المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 178 - بتاريخ: 30 - 11 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٧٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 178

- بتاريخ: 30 - 11 - 1936

ص: -1

‌بعد المعاهدة

بعد ليل غاشي الجوانب تراكمت على (الوادي) همومه، وطريق دامي المسالك تشابهت على الدليل رسومه، انجلى الغيهب الكثيف عن وضح الفجر، وانتهى الطريق المخيف إلى أمان الغاية؛ فحمدنا السُّرَى عند الصباح، ورضينا الغنيمة بعد المعركة، وهدهدنا الأمانيَّ على نشيد الفوز.

كنا مقيدين لا نملك مع القيد مجال العمل، ومحجورين لا نجد مع الحجر سبيل التصرف، ومستذلين لا ندرك مع (الامتيازات) معنى الكرامة، ومستقادين لا نعرف مع (الاحتلال) عبء التبعة؛ فإذا كانت مصر الأمسِ قد مشت عرجاء في طريق التقدم، وجاهدت عزلاء في ميدان العيش، فإنما كان وِزْر ذلك على الغاصب الذي سلط قوته على الحق، ومنفعته على العدل، فحجز البلاد عن وجهتها الحرة حقبة من الدهر أوْفت على نصف قرن. أما اليوم وقد انكسر القيد، وانتفى الحَجْر، وتصاغر الامتياز، وقال لك القوى الغالب: لقد رشدت فتصرف في أمرك، وشببت فدافع عن حَوزتك، واستقلت فاحكم في بلدك، فلا يسعك في تقصير عذر، ولا يسعفك في دفاعٍ حجة.

هذه ثروة النيل التليدةُ والطريفة، عبثت بها أهواء القيم المفروض بالباطل، فنقص النامي، وبلُد الحساس، وفسد الصالح، واعوج المستقيم، وتنافر المنسجم؛ فكل شيء فيها معتل يفتقر إلى علاج، أو منتشر يحتاج إلى ضبط. فإذا قصرنا الجهد أو أكثره على تنفيذ المعاهدة، من إنشاء الجيش وبناء الثكنات وشق الطرق، ظل حالنا على ما كان من بؤس العيش، ونقص الكفاية، وعجز القدرة. وهل يكون الأمر حينئذ إلا حبس قوى الأمة على الاستقلال في السعي إليه أو في المحافظة عليه؟ وهل يزيد الاستقلال على أن يكون استرداداً للحرية المسلوبة؟ تنعم الأمة في ظله وهي آمنة، وتعمل في حماه وهي حرة، وتحكم على مقتضاه وهي سيدة؟

أن إعداد الأمة لحمل نصيبها من أمانة الحياة ورسالة الحضارة وعهد المحالفة، يقتضي أن تتظاهر ملكاتها الموجدة، وكفاياتها المدبرة، وقواها المنفذة، على طرد الجهل منها، ودفع الفقر عنها، ومعالجة المرض فيها؛ وهذه العلل الثلاث هي جمَّاع العلل، لا تجد عاهة من عاهات الجسم، ولا آفة من آفات الروح في الفرد أو في الجماعة إلا ضاربةً فيها بعرق. أو واصلة إليها بسبب. والأمة كلها خَلْق سَوِيٌّ كامل لا تستطيع أن تقويه وترقيه إذا عُنيت

ص: 1

بعضو دون عضو، وشُغلت بملكة دون مَلكة.

كل ما فينا عاطل يبغي العمل، وباطل يريد التغيير، وَرثٌّ يطلب التجدد؛ وتلك مخلفات العهود السود وتركات الأجيال المريضة، نمت فينا نمو الجراثيم يزرعها ويغذيها المحتل الذي لا يرحم، والحاكم الذي لا يعدل، والواغل الذي لا يعف.

كان من جرائر فقد الاستقلال في الحكم أن فقدناه من كل شيء حتى في الذات؛ فنحن نفكر تابعين، ونعمل مقلدين، ونعيش متواكلين، ونسعى على غير اطمئنان ولا ثقة. وقد ظهرت هذه التبعية واضحة في الآداب والعادات، وهي أدخل الأشياء في بناء الشخصية وأبعدها عن التراث المشترك بين الأمم كالعلم والحضارة.

ولعل أقبح آثاره ما نجد في الشباب من رخاوة العود وطراوة الخلق، وفي الكهول من ضراعة النفس وضعف الإرادة؛ فإن ترك الدفاع عن أنفسنا لغيرنا كَسَبَنا طباع العيش الأبله من الوداعة والإغضاء والرضى، فلا ترى في الجملة من يغضب للإهانة، ويثور للعدوان، ويتحمس للخصومة. وأن استبداد الأجنبي بأمرنا من دوننا قتل فينا التفكير، وأنام فينا الضمير، ودهانا بطائفة من طبائع الاستبداد كالملق والنفاق والتواضع والأثرة؛ فالأمة مستنيمة لهوى الحكومة، والحكومة مستكينة لإرادة المحتل؛ وبين طبقات الشعب ودواوين الحكم منافع مسعورة لا ترتوي، ومحاباة مهتوكة لا تستحي، وتواكل غفلان لا يفيق.

نعم كل ذلك كان نتيجة لفقد الاستقلال ما في ذلك ريب؛ ومن الممكن أن يكون وجوده علة في عدم هذه النقائص على التدريج مسايرة لفعل الزمن؛ ولكن الوقت ضيق والفرصة عجلى والضرورة حافزة، فلا بد لأولياء العهد الجديد أن يغسلوا أدران العهد القديم بالسموم، ويحسموا أدواء الماضي بالكي، ويجعلوا بين العهدين سدا من النار والحديد لا ينفذ منه إلا مصهور أو مطهَّر.

نريد أن ندخل العهد الجديد في لباس الإحرام: صدورنا نقية من أحقاد الحزبية، ونفوسنا بريئة من شهوات العصبية، وميولنا نزيهة عن خسيس المطامع.

كنا نعيش كما يعيش السَّوَام في البر أو السمك في البحر، لا تجمعنا وحدة شاملة، ولا توجهنا غاية معينة؛ وكان ذلك أثراً محتوماً للسلطات التي كانت تتنازع الحكْم، والتيارات التي كانت تتوزع الثقافة، والامتيازات التي كانت تمزق المجتمع.

ص: 2

أما اليوم فنريد أن نعيش كما يعيش الناس في كل أمة: وطن صريح الاستقلال قوى الشوكَة، لا سلطان لقوة خارجية عليه، ولا سيادة للغة أجنبية فيه، ولا استبداد لشركة أوروبية به؛ وَحرية مهذبة الأطراف مأمونة السفه، ينعم الفرد فيها بنفسه، ويأمن بها على رأيه؛ ومجتمع راقي الطبقات مثقف النواحي، يؤلف نافرَه الخلق، ويجمع شتيته الحب، ويرفَّه حياته التعاون، ويؤوِيه إِلى كنفه إله وعلم وملك. ذلك ما نرتجيه في الحياة الجديدة، وذلك ما نبتغيه من الحكومة الرشيدة.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌كل امرئ وما خلق له

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

عرفت شاباً حفيت قدماه من السعي حتى فاز (بوعد) بأن يستخدم (ساعياً) أو نحو ذلك بعد أن يقر البرلمان ميزانية الدولة. ووافق البرلمان عليها وأصبحت معمولاً بها وراح صاحبنا يستنجز الوعد ويستعجل التعيين فلم يجد إلا مطاولة وإخلافاً، فمل ذلك وجاءني يوماً وذكر لي جيرة أهله لنا في بعض ما مضى ورجا أن أدله على وسيلة تبلغه ما يريد. فقلت له يا أخي: أما الحكومة فلا صلة لي بها، وأنا أراك لا تستنكف أن تعمل فيها عمل الخدم وإن كنت شاباً متعلماً، فإذا كان هذا هكذا فما أظن أن الدنيا تضيق بك في غير الحكومة ولن تعدم عملاً في شركة أو متجر أو ما شابه ذلك. ولم أزل به حتى صرفته عن الحكومة، فمضى عني وفي نيته أن يلتمس الرزق من العمل الحر. ولم يكد يفعل حتى ساورتني الوساوس، فقد رأيته شاباً حيياً طيب القلب سليم النية مستقيم الفطرة لا يكاد يعرف عن الدنيا شيئاً؛ ومثل هذا خليق أن يغرق في محيطها الطاغي، ولكني لم أكن أستطيع أن أصلح ما اعتقدت أني أفسدت، لأني لا أعرف أين يسكن حتى كنت ألحق به وأمحو ما وقر في نفسه من كلامي. ولم يعد هو إلى بعد ذلك فذهب كل أمل، فجعلت ألوم نفسي وأوسعها تقريعاً وتأنيباً، ثم شغلتني الحياة فنسيته.

ومضت شهور لا أراه ولا أسمع به - وأعترف فأقول: ولا يرد له ذكر على بالي. وجاء الصيف واحتجت أن أقضي بضعة أيام في الإسكندرية فنزلت في فندق جديد على البحر عند شاطئ (ستانلي)، فأتفق يوماًُ أني خرجت أتمشى فعدت متعباً فقلت أستلقي على السرير ففعلت وأخرجت سيجارة احتجت لإشعالها أن انهض قليلاً لأمد يدي إلى الكبريت، وكان على منضدة صغيرة قريبة من السرير، فما راعني إلا حذاءان ضخمان لا حق لمخلوق في أن يكون له مثيل ما فيهما من القدمين، ففزعت ثم تذكرت أن الذي يختبأ تحت السرير يكون هو الخائف الفزع، ففي وسعي أن أطمئن قليلاً، فقمت فقعدت على كرسي ودعوت صاحب القدمين الكبيرتين أن يخرج بالعفو عنه، فخرج القهقري - أعني أن الساقين ظهرتا أولاً ثم الجزع ثم الكتفان ثم الدماغ.

وبعد أن خرج هذا كله رفع صاحبه وجهه إلي فإذا هو الشاب الذي غاب وانقطعت أخباره

ص: 4

عني فصحت به: (حامد! ماذا جاء بك إلى هنا؟)

وكان الواجب أن ينهض وينفض التراب ويشرح لي الأمر ويفسر لي كيف دس نفسه تحت سريري، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا كله بل بقي قائماً على ركبتيه وراحتيه فضحكت وقلت له:(أظن أن على أنفك شيئاً من التراب)

فقال: (صحيح؟) وشرع يمسحه بكفه.

فقلت وقد سرني المنظر: (وهل تظن أني أكذب عليك في أمر مهم كهذا؟. ولكنك حين مسحت انفك وضعت على وجهك نحو طن من التراب لأن يدك كما لا أحتاج أن أنبهك غير نظيفة)

فاتكأ على كف ورفع كفه الأخرى إلى عينه لينظر وقال: (صحيح)

فقلت: (أظن أن هنا حوض وماء ففي وسعك أن تغتسل وتعود نظيفاً كما كنت. . . وبعد ذلك نستطيع أن نتفاهم).

فغسل وجهه ورأسه وسرح شعره، ونفض التراب عن ثيابه ثم ألتفت إلي وقال:(الحقيقة أن الرقاد تحت السرير حماقة).

فقلت: (هذا يردنا إلى الموضوع، فلماذا كنت راقداً تحتسريري؟؟ وماذا جاء بك إلى هنا على كل حال؟)

فقال: (تحت السرير؟ أنا؟. . . آه)

فقلت: (نعم. تحت السرير. . . . . هذا سرير؟ أليس كذلك؟ اتفقنا أذن! وأنت كنت تحته. . . فماذا كنت تصنع تحته. . . أعني تحت هذا السرير؟ سريري أنا. .؟)

فقال: (أهي غرفتك؟)

قلت: (ليس أسمي مكتوب عليها لا بأحرف من نور ولا بالطباشير ولا بالدهان، ولكن أظن صاحب الفندق يشهد بأنها غرفتي إذا شئت أن تسأله. . . . على كل حال يمكنك أن تصدقني وتكتفي بما أقول)

فقال: (طبعاً. . . طبعاً. . . لا شك. . . لا شك)

فراقني هذا جداً، وأدركني العطف على هذا الشاب الذي قذفت به نصيحتي في عباب حياة لا قبل له به، وقلت (الآن نعود - إذا سمحت - إلى السؤال) فقال: (لقد كنت أظنها خالية.

ص: 5

وخطر لي أن خير ما أفعل هو أن أرقد تحت السرير)

فقلت: (الأمزجة تختلف، ولكن ألا تقول لي لماذا رأيت هذا خير ما يمكن أن تصنع؟ أو فلنبدأ من البداية. . . . ماذا جاء بك إلى الإسكندرية؟)

قال: (هذه قصة طويلة. . .)

قلت: (إني رجل واسع الصدر. . ومع ذلك، في وسعك أن تحذف قصة ميلادك وطفولتك، وأن تقفز إلى ما بعد اليوم الذي زرتني فيه)

قال: (لقد عملت بنصيحتك)

قلت: (ظاهر. . . . ولكني - على قدر ما أذكر، فأن ذاكرتي ضعيفة كما تعلم أو لا تعلم، - لم أوصك بالتسلل إلى الغرف التي تظنها خالية وأن كانت فيها حقيبة كبيرة وثياب معلقة، ولا بالنوم تحت أسرة الناس)

قال: (لا لا لا. لست أعني هذا. إني آسف لإزعاجك)

قلت: (استغفر الله. . . بل آنستني. . . البيت بيتك. . . أعني الفندق. . نعم؟)

قال: (خطر لي أن اهرب من مصر)

قلت: (هل ارتكبت جريمة؟)

قال: (لا لا. . . أعوذ بالله! إنما أعني أن الناس يعرفونني في مصر وقد اخجل أن يروني أزاول عملاً غير لائق. . .)

قلت: (صحيح. . . مصر صغيرة جداً. . . ليس فيها إلا مليون وربع مليون من الناس. . . ومثلك لا يمكن إلا أن يبرز جداً في مثل هذا العدد الضئيل. . . . معك حق. . . والى أين ذهبت؟)

قال: (جئت إلى الإسكندرية. . . لا يعرفني فيها أحد. . . وبدأت بأن صرت أبيع أوراق (اليانصيب) ولكن الناس كانوا يستريبون بي لأني ألبس بذلة، ويشترون من الصعيدي لابس الجلابية. . . لا أدري لماذا؟ فتركت هذا وعملت خادماً في مطعم. . . لم أبقى فيه سوى أسبوع واحد. . . الحقيقة أني لا أدري كيف يستطيع أن يحمل المرء كل هذه الصحون والملاعق ولا يكسر منها شيئاً. . .)

قلت: (هل كسرت الصحون، وحطمت الأواني؟)

ص: 6

قال: (لم أكسرها، إنما كانت هي تسقط مني)

قلت: (هذه مسألة دقيقة جداً. فلنقف عندها قليلاً. . . أنها تذكرني بابني. . . كان معي يوم زرتني، فلا شك أنك تعرفه)

فقال وقد أضاء السرور والإعجاب وجهه: (أكان هذا أبنك؟)

قلت: (لا يزال أبني على الرغم من كل شيء)

قال: (ما شاء الله. . .)

قلت: (أشكرك. . . وأعود فأقول إن بائع تين مر ببيتنا يوماً فوزن لنا أقة، فأخذها منه الصبي - اعني أبني فقد كان صبياً صغيراً كما لا بد أن تعرف - واكل منها تينات في طريقه ألينا. . . بلعها بلا مضغ على ما أظن، فقد كانت المسافة أقصر من أن تسمح بالأكل الصحيح - أعني الصحي. . . المضغ اثنتين وثلاثين مرة إلى آخره - فلم يعجبنا التين فأعدناه إلى صاحبه، ولا أدري كيف عرف، ولكنه تبين أن التين أنقص مما كان، فسألنا الغلام، فقال أنه لم يأخذ شيئاً، ولكن التين كان يثب من الطبق إلى فمه. . . فهذا من ذاك يا صاحبي! ثم ماذا أيضاً بعد أن طردت من المطعم. . . لا بد أن تكون طردت. . . أم تراك قدمت استقالة مسببة ذكرت فيها أنك لا تستطيع أن تعمل مع هذه الصحون والأطباق اللعينة التي تأبى إلا أن تعاكسك وتحاورك وتغافلك وتسقط من يدك؟)

فتمتم قليلاً ثم قال إنه أشتغل بائع للبن الزبادي - اليغورت كما يسمى في أحياء الرمل - فضحكت وقلت: (لابد أن تكون قد عانيت من سلاطين اللبن مثل ما عانيت من صحون المطعم. . . الطبيعة واحدة، ولست أحتاج منك إلى بيان ما حدث، فأني أعرف روح هذه المادة التي تصنع من الصحون والسلاطين)

فقال بلهجة الجد المضحك: (الحقيقة أنه أمر غريب. . لقد كان يخيل إلي أن شيئاً فوق رأسي يحرك الطبلية ويميلها فتتسابق السلاطين إلى الأرض)

قلت: (معقول. . . . معقول. . . . شيطنة معهودة من كل ما يصنع من هذه المادة المكهربة)

ولا أطيل، فما أردت من إثبات هذا الحوار إلا أن يرى القارئ مبلغ سذاجة هذا الشاب وبراءة نفسه وطيب خيمها، وقد علمت منه انه يشتغل، خادماً أو (ساعياً) عند قصاب، وأنه

ص: 7

جاء إلى الفندق - كما يفعل اليوم - بمقدار اللحم المطلوب فوضعه قرب باب المطبخ قبل أن يسلمه إلى رجال الفندق، ووقف يحادث اللبان، فجاء كلبان ضخمان وأعملا أسنانهما في اللحم، وأقبلت القطط - لا يدري من أين - فاختطفت ما بقي؛ وظهر صاحب الفندق، وذهب صاحبنا يعدو، بلا عقل، فإذا به يرى نفسه بين الغرف، وكان اليوم يوم أحد، وليس عليه بعد ذلك عمل، وقد قبض أجره الأسبوعي، فرأى أن يرتدي بذلته، ليتسنى له بعد أن يسلم الرسالة أن يخرج للرياضة والتنزه من غير أن يحتاج أن يعود إلى غرفته في (المكس).

والتقى في طريقه بين الغرف بأحد النازلين في الفندق خارجاً من غرفته، فخاف ودخل غرفتي فألفاها خالية، فدس نفسه تحت السرير، بلا تفكير، حتى أخرجته. . .

فسألته: (ألا يمكن أن يكون هناك عمل تصلح له، ويصلح لك. . . كالحلاقة مثلاً؟)

فحدق في وجهي مستغرباً وقال (إيه. . أعني. . معذرة. .)

قلت: (لا بأس. . . أردت أن أقول ألا يمكن أن تكون شيخ طريقة مثلاً؟؟، ولكن هذا يحتاج إلى ذكاء وحذق وبراعة وجرأة. . . ولا شك أنك ذكي حاذق، وشجاع وبارع، ولكن الأمر يحتاج إلى ضرب آخر من هذه المزايا، فقل لي. . لا بد أن يكون هناك شيء تتقنه. . . فماذا هو؟ فكر. . . أقدح زناد هذا الفكر. . . أرنا همتك. . .)

فأطرق ملياً ثم قال: (لو كان عندي رأس مال لاقتنيت غيّة. . . ولكن. . .)

فقلت: (هل سمعتك تقول (غيّة)؟)

قال: (نعم. . . غيّة. . .)

قلت: (مفهوم، ولكن ألا يمكن أن تجعلها أسهل. . . . أعني أن تفسرها؟. .) قال: (غيّة. . . ألا تعرفها؟)

قلت: (لا بد أن أكون أعرفها. . . ولكن ينقصني أن أعرف ماذا هي؟ فماذا هي؟) قال: (الغيّة هي. . . هي الغيّة)

قلت: (هذا أحسن. . .)

قال: (تعرف ما أعني. . . الحمام. . . تبني له بيتاً من الخشب فوق السطح، وتعنى به)

ففهمت وسألته (ولكن هل هذا عمل يربح منه الإنسان، أم هو تسلية فقط؟)

ص: 8

قال: (لست أثني على نفسي، ولكني لو وجدت المال اللازم أستطيع أن أستولده. . .)

قلت: (تستولد المال؟)

قال: (لا لا. . . الحمام. . . أربيه وأستولده. . . وأبيع منه. . . عمل رابح جداً) فخطر لي أن لعله صادق، وأن هذا شيء يحسنه فسألته عما يحتاج إليه من المال فقال: أنه ادخر نحو جنيهين، وانه يستطيع أن يقترض من أهله نحو عشرة لكنه ينقصه مثل هذا القدر للبناء وشراء الحمام اللازم، فاقترحت عليه أن نجعلها شركة مساهمة فانطلق يحدثني عن الحمام وطباعه ومزاياه، ويصف لي أنواعه ويذكر لي أسماء لم أسمع بها من قبل، فاطمأن قلبي وأيقنت انه اهتدى إلى ما يحسن، وعدت به إلى القاهرة وجمعت له من أخوان لي ما يكفي (لمشروعه).

ولم أكن أظن أن الحمام تجارة رابح، ولكنه بعد عام واحد استطاع أن يرد ما أقترض من أهله ومنا، وان يخبرني أنه موفق، وانه يعيش عيشة راضية، لا ترف فيها ولا بذخ، ولكنها - على كونها عيشة كفاف - هي التي كان يصبو إليها، لفرط حبه لهذا الطير. . . .

فلا يزال صحيحاً أن المرء ميسر لما خلق له.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 9

‌في الأدب المقارن

النقد في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

ليس النقد إلا ميلاً طبيعياً في الإنسان إلى الحكم على ما يحس وما يرى، واختيار الأحسن من ذلك. ونشاط النقد دليل على نشاط الفكر، وهو مصاحب لارتقاء الأدب وانتشار الثقافة في كل أمة؛ بل هو ضروري لتقدم الأدب: يقفه على مواضع إحسانه ويظهره على مواقع تقصيره، ويجلو أمامه غاياته وطرائقه، ويستحثه على دوام الترقي والتزيد. فالأدب صدى الحياة، والنقد صدى لذلك الصدى، يُظهر للأدباء والمتأدبين مدى نجاح الأدب في تأدية رسالة الحياة ومواقع أعمالهم في النفوس.

فالناقذ النزيه خير صديق للأديب: يضع إصبعه على عيوبه فيتلافاها، ويستحسن إجاداته فيزيده ثقة بنفسه وإقبالا على ممارسة أدبه. ولعل أروع أمثلة ذلك ما كان ملازمة كولردج لوردزورث: فقد وجد الأخير في صاحبه - حين أعراض الجمهور عنه وغمْط الجميع حقه - خير عارف بقدره معجب بأدبه، وكان لإعجاب كولردج وتشجيعه أبعد المدى في أدب وردزورث، وكان الشعر الذي كتبه في عهد صداقتهما خير ما كتبه على الإطلاق.

