الأدباء أنفسهم: فكثير منهم لم يصوروا أنفسهم في أشعارهم ورسائلهم صورا واضحة، ولم يودعوها خلجات أفئدتهم ونظراتهم في الحياة، بل ما أكثر الكتاب الذين قصروا بيانهم على إنشاء رسائل الأمراء، والشعراء الذين توفروا بأشعارهم على مديح أرباب النوال، فامتلأت آثارهم الأدبية بذكر أناس كثيرين ووصف أحوالهم وأفكارهم، فيما عدا منشئي تلك الآثار الأدبية أنفسهم وأحوالهم وأفكارهم، فلا غرو جاءت آثارهم متشابهة، لا توضح شخصياتهم ولا تنهض ببعض ترجمتهم، ومن العجيب أن أكثر الشعراء إفصاحا عن أفكارهم الخاصة وحاجاتهم وشعورهم، كانوا هم المجان والخلعاء الذين لم يكن لهم شعور ولا تفكير في سوى اللذة والعبث كبشار وحماد.
فالناظر في ديواني الطائي والبحتري، وفي رسائل ابن العميد والصاحب، لا يعثر إلا نادرا على فقرة أو أبيات مصدرة عن شعور شخصي للأديب هو ببيانه محتفل، أو فكر جليل هو في إذاعته جاد، ولا يرى في الشعر إلا مديحا وهجاء وشكوى للزمان وافتخارا بعلو الشأن، أو ما كان يجب للشاعر من علو الشأن، وضربا للأمثال واصطناعا للحكمة؛ ولا يرى في النثر إلا تنميقا وتدبيجا واقتباسا وتكاثرا بسعة الاطلاع، فلا غرو يتشابه أولئك الشعراء إلا تفاوتا قليلا في الصياغة، وأولئك الكتاب إلا اختلافا بسيطا في الأسلوب؛ فإذا أنت نزعت جانبا كبيرا من نظم أولئك الشعراء، أو نثر أولئك الكتاب، لم تشوه آثارهم بانتزاع ما لا غنى عنه لبيان نفسياتهم؛ وإذا أضفت بعض آثارهم إلى بعض لم يعقك عائق من تميز شخصية عن شخصية أو اختلاف منحى عن منحى.
وهناك عامل خطير لا يقل عن هذا أهمية في تشابه شخصيات الأدباء وتماثل آثارهم: ألا وهو نزعة المحافظة والتقاليد التي صاحبت الأدب العربي منذ قامت الدولة العربية وانتشرت اللغة في الأقطار، فقد اتخذ الأقدمون مثلاً عُلياً في البلاغة والشاعرية، وألح
المتأخرون على آثارهم وأغراضهم في القول ومعانيهم محاكاة وتوليدا وتخريجا، وجالوا جولان المتقدمين في ميادين المدح والهجاء، والفخر، وشكوى الدهر، وضرب المثل واستخراج الحكمة، واحتذوهم في النسيب بليلى وهند والوقوف بالأطلال واستحثاث المطي وذرع الفلوات، فكان للأدباء في توالي العصور تراث أدبي واحد يتكرر ولا يكاد يتغير، ويتشكل ولا يكاد يتحول، ويأخذ منه كل أديب ويكاد يفنى فيه، وينهل منه وتكاد شخصيته تغرق في عبابه.
فتقليد المتقدمين دون الطبيعة، واتخاذهم مثلاً عليا يصدر عنها القول، بدل أن يصدر عن الشعور الفردي المستقل، من أكبر أسباب ركود الأدب وتشابه آثار الأدباء وتقارب شخصياتهم؛ ومن ثم جاءت آثار كثيرا من الأدباء المتأخرين متشاكلة مشابهة جميعها لآثار المتقدمين، على تباعد الزمان واختلاف المواطن؛ وظلت شخصياتهم غامضة لأنهم لم يجلوها في كتاباتهم جلاء صادقا.
ولما استفحلت الصناعة اللفظية، واشتد الحرص على المحسنات البديعية، غرقت معاني الشعر وأغراضه وشخصيات الأدباء جميعا في سيل من الألفاظ المرصوفة والعبارات المقتنصة من آثار المتقدمين، وأصبحت دواوين الشعراء جميعا ديوانا واحدا مملوءا بالنكات اللفظية، لا فرق بين أوله وآخره. وما أشبه ما قاله البهاء زهير بما قاله ابن نباتة بما قاله صفي الدين من نسيب متناه في ادعاء الرقة والظرف، ووصف لمجالي الطبيعة تخلط فيه محاسن الطبيعة وصورها ببهارج الألفاظ وزخارفها مزجا عجيبا، وتتطلب البراعة بإقحام مصطلحات العلوم كالنحو والمنطق والنجوم.
ولا ريب أن أمتع الأدب للنفس، وأعلقه باللب، ما أبان عن شخصية قوية، ونفسية مستقلة؛ ومن ثم نرى أن ذوي الشخصيات الأصيلة والنظرات الصادقة في حقائق الحياة، كالمتنبي وأبي العلاء وابن الرومي والجاحظ، هم الذين حظوا، دون غيرهم من أدباء العربية الأقدمين، بالدرس الطويل والترجمة المفصلة من كتاب عصرنا الحالي، لأن آثارهم تشوق الدارس وتحفزه إلى الكتابة والتعليق والنقد، وتحوي صورا من أنفسهم يطيب للمطلع التأمل فيها والنظر إلى الحياة في ضوء أفكارها. ولو حاول ناقد أن يترجم لمروان بن أبي حفصة، أو مسلم بن الوليد، أو مهبار، أو البحتري، أو الصاحب، أو الحرير، ترجمة
مفصلة تشرح نفسية المترجم وتميط عن نزعاته وميوله وعوامل ذلك، مستمدا شرحه وتحليه من آثار الكاتب أو الشاعر الأدبية التي اشتهر بها، لكلف نفسه شططا.
فالناظر في الأدبين العربي والإنجليزي، لا يسعه إلا أن يلاحظ أن يجد في تاريخ الأخير شخصيات قوية مستقلة ظاهرة التباين والاختلاف، مصورة في أعمالها الأدبية حتى لتكاد تغني بها عن ترجمة المترجمين، وتحوي كتاباتها صورها النفسية الداخلية فلا تكاد تترك للمؤرخ أكثر من سرد التواريخ وبعض الوقائع وهي لذلك ممتعة جذابة يحس القارئ أن بينه وبينها على اختلاف اللغة والزمن والوطن تجاوبا وصلة شاملة هي صلة الإنسانية، ويطربه أن يراها تعالج نفس المشاكل وتخامرها نفس الخواطر والخوالج التي تساوره، وأمثال تلك الشخصيات الواضحة أقل عددا في تاريخ الأدب العربي.
فخري أبو السعود
تشاؤم المتنبي وما أعد لهذا التشاؤم
(كلمة أعدت لتلقى في مهرجان دمشق فجاءت متأخرة)
للأستاذ خليل هنداوي
التشاؤم طبيعة العقل المتيقظ الذي فتح عينيه فرأى نفسه في القافلة البشرية فأخذ يسأل نفسه: لِمَ يمشي؟ ومن أين إلى أين؟ ولكنه لبث يمشي. . . وكيف لا يتشاءم العقل حين ينظر إلى الكون ويحاول أن يحكم على أشيائه بميزانه، فيجد قاعدا ما كان يجب أن يكون قائما، وقائما ما كان ينبغي له أن يكون قاعدا. هذه النظرة الأولى التي تبدأ في العقل حين يتيقظ وعلى مقدار سعة دوائر العقل تتسع هذه الآماد وتتباعد هذه الدوائر. وهنا يعود العقل في كل مراحله خاسئا يحمل غلى النفس خيبته في رحلته، فتلقاه حاملا الشقاء دون عزاء والحيرة دون إيمان، والنفس إزاء هذا القلق العميق إما أن تعود إلى نفسها ويلتف بعضها على بعضها التفاف الأفعى، تخلق من نفسها العزاء في هذه الحياة؛ وسواء عندها أن تخلقه من إيمان تفرضه أو تفاؤل تؤمن به، فترى في الحياة إشراقا ولا إشراق وبهجة ولا بهجة، فتتغنى مغتبطة بهذا التفاؤل الذي هو وليد ذلك التشاؤم المبطن به، وإما أن تعود ولا تكسب من التشاؤم إلا التشاؤم.
وقد يكون هذا التشاؤم عاما يمثل رسالة الإنسانية المتألمة، وقد يكون خاصا يمثل رسالة الشاعر نفسه، يضع فيها آلامه ولا يتصل بالإنسانية إلا بقدر ما تريد نفسه أن تتصل بها. وآفاق التشاؤم أوسع مدى، وأصحابه أكثر نبلا لأنهم أفنوا ذواتهم في الذات الإنسانية، وأصبحت تتمل فيهم كل آلامها وأوجاعها، لأن الإنسانية ذاتها تجهل ما تريد من الكون وما يراد منها. وآفاق التشاؤم الخاص ضيقة محدودة تدل على أنانية أصحابه، إذ لو أن حظا من حظوظ الحياة الضائعة أتاهم لبدل نظراتهم في الكون ولون لهم شمسا جديدة بألوان غير ألوانهم
ولكن التشاؤم لا تتحد نتائجه؛ فمن التشاؤم ما يذهب بصاحبه إلى الاستسلام حين يؤمن بعجزه، وإلى الزهد حين يؤمن بفناء الحياة، وهذا أقبح التشاؤم وان يكن أصدقه عند العقل. ومن التشاؤم ما يثير في النفس قوى المقاومة فيها بالعنف والشدة، وبهذا التشاؤم تعتز الحياة وتشرق ألوانها القاتمة؛ فشوبنهاور ونيتشه رجلا تشاؤم حالك اللون، ولكن تشاؤم شوبنهاور
قاده إلى الاعتقاد بأن العدم وحده هو الذي ينقذ الإنسانية من آلامها التي تتذوقها بين الموت والحياة. وتشاؤم نيتشه كان موقظا لنفسه وحافزا قويا له لعبادة الحياة لأنها الحياة مهما كانت ألوانها ومهما طغت آلامها.
لست أعرف في الأدب العربي أبلغ تشاؤما من اثنين: المعري وابن الرومي وثالثهما المتنبي. . . أما الأولان فقد سلكا في تشاؤمهما مسلكا عدمياً يدعو إلى احتقار الحياة، والمعري هو القائل بأن الولادة جناية، وهو الي غلبت عليه فكرة صوفية غير مؤمنة؛ وابن الرومي هو الذي جعل من حياة الإنسان مأساة يبدأ أولها بعويل الطفل حين يولد وتنتهي بمثله حين يموت. أما المتنبي فقد كان جهازه العصبي عنيفا، وكان تشاؤمه مضطربا متوثبا لم يدفعه إلا إلى مقاومة الحياة؛ لا يصدفه عنها صادف لأنه مؤمن بها ومستهام بها ولو أنها عجوز دردبيس! وقد كان تشاؤمه، اجتماعيا - وهو ما اصطلح أدباؤنا على تسميته بالحكمة المتنبية - وتشاؤمه الاجتماعي كان وليد حظه في هذا الوجود الذي جعل من حياته المبهمة والمعلومة مرحلة آلام وجهاد. تشاؤمه في نظراته الاجتماعية ولا يرى منها إلا ما يتصل بنفسه؛ ولقد يطغى هذا التشاؤم على بقية نظراته في مسائل الحياة والكون لأنه كان مريضا بحب معالي الأمور، مريضا بعظمة نفسه، كأنما يرى - بعد أن حرمه المجتمع حقه - يرى واجبه أن يضع نفسه - وهو حر بها - موضعا عاليا، وذا أقل ما يفعل؟ ولا أستطيع إلا أن أتصور تلك الحدة في جهازه العصبي الذي كان عنيفا في احتداده متوترا في هدوئه. وهنا كان سر اختلاف التشاؤم بين المعري والمتنبي. فالمعري كان أوسع أفقا في دائرته ومغازيه، وكان نظره أعم في مسائل الكون والحياة لأنه وف درسه وشعره عليها، وكان له في زهده وعماه ما يصرفه عن الاشتغال بدنياه. فمال به تشاؤمه إلى الزهد والعدمية كما مال بشوبنهاور. مع أن المعري أحد محبي المتنبي والمتأثرين به، أخذ منه تشاؤمه وأغفل ما كان عنده من أسباب المقاومة. وإذا فكر الإنسان قليلا في حاله بدا له أن الكآبة تنتظره، وأن كل فكرة هنا تقوده إلى الحزن. وما حياة الإنسان على الأرض إلا مأساة تنتهي دائما بالدموع والشقاء والموت. يعلم المفكرون هذا المغزى ولكن بعضهم لا يقول به. بل إن منهم من يدعو إلى الإيمان القوي بالحياة. ولكن هل كان الناس كلهم يملكون هذه القوة الروحية؟ وهما أمران مختلفان؛ أن يتغلب المرء على تشاؤمه وهمومه في سبيل إتمام دورة الحياة، أو
أن يجتنب الحياة تطغى عليه أنانية حاقدة. وهل كان هذا الإيمان القوي بالحياة إلا نتيجة تشاؤم عميق ونفور عميق من الحياة وولع عنيف بها يولده هذا النفور؟
في فلسفة المعري تشاؤم ليس بإيجابي صرف، ولكنه تشاؤم سلبي. فيها انطلاق من الذاتية وتعلق بالذاتية: لا تطلق (أم دفر) لمجرد نتنها ولكنها تدانت من (أم دفر) فلم تبؤ إلا بالخيبة. فلسفة وجدت ذاتها ضائعة بين الذوات؛ ومثل ذات المعري لم تأت لتكون ضائعة، فشنت الغارة على الدنيا وعلى أهلها وانتقمت لذاتها منها ومنهم، وبهذا استغنت عن ذاتها في ناحية وتمسكت بذاتها من ناحية ثانية. ولهذه الذات خطرها لأنها أنانية حاقدة نصبت نفسها فوق غيرها وطفقت تعطى أحكامها القاسية على الناس وقيمهم وعقائدهم، وتسخر منهم وتفشي معايبهم وتكشف عن مخازيهم، وهي في كل هذا فرحة مختالة، ترى في كل خطوة تخطوها ظفرا لها لامعا. ولهذه العلة وحدها كان يأنس بالمعري كل متشائم لأنه يحسن له الانتقام من الحياة وأبناء الحياة ولكنه ظفر موهوم لا يكلف صاحبه إلا النقمة. أما من لا يزالون يتلمسون في أنفسهم بقية من الحياة النشيطة فهم لا يرضون عن هذا التشاؤم. فالمتنبي متشائم يهاجم فساد الناس والمجتمع ولكنه لا يهرب من الحياة ولا ييأس منها يأسا قاتما، في يأسه انطلاق وفي نغمته رضا، وحياته وأدبه شيئاًن متصلان لا يمكن أن ينفصلا لأنهم يعبران أصدق التعبير عما يريد أن يقوله عن الحياة، ولأن حقائقه العامة كانت مستخلصة من حقائق الحياة الخاصة.
