المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 177 - بتاريخ: 23 - 11 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٧٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 177

- بتاريخ: 23 - 11 - 1936

ص: -1

‌زهرات على القبر

محمد فريد

بمناسبة ذكراه السابعة عشرة

ما كان أحقَّنا ونحن نجني ثمرات الجهاد، ونعقد أقواس النصر، ونحيي بطولة الزعماء ونحيي ذكرى الشهداء، أن نضع إكليلاً من الزهر الندى على قبر الشهيد الأول محمد فريد!

لقد أستشهد في مثل هذا الأسبوع الذي وقع فيه موافقة البرلمان على المعاهدة، واحتفال الشعب بذكرى الضحايا، فكيف غفل اللسان الذاكر وذهل الفؤاد العروف عن تحية المجاهد الصابر والمضطهد المهاجر والصريع المحتسب؟ وما أقلَّ التحية للذين نفروا لخلاص الوطن لا يبتغون ثراء ولا دعة، وهاجروا في سبيل الحرية لا يجدون مراغماً ولا سعة، ولفظوا أنفسهم في منازح الغربة ومضاجع البؤس حسرة فحسرة!

هذه دورهم، كان للعزة في أفيائها مَرَاد، وللنعمة في أفنائها ربيع، فتقوض فيها المجلس وانصرف عنها اللاجئ وتعاقب عليها مالك بعد مالك! وهذه قبورهم، تناوحت عليها سوافي الرياح فطمست الشاهد وأبهمت الأثر وتناهبها هالك بعد هالك! وهذه ذكرياتهم، ملأت المسامع وعمرت القلوب حيناً من الدهر، ثم أوشكت اليوم لكنود الناس أن تغوص في لجج النسيان والعدم! وهذه أرواحهم، كانت في المحن السود تباكرنا بالعزاء وتراوحنا بالأمل وتغادينا بالمعونة، ثم أقبلت ساعة النصر تخفق فخورة مع العلم، وتصفق مؤيدة مع البرلمان، وتهتف مبتهجة مع الأمة، ولكنها لم تسمع وا أسفاه من بادلها تحية برحمة، وجازاها وفاء بدعاء!

إن الشريعة تنسخ الشريعة، والفكرة تطرد الفكرة، والجديد يخلف القديم، ولكن الجهاد في سبيل الوطن غاية لكل جيل في طريقها خطوة، وبناية لكل عامل في إقامتها حجر؛ والخطوط اللاحقة لا ترد الخطوة السابقة، والحجر الأعلى لا ينقض الحجر الأسفل. والمثل العليا من الرجال قليلة في عهدنا الحديث؛ فما أولانا أن نضن بهم على الفناء، فننصب تماثيلهم في كل ميدان، وندرس تاريخهم في كل معهد، ونرفع ذكرهم في كل مناسبة.

وا حسرتاه على حظ فريد من أمته! حبس عليها ثروته ورضى بالجوع، ورصد لها قوَّته وصبر على المرض، وضحى لها أسرته وعاش على التشريد، ثم كان نصيبه منها بِرّاً لا

ص: 1

يسعف، وتقديراً لا يدوم، وذكراً لا يتصل، وقبراً لا يعرف!

كان فريد - برد الله ثراه وخلد ذكراه - سليل مجد وربيب نعمة وحليف جاه؛ وكان سبيله في الحياة سبيل كل أمير وكل كبير: يغتصب ثروته من عرق العامل، وقوته من دم الفقير، ومسرته من دمع البائس، وجبروته من ظلم الضعيف؛ ولكنه تنكب طريق المترفين واتبع هادي الفطرة، فدخل به في سواد الشعب وقرّنه في أغلاله وشركه في ذله، فدفعته الجِبِلَّة الحرة إلى أن يتطوع لإنهاضه بجهده. ويتبرع لإنقاذه بماله؛ ثم أتصل برسول الوطنية يومئذ مصطفى كامل، فكان منه مكان أبي بكر من محمد، ومصطفى النحاس من سعد؛ رفع معه ألوية الجهاد على سواعد الشباب الفتيه، ثم خلفه على تكاليف الدعوة من جهد وبذل وتضحية، فاستمر ينفخ فيما يشبه الرماد، ويصيح فيما يقارب الجماد، حتى أشتد عليه أذى المحتلين وكيد المنافقين فهاجر ناجياً بحريته وفكرته؛ ولاذ بالأستانة يبتغي بها متنفساً لآمال مصر، ومضطرباً لعزائم الشباب، فكان في هذه المدينة ذات الأستار والأسرار والحفر قبساً من الحق الساطع الصادع يبعث في قلوب المصريين المهاجرين والطلاب بالضوء والحرارة.

كان يدعو شبابنا الوديع إلى الثقافة الحربية في المعاهد العسكرية التركية استعداداً لليوم الموعود والحدث المنتظر؛ وكانت الحرب الكبرى قد انفجرت دواهيها على العالم يومئذ، فحاول أن يكون لمصر من أعقابها المجهولة مغنم. وكأنما دس عليه أهل الأفك، أو عارضت أطماعه أطماع الترك، فأتمروا به ليحاكموه، ففر خفية إلى برلين؛ وهناك أراده الألمان على أن يكون وسيلة من وسائل الحرب السرية في الشرق، فأبى عليه خلقه الصريح وجوهره الحر أن يكون أداة ليعيش. وتفرق عنه الرفاق إلى موارد الرزق الممكنة، وأنقطع عنه المدد من مصر ومن غير مصر، فعمل عمل الأجير، وعاش عيش الفقير، يتبلغ بما يمسك الرمق، ويكتسي بما يستر الجسم، ويأوي إلى غرفة في بعض السطوح يكايد فيها المرض والفقر والوحدة والغربة، حتى أدركه الموت البائس الخامل وهو في غيابة برلين المقهورة الباكية، ليس فيه إلا فم يهتف للحرية، وقلب يخفق لمصر!

إن فريداً كان مثال الفكرة السليمة والوطنية القويمة والرجولة الكاملة والتضحية المؤمنة. بذل في سبيل الوطن، ما بذل عثمان في سبيل الدين، ثم كانت عاقبة أمره أن مات كما مات

ص: 2

عثمان شهيداً غير مفهوم؛ ولكن الله جازى فريداً كما جازى عثمان: جعل أسمه للخلود وروحه للخلود!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌4 - القلب المسكين

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تَتيمَّمنا حتى بغته ذلك فساوره القلق، واعتراه ما يعتري المحب المهجور إذا فاجأه في الطريق هاجره. أرأيت مرة عاشقاً جفاه الحبيب وأمتنع عليه دهراً لا يراه، وصارمه مدة لا يكلمه؛ فنزع نومه من ليله، وراحته من نهاره، ودنياه من يده؛ وبلغ به ما بلغ من السقم والضنى؛ ثم بينا هو يمشي إذ باغته ذلك الحبيب منحدراً في الطريق.

إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة الخفقان، وكأنه في ضرباته متعلم يكرر كلمة واحدة: هي هي هي.

ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثل شعور المحتضر أن هذه الدنيا قد نفته منها.

ولو أطلعت على دمه في عروقه لأبصرته مخذولاً يتراجع كأن الدم الآخر يطرده.

إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته في خيبة، فيردُّ عليه الحب مع كل شهوة نوعاً من الذل، فيكون بازاء الحبيب كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة.

لحظة لا يشعر المسكين فيها من البغتة والتخاذل والاضطراب والخوف إلا أن روحه وثبت إلى رأسه ثم هوت فجأة إلى قدميه.

غير أن صاحبنا لم يكن مهجوراً من صاحبته؛ ولكن من عجائب الحب أنه يعمل أحياناً عملاً واحداً بالعاطفتين المختلفتين، إذ كان دائماً على حدود الإسراف ما دام حباً، فكل شئ فيه قريب من ضده. والصدق فيه من ناحية مهيأ دائماً لأن يقابل بتهمة الكذب من الناحية الأخرى، واليقين مُعدٌّ له الشك بالطبيعة، والحب نفسه قضاء على العدل، فأنه لا يخضع لقانون من القوانين، والحبيب - مع أنه حبيب - يخافه عاشقه مع أنه حبيب.

وقد يصفرّ العاشق لمباغته اللقاء كما يصفرّ لمباغته الهجر، وهذه كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلة عليه؛ وكان مع ذلك يخشى إلمامتها به توقياً على نفسه من ظنون الناس، وأكثر ما يحسنه الناس هو أن يسيئوا الظن؛ وهو رجل ذو شأن ضخم ومقالة السوء إلى مثله سريعة إذا رُؤى مع مثلها. وكأنما هي ألمت بكل هذا أو طالعها به وجهه المتوقر المتزمت؛

ص: 4

فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت على رئيس فرقة الموسيقى وما بيننا وبينها إلا خطوات. ورأيتها قد هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى.

وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمراً ليتأهب أهبته لدورها ثم همت أن ترجع، ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناها إلينا، فقال صاحبنا وأعجبه ذلك من فعلها: أنها نبيلة حتى في سقوطها.

ولا أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى، ولكن هذا الرجل لم يظهر لي وقتئذ إلا كأنه تليفون معلق.

كانت عيناها إلى صاحبها لا تنزلان عنه ولا تتحولان إلى غيره، ولا تُسارقه النظر بل تغالبه عليه مغالبة؛ ورأيته كذلك قد ثبتت عيناه عليها فخيل إلى أن هذا الوجود قد أنحصر جماله بين أربعة أعين عاشقة؛ وكانت تطارحه ويطارحها كلاماً مخبوءاً تحت هذه النظرات وقد نسيا ما حولهما وشعرا بما يشعر به كل حبيبين إذا التقيا في بعض لحظات الروح السامية: أن هذا العالم العظيم لا يعمل إلا لأثنين فقط: هو وهي.

وكان فمها الجميل لا يزال يساقط ألفاظه لرئيس الموسيقى، وكأنها تسرد له حكاية مروية أو تعارض بحافظته كلاماً تحفظه من كلام التمثيل أو الغناء؛ فهي تتحدث وعيناها مفكرتان شاخصتان، فلم ينكر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟

لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كلاماً، حتى لحسبت أن هذه النظرات الأولى تهتف من بعيد: أنت يا أنت.

ثم بدأ في عينيها فتور الظمأ: ظمأ الحب المتكبر المتمرد، لأنه حب المرأة المعشوقة، وأن له لذتين: إحداهما في أن يبقى ظمأ إلى حين. . .

ثم أرسلت الألحاظ التي تتوهج أحياناً فوق كلام المرأة الجميلة في بعض حالاتها النفسية، فتضرم في كلامها شرارة من الروح تظهر الكلام كأنه يحرق ويحترق. . .

ثم توجعت النظرات لأنها تصلها بالرجل الذي لا يشبه الرجال فلا يستوهب خضوعها ولا يشتريه؛ والرجل كل الرجل عند مثل هذه المرأة هو الذي لا يشبه الباقين ممن تعرفهم، فإذا أحبها فكأنما أحبها عذراء خَفِرةً لم تُمس، وكأنه من ذلك يصلها بماضيها وطهارتها وحيائها وما لا يمكن أن تتمثله إلا في مثل حبه.

ص: 5

ثم ذبلت عيناها الجميلتان، وما هو ذبول عيني امرأة تنظر إلى محبها؛ إنه هو استسلام فكرها لفكره، أو عناد معنى فيها لمعنى فيه، أو توكيد خاطرة تحتاج إلى التوكيد؛ ومرةً هو كقولها: لماذا؟ وتارةً هو كقولها: أفهمت؟ وأحياناً، وأحياناً هو انتهاء مقاومة.

وتمت الحكاية المروية التي كانت تلقيها للتليفون. . . فكرَّت راجعة إلى المسرح بعد أن صاحت نظراتها مرة أخرى كما بدأت: أنت يا أنت. . .

فقلت لصاحبنا: ويحك يا عدو نفسه! لو اختار الشيطان عينين ساحرتين ينظر بهما إليك نظر الفتنة لما أختار إلا عينيها في وجهها، في هيئتها، في موقفها؛ وأراك مع هذا كمنتظر ما لا يوجد ولا يمكن أن يوجد؛ وأراها معك في حبها كالحيوان الأليف إذا طمع في المستحيل.

قال: وما هو المستحيل الذي يطمع فيه الحيوان الأليف؟

قلت: ذلك حين يطمع في أن تكون له حقوق على صاحبه فوق الألفة والمنعة.

قال: لقد أغمضت في العبارة فبين لي شيئاً من البيان.

قلت: هب كلبةً تألف صاحبها وتحبه فهي له ذليلة مطواع، ثم يبلغ بها الحب أن تطمع في أن يكون لها تمام الشرف، فلا يقول صاحبها عنها هذه كلبتي، بل يقول هذه زوجتي. . .

قال: وي منك، وي منك؛ لقد ضربت على رأس المسمار كما يقولون. هذا هو المستحيل الذي بيني وبينها، هذا هو المثل. يا لفظ الحلوى، يا لفظ الحلوى! لو كررتك بلساني ألف مرة، فهل تضع في لساني طعمها. . .؟

قلت: خفض عليك يا صاحب القلب المسكين فلست أكثر من عاشق.

قال: بل أنا مع هذه أكثر من عاشق، لأن في العاشق راغباً وفيَّ أنا راهب، وفيه الجريء وفيَّ المنكمش، ويغترف الغرفة من الشلال المتحدِّر فيحسوها فيرتوي، وأغترف أنا الغرفة بيدي، وأبقيها في يدي، وأطمع أن تهدر في يدي كالشلال. . . . أنا أكثر من عاشق، فإنه يعشق لينتهي من ألم الجمال، وأعشق أنا لأستمر في هذا الألم.

هذه هذه. العجيب يا صديقي أن خيال الإنسان يلتقط صوراً كثيرة من صور الجمال تجئ كما يتفق، ولكنه يلتقط صورة واحدة بإتقان عجيب هي صورة الحب؛ فهذه هذه.

ألم أقل لك أن إبليس هنا في غير حقيقته الإبليسية ولم تفهم عني؟ فأفهم الآن أننا إن كنا لا

ص: 6

نرى الملائكة فأنه ليخيل إلينا أننا نراها فيمن نحبهم؛ وما دام سر الحب يبدل الزمن والنفس ويأتي بأشياء من خارج الحياة، فكل حقائق هذا الحب في غير حقيقتها.

هذه هذه. لا أطلب في غيرها امرأةً أجمل منها، فهذا كالمستحيل، ولكن التمسن فيها هي امرأةً أطهر منها، وهذا كالمستحيل أيضاً. أنها أجمل جسم، ولكن وا أسفاه! إنها أجمل جسم للمعاني التي يجب أن أبتعد عنها.

وسكت صاحبنا إذ رفعت ستارة المسرح وظهرت هي مرة أخرى. ظهرت في زينة لا غاية بعدها تمثل العروس ليلة جلوتها. ألا ما أمرَّها سخرية منك أيتها المسكينة! عروس ولكن لمن؟

كانت تبرق على المسرح كأنها كوكب درى نوره نور وجمال وعواطف شعر.

وأقبلت تتمايل بجسم رخصٍ لين مسترسل الأعطاف يتدفق الجمال والشباب فيه من أعلاه إلى أسفله.

وأظهر وجهها حسناً وأبدى جسمها حسناً آخر فتم الحسن بالحسن.

واقفة كالنائمة، فالجو جو الأحلام، وكان الحب يحلم، وكان السرور يحلم.

مهتزة كالموج في الموج. هل خلقت روح البحر في جسمها المترجرج فشئ يعلو وشئ يهبط وشئ يثور ويضطرب؟

ثم دقت الموسيقى بألحانها المتحركة، وأحسسنا كأن روح الحديقة جالسة بيننا تنظر إليها وتتعجب. تتعجب من قوامها للغصن الحي، ومن بدنها للزهر الحي، ومن عطرها للنسيم الحي.

أما صاحب القلب المسكين؟

(يتبع)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 7

‌الوهم

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أكثر ما يقعد الإنسان عن الطلب، أو يصده عن السعي أو يصرفه عن الإقدام، وهي لا حقيقة؛ وقل أن يقدم الذي يطول تفكيره ومشاورته لنفسه؛ ويندر أن يفوز بالطيبات في هذه الدنيا إلا الجسور أو (الفاتك اللهج) كما يقول بشار، أي الذي لا يتردد ولا يضيع الوقت والفرص في الموازنات والمعادلات وحساب العواقب والمغبات.

تكون مع المرأة التي تحبها، فتحدثك نفسها أن تبثها ما تجد، أو على الأقل أن تثني على جمالها أو ذوقها في اختيار ثيابها. فتتردد مخافة أن يسوء وقع ما تقول في نفسها وان تعد ذلك منك تسحباً واجتراء عليها، فتحجم، وتمتعض هي، لأنك خيبت أملها فيك ورجاءها عندك. وقد لا تحب المرأة الرجل، ولكنه لا يسوئها منه أن تعترف أن يحبها، ولا يثقل عليها أن يثنى بما يعلم وما يتخيل أيضاً؛ والمرأة تنتظر من الرجل أن يشعر بجمالها وأنوثتها قبل أن يشعر بعقلها أو علمها أو أدبها أو غير ذلك مما يجرى هذا المجرى. وكثيراً ما تقرأ لي الفتيات ما يكتبن أو ينشدنني ما ينظمن، حتى إذا فرغن من التلاوة تعمدت أن أهمل ما سمعت منهن وذهبت أصف لهن ما وقع في نفسي من صوتهن وهيئتهن وهن يقرأن، وكيف كان النسيم يعبث بذلاذل الثوب ويكشف عن سيقانهن البضة، وكيف أن خصورهن كن يغرين بالتطويق، وشفاههن وهي تتحرك وتلتقي وتفترق، وتختلط من فرط الأثر بالمعاني المصورة في الكلام، تحمل على اشتهاء القبلات الطويلة، ولا أراهن يغضبن لذلك أو يتجهمن، أو حتى يتكلفن العبوس والقطوب، بل تشرق وجوههن ويشيع فيها البشر، وتومض عيونهن وميض الجذل والاغتباط والرضى، وأنا أفعل ذلك لأسرهن وأشرح صدورهن لأهرب من إبداء الرأي في كلام لا أرى فيه قيمة أو وزناً فننتقل بسهولة إلى حديث آخر نخوض فيه، وتطوى الورقات وتدس في الحقائب، ونحن نسح بالكلام، ثم ينصرفن راضيات مسرورات شاكرات، وأبقى أنا أو أذهب، ولا أكون قد رددت نفسي على مكروهها.

وقد جربت الناس فلم أجد ما يريح مثل الاجتراء عليهم. كنت في بعض ما مر بي مضطراً إلى الاتصال في عملي برجل سريع البادرة عظيم الغرور متقلب الرأي فلا راحة لإنسان

ص: 8

معه، وآثرت الملاينة في أول الأمر وقلت: أسايره خطوة أو خطوات لأجره باللباقة والكياسة إلى حيث أريد من حيث لا يشعر هو. فكان يفطن إلى حيلتي في بعض الطريق فينبو في الزمام، فخطر لي أن المنطق والحجة لعلهما أجدى، فصرت أجادله بالتي هي أحسن ولكن بالبرهان والبينة، فكان يتململ ويتأفف ولا يكتم ضجره مني وكراهته للجاجتي، فضاق صدري يوماً وخرجت معه عن طوري - على ندرة ذلك جداً - ولم أستطع أن أملك زمام نفسي، فأسمعته من رأيي فيه ما أعتقد أنه أوجع ما سمع في حياته، فما راعني إلا استخذاؤه وإلا أنه أذعن، وراح بعد ذلك يتقي أن يثير غضبي ويخشى بادرتي أشد الخوف. فاسترحت.

وقد يظن القارئ أني أشير بالتوقح على الناس وسوء الأدب معهم، وما أريد شيئاً من هذا، وإنما أقول أن احترامك لغيرك لا ينفي أو يمنع أن تحترم نفسك؛ ومن احترام النفس أن تكون صريحاً وحازماً، والصراحة والجرأة ليس معناها قلة الأدب، فأنك تستطيع أن تذهب في الصراحة إلى أبعد مدى وأن تتحفظ مع ذلك بالأدب. ومتى عرف الناس فيك الصراحة ألفوا منك الشجاعة، اقتنعوا بذلك ووطنوا أنفسهم عليه وأعفوك من كثير مما تكره.

وقد قص عليّ بعضهم حكاية شاب اتخذت منه زوجته دابة، فهو لا يفعل إلا ما تأمر، ولا يخرج أو يدخل أو يقوم أو يقعد أو يأكل أو يشرب إلا إذ أذنت له، وقيل لي إنها هي التي تنتقي له ثيابه وتختار له ما يوائمها من قميص وربطة وحذاء إلى آخر ذلك. وتأمره فيصادق هذا ويخاصم أو يعادي ذاك، ويصل فلاناً ويقاطع فلاناً، فعجبت! وسألت محدثي: وماذا يخيفها منها؟ أهو يخشى أن تأكله إذا أعترض أو أبى أو تمرد على هذا السلطان؟ فهز محدثي رأسه ولم يستطع أن يذكر لي سبباً معقولاً. وما أزال إلى هذه الساعة عاجزاً عن تصور ما تستطيع هذه المرأة أن تصنع إذا أنتفض زوجها على هذا الاستبعاد؟ هي وقفة واحدة يقفها الرجل فلا يسع امرأته إلا أن تلزم حدها وتترك له حقه في نفسه. وهذه الوقفة لا تحتاج إلى ثورة، ولا تطلب أن تقوم قيامة البيت، بل لعل الهدوء أحجى وضبط الأعصاب أجدى. وما أظن امرأة تكبر رجلاً يكون عنانه في كفها الرخص، ولا شك أنها لا تنفك تحتال لتخضعه من حيث لا يشعر ولا يدري، والرجل الرشيد يدرك ذلك ولا يخفى عليه أنها تدور من ورائه لتحمله على ما تريد فيلين لها ليرضيها ويسعدها بالشعور بالنجاح

ص: 9

ويجعلها بذلك ألين في يده من ناحية أخرى. وحياة الرجل والمرأة مناوشات مستمرة، ولعلها أشبه شئ بالحرب التي تشنها العصابات المتحصنة في رؤوس الجبال على الجيوش المنظمة. وقدرة الرجل وسطوته معترف بهما، ولكن المرأة لا تقر لهما الإقرار التام ولا تزال تختبئ وتطلق قذيفتها. وخير للرجل وأجلب لراحته أن يدع لها فرصة كافية لإصابة الهدف، فتسكن نفسها وترضى عن حالها، وإلا دفعها إلى التمرد الصريح. ولكنه ينبغي أن يكون له وجود وكرامة، وإلا خسر احترامها له. واحتفاظه بكرامته واستقلاله وحريته لا يكلفه إلا أن توقن هي أنه لا خير في محاولة إخضاعه لها.