بيد أن الأحقاد الشخصية سريعة إلى نفوس الأدباء والنقاد، والأهواء السياسية والمذهبية كثيرة الوغول على الأدب والنقد. وقد شهد الأدبان العربي والإنجليزي ما لا يحصى من أمثلة النقد المغرض، وقاسى الأدباء حملات الخصوم الشخصيين أو السياسيين باسم الفن والنقد. ومن أمثلة ذلك في العربية حملة الصاحب على المتنبي وأشلاؤه عليه أذنابه. وفي الإنجليزية عانى أعلام الأدب أمثال وردزورث وتنيسون وكيتس حملات الرجعيين والحاسدين، وبلغ الكمد من الأخير حين هاجمهبعض ناقديه فأقذع أن مات محتضراً في عنفوانه.

وقد كتب الكتاب في العربية والإنجليزية وغيرهما من اللغات في النقد كثيراً، وحاول كل من عالجه أن يستخلص من شتى الشواهد المنتزعة من آثار فحول الأدب قواعد عامة للأدب توضح غثه من سمينه وتعين القارئ والناقد على استحسان الحسن واستهجان الهجين مما يكتب الكاتبون، ولكن النقاد لم يتفقوا بعد جهودهم تلك على شيء ذي بال، بل

ص: 10

ناقض بعضهم بعضاً، واستجاد هذا ما استرذل ذاك، وظل المرجع الأول في نقد الأثر الأدبي إلى ذوق النقد وتكوينه الفكري، وظل كل أثر أدبي من شعر أو نثر يحمل في طياته المبادئ التي يجب أن ينقد على حسبها، بل رأى وردزورث - وأصاب - أن الناقد الذي يُقبل على نقد أثر أدبي، وقد كون لنفسه مبادئ ثابتة غير أهل للحكم على ذلك الأثر أو غيره.

وللنقد صور شتى: فالأديب هو أول ناقد لأدبه، وإنشاء الأثر الأدبي عملية مكونة من الخلق والنقد معاً؛ ومن الأدباء من يعرض ما ينشئ على رفاقه، ويستمع إلى ملاحظاتهم عليه؛ وكان ذلك معروفاً بين العرب قبل أن تذيع الكتابة، كما كانوا يعرضون أشعارهم على النقاد في الأسواق الأدبية، ولتمكن الملكة البيانية من العرب كان كثير من أمرائهم نقادة حفصاء للأدب. ويروى لعبد الملك والحجاج وسيف الدولة مع مداحهم: كثير وليلى الأخيلية والمتنبي نوادر في ذلك، فكثيراً ما كان الأمير أبصر بالأدب ونقده من مادحه؛ فلما ذاعت الكتابة وانتشرت الثقافة ظهرت كتب النقد.

وكتب النقد أنواع: فمنها ما يدرس مبادئ الأدب وغاياته ووسائله ويدخل في هذا الباب كتب البيان والبلاغة والعروض والقافية، وهي كل ما يمكن أن يتفق عليه النقاد من مسائل النقد. ويشترك الأدبان العربي والإنجليزي في وفرة هذا الضرب من كتب النقد الأدبي فيهما؛ ومن كتب النقد ما يدرس أديباً واحداً أو جملة أدباء على منهج خاص من الدراسة، كالكتب الكثيرة المؤلفة في دراسة شكسبير وملتون ووردزورث وتنيسون وهاردي؛ ومنها ما يدرس نوعاً خاصاً من الأدب كالقصة أو الشعر الغنائي، ومن ذلك كتاب أبن كرومي عن الملحمة؛ ومنها ما يدرس عصراً يوضح عوامل الأدب ومظاهره فيه وآثار فحوله، كالعصر الاليزابيثي والعصر الفيكتوري؛ ومنها ما يدرس من عصور أدب اللغة جملة: وتلك هي كتب تأريخ الأدب، وليست في صميمها إلا نقداً، وهي حديثة العهد.

وكل هذه الأنواع نادرة في الأدب العربي وبعضها لا يوجد به، وإنما الضرب السائد فيه هو ذاك الذي توخاه مؤلفو البيان التبيين والكامل ويتيمة الدهر: من تناول الأدباء بغير نظام وسرد بعض آثارهم والتعليق المقتضب عليها؛ وتلك هي كتب الأدب التي لم يكن الغرض منها درس أولئك الأدباء والإماطة عن جوانب نفسياتهم وأسرار نبوغهم، بل كان الغرض

ص: 11

اقتطاف أطايب آثار المتقدمين وتقديمها للمتأدبين السالكين سبيل الأدب الطالبين أسرار بلاغة العرب، فلم تكن الغاية درس الأديب المتقدم، بل إخراج الأديب المقبل.

وقد استفاد النقد في الإنكليزية كثيراً بتقدم العلوم الحديثة حتى فاق النقد العربي في نواحي شتى: فتقدُّم علم التأريخ علّم النقاد أن يهتموا بحالة العصر الذي يدرسون من حيث السياسة والاقتصاد والمذاهب السائدة؛ وتقدُّم علوم الاجتماع علمهم أن يهتموا بالبيئة التي نشأ فيها الأديب الذي يدرسون والصفات التي ورثها عن أسرته، ومزاجه النفسي وتكوينه الجسمي، وأثر كل ذلك في أدبه، فجاء النقد الإنجليزي الحديث واضح المناهج بين الأسباب والنتائج، وأبرزَ للعصور والأعلام صوراً جلية وشخصيات متميزة.

أما نقاد العرب فكانوا أكثر اهتماماً بدرس فنون الأدب وأساليب الصناعة منهم بدرس الأشخاص والعصور؛ وقد أسهبوا في درس الفنون التي فشت في أدبهم واستأثرت بمعظم نثرهم وشعرهم: كرسائل الأمراء والنسيب الاستهلالي والمدح والهجاء والرثاء، وهي المناحي التي لم تظفر من أدباء الإنجليزية ونقادها بالتفات، فقسَّم قدامة بن جعفر مثلاً الممدوحين إلى ضروب: فملوك ووزراء وكتاب وقواد وسوقة، وحصر صفات المدح في أربع: الشجاعة والعدل والعقل والعفة، يجمعها قول زهير:

أخي ثقة لا تُهلك الخمر مالَه

ولكنه قد يهلك المال نائله

فمن مثل حصن في الحروب ومثله

لإنكار ضيم أو الخصم يجادله

والناظر في كتب النقد في الأدبين العربي والإنجليزي، يرى - عدا ما تقدم - فروقاً واضحة بين نقدي الأمتين كالفروق التي يرى بين أدبيهما، بل يرى مواضع الاختلاف واحدة في الحالتين؛ ولا غرو فالنقد كما تقدم صدى الأدب، بل إن النقد والأدب يتجاوبان فيما بينهما صدى مستمراً طوال العصور؛ والخصائص التي تغلِب على أحدهما لا بد أن تغلب على الآخر، ومن ثم نجد بين النقد في العربية والنقد في الإنجليزية ما تجد بين أدبي اللغتين من فروق في نواحي المحافظة والتجديد، والتأثر بالأثر الأجنبي، والمعنى واللفظ، والفنون وهلم جرا.

فنزعة المحافظة هي الغالبة على نقاد العربية، وقل منهم من دعا إلى تجديد صحيح، وذلك أبن الأثير مثلاً يزعم أنه مجدد بذ الأوائل ثم يأتي بأمثلة من تجديده فإذا هي محافظة مغرقة

ص: 12

وتقليد مفرط؛ وأغلب نقاد العربية يقدسون المتقدمين دون تأمل، ولا يرون عن مناهجهم حولاً ويضعونهم فوق متناول النقد. وذلك أبو علي الحاتمي يحسبه أتى بجديد حين مثل القصيدة بالإنسان في تناسب خلقه، فلا ينشب أن يقول:(وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة)، فهو لا يتصور القصيدة إلا نسيباً ومديحاً كما فعل الأوائل.

وتتجلى نزعة المحافظة في النقد العربي في أمرين: غرضه، وممارسيه، وهما أمران متصلان أحدهما بالآخر، فقد كان غرض كتب الأدب والنقد في العربية كما تقدم وقف الناشئ المتأدب على بلاغة المتقدمين، وتفهيمه أسرار إعجاز القرآن، لينحو منحى أولئك المتقدمين ويضرب على وتيرتهم، فكان غرض النقد الأول تعليم المتأخرين كيف يقلدون الأولين.

ولم يمارس النقد فحول الكتاب والشعراء، ولم يؤثر عن فحول العربية مما يدرج تحت عنوان النقد إلا شذرات مقتضبة بعيدة عن التنظيم، كوصية عبد الحميد لمعشر الكتاب ونصيحة أبي تمام للبحتري؛ وربما ثار بعض الشعراء بما درج عليه زملائهم من تقاليد، كثورة أبي نواس بالوقوف على الديار في مثل قوله:

لا جفَّ دمع الذي يبكي على حجر

ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد

وتمرُّد المتنبي على النسيب الاستهلالي في قوله:

إذا كان شعرٌ فالنسيب المقدَّمُ

أكلُّ أديبٍ قال شعراً متيم؟

ولكنها كانت خطرات عابرة لم تُكوِّن مذهباً ولم تغير سنة، بل لم يتبعها قائلوها أنفسهم وجاروا التقاليد الجارفة فيما نظموه، وإنما مارس النقد في العربية المقلون في النثر والشعر كالجرجاني وأبي هلال العسكري، أو من يؤثر عنهم شيء، وهكذا كان الأدباء فريقاً والنقاد فريقاً آخر.

أما في الإنجليزية فاختلط الفريقان، وكان أفذاذ الأدب عادة هم أفذاذ النقد أيضاً، وكان زعيم كل نهضة أدبية هو أيضاً زعيم النقد فيها: فكل من بن جونسون ودريدون وبوب وصمويل جونسون ووردزورث وكولردج وديكونسي وماكولي وماثيو أرنولد ورسكن، كان كاتباً أو شاعراً كما كان ناقداً، وذاك لعمر الحق ودليل حيوية الأدب وروح التجديد فيه: فلن يكون

ص: 13

الأديب أديباً حتى يكون له رأي في الأدب والحياة تنضح عنه في كتاباته النقدية، كما يصدر عنه في آثاره الأدبية، وكلُّ من دريدن وبوب ووردزورث قد استجد مدرسة في الأدب لا بأشعاره فقط، بل بنظرياته في النقد. فبينما كان غرض النقد في العربية المحافظة على مناهج المتقدمين، وكان في الإنجليزية ابتداء حركات جديدة.

ولا ريب أن الأدباء الذين يمارسون النظم والنثر هم أدرى الناس بنقدهما، لأنه لا يعرف الشوق إلا من يكابده؛ والأديب الذي يعلن للناس نظرياته النقدية مشفوعة بآثاره الأدبية أمثلةً مؤُيِّدةً لتلك النظريات، كما فعل وردزورث في أغانيه الشعبية ومقدمته النثرية لها، أحرى أن يُتَّبَعَ من الناقد الذي لا يمارس الأدب، وإنما يملي على الأدباء آراءه وهو بنجوة عن محيطهم، فمن أعجب ظواهر الأدب العربي تنحي فحوله عن مضمار النقد، وتركهم مجاله لعباد القديم ومقدسي السلف.

ولتقديس النقاد للقديم وقفوا موقفاً متناقضاً: فكانوا ينكرون على الأديب أن يحيد عن مناهج القدماء، ثم ينكرون عليه أن يتداول معانيهم التي سبقوه إليها، وصرفوا جانباً عظيما من اهتمامهم إلى تتبع سرقات الشعراء، فكتاب الوساطة للجرجاني أغلبه جهد ضائع في تقصي المعاني إلى مواطنها الأولى في أشعار الأجيال السالفة، وتمزيق القصائد بيتاً بيتاً؛ والحكم على الشعراء بالاختلاس لأوهى الشبهات اللفظية.

وكان نقاد العربية أكثر التفاتاً إلى الألفاظ منهم إلى المعاني، وعد أكثرهم إحكام اللفظ ميزة الأديب الفحل، وعدوا المعاني مشاعاً بين الجميع، قال أبو هلال العسكري:(وليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه)، وقال أبن الأثير (ولقد رأيت كثيراً من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع، وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف، ويظهر من خاطره المعنى الدقيق، ولكنه لا يحسن أن يزوِّج بين لفظتين؛ فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول، وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني).

ولهذا صرف أكثر النقاد همهم إلى خصائص الألفاظ وضروب الأساليب، وأسهبوا القول فيما سموه علم البديع، واستقصوا أقسام الجناس والطباق والسجع، وطُرُق تضمين الآيات وحَلِّ الأشعار؛ ووجود علم البديع في العربية دون الإنجليزية برهان ناطق على شديد

ص: 14

اهتمام نقاد العرب باللفظ؛ وكان للناقد والأدباء معاً إيمان وطيد بمقدرة اللغة على أداء أي معنى، وثقة لا تتزعزع في تفوق اللغة العربية في الفصاحة على غيرها من اللغات، وكانوا يرون ذلك ميزة العرب على غيرهم من الأمم التي بذتهم في شتى العلوم.

أما موقف جمهور الأدباء الإنجليز من اللغة فكان غير هذا: فهم وإن لم يغفلوا أهمية الصياغة اللفظية وضرورة تمكن الأديب من اللغة ووقوفه على أسرارها، ظلوا يعدون اللغة وسيلة لا غاية، وسيلة للتعبير عن خوالج النفس، بل عدَّها كثير منهم وسيلة ناقصة عاجزة عن التأدية إلى تلك الغاية، يجب على الأديب أن يستفرغ جهده ليجعلها تؤدي غرضه؛ فلم يهتم أدباء الإنجليزية ونقادها برنين الألفاظ الأجوف وزخرفها المموه، بل استعانوا بمعانيها المصطلح عليها، وجرس حروفها ودقة اختيارها والملاءمة بينها، واشتقاقها وخلقها حيث لا توجد لتأدية الحالة النفسية المتخيلة على ما يجب، وتصوير الجو العاطفي أو المنظر المرئي: من رهبة أو جذل أو سكون أو سرعة، ويفاضل النقاد الإنجليز بين الأدباء حسب مقدرتهم على استخدام اللغة هذا الاستخدام وتطويعها لأغراضهم على هذا النحو، لا حسب حظوظهم من المحسنات البديعة، ويقولون إن الفرق بين لغة العلم ولغة الأدب أن الأولى تعتمد على المعنى المجرد للفظ، والثانية على ما توحيه الألفاظ من أجواء معنوية.

ولما كان إيمان العرب بتفوقهم البياني كما تقدم، لم يهتموا بالآداب الأجنبية أو النقد الأجنبي كثيراً، فهم واضعو علوم البلاغة في لغتهم، وهم نهجوا بكتب الأدب والنقد نهجهم الخاص بهم، وجدهم في هذا السبيل جسيم جليل؛ أما الإنجليز فجعلوا النقد الأدبي الأجنبي دائماً نصب أعينهم، قديماً كان أو حديثاً، فما كتبته أرسطو ومما نظمه هوراس في النقد نشأ النقد الدبي في الإنجليزية، وغُذِّى بعد ذلك بكتابات دانتي وبوالو ولسنج وجيته وسنت بيف وتين؛ فالناقد الإنجليزي يستعرض آراء هؤلاء أثناء استعراض آراء مواطنيه بلا تفريق ولا ريب أن اشتمال النقد الإنجليزي على آراء أمثال أولئك ربح للأدب لا يقدر: فاطلاع الأدباء والنقاد على خير ما تنتجه القرائح في العالم أجمع يوسع آفاق تفكيرهم ويفسح حدود أدبهم، ويربأ بالأدب أن تثقله القيود وتفسده التقاليد، ومن ثم قال ماثيو أرنولد بضرورة إتقان الناقد في أدب ما أدباً أجنبياً واحداً على الأقل، تزداد فائدته له كلما ازداد التباين بينه وبين أدب الناقد الأصلي.

ص: 15

فاكثر النقاد الإنجليز كانوا كما تقدم من أعلام النظم والنثر، وكانوا مطلعين على الآداب الأجنبية، وما كُتب فيها في النقد، ثم هم كانوا - ولا سيما متأخروهم - مهتمين بالفنون الأخرى بجانب الأدب، واقفين على ما كتب في نقدها، بل كان منهم من جَمعَ بين نقدها والنقد الأدبي: فدريدن واضع أساس النثر الإنجليزي الحديث كتب رسالته في (الموازنة بين الشعر والتصوير) وكذلك جمع لام وثكري وركسن بين نقد الأدب ونقد التصوير أو النحت؛ ولا ريب أن تفقه الناقد في تلك الفنون أكبر معوان له على حسن النظر في الأدب وصدق النقد له، لتشابه الفنون في وسائلها وغاياتها.

فالناقد الإنجليزي كان اكثر أهلية للنقد وقدرة على النجاح فيه: لأنه كان يمارس الأدب بنفسه نظماً ونثراً فهو أدرى بدخائله ولأنه مطلع على الأدب الأجنبي، فهو أدرى بمحاسن أدبه ومثالبه، ولأنه متبصر في الفنون فهو أعلم بمناحي فنه الخاص - الأدب - ومن ثم حفل الأدب الإنجليزي بالدراسات القوية لعصور الأدب وفحوله وفنونه، وجاء تاريخه أوضح منهاجاً وأبين معالم من تأريخ الأدب العربي.

فخري أبو السعود

ص: 16

‌صور سياحة

أيام في سويسرا

بقلم سائح متجول

غادرنا باريس في منتصف الليل قاصدين إلى سويسرا؛ وإذا كنا قد هبطنا باريس فرحين مغتبطين بزيارتها والتمتع برؤية معالمها ومعاهدها التاريخية، فقد غادرناها أيضاً دون أسف، بعد أن تركت في نفوسنا صوراً أخرى غير تلك الصور الخلابة التي ألفناها في كتب الأدب وفي المقالات والفصول الرنانة؛ وسار بنا القطار ينهب الأرض ليلاً متجهاً نحو الالزاس، فلما أسفر الصبح كنا نخترق أراضي الالزاس مارين بتلك المواقع الشهيرة في تأريخ الحرب والسياسة مثل بلفور وميلهوز وغيرهما؛ وقد لاحظنا مذ بدأنا نجوز الالزاس أننا نكاد نخترق أرضاً غير فرنسية، فالناس يتحدثون بالألمانية المحرفة (أو الألزاسية) في كل مكان حتى موظفي القطار يخاطبون الركاب بالألمانية، وكل ما هنالك من طبيعة ومناظر وأشخاص يكاد ينطق بأن الالزاس ليست فرنسية في طابعها وفي روحها، وإن كانت السياسة ومصاير الحرب قضت بأن ترد الالزاس واللورين إلى فرنسا عقب انتصارها في الحرب الكبرى.

ووصلنا إلى الحدود السويسرية في الصباح الباكر، ودخلنا محطة بازل (أوبال) حيث أجريت الإجراءات الجمركية في أدب وظرف؛ وشعرنا في اللحظات القليلة التي مرت حتى وصولنا إلى الفندق أننا نجوز إلى محيط آخر أرقى خلالاً ومدنية من محيط فرنسا والشعوب اللاتينية كلها؛ وإنك لتأنس نفس الشعور عندما تخترق الحدود الإيطالية مثلاً إلى النمسا، فتشعر في الحال أنك غادرت في إيطاليا محيطاً أقل مدنية وخلالاً وسويسرا موطن السياحة بحق، والسياحة أهم مواردها القومية، ولهذا تعني ولايات الاتحاد السويسري ومدنه المختلفة بتنظيم شؤون السياحة أحسن تنظيم وتذيع عن سويسرا ومصايفها ومشاتيها ومناظرها ونزهها نشرات بديعة جذابة، وتعني بتنظيم كل ما يتعلق براحة السياح ورفاهتهم مثل الفنادق والمطاعم وطرق المواصلات والألعاب والنزه ولاسيما النزه واللعاب الشتوية الجبلية والثلجية التي اشتهرت بها سويسرا؛ والفنادق السويسرية حسبما رأيناها في بازل وتسيريخ (زيوريخ) فنادق من الطراز الأول من حيث النظام والنظافة وما يتجلى فيها من

ص: 17

الأناقة وحسن التنسيق، وكذلك المطاعم والمقاهي يبدو عليها طابع الأناقة والبهجة والذوق الحسن؛ ونستطيع أن نقول إن مدينة صغيرة مثل بازل أو تسيريخ تتمتع بمجموعة من الفنادق والمطاعم الأنيقة لا توجد في مدينة عظيمة كباريس، التي ما زالت فنادقها متأخرة من حيث الفخامة والتنسيق والرفاهة نحو نصف قرن عن فنادق العواصم الأخرى.

غير انه لا بد أن نقولهنا أن السائح يدفع لهذه الأناقة والرفاهة في سويسرا ثمناً غالياً، ذلك أن موجة من الغلاء المرهق تعم سويسرا؛ وقد كانت سويسرا وقت زيارتنا لها في أغسطس من أشد الدول تمسكاً بقاعدة الذهب، وقد كان الجنيه الإنكليزي يساوي 15 فرنكا سويسرياً فقط؛ ولم يمض علينا في بازل يوم واحد حتى أدركنا فداحة هذا الغلاء الذي ينغص على السائح كل شيء خصوصاً إذا كان يحمل نقداً خارجا عن عيار الذهب كالجنيه الإنكليزي أو المصري؛ فالسائح المتوسط لا يستطيع أن يعيش في سويسرا عيشة لائقة مريحة بأقل من 25 إلى 30 فرنكا في اليوم (160 إلى 200 قرش)، واليك بعض الأمثلة العملية؛ فأجرة الغرفة في فندق متوسط تساوي من 6 إلى 8 فرنكات يومياً (والفرنك ستة قروش ونصف) وأجرة الحمام فرنك ونصف ووجبة الطعام في مطعم لائق تساوي 3 - 4 فرنكات، والقهوة أو قدح البيرة يساوي فرنكا، وهكذا؛ وأذكر أنني دفعت حين وصولي إلى محطة بازل نحو ثلاثة فرنكات (عشرين قرشاً) أجرة لحمل حقيبتيّ من المحطة إلى الفندق الذي لا يبعد عنها أكثر من مائة متر ودفعت مثلها حين سفري من بازل، ووقع مثل ذلك كرة أخرى حين وصولي إلى تسريخ وسفري منها؛ وهذا من أشنع ما لقيت من صور الغلاء، وتقضي تعريفه الحمالين الرسمية بأن يدفع المسافر نصف فرنك (خمسين سنتاً) عن كل قطعة، وأن يضاعف هذا الأجر ما بين الساعة العاشرة مساء والساعة السادسة صباحاً، ولا يتعدى عمال المحطة باب الخروج حيث تقف عربات التاكسي، وعندئذ يتسلمك حمال الفندق أو تركب التاكسي، وكذلك لا يسمح لحمال الفندق أن يتعدى باب المحطة؛ ومن ذكريات هذا الغلاء الشنيع أيضاً أنني دفعت فرنكين ونصف (17 قرشاً) أجرة لقص الشعر! وهكذا قضينا بضعة أيام نكتوي في بازل وفي تسيربخ بنار هذا الغلاء الشنيع الذي لا يكاد يلطف من وقعه شيء.