- 2 -
ادخل في كل باب ولجه المتنبي: في اجتماعياته وفي إحساسه بذاته وفي نظراته إلى الحياة والموت وما وراء الموت تجد في ثنايا هذه النظرات تشاؤما عميقا ينفذ إليه النظر الثاقب، وتجد أن هذه المقاومة التي تمثل الرجولة الكبيرة قد كلفت صاحبها كثيرا، وجعلت حياته مسرحا للاضطراب والشقاء. أما المجتمع عنده، فهو غاب تتصارع فيه سباع الأنس، ينال واحدها الشيء غلابا واغتصابا. وقد تنقلب هذه السباع غربانا ورخما، فويل للجريح الذي يشكو إليها، وويل للذي يأمن لهم، ويثق بهم، ويغره منهم الثغر المبتسم. ولا عجب إذا تناحرت السباع فالحياء لا يسد لها جوعا والسلام لا يحفظ لها بقاء. والشاعر - خلال ذلك - يريد أن يكون أسدا - ولكن حييا - (وهل ينفع الأسد الحياء من الطوى؟) يريد أن
يكسب ما لا يصمه وما لا يشركه فيه وغد. وإذا لم ينل ذلك فالذنب ذنب الزمان الهرم!
كيف يريد أن يقابل مثل هذا المجتمع؟ أيشكو ويتعتب، وهو في كل قصيدة يشكو ويتعتب. أيسكن ويرضى؟
وللواجد المكروب من زفراته
…
سكون عزاء أو سكون لغوب
أيرضى عن الحياة وما وصفت إلا لجاهل متعاقل وما شقي فيها إلا عاقل؟ أيطمئن إلى سرورها وقد رأى انتقاله؟ أيسعى في مناكبها ومسعاه منها في شدوق الأراقم؟ أيتعلل بشيء منها ولا أهل يتعلل بهم ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
اتخذ الشاعر مواقف متعددة إزاء المجتمع، فهو طوراً يسعى إلى مدارة أصحابه، وقلما يفعل فيصادق العدو ومن نكد الدنيا مصادقته، وهو طورا - وقد مل من المبالاة بالأرزاء - يسعى إلى أن تهون عليه الأرزاء، وأن يخدر إحساسه بها، لأنه ما انتفع بالمبالاة. وطورا ينظر إلى الأيام نظرة عميقة فلا ينكر عليها تقبلها، ولا يمدحها ولا يذمها، لأنها تبطن لا عن جهل، وتكشف لاعن حلم، ولأنها لا تشبع إلا إذا جاع، ولا تروي إلا إذا ظمئ! وفي هذه النظرة يدنو من مذهب القائلين باللا شعور في الطبيعة. وقد يضطرب هذا الرأي في نفسه فيتصور أن الناس هم الجانون لا الأيام وحدها، فيزيد نقمته على المجتمع، ويصبح لا يميل إلى مجازاة الابتسام بالابتسام، ولا الشك في كل إنسان، لأنه واحد من الأنام، وإنما يريد أن ينتقم من الناس وأن يطأ قلوبهم وآمالهم كما يطأون قلبه وآماله.
ومن عرف الأيام معرفتي بها
…
وبالناس روى رمحه غير راحم
وكيف يكون الذنب كله ذنب الزمان؟ وربما تحسن الصنيع لياليه وإن كدرته أحيانا. ولكن هو الإنسان الذي يركب في قناة الزمان سنانا. وقد يسأم الشاعر من هذه المقاومة العنيفة فيعود إلى عدم الاكتراث بدهره، ويرى أن هذا المراد الذي تتفانى عليه نفوس البشر أحقر من أن نتعادى فيه ونتفانى. ولكنه ينظر إلى نفسه فيرى أن هذا المراد الكبير، المراد الذي جل أن يسمى - هو سبب شقائه. فلو مال عنه لوجد في الحياة رغدا كثيرا وراحة كبيرة، ولكن ما هي قيمة الحياة بدون مراد كبير؟ والمتنبي ليس ممن يرضون بميسور عيشهم! فيتعلل وهو أبلغ تعليل يراه بأن لا عذاب في العذاب، وأن كل بعيد الهم فيها معذب.
وإذا كانت النفوس كبارا
…
تعبت في مرادها الأجسام
فليحمل العذاب في سبيل ما جل أن يسمى!
هذه مراحل كان يأوي إليها الشاعر في نضاله، أقربها تجثم فوقه غيوم سوداء من التشاؤم، ولقد زاد في تشاؤمه إحساسه بعظمته التي لا يقنعها مظهر من المظاهر، وهو الذي كان في محفل من الناس واليوم أصبح في محفل من قرود! ولكن المتنبي إزاء هذه النوازع هل راح يبغض الحياة؟ ظل إحساس المتنبي برغم هذه العوارض التي ألمت به إحساسا قويا فنيا، يحب الحياة ولا ينكر ابتغاء كل نفس للحياة وحرصها عليها وهيامها بها. ومن الذي لم يعشق الدنيا والحياة؟ ولكنه لا ينسى أنها لا تنيل أربا ولا تعطى غاية ولا تسمح بوصال. وقد كان هذا وحده كافيا في خلق النفور منها ولكن:
من لذيذ الحياة أنفس في النف
…
س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملّ
…
حياة وإنما الضعف ملا
وإذا كان الشيخ وحده يمل الحياة بسب ضعفه فليبادر وهو فتى - إلى الحياة - يستخلص منها ملذاتها قبل أن تستخلص منه نفسه، ويجنح إلى اللهو فأوقات اللهو تمر سراعاً كأنها كما قال قبل يزودها حبيب راحل! والزمان لا لذيذ خالص فيه ولا سرور كامل. . . وليت شاعرنا يقنع بهذا التعليل، فقد تطغى عليه في بعض مواطنه موجة من التشاؤم لا نجد لها مثيلا إلا عند المعري. . . ينظر إلى الدنيا وقد أعياه أمرها فيراها خائنة:
. . . أخون من مومس
…
وأخدع من كفة الحابل
تفانى الرجال على حبها
…
وما يحصلون على طائل
يراها خائنة معشوقة
ومن لم يعشق الدنيا قليل
…
ولكن لا سبيل إلى الوصال
وقد نظر المتنبي فيما نظر إلى الموت وما بعد الموت، فكان نظره قصيرا فيما وراء الطبيعة وخياله محدودا؛ ليس له رأي ذاتي فيه وإنما يسمع ما قيل ويشك فيما قيل؟ ولعله سما في قصيدته التي رثى بها عمة عضد الدولة سموا يذكرنا بما سما إليه المعري في الرثاء. فقد مزج نظرته بشيء من الفلسفة الوثنية التي تعيد الأرواح إلى جوها والأجساد إلى تربها وترى كل شيء معلقا بالزمان
نحن بنو الموتى، فما بالنا
…
نعاف ما لابد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا
…
على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه
…
وهذه الأجساد من تربه
يموت راعي الضأن في جهله
…
ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره
…
وزاد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه
…
كغاية المفرط في حربه
لو فكر العاشق في منتهى
…
حسن الذي يسبيه لم يسبه
فكم في هذه الصورة الأخيرة من ورعة وتشاؤم! وقد تكون روعتها في انطلاقها وإطلاقها الخيال للسامع، فيصور ويمثل منتهى هذا الحسن الذي يسببه، وقد وددت لو أنقل صورة لمثل هذا المنتهى للشاعر الفرنسي (بودلير) في قصيدته (جيفة) وهل يريد المتنبي من هذا المنتهى إلا هذه الجيفة؟ وليته رسم لنا خطوطها وأتم صورتها، ولكن الموت قد يعكر على المتنبي هناءه، ولكنه لا يمنعه منه وقد يستغل اسمه وهوله - أمام محبوبته، وجيفته - فيطلب إليها أن تزوده من حسن وجهها قبل أن يحول، وأن تصله في هذه الدنيا لأن المقام فيها قليل، أما رعشة الموت فهو يحسها ويلمسها ويراها ويدرك كما أدرك المعري بنظره الشامل أننا:
يدفن بعضنا بعضا وتمشي
…
أواخرنا على هام الأولي
وهل في هذه النظرات العميقة إلا تشاؤم عميق؟ ولكنه لم يسلم صاحبه إلى الاستسلام؛ تشاؤم يرى كل ما يشق منظره فيحسب يقظات العين حلما! ويعفو عن الزمن لأنه لا يعقل أن يبلغه ما ليس يبلغه الزمن من نفسه. وهكذا خلق هذا التشاؤم فيه قوة يعود تعليلها إلى أمور كثيرة، منها إلى مزاجه ومنها إلى بيئته؛ وحقا إذا كان مزاجه العصبي قد أضربه في موطن فقد عاد عليه بفوائد كثيرة في مواطن كثيرة. منها هذه المقاومة العنيفة والمجابهة التي يطفح بها شعره، وقد كان أولى بهذا التشاؤم أن يقوده إلى ما قاد المعري إليه برغم أن المعري لم يبل في الحياة والأصحاب بمثل ما ابتلى به المتنبي.
هذا الجانب من جوانب المتنبي أعجب به وأعتز به لأنه علامة من علامات الرجولة الممسوخة في هذا الجيل، تصون عزتها ولا تنسى أن تبرز بذاتها إزاء كل ذات مهما تناهت عظمتها، وهل تستطيع أن تجد قصيدة لم يطبعها المتنبي بذاته؟ بل هل كان المتنبي
قادرا على التجرد من ذاته؟ ألا نراه يتغنى في كل مقطوعة بذاته؟ ويحن إلى غايته ويطأ هام الملوك والخلائق وينقض على الزمان يراغمه وعلى الحظ يصاوله، ولعل المتنبي أول شاعر قام يحاول إخضاع الحظ والناس لموازين العقل والذكاء.
ولعل أصحابنا النقاد يرون مغامز في المتنبي، فيأخذون عليه رياءه ومبالغته وتقلبه، ويتخذون موقفه مع كافور حجة على غدره وتقلبه. ومثل هذا النقد صدق يشهد به المتنبي وأشعاره، ولكي أعتقد أن هذا الرياء الذي تنقم عليه الأخلاق لم يكن إلا رياء فنيا - والرياء الفني يغمر كل شعرنا وأدبنا ولا يزال. . . ولو كان من نوع ذلك الرياء اللين لكان لصاحبه شأن مع رجال الأحكام. وإن شخصيته المتجردة من شعره كانت شخصية عنيفة قاسية لا تهاود في عزتها. الأمر الذي يدل على أن رياءه هو الرياء الذي تواضع عليه شعراء ذلك العصر وأدباؤه وتقبلوه ولم يستقبحوه.
حياة زاهرة بالأهوال والآمال كلما صدع لها الدهر أملا زادت حزما وعزما، غير مستعظمة إلا نفسها ولا قابلة إلا لخالقها حكما؛ حياة تود أن تنفصل عن الناس لتتصل بالناس، وذات لم يترك لها الدهر مجالا للنظر في غير ذاتها، في شعرها أثر عصرها وبيئتها، وفي شعرها أثر العصور. ولعمري إن هذا لهو الأدب الحي الذي تتوق إليه الآداب العالمية اليوم، أدب ترتسم فيه الرسالة القومية والرسالة الإنسانية. . .
ما أفقر أدبنا الحاضر على غناه إلى متنبي جديد يفيض قوة وعزيمة على رغم تشاؤمه! ولعله إذا عاد يغير شيئاً في رسالته ويجعلها رسالة قوية يفرضها فرضا بقوة البيان شاعر ذو كبرياء وسلطان، على شعب مريض أصبح السائر لا يسير بينه إلا بألف ترجمان.
(دير الزور)
خليل هنداوي
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الفصل الأول
- 4 -
مصادر الأخبار:
وإن المصادر الرئيسية الهامة التي تدور حول سبأ وحمير لهي (أولا) تلك المسماة بالنقوش الحميرية، و (ثانيا) الأحاديث المنقولة في الغالب عن الأساطير والتي أبقاها لنا الأدب الإسلامي. وبالرغم من أن اللغة العربية الجنوبية قد ثبتت أقدامها في بعض الأماكن الجنوبية القاصية حتى عهد النبي أو بعده بقليل، إلا أنها أخذت تضمحل من أمد بعيد بتقوى لغة الشمال الجزلة الرائعة ثم أخذت منذ ذلك الحين تبسط سلطانها دون أن تجد لها منافسا في رحاب شبه الجزيرة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة السابقة لم تتلاش نهائيا. وقد حدث في القرن السادس الميلادي أن أناخ راكب بدوي بعيره وأخذ يتفرس في دهشة في بعض نقوش غريبة على حائط صخري، وقارن بين هذه النقوش العجيبة التي كاد الدهر أن يطمس معالمها وبين البقايا غير الواضحة تماما للأراضي المجاورة، التي كانت تفيض بالذكريات الجميلة. ويسمى المؤلفون المسلمون هذه الخطوط بالمسند، وإن قليلا من المسلمين كانوا يستطيعون قراءة حروف هجاء العربية الجنوبية، بل كانوا ذوي دراية بمبادئ وقواعد علم الإملاء أيضاً، وهذا يظهر لنا بجلاء من عبارة وردت في الكتاب الثامن من الإكليل للهمداني، ومع أنهم قد استطاعوا تفسير أسماء الأعلام والتعرف إلى مدلول الكلمات، إلا أنه لم تكن لديهم معلومات ثابتة عن اللغة نفسها، وسأشرح فيما بعد كيف كشفت هذه النقوش مرة ثانية بفضل بعض الرحالة الأوربيين، وكيف فسرت وأولت حتى غدوا على بينة منها قادرين على اتخاذها أساسا للبحث التاريخي، وما هي النتائج التي جنوها من دراستهم لهذه الناحية؛ ولكن قبل أن نأخذ في شرح ذلك أرى من الضروري أن أقول لماذا استعملت لفظ (العربية الجنوبية) أو (السبئية) القليل التداول بدلا من (الخطوط الحميرية) و (اللغة الحميرية): ذلك أن كلمة (حمير) ليست دقيقة إذا أردنا بها لغة هذه
النقوش أم النقوش ذاتها؛ أما من ناحية اللغة فلم تكن خاصة بأهل حمير، بل كان يتكلمها كل قبائل اليمن المختلفة وأهل سبأ ومعين أيضاً، وإن اختلفت اللهجات في كل جهة عن الأخرى. وقد أطلق المسلمون على لغة اليمن القديمة اسم (الحميرية) لسبب بسيط، ذلك أن الحميرين كانوا أقوى جنس سكن هذه البلاد خلال القرون الأخيرة السابقة لظهور الإسلام. ولو كانت جميع الآثار المكتشفة ترجع إلى عصر السيادة الحميرية لسمعنا عنها في شيء من اليقين فيمن خلفهم، ولكن الحقيقة هي أنها ترجع إلى عهد سحيق أيام العصور الأولى التي يرجع بعضها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وربما كان بل تأسيس الإمبراطورية الحميرية بألف عام، كما أن لفظ (سبئ) لا يوضح المقصود تماما لأنه يغلب استعماله لاسم شعب أكثر من أن يكون لقبا سياسيا، وعلى كل فأني أفضل لفظ (عرب الجنوب) على كل ما عداه.