وقد زاولت التعليم عشر سنين فما أذكر أني احتجت يوماً أن أعاقب تلميذاً، ولو تمردوا علي لما وسعني شئ فإني واحد وهم كثر، ولو انتفضوا على نظام المدرسة لما استطاعت أن تكرههم عليه، ولكن التلميذ يتوهم البأس والشوكة والسطوة والقوة، ويرهب ما يتوهم، ويطول عهده بذلك فيتقرر في نفسه. وقد كنت وأنت معلم لا أحجم عن مصارحة تلاميذي بأن سلطان المدرس خيالي ولا حقيقة له، وأنهم لو شاءوا لتناولوني وقذفوا بي من النافذة، وقذفوا بالمدرسين جميعاً وبالناظر أيضاً ورائي، وكنت أراهم يبتسمون لما يسمعون مني، ثم يعودون إلى ما ألفت منهم من حسن الإصغاء وشدة الحرص على النظام.

وكبر أبني وصار أطول مني قامة، وأنا الآن كهل وهو شاب، وقد توخيت في تربيته أن أدعه حراً، وأن أجعله يشعر باستقلاله، ومع ذلك لا أراه يجترئ الاجتراء الذي أتوقعه وأريده ويسرني أن أراه منه، لأنه يهاب ذلك السلطان الذي درج على إكباري والإقرار له منذ الصغر. فهو لا يزال طفلاً بالقياس إلي فيما أرى، وأنه لكذلك إذا اعتبرنا التجربة والعلم وما إلى هذا ولكن وهم الأبوة، أو سلطانها، أو لا أدري ماذا، يصده حتى عما لا بأس منه ولا ضير، ولا عيب فيه، ولا خوف من الزجر عليه. وأنا أيضاً كنت طفلاً - كما لا احتاج أن أقول - وكان هذا شأني، لأن للعادة سلطانها.

ولو جرب الناس الشجاعة والأقدام لأدهشتهم أن ما كان يخافونه أو يتقونه أو يتوقعونه، لا وجود له، وأنه لم يكن سوى وهم ليس إلا. وأكرر أني لا أحض على تجاوز الحدود، فليس من حسن الأدب أن يكون المرء جباناً أو ذليلاً، ولا من سوئه أن يكون عارفاً بحقوقه حريصاً عليها وجريئاً في سعيه وصريحاً في قوله، أي مخلصاً في نفسه.

ص: 10

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 11

‌في الأدب المقارن

أثر البيئة في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

طبائع الإنسان ومواهبه متماثلة حيثما حل من بقاع الأرض، ومجتمعاته متشابهة الظواهر أينما قامت. تتشعب بين أفراد كل مجتمع إنساني عوامل التعاون والتنافس والتحاب والتباغض والمطامع والمخاوف، غير أن للبيئة أثرها في تشكيل المجتمع الإنساني الذي تحيط به، بما تعرض أمام أبصاره وأذهانه من مناظر ومسائل تحجب عنه غيرها، وما تفرض عليه من أعمال يمارسها دون سواها، ويكون لهذا وذاك أثره البين في لغة المجتمع وأدبه، مقروناً إلى أثر الطبائع والمواهب التي تشترك فيها الأمم جمعاء.

فللبيئة في أدب كل لغة ثلاثة آثار بعيدة المدى: فهي أولاً تؤثر في مبنى اللغة وأصواتها وألفاظها وتعابيرها وتشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها السائرة وحكمها المتواترة، فكل ذلك منتزع من طبيعة الإقليم؛ وهي ثانياً تؤثر في مهن المجتمع وعلومه وفنونه وعمرانه وينعكس كل ذلك في مرآة الأدب؛ وهي أخيراً تعرض دائماً أبداً أمام أنظار الأدباء وحواسهم مناظر طبيعية بذاتها، تسترعي انتباههم وتستجيش نفوسهم وتلهمهم كل ما تجود به قرائحهم في باب عظيم الخطر من أبواب الأدب هو باب الوصف الطبيعي.

وأثر البيئة في الأدبين العربي والإنجليزي واضح وضوحاً شديداً يكاد لروعته يخفي أثر الطبيعة الإنسانية التي تشترك فيها الأمتان ويتفق عندها الأدبان، فإن تباين البيئتين تبايناً شديداً أدى إلى اختلاف اللغة والمهن والعمران والمناظر في المجتمعين، وأدى بالتالي إلى اختلاف أشكال الأدبين وصورهما ومواضيعهما وأساليبهما؛ ويمكن إيجاز التعبير عن الفرق بين الأدبين بالقول بأن أحدهما شب في بيئة صحراوية والآخر ترعرع في بيئة بحرية.

نشأ العرب في البادية فجاءت لغتهم مشرقة الديباجة متينة البناء قوية التعبير غنية الاشتقاق منتظمة أوزان الشعر متعددتها وحفلت بأسماء ظواهر الطبيعة البرية وحالاتها، وأسماء حيوان البادية وأطوار حياته، واشتقت تشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها من القمر والنجوم والكثيب والقطا، والمُنبتِّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وورود الماء بماء أكيس، وإلقاء الحبل على الغارب. ولعدم ملاءمة البادية لغير الأدب من الفنون عظمت مكانته

ص: 12

بينهم.

واشتغل العرب في البادية بالتجارة ينقلونها بين الشرق والغرب، فامتلأت لغتهم بمصطلحات التجارة بعضها عربي وبعضها منقول عن الأمم التي بادلوها التجارة، وامتلأ أدبهمبالتشبيهات المنتزعة من أحوال التجارة: فالقرآن الكريم يكرر في غير موضع تشبيه الخير والشر بالنجدين، وذكر الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم؛ وعنترة يقول:

حصاني كان دلال المنايا

فخاض غمارها وشرى وباعا

وبثت حياة البادية في العرب صفات الحمية والشجاعة والحرية والأنفة أن يدينوا لملك، وظهر أثر كل ذلك جلياً في أدبهم؛ وأشهر أمثلة ذلك معلقة عمرو بن كلثوم، فهي ديوان العرب في الحماسة؛ وأدى إباؤهم ودوام انتجاعهم الكلأ إلى استمرار المناوشات والوقائع بين قبائلهم، وانعكس ذلك في مفاخراتهم ومنافراتهم نثراً وشعراً.

وهذه الصفات الشماء التي تلزم حياة التبدي جعلت العرب ينظرون شزراً إلى الزراعة والصناعة اللتين لم يكن لهما مجال في البادية، ويحتقرون الزراع والصناع الذين تسترقهم الأرض وتستعبدهم المادة، ولا يرون الشرف والعزة إلى في رعي الإبل والتجارة والقتال. فالأخطل يعيّر بني النجار بمساحيهم، وآخر يفاخر غريمه فيقول:

لحا الله أَلاْمَنَا نسبا - وأجدرنا أن ينفخ الكيرَ خاله - يصوغ الشنوف والقروط بيثربا

والحق أن الشعر الجاهلي مهما يكن قد داخله من تزييف يمثل الجانب الاجتماعي من حياة العرب في الجاهلية تمثيلاً رائعاً؛ ولا يمكن تصور حالة العرب في ذلك العهد إلا على ما وصِفت في أشعار طرفة ومهلهل وأمثالهما.

أما مناظر البادية الطبيعية المتشابهة الشديدة الوطأة، فيبدو أنها لم تُشرب العرب من حب الطبيعة مقدار ما بثت في نفوسهم من رهبتها والحرص على اتقائها، ولم تلهمهم من أشعارٍ في وصف محاسنها قدر ما أوحت إليهم من أشعار في التأمل في أحوالها والاستعبار والخشوع، فلا غرو لم تخرج الصحراء شعراء طبيعيين يصفون محاسن المناظر، كتلك التي تحفل بها الإلياذة والأوديسة، وإنما أخرجت أنبياء وحكماء في شتى عصورها.

وتحضّر الشعب الإنجليزي في جزيرة تحيط بها البحار، وتجري فيها الأنهار، وتتخللها

ص: 13

البحيرات، وتتوالى عليها الأمطار والثلوج والسحاب والضباب، ويتعاقب فيها الصحو والدجن، وتنتشر في أرجائها الغابات والآجام، وتتتابع فيها الربى والقيعان، فامتلأت لغتهم بأوصاف البحر والغاب، وأسماء ما أسكنوهما من جان، واشتُقت منهما تشبيهاتهم وأمثالهم، فاستُعير الضباب لحالة الشك والإبهام، والسحاب للحزن والقلق، وقالوا في أمثالهم إن الوقت والمدَّ لا ينتظرون إنسانا، وحلت السفينة من مخيلتهم ما كان للجمل لدى العرب من منزلة: فبينما ترى حسان يشبه تراقص الخمر في إنائها بتهادي الناقة المسرعة فيقول:

بزجاجة رقصت بما في قعرها

رقص القلوص براكب مستعجل

يُشّبَه ملتون (دليلة) وهي شاخصة في عظم جرمها وتمام زينتها وعتادها إلى (سمسون الجبار) لاختداعه عن سر قوته بالسفينة المنشورة الشراع.

وامتلأت قلوب الإنجليز بحب البحر، وظهر أثر ذلك في أدبهم في كل العصور: في روايات شكسبير كالعاصفة وتاجر البندقية، وفي تواريخ أمراء البحر الإنجليز ككتاب (وستوْرَدهو!) الذي سماه مؤلفه كنجزلي بأسم البلدة التي أنجبت معظم أولئك البحارين الذين يسمون بأفذاذ ديفون، وككتاب سَوْذي عن نلسون، والروايات الخرافية عن البحارة الذين لاقوا الأهوال وطوفوا في مسالك البحار، أمثال روبنسون كروزو، واسكندر سلكرك، وجليفر؛ واوصاف البحر وقصصه تكون جانباً كبيراً مما يعرف بأدب الأطفال.

ولم يشغف الإنجليز بالبحر وحده، بل بالماء حيث حل من البقاع، وأياً اتخذ من الأشكال، فهاموا حباً بالأنهار والبحيرات، ونال إقليم البحيرات في غرب إنجلترا مكانة سامية في قلوب شعراء الإنجليز، واتخذه شعراء النهضة الرومانسية مستراداً ومقاماً، وحفلت دواوينهم بأوصافه ومحاسنه، فحل في إنجلترا محل جبال برناس التي كانت ترتادها آلهة الشعر في بلاد اليونان.

وحفل الأدب الإنجليزي كذلك بذكر الغاب ووصفه في مختلف أوقات العام، واتخذ مسرحاً لروايتي (كما تشاء) و (حلم ليلة في منتصف الصيف) لشكسبير، وفي الأخيرة تمتزج الحقيقة بالخيال، وتختلط الأناسي بعرائس الغاب وعفاريته، وفي تلك العرائس المتخيلة نظمت أشعار كثيرة، وفي تلك الغابات كان يعيش روبن هود وجماعته ذات الوقائع الممتعة، وبالجملة بثت طبيعة بلاد الإنجليز المتعددة المنظر والحالات أُلفة الطبيعة والشغف

ص: 14

بها في نفوس الإنجليز، فاحتلت من أدبهم موضعاً مكيناً.

ولموقع الجزيرة وإحاطة البحار بها اشتغل الإنجليز بالتجارة، ينقلونها بين العالمين القديم والجديد، وقد مارسوها بحراً على حين مارسها العرب براً، فدخلت تعبيراتها وأوصافها في أدبهم؛ واشتغلوا بالزراعة لملاءمة الإقليم وحفل جانب من أدبهم بوصف سكان القرى والبلدان الريفية، وحياتهم ومجتمعاتهم، وكثر ذلك خاصة في العصور الحديثة حين تقدم فن القصص وأزداد التفات الأدباء إلى الحياة اليومية والطبقات الوسطى والدنيا. ومن خير أمثلة ذلك روايات جين أوستن وتوماس هاردي؛ واشتغل الإنجليز كذلك بالصناعة الكبيرة لوفرة المعادن في بيئتهم، فقام نوع من الأدب يدرس مشاكل الصناعة ويصور مجتمع الصناع، وانصرف بعض الروائيين، كأرنولد بنيت، إلى وصف حياة الرأسماليين، وبعضهم، كتشارلز دكنز، إلى درس أحوال العمال والمناداة بتحسينها.

هكذا تأثر كلا الأدبين بالبيئة التي قام فيها، فاختلفا لذلك مناحي ومواضيع وأشكالاً؛ بيد أن البيئة التي تقدم ذكرها إن هي إلا البيئة المحلية المحض، وهي على عظيم تثيرها في المجتمع والأدب قلما تنفرد بالتأثير فيهما، بل تشاركها في ذلك بيئة أوسع أطرافاً هي البيئة العالمية، أي العالم كله بما فيه من ظواهر طبيعية وما يسكنه من أقوام، فهيهات أن يعيش مجتمع في بيئته المحلية غير متأثر بالعالم الخارجي تأثراً قل أو كثر، عن طريق التجارة والغارة والرحلة، وذلك الأثر العالمي يعرض أمام أفراد المجتمع من الظواهر والمشاكل ما كانوا عنه بنجوة، ويُدخل في لغتهم وأدبهم ما كانوا به جاهلين.

تأثر الشعبان العربي والإنجليزيبأحوال العالم الخارجي، أي البيئة الكبرى، ولكنهما اختلفا في هذه البيئة كما اختلفا في البيئة المحلية، إذ تأثر كل منهما بما يليه مباشرة من أجزاء تلك البيئة العالمية: وما يلي بلاد العرب هو الأمم الشرقية من فرس وهند وروم شرقيين ومصريين، ذات الحضارة الشرقية العتيدة والملكيات القديمة؛ وما يلي الإنجليز هو الأمم الغربية الوراثة لحضارة الإغريق والرومان ذوي التاريخ الحافل بالنظم الحكومية والآراء الحرة في السياسة والاجتماع، وبذلك ازدادت صبغتا الأدب تبياناً.

تأثر العرب بحضارة الأمم التي كانوا ينقلون متاجرها. ولا سيما الفرس والروم، وكانت لهم بهؤلاء علاقات سياسية لأكابرهم إلى ملوكهم سفرات، والى اشتغال قريش بتلك التجارة

ص: 15

ومخالطتها تلك الأمم يرجع ذلك الرقي الأدبي والمادي الذي بلغته قبيل الإسلام، وظهورها على القبائل في الثروة والجاه والشرف واللغة، وإنجابها عظماء الرجال الذين على أيديهم توطدت دولة الإسلام في حال من التمدن وسط بين همجية البداوة ونعومة الحضارة.

ولو استمر العرب بالبيئة الخارجية طبيعياً محدوداً هكذا لازدادوا رقياً وازدادت لغتهم بهاء وأدبهم ازدهاراً؛ ولكن التوسع الخارجي الذي أعقب نجاح المسلمين الحربي المفاجئ أوقف ذلك التأثر البطيء، وأحدث انقلاباً تاماً في مجرى الأمور، فلم يعد تأثر الأدب العربي بالعالم الخارجي مقصوراً على النقل التدريجي، بل انتقل الأدب ذاته جملة من وطنه الأصلي وهجر بيئته الأولى إلى بيئة أو بيئات جديدة في الشام والعراق ومصر والأندلس وغيرها، والأدب العربي في انتقاله هذا ومهاجرته هذه من وطن إلى وطن نسيج وحدة بين آداب الأمم.

وجد الأدب العربي نفسه في بيئة جديدة، في أراض مزروعة مثمرة، وأمم مترفة مستقرة، وبلدان عامرة متحضرة، ذات علوم وصناعات، فتأثر بهذه البيئة الجديدة في ثلاث النواحي سالفة الذكر: في مفردات اللغة وتعبيراتها التي ازدادت بالنقل والتعريب، وفي المهن ومظاهر العمران، وفي وصف مناظر الطبيعة الجديدة، فكثر في الأدب ذكر الرياض والأزهار.

على أن تأثر الأدب في الناحيتين الأولى والثالثة كان قليلاً نسبياً لفني اللغة في الاشتقاق الذي أغناها عن الإمعان في التعريب، ومحافظة العرب التي نفَّرتهم من استعمال ألفاظ اللغات الأخرى وأخيلتها إلا ما جاء عفواً أو ضرورة، وحرصهم على احتذاء أسلافهم حتى ظلوا يقلدونهم في وصف البيد والخيام والنؤى والعيس، وهم يعيشون بين الأرياف والعواصم، فقامت هذه التقليدات للمتقدمين في الأدب العربي كالمتحجرات في عالم الجيولوجيا: قد فقدت كل حياة ولم تعد إلا رموزاً للماضي.

ولم يشغف العرب شغفاً حاراً بمظاهر الطبيعة التي صادفوها في بيئتهم الجديدة، وكأن نفرتهم القديمة من قسر الطبيعة لم تفارق نفوسهم، وكأن كل ما كانوا يطمحون إليه بعد أن طووا الأميال ضرباً في فلوات الجزيرة وهواجرها، ظلّ ظليل وماء سبيل وهواء بليل، تريح الجسوم وترويها وترفه عنها بعد طول الكد، فغص أدبهم الطبيعي بذكر راحة الجسم

ص: 16

ولذات الحواس، دون طويل تأمل في محاسن الطبيعة واجتلاء لأسرارها وتقصٍّ للذكريات والآمال عندها، وأجمع الأمثلة لذلك قول الشاعرة الأندلسية:

وقانا لفحة الرمضاء واد

سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا

حنوِّ المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالاً

ألذ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنى واجهتنا

فيحجبها، ويأذن للنسيم

إنما كان أشد تأثر الأدب العربي في بيئته الجديدة بالناحية الثانية، ناحية العمران، ناحية الحياة المستقرة في البلدان، المعتمدة على الزراعة والصناعة، الخاضعة للملكية، وهي عكس حياتهم في البادية تماماً، فانغمر الأدباء في جو المدن، واعتزلوا الطبيعة وتكأكأوا على بيت الأمراء، وتزاحموا على مجالس الطرب والشراب، واستفرغوا جهدهم في انتهاب فرص الحياة من جاه ومال ورفاهية ولهو، وتأثر الأدب بذلك: فلم يعد يتغنى بالنجدة والبأس والقناعة، بل طاب له الاستظلال بسلطان الحاكمين، يترنم بمدحهم بعد أن كان أمثال عمر بن كلثوم يثورون على نيرهم، وتفنن في وصف مظاهر التحضر وضروب الترف واللهو في المدن.

أما الأدب الإنجليزي، فتأثر بالبيئة العالمية في النواحي الثلاث - نواحي مبنى اللغة ومظاهر العمران ومنظر الطبيعة - تأثراً كبيراً: فاللغة الإنجليزية تدين للغات الأجنبية ولا سيما اللاتينية بأكثر مفرداتها وطرق اشتقاقها وكثير من تعابيرها ومجازاتها؛ والمجتمع الإنجليزي تأثر بالمجتمع الإيطالي في عصر الإحياء، وبالمجتمع الفرنسي في عصر لويس الرابع عشر؛ ولم يخلُ في عصر من التأثر بحالة العمران في أوربا، إذ كانت الحضارة الأوربية الحديثة مشتركة بين شتى الأمم؛ وباطلاع الإنجليز على أوصاف الطبيعة في الآداب الكلاسيكية ازدادوا شغفاً بمفاتن بلادهم، وزادوا فوصفوا محاسن الطبيعة في إيطاليا وبلاد اليونان وغيرهما.

تأثر الأدب الإنجليزي بالبيئة العالمية في شتى النواحي، ولكنه لاستقراره في وطنه الأول وبيئته المحلية جاء تأثره بالأولى بطيئاً محدوداً لم يطغ على خواصه المحلية، بل ظلت للبيئة المحلية المكانة الأولى والآثار الواضحة في الأدب، ولم يزد الأثر الخارجي على أن

ص: 17

أضاف إلى العناصر المحلية ما يناسبها ويخصبها من العناصر الأجنبية، وكلما احتجن الأدب جانباً من تلك العناصر مثَّلها ومزجها بنفسه وصبغها بصبغته الخاصة.

فالأدبان العربي والإنجليزي قد نشأ في بيئتين طبيعيتين مختلفتين وترعرعا في مجتمعين متباينين، وتأثرا بعوامل عالمية مختلفة، وهاجر أحدهما من بيئته الأولى إلى بيئة جديدة بينما ظل الآخر في وطنه الأول، فلا غرو أن يختلف الأدبان في الصبغة والمناحي والأوضاع والأغراض والأخيلة، اختلافاً يروع الناظر فيهما فيخيل إليه أن ليس هناك تشابه بينهما فقط، ولا وجه للموازنة والمقابلة، ويكاد يخفي ما فيهما من تعبير مشترك عن شتى النوازع النفسية والظواهر الاجتماعية، التي تتفق فيها الطباع الإنسانية، في شتى المجتمعات، ومختلف البيئات.

فخري أبو السعود

ص: 18

‌خطر الفاشستية على سلام العالم

ومشكلة البحر الأبيض المتوسط

بقلم باحث دبلوماسي كبير

لم يبد خطر الفاشستية على سلام أوربا وسلام العالم كما يبدو اليوم؛ ولقد كان رأينا دائماً أن الفاشستية وما تقوم عليه من مبادئ العنف، وما يحدوها من الأطماع المضطرمة، وما تؤكده بأعمالها وتصريحاتها من احتقار لمبادئ الحق والعدالة الدولية، إنما هي مصدر دائم للشر والخطر على السلام، وبخاصة على الأمم الضعيفة التي تدين بوجودها واستقلالها لمبدأ الحق الطبيعي لا للقوة الغاشمة؛ بيد أن الفاشستية لم تبد من قبل بمثل هذه الجرأة المكشوفة، وهذا التحدي الواضح، وهذا التوثب لارتكاب العدوان والشر، وهذا الاستخفاف بحقوق الشعوب ومصايرها كما تبدو اليوم.

منذ أكثر من عام نظمت إيطاليا اعتداءها المثير على الحبشة، واستطاعت لا بحرب شريفة مشروعة، ولكن بوسائل همجية ممقوتة أن تقهر هذه الأمة المنكودة وأن تضمها لأملاكها، وان تقيم على أنقاض الحريات المغصوبة إمبراطورية استعمارية تصول بها اليوم؛ وفي الصيف الماضي استطاعت الفاشستية الإيطالية وحليفتها النازية الألمانية أن تضرما في أسبانيا نار ثورة مضطرمة، وما زالتا إلى اليوم تمدان العسكرية الثائرة بالسلاح وكل صنوف المعونة، وما زالت أسبانيا تتلظى في جحيم الحرب الأهلية، لأن الفاشستية والنازية تود كل منهما أن تحقق لنفسها ظفراً معنوياً يكون مظهره قيام حكومة طغيان فاشستية في أسبانيا على أنقاض الجمهورية، وظفراً مادياً يقوم بتحقيق بعض المصالح السياسية والعسكرية التي تطمح كل منهما إلى تحقيقها.

وكما أن مسألة البحر الأبيض المتوسط كانت أثناء الاعتداء الإيطالي على الحبشة مثار الخطر والاحتكار المستمر بين إيطاليا وبريطانيا العظمى، فكذلك تثير الحرب الأهلية الأسبانية مسألة البحر الأبيض المتوسط مرة أخرى، وتثيرها بصورة أدق وأوسع نطاقاً وأشد خطراً؛ وقد كانت الأزمة التي أثارت الحرب الحبشية في هذا البحر محلية في نوع ما لأنها كانت تتعلق بشرقية فقط، وتتعلق بالنزاع بين إيطاليا وبريطانيا على السيادة في هذه المياه، ولكن الأزمة التي تثيرها أسبانيا اليوم أزمة عامة شاملة، تتعلق بالتوازن في البحر

ص: 19

الأبيض المتوسط كله، وتدخل فيها فضلاً عن إيطاليا وبريطانيا العظمى، فرنسا وألمانيا.