ولقد اشتهرت سويسرا بأنها بلد السياحة، وقد حبتها الطبيعة فعلاً وحبت مجتمعاتها بكل ما

ص: 18

يجذب السائح؛ ولكن الظاهر أن سويسرا تعول قبل كل شيء على السياحة الغالية أو السياحة المترفة؛ ولما كانت السياحة مورداً قومياً أساسياً في سويسرا، فالظاهر أنها تعمل كل ما وسعت لاستغلاله في جميع نواحيه. وحالة الرخاء المستمر التي تتمتع بها سويسرا تساعد في ارتفاع معيار العيش، وتحمل الشعب السويسري على طلب المزيد من ثمار هذا الاستغلال؛ ولكن الظاهر أن سويسرا شعرت أخيراً كما شعرت فرنسا أن هذا المورد قد أصابه النقص وأن دولاً أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا والمجر قد أخذت تجذب أنظار السياح وتستغل مورد السياحة بما قدمته من تسهيلات في النقد والسكك الحديد، وأن الخروج عن معيار الذهب في مسالة النقد وسيلة لاستدراك هذا النقص. وقد خرجت سويسرا فعلاً كما خرجت فرنسا عن معيار الذهب، وخفضت قيمة الفرنك السويسري نحو 30 ? بحيث أصبح الجنيه الإنكليزي يعادل 21 فرنكا؛ وربما كان في ذلك تخفيف على السائح وتخفيض معقول في مستوى المعيشة، ولكن ذلك يتوقف دائماً على المحافظة على مستوى الأثمان القائم، فإذا ارتفعت الأثمان تبعاً لنزول النقد، فأن السائح لا يستفيد شيئاً ويبقى الغلاء المرهق حيث هو.

ولنعد الآن إلى بازل؛ فهي مدينة أنيقة سكانها نحو مائة وخمسين ألفا، وتتمتع بموقع بديع على منعطف نهر الراين، والراين يخترق بازل، ولكنه يبدو متواضعاً هادئاً كأنه نهير صغير؛ وفي ظاهر بازل من الغرب تجتمع حدود أمم ثلاثة ترى على قيد البصر سويسرا وألمانيا وفرنسا؛ وفي بازل أقدم الجامعات السويسرية يرجع إنشاؤها إلى نحو خمسمائة عام، وبها مكتبة كبيرة تضم نحو نصف مليون مجلد، وعدة كنائس قديمة أشهرها وأفخمها كنيسة سانت مارتن. وشوارع بازل وطرقها حسنة التخطيط، ومبانيها منسقة متوسطة الارتفاع؛ وأهم ميادينها ميدان المحطة ' وعليه يشرف معظم الفنادق الكبيرة، ومنه يتفرع بحذاء المحطة أهم شوارعها، وهو (الشارع الحر) وهو الممتد في وسطها حتى النهر؛ ولبازل ضواح بديعة يمتد إليها خط ترام خاص من المدينة، يمر خلال مجموعة ساحرة من الوديان النضرة والقرى النظيفة الساحرة؛ ولقد ذهبنا ذات صباح نجوس خلال هذه المناظر الممتعة، وقصدنا إلى قرية دورناخ حيث يقوم معهد (الجتيانوم) فوق أكمة عالية تصل إليها من طرق صاعدة تقوم على ضفافها المنازل والحدائق الأنيقة؛ ولما وصلنا إلى

ص: 19

(الجتيانوم) بعد رياضة مجهدة ألفينا بناء ضخما أبلق، قد بني على الطراز الإغريقي والقوطي؛ فجزنا إلى داخل المعهد وقابلنا سكرتيره ووقفنا منه على تأريخ المعهد ونظمه وغاياته؛ وخلاصة ما علمناه أن (الجتيانوم) أو (معهد جيته) معهد دولي للعلوم العقلية، سعى إلى تأسيسه الدكتور رودلف شتينر العلامة النمساوي في عام 1923، وبني على طراز الملاعب اليونانية القديمة؛ وأريد به أن يكون معهداً دولياً حراً لترقية العلوم العقلية يجري على مبدأ الثقافة الحرة المطلقة من كل قيد؛ وأنشئت فيه أقسام للتربية والفنون الموسيقية والطب والعلوم والفلسفة. وفي الصيف تلقى في المعهد دروس ومحاضرات دورية من أشهر الأساتذة في مختلف العلوم والفنون فيقبل على سماعها جمهور كبير من الزائرين، ومعظمهم من الإنكليز والأمريكيين والألمان، وقد شهدنا كثيرين منهم حول المعهد وداخله؛ وهنالك على مقربة من المعهد عدة فنادق منزلية تأوي زوار دورناخ، وإلى جانبه فوق الأكمة العالية مقهى أنيق يقصده الرواد والمتنزهون.

وبعد بازل قصدنا إلى تسيريخ (زيوريخ)، وهي اكبر المدن السويسرية وسكانها نحو ثلاثمائة ألف. وتقع تسيريخ على نهر ليمات أحد أفرع الراين عند مصبه في بحيرة (تسيريخ)، ويخترقها نهر ليتام وقد أنشئت عليه قناطر مدرجة لحبس المياه ودفعها بقوة لتوليد الكهرباء؛ وتقع بحيرة تسيريخ في نهاية المدينة شرقا، وهي من أبدع المناظر البحرية التي يمكن تصورها، وتكثر فيها القوارب البخارية المعدة للنزه القصيرة، وكذلك السفن المعدة للحفلات الراقصة؛ ويمتد أكبر شوارع تسيريخ، وهو شارع ' ما بين المحطة والبحيرة، وهو شارع طويل فخم وبه معظم البنوك والمحلات التجارية وإدارات الصحف الكبرى وقد رأينا منها إدارة (جريدة تسيريخ الجديدة) وفي تسيريخ أيضاً جامعة، ومتحف تاريخي كبير، والمدينة على وجه العموم كثيرة النظافة والأناقة تفيض حركة وحياة، غير أننا عانينا بها نفس الغلاء المرهق الذي أشرنا إليه. وقد رأينا في الأيام القليلة التي قضينا في هذه الربوع السويسرية الجميلة من خواص المجتمع السويسري كل ما يحمل على التقدير والإعجاب، فسويسرا الألمانية بلا ريب من أرقى بقع أوروبا وأعظمها حضارة، والشعب السويسري (الألماني) من أذكى الشعوب الأوربية، وأرفعها ثقافة وخلاقاً؛ فحيثما سرت رأيت أرقى مظاهر النظافة والصحة والعافية، وألفيت الشباب

ص: 20

النضر يتدفق حياة وبهجة؛ وتمتاز الفتاة السويسرية برشاقتها ومظهرها الرياضي ولونها النضر، وجمالها الطبيعي الذي لا تكلف فيه ولا صناعة؛ وفي جميع طبقات المجتمع تسود الرقة والأدب الجم وحسن المعاملة والأمانة؛ ويلقى الغريب كل معاونة وتقدير واحترام؛ واللغة الألمانية هي اللغة السائدة في هذه المنطقة من سويسرا، وهم يتحدثونها بظرف ورشاقة، ولكنك تستطيع التفاهم أيضاً بالإنكليزية والفرنسية والإيطالية في معظم الأحوال

ولقد أنستنا هذه الأيام القليلة الممتعة، وما لقيناه خلالها من شمائل هذا الشعب الرفيع الدمث، ومظاهر حياته وذكائه ونشاطه التي تحمل على الإعجاب، ما لقيناه من متاعب الغلاء المرهق الذي يرجع بالأخص إلى تفاوت سعر النقد، وأنستنا بالأخص كثيرا مما لقيناه في فرنسا وباريس من مظاهر التكلف والخشونة والرياء والجشع، وكل ما هنالك من مظاهر حضارة تؤذن بالانحلال.

ص: 21

‌إلى من يسمع!.

. .

مقصورة: غلالة:

للأستاذ كرم ملحم كرم

عقدنا الأمل الأكبر على المجمع اللغوي المنعقد في مصر، وتوسمنا فيه حافزاً للخروج باللغة العربية عن جمودها وهي البعيدة عن روح العصر، الضيقة المسالكبمستنبطات العلم الحديث، والفسيحة الفجاج بما لنهضة اليوم غُنية عنه. فكان من المجمع الكريم أن خيبنا خيبة فاضحة. فما جاد علينا رجاله الميامين - دفع الله عنهم الخيبة!. . . - بكلمة واحدة من الكلمات التي خلقوها أو اشتقوها يجوز الركون إليها. فأتحفونا بالوحشيّ الغريب النافر منه حتى ابن البادية الجاثم بين كثبانه ونخيله، ورمونا بمئات (المستشزرات) ونحن نضيق بواحدة منها.

ألا عفا الله عن الأرزيز والجماز وأخواتهما. فمن يحفظها ويجهد قلمه في إثباتها والذوق نفسه يمجها. أنعتمدها نكاية بالذوق؟

ليعلم المجمع اللغوي السامي المقام أنه كفر بالرسالة المفوض أمرها إليه، فزلت به القدم في الخطوة الأولى. وإذا أبى إلا الصراحة قلنا أن ثقتنا به ذهبت عنا، خصوصاً والمفروض في إنشاء المجامع العلمية اللغوية رفع اللغة إلى مستوى روح العصر، لا التقهقر بها إلى ما بعد عشرات الأجيال، فيتخاطب بها جيل اليوم كما كان يتخاطب بها الأعراب في البادية.

والأعراب أنفسهم نفروا من كل لفظ غريب، فهل يجوز لمن يفاخر أسلافه بكونه ابتدع الطيارة والموّاج والمذياع أن يتكلم بلغة راعي الشويهة والبعير، وضارب خيام الوبر، ومفترش البلس؟

إنها لأضحوكة. والمجمع اللغوي في مصر وفر لنا هذه الأضحوكة، وربما شاء بها أن ينفي عنا جهامة الأيام السود. فالشكر له كل الشكر. على أنه كان في وسعه أن يثير فينا روح الإعجاب بدل أن يجرنا إلى الضحك في موقف الجد. فما يدعو رجاله إلى التمسك بالكلام العويص ومجالس الشنفري والملك الضليل والهمذاني وصاحبنا الفرزدق وإمامهم زهير والحطيئة وعمر بن أبي ربيعة ولا غضاضة بجرير؟. . . فهؤلاء ما حشوا أشعارهم بما لا يُفهم من وحشي غليظ، بل جاؤونا بكلام يقال اليوم وغداً وسميعه طروب له راض عنه، لا

ص: 22

يحتاج أبداً إلى القاموس كي يدرك ما يقرأ ويقع في أذنيه. فكأنه وهو يصغي إلى هذا النفر من الشعراء في حضرة خطيب من أبناء القرن العشرين!

وعندنا أن السادة أعضاء المجمع اللغوي الزاهر لو استشاروا أذواقهم لوقعوا على غير هذه المتكأكآت المفرنقعات. ولكنهم حرصوا على الشاذ فرموا أنفسهم بكل شذوذ. وما ضرّهم لو نهجوا نهج الأقدمين في إثبات الكلمات الدخيلة الشائعة علىالألسن والأقلام. وإذا أبوا إثباتها كما هي فليدوروا حولها بما لا تبعد بينهم وبينها الآفاق. فان يروا من الحيف أن نقول (تلفون) و (فونوغراف) و (بيجاما) فما عليهم إلا أن يقاربوا بين هذه الكلمات وكلمات عربية مشتقة أو أن يخلقوا كلمات جديدة غير وحشية تدل عليها.

أنا لا أرى اللغة تضيق بكلمة (تلفون) وقد فتحت صدرها لمئات الكلمات الدخيلة من فارسية وعبرية وسريانية ويونانية. فكما أثبتت الإسطرلاب والشمعدان والقنديل والورد والدستور والخردق والمنجنيق وما أشبه، في استطاعتها إثبات (تلفون) لاسيما والكلمة شاعت وباتت ملء الأفواه والأسماع. وإذا طاب لأفراد المجمع المحترمين العدول عنها فهناك كلمتا (هاتف) و (ندى) وكلتاهما أفضل من الأرزيز. وليس للمجمع إلا أن يقر إحداهما لتجري عليها الألسن والأقلام في البلاد العربية جمعاء، وهي ترى في المجمع صاحب الكلمة الفاصلة في الموضوع إن يكن ثمة تقدير للصواب والمألوف.

أجل، لم يثبت المجمع اللغوي المصري وجوده. فكان أشبه بإخوانه المجامع التي قامت في سائر البلاد العربية وحاولت أن تخدم لغتها فسقط في يدها وخفت صوتها؛ وهذا من سوء الحظ. فانه ليؤسفنا أن يجول في الخواطر أن المجمع المصري لا يملك الكفاية في القيام بالواجب المفروض عليه، مع أن رجاله متضلعون من علم اللغة، ولكن ما ينفع العلم إذا ندّ عن الذوق؟. . .

هذه كلمات تجرح - ولا نكير - غير أني أجرؤ على التفوُّه بها فالموقف يقضي بإعلانها، خصوصاً ونحن إزاء حقائق لا تجوز فيها المصانعة ولا المحاباة.

لقد طلبنا من المجمع أن يلجأ إلى قاموس (لاروس) الفرنسي يترجمه إلى اللغة العربية، وكفى الله المؤمنين القتال؛ على أن يترجمه بكلمات غير ثقيلة على السمع ولا مهجورة، فلم ينزل المجمع على هذا الطلب الحق، وكان أن نفحنا بألفاظ مستغربة من مخترعاته يؤلمنا

ص: 23

أن يتوكأ عليها في تشييد مكانته، وهي ألفاظ واهية كالدعامة الوشيكة الانهيار.

ولو أنصفت الحكومة المصرية في اختيار رجال المجمع لنظمت عقدة من فئة مختارة لا من علماء اللغة فحسب؛ بل من أساتذة كل فن. فاللغة مجموعة شاملة لا تقف عند سيبويه ولا عند الكسائي. لا تدين بصلف علماء الكوفة، ولا بعناد أئمة البصرة. فالعصر يدعوها إلى جمع العلوم كافة. ومجمعها اللغوي يجب أن يضم العلماء من أبناء الفنون دون ما استثناء. فيحشد في حلقته المهندسون والاشتراعيون والأطباء والصحفيون والتجار وأرباب الصناعات، ليتفق الجميع على الكلمات المطلوبة لكل فن ومهنة. وهذا ما غاب عن الحكومة المصرية وهي تنشئ صرح المجمع، فشاءت إصلاح اللغة وتهذيبها فكان أن قضت عليها بتقهقر آخر لسنا بحاجة إليه. فالمصيبة الأولى أهون من مصيبة اليوم في (نفثات) المجمع العاطرة.

ولكن المجال لا يزال رحيباً، والمجمع قائم البنيان، ومن السهل التبديل أو الإضافة؛ فيعمد المجمع إلى محو ما رسم، أو إلى خلق ألفاظ جديدة لا تعقد فيها. وبهذه الوسيلة وحدها تتعادل الكفتان، ويثق أبناء اللغة العربية بما يعلن رجال المجمع ويؤيدونه فيما قرّ رأيه عليه؛ وإلا إذا بقيت الحال كما نرى فما على المجمع إلا أن ينسج بيده كفنه، وليس فيما اخترع واشتق كلمة تتداولها الأقلام.

لي على المجمع الكريم اقتراح بسيط، فما َيضرُه لو أقرّ لفظه (مقصورة) لكلمة الفرنجية؟. . . فالكلمة تحوي معنى القصر وفخم لطيف يشبه القصر بعض الشبه. ثم إن كلمة (مقصورة) معناها حجرة، واللغة العربية أجازت تسمية الكل باسم الجزء، عدا أن الكلمة معروفة خفيفة الوقع على السمع، قريبة المتناول، مدعاة إلى التفاخر، غير مهجورة. فمن يقول:(هذه مقصورتي!. . .) كمن يقول: (هذا قصري. . .!) وفي ذلك ما يرضي ذوي المطامع وعشاق الأبهة

ولقد تفضل المجمع فأطلق كلمة (ظظر) على الفرنجية فما معنى (ظظر) أيها المجمع المحترم؟. . . وهب كان لها معنى فمن يتلفظ بها وهي ثقيلة كالرصاص، على حين أن كلمة (مقصورة) لطيفة شائعة، تسرع إلى اقتباسها الألسن والأقلام؟

وهناك كلمة فماذا يحول دون تسميتها بالغلالة، والغلالة شعار يلبس تحت الثوب، فهل ما

ص: 24

يمنع أن تكون الغلالة

اقترح على المجمع إثبات هاتين الكلمتين في قاموسه، وإذا استزادنا زدناه، وإن أبى العمل باقتراحنا طلبنا إلى حملة الأقلام أن يتناولوا اللفظين فيما يكتبوه ويتحدثون به وليس فيهما شائبة

ولا يغضب المجمع أن يتصدى لانتقاده كاتب يغار على لغته ويريد لها النهوض والسير في ميدان العصر الفسيح والخروج من فقرها اللغوي في عهد المنطاد والسيارة والصاروخ. فهي لا تزال تعيش بذهن عتيق مثلها يوم كان البعير لديها أشبه بالطيارة، والسهم كالمدفع، والنار في رؤوس الجبال كالمذياع والمواج.

لقد عرف الشيخ إبراهيم البازجي كيف يحضر اللغة بما وفر لها من كلمات مستحدثة تماشي الذوق والعصر، أيخلو المجمع من مثيل للرجل العلامة وكلٌّ ينادي نفسه نعم الفتى؟. . .

نحن نخاطب من له أذنان وعينان. فليسمع المجمع اللغوي المصري الرفيع العماد!

بيروت

كرم ملحم كرم

ص: 25

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مدير مصلحة الكيمياء

وسطاء شرّ أبرياء

هذه قصة ثِيُوبُلْد اسميث. قصة الرجل الذي قاد الإنسانية فمالت معه حيث مال إلى طريق جديد طلع عليها بأمل جديد. كان أولَ أمريكي سبق إلى كشف المكروب، ولم يلحق بغباره إلى الآن منهم لاحق. أخذ يتشمّم الأرض يطلب غاية، ويستتبع أثراً يقود إلى عين، وأفاد في تتبعه هذا من رأى رآه الفلاحون، وظِنّة قال بها بسطاء المزارعين، فلم يلبث بواسطتها أن أطّلع من بحوثه على كل عجيبة غريبة. فهذه القصة ستنبئك بالذي اطّلع عليه اسميث، وبالذي وجده من بعده من تعقّبوا آثاره.

(أن في استطاعة الإنسان أن يمحو كل داء وبئ من على وجه الأرض). هكذا قال بستور وبهذا تنبّأ وهو مفلوج بعد نُصْرته المعهودة على داء دودة القزّ التي أكسبته ذكراً وأنالته مجداً. ولعلك تذكر بأية قوة وأية حرارة ألقى هذا الأمل في الناس، حتى لحسبوا أن الداءات المعْديات لا يهلّ عليها العام القابل أو على الأكثر الذي يليه حتى تكون خبراً يُرَوى. واطمأن الناس لقوله واستبشروا وأخذوا يرقبون ما تأتي به الأيام. . . وأخترع بستور الألقحة فهتفوا له عالياً، وكانت هذه الألقحة لا شك بدائع عجيبةً رائعة، ولكنك لا تستطيع القول أنها كانت لاستئصال المكروب من على ظهر البسيطة. وجاء من بعد بستور كوخُ فأدهش الناس وأفزع عندما لعب بجرثومة السل المخُوفة حتى وجدها. ولم يكن كوخ أسرف في وعوده، ولكن وعود بستور كان صداها يرن في الآذان، فرفع الناس أبصارهم إلى كوخ ينتظرون امّحاء السلّ على يديه. وجاء رو، وجاء بارنج، واشتبكا والدفتريا في معركة حامية دامية دامت سنين، هَدْهدت أثناءها الأمهات أطفالهن المناكيد، وغنّتهم أغاني آملةً، راجيةً تَعِلّةً ومصابرةً عسى يسبق العلمُ بالشفاء أيامَهم الباقية المعدودة. وجاء متشنيكوف، ومن الناس مَن ضحك منه، ولكن حتى هؤلاء أضمروا في الخلفاء أملاً قليلاً علّ الأقدار تُتيح له برغم ثرثرته أن يُعلّم فاجوساته أكل جراثيم الأرض جميعاً

ص: 26

نعم أخذت وطأة الأمراض لسبب مجهول تخف على ما أحسِب، ولكن لم يظهر عليها أنها تنوي الرحيل وتستعجل الفراق الذي أمّله الناس، فخاب ظنهم وظلّوا على أملهم يرتقبون

ولم يطل ترقّبهم، فالزمان الذي يجود بالرجال الفينة بعد الفينة جاد لهم وهم في أزمتهم هذه برجل جديد شاب، اسمه ليوبلد إسميث ظهر في أمريكا في أوائل عشر السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ وحكاية ذلك أن الأبقار في شمال أمريكا الشمالية كانت تُرسل جنوباً فلا تلبث أن تستقر هناك حتى تأتيها حُمىّ تعرف بالتِّكساسية فتمرض وتموت. وكذلك كانت تُرسَل الأبقار من الجنوب إلى الشمال وهي صحيحة سليمة فكانت كأنما تبذر على أرضه حيثما وطئت بذوراً للموت تفتك بالأبقار الشمالية فتكاً ذريعاً. فجاء اسميث وفسر هذا وهذا، وكتب في عام 1893 تقريراً بيّناً كشف للناس فيه سر هذه الظاهرة الغامضة، وسلك به أقوم الطرق وأخصرها، ولم يكن فيه طنطنة ونفخ أبواق، وهو لا يُشتري الآن لنفاد طبعته. فهذا التقرير أوحى إلى قُنّاص المكروب الذين أتوا من بعده بالشيء الكثير: فأوحى بفكرة بديعة إلى الفخور الصخاب دافيد بروس وبلمحات من اقتراحات نافعة إلى باتريك منسون ومسَّ بقبَسه رأس العبقري الطلياني الغضوب جراسي فجرت النار في أفكاره اشتعالاً. والأمريكي ولتر ريد ملأه هذا التقرير ثقة، وملأ كذلك رجاله الأبطال من عساكر وضباط، فقاموا بمغامراتهم الخطيرة في اطمئنان كبير، ورفضوا زيادة في الرواتب وآثروا عليها الشهادة والتضحية في سبيل العلم.