ومن أول رواد البحث والتنقيب في بلاد اليمن العالم كارستن نيبوهر الذي قام بدافع نفسه وللذته الخاصة بإماطة اللثام عن النقوش. وقد طبع عام 1772م كتابه المسمى وقد رن صدى اكتشافاته في مجامع أوروبا العلمية ورجح الظن بأن حمير وجدت في بقايا مدينة شهيرة باسم ظفار وفي ذات مرة لقيه أحد الهولنديين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي وأطلعه على نسخة من النقوش جمعت كل الحروف الهجائية التي لم تكن معروفة من قبل، ولكن - كما يقول - (أصابتني حمى عنيفة في تلك الآونة، وكنت أستعد بين كل لحظة وأخرى للموت أكثر مما أعد نفسي لجمع النقوش القديمة) وبهذا ضاعت فرصة عظيمة، ولكن الدهشة عادت ثانية إذا اكتشف البحاثة عام 1810 عدة خطوط في جوار ظفار ونسخها بيده، ولكن ما يؤسف له أن السرعة التي لازمت المكتشف جعلت المنسوخ غير متقن الضبط تماما. وقد اشترى أيضاً رسما أخذه معه وانكب عليه في أوقات فراغه ناسخا أياه، غير أن جهله للروح الأصلية أوقعه في عدة أخطاء في الحروف، وبذلك لم تكن النتائج التي توصل إليها ذات قيمة تذكر. وإن أول منسوخات قيمة للنقوش العربية الجنوبية وصلت إلى أوربا على أيدي الضباط الإنكليزي المشتغلين بحراسة الشواطئ الجنوبية والغربية لبلاد العربي وفي سنة 1838 طبع الليفتنانت ج. ر. وللستد نقوش حصن الغراب ونقب الحجر في كتابه المسمى
وإذا ذاك خطأ أميل روديجر أستاذ اللغات الشرقية بجامعة هل (اعتمادا على مخطوطين في مكتبة برلين الملكية جمعت فيهما كل حروف الهجاء الحميرية) خطأ أول خطوة في سبيل الكشف الصحيح، فدحض الفكرة القائلة بأن خط العربية الجنوبية يجري من اليسار إلى اليمين، تلك الفكرة التي أقرها (دي ساسي) وصادفت قبولا عاما، كما أظهر روديجر أكثر من ذلك ان آخر كل كلمة كان ينتهي بخط عمودي، وإن نقوش ولِلَّسِتدْ قد ألقت بصيصا من النور على صنعاء، وفسر رموزها وروديجر كل منها مستقلا عن الآخر عام 1841م.
وتقاسمت إنجلترا وألمانيا فخر الكشف عن هذه النقوش، ولكن لم تكد تمضي بضع سنين حتى كانت فرنسا ثالثتهما، وسرعان ما مضت قدما في هذا السبيل وتكللت بحوثها بالفوز العظيم ونالت قصب السبق. وفي عام 1843 بدأ توماس أرنود التنقيب والبحث بادئا من صنعاء، ونجح في الكشف عن بقايا مأرب مدينة سبأ القديمة الشهيرة، ولم يعبأ بتقهقر صحته، بل نسخ ما يقرب من خمسين أو ستين مخطوطا نشرت بعد ذلك في الجريدة الأسيوية وقد عثر في أسيندر على مترجم ماهر، وفي سنة 1870 تنكر العالم اليهودي واخترق (الجوف) شرق صنعاء التي لم يخترقها أوربي قبله منذ سنة 24 ق. م حينما قاد ? جيشا رومانيا من نفس الطريق، وقد توصل هذا المكتشف إلى نتائج أكثر أهمية بعد أن لاقى كثيرا من المتاعب والأهوال الخطرة، ثم تمكن هاليفي أن يعود بعد أن نسخ قرابة سبعمائة مخطوط، وفي أثناء ربع القرن الأخير جمع أشياء أكثر أهمية بينما انكباب براتوريوس وهاليفي وميللر وموردتمان وغيرهم على البحث أزاد معلوماتنا عن لغة وتاريخ وديانة عرب الجنوب في العصر السابق للإسلام.
ولا يمكن القول بأن هناك دقة ما سواء في أسماء الحكام الحميريين - كما يظهر ذلك مما كتبه المؤرخون المسلمون - أم في الترتيب الذي جرت عليه في وضعها، ولو كان هؤلاء أشخاصا تاريخيين لكان لهم ذكر فيما بعد، والأرجح أنهم كانوا أمراء غير ذوي أهمية أرجعتهم القصص إلى العصر القديم وخلعت عليهم نعوت العظمة، وعلى من يعتوره الشك في هذا أن يقارن الصحف الحديثة بتلك التي استنبطت من النقوش وقد جمع د. هـ. موللير أسماء ثلاثة وثلاثين ملكا من ملوك سبأ، كما تكرر كثيرا ورود بعض الأسماء - وهذا دليل على قيام الأسر الحاكمة - وكانت تخلع عليهم الألقاب للأبهة، وقد نجد كثيرا من
هذا في ذَمَرْ عَلِى ذِرِّيحْ (الفخم) ويَثَعَمَرْ بَيِّن (السامي) وكَرِيَبِعيلْ وَتَاريُهَنْعِمْ (أي العظيم المنّاح) وسمهعلي ينوف. أضف إلى هذا أن الملوك كانوا يحملون ألقابا عدة في المراسلات تنبئ عن عصور ثلاثة في تاريخ البلاد العربية كمكرب سبأ أو ملك سبأ وملك سبأ وريدان، وبهذه الطريقة يمكننا أن نحدد على وجه التقريب عصر المباني والنقوش المختلفة، وأن نظهر أنها لا تنتمي إلى العصر المسيحي، ولكنها تسبقه أحيانا بثمانية قرون على الأقل.
وإن البون الشاسع الذي يفصل بين قوم سبأ وحمير المحبين للتجارة والسلام وبين العرب الهمج الذين بعث فيهم محمد (صلعم) ليظهر على أشده في خضوع الأولين لآلهتهم التي تعد أساس الآثار الجنوبية العربية كما ذكر ذلك جولد زيهر.
فكان الأمير يشيد معبدا للآلهة شكرا لنصرها إياه على أعدائه ويبارك الكاهن أبناءه وممتلكاته؛ أما المحارب الذي فاز بقتل أعدائه أو بالأسلاب أو بنجاته من المنية فيقدم فروض الشكر ويتوسل في ضراعة أن يكون على الدوام متقلبا في أعطاف رعايتها. وكانوا يعتقدون أن الموتى يعيشون سعداء تحت رحمة إلهية كما كانوا يوقرونهم بل ويعيدونهم أحيانا، وإن العبارة التالية التي ترجمها الكولونيل لهي أوضح مثال على هذا وهي:(لقد تقدم سعد الله وبنوه بنو مرثد بهذه اللوحة إلى مقه هران (سيد الأوَّام ذو عِران أَلِى) الذي تفضل بسماع الرجاء المرفوع إليه حينما أهدى إليه بنو مرثد أول ثمار أرض أرهقم وان مقه هران قد تعهد بحماية سهول ومراعي هذه القبيلة في مساكنهم لقاء ما يقدمونه إليه من الهدايا الكثيرة طول العام، والحق أن أبناء سعد الله سينزلون أرض أرهقهم وسيقربون الضحايا في حرمي عشتر وشمس وسيكون هناك قربان آخر في هران (وكلا العملين بغية أن يتكفل حروت بحماية حقول بني مرثد، والتفضل بسماع شكواهم) وكذلك تقرب القرابين في معبد مقه حروت، وبمقتضى ذلك يتهيأ له المحافظة عليهم بناء على السنة التي ابتع نهجها سعد الله والتي شاهدها في معبد مقه النعمان، أما مقه هران فقد وقى أرض أرهقم الخصبة من الصقيع والطوارئ أو بعبارة أخرى من البرد القارس والحر اللافح)
وقبل أن أختم هذا البحث القائم على البيان الناص عن نقوش العربية الجنوبية لابد لي من أناشد فطنة قرائي الذين يعلمون كم يكون من الصعب أن يكتب المرء بوضوح ودقة عن موضوع ليست مصادره الأولى في متناول يده، خاصة إذا كانت نتائج البحث السابق
تنقض على الدوام بيد العاملين الحديثين في نفس الميدان.
ومن حسن الطالع أن يكون تحت يدنا مرجع دقيق واف لتلك البقايا القليلة الناقصة؛ فمعلوماتنا عن جغرافية بلاد العرب الجنوبية وعن الآثار والتاريخ القصصي مستقى جلها من كتابات شخصين من أهل اليمن تفيض كتاباتهما بالحماسة للمجد القديم والفخر به، وتعتبر أقوالهما - المتضاربة بين الحق والخرافة - من وجهة النظر الحاضرة - عملا له قيمته، وهذا الكاتبان هما حسن بن أحمد الهمداني ونشوان بن سعيد الحمير، وفضلا عن كتاب جغرافية العرب القيم المسمى (صفة جزيرة العرب) الذي طبعه د. هـ. موللير، فقد ترك لنا الهمداني كتابا عظيما آخر في تاريخ اليمن وآثارها، ذلك هو (الإكليل) وينقسم إلى عشرة كتب هذا بيانها.
الكتاب الأول: موجز تاريخ أصل الإنسان ونشأته
الكتاب الثاني: تاريخ نسب الهميسع بن حمير
الكتاب الثالث: بخصوص صفات قحطان الممتازة
الكتاب الرابع: بخصوص العصر الأول من التاريخ إلى حكم تبع أبي بكر
الكتاب الخامس: بخصوص العصر المتوسط من عهد أسعد تبع إلى عهد ذي نواس
الكتاب السادس: بخصوص العهد الأخير حتى ظهور الإسلام
الكتاب السابع: نقد البدع الفاسدة والروايات الكاذبة
الكتاب الثامن: القلاع والمدن والقبور التي شيدها الحميريون وشعر علقمة والمراثي والنقوش وغيرها
الكتاب التاسع: ويتضمن حكم الحميرين وأمثالهم في اللغة الحميرية وأحرف هجاء النقوش
الكتاب العاشر: بخصوص نسب قبيلتي حاشد وبقيل (كبيرتي قبائل همدان)
(يتبع)
ترجمة حسن حبشي
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
- 2 -
وما فرغ زارا من كلامه حتى ارتفع صوت من الحشد قائلا (لقد كفانا ما سمعنا عن البهلوان، فليبرز لنا الآن لنراه)
فضحك الجميع مستهزئين بزارا، وتقدم البهلوان ليقوم بألعابه وهو يعتقد أنه كان موضوع الحديث.
- 4 -
وبهت زارا مجيلا أنظاره في القوم، ثم قال:
ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان الكامل فهو الحبل المشدود فوق الهاوية
إن في العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطرا، وفي الالتفات إلى الوراء وفي كل تردد وفي كل توقف خطر في خطر
إن عظمة الإنسان قائمة على أنه معبر وليس هدفا، وما يستحب فيه هو أنه سبيل وأفق غروب
إنني أحب من لا غاية لهم في الحياة إلا الزوال، فهم يمرون ما وراء الحياة، أحب من عظم احتقارهم لأنهم عظماء، المتعبدين يدفعهم الشوق إلى المروق كالسهام إلى الضفة الثانية
أحب من لا يتطلبون وراء الكوكب معرفة ما يدعو إلى زوارهم أو ما يهيب بهم إلى التضحية، لأنهم يقدمون ذاتهم قربانا للأرض، لتصبح هذه الأرض يوما ميراثا للإنسان الكامل
أحب من يعيش ليتعلم، ومن يتوق إلى المعرفة ليحيا الرجل الكامل بعده، فأن هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله
أحب من يعمل ويخترع ليبني مسكنا للإنسان الكامل فيهيئ ما في الأرض من حيوان ونبات لاستقباله. فان هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله
أحب من يحب فضيلته، فما الفضيلة إلا الطموح إلى الزوال وإن هي إلا السهم تنشبه أشواقه
أحب من لا يحتفظ لنفسه بشرارة واحدة من روحه، فيتجه إلى أن يكون بكليته روحا لفضيلته لأنه بهذا يجعل روحه تجتاز الصراط
أحب من يكون من فضيلته ميوله ومطمحه، لأنه بمثل هذه الفضيلة يتوق إلى إطالة حياته كما يتوق إلى قصرها
أحب من لا يريد الاتصاف بعديد الفضائل، إذ في الفضيلة الواحدة من الفضائل أكثر مما في فضيلتين، والفضيلة الواحدة حلقة ترتبط فيها الحياة
أحب من يجود بروحه فلا يطلب جزاء ولا شكورا، ولا يسترد، فهو يهب دائما ولا يفكر في الاستبقاء على ذاته
أحب من يخجل من سقوط زهر النرد لحظه فيرتاب بغش يده، إن أمثاله التائقون إلى الزوال
أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عملة وعده، إن أمثاله هم التائقون إلى الزوال
أحب من يبرر أعمال الخلف ويدافع عن السلف لأنه بذلك يسلم نفسه إلى نقمة معاصريه، فهو ممن يتوقون إلى الزوال
أحب من يعلن حبه لربه بتوجيه اللوم إليه، إذ يجب أن يهلك بغضب ربه
أحب من يبلغ التأثر أعماق روحه في جراحها فيعرضه أتفه حدث للفناء، إن أمثاله يعبرون الصراط دون أن يترددوا
أحب من تفيض نفسه حتى يسهى عن ذاته، إذ تحتله جميع الأشياء فيضمحل فيها ويفني بها
أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى يصبح دماغه بمثابة أحشاء لقلبه، غير أن قلبه يدفع به إلى الزوال
أحب جميع من يشبهون القطرات الثقيلة التي تتساقط متتالية من الغيوم السوداء المنتشرة فوق الناس، فهي التي تنبئ بالبرق وتتوارى
ما أنا إلا منبئ بالصاعقة، أنا القطرة الساقطة من الفضاء، وما الصاعقة التي أبشر بها إلا
الإنسان الكامل.