وقد خطب السنيور موسوليني في ميلان أخيراً في سياسة إيطاليا العامة نحو المشاكل الأوربية المختلفة وكرر دعاوى إيطاليا القديمة على البحر الأبيض المتوسط، ووصفه بأنه بحيرة رومانية، وأنه يجب أن يكون في الواقع كذلك لولا أن بريطانيا تدعي فيه سيادة لا يحق أن تكون لها، ووجه الدعوة في خطاب إلى بريطانيا أن تتفاهم مع إيطاليا على قاعدة المساواة في الحقوق والمصالح؛ لأن كون بريطانيا تتخذ من هذا البحر طريقاً لأملاكها فيما وراء البحار، لا يجيز لها أن تدعي السيادة فيه والسيطرة على مياهه؛ وقرن السنيور موسوليني خطابه السياسي كالعادة ببعض التلميحات والتهديدات المسرحية، فأشار إلى عصبة الأمم بأنها حلم سخيف، وسخر من مشروع نزع السلاح ونظرية السلامة الإجماعية، وما إليها من مثل تأيد السلام؛ ولكن الحكومة البريطانية لم تلبث أن أجابت (الدوتشي) على مزاعمه ودعاويه؛ فذكرت أولاً في خطاب العرش الذي افتتح به البرلمان البريطاني، أن سياستها الدولية تقوم على تأييد عصبة الأمم وتدعيمها وإصلاحها لتتمكن من تأدية مهمتها، وأنها ما زالت تؤمن بالسلامة الإجماعية كوسيلة لتأيد السلام والتفاهم بين الأمم؛ وأما فيما يتعلق بالبحر الأبيض المتوسط، فقد ذكرت الحكومة البريطانية على لسان وزير خارجيتها مستر أيدن في مجلس العموم، أن بريطانيا العظمى تعتبر هذا البحر شرياناً من شرايين الإمبراطورية، وطريقاً حيوياً لتجارتها تدافع عنه بكل ما وسعت.

ألقى السنيور موسوليني خطابه الرنان غداة الاتفاق الذي عقد أخيراً بين إيطاليا وألمانيا، وكان من أهم نتائجه اعتراف ألمانيا بالإمبراطورية الإيطالية وسيادة إيطاليا على الحبشة، واتفاق الدولتين على اتخاذ خطة سياسية مشتركة في أواسط أوربا وشرقيها، وتحالفهما على مقاومة الخطر البلشفي الذي يزعج ألمانيا الهتلرية في كل لحظة؛ واتفاقهما على احترام استقلال النمسا إلى حين؛ ولم يكن هذا الاتفاق بين الدولتين الفاشستيتين مفاجأة في السياسة الدولية؛ فمن المعروف أن إيطاليا وألمانيا تجمع بينهما روابط خاصة أهمها اتفاق الوسائل والخطط، والاتحاد في كثير من المطامع والغايات، ولا سيما المطامع الاستعمارية؛ وقد كانت ألمانيا أول الدول المؤيدة لإيطاليا يوم اعتدائها على الحبشة، لأنها تجيش بمثل الأماني الإمبراطورية التي تجيش بها إيطاليا؛ هذا فضلاً عن اتحاد الدولتين في مناوأة

ص: 20

عصبة الأمم، وسياسة نزع السلاح، وفي النزعة العسكرية، والخطط السياسية العنيفة.

والواقع أن المسألة الاستعمارية تلعب دوراً كبيراً في الأزمة الدولية الحاضرة، وفي أزمة البحر الأبيض بنوع خاص؛ فقد رأينا كيف بدأت هذه الأزمة وتفاقمت من جراء اعتداء إيطاليا على الحبشة ووقوف إنكلترا في وجه السياسة الإيطالية، وحشدها الدول بواسطة عصبة الأمم لتوقيع العقوبات الاقتصادية ضد إيطاليا؛ والآن وقد كلل اعتداء إيطاليا بالنجاح وفازت بامتلاك الحبشة، فأنها تتطلع إلى تحطيم المركز الممتاز الذي تستأثر به إنكلترا في البحر الأبيض المتوسط لكي تأمن على مواصلاتها مع إمبراطوريتها الأفريقية؛ ومن المحقق أن معونة إيطاليا للجنرال فرانكو زعيم الثورة الأسبانية لها صلة كبيرة بهذا المشروع الذي تحلم به إيطاليا؛ ذلك لأن قيام حكومة عسكرية فاشستية في أسبانيا موالية للسياسة الإيطالية، يهدد مركز إنكلترا في جبل طارق وفي غرب البحر الأبيض المتوسط، كما انه يعزز مركز إيطاليا ونفوذها في هذه المياه خصوصاً إذا ثبتت الأنباء القائلة بأن القوات الإيطالية تحتل الآن جزيرة ميورقة كبرى جزر البليار. وألمانيا تؤيد إيطاليا في هذا الموقف، وتعاون ثوار أسبانيا أيضاً، لأنها ترى في قيام الفاشستية في أسبانيا تقوية للجبهة الفاشستية التي تمثلها مع إيطاليا وإضعافاً للدول الديموقراطية: أعني فرنسا وإنكلترا في أوربا، كما أنها ترى في ظفر الفاشستية هزيمة لعدوتها روسيا السوفيتية التي تعاون الجبهة الجمهورية في أسبانيا وربما كانت ألمانيا إلى جانب ذلك ترى في التدخل في شؤون أسبانيا وغرب البحر الأبيض وسيلة لإثارة المسألة الاستعمارية التي تعلق عليها أهمية كبيرة.

وقد امتازت خطط الدولتين الفاشستيتين في العام المنصرم بالاندفاع والتحدي؛ وما زال السنيور موسوليني بالأخص يبرق ويتوعد في كل خطبه وتصريحاته، وينوه بقوة جيوشه واستعداداته وينذر أوربا بالويل إذا لم تنزل عند أطماعه ومطالبه؛ وما زالت إنكلترا وهي التي يخصها (الدوتشي) بأكبر قسط من الوعيد والتحدي تقابل الموقف بالرزانة والإغضاء، ماضيه في تقوية تسليحاتها في نفس الوقت في كل ما وسعت؛ كذلك نرى ألمانيا الهتلرية تنحو في خططها السياسية هذا النحو فتنقض المواثيق والعهود متى شاءت، وتلوح في كل فرصة باستعداداتها العسكرية؛ وفرنسا التي هي محور هذه الضربات تتلقاها في هدوء وتحاول مع حليفتها القديمة إنكلترا أن تذلل الصعاب والأزمات بالأساليب السياسية، وهي

ص: 21

ماضية أيضاً في مضاعفة استعداداتها العسكرية العظيمة.

ومن المحقق أن الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا وإنكلترا ترغب في السلام كل الرغبة، وتعمل على اتقاء خطر الحرب بكل ما وسعت؛ وكذلك لا ريب أن الفاشستية لا تبدي مثل هذا الحرص في المحافظة على السلام اجتناب أخطار الحرب؛ ولقد اندفعت إيطاليا وألمانيا خلال هذا العام إلى إثارة عدة أزمات دولية كانت كل منها تكفي لإضرام نار الحرب، فنقض ألمانيا لميثاق لوكارنو ومعاهدة الصلح، وغزو إيطاليا للحبشة وحملاتها العنيفة على إنكلترا، وعلى عصبة الأمم، وعملهما معاً على إضرام نار الحرب الأهلية في أسبانيا، كل هذه كانت وما تزال تثير كدراً في أفق السلام، وقد كادت في أكثر من فرصة أن تغدو خطراً حقيقياً على السلام.

وهذه النزعة الخطرة التي تندفع الفاشستية فيها دون تدبر للعواقب ترجع إلى حالة نفسية تستغلها الفاشستية؛ فالدول الغربية التي خرجت من الحرب بأكبر قسط من الغنيمة، والتي تبسط سلطانها على إمبراطوريات استعمارية شاسعة، وتستأثر بوفرة هائلة في المواد الأولية، تتمتع بمستوى مرتفع من الرخاء الاقتصادي، ولها صناعات مزدهرة، وتجارة خارجية عظيمة، وهي تحرص على ذلك كله، وتجانب الحرب ما استطاعت، لأن الحرب نذير الخراب البؤس الاقتصادي؛ وهذا مثل إنكلترا وفرنسا وبلجيكا؛ فهي دول (راضية) لا تود بحالتها بديلاً، أما الدول الفاشستية، أو بعبارة أخرى إيطاليا وألمانيا، فهما من الدول (غير راضية) لأنهما تعانيان حالة من البؤس الاقتصادي ولا تحتكمان على مقادير كافية من المواد الأولية، ولا تتمتعان بمقدار مرضي من الرخاء، فهما لذلك ساخطتان، تحقدان على الدول (الراضية)، وتودان تغيير هذا الحال والاستيلاء على بعض المستعمرات الغنية التي تكفل لهما الحصول على المواد الأولية؛ وإذا كانت الفاشستية تقوم في الداخل على العنف، فهي لا ترى أيضاً سوى العنف وسيلة لسياستها الخارجية، وهي تندفع بلا تدبر للعواقب، لأنها تعرف جيداً أن الدول (الراضية) أشد ما يكون زهداً في مقابلة العنف بالعنف، وأنها تعمل جهدها لاتقاء خطر الحرب؛ ولقد نجحت الفاشستية في استغلال هذه الحالة، وحققت لنفسها بالعنف ألواناً من الظفر، في ميدان السياسة والحرب، كغزو الحبشة؛ ولا تزال تسرف في الوعيد كلما لاح لها أمل في التهويل والاستغلال.

ص: 22

على أن الذي لا ريب فيه هو أن ألمانيا وإيطاليا مهما بلغتا اليوم من القوة لا تستطيعان الاضطلاع بحرب أوربية كبيرة، فكلتاهما تفتقد إلى المال والمواد الأولية، وأن كانت غنية بالرجال والأساليب الفنية؛ والحرب المعاصرة تقوم على المال والمادة كما تقوم على الفن والسواعد؛ ومن ثم كان تلهف ألمانيا على استرداد مستعمراتها وهي أمنية تبدو مستحيلة التحقيق على الأقل في الوقت الحاضر؛ ثم أنتيار الحوادث لا يستقر على حال، فها هي ذي الحرب الأسبانية تتطور في مصلحة الجمهوريين، والثورة تدنو إلىالفشل؛ وسيكون فشل الثورة الأسبانية ضربة أليمة ولكن عادلة للفاشستية التي أثارتها؛ والأحوال السياسية تتطور في أوربا الوسطى تطوراً سريعاً، ودول الاتفاق الصغير تنظر بعد خطبة الدوتشي في ميلان وما ورد فيها من إشارة إلى تعديل المعاهدات، إلى السياسة الإيطالية وغاياتها بمنتهى الريب، بل أن الاتفاق الذي عقد أخيراً بين ألمانيا وإيطاليا يبدو ضئيلاً مزعزع الأسس أمام التطورات الأخيرة في أوربا الوسطى؛ وها هي ذي إيطاليا رغم صياحها ووعيدها تؤثر أن تمد يدها إلى إنكلترا التي تمضي في تسليحاتها البحرية والجوية بخطى الجبابرة.

والخلاصة أن الفاشستية هي منبع الخطر على سلام أوربا، ففي إيطاليا وألمانيا تضطرم النار الخفية التي قد تثير ضرام الحرب في أي أزمة من الأزمات التي ما زالت الفاشستية تعمل على إثارتها بلا تدبر للعواقب؛ فإذا لم تنجح أوربا في كبح هذه النزعة الخطرة، فالويل للسلام الأوربي والحضارة الأوربية؛ بيد أن كل ما هنالك يدل على أن أوربا حريصة على سلامها وتراثها، وأنها لن تنحني أمام وعيد هتلر وموسوليني

ص: 23

‌نظرية النبوة عند الفارابي

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

- 5 -

اعتنق الفارابي، بعد الكندي، نظرية أرسطو في الأحلام وقال معه إنها أثر من آثار المخيلة ونتيجة من نتائجها. ولا بد أن يكون القارئ قد لاحظ في التفاصيل والجزئيات تشابهاً واتصالاً أكثر من هذا بين رأي الفيلسوف العربي والفيلسوف اليوناني؛ فإن الفارابي يعتد بالميول والعواطف ويثبت مالها من أثر في تكوين الأحلام وتشكيلها. ويرى كذلك أن للطبائع والأمزجة دخلاً كبيراً فيها. وكل تلك أفكار رددها أرسطو من قبل.

بيد أن مؤسس الليسيه يجهد نفسه دائماً في أن يبعد عن مذهبه التفسيرات الدينية والتعليلات القائمة على قوى خفية وأسرار غامضة. ونزعته الواقعية تغلب عليه في دراساته النفسية كما استولت عليه في أبحاثه الطبيعية والأخلاقية. لهذا نراه يرفض أن تكون الرؤى وحياً من عند الله، ولا يقبل مطلقاً التنبؤ بواسطة النوم. لأن الأحلام ليست مقصورة على طائفة دون أخرى، وفي مقدور العامة والدهماء أن يدعوا التنبؤ بالغيب عن هذا الطريق، وهذا ما لا يسلم به أحد. وهنا يفارق الفارابي أستاذه ويقرر أن الإنسان يستطيع بواسطة مخيلته الاتصال بالعالم العلوي واختراق حجب الغيب والوقوف على المكنون والخفي. ولكن يجدر بنا أن نعقب على هذا مسرعين بأن الفارابي وإن خالف أرسطو فأنه يخالفه في نقطة محدودة؛ ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال عن طريق المخيلة لا يتم في رأيه إلا لطائفة ممتازة وجمع مختار، وإذا كان الفارابي وفق لحل موضوع المقامات والرؤى فلم يبقى أمامه إلا خطوة واحدة لحل مشكلة النبوة. فإن المخيلة متىتحررت من أعمال اليقظة المختلفة استطاعت أثناء النوم أن تصعد إلى سماء النور والمعرفة. وإذن متى توفر لدى شخص مخيلة ممتازة تمت له نبوءات في النهار مثل نبوءات الليل، وأمكنه في حال اليقظة أن يتصل بالعقل الفعال مثل اتصاله به أثناء النوم، بل ربما كان ذلك على شكل أوضح وصورة أكمل. فالنبي في رأي الفارابي بشر منح مخيلة عظيمة تمكنه من الوقوف على

ص: 24

الإلهامات السماوية في مختلف الظروف والأوقات.

هذه هي نظرية النبوة في حقيقتها العلمية والفلسفية، وظروفها وأسبابها الاجتماعية، ومصادرها وأصولها التاريخية، ونعتقد أن الجزء الطريف والمبتكر في فلسفة الفارابي. حقاً إنها تعتمد على أساس من علم النفس الأرسطي، إلا أنها في مظهرها الكامل أثر من آثار تصوف الفارابي ومعتقداته الدينية. فأن الاتصال بالعقل الفعال سواء أكان بواسطة لتأمل والنظر أم بواسطة التمثيل هو قمة الصوفية الفارابية. ومن جهة أخرى يجب أن نلاحظ أن الفارابي متمش هنا مع مبدئه في التوفيق بين الفلسفة والدين ومتأثر بتعاليم الإسلام تأثره بأفكار أرسطو. فأن العقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والإلهامات السماوية في رأيه أشبه ما يكون بالملك الموكل بالوحي الذي جاءت به نظرية الإسلام: كل منهما واسطة بين العبد وربه وصلة بين الله ونبيه. والمشرع الأول والملهم والموحي الحقيقي هو الله وحده. وبهذا استطاع الفارابي أن يمنح الوحي والإلهام دعامة فلسفية، ويثبت لمنكريهما أنهما يتفقان مع مبادئ العقل ويكونان شعبة من شعب علم النفس.

غير أنه قد يعترض عليه بأنه يضع النبي في منزلة دون منزلة الفيلسوف. فأن وصول الأول عن طريق المخيلة في حين أن الثاني يدرك الحقائق الثابتة بواسطة العقل والتأمل، وليس هناك شك في أن المعلومات العقلية أفضل وأسمى من المعلومات المتخيلة؛ ولكن الفارابي فيما يظهر لا يأبه بهذه التفرقة ولا يعيرها أية أهمية؛ وسواء لديه أن تكون المعلومات مكتسبة بواسطة الفكر أم بواسطة الخيالة، ما دام العقل الفعال مصدرها جميعاً، فقيمة الحقيقة لا ترتبط بالطريق الذي وصلت إلينا منه، بل بالأصل الذي أخذت عنه؛ والنبي والفيلسوف يرتشفان من معين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع؛ والحقيقة النبوية والحقيقة الفلسفية هما على السواء نتيجة من نتائج الوحي وأثر من آثار الفيض الإلهي على الإنسان عن طريق التمثيل أو التأمل.

على أن الفارابي بعد أن فرق في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة بين النبي والفيلسوف من ناحية الوسائل التي يصلان بها إلى المعرفة عاد فقرر في مكان آخر أن الأول، مثل الثاني، يمكنه أن يعرج إلى مستوى الكائنات العلوية بواسطة العقل. فأن فيه قوة فكرية مقدسة تمكِّنه من الصعود إلى عالم النور حيث يتقبل الأوامر الإلهية فلا يصل النبي إلى

ص: 25

الوحي عن طريق المخيلة فحسب، بل فيه من قوى عقلية عظيمة. يقول الفارابي:(النبوة مختصة في روحها بقوة قدسية تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر كما تذعن لروحك غريزة عالم الخلق الأصغر فتأتي بمعجزات خارجة عن الجبلة والعادات؛ ولا تصدأ مرآتها ولا يمنعها شئ عن انتقاش ما في اللوح المحفوظ من الكتاب الذي لا يبطل، وذوات الملائكة التي هي الرسل، فستبلغ مما عند الله إلى عامة الخلق).

وإذا كان في مقدور النبي أن يتصل بالعقل الفعال بواسطة النظر والتأمل فأن النبوة تصبح ضرباً من المعرفة يستطيع الناس على السواء الوصول إليه. فبتأثير العقل الفعال نبحث ونفكر وندرك الحقائق العامة، وبتفاوت أثره فينا تختلف درجاتنا ويفضل بعضنا بعضاً، وإذا ما عظم إشراقه على واحد منا سما بنا إلى مرتبة الإلهام والنبوة. وعلى هذا هو الذي دفع علماء الكلام إلى أن يأخذوا على الفارابي ومن جاء بعده من فلاسفة الإسلام ميلهم إلى عد النبوة أمراً مكتسباً. مع أن أهل الحق، فيما يصرح الشهرستاني، يقولون (إن النبوة ليست صفة راجعة إلى النبي، ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه، ولا استعداد نفسه، يستحق به اتصالاً بالروحانيات، بل رحمة يمن الله بها على من يشاء من عباده). ونحن لا ننكر أن موازنة الفارابي بين النبي والفيلسوف تدع باب النبوة مفتوحاً للجميع، كما أن الفلسفة ليست مقصورة على طائفة دون أخرى. إلا أنه يخيل إلينا أن الفلسفة في رأي الفارابي ليست سهلة المنال بالدرجة التي تبدو لأول وهلة، فلكل أن يتفلسف، ولن يحظى بالفلسفة الحق إلا أفراد قليلون؛ وفوق هذا فالفارابي يقرر أن النبي ينعم بمخيلة ممتازة أو قوى قدسية خاصة، ويغلب على ضننا أن هذه القوة القدسية وتلك المخيلة فطريتان في رأيه لا مكتسبتان وإن كان هو نفسه لم يصرح بذلك. ونحن نسلم جميعاً بأن في نفس النبي ومزاجه كمالاً فطرياً استحق به النبوة، وسما بسببه إلى الاتصال بالملائكة وقبول الوحي. والأنبياء هم صفوة الناس وخيرة الله في خلقه:(الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس) يقول الشهرستاني: (فكما يصطفيهم من الخلق قولاً بالرسالة والنبوة يصطفيهم من الخلق فعلاً بكمال الفطرة ونقاء الجوهر، وصفاء العنصر، وطيب الأخلاق وكرم الأعراق. فيرفعهم مرتبة مرتبة، حتى إذا بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة وكملت قوته النفسانية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكاً وأنزل عليهم كتاباً).

ص: 26

وأخيراً إذا كان الفارابي قد استطاع التخلص من الاعتراضين السابقين فهناك اعتراض ثالث تعز الإجابة عليه، وهو أن تفسير الوحي والإلهام على النحو السيكلوجي السابق يتعارض مع كثير من النصوص الثابتة. فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورة بعض الأعراب أو أنه كانت تسمع له صلصة كصلصلة الجرس، إلى غير ذلك من آثار متصلة بالوحي وطرائفه. ولا نظن أن هذه الآثار غابت عن الفارابي، إلا أنه، فيما نعتقد، شغل بمسألة أخرى، وعني بأن يثبت أولاً وبالذات أن الوحي أمر ممكن ولا يخرج على المبادئ العلمية المقررة، وبذا أصبح اتصال الروحاني بالجسماني الذي كان يستبعده الصابئة وغيرهم مقبولاً، وينبغي أن نلاحظ أن جُلّ جهد الفارابي في نظرية النبوة لم يكن موجهاً نحو أهل السنة الذين يؤمنون بكل ما جاء في القرآن والحديث متصلاً بالوحي وكيفياته، وإنما كان مصوباً إلى تلك الطائفة التي أنكرت النبوة من أساسها، وهذه الطائفة لم تحارب الإسلام فحسب، بل حاربت الأديان على اختلافها. فلم ير الفارابي بداً من أن ينتصر لمبدأ النبوة من حيث هو وان يوضحه بمعزل عن أية بينة أو وسط خاص، وليس بعزيز عليه بعد هذا أن يتأول ما ورد من نصوص دينية تخالف آراءه أو تبعد عنها، وقد سلك سبيل التأويل غير مرة، فسلم بوجود اللوح والقلم مثلاً، ولكنه فسرهما تفسيراً يتفق مع نظرياته الفلكية والميتافيزيقية، ونحن لا ننكر أن الاسترسال في التأويل قد يغير كثيراً من معالم الدين، إلا أنه وسيلة لازمة لمن يحاولون التوفيق بين العقل والنقل. والحقيقة أن الفارابي وقف هنا، شأنه في نظرياته الأخرى، موقفاً وسطاً، فأثبت النبوة إثباتاً عقلياً علمياً غاضاً الطرف عن بعض النصوص والآثار المتصلة بها. وكأنه في الوقت الذي منحها فيه أسلحة جديدة جردها من بعض ما كانت تعتمد عليه من أحاديث وأسانيد. والموفق مضطر دائماً لأن يستخلص من الرأيين المتقابلين مذهباً جديداً يمت إلى كل واحد منهما بصلة.