فأي رجل كان إسميث هذا الذي يجهله الأمريكيون إلا آلافا قليلة؟ وكيف أن كشفا له عن مرض في بقرة استطاع أن يحرّك في البشر كل هذه الآمال والأحلام؟ وما منطق الريفيين هذا الذي ابتدأ به اسميث فحققه وأثبته، والذي من جرّائه استطاع أن ينير للبحاث من بعده الطريق التي يسلكونها ليحققوا بها أمل البشرية المنشود، ووعدها الأكبر الخلوب الذي وعدها إياه بستور؟

في عام 1884 كان إسميث في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان نال درجة بكالوريوس في الفلسفة من جامعة كُرنيل وكان نال درجة دكتور في الطب من كلية أَلَبنِي ولكنه كره أن يقضي حياته في تشخيص أمراض يلبس لها وجهَ الجادّ العابس وهو يعلم أن

ص: 27

لا رجاء في شفائها، وأن يُذبل زهرة أيامه في بذل الطمأنينة والسلوى والكلام الحلو الراجي لمرضى بني الناس عوضاً عن بذل العلاج الناجح الذي لا يعرف له وجودا. واختصاراً تراءى له الطب والطِّبابة أنهما عمل مهوّش لا يستقيم مع العقل السليم. وأحب أن يضرب في المجهول قليلاً ليعلم من خفاياه قدراً يستطيع حمله فلا ينوء به ظهره، أو يُتخَم به عقله. كان طبيباً ولكنه شاء برغم هذا أن يكون باحثاً، ورغب بخاصة إلى دراسة المكروب. وكان قد عُنِي وهو في كُرنيل باللعب على الأرغون، لَعِبَ عليه المزامير وقطعاً من بيتهوفن (ولم يكن جاء زمن الجازباند). وفي كرنيل في جامعتها عبّ عبّة طيبة من الرياضيات ومن علم الفيزياء ومن اللغة الألمانية، وبخاصة أشتد ميله إلى النظر في المكرسكوبات، ولعله عندئذ نظر أول مكروبة رآها.

ولكنه لما جاء مدرسة الطب في ألْبَني لم يجد في أساتذتها اهتمامابالمكروبات، فلم يكن هذا العهد يَعْمدون في شفاء الأمراض إلى قتل الجراثيم. ولم يكن في المدرسة برنامج لدراستها، بل لم يكن في أي مدرسة طبية بأمريكا شيء من هذا، وأراد أن يتعلم علم الجرثوم برغم كل هذا، وكان لا يأبه لألوان العرفان التي كانت تتعاطاها الجمهرة من طلاب الطب، وكان يحتقر التخرّصات والأكاذيب التي يسبلون عليها رداء العلم. وأشبع هَوِيَّته يبحث أحشاء القطط بحثاً مكرسكوبياً، ونشر أول رسالة له في ذلك، وفيها أبان اختلافاً للطبيعة خرجت بها في أعماق بطون القطط عن المألوف الذي درجت عليه في سائر الأحياء، وعلق عليها حواشي دلّت على الفطنة وحدة في الذهن شديدة، وكانت أول عمل دخل بفضله في زمرة البحّاث.

ونال درجته الجامعية، وأراد أن يتخذ التجريب العلمي صناعته، ولكن تحتّم عليه قبل ذلك وفوق ذلك أن يرتزق ليعيش. وكان في هذا الوقت كثير من أطباء أمريكا الأحداث يتسابقون إلى أوروبا، إلى الأستاذ الكبير كوخ يودون أن تتاح لهم الفرصة ليقفوا وراء ظهره، ويتعلموا من فوق كتفه كيف يصنع البِشلاّت وكيف يُربيها صريحة، وكيف يضربها بالمحاقن تحت جلود الحيوانات، وكيف يستطيعون من بعد ذلك أن يتحدثوا عن المكروبات حديث الخبير الضليع. ورغب إسميث أن يتبعهم، ولكن تحتم عليه أن يبحث عن وظيفة ليعيش. ورحل هؤلاء الأطباء الشبان الأثرياء إلى أوروبا، وبينما هم يأخذون من العلم

ص: 28

الجديد بمبادئه الأولى، وبينما هم يوشكون من أجل ذلك أن يقعوا على مناصب أستاذيات في العلم هامة، وقع إسميث على وظيفته التي طلب. وكان منصباً وضيعاً هذا الذي ناله؛ ومن وجهة العلم لم يكن منصباً محترماً، فقد تعين في مكتب إصلاح الماشية والحيوان بواشنطن ولم يكن عندئذ إلا مكتباً صغيرا حقيرا فقيرا لا يكاد يأبه له أحد. وكان في المكتب من المستخدمين ثلاثة غير اسميث، وكان على رأسهم رجل طيب يُدْعى سلمون كان كثير الاهتمام بما عسى أن تصنعه الجراثيم من السوء للأبقار، مؤمناً شديد الأيمان بخطر البشِلاّت على الخنازير، ولكنه جهل كل الجهل كيف يتصيد المكروبات التي تعيث في هذه الماشية الثمينة. وكان في المكتب السيد كلبورن وكان يحمل درجة بكالوريوس في الزراعة ويغتبط بها، وكان يعرف بعض الشيء في البيطرة، وهو الآن يتاجر في الصيني وما إليه بمكان قريب من نيويورك. وكان ثالثَ الثلاثة في المكتب رجلٌ جسيم مَهيب عتيق أسود كان عبداً فأُعتق، وكان أسمه اسكندر، وكان يجلس حيثما جلس رزينا وقورا ساكنا حتى يُحرَّك، فيقوم إلى القّنينات القذرة فيغسلها، أو إلى الخنازير الغينية فيُعنى بها.

وبدأ اسميث في صيادة المكروب في حجرة في ذروة بيت حكوميّ أضاءها شباك واحد مفتوح في سقف البيت. بدأ في صيادة المكروب، فبدأ عمله الأوفق الذي هيأته الطبيعة له. وجاءته هذه الصيادة سلسلة منقادة فكأنما ولدته أمه وبيمينه مِحقَن وبفمه عود من البلاتين. وعلى الرغم من أنه خريج جامعة فقد كان يقرأ اللغة الألمانية قراءة جيدة، فكان في الليل يعتكف إلى دراسة ما صنع كوخ من المكروبات وصار يعبّ من مآثره العلمية المجيدة عباً. وكان كالبُطَيطة نزلت في الماء لأول مرة. فأخذ يفعل بالتفصيل كل ما فعله كوخ من قبله ويقلده تقليداً ويتبع طرائقه اللبقة في تربية الجرثوم واقتناص البشلات وتلك الخلائق العجيبة الأخرى التي تسبح في الماء انفتالا كأنما هي بَريمة الفلين جرت فيها الحياة. قال:(إن كل ما صنعت مرجعه إلى كوخ)، وتصور كوخ في بعده وعبقريته شيئاً سماويا قدسيا.

وعَمِل في حجرته السقفيّة بلا هوادة ولا حسبان لضعف جسمه، وقام على صيادة المكروب كل يومه وطرفا من ليله. وكانت له أنامل دقيقة متِّزنة كأنامل الموسيقى فساعدته على غَلْي الأحسية فندر انكبابها في يديه. وكانت إلى جانب حجرته حجرة أخرى يُختزن فيها المتاع الخسيس، وكان يخرج منها إليه قُطُر من الصراصير لا تنقطع فيتلهى في أوقات فراغه

ص: 29

بدقّها. وفي وقت قصير بالغ القصر علّم نفسه كل ما يتطلبه البحث، ثم بدأ يكتشف الكشوفات على حذر، فاكتشف لقاحا غريباً مأموناً، لا يحتوي على البشلات نفسها، ولكن على عصاراتها الزلالية التي تُبتزّ منها اعتصارا وترشيحا. واشتد الحر في غرفته فزاد على حر المدينة وهي جهنم الحمراء، ولكنه احتمل هذا ومسح العرق المتقطّر من أنفه، وظل يعمل على أسلوب كوخ الأدقّ الأحذر، ونبا به طبعه عن أسلوب بستور الأخشن وطرائقه الفضفاضة.

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 30

‌شخصية ناقدة يهملها النقد العربي

نقد ابن أبي عتيق

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

للأستاذ خليل هنداوي

ذكر شعر الحارث بن خالد وشعر عمر عند ابن أبي عتيق في مجلس رجل ففضل الرجل شعر الحارث. فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يا ابن أخي! لشعر عمر نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر. وما عصى الله بشعر أكثر مما عصى بشعر عمر أشعر قريش، من دق معناه، ولطف مدخله وسهل مخرجه، ومتنحشوه، وتلطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته. وذكر الرجل المفضل أبياتا للحارث ينعت بها الطلل:

إني وما سخروا غداة مني

عند الجمار يؤودها العقل

لو بدلت أعلى مساكنها

سفلاً، وأصبح سفلها يعلو

فيكاد يعرفها الخبير بها

فيرده الأقواء والمحل

لعرفت مغناها بما احتملت

مني الضلوع لأهلها قبل

فقال له ابن أبي عتيق: (استر على نفسك واكتم على صاحبك، ولا تشاهد المحافل بمثل هذا! أما تطير الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله. ما بقي إلا أن يسأل الله تبارك وتعالى لها حجارة من سجيل) فتأمل ما ألطف هذا المأخذ، وصاحب هذه الأبيات - في الحقيقة - قد سار إلى غاية شريفة من معناه. ولكن المبالغة أفسدت عليه غايته؛ وإن معرفة الدار وإظهاره الشوق لأهل الدار لا يحتاجان إلى قلب العالي أسفل والسافل أعلى؛ وإن في هذا نذيراً أدنى إلى الشؤم منه إلى إظهار الشوق. ولعن الله شوقاً لا يثبت نفسه إلا على الركام والخراب!

ولقد كان يقحم شعر عمر بنقده - على رغم الصداقة - ويضربه في الصميم. ألم يسمع عمر يقول:

بينما ينعتني أبصرنني

دون قيد الرمح يعدو بي الأغر

ص: 31

قالت الكبرى أتعرفن الفتى

قالت الوسطى: نعم هذا عمر

قالت الصغرى تيمتها:

قد عرفناه! وهل يخفى القمر؟

وعمر في هذه البيات قد شغل الثلاثة به ودلههن بحبه.

فقال له ابن أبي عتيق: أنت لم تتشبب بها، وإنما تشببت بنفسك، وإنما كان ينبغي أن تقول: قلت لها فقالت لي فوضعت خدي فوطئت عليه.

وأنشد نصيب الأسود قوله:

وكدت، ولم أخلق من الطير إن بدا

لها بارق نحو الحجاز أطير

فسمعه ابنأبي عتيق فقال له: يا أبن أُم: قل (غاق) فانك تطير، وأراد بذلك أنه لا يكون إلا غراباً أسود، ولا يكون الغراب إلا نذيراً بالويل. وهكذا تنبه الناقد بعقله إلى شيء لم يتنبه إليه الشاعر بفنه.

وأنشد ابن جندب قول العرجى لأبن أبي عتيق في جاريته:

وما أنس م الأشياء لا أنس قولها

لخادمها، قولي اسألي لي عن الوتر

فقالت: يقول الناس في ست عشرة

فلا تعجلي منه فانك في أجر

فما ليلة عندي وإن قيل جمعة

ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر

بعادلة الاثنين عندي، وبالحرى

يكون سواء منهما ليلة القدر

فقال ابن أبي عتيق - وقد راعه هذا التكلف - أُشهدكم أنها حرة من مالي إن جاز ذلك أهلها. هذه والله أفقه من ابن شهاب! وليتنا نعلم شيئاً عن ابن شهاب الذي حشره الناقد حيث لا يحشر!

وقد يتأمل ابن أبي عتيق في مواقع الألفاظ ويتبين مواضعها، فيقول مثلاً عندما يسمع قول قيس بن الحطيم:

بين شكول النساء خلفتها

حذواً، فلا جبلةٌ ولا قضف

لولا أن أبا يزيد قال (حذواً) ما درى الناس كيف يحشون هذا الموضع.

ويسمع عتيق ابن قيس يقول: (سواء عليها ليلها ونهارها) فيقول له: كانت هذه يا ابن أُمِّ فيما أرى عمياء، فما يستوي الليل والنهار إلا على عمياء. فقال ابن قيس: إنما عنيتُ التعب.

ص: 32

قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه، وما عسى يكون قدر البيت إذا كان لا يُفسر إلا بترجمان!

وأنشد كثير ابن أبي قوله:

ولست براضٍ من خليل بنائل

قليل ولا أرضى له بقليل

فقال ابن أبي عتيق: هذا كلام مكافئ ليس بعاشق، القرشيان أقنع وأصدق منك: عمر حيث يقول:

ليت حظي كلحظة العين منها

وكثير منها القليل المهنا

وحيث يقول:

فَعِدِى نائلاً وإن لم تنيلي

إنه يقنع المحب الرجاء

وابن قيس الرقيات حيث يقول:

رُقيَّ! بعيشكم لا تهجرينا

ومنينا المنى ثم امطلينا

عدينا في غد ما شئت إنا

نحب - وإن مطلت الواعدينا

فأما تنجزي عدتي وإما

نعيش بما نؤمل عنك حينا

وهكذا أفسد على كثير فكرته بنظرة نفسية عميقة لأن المحب الحقيقي الذي يتلهب ويتقلب على جمر من حبه لا يقول لمحبوبته إذا عرضت له: إليك عني فأني لا أرضى بالقليل، وإنما يتمنى قول عمر:(ليت حظي كلحظة العين منها) ويخلق الله بعد هذه اللحظة لحظات.

قال كثير لأحدهم - وكان مديوناً - اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنه فذهب إليه معه، فاستنشده ابن أبي عتيق قوله:

أبائنة سعدى؟ نعم ستبين

حتى بلغ قوله:

وأخلفن ميعادي وخُن أمانتي

وليس لمن خان الأمانة دين

فقال ابن أبي عتيق: ويلك هذا أملح لهن وادعى للقلوب إليهن. سيدك ابن قيس الرقيات كان اعلم منك وأوضع للصواب موضعه فيهن. ألم تسمع قوله:

حبذاك الدل والغنج

والتي في عينها دعج

والتي إن حدثت كذبت

والتي في وعدها خلج

ص: 33

وترى في البيت صورتها

مثلما في البيعة السرج

خبروني هل على رجل

عاشق في قبلة حرج؟

وهكذا أدرك ابن أبي عتيق من نفس المرأة ما لم يدركه كثير، وأدرك أن مثل حب كثير العذري لا يستطيع أن يدخل إلى أعماق نفوس النساء لأنه حب مقتول بالإعجاب لا يرى حيث حل إلا نفسه! ومثل عمر وابن قيس وأمثالهما ممن يقعون كل يوم على امرأة يدركون ما يعجب المرأة وما تزدريه، ويفهمون تقلبها وقيمة وعودها، ولكن عتيقاً أهمل هذه المرة النظر إلى البيت الأخير في هذه القطعة حيث أخذ الشاعر يستفتي الناس في قبلة، وقد علم أن مثل هذه الفتوى باردة وأبرد منها هذا الاستفتاء الذي هو أدنى إلى الفضيحة والتهتك منه إلى العفة والتستر. وما على صاحبه إلا أن يردده في أحد المساجد ويناقش فيه أصحاب الفتاوى

وأنشد أبو أذينة مرثيته لأخيه بكر:

سرى همي وهم المرء يسرى

وغار النجم إلا قيد شبر

أراقب في المجرة كل نجم

تعرض في المجرة كيف يجري

بحزن ما أزال له مديما

كأن القلب أسعر حر جمر

على بكر أخي ولى حميداً

وأي العيش يحسن بعد بكر

فضحك ابن أبي عتيق وقال: كل العيش يحسن حتى الخبز والزيت. فآلم تهكمه أبا أُذينة وحلف لا يكلمه أبداً. وهذا هو الموقف الوحيد الذي خرج فيه شاعر متأذيا من ابن أبي عتيق.

وهناك مواقف متعددة تبدى لنا عطفه على رجال الفن؛ فلقد كان يمتزج بهم ويحس إحساسهم.

سمع عمر يقول:

كان ذا في مسيرنا إذ حججنا

علم الله فيه ما قد نوينا

فقال له ابن أبي عتيق: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه فأورد التفسير، ولئن مت لأموتن معك. أف الدنيا بعدك يا ابن الخطاب! فقال عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد!

ولقد كان فيه حدب خاص على المحبين. وإن له مواقف كثيرة كان يقوم فيها بوصل

ص: 34

المنقطع من حبال المودة كما فعل مع عمر، وكان رسوله إلى الثريا. وكما فعل مع نصيب، وقد توسط بينه وبين سعدى محبوبته: ولعل هذا الموقف يبدي لك غيرة ابن أبي عتيق على رجال الشعر والغناء والعمل على نصرهم. وهذا الموقف يبديه لنا رجلاً قوياً حاد الطبع قوي الشكيمة مفتول العضل. رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدشاً فقال: من فعل بك هذا؟ قال فلان. فمضى فنزع ثيابه وجلس للرجل على بابه، فلما خرج اخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضرباً شديداً والرجل يقول له: مالك تضربني؟ أي شيء صنعت؟ وهو لا يجيبه حتى بلغ منه ثم خلاه وأقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير داود! شد على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.

والآن أرجو أنني وفقت في الكشف عن شخصية جديدة في تأريخ النقد العربي، وأرجو زملائي كتاب (الرسالة) أن يعملوا على جمع شوارد هذا الرجل، وأرجو أن تتولى (الرسالة) نشر ما يأتيها عنه وما تقع عليه. فربما استطعنا أن نؤلف من هذه الشوارد حياة الرجل وحياة الناقد، لأن لنقده تأثيرا أكبر مما ذكرنا في توجيه أدب عصره. وإنما أدبنا لا يزال فقيراً إلى رجلين: المؤرخ والأديب. فليعمل المؤرخ عمله يعمل الأديب عمله أيضاً

(دير الزور)

خليل هنداوي

ص: 35

‌الكلب والديك

في كتاب (الحيوان) للجاحظ

بقلم محمد طه الحاجري

يعرف كل قراء الجاحظ تلك الخصومة الحادة العنيفة التي أثارها أبو عثمان، في أول كتابه الحيوان، بين الكلب والديك، وتلك المناظرة الطويلة المسترسلة المفتنة شتى الأفانين، والذاهبة في شتى مذاهب الكلام بين صاحب هذا وصاحب ذاك؛ دون أن يكون بينهما - في حقيقة الأمر - خصومة، أو سبب يدعو إلى المناظرة، وإنما هي عبقرية الجاحظ التي لا تفتأ تبدع وتبتكر، وأسلوبه المتدفق الذي لا يألو يشقق الكلام ويولد المعاني والصور. ذلك الظن السائد نلجأ إليه كثيراًُ في تفسير مثل تلك المناظرة الغريبة. ولكني أحسب أن الأمر بين الكلب والديك أعجب من أن يكتفي في تفسيره بتلك الصفة الغالبة، والنظرة العاجلة المقاربة.

فلقد أطنب الجاحظ في تلك المفاضلة إطناباً غريباً، حتى كسر عليها جزءين كبيرين من كتابه، لعلهما يقربان من ثلثه؛ ثم كأنه لم يكتف بذلك، فترى حديث صاحبه الكلب وحديث مناظره صاحب الديك يتخللان الأجزاء الأخرى.

ثم إن هذه المفاضلة غريبة أيضاً في كتاب الحيوان، فقد سار الجاحظ في أبواب الكتاب التي تلي ذلك الباب على منهج غير ذلك المنهج، فليس إلا وصف الحيوان، وبيان عاداته وطبائعه، ومزاياه ومساوئه، ورواية النوادر عنه، والآثار الأدبية التي تدور حوله، وحكاية كلام بعض علماء الحيوان والمعنيين بأمره، مثل أرسططاليس وأقليدون، دون أن يعرض للمفاضلة بين هذا الحيوان وذاك، إلا قليلاً لا نكاد نلحظه. فالأمر بين الكلب والديك إذن ليس متمشياً مع طريقة الجاحظ في الكتاب عامة، فما الذي جعله يميزه من غيره، ويسلك فيه أسلوباً على حدة

وأخرى لا سبيل إلى الإغضاء عنها، وهي وجه اختيار هذين الحيوانين بالذات ليكونا موضعاً للمقارنة والموازنة والمفاضلة وما من سبب، فينا يبدو، يجمع بينهما، أو يدع سبيلاً للتنظير والتفضيل. ولعل السبيل بين الضب والنون أو بين الملاح والحادي كما يقول البلاغيون أكثر استقامة مما هو بين الكلب والديك. ولو أن الجاحظ يريد المقارنة وحدها،

ص: 36

والمقابلة بين خلقيهما، لكان ذلك مستساغا؛ أما أن يجعلهما خصمين، وينصب لكل منهما صاحباً يهاجم باسمه، ويدافع عنه، ويناضل دونه، دون أن يكون بينهما جامعة طبيعية إلا جامعة الحيوانية، فأمر لا نستطيع أن نصفه إلا بالغرابة. فهلا ناظر بين الفيل والبعير، أو بين الثعلب والذيب!!

ورابعة تلفت نظرنا، وتثير دهشتنا، وهي ما أشار إليه في أول كلامه من أن هذه المناظرة كانت تثور بين شيخين من علية المتكلمين، ومن الجلة المتقدمين، فما للمتكلمين ولهذا؟ وما شأن الكلب والديك في الكلام على الصفات والقدر، أو المناظرة بين النار والمدر؟! لسنا ننكر أن من أول ما كان يعنى به المتكلمون، وخاصة المعتزلة، بيان دقائق صنع الله في الكون، وحكمة الله في الخلق، على نحو ما في رسالة (الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير) لإمامنا الجاحظ. فهل نستطيع أن نفهم أن تلك المناظرة إنما كانت تأخذ هذه السبيل وتتجه إلى تلك الغاية؟ إن من العسير أن نقنع أنفسنا بهذا في مثل ذلك الذي صوره الجاحظ بين الكلب والديك. وإذا أجزنا ذلك بوجه من الوجوه فأنا نتساءل مرة أخرى: ما بالهم لم يختاروا من جميع الحيوان موضوعا لهذه المناظرة إلا ذينك الحيوانين - على ما في المفاضلة بينهما - فاقتصروا عليهما، ولم يعدوهما؟

فالمسألة كما يرى القارئ الكريم غامضة، لا يكفي في بيانها ذلك التفسير العام المبهم الذي يفسر به أسلوب الجاحظ جملة واحدة.