- 5 -
وبعد أن ألقى زارا هذه الكلمات أجال أنظاره في الحشد وسكت ثم قال في قلبه: لقد تملكهم الضحك، فهم لا يفهمون ما أقول، وما أنا بالصوت الذي يلائم هذه الأسماع
أعلي أن أسد آذانهم ليتمرنوا على الإصغاء بعيونهم؟ أم يجب أن أضرب الصنج أسوة بوعاظ الصيام؟ لعل هؤلاء القوم لا يثقون إلا بالألكن من المتكلمين
إن لهؤلاء الناس ما يباهون به فما عساه أن يكون؟
إنهم يسمونه مدنية ليميزوا بها أنفسهم من الرعاة. فهم لذلك ينفرون من لفظة الاحتقار إذا ما ذكرت في معرض الكلام عنهم، فلسوف أخاطبهم إذن عن غرورهم
سأخاطبهم عن أحقر الكائنات، عن الإنسان الأخير، وتوجه إلى الحشد قائلا:
لقد آن للإنسان أن يضع هدفا نصب عينيه، لقد آن له أن يزرع ما ينبت أسمى رغباته، ما دام للأرض بقية من ذخرها؛ إذ سيأتي يوم ينفذ هذا الذخر منها فتجدب ويمتنع على أية دوحة أن تنمو فوقها.
ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يفوق الإنسان فيها سهام شوقه محلقة فوق البشرية إذ تخونه قوسه وتتراخى أوتارها
الحق ما أقوله: لن يخرج من الإنسان كوكب وهاج للعالم حين تزول بقية السديم من نفسه، وهذا السديم لم يزل فيكم
ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يدفع الإنسان فيها بالكواكب للعالم. ويل لنا؟ لقد اقترب زمان الإنسان الحقير الذي يمتنع عليه أن يحتقر نفسه
اسمعوا! هأنذا منبئكم عن الرجل الأخير
إنه من يقف متسائلا عن نفسه فلا يعلم أمحبة هي أم إبداع أم تشوق، أم توهج كوكب
وستصغر الأرض في ذلك الزمان فيصطفر على سطحها الرجل الأخير الذي يحول إلى حضارة كل ما يدور به، إن سلالة هذا الرجل لا تباد، فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول البشر عمرا
ويقول أناسي الزمن الأخير متغامزين: لقد اخترعنا السعادة اخترعا
لقد هجر هؤلاء البقاع التي تقسو عليها الحياة، لأنهم شعروا بحاجتهم إلى الحرارة فأصبح كل واحد يحتك بجاره وقد احتاجوا إلى الدفء جميعا
إنهم يقتحمون الحياة باحتراس لأن الوجل والمرض في عينهم خطأ، وما سلم من الجنون من يتعثر منهم بالجارة وبالناس
إنهم يأخذون قليلا من السموم حيث يجدونها طلبا لملاذ الأحلام ويكرعون منها ما يكفي دفعة واحدة طلبا للذة الموت
وإذا هم عملوا فإنما يعملون للتسلية محاذرين أن تذهب هذه التسلية بهم إلى حدود الإنهاك
ليس بينهم من يصبح غنيا أو يمسي فقيرا، وكلا الفقر والغني يجلب الضنى، وما منهم من يطمح إلى الحكم أو يرضى بالخضوع وكلاهما محرج مرهق
ليس هنالك راع وليس هنالك إلا قطيع واحد. إن كلاً من الناس يتجه إلى رغبة واحدة، فالمساواة سائدة بين الجميع. ومن اختلف شعوره عن شعور المجموع يسير بنفسه مختارا إلى مأوى المجانين
ويغمز أمكر هؤلاء الناس بعينهم ويقولون: لقد كان الجميع مجانين فيما مضى
لقد ساد الاحتراس بين هؤلاء القوم لأنهم أخذوا بالعبر، فهم يتلقون المحادثات متهمكين، وإذا نشأ بينهم خلاف بادروا إلى حسمه صلحا، لأنهم يحاذرون أن تصاب معدهم بالعلل والأدواء
لهؤلاء الناس لذات للنهار ولذات أخرى لليل، غير أنهم يراعون صحتهم أولا
(لقد اخترعنا السعادة اختراعا) ذلك ما يقوله أناسي الزمن الأخير وهم يغمزون
عند هذا أنهى زارا خطابه أو بالحري تمهيد خطابه فتعالت أصوات التهليل من الحشد وهو يقول: (إلينا بهذا الرجل الأخير يا زارا، اجعلنا على مثال أناسي الزمن الأخير فقد تخلينا لك عن الإنسان الكامل
ولكن زارا وجم أمام هذا الحشد يسوده مثل هذا الروح فاستولى الحزن عليه وقال في نفسه:
إنهم لا يفهمون كلامي، فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه الأسماع
لقد عشت طويلا في هذه الجبال وأنصت طويلا إلى هدير الغدران وحفيف الأشجار فأنا أكلم هؤلاء الناس الآن كأنني أخاطب رعاة الماعز
إن روحي صافية تغمرها الأنوار كما تغمر القمم تباشير الصباح، ولكنه يحسون بالصقيع في قلبي ويحسبونني مهرجا يأتيهم بالمفجع من النكات
ها هم أولاء يحدجونني بأنظارهم ويتضاحكون، ففي قلبهم ثورة البغضاء وعلى شفاههم بسمة الثلوج
- 6 -
وطرأ حادث كم الأفواه واسترعى الأبصار، وكان البهلوان بدأ بألعابه فاندفع من النافذة وأخذ يتمشى على الجبل الممدود بين برجين فوق الساحة وما عليها من المتفرجين وما وصل إلى وسط الجبل حتى فتحت النافذة مرة ثانية واندفع منها فتى مخطط بالألوان كالمهرجين وسار متبعا خطوات البهلوان صارخا:
- إلى الأمام أيها الأعرج! إلى الأمام أيها الكسلان، أيها المرائي ذو الوجه الشاحب! اذهب لئلا تداعبك نعلي، ما هو عملك بين هذين البرجين؟ أفليس في البرج مكان سجنك؟ إنك تسد الطريق في وجه من هو أفضل منك)
وكان الفتى يتقدم خطوة كلما قال كلمة حتى أصبح قاب قوس من البهلوان، وعندئذ وقع الحادث الذي كمَّ الأفواه واسترعى الأبصار. فان الفتى لم يلبث أن صرخ صرخة الجن وقفز فوق العقبة القائمة في سبيله. ولما رأى البهلوان انتصار خصمه عليه أخذه الدوار وخلت رجله عن الحبل فرمى عارضة التوازن من يديه وسقط في الفضاء حيث لاحت رجلاه ويداه كعجلة تدور في الهواء.
وماج الحشد على الساحة كالبحر اجتاحته العاصفة الهوجاء وانفرط الناس مولين الأدبار وانفرط المكان حيث كان يتجه الجسم بانحداره
ولكن زارا لم يتحرك فوقع الجسم على مقربة منه حيث تقطعت أوصاله وتهشم غير أنه كان لم يزل حيا، وما عتم أن عاد روع الجريح إليه فرأى زارا جاثيا قربه فرفع رأسه وقال له:
- ماذا تفعل هنا؟ ما كنت أجهل أن الشيطان سيضل خطواتي يوما وها هو ذا الآن يجرني إلى جحيمه، أفتريد أن تمنعه؟
فقال زارا:
- وشرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له، فليس من شيطان وليس من جحيم، إن روحك ستموت بأسرع من جسدك فلا تخش بعد الآن شيئاً
فرفع الرجل بصره مشككا وقال:
إذا كان ما تقوله صحيحا فأني لا أفقد شيئاً بفقد الحياة. فلست أنا إذن إلا حيوانا رقصت بالضرب وغذيت بأفخر غذاء
فقال زارا: لا، ليس الأمر كما تقول فأنك اتخذت المخاطرة مهنة لك ولم يكن فيها ما يشين. أما الآن فمهنتك هي أن تفنى، من أجل هذا سأدفنك بيدي
ولم يحر المدنف جوابا بل حرك يده باحثا عن يد زارا ليصافحها دلالة على شكره
(يتبع)
فليكس فارس
نظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية
للدكتور شفيق شحاته
3
ملاحظات موضوعية على المؤلفات - أول ما يلاحظ على الفقهاء أن نظرهم لم يتجه أثناء وضعهم للحلول إلى طريقة تطبيق أحكامهم. فتلك الناحية العملية لا تكاد تظهر خلال جدلهم وأبحاثهم
على أن هذا ليس معناه كما ادعاه بعض المستشرقين أن التشريع الإسلامي لم يوضع إلا على أنه مثل أعلى، يوصى باتباعه، وأنه في الواقع ونفس الأمر، لم تتبع أحكامه في الدول الإسلامية فإنا، وقد رجعنا في بحثنا إلى كثير من الأوراق البردية المثبتة للوثائق القانونية مما كان يجري به التعامل في العصور الأولى للإسلام، وإلى أحكام محكمة مصر الشرعية القديمة، ويرجع بعضها إلى أكثر من خمسمائة سنة خلت، نستطيع أن نؤكد فيما يتعلق بموضوع الالتزامات أنه لم يكن هناك تشريع أو قواعد أخرى متبعة في المعاملات سوى قواعد الشريعة الإسلامية.
وإذا كانت هذه القواعد قد خولفت بالفعل في بعض الأحايين، فقد كان ذلك خضوعاً لظاهرة معروفة، وهي أن الاحتياجات العملية تخلق دائما بجانب التشريع قواعد أكثر مرونة تلطف من حدته.
من ذلك - وهذا في نظرنا، دليل على حيوية التشريع الإسلامي - ما وضعه الفقهاء من (الحيل) لتلافي بعض ما وضعوه من القواعد التشريعية الجامدة
على أن هذه الحيل تندمج تماماً في الهيكل التشريعي، لأنها لا تصدم قاعدة من قواعده، فهي عبارة عن عقود أو إقرارات صورية، تنطبق عليها الأحكام التي وضعت للصورة التي اتخذتها لا لحقيقتها، وقد ساعد على نجاح هذه الوسائل قواعد الإثبات وأحكام الصورية في التشريع الإسلامي
فالحيل إذن ستكون محل دراستنا، على أنها الجانب الحي للتشريع الإسلامي، وهي قد كانت موضعاً لعناية (محمد) نفسه وهو أحد واضعي المذهب
وتظهر أيضاً الناحية العملية للفقه الإسلامي من خلال كتب (الشروط)، وقد عنيت هذه
الكتب بوضع صيغ لكتابة العقود والإقرارات. وقد اهتم بهذه الناحية أيضاً (محمد) في (المبسوط)؛ على أن لهذه الناحية من الفقه فقهاءها الاخصائيين، نذكر منهم (أبا زيد الشروطي) و (الطحاوي) ويتضح لمن يتصفح كتب الشروط هذه أنها لم توضع لمجرد النظر: فهي تراعي دائما الاحتياجات العملية، وتحيط العاقد علماً بما يجب أن يتخذ لنفسه من الحيطة في اشتراطاته مع اختلاف المذاهب
وهذه الصيغ لا تخلو من (الرطانة) القضائية كتكرار الألفاظ والمبالغة في الاحتياطات، ومن الغريب أنها على قدم عهدها يرد بها عبارات تشبه كثيراً ما نقرؤه في العقود التي تحرر في أيامنا هذه
وتظهر أخيرا الناحية العملية من خلال (الفتاوي)، وهي مؤلفات جمعت ما أجاب به المفتون عما عرض عليهم من الأسئلة في حوادث واقعية، ولدينا من هذه المجموعات ما يرجع عهده إلى سنة 1100هـ، وهي جميعها تتبع آثار الكتب الفقهية، ولا تحيد عن الأحكام التي وردت بها قيد أنملة
ومما يؤخذ أيضاً على المؤلفين اهتمامهم الزائد بدقيق التفصيلات وتفننهم في افتراض المسائل البعيدة الوقوع
وإن كان هذا التطرف في التصورات، وهذا التوغل في الدقائق قد أفاد التشريع بعدد وفير من الأفكار والآراء، فانهما مع ذلك قد أساءا إلى الروح القانونية. ذلك أن هذه الروح تمج التدني إلى صغائر المسائل كما تمج الدقة التي تتطلبها الرياضيات. فمما يثقل على القانوني، أن يرى المؤلفين يسترسلون في عمليات حسابية معقدة
ويلاحظ أن المتأخرين قد وقعوا في محظور آخر، وهو التراشق بالأدلة اللفظية البحتة، والاعتماد في الاستدلال على المنطق المجرد
الروح العامة للفقه الإسلامي - يظهر لنا أن هناك نزعات ثلاثا تسيطر على التشريع الإسلامي
(1)
أما الأولى فهي النزعة الفردية. وقد يذهب البعض إلى أن هناك نصوصا كثيرة ترمي إلى حماية مصالح الجماعة. على أن هذه النصوص لا تنهض دليلا على أن النزعة الفردية ليست متغلبة ذلك أن التشريع الإسلامي اصطبغ في الأصل بصبغة دينية.
فهو يرمي بطبيعته إلى توفير السعادة على الفرد. والفرد - مهما حاول أنصار الاشتراكية في عهدنا هذا - سيبقى دائما أبداً هو الغاية التي يسعى إليها كل تشريع، وإذا غلبنا في بعض الأحيان مصلحة الجماعة فليس ذلك في الواقع إلا لكونها تتضمن في نفس الوقت مصلحة الفرد.