ومهما يكن من شئ فلو لم يصنع الفارابي إلا أنه أظهر في جلاء منزلة النبي السياسية والاجتماعية لكُفي. وقد استطاع بهذا أن يرد على أباطيل أبن الراوندي واعتراضات الرازي. وعلى ضوئه سار فلاسفة الإسلام الآخرون وفسروا كثيراً من التعاليم الدينية بهذه الروح وتلك النزعة. وبوضع النبوة هذا الموضع الإنساني الاجتماعي يمكن أن تحل مشكلة

ص: 27

الرياسة الدينية والسياسية التي شغلت المسلمين منذ القرن الأول للهجرة. وفي رأي الفارابي أن النبي والإمام والملك والحاكم والفيلسوف الذي نادى به أفلاطون لجمهوريته يجب أن يقوموا بمهمة سياسية واحدة. فهم واضعو النواميس والمشرفون على النظم الاجتماعية مسترشدين في كل هذا بالأوامر الإلهية. وميزتهم المشتركة أنهم يستطيعون الاتصال بالعالم الروحاني في حال اليقظة وأثناء النوم بواسطة المخيلة أو الفكرة. وفي هذا التفسير ما فيه من انتصار للإسماعيلية والشيعة بوجه عام سنرى أثره فيما بعد.

(يتبع)

إبراهيم مدكور

ص: 28

‌شخصية ناقدة يهملها النقد العربي

نقد أبن أبي عتيق

للأستاذ خليل هنداوي

ما زدت خوضاً في آثار الأقدمين إلا زدت إعجاباً بها وبهذا الجد الذي ولدها؛ وإنك لتقلب في كتبهم فيبهرك هذا التلون في المادة وهذا التفنن، وهب أنك خرجت منزعجاً لاضطراب في الاتساق واختلاف في الاتفاق، فإن هذا لم يكن ليذهب ببعض عجبك من هذا الجد ومن هذا الدأب اللذين يدلانك على عقلية حاولت أن تتأمل وتعلل!

في كتب الأقدمين ذلك الاضطراب الذي كان لا يحسه أصحابه. لأنهم لم يعملوا أعمالهم على حساب الأجيال الآتية، ولو فعلوا لهوَّنوا على مؤرخينا كثيراً من عناء الافتراض وقياس ما لا يقاس، ولكن أصحابنا - عفا الله عنهم - لم يريدوا أن يعطونا الثمرة ناضجة بل أرادوا أن نعمل على إنضاجها وصونها. وفي كتبهم ثمرات كثيرة تنادي الأيدي وهي دانية القطوف؛ وأذكر أني ما جلست يوماً إلى كتاب من هذه الكتب إلا خرجت بحديث ممتع أو فائدة جميلة تدفعني نفسي إلى التقاطها وأنى لي أن أقسم أعضاء جسدي أقلاماً تسطر!

جلست في هذا الصيف إلى أغاني أبي الفرج التي كلما ضربها الأدباء تفجرت منها عيون جديدة. ووقفت على أسم (أبن أبي عتيق) الذي عاش في الحجاز في العصر الأموي ورافق تطور المدرسة الغزلية أتأمل تكرر أسمه في كثير من المواقف مع كثير من الشعراء، طوراً يبدو لي كناقد وطوراً كسامر، فحصرت مواقفه في هذه المواضع على التقريب، فإذا بي أراني أمام شخصية عنيدة في النقد هي - إذا صح ضني - أول شخصية في الأدب العربي (اليقيني) عالجت الأدب وعملت على نقده مستلهمة إلا ذوقها. . . ولكن أبا الفرج عفا الله عنه ترك هذه الشخصية مجهولة لأنها - في زعمه - لم تبتكر ولم تنتج شعراً ولا لحناً، ولكن هذه الشخصية تتردد كثيراً على الأفواه. وتغشى كثيراً مجامع اللهو والأدب، وتصبغ كثيراً هذه المجاميع بألوانها الخاصة. ومما يجعل هذه الشخصية بارزة ترددها الكثير إلى هذه المجامع المختلفة، وتردد أصحابها إليها معتبرين رأيها في النقد والأدب. ولا اعلم - بحسب روايات الأغاني - نقداً تحليلياً عميقاً كهذا النقد. ولقد أردت أن أوضح هذه

ص: 29

الشخصية وأستوضح عنها في بطون الكتب والأخبار، وليس عندي ما يسعفني على ذلك؛ ولو كان ذلك سهلاً لما سهل على عقلي الذي لم أتعود إرغامه على الدخول في هذه المنعرجات الطويلة التي تحتاج إلى تأمل طويل وأناة في الإمعان. ولكن ذلك غير مانعي في من أن أغامر في رسم ناحية من نواحي شخصية هذا الرجل العجيب المنتج في النقد، وأظنها الناحية الأكثر بروزاً في الرجل.

والآن من هو ابن عتيق؟

يبدو لنا أن أبي عتيق رجلاً يخالط المغنين والشعراء ولا بد أنه كان يتذوقهم، وأنه كان صاحب ثقافة واسعة في الشعر والغناء تخول له الحكم فيهما، وإن كان بعد هذا كله صاحب ذوق خاص يفهم الشعر والغناء به. ومنذ كان كما يبدو يقصده الملحنون والشعراء أنفسهم يحتكمون إليه في لحن أو بيت أو ملحن أو شاعر فلا يتباطأ في حكمه، ولا يفل رأي في ذلك. حديد اللسان والجنان والبيان! ولولا هذه الثقافة وهذه الشهرة لما كان له مقام في ذلك. ولقد كان عمر بن أبي ربيعة أحسن المقربين إليه، وكان له معه عشرة حسنة ومجالس طيبة، وكان له مع شعراء الحب والغزل أمور كثيرة، ولا بد أن حادثة من حوادث غرامه جعلته يحدب على المحبين، ويمثل دور الرسول بينهم وبين أحبتهم.

ويمتاز نقده بأنه كان نقد روح ومعان لا نقد قشور ومبان؛ ويعود سر ذلك إلى أن اللغة العربية كانت لا تزال بعيدة عن الفساد، وأن لسان العرب كان لا يزال لساناً فصيحاً، وكان نقده أقرب إلى أحاديث النوادي، لأنه نقد بيت أو فكرة، ولأنه نقد يلم بجانب واحد من المعنى ويهمل بقية الجوانب. ونقده ليس فيه صرامة ولا خشونة ولا صلف، وإنما هو نقد تهيمن عليه رقة حجازية ومجون برئ يأبى إلا أن يظهر. ومن وراء ذلك تهكم بعيد ويصيب المفصل! ولهذا التهكم جعل الشعراء يتقدمون إليه ويطمعون في اكتساب مرضاته. وهو يذهب تارة في نقده يكشف عن المعنى غطاء ثقيلاً، وطوراً يستجلي المعنى البعيد في البيت ويكشف عن قصده، وتارة يفسد على الشاعر ما ذهب إليه ولم يفطن له! ومثل هذا النقد أقرب إلى الروح الأدبية في ذلك العصر وهو - بعد هذا - بعيد عن مثل ذلك الاختلاق الذي وضع على لسان الخنساء يوم نقدت حسان بن ثابت وأضعفت بنقدها اللغوي مواضع فخره! لأن الوثبات الأدبية الأولى في الأمم لا ترنو إلى مثل هذه الفروق اللغوية

ص: 30

الدقيقة التي لا تنشأ إلا عند رجال انصرفوا إلى اللغة وتدقيقها والتفريق بين فروقها، ولو أن هذه الوثبات تلتفت إلى هذه الفروق لقتلت كثيراً من روح نشاطها وأخمدت كثيراً من نار إبداعها. ويمتاز أبن أبي عتيق بثقافته الغنائية، ومثل هذه ترقق الذهن وتلطف الحواس وتجعل للبيت المنظوم قدراً خاصاً. وقد كانت هذه الثقافة الغنائية عنده سليقة طبيعية. ولقد مر ذات يوم بمعبد وهو يغني - وكان طفلاً - فقال:(إن عاش معبد كان مغني بلاده) وعاش حتى رأى صدق نبوءته. ويمتاز بهذه الروح الخفيفة التي لا يستغني النقد ولا الناقد عنها. ويدل على ذلك مواقف كثيرة.

منها أن عمر بن أبي ربيعة شبب بزينب بنت موسى الجمحية بقصيدته:

يا خليلي من ملام دعاني

وألما الغداة بالأظعان

وكان سبب ذكره لها إن أبن أبي عتيق ذكرها عنده ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلب عمر. فبلغ ذلك أبن أبي عتيق فلامه فيها وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي؟ فقال عمر

لا تلمني، عتيق! حسي الذي بي

إن بي يا عتيق ما قد كفاني

لا تلمني، وأنت زينتها لي

أنت مثل الشيطان للإنسان

قال أبو وداعة السلمي منكراً على عمر التشبب بها (لا أقر لأبن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هصيص في شعره) فأجاب أبن أبي عتيق (لا تلوموا أبا وداعة أن. . . من سمرقند على أهل عدن) ومن خفة روحه أن سمع عمر ينشد قصيدته.

ومن لسقيم يكتم الناس ما به

لزينب نجوى صدره والوساوس

ولستُ بناسٍ ليلة الدار مجلساً

لزينب حتى يعلو الرأس رامس

خلاء بدت قمراؤه وتكشفت

دجنته، وغاب من هو حارس

وما نلتُ منها محرماً غير أَننا

كلانا من الثوب المورد لابس

قال عتيق: أَمنا يسخر أبن أبي ربيعة، فأي محرم بقى؟ فاعتذر عمر، فقال له عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة. فأنظر ما كان أبعد هذه الروح في كشف المستور، وما أخف روحها في التعبير عنه.

ولقد يثبت في تهكمه من الأدب إلى السياسة ويضربهما ويصيبهما بحجر واحد ويكون

ص: 31

تهكمه في هذا الموقف الدقيق بليغاً ما بعده أَبلغ! سمع عمر ينشده قوله

فأتتها طبة عالمة

تخلط الجد مراراً باللعب

إن كفى لك رهن بالرضا

فاقبلي يا هند! قالت: قد وجب

فقال له عتيق: إن الناس يطلبون خليفة مذ قتل عثمان في صفة قوادتك هذه يدير أمورهم فما يجدونه. فماذا يستطيع المحلل أن يزيد على هذا التهكم؟ ويسمع عمر ينشده قوله

حبذا أنت يا بغوم وأسما

ء وعيص يكننا وخلاء

فقال له: ما أبقيت شيئاً يُتمنى يا أبا الخطاب إلا مِرجلاً يُسخن لكم فيه الماء للغسل. ولا أدري كيف يوفق بين محرم وطاعة إلا التهكم وحده؟

ويسمع عمر ينشده قوله:

ليت ذا الدهر كان حتماً علينا

كل يومين حجة واعتماراً

فأجابه عتيق: الله أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته ليتم لك فسقك! وهكذا تجد أنه يتصدى لعمر لا لأنه يضمر لعمر مقتاً أو كرهاً، ولقد كان لعمر في نفسه منزلة لم ينزلها غيره من شعراء عصره وهو الذي تنبأ بنصف بيت كان في خاطر عمر.

قال عمر: لا تلمها وأنت زينتها لي

فأجاب عتيق: أنت مثل الشيطان للإنسان

فقال عمر: هو والله!

فقال عتيق: إن شيطانك ورب القبر ربما ألم بي فيجد عندي من عصيانه خلاف ما يجده عندك من طاعة، فيصيب مني وأصيب منه.

ولعمر كما ذكرت في نفسه منزلة خاصة إذ يرى فيه المثل الأعلى للشعر، إليه يسمو الشعراء، وبشعره يقتدي الشعر. ولقد كان يعرف شعراء عصره منزلة عمر عند أبن أبي عتيق. فكان يأتيه من يحاول مناقضته أو مجادلته فيه، وكان الشاعر يأتي بأبيات يتحدى شعر عمر، ولا أعلم شاعراً انثنى سالماً من نقد أبن أبي عتيق، ولا أعلم واحداً استطاع أن يجرح له حكماً أو نقداً.

(دير الزور)

البقية في العدد القادم

ص: 32

خليل هنداوي

ص: 33

‌في الحياة

للأستاذ السيد محمد زيادة

لست أكتب هذا لأكتب؛ وإنما هي شكوى أطرحها هنا. . . أما طرفها الأول فهو أنا، وأما طرفها الثاني فلا أدري أهو شعوري المرهف لكل كبيرة وكل صغيرة تمر به، أم هو وجداني المستوعب دائماً كل ما فيَّ وكل ما أنا فيه، أم هو نفسي المتفتحة لكل ما ينتهي إليها من أمرها ومن أمر غيرها!!. فأني في هذا الشعور بهذا الوجدان مع هذه النفس أعيش في الدنيا كسفينة المستكشف عملها في اليم أن تظل حائرة على الوجه اليم فلا تكاد ترسو إلى شاطئ إلا لتنشد غيره؛ ويتملك رأسي خيال يقظ لا يهجع. ويقظة الخيال شقاء من الفن فهي شقاء في كل مواقع الحس لكل نواحي الحس.

وأراني منكوباً بهذا الخيال مرزوءاً بهمه، ثم أراني أحبه ولا أحيا بغيره. . . فكأنما أنا بين بليّتين فيهما مشكلتان لا حل لهما فلا نجاة منهما. . .

وأحس أنني قد قدر علي أن أعيش هكذا حتى أموت هكذا؛ فما استريح يوماً من سعي الخيال وراء ما يعني وما لا يعني، ولا اقصر يوماً عن التفكير في صوره التي يستخرجها من صور الحياة. أتُراني مقطوعاً من قمة جبل محطوطاً عند سفحه، وأريد أن أرى وأنا عند السفح ما أراه وأنا في القمة؟. . أم تراني أخطأت إذ خلقت لتحتويني الدنيا فظننت أني خلقت لأحتويها؟. .

أمشي في الطريق فأرى قصاباً يمر بسكينه مرتين على رقبة ديك كبير، ثم يقذف به بعيداً؛ فيقف صامتاً تتدفق الدماء من عنقه، وتزوغ عيناه فتارة تشخص إلى القصاب، وتارة تتطلع إلى الصبية الملتفين حوله يشهدون مصرعه، وتارة تنظر إليّ وكأنها تقول كلاماً، ثم يرقص الديك رقصة الموت إذ ترنِّحه المنية، ثم يرتمي على الأرض. . . فأُلقي عليه نظرة ساكنة ثم ألتفت عنه وآخذ سبيلي فإذا هي على غير ما كانت عليه، وكأن الشارع بما فيه من سابلة وما يحفه من مبانٍ خلوة هادئة في وهدة غارقة بين نجدين. فأستعيد صورة الديك مضطرباً ثم مذبوحاً ثم هامداً فيخيل إلي أنه كان وقت ذبحه يقول: الآن قد آمنت بأنني ما خلقت إلا ليأكلني من كان يطعمني. .

ثم أغيب عن الوجود غيبة، وأظل أفكر ويشغل بالي التفكير. وقد يستنفذ هذا من وقتي ومن

ص: 34

ذهني ما أنا في حاجة إليه لشؤوني.

وانطلق مع صديق لي إلى ناحية المروج في نزهة خلوية فتقابلنا على الأرض نملة تسعى، فيدوسها الصديق بقدمه عامداً إلى قتلها؛ ولكنه يتركها تتلوى فلا هي بالحية ولا هي بالميتة، فيشجر بيني وبينه شقاق في الرأي حول فعلته. . . أريد أن اثبت له أنه مخطئ وأن الله لم يجعله على الأرض مبيداً للحشرات، ويريد هو أن يثبت لي أنه مصيب وان الله لم يجعلني على الأرض مرشداً للناس. ويطول الخلاف بيني وبينه، فلا هو مقتنع بأن عمله هذا قسوة ولا هو مقنعي بأن عمله هذا رقة؛ فأضطر إلى السكوت على مضض وأمشي مشفقاً على النملة المتوجعة، متألماً لطغيان القوة على الضعف، متعجباً لاعوجاج معنى الحياة، حاملاً من إشفاقي وتألمي وتعجبي ثورة على صديقي. . . لقد ديست النملة وتحطمت وبقيت تتعذب حتى تموت فماذا جرى منها حتى نستحل ما جرى عليها؟. . وأين الرحمة؟ أين الرحمة؟

وأظل أتغيظ ويملأ الغيظ نفسي، وقد يذهب هذا من سروري ما أنا في حاجة إليه في نفسي.

ويصادفني في الطريق رجل كسير مسكين يترقرق الدمع في عينيه ويكاد يطفر، وتجول الحسرة الصامتة في جبينه وتكاد تتكلم؛ فتلتقي عيناي بعينيه في موقع الفاقة من هيكله، ثم يلتقي شعوري بشعوره في موضع الألم في نفسه. . . وأراه يتلفت عن يمينه وعن شماله متفرساً في وجوه المارين به مر الزوارق اللاهية بالصخرة الحزينة، فأذهب أتصور نفسي بائساً بؤسه حائراً حيرته واقفاً، وأمكث أتحرى في مسارح شعوري ما كنت أقوله لنفسي وما كانت نفسي تقوله لي. . . حتى أسمع في وجداني هذا الحديث: كنت أقول لنفسي: أنا جائع فهل من هؤلاء الناس السعداء من يعرف الجوع؟ وهل منهم من يرده؟. . . وتقول لي نفسي: أمسك على الطوى فليس بين الناس من يرجى، وليس غير الله من يسأل. . . فأقول لها وهل المحسن من الناس إلا يد من الله تمد بالحسنة؟. . . فتقول لي: يد الله لا تنتظر السؤال لتعطي. . .

ويتمطط حديث الوجدان ويطول، وأظل أتحسر ولا أستطيع إلا أن أتحسر؛ وقد يستغرق هذا من وجداني ومن خاطري ما أنا في حاجة إليه لعملي.

ص: 35

وأجلس في غرفتي مسهداً في هدأة الليل تشرف بي جلستي على دور ومن ورائها حقول ومن ورائها ما لا يرى. . . فتذهب عيني إلى مسارب الفكر، ويغوص فكري إلى أعماق الكيان. فماذا أجد هناك، وما تحمل نفسي من هناك؟!

أجد هناك إرادة الحياة تغالب إرادة الموت فتتجاذبان روح الإنسان، والإنسان بينهما عاجز لا حيلة له، ضعيف لا قوة فيه، مسخر لا رأي عنده. . . وما تزالان تصطرعان حتى تهتديان إلى حل تصطلحان عليه، هو أن يموت الإنسان جزءاً من اليوم على قدر استعداده للخمود والموت، ويحيا بقية اليوم على قدر استعداده للعمل والحياة؛ وتتفقان على أن تسمى تلك الموتة اليومية الصغيرة بالنوم، فيقال نام. . . حتى تعافه الحياة فتنزل عنه للموت فيقال مات. . .

وتحمل نفسي من هناك كلمة الفناء ومعها كلمة الألم؛ وأقول لنفسي: حقاً إن هذا الذي نسميه النوم ما هو إلا راحة أصغر من راحة، فهو موت أصغر من موت. . . يا عجباً!! أهكذا جُعل الموت على رقابنا حتى لم تخل منه الحياة نفسها؟! أهكذا خُلقنا لنموت ونحيا كل يوم ثم نموت في يوم فلا نحيا؟! ثم أقول: يا ويلتاه. . . لن ألبث إلا قليلاً حتى أكون في عداد هؤلاء الأموات الذين تركوا الدنيا وما يزالون فيها. . فمنهم من يبعث ليأرق ثم يموت، ومنهم من يبعث ليشرب ثم يموت، ومنهم من تدخله موتته الصغرى في موتته الكبرى فلا يبعث إلا يوم الحشر. . .

وأظل أتأمل وأتوزع بين التأملات؛ وقد يشغل هذا من بصيرتي ومن إدراكي ما أنا في حاجة إليه لقلبي.

وآوى إلى مضجعي قبيل الفجر مهدماً كالقادم من سفر طويل، مكدوداً كالفارغ من عمل شاق؛ وألقي برأسي على الوسادة ثقيلاً كالحجر، ساخناً كالأتون، ممتلئاً بما أفرغت فيه المشاهد والمشاعر من صور طول النهار ومعظم الليل. . . وفيما أنا أستشعر الخلو، وأتلمس الاستقرار، واستكفي مخي عناء التفكير، وأقنعه بضرورة الرقاد. . . يطرق مسمعيصوت بوم ينعب، وأنا لا أمقت كما أمقت البوم طائراً نافعاً أو ضاراً؛ فأنهض من فراشي لا لأغلق النافذة دون ذلك الصوت الكريه البعيد فأزيد بعده أو أصده؛ وإنما لأطل من النافذة فأقترب من ذلك الصوت الكريه البعيد فأسمعه جيداً لعلني أفهم غموضه فأفسره.

ص: 36

وتمر من الليل فترة وما تكاد تنقضي حتى أجدني قد انقلبت عاطفاً على البوم واجداً في نعيبه جمالاً ولذة؛ وما تغير هو حتى صار محبوباً، وما تغيرت أنا حتى صرت أحبه. . . ولكني إذا افتح لسماعه آذان نفسي أسمعه كالمغني، وإذا أفتح لعنائه آذان عقلي أتسمع فيه نداء المحب المشتاق للحبيب الغائب. . .

وأظل ألقي على نفسي في أنر البوم ونعيبه وشؤمه السؤال بعد السؤال؛ وقد يأخذ هذا من راحتي ما أنا في حاجة إليه لجسمي.

وهكذا أراني منكوباً بهذا الخيال مرزوءاً بهمه، حتى ليقودني إلى جنون شعري ثائر يفقدني لذة التمتع بمظاهر الكون وجماله في البحث عن حقيقة الكيان وأسراره.

والعزيز على هو أني لا أملك الخلاص من الخيال، فأنا لا أملك الخلاص من هذا التعب - اللهم إن كان هذا من فطرة الشعر فلبئست الفطرة، ولخير منها فطرة الجمود والبلادة.

إن من الناس أناساً يعيشون في هذه الحياة ليعيشوا فقط؛ لا فكر في أدمغتهم، ولا حرب في عقولهم، ولا نصب في أفئدتهم. . . كأنما خلقوا جسوماً بغير قلوب، ولكنهم سعداء أنهم يشعرون بأنهم سعداء!!

أريد أن أجرب هذه السعادة فأطرح هموم الخيال، وأنسى خيال الهموم، وأعيش بظاهر ما أرى. . أريد أن أفهم ولو يوماً واحداً أنني سعيد وإن فهم الناس في ذلك اليوم أنني شقي.

(طنطا)

السيد زيادة

ص: 37

‌بغير عنوان.

. .