إن ذهناً دقيقاً كذهن الجاحظ مارس الفلسفة وأساليب المتكلمين، حتى صار رأساً لطائفة من المعتزلة تدعى باسمه، ليس من القريب احتماله أن يأخذ في الكلام اعتباطاً، فيناظر بين الكلب والديك وليس بينهما وشيجة أو سبب. فإذا كنا لا نرى بينهما صل ذاتية، فلا بد أن تكون بينهما صلة أخرى خارجية، هي التي مهدت السبيل للمناظرة، فما هي هذه الصلة وأين نلتمسها؟

هل هناك صفات أضيفت إلى الكلب تقابل صفات أخرى أضيفت إلى الديك بحيث يكونان متناظرين؟ أما أننا يجب أن نتلمس ذلك تلمساً في روح العصر الذي كتب فيه الحيوان، وفي التيارات الاجتماعية التي كانت سائرة فيه، وفي الآثار الأدبية التي بقيت لنا حول هذين الحيوانين.

ص: 37

وإذن فأنا أزعم أن هذه المناظرة بين الكلب والديك كانت صدى من أصداء تلك الحالة الاجتماعية الشديدة السلطان في العصر العباسي، والتي أخذت تتغلغل في المجتمع الإسلامي منذ أوائل القرن الثاني، وبلغت عنفوانها في عصر الجاحظ وأعني بها تدافع العنصرين العربي والأجنبي على التأثير في الحياة مما أنتج تلك الخصومة العنيفة بين العرب والشعوبية، تلك الخصومة التي جعلت تمتد وتنتشر وتغمر الجو هنا وهنا حتى لم يخلص من سطوتها ذانك الحيوانان المسكينان، لأن إحداهما كان يضاف إلى العرب والآخر كان يضاف إلى العجم. فالعرب كانوا في نظر الفرس قوماً جفاة غلاظاً رعاة إبل وغنم؛ الكلب أصدق أصدقائهم، وألصقصاحب بهم، وأعز رفيق لديهم، وهو ما هو ضعة شأن وهوان منزلة وخبثاً ولؤماً وقذراً ودناءة. والفرس في نظر العرب كانوا قوماً أنباطاً أصحاب قرية، قد أخذتهم طبيعة حياتهم بالاستكانة والذلة، فلا كرم ولا نجدة ولا أريحية، كل ما لهم الدجاج والديكة، تمثل ضعفهم، وتبرز بخلهم وضيق حياتهم. وهكذا أخذت الخصومة بين العرب والشعوبية مظهراً طريفاً من الخصومة بين الكلب والديك والتنابذ بينهما.

وهنا يجئ دور المتكلمين الذين أشار إليهم الجاحظ، ونحن نعرف عنهم أنهم لم يساهموا في هذه العصبية، وإن نسب المسعودي إلى طائفة منهم شيئاً منها، فرد عليه الأستاذ الكبير أحمد أمين في الفصل الذي كتبه عن الشعوبية في كتابه (ضحى الإسلام)، فأرادوا أن يحولوا تيار هذه الخصومة العصبية إلى ناحيتهم، وأن يصبغوها بصبغتهم، وأن يجعلوا من هذه المناظرة سبيلاً من سبلهم إلى بيان حكمة الله في المخلوقات، ودقائق صنعه في الكائنات. ثم جاء الجاحظ فأخذ هذه المناظرة وجعلها باباً في كتابه، فأفاض فيها وتدفق، وجمع فيها بين الكلام والحكمة والأدب على طريقته.

هذه صورة المسألة كما ثبتت لدينا، ولا تكلف فيها ولا تعسف، وإن بدت في أول الأمر غريبة. فأما أن الشعوبية كانت تعيّر العرب باتخاذ الكلاب فأحسبه مما لا نزاع فيه، فقد كانت لا تفتأ تتجنى على العرب المساوئ والمعايب، ولعل في هذا القول الذي يرويه الجاحظ عن بعض المتعصبين على العرب ما يدلنا إلى أي حد كان تجنبهم. قال الجاحظ: (وزعم لي سلمويه وابن ماسويه مطيّب الخلفاء أنه ليس على الأرض جيفة انتن نتنا ولا

ص: 38

أثقب ثقوباً من جيفة بعير، فظنت أن الذي وهّمهما ذلك عصبيتهما عليه، وبغضهما لأربابه).

أما الديك فكان عند العرب من أظهر ألوان الحياة الفارسية، فهم دائماً يضيفونه إلى العجم. ومن ذلك قول الشاعر:

لعمري لأصوات المكاكي بالضحى

وسوء تداعي بالعشي نواعبه

أحب ألينا من فراخ دجاجة

ومن ديك أنباط تنوس غباغبه

وعن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال:

(لا تتخذوا الدجاج في الدور فتكونوا أهل قرية) ويفسر الجاحظ هذا بأن الديك من خصائص الحياة المدنية، وكان ولاة العرب حريصين على أن يظلوا عرباً، وأن يحتفظوا بمواهبهم الحربية التي لا تلبث أن تضعف فيهم، ثم تتلاشى منهم، إذا هم ركنوا إلى حياة القرى، فاتخذوا الديكة التي هي منأبرز مظاهرها.

وهكذا نرى أن الصلة وثيقة بين العجم والديك بقدر ما هي وثيقة بين العرب والكلب، وأن كلا منهما يعتبر من خصائص الحياة الاجتماعية لذويه، وأن العرب كانوا يكرهون الديك وينفرون منه بقدر ما كان الفرس يمقتون الكلب ويسخرون من أصحابه.

وهناك دليل آخر على ما أسلفنا من أن الديك كان شديد الصلة بالأعاجم فيما يرى العرب، حتى كان يرمز في العقل العربي إليهم، وهو - فيما نحسب - دليل قوي، لأنه يجئ من عالم الأحلام، ومجالها العقل الباطن فيما يذهب إليه المحدثون من الباحثين. ذلك هو ما حكاه الدميري في كتابه (حياة الحيوان الكبرى) قال:(روى مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوماً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراها إلا لحضور أجلي، وهي أن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، فحدثتها أسماء بنت عميس، رضي الله عنها، فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم) وهناك رواية أخرى للحاكم ليست فيها أسماء بنت عميس: (قال على المنبر رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات فقلت أعجمي يقتلني) ثم إنه مهما تكن قيمة هذه الرواية فان تأويل الديك بالأعجمي يدل وحده دلالة صريحة على ما ذكرنا. ويضاف إلى هذا ما حكاه ابن سيرين من أنهم كانوا يؤولون الكلب الأسود بالعربي. وإذن فقد تم الأمر من وجهيه، وتضافرتالدلائل على أن ذلك الغرض الذي

ص: 39

افترضناه قريب لا تكلف فيه ولا تعسف.

على أن هذا الغرض - فوق تفسيره لموقف الجاحظ - يفسر لنا طائفة من الأحاديث الموضوعة، لم نفهم من قبل السر في وضعها، والعناية بصنعها، فنحن نعرف كيف كانت الطوائف المختلفة تجتهد في وضع الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتأييد مذاهبها، ونشر الدعاية لمبادئها، ومثل هذه الأحاديث نستطيع في غير عنت أن ندرك السر في وضعها. أما تلك المجموعة من الأحاديث التي نحن بصددها فيبدو في بادئ الرأي أن وضعها كان عبثاً ولهواً وسخرية، وإلا فما ظنك بهذه الأحاديث التي وضعت عن الديك، ووضعته في صف الملائكة المقربين. كذلك الحديث الذي ذكره صاحب التهذيب، في ترجمة البزي - وقد قال عنه إنه ضعيف الحديث - وهو:(الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل، يحرس بيته وستة عشر بيتاً من جيرانه) أو ذلك الحديث الآخر: (ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى: صوت الديك، وصوت قارئ القرآن وصوت المستغفرين بالأسحار). أو ذلك الحديث الثالث الذي يعتبر بدعه فنية خليقة بالخيال الفارسي المترف، وقد رواه الطبراني في معجمه:(إن لله سبحانه وتعالى ديكاً أبيض، جناحاه مُوشّيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ: جناح بالشرق وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سحر، فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى ضم جناحيك وغض صوتك، فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت) ومثل ذلك كثير مذكور في الكتب.

أفي الحق أن كل ذلك كان عبث عابث ولهو لاه ساخر؟ أكل ذلك العناء في وضع تلك الأحاديث، والتكلف لها وتلفيق أسانيدها، وذلك الجهد الذي لا نشك في أنه كان عظيماً من أجل امرارها وإدماجها بين الأحاديث الصحيحة، أكل أولئك كان لهواً ولعباً لا غاية ولا هدف يتجه نحوه؟؟

كلا! وإنما هي الشعوبية التي أسرفت في وضع الأحاديث عن فارس وسلمان الفارسي وغير ذلك، هي هي التي أوحت بتلك الأحاديث الغريبة في تمجيد الديك وتقديسه، باعتباره رمزاً فارسياً.

ص: 40

وإذن فقد استطاع ذلك الفرض أن يكشف لنا عن السر في وضع تلك الأحاديث الغريبة، وأن يبين لنا لوناً من ألوان ذلك النزاع بين النزعة العربية والنزعة الشعوبية.

محمد طه الحاجدي

ص: 41

‌4 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

خطب زرادشت

التحول في ثلاث مراحل

سأشرح لكم تحوّل العقل في مراحله الثلاث فأنبئكم كيف استحال العقل جملاً، وكيف استحال الجمل أسداً، وكيف استحال الأسد أخيراً فصار ولداً.

إنها لعديدة تلك الأحمال التي تثقل العقل الجَلْد الصليب الذي يتجلى الوقار فيه، فأن صلابته تتوق إلى الحمل الثقيل بل إلى الحمل الأثقل.

يفتّش العقل السليم عن أثقل الأحمال فينيخ كالجمل ظهره متوقعاً رفع خير حمل إليه. أن العقل السليم ينادي الأبطال قائلاً: أيّ حمل هو الأثقل لأرفعه فتغتبط به قوتي؟ أفليس أثقل الأحمال هو في الاتضاع لإنزال العذاب بالغرور؟ أفليس أثقلها أن يبدي الإنسان اختلالاً لتظهر حكمته جنوناً؟

أم أثقلها في تخليّ الإنسان عن مطلب حين يقترن هذا المطلب بالنصر، أم في ارتقاء قمم الجبال لتحدّي من يتحدّى؟

أم أثقلها في أن يتغذّى الإنسان بأقماع السنديان والأعشاب وبتحمّل مجاعة نفسه من أجل الحقيقة.

أم أثقلها في احتمال المرض وطرد العائدين المعزّين، أم في مخادنة الصمّ الذين لا يسمعون ولا يعون ما تريد؟

أم أثقلها في الانحدار إلى المياه القذرة إذا كانت الحقيقة فيها والرضى بملامسة الضفادع اللزجة والعقارب التي تقطر صديداً

أم أثقلها في محبة من يحتقرنا وفي مد يدنا لمصافحة شبح يقصد إدخال الرعب إلى قلوبنا. أن العقل السليم يحمل ذاته جميع هذه الأثقال المرهقة، وكالجمل الذي يسارع إلى طريق الصحراء عندما يرفع الوقر عن ظهره ليندفع هو أيضاً نحو صحرائه

ص: 42

وهنالك في الصحراء القاحلة يتمّ التحوّل الثاني إذ ينقلب العقل أسداً لأنه يطمح إلى نيل حريته وبسط سيادته على صحرائه

وفي هذه الصحراء يفتش عن سيده ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق، فهو يستعد لمكافحة التنّين والتغلب عليه

ومن هو هذا التنّين الذي يتمرد العقل عليه فلا يريد بعد الآن أن يرى فيه ربه وسيده؟

إن التنين هو كلمة (يجب عليك) وعقل الأسد يريد أنينطق كلمة (أُريد)

(إن كلمة (الواجب) تترصد الأسد على الطريق تنّيناً يدَّرع بآلاف الأصداف وعلى كل قطعة منها تتوهج بأحرف مذهبة كلمة (يجب عليك)

وعلى هذه الأصداف تشع سنو ألف عام والتنّين الأعظم يعج قائلاً إن جميع السنين تتوهج عليّ

كل ما هو سنّةٌ قد أُوجد من قبل، وبي تتمثل جميع السنين الكائنة. والحق أن كلمة (أُريد) يجب ألا ينطق بها أحدٌ بعد! هكذا قال التنّين

فأية حاجةٍ لكم أيها الأخوة بأسد العقل؟ أفما يكفيكم الحيوان القوي الجليل الممنّع بامتناعه؟

من اعبث أن تطمحوا إلى خلق سنين جديدة، إن الأسد نفسه ليعجز عن هذا الخلق إذ لا يسعه إلا أن يستعد بتحرير نفسه لخلق جديد لأن قوته لن تتجاوز هذا الحد.

أيها الأخوة، إنّ العمل الذي تحتاجون فيه إلى الأسد إنما هو تحرير أنفسكم والوقوف ببطولة الامتناع في وجه كل شيء حتى وجه الواجب. ذلك أيها الأخوة هو العمل الذي تحتاجون إلى الأسد للقيام به.

إن الاستيلاء على حق إيجاد سنن جديدة يقضي بالجهاد العنيف على العقل الخشوع الصبور، ولا ريب أن في هذا الجهاد قسوة لا يتصف بها إلا الحيوانات المفترسة.

لقد كان العقل فيما مضى يتعشق كلمة (الواجب) كأنها أقدس حق له، وقد أصبح عليه الآن أن ينظر حتى إلى هذا الحق المفدّى فيراه توهماً واعتسافاً، ليتمكن بإرهاق عشقه أن يستولي على حرّيته وليس غير الأسد من يقوم بهذا الجهاد.

ولكن ما هو العمل الذي يقدر عليه الطفل بعد أن عجز الأسد عنه؟ ولماذا يجب أن يتحوّل الأسد المكتسح إلى طفل؟

ص: 43

ذلك لأن الطفل طهرٌ ونيسانٌ، لأنه تجديد ولَعِب وعجلة تدور على ذاتها فهو حركة البداية وعقيدةٌ مقدَّسة.

أجل أيها الأخوة إن العمل الإلهي للإبداع يستلزم عقيدة مقدسة، فأن العقل يطلب الآن إرادته، ومن فقد الدنيا يريد الآن أن يجد دنياه.

لقد ذكرت لكم تحولات العقل الثلاثة فأوضحت كيف استحال العقل جملاً وكيف استحال أسداً وكيف استحال أخيراً إلى طفل.

هكذا قال زارا، وكان في ذلك الحين مقيماً في مدينة اسمها البقرة العديدة الألوان.

منابر الفضيلة

وبلغ زارا خبر حكيم أطنب الناس في علمه ومقدرته في التكلم عن الكرى وعن الفضيلة فحبوه بالتكريم والتبجيل واتبعه عدد من الشبان أصبحوا دعامة لمنبره العالي، فذهب زارا وجلس معهم أمام المنبر مصغياً إلى الحكيم فكان يقول:

مجدوا الكرى وعظموه لأن له المقام الأول وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم ومن استحوذ عليهم الأرق.

إن اللص ليقف خاشعاً أمام الكرى فيدلج في الليل مخرساً وقع أقدامه ولكن الساهر المجازف لا يتورع عن حمل بوقه

ليس بالسهل أن يعرف الإنسان كيف يستسلم لسنة الكرى وليس إلا لمن عرف كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه.

يجب عليك أن تقاوم نفسك عشر مرات في النهار فتغنم خير التعب وتهيئ المخدر لروحك.

عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لأنه إذا كان في قهر النفس مرارة فأن في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك

عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلاتضطر إلى السعي وراءها في نومك فتبقى نفسك جائعة.

عليك أن تضحك عشر مرات في يومك لتكون مرحاً كيلا تزعجك معدتك في ليلك والمعدة بيت الداء.

قليل من يعرف هذا من الناس؛ ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إلا من حاز جميع الفضائل. فإذا

ص: 44

ما المرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا هو اشتهى خادمة قريبة فقد حرم وسائل الهناء في نومه

غير أن المرء يحتاج فوق فضائله إلى شيء آخر وهو أن يدفع إلى الرقاد بفضائله نفسها في الزمن المناسب.

إن من الفضائل من هي كالغإنيات المتجنيات، فأقم بينهن حائلا كيلا ينتهين إلى عراك تكون أنت ضحيته.

ليكن سلام بينك وبين ربك وبين الأقربين، فلا نوم هنئ بدون هذا السلام. وسالم شيطان جارك أيضاً لئلا يراودك في رقادك.

أكرم السلطة واخضع لها حتى ولو كانت هذا السلطة عرجاء. إن ذلك ما يقتضيه النوم الهنيء.

وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسير متعارجة.

إن خير الرعاة من يقود قطيعه إلى المروج الخضراء ذلك ما يقتضيه الرقاد الهنيء)

لا أطلب كثيراً من المجد ولا وفيراً من المال وكلاهما يؤدي إلى الاضطراب، ولكنّ المرء لا ينام هنيئاً ما لم يكن له شيء من الشهرة ولديه شيء من المال.

أفضّل أن يزورني القليل من الناس على أن يرتاد مسكني عشراء السوء، وهذا العدد القليل يجب عليه ألاّ يطيل السمر عندي لئلا يعكّر صفو رقادي.

تسرني مجالسة البلهاء لأنهم يجلبون النعاس؛ ولشدّ ما يغتبطون عندما نحبذّ حماقاتهم ونشهد بإصابتهم.

على هذه الوتيرة يقضي فضلاء الناس نهارهم. أما أنا فأنني إذا ما أمسى المساء أحترس من أن أراود النعاس لأنه سيد الفضائل ولا يرتاح إلى تحرش الساهرين.

وتحت جنح الظلام أستعرض ما فكّرت فيه وما فعلته في يومي فأنطوي على نفسي كالحيوان الصبور وأسائلها عما قهرت به أميالها عشر مرات وعما عقدت به الصلح مع ذاتها عشر مرات، وعن الحقائق العشر والمسرّات العشر التي أُفعمت بها

وبينما أكون مستغرقاً تهزني الأربعون خاطرة يستولي النعاس علي فجأة، وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه.

ص: 45

يشغل النعاس جفنيَّ فتغمضان، ويلمس فمي فيبقى مفتوحاً

إنه يدلف إليَّ كلص محبوب فيسرق أفكاري وأبقى أنا منتصباً كعمود من خشب، ثم لا تمر لحظات حتى أنطرح ممدداً على فراشي

وبعد أن أصغى زارا إلى هذه الأقوال يقرع الحكيم بها الأسماع تملك ضحكة وأشرق نور في جوانب نفسه فناجاه قائلا:

يترآى لي أن هذا الحكيم قد جُنّ كخواطره الأربعين.

ولكنه جد خبير بحالات الكرى. فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! لأن مثل هذا النعاس شديد الانتقال بالعدوى حتى إلى وراء الجدران.

إن شيئاً من السحر يفوح من منبره العالي، وما يجتمع هذا العدد من الشبان عبثاً حول خطيب الفضائل.

إن قاعدة هذا الحكيم إنما هي - اسهروا لتناموا - وفي الحقيقة لو لم يكن للحياة معناها فوجب أن اختار لها حكمة لا معنى لها لما كنت أجد أفضل من هذه القاعدة.

لقد أدركت الآن ما كان يطلب الناس قبل كل شيء عندما كانوا يفتشون على أوليات الفضائل؛ إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجلىَّ على مفرقها تاج المخدرات. وما كانت الحكمة في عرف حكماء المنابر، لقد نالوا الإعجاب والثناء إلا قاعدة النوم لا تقلقه الأحلام. إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من هذا المعنى للحياة.

وكم في أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ في دعوته إلى الفضيلة غير أنهم أقلَّ إخلاصاً منه. ولكن هذا الزمان يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرى يراود أفكارهم فهم عن قريب سيُمددون.

طوبى لمن دبَّ إلى عيونهم النعاس! إنهم عما قريب سيرقدون هكذا تكلم زارا.

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 46

‌بين أحضان الطبيعة

للشاعر السويسري جو تفريد كلر

أيتها الطبيعة المشرقة. انشري فوقي رداءك الأخضر الجميل وغني حولي بحفيف أشجارك الباسقة الناضرة.

وأيقظيني عند تباشير السحر المشرق، وفي بسمة الفجر المنير لقد تعبت روحي فذهبت ترفرف عليك حيرى واجفة

ونعست عيني أمام تلك العظمة وهذا الجلال!

فدعيني أحلم بلياليك الزاهرة.

إن وجهك كوجه الطفل في مهده

وأنت تتناجين بحفيف أزهارك التي بللت وجناتها دموع الحزن وجرت على خدِّها عبرات الأسى.

ولكنها ما تلبث أن تستردَّ نضارتها وبشاشتها من جمالك السحري.

إن قلبي مفعمٌ بالآلام والأشجان، ولكنها تتلاشى بين أحضانك الزاهرة، وتذوب في أجوائك الساحرة، فأعود كالطفل الطروب.

أيتها الطبيعة: أيتها الصديقة التي وهبتني إخلاصها الأبدي وشبابها الدائم الذي أحيا في قلبي ميت الأمل وضائع المنى

أنت قبلتي التي أؤمها، وكنفي الذي أستظل به

فإذا جاء يوم نسيتُ فيه وفاءك، ولم أوفِّك حقك من الإخلاص فاعلمي أني هبطت إلى الدرك الأدنى وأصبحت هائماً ذاهلاً. واعلمي أن قلبي قد أدمته الجراح فنسى كل شيء.

أيتها الطبيعة المشرقة! قفي بجانبي في معترك الحياة الزاخر وظلليني بحنانك، واشمليني بعنايتك، وارقبيني بنظرات الأمومة الحانية. وإذا دنت ساعتي وحانت منيتي فانشري فوقي رداءك الخضر الجميل.

ما أبهج الحياة والموت في أوديتك الساكنة!