(2)
أما النزعة الثانية فهي السعي وراء العدالة المطلقة عن المساواة. وقد ظهرت هذه النزعة في نظرية الالتزامات في صورة المساواة بين المتعاقدين. على أن الفقهاء قد توغلوا في هذا الاتجاه إلى أقصى حدوده، ومن آثار هذه النزعة نظرية الربا
(3)
والنزعة الثالثة ترمي إلى الابتعاد عن كل ما من شأنه خلق القلق أو المنازعات في المعاملات. لذلك هم ينفرون من الغرر على كافة صوره. وقد توسعوا في بيان أحكام الجهالة الفاحشة واليسيرة. وذلك كله اتقاء للمنازعات. وسنرى أن هذه النزعة أيضاً قد ذهبت بهم بعيدا.
وأخيرا نقول كلمة عما وضع في القرن التاسع عشر الميلادي من التقنينات في التشريع الإسلامي
أما (المجلة العدلية) فقد قام بوضعها في آخر عهد الدولة العثمانية فريق من الفقهاء. وقد جعلوا منها مجموعة نصوص أوردها تحت أرقام متسلسلة. على أنهم لم يحاولوا قط إخضاع المسائل لقواعد عامة تكون هي موضوع المواد. فالمواد جاءت بالمسائل على أنها مسائل. وإن قليلا من المواد جاءت بتعاريف، منقولة هي كذلك عن الكتب الفقهية
وقام بعد ذلك في مصر (قدري باشا)، فوضع كتاباً سماه (مرشد الحيران) ذكر به مجموعة من الأحكام الشرعية على نسق القوانين المصرية. على أن محاولته وضع نظرية للالتزامات لم تفلح، فاكتفى بذكر طرق انقضاء الالتزامات وبعض أوصافها، وإن المواد التي وردت بها هذه الأحكام لا تخلو مع ذلك من الأغلاط. أما نظرية العقد كما أوردها فهي في الواقع نظرية عقد البيع
القانون المقارن - أما وقد بينا منهاج بحثنا في التشريع الإسلامي، نتساءل هنا هل يجدر بنا بعد الوصول إلى تعرف حقيقة هذا التشريع الرجوع إلى غيره من التشريعات لمقارنته بها
قد يبدو هذا ضروريا في زمن يكاد لا يخلو مؤلف فيه من مقارنة الشرائع. ولكنا رأينا الإعراض عن هذا الاتجاه، لنتمكن من توجيه جميع جهودنا نحو بناء هيكل التشريع الإسلامي في موضوع الالتزامات، حتى إذا ما تم هذا البناء، نكون قد مهدنا لمن يهمه ذلك، أن يقوم بدراسته المقارنة على أسس متينة
وهذا كله لا ينفي أننا في الواقع قد رجعنا إلى أكثر من تشريع واحد في موضوع دراستنا هذه. فأنا لم نخط سطرا واحدا إلا بعد إعمال الفكر في مختلف التشريعات، ليصح فهمنا، ووضعنا للمسألة على وجهها المطلق. فالمقارنة قد تمت بالفعل، ولو أن القارئ لا يقرؤها في الغالب قراءة العين
ونلاحظ هنا أنه من السخف محاولة الوصول عن طريق مقارنة الشرائع إلى إصدار الأحكام التقويمية على هذه الشرائع. فان التشريع كما قلنا ظاهرة من الظواهر الاجتماعية مقيد ككل ظاهرة بظروف الزمان والمكان، ويخضع كذلك لمنطقه هو نفسه، وإذا كان يجوز للغريب عن العلوم القانونية أن يدهش لغرابة بعض الأحكام، ففقيه النفس يرى فيها على العكس دليلاً جديداً على أن العقل البشري قد جاهد وناضل في مختلف البيئات في سبيل الوصول إلى (الحقيقة القانونية)
مقارنة المذاهب - وقد استبعدنا كذلك مقارنة المذاهب واكتفينا مؤقتا بدراسة مذهب (أبي حنيفة)
ذلك أنه قد تبين لنا أن الفقه الحنفي يمثل التشريع الإسلامي في أولى صوره وأنقاها، ولا نرى مجاراة ما هو شائع من أن المذهب الحنفي هو أقرب المذاهب إلى التشريعات الحديثة، فهو أبعدها عنها وإن كان في مسائل العبادات يبدو أكثرهم تسامحا من غيره
أما التقسيم المشهور للمذاهب، ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، فهو أيضاً تقسيم لا نرى له معنى. فان جميع المذاهب في الواقع تلجأ إلى الاستدلال العقلي. سواء منها المالكية والشافعية والحنبلية. فمن المعروف أن نظرية (المصالح المرسلة) عند المالكية، و (الاستصحاب) عند الشافعية، تؤديان ما يؤدي إليه (الاستحسان) عند الحنفية. وهذا التقسيم لا يفيد سوى أن الفقه الإسلامي قد انتابه ما انتاب غيره من التشريعات. ففيها جميعها يتجاذب المفسرين دائما تياران، تيار التوسع، وتيار التضييق في التفسير.
ونلاحظ أن في موضوع الالتزامات قد راعى فقهاء المذاهب غير الحنفية احتياجات الحياة العملية أكثر مما صنعه فقهاء الحنفية. وذلك على رغم أن الأولين يتمسكون بالأحاديث في أكثر المسائل خلافا للأخيرين. ويبدو لنا أن فقهاء الحنفية قد اجتهدوا في جعل بنائهم التشريعي محكما، ففاتهم شيء من المرونة. أما الفقه المالكي فهو ظاهر الأخذ بما يتطلبه العمل من القواعد المعقولة. أما الفقه الشافعي فقد بقى مترددا بين النزعتين. بينما الفقه الحنبلي قد اكتفى بتخير الآراء من مختلف المذاهب، ولم يظهر عليه أي طابع خاص. وفقه الشيعة يقرب كثيرا من فقه الشافعية
يتضح مما تقدم أنه من المفيد إن لم يكن من الضروري إفراد الفقه الحنفي بدراسة خاصة. وفي الواقع أن الصناعة مختلفة فيه عنها في المذاهب الأخرى. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن هناك تشريعا مالكيا، وتشريعا شافعيا، وتشريعا حنبليا كذلك
ونذكر هنا أنه قد حاول بعض الفقهاء في هذه المذاهب الارتقاء إلى المبادئ العامة، ومنهم (القرافي) في الفقه المالكي، و (العز بن عبد السلام) في الفقه الشافعي، و (ابن رجب) في الفقه الحنبلي، وفي الفقه المالكي نوع من المؤلفات وردت بها أحكام المحاكم، وقد سميت (بالعمليات)
ونذكر أخيرا أنه قد اكتشف المستشرق (جريفيني) كتابًا في فقه الشيعة الزيدية، قال عنه إنه أقدم ما وجد من كتب الفقه الإسلامي
وقد اهتم بعض الفقهاء منذ العصور الأولى، بإيراد أحكام المذاهب المختلفة مجتمعة، وهو ما يسمونه بعلم (الخلافيات). نذكر منهم (الطبري) و (الشعراني)؛ على أن هذا العلم لا يفيد في دراسة موضوعية للنصوص، ذلك أنهم يوردون الأحكام، كلاً منها بجانب الآخر، منتزعة من مذاهبها، والمسألة إذا انتزعت هكذا فقدت الكثير من قيمتها، وقد حاول (الشعراني) التقريب بين مختلف المذاهب، على أساس من الصوفية لا يهمنا
ومما تقضي به الطريقة التي نقول بها الاستعانة بكتب الطبقات، وتاريخ القضاة، والتاريخ العام لتتبع التطور التاريخي للتشريع، وتقضي كذلك بالرجوع إلى ما وصلنا إليه من الوثائق عما جرى عليه العمل بالفعل، من قواعد التشريع الإسلامي، كالأوراق البردية، وما قد يرد في كتب الآداب العامة من النصوص القانونية
(انتهى)
شفيق شحاتة
من زوايا الشباب
// لَمْياءُ إن سالت يراعةُ شاعرٍ
…
يشكو الغرام تسيل فيكِ جروحي
شرحُ الصبابة في الوجوه فطالعي
…
في ناظريَّ ووجنتيَّ شروحي
لم يبقَ لي فكر لنظم قصيدةٍ
…
إلاَّ موشّح دمعيَ المسفوح
أفقدتني عقلي فقلتُ أردّه
…
بالبعدِ عنكِ فكدتُ أفقدُ روحي
الشاعر القروي
عيني عليك
يا نجمةً في سماء الحسن طالعة
…
عيني عليكِ ولكن أين منكِ يدي؟!
إحدى يديَّ إلى علياكِ أرفعها
…
مستعطفاً ويدي الأخرى على كبدي
أليس تشجيكِ شكوى شاعرٍ ملأت
…
آهاته الأرض وامتدَّت إلى الجَلَد
أما تهيجكِ أنَّاتٌ يرجّعها
…
مستوحشاً وبشير الصلح لم يفدِ
هذا المحبُّ وهذا وصف حالته
…
يُجْنَى عليه ولا يجني على أحد
لم تُبقِ منه عيون الغانيات سوى
…
شيء من الروح في شيء من الجسدِ
فرحات
من طرائف الشعر المهاجر
كبد من تراب
تمر الليالي كمرَّ السحابْ
وتمضي الأماني كومض البروقْ
فحتَّامَ يغمر هدا الضبابْ
حواشي نفسي فلا تبصرْ
وتبحث عنك فلا تعثرُ
تراها أضاعت إليكِ الطريقْ
وكل جمالٍ عيوني تراه
ولحنٍ شجيٍّ بسمعي استقرْ
وكلُّ عبيرٍ يفوحُ شِذاهْ
وكل نسيم عليل بليلْ
يحدث عنك وما من سبيلْ
إليكِ وقد طال هذا السفَرْ
حنينٌ وشوقٌ وحبٌّ دفين
تُكابُده كبدٌ من ترابْ
فإِن يكُ في الأرض ماءٌ وطين
يحولُ ويفصلُ ما بيننا
وكنت اتخذتِ السُّهى موطناً
فيا ربِّ عّجل بيوم الذهابْ
م. معلوف
هي الدنيا
عادت إلى الأشجار أوراقها
…
وعادت الدنيا تثير الشجون
تذكّر المسكين وادي الحمى
…
ونام بالأحلام تحت الغصون
مرّي عليه اليوم ريح الصبا
…
وأيقظيه من سبات الجنون
تحرشي بالورق
…
وأَسمعيه الحفيف
ردي إليه الرمق
…
من قبل يأتي الخريف
يوم تمرّين على نائم
…
أحلامه قد بددتها المنون
قالوا ربيع قلت أين الصبا
…
أين الفراشات وأين الطيور؟
أيام أعدو خلفها حافياً
…
وكيفهما في الحقل دارت أدور
طائرة لكنني مثلها
…
من فرحي ما بين تلك الزهور
وكل ما في الوجود
…
لنا حلال مباح
لا عاذل لا حسود
…
لا غُرْبةٌ لا انتزاح
هذا ربيع أعطني مثله
…
وخذ إذا ما شئت كل الدهور
(الولايات المتحدة)
رشيد أيوب
القصص
من الأدب الإيطالي
الوسيط
للقصصي الإيطالي (بوكاشيو)
بقلم محمد عبد اللطيف حسن
كان في فلورنسا منذ قريب سيدة إيطالية حسناء تدعى بريتولا، وقد اشتهرت هذه السيدة بين أهل بلدتها بمكرها ودهائها وسعة حيلتها، وكان ذكاؤها وفطنتها مثار دهشتهم، وموضع إعجابهم. ومما يؤسف له أنها كانت متزوجة من تاجر غني لا يفهم الحياة إلا من ناحيتها المادية، ولا يهتم بشيء قدر اهتمامه بما يجنيه من ربح ومنفعة من وراء تجارته! أما حاله مع زوجته فلم تكن حال الزوج الموافق المهتم! وهذا ما دعاها إلى النفور منه والميل غلى غيره
وقد أسعدها الحظ حينئذ برؤية شاب جميل كان دائم المرور أمام منزلها فأحبته حباً جماً وأصبح لا يهنأ لها بال أو يسعد لها حال ما لم تره مرة في كل يوم على الأقل!! وكان هذا الشاب - واسمه تنكريد - يجهل في مبدأ الأمر تعقلها به، وعنايتها بأمره، فلم يلتفت إليها ولم يهتم بها
وبالرغم من أن تجاهله لها كان يضايقها ويكدر عليها صفوها، فإنها كانت حريصة فلم تحاول الاتصال به عن طريق الاستفسار عنه أو إرساله الرسائل إليه خشية أن يلحظ أحد علاقتها به أو يكتشف سر حبها له؛ وهداها تفكيرها آخر الأمر إلى أن تلفت نظره إليها وتجتذب قلبه نحوها عن طريق قسيس ورع كان من أخلص رفقائه وأكثرهم له وفاء ومحبة
وبعد أن اختمرت هذه الفكرة في رأسها ذهبت إلى الكنيسة التي يقيم بها هذا القسيس وابتدرته بقولها:
- لقد جئت إليك يا سيدي أطلب معونتك في أمر مهم سأشرحه لك. ولعلك تذكر أنني أخبرتك في مرة سابقة عن أقاربي وزوجي الذي يحبني أكثر من حبه لحياته، والذي لم
يتأخر في يوم من الأيام عن تحقيق ما أطلبه منه!! ولهذا أحببته أنا الأخرى حبا شديدا وأصبحت لا أطيق الفراق عنه أو أستطيع الحياة بدونه!! أما ما جئت إليك اليوم من أجله فهو أن هنالك شابا يدعى تنكريد، وهو كما علمت من بعض الناس صديق حميم لك، اعتاد أن يمر من أمام منزلي كل يوم، وفي كل مرة يمر فيها أراه يرمقني بنظراته التي تدل على شدة حبه لي، وكثرة هيامه بي. وقلما يحول بصره عني طيلة الوقت الذي أكون فيه مطلة من نافذة غرفتي. فاضطر إلى مغادرة النافذة أو إغلاقها في وجهه خشية أن يتقول علي الناس بما يشين سمعتي أو يسيء إلى شرفي. وليس ببعيد يا سيدي أن يكون تنكريد هذا قد تعقب خطاي ورآني وأنا أدخل هذه الكنيسة، أو من المحتمل أن يكون الآن في انتظاري خارجها! وأصدقك القول يا سيدي أن هذا الأمر قد أصبح يضايقني أكبر المضايقة، ويؤلمني أشد الألم. بل لقد بلغ الأمر بي إلى حد أنني أصبحت أفضل الموت على أن أكون مضغة في أفواه الناس!