(إن وجدتم في هذه الكلمة صراحة في الوصف، فلا تلوموا الطبيب فأنه يصف المرض، ليعين الدواء)

للأستاذ علي الطنطاوي

كان شاباً غُرَانِقاً جميلاً، صبوح الوجه، متأنثاً، قد أصيب بمرض التَّجمل. . . فلم يكن يجئ إلى المدرسة إلا متزيناً مستعداً استعداد عروس تزف إلى بعلها، قد صفف شعره ودهنه وعطره ولبده وعقربه على صدغيه، وحلى وجهه وصقله، وصنع به ما لست أدري. . . فبدا أبيض أحمر مشرقاً مجلواً صقيلاً، كأنه صفحة مرآة. . . وكشف عن أعالي صدره، وأحاط عنقه بهذه العقدة التي يفتن في عقدها واختيار لونها واتساقها مع الحُلة التي يلبسها افتناناً. . . ولا يزال أبداً يمد يده إليها يتلمّسها، ويصلحها ويطمئن عليها، ثم يحرك رأسه حركة غنجة يردّ بها عقارب صدغيه إلى مكانها!

وكان واضح الجبين، أزجّ الحاجبين حتى كأنهما قد خطا بقلم، أنجل العينين أشهلهما كأن لهما لون السماء وعمق البحر، وكأنهما تستجديان الحب. . . إذا نظر غض الطرف من الحياء، ودانى بين جفونه، وبرقت عيناه الناعستان فقالتا كلمة فلم تتم، فأنمها فمه القاني الصغير وشفتاه المضمومتان. . . وإذا تكلم تكلم بصوت لين حالم سكران، كأن ألفاظه تقول شيئاً، ولهجته ونبراته تقول شيئاً آخر، تقول: إن رجولة صاحبي رجولة مزورة! وإذا مشى تثنى وتخلع وتكسر، وماج جسمه موجاً، وذهب كل عضو منه في ناحية، كأن جسمه متفكك، قد تقطعت أوصاله وفصمت عراه وانحلت لوالبه. . . وإذا دعوته أقبل إلي يتهادى ويميل، فإذا وصل إلى حيث أكون، وجد أقرب متكأ فأستند عليه، كأنه بناء لا يقوم إلا إذا أسندته بدعامة، وإذا كلمته خجل كأنه فتاة في الخدر، وأجاب بصوت خافت يكاد يبتلعه الخجل، فكنت أزعق في وجهه من الغيض، ثم أطرده طرداً. . .

ولم يكن ينصرف إلى علم أو يقبل على درس، لأن عقله قد سال على جوانب جسمه خرقاً وثياباً، ولم يبق منه في داخل ما ينفع لعلم أو درس، فهو دائماً ينظر في عطفيه، ويتأمل ثيابه ويخرج من جيبه مشطه ومرآته، ولولا بقية من حياء لأخرج أبيضه وأحمره وقلم شفتيه. . .

ص: 38

وكنت أراه في باحة المدرسة فأراه غريباً عن هؤلاء الشباب لا يطيق حراكاً، ولا يحسن لعباً، ولا يدفع عن نفسه اعتداء، وما فيه من الرجولة إلا اسمه وبدلته.

وحاولت إصلاحه، وتعهدته بالنصح والإرشاد، فكنت كمن ينفخ في غير ضرم، فأيست من إصلاحه وكرهته وأبغضته، وجعلت أزوي بصري عنه، وأتناساه وأهمله، ثم افتقدته فلم أجده، ثم علمت أنه قد فارق المدرسة.

ومرت أسابيع، ثم رأيت في مكانه طالباً جديداً من الطلاب الذين يتدربون على الجندية، يلبس الثوب العسكري، وعلى وجهه طابع الرجولة: له شاربان كاملان، وأثر اللحية ظاهر على خديه، والقوة والصرامة بادية في عينيه وملامحه؛ وكان قوي النظرات، صعاقاً جهير الصوت، ذكياً مقبلاً على الدرس، فطناً ألمعياً؛ وكان سريع الحركة، جم النشاط، إذا دعوته أقبل يسير بخطى موزونة، يطأ الأرض وطأ شديداً، وقد نصب قامته ورفع رأسه، فإذا قام بين يدي قرع رجلاً برجل ثم رفع يده بالسلام لا كما يرفعها مثلي أو مثلك، بل كما يرفع يده الجند بالسيف يستله من قرابه، وإذا كلمته أجاب بجرأة وأدب؛ وكنت أراه في ساحة المدرسة، فأراه على اجتهاده وإقباله على العلم، قوياً نشيطاً يصارع الطلاب ويباطحهم، فإذا تمكن من منهم وعلا عليهم عفا عنهم وأبقى عليهم، فكنت أعجب من قوته ونبله، وعلمه وفضله، وأكبر فيه هذه الصفات.

ثم أنني أحببت أن أشجعه وأضرب منه للطلاب مثلاً، فتكلمت وأثنيت، وقلت: كم بين هذا وبين ذاك من فرق. . .!!

فصاح الطلاب: ومن هذا ومن ذاك؟ أنهما شخص واحد!

قلت: ويحكم! فأي معجزة هذه التي بدلته شخص آخر، وأنشأته إنشاء جديداً؟

قالوا: يا أستاذ. . . إنه تدرب أسابيع على الجندية. . . . . .

(بغداد)

علي الطنطاوي

ص: 39

‌في الموسيقى

إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب

للأستاذ محمد زروقي

سيدي الأستاذ:

لا أدري إذا كانت أعمالك الكثيرة تسمح لك بتوجيه بعض اهتمامك إلى ملاحظاتي الآتية، كذلك لا أدري إذا كانت وجهة نظري تبدو لك على صواب. وبالرغم من ذلك فأني أحسن الظن بك، وأسجل هنا أني آمل منك أن تتنازل لسماع صوت متواضع من بعيد لشخص من أكثر المعجبين بك والمتحمسين لك.

واسمح لي بادئ ذي بدء أن أوضح لك نقطة هامة راجياً منك العفو وحسن القبول.

وليس لي أن أوجه خطابي الجريء إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب الذي ليس لي شرف معرفته المعرفة الكافية، ولكني أوجهه إلى فناني المفضل، إلى ذلك الذي كثيراً ما استمع إليه، إلى ذلك الذي يستطيع - كصديق حميم - أن يفتح لي قلبه بكرم فأرى وأميز قلبي منعكساً عليه.

وهنا يخيل إلى أن معرفتي الدقيقة بالفنان - وهي ترجع إلى مدة بعيدة - تحتم علي ألا أخفي عنه شيئاً، وإلا كانت بمثابة خيانة له. كما يخيل إلي أن تبادل الشعور يجعل لي الحق، وربما يتطلب مني البحث عن شئ من أخطائه والاحتجاج على بعض وسائله.

بعد ذلك أبدأ - إذا سمحت لي - بأن أعبر عن الأسف الذي يعتورني عندما اسمع بعض مقطوعاتك المشهورة مثل (في الليل) و (اللي انكتب) باللهجة المصرية، في حين أن لغة امرئ القيس والمتنبي هي التي كان يجب استعمالها إذا كنا نود أن نهدي إلى أحفادنا مثل هذه الأعمال الخالدة. فذلك الذي أودع (يا جارة الوادي) في أسطوانة يجب ألا يتقيد بحدود البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وأن يظل ضمن الحدود التي اختطها الفراعنة (فماذا تهم الزجاجة نفسها ما دامت تسكرنا؟) وإني أشارك (نيتشه) رأيه الذي يقول بأن العاطفة يجب أن يعبر عنها الصوت دون غيره، وألا نعطي للكلام أكثر مما يستحق من الأهمية، ولذلك فأنني أعطي للموسيقى نفس المرتبة التي يضعها فيها المفكرون: تلك المرتبة التي تحلها محل الكلمات العاجزة عندما تكون هذه الأخيرة فقيرة وقاصرة أمام

ص: 40

مطالب الحساسية القوية.

الآن أنتقل إلى الغرض الأساسي من خطابي:

حاولت في بحث قصير كان موضوع إحدى المناقشات أن أوجه مقارنة بين الحساسية في الغرب وبينها في الوسط الذي أعيش فيه، وذلك عن طريق دراسة أقوى وسائل التعبير عنها - ألا وهي الموسيقى - ولكي أعزز مناقشتي لجأت إلى الأدب وتاريخه وشخصياته البارزة. وحينئذ أصبحت مدفوعاً إلى أن أقرر بأن الغرب قد تأخر إلى القرن التاسع عشر ليشهد ازدهار (المذهب الرومانتيكي) أي تلك الحركة الفكرية والفنية التي تشبه أدبنا إلى حد بعيد. ولذلك فان أوربا لم تخلق إلا حديثاً، وحديثاً جداً من يكمل ما بدأه عمر الخيام والمعري والفردوسي. فالنفثة الحزينة المؤلمة التي بعثها الفيلسوف شبنهور (1788 - 1860) هي التي ألهمت كل الموسيقيين الرومانتيكيين، هؤلاء الموسيقيين الذين عالجوا مسائل القدر المعقدة، وآلام الإنسانية المحكوم عليها بالعذاب. وإن أشهر زعماء المتشائمين الغربيين ليس لهم أن يعلمونا شيئاً، كما أن شوبان الذي قيل إن (توقيعاته ما هي إلا دموع متساقطة على أصابع البيانو) لم يصل مطلقاً إلى ما وصلت إليه أغانينا الحزينة حسب رأيي على الأقل.

ولا شك في أن الموسيقى ليست عالمية. فلن تستطيع أن تفهم (سيزار فرنك) كما يفهم نفسه أو كرجل مسيحي، ولا (بتهوفن) بدون دراسة عميقة للفلسفة الألمانية. وأني أحاول في حكمي أن أتناسى الآراء التي انتقلت إلي بالوراثة، وأن أتحاشى التحيز والتعصب في نقدي، وأنا لا أنكر إن هذا العمل يتطلب مني جهداً عظيماً، وتسامحاً كبيراً. ولكن دراستي المتواصلة والبعيدة عن المحاباة لشلر ومدام دستايل وشاتوبريان وبيرون وبودلير، الذين أذكرهم هنا كقادة المدرسة الرومانتيكية، لا ترسم لنا صورة جديدة أو أثر يكون أجنبياً عنا حقيقة.

بقى علينا أن تساءل في صراحة: أليس الموسيقى الغربية التي لا تسير إلا في المحيط النظري (الميتافيزيقي) أكثر تأخيراً من موسيقانا؟

إن أوروبا بمؤلفيها الموسيقيين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين - برغم أعمال سترافنسكي - تُظهر تخبطاً لا نهاية له في محاولتها دراسة القضاء والقدر التي تتحكم في

ص: 41

رقاب الناس. فاعتبار هذه الحالة درجة من الكمال تستحق أن تُحتذى كما يُحتذى التقدم العلمي ونظرياته تكون غلطة ما أقبحها من ذلك الشخص الموهوب الذي يصدح على ضفاف النيل. فالبحث كذلك عن مناح جديدة في الألحان الغربية واستخدام وسائل تعبيرها يعد منا رجعة إلى الوراء.

وقد ظهر لي أن محاولاتك نتجه يوماً بعد يوم نحو توافق الأصوات وإخراج مجموعة متنافرة منها في لحظة واحدة وبالتبعية محاولة التعبير عما يضطرم في نفسك بما تستخلصه من ذلك.

كانت النغمة الفردية الأوربية دائماً أبداً ضعيفة، فلا عجب أن نراها تلجأ إلى تلك الأصوات المتجمعة؛ هذه الأصوات تعبر عن أشياء متباينة، ولكنها تصدر في وقت واحد لتنتج من ذلك تآلفاً فيما بينها. ولا أدل على ضعف السلم الموسيقي الغربي من اقتصاره على استعمال النغمتين فقط (ويلاحظ أن النغمة المنخفضة ترجع إلى عرب أسبانيا) في حين أن الفرس في العصور الوسطى قد استعملوا ستاً وثلاثين نغمة وأن الأندلسيين استعملوا أربعين منها، وأن الشرقيين بعكس المؤلفين الموسيقيين الحديثين لم يجعلوا ألحانهم تعتمد على قدرة آلاتهم وعلى الأخص على وضع علامات لها.

وليست الرغبة في استعارة آلات موسيقية عجمية (كموسيقى اليد) إلا وقوعاً منا في نفس الخطأ الشنيع الذي وقعوا هم فيه وتجنباً منا على الموسيقى الشرقية.

ومهما كانت محاولاتك جريئة وتستحق الإعجاب فيجب أن تعرف - في رأيي المتواضع - كيفية الرجوع إلى مصادر الأشياء، وأن تتساءل عن ماهية العوامل التي تهيئ الخلود لفكرة ما، وأن تفكر في النتائج التي يصح أن تنتظرها من وراء هذا الاقتباس. وهنا يجب أن تعترف بأن قوانين الوراثة تلعب دور الهام: فأن (بولدييه) و (برليو) لا ينسبان فضل أعمالهما إلى نفسيهما فقط. . . . لأنهما رضعا ألحانهما من ثدي أميهما اللتين حصلتا عليها بدورهما ممن سبقوهما، وهما ليستا إلا حلقتين من سلسلة طويلة.

وليس من الغريب أن نرى وجوه الغربيين عندما يستمعون إلى موسيقانا وقد ارتسمت عليها تلك الابتسامة التي ترتسم على وجوهنا نحن عندما نستمع إلى الموسيقى الأولية. وهناك حقيقة أخرى أكثر خطراً، وهي أن الأوربيين لا يكادون يفهمون من أنغامنا الموسيقية إلا ما

ص: 42

استعرناه منهم، وحيث أننا لم نوفق في استعارتنا فهم لا يحجمون عن الحكم على الجزء العربي منه بأنه رديء.

وهذا ما يدفعني إلى سرد أمثلة من خطواتك المحيرة غير الموفقة: (فبحارة الفلجا) أغنية روسية واقعية تعبر عن العذاب العقلي والجثماني الذي كان يعانيه سكان قلب روسيا، وقد أخذتها أنت بنفسك في فلم (الوردة البيضاء) وهو فلم شعري خالص: فالشقة بينهما بعيدة بعداً شاسعاً.

و (يا شراعاً) وهي قصيدة مقدمة إلى الملك فيصل عبارة عن نشيد يراد به مدح بلاد الرافدين، فهل يصح أن نقبل هذه النغمات التي تحرك العاطفة بدون شك، ولكنها خالية من الحمية والملاطفة التي يجب أن تكون عند مَن يريد أن يمدح ملكاً محبوباً يعجب به؟ ففي هذا النشيد نبحث عبثاً عن الحمية التي نراها في نشيد لمير بيير الذي فيه يعبر عن الكثير من العظمة والنبل.

وعندما ننعم النظر في مقطوعاتك الأخيرة نلاحظ في حسرة شديدة بأن (الحركة) قد زادت فيها كثيراً بحيث أن الأذن تتساءل في حيرة عما إذا كنت حقيقة الذي ملأت اسطوانة (أيها العلم الخفاق) رقم 99. 104.

فهل يجب علينا إذن ألا نستوحي شيئاً عن الموسيقى الغربية؟

لا بكل تأكيد. وليكن ذلك لمجرد الإطلاع فقط. فمن الضروري أن ندرس هوجو ولامرتين وشكسبير ورابندانا تاجور وإبسن وكبلنج وتولستوي وسرفنتس لكي نفهم الآداب العالمية، وهذه الدراسة ليست أقل لزوماً من إرسال أبنائنا إلى الخارج لتمضية بعض الوقت في (مدرسة الفنادق في جرينوبل) أو في معامل الاختبار للمراكز الصناعية في (بربي) و (برمنجهام) وفي الأحواض البحرية في (نانت) و (كيل).

ولكيي أعزز رأيي هذا أذكر الحقيقة التاريخية الآتية: عندما انتصر هارون الرشيد على الإمبراطورية نيقفور البيزنطي عام 806 ميلادية نص في معاهدة الصلح بينهما على شرط يلزم المغلوبين بتسليم العرب جميع المؤلفات التي خلفها القدماء والمحفوظات الموجودة في دور الكتب بالقسطنطينية القديمة. وقد برهن العاهل العربي مرة أخرى على ذكائه الفائق وفهمه للحقائق، فقدر أن شعبه يجب أن يتفهم ويستوعب سريعاً كل المعارف التي وقف

ص: 43

السابقون على أسرارها، وأن العرب بدون مساعدة غيرهم لا يمكنهم تأسيس حضارة ثابتة؛ ولذا يجب عليهم أن يستعينوا بمن تقدموهم من مصريين وكلدانيين ويهود وفرس وهنود ويونانيين ورومانيين وقرطاجيين، وأن يتوفروا على دراسة أوراق البردي واللوحات وتماثيل الآلهة. فبعد أن درس العرب العصور السابقة أمكنهم أن يضيفوا معارف من سبقوهم إلى معارفهم الخاصة التي ستبقى على مدى الأيام.

وكذلك اليابان: فما الذي فعله حزب التجديد عندما تربع في دست الحكم عام 1868؟ لقد بدأ بدراسة مبادئ الأحزاب الأخرى في الدول المتمدينة.

فإذا تحدثنا عن القلب ونشاطه والحساسية وطرق التعبير عنها وجدنا الأمر هنا مختلفاً عن ذلك، وهذه النقطة الهامة هي محور بحثي: فالإحساس المتناهي ورد الفعل وتجسيم التأثيرات النفسانية لا يمكن أن تقارن بالمعارف التي يمكن اكتسابها.

وهناك نقوش فرعونية تذكر بعض النصائح الموجهة من أم إلى ولدها يوم أن عهدت به إلى أستاذه. وهناك نقوش أخرى تعبر عن مثال خالد: ذلك هو ألم الأشخاص المحكوم عليهم بالعمل اليومي الشاق المضني. فعليك أيها الأستاذ أن تبحث في زوايا التاريخ عن ألحان أكثر إنسانية! بل من السهل عليك أن تتخيل الأمهات في هذه العصور البعيدة وهن يهززن مهود أطفالهن بنفس المحبة والعناية والحنان التي تبديها أمهات العصر الحالي. أليس من الخطل والنفاق أن نعتبر وقع الألم النفساني الذي عاناه أسلافنا أخف على نفوسهم من وقعه علينا؟ وأني لا أجد صعوبة في أن أتخيل الألحان الجميلة التي كانوا يعبرون بها ويصورون عواطفهم التي تتوثب من الألم.

وللرجوع إلى الحديث عن محاولات التجديد أو فرنجة موسيقانا يمكنني أن أضرب مثلاً بأحد موسيقيينا الذي حاول منذ سنوات أن يعبر عن بعض مقطوعاتنا الشعرية بأوزان أوربية، فكان سبب نجاحه أنه قد استحدث شيئاً جديداً ولكنه كان نجاحاً قصير الأجل، وسرعان ما أسدل النسيان ستاره على هذه المحاولة وحسناً فعل. وقد بدأ مغنى الجزائر الحالي أو (كاروزو شمال أفريقية) كما أطلق على نفسه بإلقاء مقطوعات تحترم موسيقانا القديمة، ويجب علي أن أشير أثناء حديثي إلى أن طرق التلحين الأندلسية الأثنتي عشرة التي لا زالت مستعملة في المدن الرئيسة بشمال أفريقية ليست إلا مخلفات وبقايا بالية في

ص: 44

حاجة إلى عيون عالم الآثار - وأقصد أذان رجل موسيقي - لنكشف في هذه البقايا عن عظمة المقطوعات التي كانت تردد تحت أبواب الحمراء المرمرية، أو تحت ظلال الأشجار الوارفة في أشبيلية وقرطبة.

ومهما يكن من شئ فإن استعمال هذه المخلفات القديمة لا يدخل كثيراً من التغير على قواعد الموسيقى، إذ أن في ذلك محافظة على تراثنا القديم.

ولكن للغرب سحره الأخاذ ما في ذلك من شك، لأن مغنينا الجزائري خضع لتأثير الأوبرا، واستمع بسرور إلى الألحان القصيرة من الأوبريت والصالات؛ تلك الألحان التي طغت شيئاً فشيئاً على مقطوعاته حتى أصبحنا الآن نلمس فيها أكبر فشل فني معيب.

وقد سارت المرحومة أنيسة يامنة الجزائرية في طريق مخالف لذلك كل المخالفة. فهذه الموسيقية انتهجت نهج الغناء القديم الذي يمكن تقدير أهميته، واستندت إلى شعورها النسوي القوي وخبرتها الموسيقية الطويلة. وكانت تذهب للإقامة بين أفراد الطبقة الفقيرة وبين العرب الرحل لتغترف من شعورهم البسيط الخالي من كل زخرف ثم تعود بمحصول غني متنوع وفير، وبعد ذلك تستسلم لتفكيرها ولأبحاثها وتستمع إلى نفسها وتستوحي صوت أجدادها ثم تترك قلبها يعبر عما في خلدها بألحان تخلب الألباب.

وأني أعرف الكثير عن الطريقة المخالفة لتلك التي يتبعها الأستاذ، وبمعنى آخر ترجمة الغربيين واقتباسهم لموضوعاتنا؛ وأسواق إليك هنا مثلاً مشهوراً لأوضح وجهة نظري: أقام المؤلف الموسيقي سان سانس حقبة طويلة في الجزائر، ولذلك يقوم مؤلفه المشهور (شمشون ودليلة) على طريقة التلحين الأندلسية (زيدان). ولا أتردد أن أضيف إلى هذا المثل مثلاً آخر فيما فعله ف. دافيد الذي أمكنه بعد رحلة طويلة إلى الشرق أن يخرج مؤلفيه:(الصحراء، ولالاروك). وكذلك فعلوا الأسبانيون وكذلك (بيزت) في (كارمن)(1870) وغير هؤلاء من الذين يدينون بالشيء الكثير إلى الأندلس في القرون الوسطى. ومثل هؤلاء أيضاً موسيقيي وسط أوربا مثل لست وشوبر وموزار وبعض موسيقيي أمريكا الجنوبية أيضاً الذين وجدوا في ألحاننا مورداً فياضاً لا ينضب.

والآن أعود متسائلاً إذا كان العكس ممكناً: فتقدم الموسيقى الغربية - في رأيي - قد بدأ يصل إلى درجة التشاؤم التي تكلمت عنها من قبل. وأني لا أفكر في لحظة في أن أحط من

ص: 45

شأن (الأرلزين وفيدليو ولوهنجرين) ولا أريد إلا أن أضع كل موسيقي في الوضع المناسب له. وأني لا أذكر هنا ما قاله المسيو (أندريه كوردي) في مؤلفه (مشاهد الموسيقى العصرية): صراع دائم. . الموسيقى العربية تحتضر كل يوم باتصالها بالموسيقى الغربية؛ وستموت الموسيقى الشرقية إن عاجلاً وإن آجلاً إذا لم تثابر على مقاومة الموسيقى الأوربية الزاحفة عليها بموسيقى شرقية بحتة.

قد أكون فيما كتبته أعبر عن أمنية لي. فالفنان الكبير الذي لمصر فخر الاحتفاظ به، والذي له تلك المهارة الفائقة التي استطاع أن يهضم بها بعض القطع الخالدة في الموسيقى الرومانتيكية، لن يعجز بفضل ما وهبه الله من حسن اختيار أن يوفق في أعماله القادمة في مزج الموسيقى العربية بالإفرنجية بدلاً من المجهود الضائع في إخراج ثمرة غير ناضجة لا يهضمها الذوق العربي. وأني أتمنى له التوفيق المطرد والفوز العظيم.