أحمد فتحي مرسي

ص: 47

‌6 - تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

ترجمة حسن حبشي

الفصل الأول

وهكذا نجد بين التبابعة ملكة سبأ التي ذكرت مخاطراتها مع سليمان في السورة السابعة والعشرين من القرآن، وبالرغم من أن محمداً (ص) نفسه لم يشر إلى اسمها أو نسبها فان المفسرين اعتبروها بلقيس ابنة شراحيل (أو شرحبيل)

أما البطل الوطني الذي ورد ذكره في أسطورة عرب الجنوب فهو (تبع أسعد كامل) أو كما يسمى أحياناً (أبو كرب) الذي ما زالت ذكراه حتى اليوم - كما يقول فون كريمر - حية باقية، وما زالت روحه تكثر من الترداد على خرائب قصره في ظفار (وما من أحد يطالع قصيدة مخاطراته أو النصائح التي وجهها إلى أبنه حسان وهو مسجى على فراش الموت إلا اعتقد مضطراً أنه أمام شعر قصصي أصيل مستمد من الخرافات العربية الجنوبية التي ترجع أوليتها دون شك إلى عصر قديم جداً) وهأنذا أقدم للقارئ بعضاً من القصيدة التي يمكن تسميتها بقصيدة (الساحرات الثلاث)

الدهر يأتيك بالعجائب والأيا

مُ والدهر فيه معتبر

بينا ترى الشمل فيه مجتمعا

فرقه في صروفه القدر

لا ينفع المرء فيه حيلته

فيما سيلقاه لا ولا الحذر

إني زعيم بقصة (عجبٍ)

عندي لمن يستزيدها الخبر

يكون في الأسد مرّة رجل

تم له في ملوكه الخطر

مولده في قرى ظاهر هم

دان بتلك التي اسمها خمر

يقهر أصحابه على حدث الس

نِّ ويحقرهم فيحتقر

حتى إذا مكنته صولته

وليس يدري ما شانه البشر

أصبح في هيوم على وجل

وأهله غافلون ما شعروا

رأوا غلاماً بالأمس عندهم

أزرى لديهم بجهله الصغر

ص: 48

لا يفقدوه لا در درهم

لو علموا العلم فيه لافتخروا

حتى إذا أدركته روعته

بين ثلاث وثلاثة (!) حجروا

جاءت إليه الكبرى بأسقية

شتى وفي بعضها دم كدر

فقال هاتي أليَّ أشربها

قالت له: ذر فقال لا أذر

فناولته فما تورّع عن

أقصاه حتى أماده السكَر

فنهنهته الوسطى فنازلها

كأنه الليث هاجه الذّعر

قالت له هذه مراكبنا

فاركب فشر المركب الحمر

فقال (حقاً صدقت) ثم سما

فوق ضبيع قد زانه الضمر

فدق منه جنباً فغادره

فيه جراح منها به أثر

ثم أتته الصغرى تمرّضه

فوق الحشايا ودمعه دِرَر

فحال عنها بمضجع ضجر

ولا تساوي الوطاء والزعر

كان إذ ذاك بعد صرعته

من شدة الجهل تحته الإبر

قلن له لما رأين جرأته

أسَعْدُ أنت الذي لك الظفر

في كل ما وجهة يوجهها

وأنت يشفى بحربك البشر

وأنت للسيف والسنان وفي

الأبدان تبدو كأنها الشمر

وإنّ أنت المهريق كلّ دم

إذا ترامى (بشخصك) السفر

فارشد ولا تستكن في (خمر)

ورد ظفارا فأنها الظفر

فلست تلتذ عيشه أبداً

وللأعادي عين ولا أثر

نحن من الجن يا أبا كرب

يا تبعّ الخير هاجنا (الدغر)

فما بلونا فيك من تلف

عن عمد عين وأنت مصطبر

ثم أتى أهله فأخبرهم

بكل ما قد رأى فما اعتبروا

فسارعتهم من بعد تاسعة

إلى ظفار وشأنه (الفكر)

فحلّ فيها والدهر يرفعه

في عظم شأن وهو يشتمر

إنا وجدنا هذا يكون معاً

في علمنا والمليك مقتدر

فالحمد لله والبقاء له

كل إلى ذي الجلال مفتقر

ص: 49

وتجعل هذه القصيدة أسعد بطل حملة عظيمة إلى فارس حيث نازل القائد الذي أرسله إليه أحد ملوك العراق وقهره ثم انطلق إلى بحر قزوين، وفي طريق عودته اخترق الحجاز وإذ ذاك علم أن ابنه الذي خلّفه في المدينة قد قتل غيلة، فأقسم أن يكون ثأره من أهل تلك البلدة شديداً (وبينما كان تبع منهمكا في إعداد الغارة عليهم، وفد عليه حبران يهوديان من قريظة يتفجّر العلم منهما، فلما علما بعزمه قالا له: (أيها الملك لا تفعل فأنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة) فقال لهما: (ولم ذلك؟) فقالا: (هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره) فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علماً وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما). . . وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فتوجّه إلى مكة وهي في طريقه إلى اليمن، ثم أتاه نفر من هذيل قالوا له:(أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟) قال: (بلى) فقالوا: (أرسل إلى الحبرين) فأرسل إليهما وأخبرهما بما حدثه به الهذليون فقالا له: (ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك. ما نعلم بيتاً لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكنّ وليهلكنّ من معك) فسألهما ما يصنع إذا قدم عليه فأشارا عليه بأن يصنع ما يصنع أهله (تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له) فقال: (فما يمنعكما إنتما من ذلك؟. . .) قالا: (أما والله إنه لبيت إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده وهم نجس أهل شرك) فامتثل أمرهما وقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل. ثم لما دنا تبع من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا (لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا) فدعاهم إلى دينه، وقال:(إنه خير من دينكم) فقالوا: (فحاكمنا إلى النار) قال: (نعم)

وكان باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تنفر تأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قوم بأوثانهم وما يتقربون به من في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلّديها حتى قعدا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت

ص: 50

النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما فأصبحت عند ذلك حمير على دينه. فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن.

(يتبع)

ص: 51

‌من الأدب الإنكليزي

مرثية جراي

(تعد هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الإنكليزي، قرأها على صديقي الأستاذ حيدر الركابي فنقلتها إلى العربية كما فهمتها)(علي)

للأستاذ علي الطنطاوي

قُرع الناقوس ينعى النهار الآفل، وراح القطيع يزحف ببطء يتسلق الهضبة راجعاً إلى القرية؛ وعاد الفلاح إلى البيت يجر رجله تعباً. . . وبقى العالم لي وللظلام!

تدثر الكون بالسواد، وتوارى عن الأنظار، وسكنت الدنيا سكوناً مَهيباً، ولم يبق في الجو نامة تسمع، إلا هذه الأصوات العميقة تفيض بها الأودية البعيدة والشعاب النائية، وإلا طنين حشرة تطير، ونعيب بومٍ على تلك الدوحة، يشكو ظلم الناس وعدوانهم على وكره الآمن.

هنالك. . . عند تيك الشجرات القديمات، تحت تلك الرِّجام التي يزدحم عليها العشب، ويتكوَّمُ الكلأ. . . كان (أجداد القرية) ينامون إلى الأبد في حفرهم الضيِّقة، وأجداثهم العميقة.

لا يوقظهم نسيم الصباح الأرج، ولا تغريد البلبل الطَّرب ولا زقاء الديك المزهو، ولا زمّارة الراعي السعيد. . . كل ذلك لم يعد يوقظهم من رقدتهم.

لا. ولن توقد من أجلهم نيران المدافئ، ولن تقوم في خدمتهم ربات المنازل، ولن يهتف أطفالهم اللُّثغ فرحين بمقدمهم، ولن يتسلَّقوا ركبهم يستبقون إلى أحلى تمْنيةٍ لهم قبلة من آبائهم عند عودتهم إلى منازلهم وأهليهم.

كم كان المنجل العضب لسواعدهم، وكم كانت الأرض الصّلدة تشقق تحت معاولهم، والغابة القاسية كم لانت لضرباتهم.

كان عملهم مفيداً، وحياتهم مجدية، فلا يسخر الطموح من مسراتهم الهينة، وحياتهم المجهولة، ولا تستمع العظمة هازئة حديث الفقر، وقصته الساذجة القصيرة.

فان فخر القواد، وعظمة الأقوياء، وكل ما تمنحه الثروة، ويأتي به الجمال. . . كل ذلك ينتظر الساعة التي لا مفر منها، والغاية التي لا محيد عنها، لا فرق في ذلك بين عظيم وحقير، لأن طريق المجد لا ينتهي إلا إلى القبر!

ص: 52

فيأيها المغترون، لا تلوموا هؤلاء المساكين إن خلت قبورهم من نُصُب المجد، وتماثيل العظمة، على حين تتصاعد ألحان الثناء وأغاني المديح، من بين جدران المدافن الفخمة، وتحت أقبيتها المزخرفة.

لأن البخور المحروق، والتمثال المنحوت، لا يرد الروح على الميت الراقد، وهتاف الناس، وعجيج الجماهير، لا ينفخ الحياة في التراب الجامد، وهمس التملق، وهجس التزلف، لا يبلغ سمع الموت البارد!

ومن يدري؟ فلعلّ في بطن هذه البقعة المهجورة قلباً كان يمكن أن يفيض منه النور السماوي، ويداً كانت تدير دفّة المركب السياسي، وأصابع كان يمكن أن تمشي على أوتار القيثارة الخالدة فتنشئ النغم السحري. . . ٍلولا أن العلم لم يفتح أمامها صفحاته الحافلة بثمرات الزمان!

أخمد النسيان جذوة أرواحهم النبيلة، وأجمد نهر حياتهم الجارية، وطغا عليهم لج الزمان. . . ولكن، كم في جوف البحر من جواهر مخبوءة، ولآلئ مجهولة، وكم في عرض البادية، من وردة تفتحت واحمرت، فلم يرها أحد، فضاع أريجها المطر في رياح الصحراء.

ومن يدري؟ فلعل هنا بطلاً (كهامبتن) كان حاكماً في حقوله مطلقاً، وكان جباراً شجاعاً، ولعل هنا (ملتون) آخر، ولكنه صامت مغمور، ولعل هنا (كرموِل)، ولكنه كرموِل برئ من دم أبناء الوطن!

منعهم القدر من الاستمتاع بهتاف الجماهير، وتصفيق البرلمانات، ومنعهم من المغامرة، وركوب الأهوال، وازدراء المصاعب، واحتقار العقبات، ومنعهم من نثر الخيرات على بلادهم، وقراءة تأريخهم في عيون الشعب.

ولكن القدر لم يمنعهم مزاياهم وحدها وفضائلهم، بل منعهم رذائلهم أيضاً وجرائمهم. . . فلم يرتقوا العروش على الجماجم، ولم يسدوا أبواب الرحمة على البشر، ولم يخفوا حمرة العار والخجل، ولم يخفتوا صوت الضمير، ولم يعطروا معابد ترفهم واستكبارهم بالبخور الذي تحرقه (ربّة الشعر).

لقد اتبعوا طريقهم السوي في وادي الحياة المنعزل البارد، وساروا فيه صامتين، لم تتعلم أمانيهم القريبة، وشهواتهم البريئة الخروج بهم عن صفوف الشعب المناضل على الحياة،

ص: 53

المزاحم على البقاء.

ولكنهم - مع ذلك - لم تخل قبورهم، من أثر للذكرى ضئيل: شعور مكسور، ونقش محطوم، يستجدي المارة آهة العطف، وهمسة التقدير، ويحفظ عظامهم من أن تهان.

إن هذا الشعر - شعر الأميّة الساذجة - الذي ينطق بأسمائهم وأعمارهم، يقوم مقام التعظيم والتبجيل والرثاء، وينشر بين القبور نصوصاً مقدسة، تعلم المربين والمعلمين كيف يصمتون ويتعلمون.

وأي امرئ بلغ من خمول الذكر والهوان على الناس يترك الدفء والنور والسعادة من غير أن يلتفت إلى الوراء فيودع العالم بنظره. . . إن الروح الراحلة تريد أن تتكئ قبل رحيلها على صدر محب، والعين المغمضة تحتاج قبل إغماضها إلى دموع الإخلاص. . . بل إن صراخ الحياة لينبعث من صميم القبر فيضرم نارها في رمادنا البارد.

وبعد، فيأيها الشاعر الذي يقوم في المقابر، ويندب الموتى المنسيين، إني لألتفت الآن إليك، فأرى رجلاً مثلك، شاعراً هائماً، قد جاء يبحث عما حلّ بك، وانتهى إليه مطافك، فوجد فلاحاً هرماً فسأله عنك، فقال له:

لقد طالما رأيناه عند انبلاج الفجر، يسرع الخطو ليستقبل الشمس من ذروة الهضبة.

وطالما لمحناه في الظهيرة متمدداً بجسمه المنهوك على أقدام تلك الشجرة الهرمة، وفوق جذورها البادية العجيبة يرقب الجدول الذي ينساب إلى جانبه، ويتأمل أمواهه الهادرة المتكسرة، وطالما أبصرناه هائماً على وجهه بالقرب من هذه الغاية باسماً آناً كأنه ساخر من كل شيء، وآناً عابساً كئيباً كأنه مضني هدته الآلام، وأم مريض قتله الحب اليائس.

وفي ذات صباح، نظرنا إلى الهضبة فلم نجده، فبحثنا عنه في الذروة، وعند الشجرة، والى جانب الجدول، وبالقرب من الغابة فلم نقع له على أثر.

ثم رأينا شاعراً آخر يحتل مكانه.

ثم رأينا بعد نعشه محمولاً إلى المقبرة، ترتل من حوله أناشيد الموت.

وهاهو ذا قبره، قائم تحت تلك الشجرة التي كان يجلس إليها، فتعال اقترب. . . اقرأ ما عليه:

(هنا. . . في حضن الأرض، يرقد شاب تجهله الثروة ولا يدري به المجد، ولا يعرفه إلا

ص: 54

الحزن الذي اصطفاه خليلاً وهو في المهد

كان كريماً مخلصاً، فكانت مكافأته عظيمة؛ منح البائسين كل ما يملك: وهو دمعه! ومنحه الله كل ما يطلب: وهو صديق

لم يحب أن يفيض في ذكر مزاياه أكثر مما أفاض، ولم يشأ أن يهتك الستر عن نقائصه، لأنه أودعها كلّها أمانة في قلب أبيه، وعند ربه. . .)

علي الطنطاوي

ص: 55

‌من شعر المناسبة

إلى زعيم الأمة الأكبر

للدكتور أحمد زكي أبو شادي

تقبَّلْ من الدُّنيا العُلى والتهانئَا

وعش هانئاً يا جاعل الشعب هانئا

وهيهات أن تنسى أياديك أمة

درأتَ الرَّدى عنها، ومازلت دارئا

أننسى أعاصيرَ السنين التي مضت

وإن كنت مَنْ لاقى الأعاصير هازئا

أننسى جبال الموج حتى كأننا

غرقنا، فلم تيأس ونلت الشواطئا

معاذ الوفاءُ اليوم تنسى قلوبُنا

فكل فؤادٍ كان عندك لاجئا

وقد كنت للمجد المقدَّس قارئاً

فأصبحت أنت اليوم وحيا وقارئا

لئن عرفَ الشاني بنصرك حقدهُ

فكلُّ عظيمٍ ليس يعدم شانئا

وما عرف الشاني المآثر تبتني

وغايتُه للشرّ يعملُ ذارئا

صبرت ولكن في جهادٍ مُضاعف

وفُزْت ولكن عُدت للجهد بادئا

وما القدوة المثلى سواك، وحسبنا

هداك، وما يرضى هداك الممالئا

ليصخب كما يرضى هواه، فللورى

عقولٌ ترى الحسنى وتدري المساوئا

رميت بأقوى حُجة بعد حُجةٍ

ويُضحكني من جاء بالوهم لاتئا

ولو نحن نقبنا وَجدناه دائماً

تذبذب حتى ضيع العُمر صائبا

فسِمناه في هذا التهافت ساخراً

وَشمناه في هذا التحرُّق طارئا

تقدم زعيم الشعب للفتح ثانيا

وَنظم شؤون الحكم سمحا وواضئا

وَجُدْ بغنى الدستور حريةً لنا

فقد مات عهد كان للحر رازئَا

وَدُسْ كلً أفعى في سبيل كماله

فكم دُست من قبل الغنى واللآلئَا

وَكم قد بذلت التضحيات لأجله

وَمازلت من حبِّ المنافع بارئا

فأهلاً بمن يغلو بنقدك عامداً

وإن فضح الإسرافُ ما كان غابئَا

ستروى له الأيام حزمك خالقا

مدَى العدْل وَالحكم المنزه كالئا

لئن كان طفلاً فهو باسمك ناشئٌ

وَحبك كم قد صيَّر الطفل ناشئا

كأنك قد أنجبت جيلاً مؤخراً

وَإن لم تكن بالخير وَالعدل ناسئا

ص: 56

كأنك قد أبدعت جيشك غازيا

وَأسطولك النامي يجوب الموانئا

سنلقى وَيلقي أمةً شع نورها

وَقد كان من فرط التحزب طافئا

وجواً طليقا بالتسامح عابقا

ونبعا سريا ليس يُرجع ظامئا

وفكراً أبيّاً منجبا نفع قومه

وَقد كان مدفونا فأصبح ناتئا

وَأنك أهلٌ أن تناظر مصلحا

سميَّك، لا تحيي بلادك جازئا

تحديت في الماضي المصاعب هادئا

كذلك في الآتي ستلقاك هادئا

(الإسكندرية)

أحمد زكي أبو شادي

ص: 57

‌ذكرى شهيد كلية الآداب

للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير

في مثل هذا اليوم ثرَّ دمُ

تبكي البلاد له ويبتسم

جذلان يمضي للخلود، ولا

يلوي به أسف ولا ندم

خَلَع الشبابَ على نضارته

لِشباب مجدٍ ما له هَرَمُ

خَلَع الشبابَ، فويح رَيقِّهِ

لم توفَ منه للهوى ذِمم!

عينانِ ناعستانِ ترقبُه

ويدان في لطف النَّدى، وفمُ

كانت ترى فيه لها حُلُماً

فَصَحَتْ ولما ينقضِ الحُلُم!

ونوازع للشِّعر جائشة

تهفو عليه أسىً وتضطرم

قد كان يذخره ليُجلِسَه

يوماً بحيث تألّقُ النُّجُمُ

قد كان يأمل أن يتمَّ به

للضّاد ما ترنو له الأُمم

حتى دعا وطنٌ فخفَّ له

شيحانُ في عرنينه شَمم

مِصْرٌ؛ وأيّ فتىً تُهيب به

مصر فليس جوابَهُ (نعم!)

نسى المُنى والأهلَ واحتشدت

في قلبه العزماتُ والهِمم

هذا الحِمى نَهْب يعيث به

خصمٌ ألدْ وطامع نَهمُ!

جاثٍ على الوادي ينوء به

ويضيقُ من أنفاسه الكَظَمُ

أتظلّ مصرٌ تحت كلكله!

أيُهان شَعب كله كرم؟

أتداس للوادي كرامته؟

أيُصان من غدروا ومن ظلموا؟

هلا فتىً يسخو بمهجته!

هلاً فتى للعزّ ينتقم!

وهناك صاح دمٌ تردّد في ال

وادي فلبَّاه دمٌ فدم!!

أصغى له (الطاغي) وقبل شكا ال

شاكي فلم يُسمع له كلمُ

لا يُسمِعُ الخطباءُ مظلمةً

ما يُسمِعُ الدّمُ من به صمم!

يا مصر لم يف غيرَ واجبه

مُستَشْهَدٌ لعُلاك ينتقم

أنت الكنانة أرضها ذهب

تنمي الفنون، وماؤها شم

وعلى سمائكِ صحو عاشقة

هبت سُحيراً وهي تبتسم

ص: 58

ترعى (الجزيرةٌ) فيك نهضتها

وبحبل ودٍّ منك تعتصم

قد تأملين فكلها أمل

أو تألمين فكلّها ألم

ما تنقلين لسؤددٍ قدماً

إلا وتقفوها لها قدم

فاستقبلي (العهد الجديد) بما

تجلى به عن أفقك الظلم

قوى عتاد الجيش تحترمي

فالجيش دون الحق يحترم!

إنا لفي زمن يسود به

بين الشُّعوب الفاتك الحُطم

السيف يخطب فيه مرتجلاً

في العالمين، ويهمس القلم!

بدأ الجهاد اليوم - إذ فرغت

من قدحِه كفّاك - يحتدم!

دون المرام مصاعبٌ غُلُبٌ

لكنها بالعزم تُقْتحم

وبنوكِ عزموا الخلاص ولن

تقف الرواسي دون ما عزموا!

آمنت أنّهُم بما اتحدوا

غُلبُ الأسود وأنكِ الأجم

شهداء مصر لَيَهنكم نُزُلٌ

بجوار (سعد) يحوطه العِظم

أقسمتم بشراء أنفسكم

في حب مصر فبورك القسم

ولتحيَ (مصرُ) ويحيَ (عاهلها)

و (زعيمها) و (النيل) و (العلَم)

علي أحمد باكثير

ص: 59

‌القصص

أقصوصة وصفية

سائق القطار

للأديب محمود البدوي

(تشرب. . .؟)

(لا. . . وأشكرك. . .)

فانحنى مساعد السائق، ووضع القلة الفخارية المفحمة في ركن من القاطرة، وانتصب وهو يمسح بيده الماء السائل من جانبي فمه، وتحول إلى النافذة وقال بعد أن لمح نور إحدى القرى:

(الفكرية؟)

(آه. . . . . .)

(. . . . . . . . .)

(فحم. . .)

ففتح المساعد باب الفرن المستدير، ورمق النار وهي تتضرم وتلتهب، وطالعه وهجها وسعيرها، فارتد عنها وأمسك بمجراف الفحم وقوس ظهره وغيب طرف المجراف في المخزن، ثم استدار وتقدم خطوة وعينه على الباب، ورمى النار بالوقود، فخمدت جذوتها وتلوت ودخنت، ثم شبت وامتدت ألسنتها على الحديد والتصقت بجدران الفرن، ودارت على جوانبها وسقفها، وزادها تيار الهواء ضراماً وسعيراً. . . ورمى المساعد النار بمجراف آخر، ثم رقبها لحظة، وكأنه شعر بحاجتها إلى المزيد فرماها بمجرافين معاً، وضم الباب بيده، ونصب قامته ويده على مقبض المجراف، وطرف كمه الممزق يمسح العرق المتصبب الملوث بغبار الفحم وقطرات الزيت، ونزلت يده على جنبه وتنفس وقال في صوت هادئ تشوبه بعض المرارة:

(كل شيء تغير في هذه الدنيا بعد الحرب. . . حتى الفحم)

فسأل السائق وعينه على الطريق وظهره إلى مساعده:

ص: 60

(لماذا. . .؟)

فقال المساعد في حماسة غير منتظرة وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق:

(كان الفحم قوالب ضخمة. . . كارديف. . . وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها. . كنا ننزل القالب في حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه، ومثلها على جنبه، فيتهشم ويتناثر، فننضحه بالماء، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة في النار وننام على حسه!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه. .)

فتحول إليه السائق بجانب وجهه، وبصره لا يزال عالقاً بالقضيب، وقال باسماً في خبث:

(تعبت. . .؟)

(تعبت!! لا يزال نور (المنيا) بادياً. . رحم الله أيام الشباب، كنا نعمل في الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفاً على الأقدام ولا نفكر حتى في الطعام. كان أحسن الله إليه. . .)

وحبس سيل الكلام بعد أن بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار. . وسأله:

(59؟. .)

(8. . . .)

ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك (بالاسطبة) وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة؛ ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلاً، ففعل، وهب البخار القوي من بوق القاطرة وهو يئز وينش وطار مع التيار، ولما قفل المساعد المحبس ثانية رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة، فعبس وكشر، وصمت محنقاً، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق!