وبعد أن استرحت برهة قصيرة تابعت حديثها فقالت:
- وكثيرا ما فكرت يا سيدي في أن أحيط أخوتي أو زوجي علما بهذا الموضوع الشائن، ولكني لا ألبث في كل مرة أن أحجم عن ذلك حينما أتذكر أن الرجال غالبا ما ينهون مثل هذه الأمور بالضرب المؤلم الذي قد يفضي إلى الموت في كثير من الأحيان! وأخيرا استقر رأيي، حقنا للدماء وحسما للنزاع، على أن أطلب مساعدتك لسببين: الأول أن هذا الشخص صديقك فتستطيع من هذه الناحية أن تردعه بنفسك؛ والثاني أن من أهم واجبات القسيس الورع التقي إصلاح سيئات الناس وخطاياهم سواء أكانوا أصدقاء أم غرباء. وأنا أتوسل إليك يا سيدي أن تنصح صديقك هذا بالكف عن مغازلتي والامتناع عن النظر إلي. وإذا كان لابد له من هذه المغازلة فهناك كما أعلم سيدات كثيرات غيري يتمنين من صميم أفئدتهن أن يكن عشيقات وفيات له!!
ولما انتهت بريتولا من بث شكواها نكست رأسها كما لو كانت توشك أن تبكي من شدة الحزن والتأثر!!
ولم يشك القسيس الساذج في شيء مما قالته، بل أخذ عليه العكس يمتدح خصالها الطيبة ويثني على حسن تصرفها ورجاحة عقلها!! ووعدها أخيرا بتحقيق رجائها وإجابة ملتمسها.
وقبل أن تغادر بريتولا الكنيسة قالت للقسيس الطيب القلب:
- ولا تنس يا سيدي أن تخبر تنكريد إذا دفعته الجرأة إلى إنكار شيء مما قلته لك، بأنني قد أتيت إليك بنفسي واعترفت أمامك بكل شيء. . .
وفي اليوم التالي أرسل القسيس في طلب صديقه تنكريد. ثم انتحى به جانبا وأخذ يلومه بلهجة هادئة، وعبارة متزنة، على تصرفه الشائن مع بريتولا. . .
ودهش تنكريد بطبيعة الحال لهذا الاتهام الذي لم يخطر على باله، لأنه، كما قلنا، لم يرفع بصره إلى بريتولا في مرة من المرار التي كان يمر فيها أمام منزلها؛ وبالرغم من أنه نفى عن نفسه هذه التهمة بشدة، فان صديقه القسيس لم يصدق ذلك وقال:
- لا تتظاهر بالدهشة يا عزيزي من هذا الأمر، ولا تحاول أن تنكر هذه التهمة لأنني سمعتها من شفتي بريتولا نفسها. . .
وبعد أن سكت برهة قال:
- ولعلك تعلم يا تنكريد أن هذا السلوك الشائن وذلك التصرف السيئ لا يليقان برجل فاضل مثلك، وإني أنصحك نصح الصديق المخلص أن تدع هذه السيدة الفاضلة تعيش في هدوء وسلام مع زوجها الذي تحبه إلى حد العبادة! ولا تحاول أن تقلق راحتها أو تفسد حياتها مرة أخرى. . .
ولم يغب عن بال تنكريد غرض بريتولا من هذا الاتهام الكاذب. وقبل أن يغادر الكنيسة وعد صديقه ألا يعرض لبريتولا ولا أن يضايقها بعد ذلك. فاستراح القسيس لهذا الوعد وشكره على شهامته ونبل أخلاقه
وقصد تنكريد من فوره إلى منزل بريتولا. ولحسن حظه وجدها في انتظاره كالمعتاد في نافذة غرفتها
وما كادت بريتولا تراه وهو مقبل على منزلها حتى ابتسمت له ابتسامة خبيثة ماكرة، وتجلى البشر والسرور في قسمات وجهها، وحيته بهزة خفيفة من رأسها الجميل
وتأكد تنكريد الآن أنه لم يكن مخطئا في زعمه، فابتسم لها ابتسامة رقيقة عذبة ورد تحيتها بأحسن منها. . .
ومنذ هذا اليوم أخذ يصوب نظره إليها في كل مرة يمر فيها من أمام منزلها، فكان ذلك سببا في سرورها وغبطتها. . .
والظاهر أن بريتولا لم تكتف بهذا الفوز الباهر بل أرادت أن تتقدم في سبيل حبها خطوة أخرى. فذهبت إلى القسيس وألقت بنفسها بين قدميه، وأخذت تبكي بكاء مرا. فدهش القسيس وسألها عن سبب بكائها! فأجابته بريتولا دون أن تكف عيناها عن البكاء.
- إنني أبك يا سيدي صديقك الملعون الذي شكوته إليك من قبل
فقطب القسيس ما بين حاجبيه وسألها قائلا:
- ألا يزال هذا الرجل يضايقك؟
فأجابته بريتولا وهي تبكي:
- نعم. فمنذ أن شكوته إليك وهو لا يفتأ يضايقني بنظراته الوقحة، ويؤلمني بابتساماته السخيفة. وليس هذا فقط. بل أنه بعد أن كان يمر من منزلي مرة واحدة أو مرتين في اليوم أصبح يمر الآن ما لا يقل عن سبع مرات!!
وبعد أن نهنهت دموعها الجارية تابعت حديثها فقالت:
- وليت الأمر قد انتهى عند هذا الحد، فبالأمس أرسل إلى من قبله عجوزا لا أعرفها. وبعد أن عرفتها بنفسي أعطتني حقيبة جلدية نفيسة ومنديلا حريرا غالي الثمن، وقالت لي وهي تبتسم ابتسامة ذات معنى إنها مهداتان إليَّ من تنكريد! ولا أكتمك يا سيدي أنني غضبت لذلك غضبا شديدا وكنت على وشك أن أطردها هي وهدية تنكريد خارج منزلي، لولا أنني خشيت أن تحتفظ بالحقيبة والمنديل لنفسها دون أن تخبره برفض هديته! ففضلت ان آخذهما منها! وقد رأيت من الواجب أن أحضر معي هذه الهدية لكي تردها إليه وتخبره بأنني لست في حاجة إلى شيء منه. وأرجو أخيرا أن تحذر صديقك هذا بأنه إذا لم يكف عن مضايقتي، فأنني سأضطر حتما إلى إخبار زوجي أو أخوتي بكل شيء مهما كانت النتائج التي تترتب على ذلك قالت ذلك وقدمت الحقيبة والمنديل للقسيس وهي تتظاهر بالحزن والغضب لإهانة تنكريد إياها!!
وظن القسيس لسذاجته وسلامة صدره أن ما قالته بريتولا قد حدث بالفعل، فغضب لذلك غضبا شديدا، وقال لها بعد أن فكر برهة:
إنني لا أستغرب يا سيدتي شدة حزنك لهذا الأمر، ولست ألومك بالطبع على شيء مما حدث. بل إنني على العكس أشكرك على اتباعك نصيحتي، وعملك بمشورتي. ومع أنني لمت تنكريد عندما زارني لأول مرة، فانه على ما يظهر لم يرعو عن غيه، ولم يرتدع عن ضلاله، ولهذا عولت على أن أوبخه توبيخا شديدا على هذا السلوك المعيب. وأرجو يا سيدتي ألا تنقادي لعاطفتك فتخبري زوجك أو أخوتك بهذا الأمر، فان نتائجه السيئة لا تخفى بالطبع على سيدة عاقلة مثلك، بل اتركي كل شيء وأنا أتصرف فيه بعقلي وحكمتي.
وما كادت بريتولا تبرح الكنيسة حتى أرسل القسيس في طلب صديقه تنكريد مرة أخرى. فلما جاء قابله بوجه عابس وجبين مقطب. واستنتج تنكريد من ذلك أنه لابد وأن تحادث مع بريتولا فانتظر بفارغ صبر ما سيقوله له. ولم يطل انتظاره طويلا إذ انهال عليه القسيس بوابل من الشتائم واللعنات بعد أن أعاد على مسامعه كل ما ذكرته بريتولا له.
وبالرغم من أن تنكريد أنكر بشدة إرساله الحقيبة والمنديل إلى بريتولا، إلا أن القسيس لم يصدق قوله، بل اشتدت حدته وازداد غضبه عن ذي قبل ثم قال:
- كيف تنكر ذلك أيها الشرير المنافق مع وجود دليل المادي على ارتكاب فعلتك؟
ثم نهض من مقعده، وأحضر الحقيبة والمنديل وناولهما إياه ثم قال:
- أليس في هذا الكفاية؟ فشعر تنكريد - مع براءته - بالخجل لوجود ذلك الدليل القاطع ولما لم يجد بدا من الاعتراف بهذه التهمة المنسوبة إليه قال:
- نعم. لقد أرسلت إلى بريتولا هذه الهدية لأنني كنت أحبها كغيرها من النساء، ولكني بعد أن تأكدت الآن أنها تختلف عنهن كل الاختلاف، فإني أعدك بشرفي ألا أرتكب ما يسيء سمعتها أو يجرح شعورها. وثق يا سيدي أنك لن تسمع منها بعد اليوم شكوى
ولم ينس تنكريد أن يأخذ معه الحقيبة والمنديل قبل أن يغادر الكنيسة بعد أن اقتنع تماما من أن بريتولا تحبه حبا جما، وتهيم به هياما شديدا، وأنها ما فعلت ذلك إلا بدافع هذا الحب والهيام. . .
وقصد تنكريد من فوره إلى منزل بريتولا حيث كانت لحسن الحظ في انتظاره كالمعتاد، وما كاد صاحبنا يلمحها من بعيد حتى أخرج من تحت إبطه الحقيبة والمنديل وأراهما إياها. فسرت بريتولا سرورا شديدا لأنها عرفت حينئذ أن خطتها المرسومة سائرة في طريق
التقدم.
ولم يبق إلا غياب الزوج عن منزله لتكلل خيانة بريتولا بالنجاح التام. ولم يطل انتظارها طويلا إذ اضطر الزوج بعد بضعة أيام من وقوع الحادث السابق إلى السفر إلى جنوا، للقيام بإحدى المشاغل الضرورية التي تتطلبها طبيعة عمله
وذهبت بريتولا إلى القسيس مرة ثالثة عقب سفر زوجها مباشرة وقالت له وهي تبكي:
- لقد سبق أن قلت لك يا سيدي بصراحة أنه لا يمكنني أن أحتمل مضايقة تنكريد أكثر من ذلك. ولما كنت قد وعدتك بالا أقدم على عمل شيء قبل مشورتك، فقد جئت إليك اليوم لأشكو لك من صديقك تنكريد. . .
فذهل القسيس حينما سمع منها ذلك وسألها قائلا:
- ألا يزال هذا الملعون يضايقك؟؟ فقال له: بريتولا وهي تتظاهر بالحدة والغضب:
- نعم. ففي مساء الليلة الماضية دخل حديقة منزلي بعد أن علم بسفر زوجي إلى جنوا - ولست أدري كيف - وتسلق إحدى الأشجار إلى نافذة غرفتي، والتي كانت لسوء حظي مفتوحة في ذلك الوقت. وكنت على وشك أن أصرخ عندما رأيته في غرفتي لولا أنه توسل إلي ألا أفعل ذلك، ورجاني بأن أكون رحيمة به فلا أرتكب ما يلفت أنظار الناس إليه. وأقول لك الحق يا سيدي إنني خضعت لتوسلاته ولم أفعل شيئاً أكثر من أنني طردته من نفس النافذة التي جاء منها ثم أغلقتها وراءه بشدة. . .
وبعد أن سكتت برهة تابعت حديثها فقالت:
- والآن أرجو أن تحكم يا سيدي بنفسك في هذا الأمر وتخبرني هل في إمكاني أن أحتمل مضايقة تنكريد أكثر من ذلك؟؟ أو ليس من الواجب أن أخبر أخوتي بما فعله حتى يردوه إلى صوابه، ويعيدوا إليه ما عزب من عقله؟؟
واحمر وجه القسيس حينما سمع ذلك وفار دم الحنق والغضب حارا في عروقه وقال:
- وهل أنت متأكدة من أن الذي دخل غرفتك إنما هو تنكريد دون غيره؟؟
فأجابته بريتولا وهي لا تزال تبكي:
- وهل يمكنني يا سيدي أن أخطئ في معرفته بعد كل ذلك؟؟ فأنا واثقة تمام الثقة من أن الشخص الذي دخل غرفتي إنما هو تنكريد نفسه. وإذا تجاسر وأنكر ذلك أمامك - وهذا ما
سيفعله بالطبع - فأرجو منك ألا تصدقه. . .
وبعد أن مرت بين الاثنين فترة سكوت قصيرة قطعها القسيس بقوله:
- إن ما فعلته يا سيدتي إنما هو الصواب بعينه؛ وقد قمت بواجبك خير قيام. ولست أنكر أن عمل تنكريد في منتهى الخسة والدناءة، ولكني مع ذلك استحلفك بالله أن تتركي هذا الأمر لي مرة أخرى دون أن تخبري أخوتك بشيء مما حدث؛ وسترين بعد ذلك إذا كان في إمكاني أن أقوم اعوجاج تنكريد. فإذا أفلحت كان بها، وإذا فشلت فسأترك لك الخيار في أن تتصرفي في هذا الأمر كما تشتهين. . .
وقبل أن تغادر بريتولا الكنيسة قالت للقسيس وهو يودعها:
- تأكد يا سيدي بأنني لن أضايقك بهذه المسألة بعد الآن. وقد استقرر رأيي على ألا أخبرك بشيء في هذا الموضوع مطلقا
وما كادت بريتولا تبرح الكنيسة حتى استدعى القسيس صديه تنكريد بعد أن استقر رأيه على أن يزجره زجرا شديدا وأن يعنفه تعنيفا قاسيا. ولما حضر قابله بوجه مقطب، ومظهر قاس، ثم انتحى به ناحية من الكنيسة وأخذ ينهال عليه بالشتائم واللعنات التي كانت تزداد حدتها شيئاً فشيئاً، بينما جلس الآخر في مكانه هادئا ساكنا كما لو كانت هذه الشتائم واللعنات موجهة إلى غيره! وأخيرا تضايق تنكريد من تأنيب القسيس وقال:
- ما الذي فعلته يا صحابي حتى استحق منك كل هذه الشتائم؟
فازداد غضب القسيس لهذا الإنكار وضحك ضحكة ساخرة ثم قال:
- ألا تدري ماذا فعلت أيها الأحمق؟ إنك تتكلم كما لو كان هذا الأمر لا يعنيك. . .