(تلمسان)

محمد زروقي

ص: 46

‌الفصل في نبوة المتنبي من شعره

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 3 -

ولنعد إلى النظر في قصيدة المتنبي:

كم قَتيلٍ كما قُتِلْتُ شهيدِ

بياضِ الطُّلى وورْد الخدود

فقد ابتدأها المتنبي بالنسيب على عادة الشعراء، وتدله في ذلك النسيب كل التدله، وقتل نفسه فيه من فرط الصبابة والوجد، ثم ذكر أيام الصبا والجهل وحنَّ إليها، وتفنن في وصف الحسان اللاتي نسب بهن أيما تفنن.

ولم يكفه ذلك التدله في النسيب، والتفنن في وصف النساء، بل عمد إلى الخمر ينسب بها أيضاً، ويتدله فيها بأكثر مما تدله في نسيبه.

ولا شك أن هذا الأسلوب في النسيب ووصف الخمر، لا يتفق مع ذلك الأسلوب الذي ينسب إليه في دعوى النبوة، ولا يمكن أن يحصل هذا وذاك من شخص واحد، لاختلاف نزعتهما، وتباين المشارب فيهما، واتجاه كل منهما إلى غاية تخالف الأخرى، فهو فيما ينسب إليه في دعوى النبوة رجل جد وصلاح، مبعوث إلى هذه الأمة الضالة المضلة، ويريد أن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؛ وهو في قرآنه يدعو إلى الأيمان ويحارب الإلحاد، ولكنه في شعره هازل خليع، يدعو إلى الفسق والفجور، وينغمس في حمأة الضلال، ويبلغ من أمره أن يستهتر بالأيمان والتوحيد إلى هذا الحد قي قوله:

يترشفن من فَمي رَشَفاتٍ

هُنَّ فيه أحلى من التوحيد

وهذا البيت يذكر فيما يؤخذ على المتنبي من الإلحاد في الدين فكيف يتفق أن يأتي في شعره وهو في عهد يدعو فيه إلى التوحيد ويحارب الإلحاد ويزعم فيه أنه نبي مرسل؟

ثم يبلغ أيضاً من أمره عندما أخذ في وصف الخمر أن يقول فيها هذا القول:

كلُّ شيء من الدماءِ حرامٌ

شُرْبهُ ما خلا دم العنقود

فأي نبي هذا الذي يحلل الحرام ويحرم الحلال؟ وأي ضلال يحاربه وهو يدعو إلى هذا الضلال؟

وقد جاء البيت الأول في بعض الروايات:

ص: 47

يترشَّفن من فَمي رَشفاتٍ

هُن فيه حلاوةُ التوحيد

وهو في هذه الرواية أخف في الاستهتار من روايته الأولى وهي الرواية المشهورة.

فلما جاوز في قصيدته هذا كله، ووصل إلى مقصوده من الفخر بنفسه وشكوى حاله، وحمل نفسه على تحمل الصعاب في سبيل آماله، كانت آماله أشياء أخرى دنيوية، ولم تكن هي الآمال التي تنسب إليه في دعوى النبوة؛ فليس لهذه الآمال ذكر هنا، ولا تشتم لها فيه رائحة، وإنما هو هنا رجل يسعى في اكتساب المجد، ويكد في طلب الغنى والمال، ويشكو من إخفاقه في هذا الطلب مع كثرة سعيه فيه:

ضاق صدري وطال في طلب الرَّزْ

قِ قيامي وقَلَّ عنه قعودي

أبداً أقطع البلاد ونجمي

في نحوس وهمتي في سُعُود

وهو أبداً مولع بذلك الاستهتار حتى في مقام الجد، فإذا أمر بطلب العز لا يفوته أن يقول إنه خير من الذل ولو كان في جنة الخلد، وأن يفضله ولو كان في لظى على الذل.

فاطلب العزَّ في لَظى وذَر الذ

لَّ ولو كانَ في جنان الخلود

فمثل هذا لا يصح أن يكون من شخص يدعي النبوة، ويدعو الناس إلى العمل الذي يوصلهم إلى نعيم الله في الجنة. ولا فرق بينه في هذا وبين ذلك الشاعر الجاهلي الذي سبقه إلى ذلك المعنى، وكان له من جاهليته ما يهون من أمره فيه، وهو ذلك الشاعر الذي يقول:

حكم سيوفك في رقاب العذل

وإذا بليتَ بدار ذلٍّ فارحل

دار النعيم بذلةٍ كجهَنمٍ

وجهنم بالعز أَكرم منزلِ

وكذلك هذا الفخر لا يليق ممن يدعي النبوة:

إن أكن معجباً فَعُجبُ عجيب

لم يجد فوق نفسه من مزيد

أنا ترْب النَّدى ورَبُّ القوافي

وسمامُ العدى وغيظ الحسود

وهكذا نخرج من دراسة هذه القصيدة بيقين لا شك فيه، أنها لا تتفق مع تلك النبوة المزعومة للمتنبي، فأما أن تكون هذه القصيدة مختلقة عليه، وأما أن تكون تلك النبوة مكذوبة. وإذا كانت هذه القصيدة للمتنبي باتفاق الفريقين المختلفين في أمر نبوته، فأن تلك النبوة تكون هي المكذوبة قطعاً.

ص: 48

وهذه قصيدة ثانية للمتنبي، قالها في ذلك العهد الذي ينسب إليه إدعاء النبوة:

ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم

والسيفُ أحسن فعلاً منه باللمم

ابعِدْ بعدت بياضاً لا بياض له

لأنت أسودُ في عيني من الظلم

بحبِّ قاتلي والشيبِ تغذيتي

هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم

فما أمرُّ برسم لا أسائله

ولا بذات خمار لا تُريق دمي

تنفَّست عن وفاءٍ غير منصدع

يوم الرَحيل وشعب غير ملتئم

قبلتها ودموعي مزجُ أدمعها

وقبلتني على خوف فماً لِفمِ

فذقت ماء حياةٍ من مُقبَّلِها

لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم

ترنو إليَّ بعين الظبي مُجهِشةً

وتمسح الطَّلَّ فوق الورد بالعنم

رُويدَ حكمك فينا غير منصفةٍ

بالناس كلَّهم أفديك من حكم

أبديتِ مثل الذي أديتُ من جزعٍ

ولم تجني الذي أجننتُ من ألم

إذن لبزَّكِ ثوبَ أصغرهُ

وصرتِ مثلي في ثوبين من سقم

ليس التعلُّلُ بالآمال من أربي

ولا القناعةُ بالأقلال من شيمي

ولا أظن بناتِ الدهر تتركني

حتى تسدُّ عليها طُرقها هممي

لم الليالي التي أخنت على جدَتي

برقة الحال واعذرني ولا تلم

أرى أناساً ومحصولي على غنم

وذكر جودٍ ومحصولي على الكلم

ورَبَّ مال فقيراً من مُروَّته

لم يُثر منها كما أثرى من العدم

سيصحب النصلُ مني مثل مضربهِ

وينجلي خبري عن صمَّة الصِّمم

لقد تصبرتُ حتى لاتَ مصطبر

فالآن أقحم حتى لات مقتحم

لأتركنَّ وجوهَ الخيل ساهمةً

والحربُ أقومُ من ساق على قدم

والطعنُ يحرقُها والزجر يقلقها

حتى كأنَّ بها ضرباً من اللمم

قد كلمَّتها العوالي فهي كالحةٌ

كأنما الصَّابُ معصوب على اللجم

بكل مُنصلتٍ ما زالُ منتظري

حتى أدلت له من دولة الخدم

شيخ يرى الصلواتِ الخمس نافلةً

ويستحل دمَ الحجاج في الحرم

تنسى البلادَ بروق الجوَّ بارقتي

وتكتفي بالدم الجاري عن الدِّيم

ص: 49

رِدِي حياضَ الرَّدى يا نفس واتركي

حياض خوف الردى للشاء والنَّعم

إن لم أذَرْكِ على الأرماح سائلةً

فلا دعيت أبن أُمِّ المجد والكرم

أيملك الملكَ والأسياف ظامئةٌ

والطير جائعة لحم على وضم

من لو رآني ماءً مات من ظمأٍ

ولو مثُلْتُ له في النوم لم ينم

ميعادُ كلِّ رقيق الشفرتين غداً

ومن عصا من ملوك العرب والعجم

فإن أجابوا فما قصدي بها لهم

وإن تولَّوْا فما أرضى لها بهم

وقد افتتح المتنبي هذه القصيدة بذم الشيب الذي ظهر فيه قبل أوانه، فحل في رأسه ضيفاً ثقيلاً غير محتشم، وبدا بياضه في عينه أسود من الظلم، وقد اجتمع عليه بذلك أمران صارا له كالغذاء: حب مبكر في عهد الطفولة، وشيب مبكر في بلوغه الحلم. ولا شك أن من يتبرم بالشيب هذا التبرم لا تحدثه نفسه بادعاء النبوة وما يلزم لها من إظهار الصلاح والتقوى، والفرح بالشيب إذا أقبل، لأنه كما قال بعض الحكماء: زهرة الحنكة، وثمرة الهدى، ومقدمة العفة، ولباس التقوى. وأين قول المتنبي في هذا من قول دعبل بن علي

أهلاً وسهلاً بالمشيب فأنه

سمة العفيف وحلية المتحرّج

ضيف ألمَّ بمفرقي فقربته

رفض الغواية واقتصاد المنهج

فمثل هذا هو الذي كان يقوله المتنبي في الشيب لو صح ما ينسب إليه في دعوى النبوة، وهو الذي يتفق مع الغاية التي تنسب إليه فيها.

ثم مضى المتنبي يتغزل على أسلوبه في قصيدته الأولى، يسأل كل رسم، ويجري في حب متنقل وراء كل ذات خمار، وهو حب شهوي كحب أبن أبي ربيعة وغيره من الشعراء الذين تستهويهم كل ذات جمال، ولا يعرفون في حبهم شيئاً من الوفاء، بل يتحدثون عن وفاء النساء لهن ولا يفون، كما تحدث المتنبي عن ذلك في قوله:

تنفست عن وفاء غير منصدع

يوم الرحيل وشعب غير ملتئم

وقد يتفق لنبي أن يسمع هذا النوع من الغزل إذا كان بريئاً كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم في سماعه قصيدة كعب بن زهير

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يُفْد مكْبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلا أغن غضيض الطرف مكحول

ص: 50

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكي قصر منها ولا طول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت

كأنه منهل بالراح معلول

إخالها خلة لو أنها صدقت

موعودها أو لو أن الوعد مقبول

لكنها خلة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل

ولكن فرقاً كبيراً بين سماع هذا النوع من الغزل وإنشائه، ورب شيء يقبل من شخص ولا يقبل من شخص أعلى منه، ورب حسنات في ذلك تعد سيئات، ورب سيئات تعد حسنات. ولا شك أن مثل هذا الغزل لا حرج فيه على كعب رضي الله عنه، وقد سمعه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاعتبار، وإن لم يكن من شأنه هو أن ينشئه.

ثم اقتضب المتنبي نسيبه اقتضابا، وابتدأ مقصوده من قصيدته بقوله:

ليس التعلل بالآمال من أرَبي

ولا القناعة بالإقلال من شيمي

فإذا هو فيه طالب دنيا لا أكثر ولا أقل، وإذا به لا يرضى في ذلك بالقليل، وينفر من صفة القناعة التي حث عليها جميع الأنبياء قبله.

وهو في ذلك أيضاً ثائر على دهره الذي يفقر مثله على مروءته وشجاعته، ويغنى سواه على فقره من المروءة والشجاعة؛ ثائر على تلك الدول التي أقامها في عصره خدم العباسين الذين كانوا يجلبونهم أرقاء فيصبحون ملوكاً على الناس، فهو يقيم الدنيا ويقعدها من أجل تلك المهازل في نظره، ويرى نفسه أعلى شأناً من هؤلاء الخدم، وأحق منهم بهذا الملك الذي استأثروا به لأنفسهم.

وهو هنا لا يتحدث عن عدل وجور كما يتحدث فيما ينسب في دعوى نبوته، بل يتعطش إلى الحرب والقتال كما يتعطش كل فارس جبار يعشق سفك الدماء ونشر الفساد في الأرض.

ولا يتحدث كذلك عن أيمان وكفر، بل يتحدث عن خدم أقاموا لهم ملكاً هو أحق به منهم لما امتاز به من المروءة والشجاعة عليهم.

ثم تراه لا يقلع في هذه القصيدة عن استهتاره، وأخذه فيما بدل على ضعف دينه، فيقول

بكل مُنصلتٍ ما زالُ مُنتظري

حتى أدلت له من دولة الخدم

شيخ يرى الصلوت الخمس نافلة

ويستحل دم الحجاج في الحرم

ص: 51

فالذي يقول هذا لا يمكن أن يأخذ وسيلته إلى الناس دعوى النبوة، لأنها تقتضي منه شيئاً آخر غير هذا الاستهتار، وتواضعاً في القول غير هذا التجبر، واقتصاداً في الحديث عن النفس غير هذا الإسراف في الفخر.

وسبيل هذه القصيدة بعد هذا سبيل القصيدة السابقة في القطع بكذب هذه الدعوى على المتنبي، لأنها تظهره في ذلك العهد بخلاف المظهر الذي يظهر به فيما ينسب إليه في دعوى النبوة وادعاء مثل هذه الدعوى من المتنبي في علمه وذكائه تقتضي منه الحيطة في أمره، وتوجب عليه ألا يظهر بين الناس بهذا المظهر في شعره، حتى يصدقه الناس في دعواه، ويلتئم حاله فيها التئاماً يخدعهم فيه. ويجب علينا بعد هذا أن نأخذ في هذا اللقب بما نقله أبن جني عن المتنبي نفسه، وقد ذكرنا فيما سبق، فلا نعيده هنا، ولكنا نذكر في ذلك مذهباً للأستاذ (محمود شاكر) رأى أنه أقرب إلى الصدق، وأولى بالاعتبار، وهو أن المتنبي نبز هذا النبز من أجل أنه كان في أول أمره متورعاً في خلقه لا يخرج عن حدود الوقار، متزمتاً لا يلين إلى الشهوات ولا يلقى إليها مقاده مترفعاً عن سفساف الأخلاق متمسكاً بمعاليها، آخذاً نفسه بالجد الذي لا يفتر؛ وكان لا يقرب التهم ولا يدانيها، فما كذب ولا زنا ولا لاط، ولا أتى أمراً منكراً يؤخذ عليه، أو يُزَنُّ به. واستمر على ذلك حياته كلها، وخالف الأدباء والشعراء من أهل عصره فما شرب الخمر ولا حمل وزرها، ولولا اضطراره فيما نرى لما حضر مجلسها. وكان الأدباء والشعراء في ذلك الوقت أهل شراب ومعاقرة ولهو وهزل وباطل، فلما وجدوا ما هو فيه من التعفف والتورع، ووقعوا على كثرة دوران أسماء الأنبياء في شعره، وتشبيهه نفسه بهم، نبزوه هذا النبز، ولقبوه المتنبي يريدون المتشبه بالأنبياء.

ولا شك أن هذا غلو من الأستاذ في أمر المتنبي، وقد روى عن بعضهم أنه عاشره فما رآه كذب ولا زنا ولا لاط، ولكن هذا لا يكفي لأن يجعل منه الرجل الصالح الزاهد المتورع الذي يصفه الأستاذ محمود. على أن هذا الاشتقاق لا يدل على التشبه وإنما يدل على الادعاء، وقد جاء في القاموس (وتنبأ ادعى النبوة ومن المتنبئ أحمد بن الحسين) وإنما يقال في ذلك تأله، لأن التأله التنسك والتعبد، ولم يلصق هذا اللقب بالمتنبي إلا لأجل الكيد به، وإيهام أنه ادعى النبوة، ولهذا كان يكرهه المتنبي. ولو كان لهذه الأغراض المذكورة

ص: 52

لفرح به وهش له، والخطب في هذا سهل بيني وبين صديقي الأستاذ محمود شاكر، بعد اتفاقنا على أن هذه النبوة مختلقة على المتنبي؛ وأني لا أحب أن أثير في هذا جدالاً بيني وبينه؛ ولعله يتغاضى عن هذا الخلاف القليل بيننا، ليكون ما ذكرناه هو القول الفصل في هذا الموضوع حقاً.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 53

‌تأريخ العرب الأدبي

للأستاذ ينولد نيكلسون

الفصل الأول

- 5 -

وإن نفس العاطفة الوطنية المتأججة في صدر الهمداني والتي بعثته على أن يخصص نفسه للبحث العلمي قد أوحت إلى نشوان أبن سعيد - الذي ينتمي من ناحية الأب إلى أسرة قديمة من أشراف اليمن - أن يتذكر الماضي الخرافي ويتعلق بإحياء مجد إمبراطورية زالت معالمها ودرست آثارها. وأنه ليتغنى في (القصيدة الحميرية) بعظمة وقوة أولئك الحكام الذين تبوأوا عرش أمته، ويؤول في روح إسلامية حقة حقيقية الغناء والحياة، وحقارة المطامع البشرية، ومع أن هذه القصيدة في ذاتها قليلة القيمة فأنها تعتبر وثيقة قيمة - نوعاً ما - لاشتمالها على أسماء الملوك، ومعها شرح تاريخي واف إما أن يكون كاتبه نشوان نفسه - وهذا ما يرجحه فون كريمر - أو أحد معاصريه. والذين لا يرون التاريخ إلا مجمل حقائق لن يجدوا مأربهم في هذا التعليق، إذ نرى خيوط الحقيقة معقدة متشابكة مع أساطير خرافية مكذوبة، وقد وضع القصّاصون في فجر الإسلام صورة حرفية لمثل هذه الأساطير، من ذلك أن أحد عرب الجنوب وأسمه (عبيد بن شرْية) زار دمشق تلبية لدعوة الخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي سأله (عن الأخبار المتقدمة، وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد) وطلب إليه أن يكتب وأمر أن تجمع وتكتب إجاباته كلها ثم تنشر باسمه، وهذا العمل الذي لم تصلنا أية نسخة للأسف كان يسمى (كتاب الملوك وأخبار الماضين) وقد تكلم عنه المسعودي (956م) ككتاب معروف متداول في محيط كبير، كما اعتمد عليه فيما بعد شارح (القصيدة الحميرية) إما مباشرة أو بواسطة الإكليل للهمداني. وقد نعتبره - كما اعتبره الشارح نفسه - كقصة تاريخية لكثير من شخصياتها وحوادثها أساس من الحقيقة والواقع قد مُوِّهت بكثير من القصص الخيالية والقصائد المكذوبة، مما يجد فيها السامر خير عون له على أداء مهمته. ومن بين المؤلفين المسلمين القلائل الذين اهتموا بدراسة تأريخ عرب الجنوب في العصر السابق للإسلام

ص: 54

حمزة الأصفهاني، ويمدنا الكتاب الثامن من تاريخه (الذي انتهى منه عام 961م) بتفاصيل تاريخية دقيقة موجزة على التبابعة أو ملوك اليمن الحميريين.

خلف قحطان - جدَّ أعراب الجنوب - ابنه يعرب الذي يقال إنه أول من أتخذ العربية لساناً، وأول من أخذت له التحايا التي اعتاد العرب أن يحيوا بها ملوكهم كقولهم (أنعم صباحاً) و (أبيت اللعن) وقد اشتهر حفيده عبد شمس سبأ باسم مؤسس مأرب وباني سدها المشهور، وإن كان هناك آخرون يقولون إن مؤسسه هو لقمان بن عاد، وكان لسبأ ولدان حمير وكهلان، وقبل موته عهد إلى حمير بالجلوس على العرش والى كهلان بحراسة التخوم، وشنّ الغارات على الأعداء؛ ومن ثم كانت لحمير السيادة واتخذ اسم (أبو أيمن) وأقام في عاصمة المملكة بينما تعهّد كهلان بالدفاع عنها وتدبير الحروب وبالإغضاء عن سرد سلسلة نسب الملوك السبئيين الخرافيين الذين لا تذكر القصة عنهم إلا قليلاً جداً، فإنما نمضي إلى ذكر حادثة رسخت في أذهان العرب رسوخاً لا يمكن استئصاله منها، ألا وهي الحادثة المعروفة عندهم بسيل العرم أو فيضان السد.

على بضعة أميال قلائل من الجنوب الغربي لمأرب تمتد الجبال متلاحمة تاركة فيما بينها أخدوداً يشقه نهر (أدنة) الذي يجف غالباً مجراه خلال فصل الصيف؛ أما في الشتاء فتسقط الأمطار الغزيرة وتتدفق المياه بقوة هائلة تكاد لا تحتمل، فلكي تكون المدينة بمنجاة من الفيضان ولأجل تنظيم الري وزرع الأرض وفلحها بني الأهالي سداً من الحجر الصلد استرعى خيال محمد بعد أن دمر تماماً، واعده المسلمون إحدى عجائب الدنيا. وليس بغريب أن ألبس مؤرخوهم تلك الحقيقة المجردة (انفجار السد) ثوب حادثة فضفاضة طريفة وإذ آذنت شمس القرن الثالث للميلاد بالمغيب أو قبل ذلك بقليل كان يتربع على عرش مأرب عمرو بن عامر ماء السماء المزيقيا، وكانت زوجته (ظريفة) ماهرة في علم الكهانة خبيرة بفنونها، وقد رأت أحلاماً ورؤى تنبئ عن شر جسيم يتهددهم، وفي ذات يوم قالت لزوجها الذي لم يكن يثق في عرافتها:(إمضِ إلى السد فأن أبصرت فأراً ينبش السد بمخالبه ويقذف قطعاً كبيرة من الصخور بقدميه الخلفيتين فتيقَّن بأن العذاب قد حل بنا) فمضى عمرو إلى السد وأنعم النظر فشاهد جرذاً يحرك حجراً كبيراً يعجز خمسون رجلاً جلداً عن ثقله من مكانه فأيقن عمرو أن السد منهار، وأن الأرض لا بد هالكة بمن عليها،

ص: 55

فعزم على بيع أملاكه والرحيل بعائلته، لكنه خشي أن يبعث الاضطراب إلى قلوب السكان، فدبر حيلة ناجعة، ذلك أنه دعا أشراف المدينة ورؤوسها إلى وليمة فاخرة مدها لهم، واتفق مع ابنه أن يثيرا الخلاف بينهما (أو بينه وبين اليتيم الذي درج في بيته كما يقول آخرون) وتبودلت بينهما الضربات فصاح عمرو:(وا فضيحتاه!! أفي يوم مجدي وفخري يسبني ويلطمني غلام عاق؟) ثم أقسم أن يقتل الفتى، فتوسل إليه ضيوفه أن يرحمه ويرأف به فأجابهم، بيد أنه أقسم قائلاً:(لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي وسأبيع أرضي ومتاعي) وإذ نجح في الخلاص من أعبائه - إذ لم يعدم مشترين لبوا دعوته واغتنموا غضبته - لم يتردد في أن يخبر الناس بما يتهددهم من بلاء ثم بارح مأرب على رأس جمع حشيد، ثم أخذت المياه تثقب السد شيئاً فشيئاً وتغمر الأرض، مرسلة في لجتها الدمار طولاً وعرضاً، ومن هنا نشأ المثل القائل (تفرقوا أيدي سبأ) أي تشتتوا كما تشتت قوم سبأ.