وكان السائق واقفاً عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق، وهو يدخن؛ وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ودرجة البخار ومقياس الطريق، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة، ويده في سرواله الأزرق، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوي البارز، وعلى كتفيه وفي طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح. وكان في وقفته ساكن الملامح، هادئ النفس، ثابت الجوارح، راسخ القدم، فعل الواثق من نفسه وعمله؛ وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح في

ص: 61

ذلك.

أما المساعد فقد ما بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن وانطلق يدفع الدخان ويفكر، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه في حلته الزرقاء. ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق، انتصب المساعد وحدجه بطرفه، وتحول إلى ظله الجاري على الأرض، وأنعم فيه النظر في سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات فرفع وجهه، وكان السائق قد انحنى عليه وفي فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه، وقد تلاقت عينا الرجلين واختلطت أنفاسهما، ونظر المساعد في حدة إلى عيني صاحبه العميقتين السوداوين ذواتي البريق العجيب، والى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل. . وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته؛ شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى فتحسر وتقبض، ولما أرتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه، ويقارن بين جسمه القوي المصبوب، وبين نفسه، وهو الناحل الضامر المعروق. وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض في مخيلته عمل كل منهما، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد. . . وأنطلق يحدث نفسه:

(ما الذي يفعله هذا السائق. . يحرك القطار في المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار. . ويمضي معظم الليل واضعاً يده في جيوبه يدخن، ويتلهى بالنظر إلى الطريق، وكل ما يعمله هو عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق. . وبعض الأحيان بتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة!! ثم بعد هذا كله يلقي الأوامر: غذِّ النار. . ندِّ الفحم. . زّيت الآلات. . أما أنا فأظل الليل طوله واقفاً على باب جهنم، أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت، حتى يلمع ويصقل، وجسمي عليه ضعف قاذوراته.

وإذا وقف القطار في المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيّت العدد الصغيرة والمفاصل والدوافع والجواذب وأمسح معدن الذراع، فحتى هذا يجب أن يكون لامعاً!. وإذا ملأنا الماء طوقت الخرطوم بذراعي ودفعته عن الخزان بجسمي فيصيبني

ص: 62

هاطله ويزيدني بلاء على بلائي. . . هذا هو عملي وعمله، ومع هذا فأجره ضعف أجري ويزيد، وأوقات فراغي وراحتي ليست كأوقات فراغه وراحته. . . وامرأته عاقر وامرأتي تجيء في كل عام بمولود سعيد!! وأولادي من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملئوا البطون بالطعام والسماء لا تجيب! وهو فارع قوي مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب، وأنا قميء ناحل معروق تقوست قناتي، وشابت شياتي، وأضحت جلدتي تتخدد. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عني. . . ومن يدري؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب في ذلك، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعفاء المرضى المناكيد، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا، واتقت شرنا، وأحنت لنا الرأس فسرنا في مسالكها شامخين. . .)

(فحم. . . . . .)

فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان؛ وفتح باب الفرن وأقبل على النار يغذيها بالوقود وهو صامت صابر.

عندما جاز القطار محطة (ملوي) كان الليل قد انتصف واعتدل الجو، وهب النسيم العليل من جنبات الوادي الخصيب، فأثر هذا الجو الرخي المنعش على خواطر المساعد، فخف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه، ووقف ينصت لدوي القطار وهو ينهب الأرض ويطوي القرى والدساكر، وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام في جوفه، حتى بدت صامتة موحشة رهيبة، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه، يثرثر معه في أي موضوع، ويتكلم عن أي شيء، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية، فما كان يعنيه هذا، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه. . . . وفتح فمه ثم أطبقه، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن في أذنيه التيار الشديد، وسفي في وجهه الغبار وجرى على وجهه دخان الفحم، وسمع صفير قطار من بعيد فبقى في مكانه ليحيي السائق إن أمكن.! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان، فقال المساعد: وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة

ص: 63

(367. .؟)

(نعم. . .)

(من الأقصر. . .؟)

(آه. . وخزن في أسيوط. . .)

(توفيق شاكر. . .؟)

فهز السائق رأسه موافقاً، وصمت المساعد لحظة كأنما يستعرض في ذهنه صوراً باهتة يحاول بروزها ووضوحها وغير من نبرات صوته وهو يقول:

(كان سائقاً للقطار 72. . . أنزلوه. . . بعض الأحيان تتحكم الأقدار. . .)

فلم يقل السائق شيئاً وأخذ يتمثل في مخيلته صورة حادث توفيق كما سمعه من رفاقه. . . ثم وضع يده على جبينه يتفرس في الطريق، يستشف الحجب، ما وراء الغيب، ما في بطن الأقدار فقال المساعد وقد طاب له أن يجد ما يتحدث فيه:

(كان خارجاً من ورشة سوهاج. . . ليوصل القطار إلى الأقصر. . . كانت السرعة أكثر من اللازم، وكان العامل يتخطى القضبان. . . توفيق نفسه لا يدري كيف مات الرجل. . شهد عليه عامل (البلوك) و (اثنان من الخفراء)

فقال السائق وقد حز في نفسه الأسى على صاحبه

(سيئ الحظ. . . وكان عليه أن يحاذر)

فقال المساعد بصوت وإن:

(يولد كثير من الناس ليموتوا تحت العجلات. . . فما الذي يدفعه الحذر والسائق والكشاف ونور الكشاف؟ مرت على المرء كثير من الحوادث العجيبة التي تبعث على الدهشة والتفكير العميق. . . كنا قد بعدنا عن ديروط وفلاح مسكين، على جملة، ينتظر مرور القطار، ومر القطار وفزع الجمل، ورمى الرجل تحت العجلات. قد يكون مر على هذا الجمل مائة قطار وهو ساكن ثابت ولكنه جفل في هذه المرة لسبب لا نفهمه.)

فقال السائق وقد بدت على وجهه البشاشة:

(ولكن إذا كان الفلاح قد رد الجمل عن الحديد الممر وبعد به عن الشريط أكان يموت؟)

(كان لا يستطيع في تلك الساعة أن يفعل ذلك. . . كان لا بد من أن يموت فمات)

ص: 64

ومر القطار على حقل كبير من القطن وقد تفتح ونوَّر فتحول المساعد إلى الحقل وراقب السائق مقياس الطريق لحظات ثم أدار المحرك إلى اليسار قليلاً، فقد بدأ الوادي ينحني والشريط يدور، وكان يعرف هذه الطريق أكثر من موضع أنفه من وجهه، وهدأت حركة الآلات نوعاً، ثم أرجع المحرك إلى مكانه بعد ثوان، وارتد عن النافذة ووقف أمام الفرن، وطرفه على الساعة والمقياس، واستمر هكذا مدة، ثم أدار المحرك إلى اليسار مرة أخرى في شدة حتى تعدى الكثير من الدرجات، فقد وصل القطار إلى طريق مرمم واهن لا تزال تجري عليه أيدي العمال في النهار. . ودار بخلده أن أحد العمال قد يكون ترك سهواً بعض الأدوات الحديدية على الشريط، فمد بصره إلى نهاية نور الكشافة وثبت نظره على حديد القضبان. . . وفكر في نفسه أنه بعد نصف ساعة وستمائة سيدخل محطة أسيوط؛ وسره هذا كما سره خروجه منتصراً من الطريق المرمم. . وبعد أن لمح المقياس أدار المحرك بالتدريج إلى اليمين، إلى نهاية ما تتحمله أرض النيل السعيد! وكان يود أن يعوض بتلك السرعة الجارفة ما قضاه وهو سائر ببطء على الطريق الواهن. . وانطلق القطار كالسهم يطوى القرى ويزلزل تحته الأرض.

وقال المساعد:

(النيل عال. . وشديد)

فقال السائق وقد تحول بوجهه إلى النيل فرأى بعض المراكب الشراعية تسير مغالبة التيار.

(أتخاف أن تتقطع الجسور؟)

(لا. . . جسور القطارات هي آخر من يصيبه الأذى دائماً!)

وبقى نظر السائق ثابتاً على النيل وقد راقه هول الليل عند الأفق البعيد.

وأطل المساعد من النافذة وبصره على الأرض الجارية. . .

وخيم صمت عميق.

وقال المساعد بعد دقائق بصوت يرتعش:

(رجل. . .)

(ماذا. .؟؟؟)

ص: 65

(رجل تحت. . الـ. . .)

فتلفت السائق في سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب في غمرة الليل. . فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار في حذر شديد. . . وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه. . . ثم حبس البخار. . . وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد وقد أجبرت على البطء على غير انتظار، ووقف وروحه تثور ونفسه حانقة ساخطة.

كان يود أن يدخل محطة أسيوط في الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين. . . منذ خمس سنوات لم يتأخر في حياته مرة. . . مرة واحدة. . . كان دائماً يحاذي الرصيف وعقرب الثواني على الستين. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالي على الأخوان، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو العارف بأنه المسيطر على الحديد والنار. كان إذا تأخر في أثناء الطريق يغذي النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة في ميعاده. . . ولكنه الآن سيتأخر لأول مرة في حياته كسائق سيتأخر. . . سيتأخر. . . لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثاً. . . بل أكثر من ذلك. شعر بنفسه تذوب حسرات، أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول. . . كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات (البستون). . . تدوي في أذنيه كالطاحون البالية، كالمدافع المنطلقة على غير هدى في وادي التيه. أحس بدمه يفور. . . وروحه تثور حتى عقدت جبينه السحب. . ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه. . . أي مأفون هذا الرجل الذي عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة. . .؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه، وطحنته العجلات، وجرى دمه مع الزيت فتفطر قلبه على الرجل المسكين. . . ووقف تتملكه أعصابه الحديدية. صامتاً. . . حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطيل، والبخار ينش ويئز، والذراع يغالب ويجاهد، ويطوح بنفسه في ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر.

ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوي عند العجلات الأمامية ثم يتراجع

ص: 66

خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط، وكان لصوت قدميه دوي مسموع في الليل الساكن، وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على (الاسطبة) الملوثة بالزيت القذر، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه:

(لا شيء. . .؟)

(لا شيء في العجلات الأمامية، وإنما أثر الدم واضح في التروس الخلفية التي أخذ عندها الرجل، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام. . .)

فصمت المساعد وكأنه يفكر، ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذي في يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعاً لهبات الرياح. . وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ولوث الكثير من جسمه، فمسح الرجل الزيت في سرواله، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه، واستدار ومد بصره وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ووجوههم إلى الخلف، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع (الكمساري) وحولهما بعض الناس.

واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برايته، فقال لمساعده:

(اطلع. . .)

فطلع المساعد إلى القاطرة ووضع المزيتة جانباً، وبعد السائق عن النافذة الجانبية ووقف أمام الآلة يحدق في الساعة، ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة في بطء وثقل شديد، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التي خلفها على الفارغ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ في سرعة وجنون، وزفر القطار وأز البخار ونش، وشال الذراع وحط، وتحركت العجلات الأمامية ولامست العجلات التي خلفها القضبان، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح. . . تقدم القطار في بطء وحزن من غير صفير!

محمود البدوي

ص: 67

‌البريد الأدبي

وفاة عميد الموسيقى الإنكليزية

نعت إلينا الأنباء الأخيرة السير ادوارد جيرمان عميد الموسيقى الإنكليزية توفى في الرابعة والسبعين من عمره بعد حياة موسيقية حافلة، وكان مولده في ستروبشير في سنة 1862، وتخرج من أكاديمية الموسيقى الملكية، وظهر لأول مرة بقطعته الأوبريت المسماة (الشعراء المتنافسون) وفي سنة 1889 عين السير جيرمان مديراً للموسيقى في مسرح جلوب بلندن؛ وفي نفس العام وضع تلحينه لرواية رتشارد الثالث لشكسبير؛ ثم أتبعه تلحين عدة روايات أخرى من روايات الشاعر الكبير مثل هنري الثامن وروميو وجولييت؛ وكما تحب، وهملت وغيرها. ووضع السير جيرمان قطعاً موسيقية مستقلة نالت نجاحا عظيما؛ واشتهر بحفلاته الموسيقية الرائعة في أواخر القرن الماضي، كما اشتهر اشتراوس في فينا. وله عدة مقطوعات موسيقية شهيرة مثل (الجزيرة الخضراء) التي وضعها لسوليفان؛ وإنكلترا المرحة؛ وأميرة كنسنجتون وغيرها؛ وألف كبلنج مجموعة غنائية شهيرة عنوانها وهو الذي وضع نشيد التتويج للملك جورج الخامس، وعزف أثناء تتويجه في سنة 1911.

ومن مؤلفاته أيضاً مجموعة كثيرة من الأناشيد والأغاني؛ وهو كثير الشبه في أسلوبه بأسلوب سوليفان، بيد أنه يسبغ عليه من ابتكاره طابعاً خاصاً؛ ويتجه بنوع خاص إلى الروح الإنكليزية القديمة.

كتاب عن النيل لأميل لودفيج

ظهر أخيراً في لندن كتاب جديد للمؤرخ الألماني الشهير أميل كون المشهور في عالم التأليف بأميل لودفيج؛ وهو كتابه الموعود عن (نهر النيل). وكان لودفيج يشتغل بتصنيف هذا الكتاب منذ عدة أعوام؛ وقد خطرت له فكرة تأليفه مذ زار مصر والسودان في سنة 1929، وأثرت فيه مناظر النيل وروعته الخالدة. وعرض لودفيج فكرته على المغفور له الملك فؤاد فأولاه كل عطف وتشجيع، ولقي من جانب السلطات كل معونة في الوقوف على ما أراد من المعلومات، ومراجعة ما شاء من المستندات. ولودفيج مؤرخ بالفطرة، وليس بعالم جغرافي، ولكنه لم يجعل من كتابه عن (النيل) بحثاً جغرافياً جامداً؛ وإنما اتبع في وصف النيل ومناظره ووديانه وفيضانه نفس الأسلوب الذي يتبعه في كتابه التأريخ، فكما

ص: 69

أنه لا يعني في ترجمة الأشخاص بالحوادث العامة قدر عنايته بالحوادث والصور الخاصة وقراءة الأفكار والمشاعر من الأعمال والتصرفات الشخصية، فكذلك قد عني بأن يبرز من النيل شخصيته المعنوية الرائعة وما يرتبط بها من الصور والأفكار التي ترجع إلى غابر العصور، وتسبغ على النيل طابعاً من العظمة الخالدة. وكتاب لودفيج شعري ووصفي أكثر منه جغرافياً، وإن كان المؤلف لم يهمل تقديم المعلومات الجغرافية الكافية. وقد صدر كتاب لودفيج بالإنكليزية لأول مرة، ولم يصدر بالألمانية، لأن لودفيج من الكتاب اليهود الألمان الذين شردتهم ألمانيا الهتلرية، ونزعت منهم كل حقوق الطبع والنشر في ألمانيا، وحرمت دخول كتبهم في الأراضي الألمانية، ولذلك يصدرون اليوم كتبهم في لندن وباريس وامستردام، تارة بالألمانية وغالباً بالإنكليزية أو الفرنسية.

وفاة مشترع نمسوي

من أنباء النمسا أن الدكتور يوسف ردلنج المشترع النمسوي الكبير قد توفى في التاسعة والستين من عمره؛ وقد كان الدكتور ردلنج حجة في المسائل القانونية والإدارية وخصوصاً ما كان منها ذا صفة دولية؛ وكان حتى وفاته عضواً في محكمة العدل الدولية الدائمة؛ وكان أيضاً من أقطاب الساسة النمسويين في أواخر عهد الإمبراطورية، وقد شغل منصب وزير المالية في آخر وزارة للإمبراطور كارل؛ ثم تولى الوزارة مرة أخرى في سنة 1931. ومنذ سنة 1926 يشغل منصب أستاذ القانون العام في جامعة هارفرد.

وللدكتور ردلينج عدة مؤلفات قانونية شهيرة منها كتاب عن إجراءات مجلس العموم البريطاني، وكتاب آخر عن الحكومات المحلية الإنكليزية؛ وهما من أحسن الكتب في موضوعيها.

صورة حية للإنسان الأول

نشرت صحف هلسنجفور نبأ غريباً عن عثور بعثة للصيد على مخلوق مدهش نصفه قرد ونصفه إنسان في بعض إحراج ريغا عاصمة لاتافيا. وتفصيل النبأ أن بعثة صيد كانت تجوس خلال إحدى الغابات الكبيرة في تلك المنطقة، فلحظ بعض أفرادها ذلك المخلوق جاثماً عند ساق شجرة؛ فلما اقتربوا منه فر هارباً، وتسلق أحد الأغصان المدلاة، وصعد إلى

ص: 70

أعلى الشجرة برشاقة مدهشة؛ فصوب أحد الصيادين بندقيته إليه وأطلق النار عليه فصاح المخلوق صيحة مزعجة؛ وسقط على الأرض مضرجاً بدمه. ولما قبض الصيادون عليه وجدوه مخلوقاً عارياً وقد نما الشعر في جسمه حتى غطاه. فحملوه إلى القرية القريبة، وهنالك تبين أن هذا المخلوق كان عاملاً في إحدى المزارع، وقد فر منها منذ بضعة أعوام ولم يظهر له أثر بعد.

ولا يستطيع هذا الإنسان القرد أن يتكلم، كما أنه لا يفهم ما يقال له؛ ولكنه يصيح سروراً حينما يقدم إليه اللحم والفاكهة.

وقد أثار هذا الاكتشاف الغريب اهتماماً خاصاً في الدوائر العلمية؛ ويرى بعض الباحثين أن اكتشاف مثل هذا المخلوق يدلل بصورة حية على الصلة القوية التي توجد بين الإنسان وبين بعض أنواع القردة، وهي صلة يدلل عليها العلامة داروين في كتابه (أصول الأنواع)؛ ثم إن منظر هذا المخلوق يذكرنا بالإنسان الأول في أطوار هجميته الأولى في عصور ما قبل التأريخ.

أسرار المجتمع الألباني

ألبانيا من البلاد البلقانية القديمة، ولكنها مازالت غارقة في غمار الماضي، ولا يعرف عن حياتها الداخلية سوى القليل، وقد رأى كاتب صحفي إنكليزي معروف هو مستر برنارد نيومانعاش في ألبانيا أعواماً طويلة أن يضع كتاباً عما شهده ووقف عليه من أسرار هذه البلاد المجهولة؛ وأخرج كتابه أخيراً بعنوان (باب ألبانيا الخلفي) ويقول المؤلف إنه دخل ألبانيا من بابها الخلفي فوجدها بلاداً لا فن فيها ولا موسيقى ولا آداب، ولكنه وجد فيها شعباً يرتبط أفراده فيما بينهم بكلمة اللسان فقط. ومن المأثور في تلك البلاد أنه إذا توفى شخص فأن الناس لا يسألون عن سبب وفاته، ولكن يسألون عمن قتله؟ ذلك لأن مبدأ الثأر لا يزال يسود جميع الطبقات والأسر، ولا يهدأ بال إنسان حتى يقتل خصمه؛ وكل فرد في قبيلة يحمل بندقية. ويقول لنا المؤلف أيضاً إنه عقد عهد الأخوة الدموية مع ألباني، ووجد أن أهم آثاره ينحصر في احترام الأخوين كل لحياة صاحبه. وقد طاف مستر نيومان في جميع أرجاء ألبانيا بعجلته التي كانت مثار الدهشة، ولقي في كل مكان حفاوة ودية بالغة، واستطاع خلال طوافه وإقامته العديدة بين مختلف الطوائف والطبقات أن ينفذ إلى الروح

ص: 71

الألبانية، وأن يعرف كثيرا عن أخلاق هذا الشعب وعاداته وتقاليده. ولكتابه قيمة تاريخية واجتماعية كبرى، ومعظم الكتاب الذين كتبوا عن ألبانيا في العهد الأخير يقصرون عنايتهم على مسائلها السياسية والاقتصادية، ولكن مستر نيومان لا تعنيه هذه المسائل، وإنما يحصر جهده في المسائل الاجتماعية والأخلاقية.

كيف يعامل الكتاب في ألمانية النازية

أضحت ألمانيا جحيم الكتاب الأحرار من كل لون وكل أمة؛ وقد هجرها جميع كتابها ومفكريها الأحرار مذ عصفت بها ريح الطغيان الحالية؛ ولكن ألمانيا النازية وما زالت تضيق ذرعاً حتى بالضيوف إذا كانوا أحراراً؛ فقد روت بعض الصحف السويدية أن الكاتب الروسي الكبير ايفان بونين الذي أحرز جائزة نوبل في الآداب مند عامين، قد عومل في ألمانيا عند زيارته لها معاملة سيئة، وأنه قبض عليه وعذب في سجن (الجستابو):(سجن البوليس السري اللسيسي)؛ وكان بونين يقوم بزيارة عادية لمدينة لانداو في جبال الألب طلباً للراحة والنزهة، ولكن بونين معروف بأنه كاتب حر، وأنه حمل في بعض كتاباته على النظم الطاغية التي تسود ألمانيا في الوقت الحاضر؛ ومع انه من الروس البيض (خصوم البلاشفة) فان مجرد كونه انتقد ذات يوم نظم النازي كان سبباً في القبض عليه وتعذيبه. وقد أثارت كتابات الصحف السويدية عن هذا الحادث الرأي العام الدولي، فبادرت وزارة الدعاية الألمانية إلى إنكاره، ولكنها سلمت بأن إيفان بونين كان أثناء زيارته لألمانيا موضوعاً تحت الرقابة السياسية!

حول مباراة المولد النبوي

تناولت الصحف في الأيام الأخيرة موضوع مباراة المولد النبوي وما انتهت إليه باختيار رسالة الأستاذ عبد الله عفيفي - على الرغم مما فيها من العيوب التي اضطرت الوزارة إزاءها أن تمنحه نصف المكافأة - وأشارت بعض الصحف إذ ذاك إلى أن اللجنة التي ألفت من هيئة كبار العلماء لفحص الرسائل التي تقدم بها 133 كاتباً من مصر والقطار العربية، كانت قد اختارت من مجموعها ثلاث رسائل إحداها رسالة الأستاذ عفيفي، وطلبت هذه الصحف إلى الوزارة بهذه المناسبة أن تقسم النصف الثاني من المكافأة بين صاحبي

ص: 72

الرسالتين الثانية والثالثة تقديراً لما بذلا من جهد، وتحقيقاً لبعض ما علقا من آمال، وإنفاقا لهذا المبلغ في الناحية التي أرصد لها، ولأن الاقتصار على مكافأة واحدة في مباراة كهذه فيه شيء كثير من الغبن وتثبيط الهمم لا يتفق مع ما ترمي إليه المباريات العامة من التشجيع وإظهار الكفايات المغمورة.