فتظاهر تنكريد بالدهشة وقاطعه بقوله:
- عن أي أمر تتحدث يا مولاي؟؟
فحملق القسيس في وجهه بشدة وقال:
- أين كنت في مساء الليلة الماضية؟؟
فأجابه تنكريد بهدوئه وسكونه المعتاد:
- لست أدري بالضبط يا سيدي!!
فازدادت ثورة القسيس ثم قال:
- سأخبرك أين كنت أيها المخادع الشرير!!
وبعد أن استجمع شتات تفكيره تابع حديثه فقال:
- لقد دخلت حديقة بريتولا في مساء الليلة الماضية ثم تسلقت إحدى الأشجار إلى غرفتها، وكاد أمرك يفتضح لولا أنها أشفقت عليك ورأفت بك ولم تفعل شيئاً أكثر من أنها طردتك من نفس الطريق الذي جئت منه!!
ولم يغب عن بال تنكريد ماذا تقصده بريتولا من هذا الكلام الذي قالته للقسيس، وأخذ يفكر فيما يجب عليه أن يفعله في مساء تلك الليلة، ولكن القسيس ما لبث أن قطع عليه حبل تأملاته فقال:
- إنك تظن أيها المنافق أن في إمكانك أن تحمل هذه السيدة الفاضلة على حبك. . . ولكن لا! ولست أغالي إذا قلت لك انك أصبحت الآن أبغض الناس إليها، وأثقلهم على قلبها! وليس هذا فقط، بل أنك أمسيت في نظرها كالطاعون الذي لا يترك إنسانا إلا بعد أن يفتك به! حقا إنك لم تستمع لنصحي ولم تأبه لإرشادي، ولكني أؤكد لك بأن الأمر قد خرج الآن من يدي. فإذا لم ترتدع، فستضطر بريتولا إلى إخبار اخوتها أو زوجها بكل ما فعلته معها، وفي هذا كما تعلم ويل وعذاب لك. . .
وبعد أن هدأ تنكريد ثورة القسيس بوعوده وتوسلاته غادر الكنيسة وهو على أشد ما يكون من الفرح والسرور وفي المساء ذهب إلى منزل بريتولا ثم دخل الحديقة وتسلق الشجرة التي تؤدي إلى نافذة غرفتها، والتي تركتها مفتوحة لهذا الغرض. ولما دخل الغرفة قابلته حبيبته يشغف ظاهر وسرور عظيم، وتعانق الاثنان عناقا حارا وهما يشكران هذا القسيس الذي كان واسطة التعارف بينهما!
ومن بعد هذا اليوم أصبح العاشقان الفاسقان يتقابلان دون أن يحتاجا إلى وساطة هذا القسيس الطيب القلب!!
محمد عبد اللطيف حسن
البريد الأدبي
كتاب عن البحر الأبيض
أضحى البحر الأبيض مسرحا للمنافسات الدولية المزعجة، وأضحت مشاكله من أعقد المشاكل الدولية وأخطرها؛ وقد ظهر أخيرا بالإنكليزية كتاب عن هذا البحر ومشاكله السياسة والعسكرية الكبرى بعنوان (البحر الخطر) بقلم الكاتب والصحفي الإنكليزي الكبير جورج سلوكومب؛ ويقسم الكاتب كتابه إلى خمسة أقسام يتحدث فيها عن المسائل السياسية والدولية والبحرية والعسكرية، ثم عن المشاكل والاحتمالات الغامضة التي تثيرها ظروف هذا البحر الجغرافية من جبل طارق إلى جزائر الدوديكانيز؛ ويمهد لمضوعه بنبذة تاريخية عن هذا البحر، والأمم التي قامت على ضفافه منذ غابر العصور، ثم يتحدث عن مركز إنكلترا في جبل طارق، وكونها تفيض على مفتاح البحر من غربه، ويقول إن سلامة جبل طارق وسلامة السيادة البريطانية هنالك تتوقفان على علاقة إنكلترا بالدولة التي تسيطر على قلعة سبتة المراكشية، وعلى استمرار حالة الحياد القائمة في ثغر طنجة.
وينوه المؤلف بموقف إيطاليا الحالي، ويقول: إنه أول موقف من نوعه تنازع فيه دولة عظمى سيادة بريطانية في هذا البحر منذ عصر نابوليون، ولأول مرة قد افتتحت قناة السويس، وتحولت تجارة الغرب إلى الشرق عن طريقها، وغدا البحر الأبيض شريانا حيويا للإمبراطورية البريطانية، تنهض دولة واقعة في منتصف الطريق، وتلقى إشارات لا ريب فيها بأنها تستطيع أن تقطع المواصلة بين جبل طارق وقناة السويس؛ ويقرن المؤلف ذلك بإحصاءات دقيقة عن القوات البحرية والعسكرية التي تملكها دول البحر الأبيض: فرنسا وإيطاليا ويوجوسلافيا وبلاد البلقان وتركيا.
ويعطف المؤلف بعد ذلك على مركز إيطاليا في ألبانيا وعلى مسألة العلائق المصرية الإنكليزية، وعلى مركز الدردنيل وموقف روسيا، ثم على نهضة البلاد العربية التي أخذت تبدو بكل شكل واضح؛ ثم يتحدث عن الحرب الأهلية الإسبانية، ويبين مكامن الخطر فيها على السلام الأوربي، سواء نجحت الثورة القائمة فيها أم أخفقت
ويشعر القارئ عند قراءة هذه الفصول القوية الواضحة التي يستعرض فيها المستر سلوكوب مشاكل البحر الأبيض، أن الخطر يجتم هنالك في كل ناحية من نواحيه، وإن هذا
العامل الذي لم يحسب حسابه من قبل في السياسة الأوربية قبل أن تستكمل إيطاليا تسلحها وأهباتها العسكرية يغدو اليوم من أخطر وأهم العوامل التي يتوقف عليها سير السلام الأوربي وتتوقف عليها سلامة الإمبراطورية البرطانية.
عبقرية فنان مسلم
نوهت الصحف الفرنسية أخيرا بعبقرية فنان جزائري مسلم يدعى السيد محمد راسم، يعرض رسومه الآن في معرضه الخاص بباريس في شارع فوبور سانت أورنوريه. ومما قالته جريدة الايكودي باري في ذلك: إن المرء ليشعر بعاطفة من الهدوء والنبل والغبطة حينما يتأمل رسوم محمد راسم؛ وإن أولئك الذين يزعمون أن الزخرفة الإسلامية متماثلة يرون ما يبهرهم في تنوع النماذج التي يقدمها وفي طرافتها، وفي ذلك المزيج المدهش الذي يتجلى فيها سواء من حيث التناسق أو اللون أو الأسلوب؛ ومنه نماذج فارسية ومغربية ومصرية تنم كلها عما يحتوه الفن الإسلامي من فن التوازن والتناسق وقوة الإعراب والتأثير
ويعرض محمد راسم أيضاً صورا صغيرة بعضها يمثل مناظر تاريخية مشتقة من التاريخ الإسلامي، وبعضها يمثل مناظر عربية؛ كما أنه يعرض قطعا فنية من الخزف البديع تمثل مناظر مدهشة من وقائع القرصان الجزائريين في القرن السابع عشر، ومناظر الفرسان المسلمين
والواقع أن الفن العربي لم يفقد شيئاً من طرافته ولا أوضاعه التقليدية، وفي وسعه أن يعبر بكل قوة وبراعة عن مناظر عصرنا، وفي وسعه بنوع خاص أن يعبر دائما من تلك الأفكار والمناظر التي خلدها الشعر العربي وأذاعها في العالم بأسره
هذا قول الكاتب الفنان في الصحيفة الفرنسية، فما قول سادتنا المتفرنجين الذين ينكرون على الفن الإسلامي كل فضائله ومزاياه؟
جائزة نوبل للطب
من أنباء استكهلم (السويد) أن جائزة نوبل للطب والفسلجة لسنة 1936 قد تقرر منحها للأستاذ السير هنري هالت ديل عضو المجمع الوطني للمباحث الطبية بلندن، والأستاذ
أوثوليفي النمسوي الأستاذ بكلية حراتس، وذلك لمباحثهما المتعلقة بالتأثيرات الكيماوية للمؤثرات العصبية.
والمعروف عن الأستاذ ليفي أنه أول من اكتشف أثر التفاعل الكيماوي في الاهتزاز العصبي، فإذا انطلقت الهزة إلى الأنسجة العصبية واستقرت في العضل نشأت عنها مادة كيمياوية في العصب النهائي، واستطاع العصب أن ينقل هزاته بواسطة هذه المادة.
وقد توسع السير هنري ديل في تطبيق هذه النظرية؛ وهو يقسم حسب مباحثه أعصاب الجسم إلى مجموعتين؛ فالمجموعة الأولى تفرز مادة كيماوية تسمى (الأدرينالين)، والمجموعة الثانية تفرز مادة تسمى (اكتلكولين)، وأهمية هذا التقسيم في أن هنالك مؤثرات معينة يمكن إحداثها في الأعضاء وفي هيكل الجسم بالحقن بمثل هذه الموارد وبمواد معينة تحدث أثرا يقلد في هزاته هزات الأعصاب الطبيعية
وجائزة نوبل للطب تبلغ نحو عشرة آلاف جنيه إنكليزي وستوزع مناصفة بين العالمين الكبيرين
شارل موراس محرر لاكسيون فرانسيز
قرأنا في الصحف الفرنسية الأخيرة نبأ اعتقال شارل موراس الزعيم والكاتب الملكي الشهير وزجه في سجن (سانتيه) ليقضي فيه عقوبتين حكم بهما عليه من جراء مقالات عنيفة كتبها في جريدة (لاكسيون فرانسيز) ضد بعض رجال الحكم؛ وشارل موراس كاتب وروائي من أعظم كُتاب فرنسا المعاصرين وصحفي من الطراز الأول، وقد اشتهر بنوع خاص بمقالاته في لاكسيون فرانسيز وما تمتاز به من تصوير عنيف وقوة نقدية لاذعة، وبلاغة ساحرة في نفس الوقت
وقد نشرت الصحف الفرنسية بهذه المناسبة بعض تفاصيل عن النظم المتبعة في تنفيذ أحكام الحبس التي يقضى بها في جرائم الرأي أو الجرائم السياسية، والتي عومل بها شارل موراس؛ وهي في الواقع نظم مريحة عادلة؛ فالكاتب المحكوم عليه يحجز في غرفة خاصة بها الأثاث الكافي، وله أن يستلم بريده الخاص من رسائل وكتب وصحف وغيرها كما أن له أن يستقبل زواره طبقا لقائمة يقدمها بذلك ويصادق عليها مدير البوليس؛ وله أن يطلب على نفقته ما شاء من ألوان الطعام إذا لم يوافقه طعام السجن، وأن يستبقي ملابسه العادية،
وأن يستحضر منها ما شاء، كما أن له أن يتريض داخل السجن طبقاً لنظام معين.
وهكذا يستطيع الكاتب المعتقل أن يزاول داخل السجن عمله العادي من قراءة وكتابة. ومن ثم فان شارل موراس سيكتب مقاله كل يوم وتنشره لاكسيون فرانسيز كالمعتاد. وتتحدث الصحف على اختلاف نزعاتها عن الكاتب السجين بعطف، ويشير البعض إلى أن شارل موراس قد يرشح خلال اعتقاله لعضوية الأكاديمية الفرنسية.
الكتب
1 -
في سنن الله الكونية
تأليف الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
1 -
النتائج السياسية للحرب العظمى
ترجمة الأستاذ محمد بدران
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
تفضل الأستاذ الغمراوي فأهدى إلي كتابه (في سنن الله الكونية) فرأيت وقد فرغت من قراءته أن أقدمه إلى قراء الرساله، ولكنني أحس أني كي أصف موضوع هذا الكتاب، وصفا صادقا، ولكي أقدره حق قدره في مثل هاتيك العجالة، ينبغي أن أتجاوزه إلى كلمة عن مؤلفه، وإن كنت أشعر أن ذلك سوف لا يرضيه.
يجمع الأستاذ بين خلتين قليل اجتماعهما لشخص: فهو من ناحية شديد الإخلاص لدينه مع التفقه فيه، ومداومة البحث في مسائله، حتى لكأنك منه حيال رجل يقصر على الأمور الدينية همه؛ وهو من ناحية أخرى رجل من رجال العلم المعروفين بالفطنة وسعة الاطلاع مع الدقة وحب البحث، ثم هو من الناحيتين يكاد يعطيك نموذجا صحيحا لتلك (الحلقة المفقودة) التي نتوق إلى وجودها لنصل بها ما بين الثقافتين العلمية والدينية
فإذا قلت لك بعد هذا أن الكتاب صورة من صاحبه فقد قربت موضوعه إلى ذهنك، واستطعت بعد أن أزيدك معرفة به
كان من حسن التوفيق أن انتدبت الجامعة ألازهرية الأستاذ الغمراوي فيمن انتدبت من الأساتذة، فهذا الكتاب (ثمرة تدريس علم سنن الله الكونية في السنة الأولى من قسم الوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين. وعلم سنن الله الكونية هو العلوم الطبيعية مطبقة على الدين)
بدأ الأستاذ هذا الكتاب بفصل ممتع بين فيه بيان خبرة ووثوق أن ليس ثمة أي تناقض بين حقائق العلم وحقائق الدين، وهو يؤيد دعواه بالحجة مستشهدا بآي الذكر الحكيم، فلا يسعك
إلا أن تسلم معه بأن (العلم قرآني بموضوعه) وأنه (قرآني بطريقته)، فقرآنية العلوم الطبيعية واضحة ملموسة فيما ورد في الكتاب الكريم من آيات التدبر والتفكر فيما خلق الله في السموات والأرض؛ وسبل العلم في طلب أسرار الفطرة أو في تفهم سنن الله في كونه هي السبل التي أمرَ القرآن باتباعها من حيث تمحيص الحقائق والاستناد إلى البراهين وتحكيم العقل. والاعتماد إلى جانب ذلك على المشاهدة.