وإن ذلك الطوفان ليؤرخ فترة من تأريخ بلاد العرب الجنوبية ثم غابت المياه واخضرت الأرض بعد إمحال وعادت إلى الإيناع والزرع، بيد أن مأرب ظلت مهجورة، واختفى السبئيون إلى الأبد إلا ما يذكره الأعشى في قصيدة له من قوله:

وفي ذَاكَ للمُؤتسى أُسْوةٌ

ومَأرَبُ عَضَّ عليها العرِمُ

رَخامٌ بَنتْهُ لهم حِمْيرٌ

إذا جاء مَوَّارُه لم يَرِم

فأرْوَى الزَّروع وأعنابَها

على سِعَة مَاؤهَا إذْ قَسَم

فَصَارُوا أيادِيَ ما يَقْدِرون

مِنهُ على شُرْبِ طفل فُطِم

وليست في كلام الشاعر عن حمير دقة تاريخية، أما الحميريون وعاصمتهم ظفار (صنعاء فيما بعد) فقد صاروا حكام اليمن بعد انفجار سد مأرب وتلاشى السبئيين الذين أقاموه.

أما تبع الأول - الذي أطلق لقبه مؤرخو المسلمين على من خلفه من ملوك حمير فيسمى (حارث الرائش) لأنه زين بيوت قومه بالغنائم والأسلاب مما جلبه معه - كفاتح - من الهند وأزربيجان، أما عن التبابعة الذين ولوا الحكم بعده فان بعضهم يدين بدرجة في سلسلة حمير إلى النسّابين الذين كان احترامهم للقرآن يفوق دقتهم النقدية كما حدث مثل هذا بشأن المخلوق الخرافي صعب ذي القرنين، وأن الأبيات التالية لتخلط بينه وبين ذي القرنين العجيب الوارد نبؤه في القرآن والذي يعتبره معظم المفسرين نفس الاسكندر الأكبر.

ص: 56

لنا مُلك ذي القرْنينِ هلْ نالَ مُلكهُ

مِن البشرِ المخلوقِ خلقٌ مُصورً؟

نوى ثمَّ يتلو الشمسَ عِند غرُوبها

لينظُرها في عينِها حينَ تُدْحرُ

ويسمُو إليها حين تطلعُ غدْوَةً

ليلمحها في بُرجها حينَ تظهرُ

دليلاً بأسبابِ السماءِ نهارُهُ

وليلاً رقيباً دائماً ليسَ يفترُ

وأرْصدَ سدّاً من حديدٍ إذا بدا

ومن عينِ قطرٍ مترعاً ليسَ يَظهرُ

رَمى فيهُ يأجوجاً ومأجوجَ عُنْوةً

إلى يوْمَ تُدْعى للحساب وتُنشرُ

(يتبع)

ترجمة حسن حبشي

ص: 57

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس الشبلي

- 3 -

- 7 -

وأمسى المساء مرخياً سدوله على الساحة فتفرق عنها المتفرجون وقد أرهقهم الفضول والرعب، وبقى زارا جالساً على الأرض قرب الميت فاستغرق في تفكيره ناسياً مرور الزمان حتى هبت نفحات الليل عليه منفرداً، فناجى نفسه قائلاً:

لقد كان صيدك موفقاً اليوم يا زارا! لقد أفلت الناس منك فاصطدت جثة هامدة.

إن حياة الإنسان محفوفة بالأخطار، وهي فوق ذلك لا معنى لها. . . فأن مهرجاً يمكن أن يقضي عليها.

أريد أن أُعلم الناس معنى وجودهم ليدركوا أن الإنسان الكامل إنما هو البرق الساطع من الغيوم السوداء من الإنسان.

ولكنني لم أزل بعيداً عن هؤلاء الناس وفكرتي بعيدة عن مداركهم، فأنا لم أزل متوسطاً المدى بين مجنون وجثة هامدة.

إن الليل مظلم ومسالك زارا مظلمة أيضاً. تعال أيها الرفيق المتيبس في حقيبته! إنني ذاهب بك إلى حيث أواريك التراب بيدي.

- 8 -

ورفع زارا الجثة على كاهله ومشى، ولكنه ما قطع مائة خطوة حتى زحمه رجل؛ وما كان هذا الرجل إلا مهرج البرج، فأسرّ إليه في أذنه:

- أذهب من هذه المدينة يا زارا فأن مبغضيك فيها كثيرون. هنا يكرهك أهل الصلاح والعدل، فيصفونك بالعدو والمزدري، ويكرهك المؤمنون بالدين الحق فيرون بك خطراً على عامة الناس، وقد كان من حظك أن هزأ الحشد بك لأنك كنت تتكلم كالمهرجين، وكان من حظك أيضاً أن اشتركت والكلب الميت، فقد كان خلاصك هذه المرة في إسفافك إلى

ص: 58

المهاوي، ولكنك لم تسلم في الثانية فأذهب من هذه المدينة وإلا فأنني قافز غداً فوق جثة أخرى.

قال الرجل هذا وتوارى وتابع زارا سيره في الشوارع المظلمة. ولما بلغ باب المدينة التقى حُفّار القبور فوجهوا إلى رأسه أشعة مصابيحهم وإذ عرفوا فيه زارا أشبعوه سخرية وهزءاً وقالوا:

- مرحى يا زارا! لقد صرت الآن حفاراً للقبور؛ إنك تحمل الكلب الميت. لقد أحسنت، فأن أيدينا أطهر من أن تدنس بجثته. أتريد يا زارا أن تختلس من الشيطان طعامه؟ كل هنيئاً! ولكن الشيطان أمهر منك، ولعله يسرقكما كليكما فيلتهمكما التهاماً.

ودار حفار القبور بزارا يتفرسون فيه. أما هو فلزم الصمت وسار في طريقه. وبعد أن مشى ساعتين يقطع الأحراج والمستنقعات، شعر بالجوع لكثرة ما عوت حوله الذئاب الجائعة، فوقف أمام بيت منفرد لاحت له الأنوار من نوافذه. وقال: لقد عضني الجوع وداهمني كاللص بين الأحراج في الليل البهيم.

إن لجوعي نزوات مستغربة وقد يداهمني حتى بعد الطعام، ولكنه اليوم ندّ عني منذ الصباح حتى المساء فأين كان هذا الجوع؟

وطرق زارا باب البيت فظهر له منه شيخ يحمل مشعلاً، وقال له: من الآتي إلي وإلى رقادي المضطرب؟

فأجاب زارا: أتيناك أثنين حي وميت، أعطني مأكلاً ومشرباً فقد نسيت الغذاء النهار بطوله، إن من يشبع الجياع يولي نفسه قوة، هكذا قالت الحكمة.

فغاب الشيخ وعاد بخبز وخمر وقال:

- إنها لأماكن موحشة للجياع، ذلك ما دعاني إلى السكن هنا حيث يهرع إلي البشر والحيوان في وحدتي. أفلا تدعو رفيقك ليأكل ويشرب معك فهو أشد تعباً منك.

فقال زارا: إن رفيقي ميت ولا يسهل علي إقناعه بتناول الطعام.

فتمتم الشيخ: ذلك لا يهمني؛ إن من يطرق بابي عليه أن يأخذ ما أقدمه له. كلوا هنيئاً.

وعاد زارا إلى السير فمشى ساعتين أيضاً وهو يهتدي إلى رسوم الطريق بنور النجوم، وقد كان معتاداً السري ويجب أن يتفرس في كل شيء راقه. وعندما لا ح الصباح كان زارا

ص: 59

وصل إلى غابة كثيفة حيث انقطع كل طريق أمامه، فتوقف ووضع الجثة في فراغ شجرة حواها حتى رأسها ليقيها هجمات الذئاب، ورقد بعد ذلك متوسداً نبات الأرض وما عتم حتى استغرق في نومه منهوك الجسم مرتاح الضمير.

- 9 -

وطال نوم زارا حتى غمرت وجهه أنوار الضحى بعد أن داعبته تباشير الفجر ففتح عينيه مبهوتاً وسرح أبصاره على الغاب ثم حولها يستكشف نفسه ساكناً مستغرباً.

وهب من مجلسه فجأة كما يهب الملاح تبدو لعينه الأرض، فهتف وقد هزه المرح لأنه اكتشف حقيقة جديدة فخاطب قلبه قائلاً

لقد انفتحت عيناي. إنني بحاجة إلى رفاق أحياء لا إلى رفاق أموات وجثثٍ أحملهم إلى حيث أريد.

إنني أطلب رفاقاً أحياء ليتبعوني لأنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم أيان توجهت.

لقد انفتحت عيناي، ليس على زارا أن يخاطب جماعات بل عليه أن يخاطب رفاقاً، يجب ألا يكون زارا راعياً للقطيع وكلباً له.

إنني ما جئت إلا لأخلص خرافاً عديدة من القطيع، وسوف يتمرد الشعب والقطيع عليّ. إن زارا يريد أن يعامله الرعاة معاملتهم للصوص.

قلت رعاة غير أنهم يدعون بالصالحين والعادلين. قلت رعاة غير أنهم يدعون بالمؤمنين بالدين الحق.

انظروا إلى أهل الصلاح والعدل لتعلموا من هو ألدّ أعدائهم، أنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم ذلك هو الهدام ذلك هو المجرم - غير أنه هو المبدع.

انظروا إلى المؤمنين بجميع المعتقدات تعلموا من هو ألدّ أعدائهم إنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم، ذلك هو الهدام، ذلك هو الجرم غير أنه هو المبدع.

إليّ بالرفاق. أنني أطلبهم مبدعين ولا أطلبهم جثثاً وقطعاناً ومؤمنين.

إن البدع لا يتخذ له رفاقاً إلا من كانوا مثله مبدعين، إنه يتخذهم ممن يحفرون سنناً جديدة على ألواح جديدة.

إن من يطلب المبدع إنما هم الحصّاد يعاونونه في الحصاد لأن كل شيء قد أصبح في عينه

ص: 60

ناضجاً للحصاد، ولكن المائة منجل ليست بين يديه فهو يتميز غضباً ويقتلع السنابل من أصولها.

إن المبدع يطلب رفاقاً له بين من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم، وسوف يدعوهم الناس هدّامين ومستهزئين بالخير والشر، غير أنهم يكونون هم الحاصدين والمحتفلين بالعيد.

إن زارا يطلب من كانوا مثله مبدعين يشاركونه في الحصاد وفي الراحة فلا حاجة له بالقطعان والرعاة وأشلاء الأموات.

وأنت يا رفيقي الأول، أرقد بسلام لقد أحسنت دفنك في فراغ الشجرة ووقيتك افتراس الذئاب.

غير أنني سأفترق عنك لأن الزمان قد مر سريعاً، وقد انبثقت حقيقة جديدة في أفق نفسي ما بين فجرين.

لن أكون راعياً، ولن أكون حفار قبور، ولسوف لا أقف بعد الآن في الجماعات خطيباً فقد وجهت آخر حظي إلى ميت.

أريد أن أنظم إلى المبدعين، إلى أولئك الذين يحصدون ويرتاحون فأريهم قوس قزح والمراتب التي يرقاها الواصلون إلى الإنسانية الكاملة.

سأهتف بنشيدي للمعتزلين ولمن يشعر بمثنويته في انفراده أنني سأملأ بغبطتي قلب كل من له أذاناً تصغيان إلى ما لم تسمعه أذن بعد.

أنني أسير إلى هدفي وأتبع طريقي فأقفز فوق المترددين والمتأخرين، وهكذا سيكون سيرى جنوحاً إلى الغروب.

- 10 -

وكان زارا يناجي نفسه بهذا القول والشمس في الهاجرة وإذا به يسمع صوتاً جارحاً في الفضاء ولاح له نسر يعقد حلقات في طيرانه وقد تعلقت به أفعى وما كان يقبض عليها بمخلبيه كفريسة، بل كانت ملتفة حول عنقه التفاف المحب.

فهتف زارا والحبور يملأ فؤاده: هذان نسري وأفعاي، فهو أشد الحيوانات افتخاراً، وهي أشدها مكراً تحت الشمس؛ وكلاهما ذاهبان مستكشفين في الفضاء ليعلما ما إذا كان زارا لم يزل في الحياة، فهل أنا لم أزل حياً بعد؟

ص: 61

لقد اعترضني من المخاطر بين الناس ما لم أجد مثله بين الحيوانات؛ إنني أتبع السبل المخطرة فلأقتدين بنسري وأفعاي.

وتذكر زارا حينئذ القديس المنعزل في الغاب فتنهد وقال:

لأكونن أوفر؛ حكمة لأكونن ماكراً كأفعاي؛ غير أنني أطلب المستحيل لذلك أتوسل إلى افتخاري أن يلازم حكمتي ولا ينفصل عنها.

وإذا ما تخلت حكمتي عني يوماً وهي تتوق إلى الطيران وا أسفاه فأنني أرجو أن يطير افتخاري مستصحباً جنوني.

وهكذا بدا جنوح زارا إلى المغيب.

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 62

‌على شواطئ البسفور

للأستاذ محمد بهجة الأثري

هنا الدنيا هنا الدنيا

ألا ما أحسن الَمحْيا

رُواء كفم الصّبح

إذا افترّ عن الفجر

على الأفق، على الروض

على البرّ، على البحر

كأن الأرض قد قامت

على الرقصة والزّمر

سرور أينما سرت

وعرسٌ لم يزل يجري

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

صفاء الأفْق كالبحر

ولون البحر كالأفْق

فمن يرنو إلى تحتٍ

كمن يرنو إلى فوق

يشم الأفق مطبوعاً

على البحر بلا فرق

كأن البحر دون الأفق

أمسى مطلق الزرق

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

رباع كجنان الخلد

لا حرٌّ ولا برد

حباها في ضحى آب

كما ينفحه الورد

فروْض أرج العطر

وجوّ غَنِجٌ سعد

أنيق الوشى كالجيد

إِذا زيّنه العقد

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

يحار الفكر إن جال

بما يشهد من حسن

فما يؤثر أو يهوى

وما يبعد أو يدنى!

إذا أعجبه مرأى

رأى أعجب في الشأن

فلا ينفك مسحوراً

كمأخوذ ابنة الدنّ

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

شهدت الحسن مطبوعا

كما أبصرت مصنوعا

ورمت الحب مبذولاً

فما صادفت ممنوعا

ص: 63

وشِمْت الخلد مرئيا

وكان الخلد مسموعا

وألفيت شتات الحس

ن في (البسفور) مجموعا

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

حسان كعذارى الخل

د يمرحن زُرافات

كأنْ آذار أبداهن

في الآفاق باقات

فهن الزهر في الروض

نشرن الحسن طاقات

وهن الزُّهر في الأفق

نزلن الأرض غادات

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

كأن الدهر بالغادا

ت كالأزهار نيسان

فهل غاب عن الخلد

رقيب الخلد رضوان

نشاوى مثل رائيه

ن بالإعجاب نشوان

ييمِّمن ربوع الأن

س حيث الحب ألحان

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

أغان وأغاريد

لها يطرب محزون

بلحن الطير في الأيكِ

يناغيهن قانون

تثير الروح بالشدو

كما ينشر مدفون

تغنّيها الرياحين

كما استضحك مفتون

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

لديها متعة السمع

وفيها شهوة العين

تعالى الله ما أقد

ر أن يجمع حسنين

وما أحسن أن تلتذ (م)

باثنين شهيين

بريئين بلا إثم

جميلين بلا شين

فيا عاشق دنياه. . .

هنا الدنيا، هنا الدنيا

حياة لم ينغصها

سوى ذكرى لأوطاني

أرى البسفور بساماً

فأبكي ثغر (بغدان)

ص: 64

نبا من أفقها الحسن

ولم تنعم بعمران

كأن لم تك في الدهر

جمال العالم الفاني

فيا شقوة (بغداد)

إذا لم تشبه الدنيا!

(بغداد)

محمد بهجة الأثري

ص: 65

‌في شعاع الفجر

مناجاة زهرة

بقلم أحمد فتحي مرسي

إيه يا زهرتي! لأقد أقبل الفج

رُ يفيض الضياءُ من بسماته

والشعاع الحبيب قد فاض في القل

ب فأحيا الدفين من أمنياته

والنسيم الرخيُّ يعبث بالغص

ن ويثني الندى من زهراته

قد مضى يوقظ الزهور ويسري

طابعاً فوق ثغرها قبلاته

رق حتى كأنه لمسة الطف

ل ومسُّ الرقيق من أنملاته

والفَراش الوديع يرتشف الضو

َء ويروي صداه من لمحاته

يلتوي كالقطاة أخطأها الرا

مي فراحت تحيد عن رمياته

والرياحين همسات إلى المر

ج كهمس الضميرَ في خلواته

قائمات على الربي ساجدات

كسجود التقي في صلواته

كلْ ما في الوجود يا ملكة الرو

ض يشعُّ الجمال من قسماته

إيه يا زهرتي! لقد أشرق الرو

ض وسال الندى على وجناته

فارشفي النور من سنا الصبح رفا

فا تلذ النفوس من رشفاته

وابسمي فالحياة حلم ويمضي

ويفيق الفؤاد من سكراته

إيه يا زهرتي! لقد صدح الطي

ر فهز الوجود من صدحاته

فآض في النفس لحنه فشجاها

وأذاب الفؤاد من نغماته

فهبيه من وجهك الطلق وحيا

يتملى من سحره أغنياته

إيه يا زهرتي! لقد أسفر الكو

ن وراق الجمال في جنباته

لم تبكين؟ جفِّفي ذلك الدم

ع وصوني عن البكا قطراته

لا يرُعك الزمان إن نثر الزه

ر وأفنى النظير من ورقاته

لا يرعك العذابُ إن ملأ الكو

ن فكلٌّ معذب في حياته

(القاهرة)

ص: 66

أحمد فتحي مرسي

ص: 67

‌القصص

تذكرة سفر من طنطا إلى سقر

للأستاذ إبراهيم جلال بك وكيل محكمة الزقازيق الأهلية

كان بإحدى ضواحي مدينة طنطا قروي له فتيان أحدهما جميل المحيا، مفتول العضل، تام الرجولة، كأبيه في الاستقامة والدأب على حرث الحقل ورعاية الماشية واسمه حسن. أما الآخر واسمه يونس فكان على نقيض أخيه، خامل الذكر، دائم التلهي بمعاكسة جيرانه، يسد مسيل الماء عنهم، ويسرق أمطار الذرة، ويسلبهم دجاجهم وسائر ما يكنزون.

وكان أبوهما مصطفى كهلاً أرمل، ولكنه عرف بالنجدة وصلابة العود، قد أخرجته الجندية متين البدن، وأكسبته سكنى المروج الخضر حدة في البصر.

وماتت زوجته والغلامان في الطفولة الأولى، وكان قد أدخر بقية من نقود الجندية فابتاع بها حقلاً زرعه نصف فدان وأحسن القيام عليه حرثاً وإنباتاً، وأقام تحت ظلال صفصافه عالية كوخاً صغيراً وسد به الحشائش الجافة وأضجع فيه طفليه واتخذ حوله سياجاً من قصب الذرة، ومهّد في ناحية من السياج مناخاً للدواب أسكن به شاة ذات أحمال وعنزات صغار. وكان الشيخ قد عرف بحسن الرماية وإحكامها من عهد أن كان في مصاف الجيش، ولديه قلائد الشرف حازها بحسن بلائه وبسالته في فتوح السودان. وقد رآه أهل القرية غداة العيد يحمل تلك القلائد ويخطر في الدرب عند باب العمدة كما شهد له العمدة بحسن السمت حين حياه مسلماً في أدب الجند وسكينتهم، وحين تناول قدح القهوة ثم أنقلب إلى كوخه الصغير بين غلاميه وماشيته.

وكان مصطفى قد اتخذ لنفسه محراباً للعبادة في ظل تلك الشجرة، فإذا أنشق الغسق عن غرة الفجر قام إلى قناة الماء فاغتسل ثم جثا في المحراب بقلب سليم، وكان هذا حاله في المواقيت الخمسة.

فكان الله في عونه حتى ترعرع الغلامان، وجاوز حسن سن الخامسة عشر ولحق به أخوه يونس، وزكا الزرع ودر الضرع وسال النضار بكف الشيخ مسيل الماء في حقله، فلم تطغه إخلاف الرزق وسعة العيش، وعكف على تثقيف ولديه في مكتب القرية، فحذق حسن فن الكتابة والحساب؛ أما أخوه فكان غافل اللب، ينسل من المكتب مع رفقة له فيتسكعون في

ص: 68

دروب القرية حتى خرج غراً جاهلاً لا يحسن شيئاً، ولم تجد فيه نصائح أبيه الشيخ، ولا نالت منه سياط التأديب ولا وجيفة القيد؛ فكان يفر من الكوخ ويبيت ليله بالعراء. وكان حسن يتميز رحمة وحناناً بيونس؛ وكم كان يتقي بساعديه سياط أبيه ويقاسم أخاه بلاء التأديب.

وطرقهم طارق بليل، وكانت ليلة قرها زمهرير وريحها عاصف، فهرت كلابهم بباب الكوخ ونهض الشيخ إلى غدارة له بالجدار عامرة بأسباب الموت. وكان حسن قد نما عوده، واستقام كاهلاه كأحسن ما تقوم أبدان الرجال، فتصدى لأبيه وتناول منه آلة الموت، وخرج إلى الفناء وأبوه يرقبه بعيني صقر وبيده هراوة.

ورأى حسن شبحاً قد التقط حملين من الخراف، وتجاوز السياج بهما فانطلق في أثره حتى حازاه، وسدد إليه القذيفة، ولكنه تعرف السارق في عدوه، ولمح من وميض الأفق تصاوير بدنه، فالقى الغدارة ولحق به؛ وصحت فراسته فقد كان أخاه يونس. وقال له حسن خل الخراف لئلا يلحق بنا أبوك فأن بيده الهراوة. ورفض يونس صاخباً؛ وتعاقد الأخوان بالأيدي، وطعن قابيل هابيل وفر بالخراف. وجاء الشيخ يشتد وبيده آلة الموت التي رماها حسن، وجثا بجانب الجريح وقال له: عجيب أمرك والله! كيف تلقي عنك سلاحك ثم تذهب إلى اللص أعزل؟ ومسح الشيخ مقلتيه وحدق في شبح السارق، ثم بسط الغدارة على تلك السواعد الخالدة وهم بإطلاق القذيفة لولا أن قام إليه حسن وانكفأ على صدره، فطاشت القذيفة ونجا يونس وخلف الخراف. وشفى الله الجريح ورده إلى أبيه فلاحاً كادحاً زينة الغلمان حماة الفؤوس.

واستبان الشيخ أن سارق الليل كان يونس.

وجاء عيد الأضحى فنحر مصطفى كبشاً، وجاد بأكثره على الأيامى من عجائز القرية وضعاف أهل السبيل، ثم جلس مع ابنه حسن يأكلان شواء وثريداً.