ولقد كان غريباً بعد هذا أن بنشر الأستاذ عفيفي بياناً في بعض الصحف يشكو فيه من الوزارة لأنها لم تمنحه المكافأة كلها ولم تغض عما في رسالته من نقص. ويحاول أن يزكي نفسه ورسالته فينشر للمرة الثالثة خطاباً أرسله إليه الأستاذ عبد الوهاب النجار أحد أعضاء لجنة التحكيم يصفه فيه بأنه أقدر من كتب في السيرة بعد القاضي عياض - وتلك شهادة يشكر عليها الأستاذ النجار ويغبط عليها الأستاذ عفيفي - ثم يذهب الأستاذ في بيانه إلى أنه سوف ينشر رسالته، ويحتكم فيها إلى الجمهور لينتصف لنفسه ولرسالته من وزارة الأوقاف.

ولا شك أن الأستاذ عفيفي يعلم حق العلم أنه إذا كان في هذه المباراة غبن أو ظلم فأنه واقع على غيره، وأنه إذا كان لأحد أن يشكو ويتظلم فأن الأستاذ آخر من يحق له ذلك.

على أني أعتقد أن في الأقدام على هذه الخطوة إثارة لحقائق قد تكون مؤلمة. ولقد كنا نتحاشى ونحن نكاد نلمس الغبن الواقع في بعض نواحي هذه المباراة أن نلجأ إلى النشر أو الاحتكام إلى الجمهور احتراماً لرأي اللجنة وتنزيهاً لقرار الوزارة عن مظنة الشك والارتياب. أما وقد أندفع الأستاذ في هذا الطريق فأنا نؤيده في فكرته، وسوف نستأنف معه الشوط الأخير، وللرأي العام أن يحكم، وللتاريخ أن يشهد، وللحق أن يأخذ مجراه.

(حمامات حلوان)

محمد كامل حنة

أحد الثلاثة الأول

ص: 73

‌الكتب

1 -

مقتل عثمان بن عفان: للأديب محمود الغزاوي

2 -

الشخصية: تأليف الأستاذ محمد عطية الأبراشي

3 -

التربية الإنكليزية: تأليف الأستاذ محمد عطية الأبراشي

للأستاذ محمود الخفيف

يعتبر مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من أهم الحوادث في تأريخ الإسلام، إذ كان مقتله نتيجة ثورة عاصفة عاتية، نسى فيها الثوار - والإسلام في مستهل ضحاه - ما نهى عنه دينهم من قتل النفس التي حرم الله، وامتدت أيديهم الأثيمة في غير تردد أو اضطراب إلى عثمان بن عفان خليفة الرسول، وزوج ابنتيه، وأحد السابقين الأولين الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وسال دم الخليفة الشيخ في عقر داره، فلن يشن على أحد غارة أو يشهر في وجه أحد سيفاً، مما ضاعف بشاعة الجريمة، وزاد تلك المأساة هولاً ونكرا.

ولقد انطوت تلك المأساة على معان كثيرة، فهي وليدة عدة عوامل، ثم هي أول حادث من نوعه في الإسلام؛ ترى فيها ثورة سياسية، مازالت تنمو حتى انقلبت إلى فتنة ثم إلى الطغيان.

وفي هذا الكتاب الذي ألفه الأديب محمود الغزاوي ترى دراسة واضحة لتلك الثورة وتصويراً قوياً لما انتهت إليه من مأساة. مهد لموضوعه بمقدمة مبينة عن الخلافة وما كان من أمر تولية أبي بكر وعمر، ثم وضح ما حدث من الشورى بعد موت الخليفة الثاني، وأخذ بعد ذلك يدرس عوامل الفتنة فأشار إلى العداوة القديمة بين الهاشميين والأمويين؛ ثم درس سياسة عثمان وبين عوامل الثورة، وشرح حال الفتنة في الأمصار وصور في الخاتمة المأساة.

فالكتاب يعطيك فكرة جلية عن هذا الحادث التاريخي، وهو مجهود جدير بالثناء، نرجو أن تعقبه مجهودات أخرى للغزاوي فهو رجل نشاط وأدب. وأريد ألا أختم الحديث عن كتابه دون أن أشير إلى بعض هفوات لا تتفق وما عرف به من فطنة وحصافة، فهو في صفحة 13 بينا نراه يحار بين أمرين في تلمس العلة في عدم توصية النبي لأحد بالخلافة، نراه في

ص: 74

الوقت ذاته إلى مخافة النبي من وقوع الانقسام والفتن، فهل لا يعتبر هذا تعليلاً؟. وفي هامش 52 نرى خطأ مطبعياً لم يصححه، كذلك لم يبين المؤلف كيف كان جمع الناس على مصحف واحد عاملاً من عوامل الثورة صفحة 61، وفي صدد الكلام عن إيثار عثمان أقاربه بالخلافة نراه يثبت في صفحة 65 أن عثمان عزل عن الكوفة محمد بن عتبة وولى سعيد بن العاص، ولكن المؤلف عندما راح ينقد هؤلاء الولاة تكلم عن الوليد كوال للكوفة فماذا كان من أمر سعيد بن العاص؟ ومتى عين الوليد؟

هذا وفيما عدا تلك الهنات فالكتاب بحث قيم ممتع. ومما يحمد للمؤلف أنه وضع في آخره ثبتاً مسهباً للمراجع العربية والإفرنجية وأنه عني بطبعه عناية جعلت الكتاب في طبعته الثانية هذه أجمل شكلاً وألطف حجماً مما كان عليه في لباسه الأول، وهو مطبوع في دار النشر الحديث للأستاذ الصاوي وثمنه خمسة وسبعون مليماً.

- 2 -

يأتي بعد ذلك كتاب (الشخصية) للأستاذ محمد عطية الابراشي وهو كتاب ظريف الشخصية قويها، يجتذبك إذا رأيته، ويسرك إذا خبرته: يجتذبك بلطف شكله وحجمه، ويسرك بما تطالع فيه من عوامل تكوين الشخصية. والأستاذ المؤلف معروف اليوم بكتاباته في علم النفس، ولقد كتب عن الشخصية فصلاً في كتابه في (علم النفس) ولكن (عن له فيما بعد أن موضوعاً كالشخصية يحتاج إلى كثير من التفصيل والتمثيل، والآن يسره أن يتقدم إلى قراء العربية وبخاصة شبان اليوم ورجال الغد بذلك الكتاب).

ولقد نحا الأستاذ في كتابه طريقة سهلة سائغة، فهو يتعرض للمسألة ثم يوضحها بالأمثلة المتنوعة؛ ومما يحمد له أنه كان يأتي بها من الشرق والغرب، بل لقد كان يتمثل بكثير من الشخصيات العربية ويرينا كثيراً من مواقف البطولة والفضيلة عند العرب ويعرض علينا منهم صوراً ما أجملها وأدقها في المقارنة بين حاضرنا وماضينا.

وبهذه الطريقة الشائقة جعل الأستاذ الابراشي كتابه في متناول كل قارئ فلا يحتاج الإنسان إلى كد ذهنه في تفهمه، بل إنك إذا تناولته لا تحب أن تدعه حتى تتمه.

بيد أني احب أن أشير إلى بعض هنات ما أحسبها تنال من شخصية الكتاب إلا بمقدار ما ينال من شخصية العالم الضليع بعض ما تضطره إليه العجلة من الهفوات. فلست أرى

ص: 75

رأيه في المثال الذي أورده في صفحة 10 عن الحجاج وزياد بن عمرو العتكي؛ وأسأل الأستاذ ماذا عسى أن يكون موقف الحجاج لو أن زيادا انتقده عند الخليفة وأظهر معايبه؟ كذلك لا أشاركه رأيه في أن من أكبر عيوب نابليون شدة قسوته على النوع الإنساني. ثم إنه ذكر نابليون في صفحة 50 باسم ملك فرنسا وما كان نابليون ملكاً في يوم ما؛ ثم هو يقول عن باستور إنه اعظم العلماء نفعاً للبشرية وهذا تعميم في غير محله. هذا إلى أنني لم أفهم ما يرمي إليه في الفصل التاسع، فأنه يخيل إلي انه يعتبر نقص الإنسان في الخلقة كأنه أمر مستحب لا ينبغي أن يخشى المرء منه أو يتوقاه لأنه (إن نقص الإنسان من جهة حاول أن يكمل نفسه من جهة أخرى). وما أظن هذا يقع في جميع الظروف والأحوال؛ والأستاذ نفسه يشير في أول الفصل إلى أن الشخص الناقص في الخلقة كثيراً ما يضطر إلى التكلف والتظاهر وهما من اكبر ما يهدم الشخصية. وفيما عدا هذا فالكتاب جدير بأن ينتفع به شبابنا، وهو من المؤلفات التي نشعر بأشد الحاجة إليها لنبني الجيل الجديد، ونطبع رجاله على الفضيلة، ولذلك فأني شديد الغبطة حين أقدمه إلى القراء.

- 3 -

أتكلم بعد ذلك عن كتاب (التربية الإنكليزية) وهو كتاب آخر للأستاذ الابراشي أو هو دليل آخر على نشاطه العقلي، ويقع في نيف ومائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير محلى بأكثر من ثلاثين شكلاً توضيحياً.

نهج الأستاذ في هذا الكتاب طريقة العرض، فموضوعه وصفياً أكثر منه نقدياً، يستطيع القارئ بمطالعته أن يلم بنظم التعليم في إنجلترا والروح التي تسير في تلك النظم. واعتقد أن الأستاذ أحسن بذلك صنعاً، فما أحوجنا في مصر إلى مقارنة نظمنا المدرسية بغيرها من النظم في البلاد الممدنة، إذ ما تزال تلك النظم عندنا مضطربة لا تكاد تتبين لها غاية، بل لا تكاد تعرف على أي أساس وضعت. نعم إن لكل أمة ظروفها ولكل أمة وجهتها، ولكن المقارنة على الرغم من ذلك خليقة بأن تكشف لنا كثيراً من عيوبنا وأن ترينا كثيراً من أوجه الصلاح، وعلى الخصوص فيما كان له مساس بالقواعد العامة للتربية والغرض منها مما لا تختلف فيه الأمم كلها اختلافا كبيراً.

تطالع في هذا الكتاب مناهج التعليم الأولي والابتدائي والثانوي في إنجلترا في المدارس

ص: 76

الشعبية والحكومية، وتتبين فيه الروح التي تسيطر على كل مدرسة ونظامها المحلي والداخلي، وما يتعلق فيها بالأساتذة وطريقة اختيارهم ومرتباتهم ورؤساء المدارس وأعمالهم، كما تتبين الغاية التي يرمي إليها التعليم في جملته، فلقد أسهب الأستاذ في الأمثلة وإيراد البينات والجداول التي تقوم فيها الأرقام مقام الكلام، ثم تطالع إلى جانب ذلك فصولاً في الجامعات الإنجليزية ونظمها وكليات المعلمين، وإدارة التعليم في البلاد والسلطات المحلية والرئيسية والتفتيش المدرسي وأعمال المفتشين. . . الخ

ولقد يقول بعض الناس، وأراهم محقين فيما يقولون إن الكتابة عن التعليم ينبغي أن تكون كتابة نقدية تحليلية، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى فيها بالناحية النظرية ويكتفي بضرب الأمثلة، على نحو ما فعل صاحب (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) مثلاً في كلامه عن التربية في إنجلترا، وكما فعل مؤلف هذا الكتاب الذي أحدثك عنه في كلمته التي صدر بها الكتاب، وهي (كلمة عامة عن العلم في إنجلترا). بيد أني أرى من جهة أخرى أن الطريقة الوصفية تضع أمام المشتغل بالتربية مادة درسه فيستخرج منها ما شاء من النظريات، وهي في ذاتها طريقة عملية يظهر أثرها قوياً كما أسلفت بين نظم ونظم، وبالمقارنة يهتدي إلى كثير من الصواب. وكذلك أميل إلى اعتبار طريقة الأستاذ ميزة كتابة بدل أن أراها عيباً فيه، هذا ومما يحمد له أنه يشير بين حين وآخر إلى ما يراه من أوجه النقص في نظمنا ذاكراً ما يرى من أوجه الإصلاح والعلاج بقدر ما اتسع له المجال؛ وحبذا لو رأينا له في القريب العاجل كتاباً عن (التعليم في مصر) ينتقد لنا فيه ما يراه عندنا من خلل ونقص ويبسط لنا آراءه فيما يرى من سبل الإصلاح.

الخفيف

ص: 77

‌العالم المسرحي والسينمائي

الجريمة والعقاب لدستؤفسكي

على مسرح الأوبرا الملكية

لناقد (الرسالة) الفني

لم يكن ليدور بخلدي يوم قرأت الترجمة الإنجليزية للرواية القصصية كما وضعها دستؤفسكي - وذلك منذ سنين بعيدة - أن هنالك من سيخاطر يوماً باقتباس مسرحية منها؛ فان من أصعب الأمور أن يعمد كاتب إلى هذا الاقتباس دون أن يحجم مرات خوف الفشل. فاقتباس مسرحية من رواية قصصية معناه تلخيصها، والتلخيص مهما كان وافياً يعطي صورة غير صحيحة عن الأصل، ولكن جاستون باتيه المخرج الفرنسي المعروف لم يعبأ بكل هذا واقتبسها وأخرجها على المسرح في باريس فلاقت من النجاح والإعجاب الشيء الكثير مما حدثتنا عنه الصحف الفرنسية.

حقاً إنه لحدث عظيم أن تظهر على مسرح مصري رواية لدستؤفسكي ذلك الكاتب الألماني العظيم الذي طبقت شهرته الآفاق، ونقلت مؤلفاته إلى جميع اللغات الحية؛ وإنه لنصر عظيم للفرقة القومية أن تخطو خطوة جريئة كهذه وتفتح موسمها الثاني بهذه الرواية أمام كبار رجال الدولة وشيوخ الأمة ونوابها، فتعلن فوز الفن العالي والأدب الرفيع.

والرواية تقوم على التحليل النفسي العميق، ولكن في بساطة ووضوح يسهل تناولها لمن كان على قليل من الثقافة؛ وهي خالية من العوامل المفاجئة والصناعة التي اعتدنا أن نراها في المسرحيات الفرنسية. وفيها أوضح المؤلف غاية الرجل الروسي - في أيام القيصرية - من الحياة، فهو لا يرى لها غاية غير الألم على عكس الرجل الأوربي الذي يرى غاية الحياة السعادة فيسعى إليها. أما الروسي فيفتتن بالألم ويتكالب عليه، بل يسعى إليه جاهداً ليصهر في بوتقته روحاً لا يراها مؤدية رسالتها في الحياة إلا من طريق التفكير والعذاب.

نقل المسرحية عن الفرنسية الشاعر الرقيق الدكتور إبراهيم ناجي، والممثل الأديب فتوح نشاطي، فجاءت الترجمة سلسلة سهلة مما يلائم موضوع القصة وبساطة الوسائل في معالجة المؤلف للموضوع، فكان إعجابنا بالترجمة قدر إعجابنا بالاقتباس.

ص: 78

ملخص القصة

الطالب راسكو لينكوف شاب روسي نفور عبوس، شديد الكبرياء على الرغم من طهارة قلبه؛ تسممت روحه بفلسفة القوة التي سادت أوربا في نهاية القرن التاسع عشر، فخيل إليه أنه شخص ممتاز، وأنه باعتباره عبقرياً وضع نفسه فوق القانون. وكان يسائل نفسه:(لو كان نابليون قد صادف في طريقه إلى المجد عوائق وعثرات، أكان ينكص على عقبيه، أم يتقدم في جرأة ويزيلها؟).

كان الرد الطبيعي على هذا التساؤل أن قتل مرابية عجوزاً ليثبت نفسه أنه يمتاز على الناس أجمعين بقوة تتسامى عن الخضوع للقوانين، ففي رأيه أن هناك أناساً يحق لهم أن يعتدوا على الحياة الإنسانية دون أي عقاب، ولكنه ما انتهى من جريمته حتى أضحى فريسة آلام مبرحة، فشعر بوحدته القاسية بين الناس ولم يطق البقاء حتى مع أمه وأخته، وهجر الجميع ليختلف إلى الحانات يختلط فيها بالأوساط الوضيعة.

وهناك يلتقي بسكير شيخ جعل يقص على الطالب آلامه وكيف أن إدمانه قد جر على أسرته الوبال من مرض اضطرت معه ابنته أن تسقط في مهاوي العار لتقوم بأودهم، فيعطف الطالب على هذا المخلوق الملوث. وتدهم هذا السكير عربة فيقضي نحبه، ويتعرف الطالب إلى الأسرة البائسة ويساعدها بما تملك يده ويحنو على الفتاة الساقطة التي تقوضت حياتها مثله ويرى فيها ملجأه الوحيد في هذا العالم.

وكان (بوفير) قاضي التحقيق الذي عهدت إليه قضية مقتل المرابية يشك في الطالب، وتشاء المصادفات أن يطلع على مقال بتوقيع راسكولنيكوف يشير فيه إلى أن هناك طبقة ممتازة من الناس تملك حق ارتكاب الجرائم، فيلاحقه في حذر ودهاء، فهو لا يملك برهاناً مادياً، لأن يقظة الطالب تفسد عليه كل شيء.

وهكذا لا تستطيع العدالة أن تقتص من القاتل، فهل ينجو من يقتل نفساً بشرية؟! لا، إنه الضمير يهيب في نفسه ويعذبه فتهن أعصابه ولا يستطيع أن يحتمل هذه الحياة، فيسير إلى الفتاة ليلقى على منكبيها هذا السر الذي أنقض ظهره وعجز عن احتماله، فترى الفتاة أن الإنسان وإن انتصر على عدالة الناس إلا أن في أعماق ضميره عدالة أسمى وأقسى لا يخفت لها صوت حتى يكفر عن جريمته، فيستمع لها ويخرج من بيتها فيلقى قاضي

ص: 79

التحقيق فيناديه قائلاً: (بوفير. انتصر) ويركع أمام أكثر الأفراد الذين ظهروا في المسرحية ويعترف بجريمته.

الإخراج والتمثيل

جهود كبيرة ومصروفات باهظة جعلت الرواية مظاهرة إخراج هائلة. ولقد أعجبنا بالمناظر كل إعجاب، كما أعجبنا بالتاج القيصري الذي يعلو الستار الحريري الجميل الذي يحمل الشعار القيصري ويفصل بين المنظر والآخر، والحق أن الجهد الذي بذله الأستاذ عزيز عيد يستحق الشكر.

ولكن، هل فكر المخرج قليلاً أن طريقته هذه في الإخراج تتعارض وأهم خصائص الفن الروسي وهي البساطة؟

إن تعدد المناظر وإصرار المخرج عل إظهارها كاملة البناء جعل التمثيل يمتدد بالنظارة حتى منتصف الساعة الثانية صباحاً، فكنا نشهد تمثيل المنظر في وقت قصير ونبقى طويلاً وطويلاً جداً في انتظار تهيئة المنظر الذي يليه، وهكذا كان يضيع الأثر الذي تركه التمثيل من ملل الانتظار الطويل. ولقد كان (المايسترو) المسكين الذي يدير فرقة الموسيقى يعيد ويكرر المقطوعة الواحدة حتى يشغل النظارة فأرهق وضاعت آثار قطعه التي تعب كثيراً في إعدادها، ولولا ذلك لاستسغناها وصفقنا لكل مقطوعة منها.

إن أهم واجبات المخرج أن يعمل على تركيز إخراجه حتى تأتي الرواية والتمثيل بالثر المطلوب، لا أن يتركها هكذا مفككة؛ وأظن أنه رأى معنا إخراج هملت وروميو وجولييت من الفرقة الايرلندية التي عملت في الموسم الماضي على مسرح الأوبرا. لقد كانت كما قلت في حديث سابق على صفحات (الرسالة) تعتمد على منظر واحد وتستعين بستار صغير وبالضوء في تبديل المنظر، وهذا لا يستغرق بضع ثوان. ولو أن الأستاذ عزيز عيد عمد إلى هذه الطريقة أو قارب بينها وبين طريقته لما أضطر إلى حذف أربعة مناظر حتى لا يتأخر التمثيل عن منتصف الثانية صباحاً. فهل للمخرج أن يترفق بالجمهور؟!

تحدث معي أحد المعجبين بالأستاذ عزيز مؤيداً وجهة نظره في عرض المناظر في بناء كامل فهو يراها خير من استعمال الستائر مع (الفوندو)، وإني أخالف هذا الرأي، فأن استخدام الطريقة الثانية أجل إذ هي تجعل الجمهور أكثر انتباها وأكثر استخداما لعقله من

ص: 80

الطريقة الأولى، وهذه الطريقة هي طريقة بدائية. ولو أنك عهد إلى ممثل مبتدأ باعداد مناظر رواية كبيرة لما فكر إلا في اختبار مناظر كاملة البناء لكل فصل وكل منظر من مناظر الرواية. أما الطريقة الأخرى فلا يلجأ إليها إلا الفنان القوي الذي يتغلب على الصعاب ويلجأ إلى كل جديد؛ واعتقادي في عزيز أنه يستطيع هذا، ولكن لا أدري لم لا يفعل؟

والإضاءة عادية تحتاج إلى بعض العناية؛ ويجب على المخرج أن يستخدمها اكثر من ذلك لتساعد ممثليه على قوة التعبير. وهناك بعض الاضطراب في إضاءة منظر المقابر ولا أظنه إلا خطأ غير مقصود نتيجة الإسراع، وأرجو أن يتلافاه رجال المسرح كما أرجو ألا يضاء الستار الحريري بضوء قوي صارخ بعد المناظر المؤثرة لأن هذا الضوء يضيع الأثر الحزين من النفوس.

لا يتسع لي المجال للتحدث عن التمثيل بإفاضة، واكتفي اليوم بأن اذكر أن جميع الأفراد قد أدوا جهوداً كبيرة في سبيل نجاح هذه الرواية؛ ولكني أحب أن ألفت نظر الأستاذ جورج أبيض إلى أنه لم يكن مستذكراً دوره، فكان صوت الملقن يرتفع لأسماعه فيصل ألينا في المقاعد الخلفية؛ وموقفه كذلك مع عباس فارسالذي يعترف له بأنه القاتل لا يحتاج إلى هذه الثورة وهذا الإلقاء التراجيدي. والآنسة زوزو الحكيم عليها أن تعني بالإلقاء ومخارج الألفاظ وبتلوين جملها؛ أما الآنسة أمينة نور الدين فكانت تلقي جملها في خشونة تشبه خشونة الرجال، وأرجو أن تترفق بالنظارة قليلاً وتخفف من حدتها؟

يوسف تادرس

ص: 81