راح الأستاذ بعد هذا يعرض المسائل العلمية التي يشتمل عليها كتابه، وهو فيها مقيد بمنهج دراسي خاص؛ وأحب أن أشير هنا إلى أني كنت احسبني قبل قراءتها حيال مسائل لا تهم كثيرا من يشتغل بالأدب، ولكني قرأتها في يسر واستمتاع وخرجت منها وقد كسبت من المعارف ما صرت أعتقد أنه لا غنى عنه لمن يطلب الثقافة. فالكتاب إذاً يستطيع أن يقرأه الإنسان على أنه كتاب عام لا كتاب مدرسي؛ وبهذه المناسبة يجدر بي أن أقرر أن الأستاذ قد توخى فيه سهولة العبارة وبساطة توجيه المسائل، وفي مثل هذا العمل لا ريب من العناء ما يعرفه كل من حاول أن يقرب إلى الأذهان موضوعات يعلم أنه يطرقها لأول مرة
هذا ولم يقف جهد الأستاذ المؤلف عند تبسيط المعلومات وحسن توجيهها، بل إنه تمشيا مع طريقة كتابه يقف عند المناسبات المختلفة ويشير إلى الآيات القرآنية التي تتصل بالموضوع فيعرضها في لباقة ووضوح مبينا لك مراميها وإعجازها في غير تكلف أو التواء، وتلك هي في الحقيقة حسنة الكتاب. وإذا كان لي أن آخذ على الأستاذ شيئاً، فذلك أنه مع مثل هذا الاستعداد وهذه المزايا، لا يخرج لنا كتابا واسعا يبسط فيه موضوع العلاقة بين العلم والدين، ذلك لأنه (إذا تم للإنسان هذا الجمع بين العلم والدين ثم ما يصح أن يسمى بعلم سنن الله الكونية، واستطاع الإنسان أن يدرس العلم بروح العبادة من غير أن يضحي بشيء من دقة العلم، وأن يدرس الدين ويطبقه بروح العلم من غير أن يضحي بشيء من عبادة الدين، وهنالك يتم للإنسان الاتحاد بين عقله وقلبه، وبين علمه ودينه، وهذا شيء ممكن تماما في الإسلام
- 2 -
يأتي بعد ذلك الكلام على الكتاب الثاني (النتائج السياسية للحرب العظمى). وهو كتاب ألفه بالإنجليزية الأستاذ رمزي ميور أستاذ التاريخ الحديث بجامعة منشستر سابقا، وترجمه إلى
العربية الأستاذ محمد بدران، وقدمته لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى الجمهور كحلقة من سلسلة معارفها العامة، تلك السلسلة المباركة التي أخرجت اللجنة عدة حلقات منها في نواحي المعرفة المختلفة من فلسفة وتربية وأدب وتاريخ وغيرها، والتي ستوالي اللجنة بعون الله إصدار بقية حلقاتها حتى تشمل جوانب النهضة العملية في مصر والعالم العربي.
أثرت الحرب العظمى تأثيراً عظيماً في مجرى تاريخ العالم وخلف ذلك الحادث من النتائج مالا تزال أوروبا حتى اليوم تخضع لمؤثراته. ولقد شمل أثر الحرب جميع نواحي الحياة من فكرية وفنية واقتصادية، ولكن أثرها في الناحية السياسية كان أبعد منه في غيرها، وعلى نوع هذا الأثر يتوقف مصير العالم بلا ريب في المستقبل القريب.
ولا نزاع في أن تتبع الأثر الذي أنتجته الحرب في العالم من أهم نواحي الثقافة العامة، ونحن من الوجهة السياسية على الخصوص لا نستطيع أن نفهم منشأ الحركات الدولية الحديثة، ولا أن نتبين مبادئها ومراميها دون أن نرجع في هذا كله إلى ما تمخضت عنه الحرب الكبرى. والكتاب الذي اضطلع بتعريبه الأستاذ بدران فأنجز مهمته على خير ما يرجى، كفيل بأن يعطيك فكرة واضحة قوية عما خلفته تلك الحرب (فهو خلاصة تاريخ العالم في دور من أدوار الانتقال لا يكاد يختلف عن الفوضى في شيء)، ومؤلفه أستاذ متضلع في التاريخ الحديث، ملم بتياراته واتجاهاتها، ولذا كان شديد التنبؤ لما أحدثته فيها الحرب، واضح الفكرة في تتبع الحوادث، حسن الأداء في عرضها، مما يجعلك تقرأ الكتاب في يسر ولذة، ومما يجعلك تغتبط أشد الاغتباط أن ترى مثل هذا الكتاب في متناول قراء العربية.
أما عن الترجمة، فلقد تجلت شخصية الأستاذ بدران فيها قوية متينة، فما تكاد تشع إلا كأنك تقرأ الأصل، فليس هناك غموض أو التواء في التعبير أو أية صعوبة في الأداء مما يصادفه المرء عادة في الكتب المترجمة؛ هذا إلى انتقاء دقيق للفظ العربي المطلوب مع الحرص على الإيجاز وإيراد المعنى في صورة واضحة. والحق أشهد أن الأستاذ بدران قد وفق في تعريبه إلى خير ما يطمع فيه المعرب المخلص النابه.
هنا ولقد ختم الأستاذ المعرب الكتاب بفصل من عنده هو (العالم بين يونيه سنة 1930 ويونيه سنة 1936، تكلم فيه عن النزاع بين الصين واليابان والمسألة الحبشية والحركة
النازية وحوادث البلقان والشرق الأدنى، وهو فصل ممتع حقا رأينا فيه الأستاذ بدران كمؤلف حريصاً على الإتقان والتفوق حرصه على دقته فيما عرب مع صعوبة تناول مثل هذا الموضوع المتشعب في مثل هذا الحيز الصغير، وإنك لتقرأ هذا الفصل الأخير من الكتاب فتحس كأنك قرأت كتاباً كاملاً وتعجب كيف استطاع الأستاذ أن يلم بأطراف موضوعه في مثل هذا الإتقان.
الخفيف
العالمِ المسرحي والسينمائي
الحروب الصليبية على ستار سينما رويال
لناقد (الرسالة) الفني
أنصف سيسل دي ميل الشرق في فلمه الأخير (الحروب الصليبية) في شخص صلاح الدين الأيوبي سلطان مصر، فدل بذلك على أن روحه روح فنان لم يتملكها التعصب ويحيد بها عن طريق الحق والواجب في تسجيل التاريخ على شريط السينما
فهو قد صور بطلنا الشرقي في الصورة المعروفة عنه من الشجاعة والنبل، صوره رجلا يأبى الوصول إلى أغراضه عن طريق الخسة والدناءة، ويترفع عن وسائل الغدر والخيانة، في حين أن الكثيرين من كتاب الغرب إذا ما عرضوا لشخصية شرقية مهما أيد التاريخ والحوادث عظمتها لم يتركوها دون مغمز، بل منهم من يخلق لها الحوادث المخزية ويروح يبذل جهده لإلصاقها بها، ويصور الشرق والجو الذي يحيط بالقصة في أشنع الصور وأشدها إلى النفس.
فإنصاف سيسيل دي ميل لصلاح الدين والشرق عمل جدير بالتقدير لاسيما وأنه صور الشرق في أوج عظمته عندما كانت الإمبراطورية المصرية في أقوى أيامها وبلاد الغرب في همجيتها ليس القراء في حاجة إلى أن نقدم لهم هذا المدير الفني العظيم، فهو أحد أركان النهضة السينمائية في أمريكا وأحد دعائمها، وله ماض حافل بالأفلام الهائلة الرائعة، ولكني إذا تحدث عنه لا يسعني إلا أن أشرح رأيه في السينما؛ فهو يرى أن السينما فن المجموعات وأنها لم تخلق لتعالج الموضوعات البسيطة أو الموضوعات الاجتماعية التي تعرض للإنسان في حياته الخاصة، وإنما خلقت لتعالج الموضوعات التي تشغل شعوب العالم والتي تتمثل فيها قوى الجماعة. فهي أليق ما تكون للروايات الاستعراضية أو الروايات التاريخية التي تتجلى فيها العظمة والقوة.
ولهذا كان دي ميل يعمد دائما إلى التاريخ يستلهمه مادة لقصصه السينمائية، ولا يختار من الوقائع والحوادث إلا ما يتلاءم مع العظمة والأبهة الكاملة وما يحتاج إلى مصروفات باهظة وأنت إذا تشهد أي فلم من أفلامه تعجب كيف استطاع هذا الإنسان أن يدير الفلم على هذه الصورة من الدقة وأن يخلق حول القصة الجو الصادق.
وهذا الرجل إذ يعمد إلى التاريخ لا يتقيد بالحوادث التاريخية إلا أنه يتصرف تصرفا معقولا ويحافظ أشد المحافظة على الجو التاريخي. ومهارته لا تقف عند حد خلق الجو التاريخي الصادق وإظهار العظمة والأبهة، بل تتعداه إلى اختيار القصة التي تساير التاريخ وتلازمه، كما تحوي كثيرا من المواقف التمثيلية البديعة.
وأفلام دي ميل تدل على أنه رجل يميل إلى ما له علاقة بحوادث المسيحية فهو أدار (بن هور)، (علامة الصليب) ثم (الحروب الصليبية) فهل لهذه النزعة علاقة بأنه يقلب إحدى حقائق التاريخ الثابتة، وهي أن الصليبيين لم يأخذوا عكا عنوة وإنما سلمت بعد اتفاق عقد بينهم وبين صلاح الدين؟ لا أظن. وإنما الموقف التمثيلي بعد حرب الدبابات التي أظهرها اقتضى ذلك فلم يحجم عن تجاهل هذه الحقيقة كعادته.
قلت إن موضوع الفلم بديع وقد أمكن أن يساير التاريخ إلى حد معقول، ولكن ذلك لم يمنع دي ميل من أن يخالف بعض الحقائق التاريخية، وستكون قصة الفلم موضع حديثنا في العدد القادم، وسوف نقارنها بالتاريخ كما نقارنها بقصة ايفانهو للكاتب الإنجليزي المعروف والتر سكوت التي تحدث فيها عن صلاح الدين وريكاردس والتي اقتبس منها دي ميل الموقف الذي يقطع فيه ريكاردس قطعة الحديد بسيفه ويقطع صلاح الدين كذلك قطعة الحرير بسيفه أيضاً
أما المجهود الفني الذي بذله دي ميل فهو هائل، فالمناظر في غاية الروعة ومعدات الجيش كاملة مما أكسب الفلم قسطا من الحقيقة. وهو قد أعطى صورة صادقة لهجمات الصليبيين على عكا ودفاع المسلمين عنها. فلقد جاء في كتاب (صلاح الدين الأيوبي وعصره) تأليف الأستاذ الكبير محمد فريد أو حديد وهو حجة في تاريخ المماليك في حديثه عن حصار عكا:
(وقد أبلى في ذلك الشأن بلاء حسنا شاب من صناع دمشق فانه أدخل من التحسين على صناعة النار ما جعلها تحرق آلات الحصار المنيعة التي كان الفرنج يطلونها بطلاء يمنع تعلق النار بها. وكان أشد الآلات على المدينة الدبابات، وهي أبراج عالية ذات طبقات يركبها الجنود وتسير على عجل وفي مقدمتها حديد قوي فتصطدم بالأسوار فتصدعها، ثم يعمل الجنود المجتمعون بها في الأسوار فيهدمونها.
وقد تمكن ذلك الشاب المجتهد من إحراقها باختراع سائل يرميه أولا في قدور على هذه
الدبابات ثم يقذف بعد ذلك النار فيلتهب ذلك السائل ولا يقاوم ناره شيء) أهـ
ورواد السينما يشهدون لسيسل دي ميل أنه أعطى صورة صادقة لكل ما ذكره الأستاذ فريد وأنا أعجب من دقة هذا المدير الفني في تصوير الحصار والهجوم هذا التصوير الصادق.
كذلك لا أنسى الموقعة التي قامت بين جيش ريكاردس وبين جيش صلاح الدين بعد أن دخل الصليبين عكا فقد كانت صورة جميلة لحرب الفروسية والشجاعة والأقدام، وقد تضاءلت أمام أعيننا الحروب الحديثة التي بدت قذرة أثيمة في وسائلها وأغراضها.
والتصوير دقيق والزوايا التي أخذت منها المناظر تدل على مهارة كبيرة، والشخصيات التي اختارها تطابق في كثير الشخصيات التاريخية، وما عرف عنها ولاسيما شخصية ريكادوس وصلاح الدين والراهب. ومن المواقف التمثيلية الرائعة موقف صلاح الدين أمام جميع الملوك المسيحيين وهم يقولون له (نحن ملوك عديدون) فيجيب بعظمة (وأنا ملك واحد).
أما ملابس صلاح الدين ففيها كثير من الأخطاء مما يدل على أن واضع النماذج لم يدرس الملابس الإسلامية، فقد ألبس صلاح الدين عباءة ملكية من القطيفة تشبه في كثير عباءة ملك فرنسا وهذا اللباس غريب عن مصر والشرق ولباس الرأس غريب كذلك، فصلاح الدين كان يلبس في غير الحرب العمامة دائما وهو لم يلبس العقال لأنه كردي لا عربي.
وعندما ظهر صلاح الدين في خيمته ومعه أسيرته أميرة نافار وزوجة ريكاردس شاهدنا فتاة تعزف على القيثارة وهذه القطعة الموسيقية رومانية وليست عربية والعرب والمصريون استعملوا من القطع الموسيقية العود والناي والمزهر (نوع من العود) وربما القانون، أما القيثارة فلم تكن أبداً بين القطع التي استعملوها.
ولقد اتخذ المسيحيون الصليب شعارا لهم فلم يقلدهم المسلمون في اتخاذ الهلال شعارا، فاتخاذ الهلال شعار إنما شاع في أيام الإمبراطورية التركية. وليس هنالك ما يمنع أن يضع صلاح الدين الهلال على رأسه ودرعه، ولكن ذلك ليس معناه أن الهلال كان شعارا كالصليب كما يفهم من الفلم.
إن دقة تصوير الفلم لريكاردس طبقا لما جاء في التاريخ على أنه ملك شجاع لا يعبأ بمظاهر الملك، مندفع لا يفكر في النتائج البعيدة، ولم يكن بالقديس الذي يعبأ بأمر الدين
كثيرا، لم ترق في أعين الإنجليز، ولذلك منعوا عرض هذا الفلم في بلادهم
والفلم العظيم وهو أقوى من فلم (كليوباترا) وأقل من فلم (علامة الصليب)، ولكن يجدر بالمصريين أن يشهدوه ليروا عظمة صلاح الدين الذي كان يستمد قوته من مصر.
يوسف تادرس