وقال الغلام لأبيه: يا أبت أني راحل إلى مصر غداً إن شاء الله، فقد أنقصوا أجرة السفر كرامة لهذا العيد. فقال الشيخ يا بني أني لأجد في سفرك هذا خفوقاً بين أضالعي لا أدري والله له علة ولا سبباً.

وانطوى النهار وجاء الغد، فخرج الشيخ يشيع غلامه إلى المدينة، ودخلا المسجد الأحمدي،

ص: 69

وطافا حرمه مع الطائفين من أهل القرية، وصلى الناس الظهيرة مهللين مكبرين، ثم قاموا إلى المحطة، أما مصطفى فأنه تناول جبين ابنه لثماً وزفر أنفاساً محزونة ثم توارى.

ورأى حسن في غمار الناس أخاه يونس يرفس في أطماره ويزوي مسكنه وفاقة، وقد غارت عيناه بين غضون الشقاء والاغتراب.

وتعانق الأخوان، وناح يونس من كبد نادمة موجعة، ونسى حسن جراحه السالفة وما فعل قابيل به وقال:(لا عليك يا أخي! وابتاع تذكرتين وحمل إلى أخيه قرصين من خبز السميذ).

واستقر الناس في العربات في حلل العيد وحولهم قدورهم وحلواهم، وأخليت مساند القرية للشيوخ، أما الولدان والرضع فركبوا كواهل الآباء وحجور الأمهات.

وتوالى ولوج هذا الركب المنكود بأفنية العربات، وامتد مصافهم إلى السقف، حتى لقد أسبلوا من أبدانهم ستراً كثيفاً على النوافذ. وكرت العربات في إثر القاطرة تهب الأرض وركبها لاه يرى انطواء الحقول والضياع والقرى كالصحف المصورة بيد الطفل ينشرها ويطويها.

وكان ذلك قدراً محتوماً وإن كان مكتوماً، فنزل بالركب المسافر موت فات الذين نوعوا أسباب الموت، وغاب بهم الحساب عن الذين يعدون على الأيام أنواع البلاء وألوان العذاب.

ذلك أن سعيراً من وقود جهنم فار من موطئ الأقدام وجوف العربات كما فار الطوفان من أغوار مدينة نوح.

وما كان الركب إلا أهل الفاقة والمسكنة عبيد الضائقة المالية قد ذهب رب الحقل بما أنبتوا من قطن وبر، ومشت الحكومة بماشيتهم في الخراج. ولو كانت العربات مفضية إلى بعضها لسارع الناس بالنجاة من باب إلى باب وخلفوا النار تأكل بعضها، ولكنها يا للحسرة الفاجعة، كانت عليهم موصدة في عمد ممددة.

وكشفت نوافذ العربة لمن يرجوا النجاة وثباً، فتقاطر كل مقبل على موت ليختار أحد السبيلين أيهما أهون عذاباً. أغمرة الإحراق، أم دق الأعناق؟ ورأى أهل القرى والحقول ضرام النار في أتونها المستعر، وها لهم ضجيج الوقود البشري، وجن جنونهم لغفلة السائق

ص: 70

واندفاعه بقاطرته كعجلات الرومان الأولى نيط بها الأسرى في أغلالهم، وحمل الموتى إلى مدينة بنها، وعرضوا في فناء المستشفى وأسعف الذين بهم رمق.

وصاح النعاة بأهل القرى فأقبل الشيخ الفاني مصطفى مخذول الساقين، زائغ البصر، لا يدري ما كتب لولده حسن؛ ودخل فناء المستشفى في مشيخة من قريته، فعرف الناس موتاهم وعلا النحيب من اليتيم والأرمل والثكلى. أما مصطفى فقد دلف إلى الأشلاء حبواً وكف بصره بدمع يحرق الأديم، وأراد أن يرى بعينه مبلغ الكارثة من فؤاده.

فلمح ولده العائق يونس قائماً يبكي وحول ساعديه العصائب وعلى صدره اللفائف، وقد نشر رداءه على جسد أخيه حسن يحاول أن يخفيه عن بصر الشيخ المفجوع، ولكن الشيخ رأى بالبصيرة ما لم يره البصر!!

إبراهيم جلال

ص: 71

‌البريد الأدبي

أوجين أونيل الفائز بجائزة نوبل للآداب

ذكرنا في العدد الماضي أن الأكاديمية السويدية قد منحت جائزة نوبل للطب والفسيولوجيا هذا العام إلى العلامة النمسوي الدكتور أوتو ليفي والعلامة الإنكليزي السير هنري هالت ديل.

والآن نذكر أنها منحت جائزة نوبل للآداب إلى الكاتب الأمريكي الشهير أوجين أونيل ?

وأوجين أنيل هم أعظم كاتب مسرحي أمريكي في عصرنا، اشتهرت قطعه التمثيلية في أمريكا وفي العالم القديم معاً؛ وكان مولده في سنة 1888 بمدينة نيويورك من أب ممثل شهير، ودرس أوجين في هارفارد وقضى شباباً مضطرباً يعالج مختلف الأعمال، وينتقل من بلد إلى بلد، فاشتغل بحاثاً عن الذهب، واشتغل بحاراً، وصحفياً مخبراً، وممثلاً، وأحرز خبرة كبيرة في مختلف الأعمال؛ وأصابه السل وهو في بدء شبابه، فأودعه أبوه أحد المستشفيات، وهنالك كتب عدة قطع تمثيلية من فصل واحد؛ ولما شفى عاد إلى كلية هارفارد وتلقى دروس الكتابة المسرحية على الأستاذ باكر؛ ومثلت بعض قطعه المسرحية في الأقاليم فأصابت نجاحاً. وفي سنة 1919 ظهرت أولى قطعه الكبيرة بعنوان (ما وراء الأفق) فنالت شهرة كبيرة؛ وفي سنة 1921 ظهرت (الإمبراطور جونس) فزادت في شهرته؛ وفي سنة 1922 ظهرت (أنا كرستي) ومن أشهر قطعه رواية (القرد الغزير الشعر) وقد مثلت بنجاح عظيم في نيويورك ولندن. وظهرت بعد ذلك عدة قطع اشتهرت كلها في العالمين الجديد والقديم ومثلت في جميع العواصم الكبرى، ومنها:(1927) و (1928). وقد امتازت روايات أونيل بأنها تعرض المحادثات النفسية للأشخاص على المسرح في ثوب جديد ساحر، واشتهر بعضها بالتطويل حتى إنها لتبلغ تسعة فصول، وتستغرق في تمثيلها خمس ساعات، ومع ذلك فقد اشتهرت بقوتها وعميق تأثيرها. وقد تقلب أونيل في الكتابة بين عدة مذاهب (الحقيقي) و (التعبيري) والرمزي والنفسي؛ وهو لا يعنى بشيء من الآراء والمذاهب والسياسة والاقتصادية، وكل ما يعنيه هو الفكرة الإنسانية، وما تعرضه في الحياة الواقعة؛ ومعظم الخواتم في قطعه تعرض الخيبة والفشل، ويهزم الأشخاص لا بخطئهم أو تقصيرهم ولكن بفعل الحظ والمصادفة،

ص: 72

وهي مؤثرات يبغضها أونيل ويرى أنه لا حق لها أن تؤثر في حياة الفرد.

جائزة نوبل للعلوم الطبيعية والكيمياء

ومنحت جائزة نوبل للعلوم الطبيعية للعلامة النمسوي الدكتور هيس والعلامة الأمريكي الدكتور هندرسون مناصفة بينهما، ومنحت جائزة نوبلللكيمياء للعلامة الألماني الدكتور هيلاندى دربي من معهد برلين.

وفاة شاعر مجري كبير

نعت إلينا بودابست الأخيرة الكاتب والشاعر المجري الكبير ديشو كوشتولاني توفي في الثالث من نوفمبر بمنزله في بودابست بشارع تابور بعد مرض طويل. وكان مولده بقرية زباتكا من أعمال جنوب المجر؛ وتلقى دراسته بجامعة بودابست؛ واشتغل بادئ ذي بدء بالصحافة؛ ثم كتب بعض القصص ونظم الشعر؛ وترجم إلى المجرية عدة قطع خالدة من شكسبير، وموليير، وموباسان، وفلده، وغيرهم من الشعراء المحدثين من كل قطر وكل لغة. ومن أشهر مؤلفاته (الشاعر الدموي) وهي قصة رائعة عن عنصر نيرون، وقد ترجمت إلى الإنكليزية وهو شاعر مجدد بمعنى الكلمة وقد استطاع أن يصوغ أعقد المسائل المعقدة المحدثة في أجمل الأساليب وأرقها، ومن منظمة المجموعات الآتية:(بين جدران أربعة)(1907)(أنين طفل)(1910)(السحر)(1912)(أخي)(1915)(بوبي)(1916)(الخبز والنبيذ)(1920)(أنين رجل محزون)(1921) العارية (1927) وغيرها، وقد ترجمت معظمها إلى الإنكليزية.

في الأكاديمية الفرنسية

في الأنباء الأخيرة أن ثلاثة أعضاء جدد قد انتخبوا للجلوس في الأكاديمية الفرنسية والانتظام في سلك الخالدين، وهم الأميرال لاكاز وقد انتخب مكان السياسي الكبير جول كامبون، والمونسنيور جرانت وقد انتخب مكان المؤرخ الكبير بييردي نولهاك، والمسيو جاك دي لاكرايتل وقد انتخب مكان الشاعر والقصصي الكبير هنري دي رينيه.

وينتمي كل من الأعضاء الجدد إلى طراز خاص من التفكير، فالأميرال لاكاز من رجال الحرب، ولكنه كاتب وخطيب كبير؛ وهو اليوم في الخامسة والسبعين من عمره، وكان

ص: 73

وزيراً للبحرية، وقائداً لأسطول الغواصات أيام الحرب الكبرى؛ ومن تقاليد الأكاديمية أن يمثل فيها دائماً إلى جانب أبطال الأدب، أبطال العسكرية البارزين في التفكير والثقافة مثل الماريشال فوش الذي كان من أعضائها.

وأما المونسنيور جرانت، فهو على رغم كونه من رجال الدين، كاتب ومؤرخ كبير؛ وهو دكتور في الآداب، وقد انتخب منذ سنة 1928 لمنصب الأسقف، وكان من قبل مديراً للمعهد الكاثوليكي في ليل؛ وله ثبت حافل من الكتب والمصنفات المختلفة نذكر منها:(عيوب التربية المنزلية الحالية)(بوسويه في متز)(تطور الشعائر والعبادات في باريس منذ الثورة إلى عصر الكونكوردا)(شهداء سبتمبر سنة 1792)(رسالة إلى المشرق) وكثير غيرها، وهو خطيب مفوه ومحاضر بارع، وقد اشتهر بمحاضراته الدينية والاجتماعية التي يلقيها من آن لآخر في العواصم الأوربية المختلفة.

وأما جاك دي لاكرانيل فهو كاتب وقصصي كبير، وقد ولد بمصر ونشأ بها؛ وكان بمصر في العام الماضي وألقى بعض محاضراته في القاهرة والإسكندرية؛ وهو من أساتذة الشباب في القصة المعاصرة، بيد أنه يميل إلى النزعة القديمة، وينتمي بنوع خاص إلى مدرسة الأب (بريفوست)؛ ويؤثر الاستعراض الهادئ للأحداث والفواجع، وأسلوبه حاد ولكنه واضح. ومن أشهر قصصه (الحب الزوجي) و (الأسقف العالية).

أنباء الزمن في أخبار اليمن

أصدرت (مجلة الإسلام) الألمانية فيما تصدره من دراسات لتاريخ الشرق الإسلامي وحضارته القسم الأول من مؤلف هام عن تأريخ اليمن، هو (أنباء الزمن في أخبار اليمن) ليحيى بن الحسين بن المؤيد اليمني. وقد وقف على طبعه وتصحيحه والتعليق عليه ومهد له في مقدمة طويلة بالألمانية الدكتور محمد عبد الله ماضي عضو بعثة الإمام محمد عبده، ونال بتقديمه إجازة الدكتوراه في مايو الماضي. وهو يطبع لأول مرة عن مخطوط قديم، ويتناول تأريخ اليمن في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع من الهجرة من سنة 280 إلى سنة322 هـ. وقد أهدى الناشر ثمرة مجهوده إلى روح المرحوم الإمام محمد عبده اعترافاً بفضله ومآثره؛ وسنعود إلى دراسة هذا السفر في فرصة أخرى.

فكرة العصبية عند أبن خلدون

ص: 74

أصدرت مجلة (الإسلام) الألمانية كذلك في مطبوع خاص رسالة بالألمانية عن (فكرة العصبية في مقدمة أبن خلدون)

وهي الرسالة التي تقدم بها صديقنا الدكتور طاهر خميري مدرس اللغة العربية بكلية همبورج إلى نيل إجازة الدكتوراه. ويشرح المؤلف نظرية الفيلسوف أبن خلدون في (العصبية)، وأثرها في القبيلة وتكوين الملك بطريقة نقدية مقارنة، وسنعود أيضاً إلى استعراضها ودراستها في فرصة أخرى.

ص: 75

‌العالم المسرحي والسينمائي

التأليف والترجمة للمسرح

حديث للأستاذ زكي طليمات لناقد (الرسالة) الفني

قبلت الفرقة القومية استقالة الأستاذ طليمات، كما ألغت وزارة المعارف انتدابه للعمل في هذه الفرقة، فحرم المسرح في مصر من جهود شاب نشط مثقف أرسلته الحكومة إلى فرنسا ليدرس التمثيل والإخراج كي تنتفع به النهوض بهذا الفن.

ولسنا ندري حقيقة الدوافع التي حدت بالأستاذ طليمات إلى تقديم استقالته، ولكننا علمنا أنه ضمنها كتابة الذي رفعه إلى الأستاذ الكبير محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف، ولذلك قصدت إلى الأستاذ طليمات وسألته أن يطلعني على صورة من هذا الكتاب، فأبى ورفض أن يدلي بأية تفاصيل، ولكنه أمام الإلحاح صرح بما يلي:

(لم استقل لا من أجل زيادة مرتبي أو طلب مركز أو خلافة، وإنما استقلت لأنني غير قادر على تقوية ضعف أرى الفرقة تنساق إليه يوماً بعد يوم.

كنت مغلول اليدين مشدوداً إلى خشبة تعذيب، أرى وأتألم وأصيح ولا يستمع لي أحد، وهذا عذاب لا يطاق

فاستقالتي إنما هي لأراحة ضميري).

ولم يرض الأستاذ طليمات أن يزيد كلمة على هذا التصريح بل جعل ينتقل بالحديث من موضوع إلى آخر حتى عرض لنا موضوع التأليف والترجمة للمسرح فوجهت إليه السؤال التالي:

ما رأيك في الروايات المصرية التي أخرجتها أو طلعت عليها؟

فأجاب (رأيي أن المسرحية المصرية لم تستكمل بعد مقومات نضوجها، وما برحت تفتقر إلى الطابع الأصيل الذي يميزها عن الرواية الغربية، إذ لا يخفى عليك أن الجمهور المصري لم يتعرف إلى المسرحية في اللسان العربي إلا منذ سبعين عاماً، والأدب القديم خلو منها على الرغم مما يذخر به من المخلفات الممتعة في مختلف العلوم والفنون.

أدبنا العربي والحديث يفتقر إلى الوراثة المهذبة في فن صياغة القطعة المسرحية. وليست له تقاليد فيها، فنحن ما برحنا في دور النقل والتقليد والاستساغة، نأخذ عن المسرح الغربي

ص: 76

في صياغة مسرحياتنا وننحو نحوه، ولا بد لنا أن نجتاز هذه المرحلة قبل أن يستقر وضع أصيل للمسرحية المصرية. غير أن هذا لا يحجزني عن التصريح بأن بيننا نفراً من المؤلفين المصرين قد وفقوا كثيراً في تأليف روايات متينة البناء قوية الحبكة جاء حوارها قوياً في سلاسة وسهولة. فهنالك أمثال:(إبراهيم رمزي)، (عباس علام)، (المرحوم محمد تيمور)، يأتون في مقدمة هذا النفر. وجاء أخيراً (توفيق الحكيم) فأضاف ذخيرة جديدة إلى محصولنا في آداب المسرحية المصرية.

واهم ما آخذه على أكثرية المؤلفين المصريين أنهم لا يحسنون العدة للتأليف، فتحصيلهم سطحي هزيل، ولذلك لم يكن غريباً يكون نتاجهم فجاً. وأعرف ممن يكتبون للمسرح من لم يقرأ رواية أجنبية واحدة، فإذا سألته عن شغفه بالتأليف أجابك في زهو أنه مواظب على حضور التمثيل في فرقة فلان أو فلانة.

وأبين مواطن الضعف في المسرحية المصرية جهل بصياغة الرواية وحبكة حوادثها في منطق سليم يستشير اهتمام الجمهور في غير افتعال أو خروج عن المعقول، كذلك ميل إلى معالجة الموضوع بطريقة سطحية يُهدر فيها جانب الشخصيات في الرواية فيبدون نحفاء مهازيل من حيث التحليل النفسي. أما الأسلوب الذي يكتبون به فتعلوه مسحة من التكلف والنزوع إلى الإتيان بمهجور اللفظ والمبالغة في سرد المترادفات والجود بالألفاظ في إسراف معيب. فإذا خلا من هذه العيوب في بعض الأحايين، فلكي يقع في قص الحديث والسرد، وإذا قلت إن قليلاً، وقليلاً جداً من مؤلفينا يحسنون جدل الحوار لما قررت غير الواقع.

وأعتقد أنه يجب أن يمر زمن طويل حتى نحسن صناعة تأليف الرواية المسرحية. والعلة في هذا ترجع إلى أننا نعمل من جديد دخيل في آدابنا.

فقلت له: (وما رأيك في الروايات التي تترجم للمسرح المصري. ومن هو أحب المؤلفين إليك؟) وقد أجابني قائلاً (أكثر هذه المترجمات من هزيل الروايات الغربية ذات الصبغة القاتمة أو ذات المواقف العنيفة المفتعلة. وقد تهافت أصحاب الفرق التمثيلية على نقل هذا النوع من الروايات لسهولة إخراجه على المسرح، ولأن نقله إلى العربية لا يحتاج إلى كثير من العناء الذي يتطلب زيادة الأجر في نفقات الترجمة. هذا فضلاً على أن هذه

ص: 77

الروايات تستهوي الأكثرية الغالبة من الجمهور، وهي أكثرية ساذجة التفكير لا تميل إلى أعمال الروية فيما يقدم إليها على المسرح. ولا يخفى عليك أن الجمهور المصري لم يتعود أشغال الفكر فيما يراه في دور اللهو، ولم يطالعه فن التمثيل باللسان العربي إلا منذ سبعين عاماً، وفن التمثيل ظاهره له وباطنه تهذيب وتثقيف.

ومن العجيب أن كثيراً من روايات (موليير) وبعض روايات كورني وراسين، وهم من عباقرة المؤلفين المسرحيين قد نقلت إلى العربية في أوائل عهد مصر بالتمثيل ولكنه كان نقلاً مشوهاً مسخت فيه معالم تلك الروائع الفنية فخرج بعضها يتعثر في أسلوب من العامية والبعض الآخر يتنكر في أسلوب ركيك محشو بالسجع مطبوع بالتعابير (الكليشية) التي مج استعمالها وأنكرتها الآذان.

وتقدمت عملية النقل في السنوات الأخيرة، وتنبهت وزارة المعارف أخيراً إلى ضرورة تغذية المسرح المصري ببعض من نفائس الأدب المسرحي فترجمت عدداً منها ترجمة أنموذجية، وقامت بطبعها متوخية في عملها هذا أن يطلع المتأدبون على أنفس الذخائر الفنية في المسرح الغربي، وأن يتأثر بطابعها من يعالجون التأليف المسرحي في مصر. ولا غنى لنا عن المسرح الغربي في هذه المرحلة، مرحلة الاستساغة، ولكن هذا يجب ألا يصرفنا بأي حال من العناية بالرواية المصرية وتشجيع مؤلفيها. ويجب ألا يكونقياسنا في الحكم عليها ما يعمر رؤوسنا من آثار نوابغ المسرح الغربي، فنحن ما برحنا في دور المحاولة، محاولة جعل الرواية المسرحية شعبة من أدبنا المصري الحديث.

وألاحظ أن أكثر مترجماتنا مأخوذ من الأدب الفرنسي، بل يكاد مسرحنا (لاتينياً) في نزعته، وما هذا بعجيب فثقافتنا لاتينية منذ القدم كما أن مزاجنا يكاد يتشابه بالمزاج اللاتيني، وذلك بحكم أننا من أبناء شواطئ البحر الأبيض المتوسط ومصر هي الضفة المقابلة لإيطاليا.

ولكن ما أحوجنا إلى أن يتعرف الجمهور والمتأدبون إلى آثار الأدب الجرماني وأدب الشمال والأدب الأمريكي الشاب الذي هو خلاصة آداب مجتمعة، فمسرحنا لم يتعرف بعد إلى (أبسن) النرويجي و (استرنبرج) السويدي و (هوبتمان) الألماني و (أوجين أونيل) الأمريكي.

ص: 78

وأحب المؤلفين المسرحيين إلي هم (موليير) الفرنسي، و (أبسن) النرويجي، و (شاكسبير) الإنجليزي. ولي ولع خاص بمطالعة أعمال موليير لأنها علمتني الاعتدال وهي صفة أقر بافتقاري إليها، وطالما كان حظي الصغير منها سبباً في أخطاء أتيتها في حياتي، ولأن موليير تجتمع كاملة شخصيات الشاعر الإنساني، والكاتب المسرحي والممثل، فهو رجل مسرح بحق.

وتهزني مآسي شاكسبير بروعتها، وفيض عواطفها، وهي مآس عاطفية تركزت فيها الإنسانية بأسرها.

أما (إبسن) فهو أبو المسرح الحديث وأستاذ أساتذة نوابغ المسرح الغربي، وهو الطود الشامخ وغيره الكثبان الرملية والتلال. وفي ضباب مآسيه غموض الحياة وظمأ المعرفة الذي لا تنقع علته، وفي نضال شخصياته أروع مآسي الحياة الفكرية).

قلت له ما رأيك في استقدام الخبير الفني الذي تنوي وزارة المعارف استقدامه من الخارج؟ فأجاب (سبق أني صرحت برأيي في ذلك، وهاأنذا أكرر ما قلته: وهو أن في استقدامه ما قد يبصرنا بما خفي علينا الأخذ به من وسائل ترقية المسرح المصري وإذاعة آثاره؛ وأرجو أن توفق الوزارة في اختيار أحد الرجال البارزين في المسرح الأوربي؛ ولعل في استقدامه واضطلاعه بشؤون الفرقة القومية ما يقضي على أسباب الفوضى المنتشرة في هذه المنشأة الجديدة، وهو الأمر الذي عجزت عنه وأعياني أمره).

يوسف تادرس

ص: 79