المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 179 - بتاريخ: 07 - 12 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٧٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 179

- بتاريخ: 07 - 12 - 1936

ص: -1

‌بعد المعاهدة

استقلال اللغة

استقلال اللغة مظهر استقلال الذات؛ ووحدة اللسان جزء من معنى الأمة، واتحاد البيان سبيل إلى توحيد الرأي والهوى والثقافة. فإذا سمعت امرأ يتكلم غير لغته من دون ضرورة، أو يلهج غير لهجته من دون مناسبة، فلا يخامرك شك في أنه كذلك في خليقته وعقيدته ونمط تفكيره وأسلوب عمله. وإذا رأيت أمة تدير في أفواهها ألسنة الأمم، وتستعير في أعمالها دلالات الناس، فلا تتردد في الحكم عليها بالتبعية المدنية والعبودية الأدبية والوجود الملفق. وإذا شق عليك أن ترى في الأرض هذه الأمة، أو تسمع في الأمة ذلك الإنسان، فتحامل على شعورك وجل جولة في إحدى عواصم مصر. فهنا أو هناك تجد في معارض التجارة، ودور الصناعة، وبيوت المال، وأماكن اللهو، خليطا من الناس كجيش الدمستق.

تجَّمع فيه كل لَسْنٍ وأمة

فما يُفهم الحدَّاثَ إلا التراجم

تدخل متجرا من المتاجر، أو مصرفا من المصارف، أو مقصفا من المقاصف، أو شركة من الشركات، فلا تقرأ في الإعلانات والمستندات إلا كتابة أجنبية، ولا تسمع في المحادثات والمفاوضات إلا لغة أجنبية، فإذا حرصت على أن تتفاهم بالعربية لاعتزازك بها أو لجهلك بغيرها، تضاءلت في رأى مخاطبك فينظر إليك بشطر عينه، ويكلمك ببعض شفته، وربما صغرت وصغرت حتى يستسر عليه مرآك فلا يحفلك. وتغشى قصرا من قصور الأمراء أو دورا من دور الكبراء، فتسمع النادين يتطارحون الحديث بالفرنسية أو التركية، فإذا شاركتهم فيه بلغتك، وقروا آذانهم عن سماعك، لأنك نقلت الحديث الخطير إلى لغة السوقة، وأنزلت البهو الوثير إلى مجلس العامة، وتلقى أبناء (الذوات) في المشارب والملاعب والأندية، فتسمعهم يتراطنون بلغة مشوهة التأليف، مدخولة الوضع، بغيضة اللهجة، من نحو قولهم: يا وداشئ)، ' أطلع ولو وجدت في هذا الخلط تظرفاً من أولئك الأيفاع المدللين الذين نشأتهم المهود الأرستقراطية، وثقفتهم المدارس الأجنبية، فإنك لا تجد فيه غير حمى الروح إذا تكلفه من درج في البيئات الشعبية، وخرج من المعاهد الدينية. فقد حدثوا أن شيخاً من شيوخ اللغة ومعلميها أوفدته وزارة المعارف إلى إنجلترا ليلم بطرائق التعليم ومذاهب التربية؛ فمكث تحت ضباب لندن عاما أو عامين ثم عاد، فإذا لسانه قد

ص: 1

اعوج وسمته قد تبدل! يكلمك فتسمع من وراء (البيبة) كلاماً عربي الحروف سكسوني المخارج! فإذا تمضمض بالجملة أو الجملتين في المعنى المألوف توقف وتأفف، ثم راح يزاوج في الفقرة الواحدة بين العربية والإنجليزية، لأن العربية أصبحت أمام الخاطر ألد فاق، والخيال السباق، والمعاني الجديدة، أعجز من أن تسعف اللسان وتجاري البيان وتحدد الفكرة!

كل ذلك كنا نراه فنشعر بالغربة وسط الدار، وبالذلة بين الأهل، وبالتبعية تحت العلم. وكل ذلك كنا نسمعه فنحمل الآذان على مكروهه، ونروض الأنفس على أذاه، لأن أمورنا كانت في كل ناحية من نواحي الحياة شذوذا لا يستقيم في عقل، ونشوزا لا يتسق في شعور. فلما أذن الله لوجودنا أن يتميز، ولاستقلالنا أن يتم، كان من المحتوم على أولياء العهد الجديد أن يعالجوا الضعف الذي يوهن وثبات العزة، ويزيلوا النقص الذي يعوق خطوات الكمال.

تريد اللغة العربية من أولياء العهد الجديد أن يطردوا الاحتلال اللغوي من الشركات والبنوك كما طردته تركيا، فيمدوا لها أسباب السيادة، ويهيئوا للعاطلين وسائل العمل، ويضمنوا للأهليين صحة التعامل، ويمصروا هذه البيوت التي تطاول الحكومة في النفوذ، وتجابه الأمة بالعجز، ويشتمل كل منها على دولة وسفارة وامتياز. تريد العربية أن تكون لسان العلم في المدارس الأجنبية، وفي كليات الجامعة المصرية، فإن التعليم باللغة الأوربية ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم باللغة الوطنية ينقل كل العلم إلى الأمة. وما دام للغة مجمع لغوي قوي يساعدها على النمو، فلن يخشى عليها في الطريق قصور ولا فشل.

تريد العربية أن تأخذ مكانها الشرعي في المحاكم المختلطة ريثما تدك قواعدها المعاهدة. فإن من أعجب الأمور أن يضيع القانون بين قوم يعيشون بالقانون، ويزهق العدل في دار أقيمت للعدل. وقد كان الإغضاء على ذلك يحمل على مصانعة القوة ومخادعة السياسة، ولكنه اليوم لا يحمل إلا على تفريط العجز وترويض الاستكانة.

كذلك تريد العربية أن تطهر من شوائب التركية في الدواوين والقوانين والمدارس والجيش، فلا تحب أن يداخلها بعد اليوم باشكاتب ونوبتجي وبوستجي وقلفة وطابور ويمكخانة ويوزباشي وصاغ وأميرالاي الخ. ولنا فيما يعمل الترك والفرس بالعربية مثل ماثل ودافع محرض.

ص: 2

ذلك ما تريده اللغة من الحكومة. أما ما تريده من الأمة فذلك شيء تلهمه العزة وتمليه الكرامة؛ فإن لغة المرء تاريخه وذاته؛ فالغض منها غض منه، والتفضيل عليها تفضيل عليه، ولا يرضى لنفسه الضعة والصغار إلا مهين أو عاجز.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌5 - القلب المسكين

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أما صاحب القلب المسكين فتزعزعت كبده مما رأى؛ وجعل ينظر إلى هذه الفتانة تمثل زفاف العروس وقد أشرق فيها رونقها وسطعت ولمعت فبدت له مفسرةً في هذه الغلائل غلائل العرس؛ وما غلائل العرس؟

إنها تلك الثياب التي تكسو لابستها إلى ساعة فقط. . . ثياب أجمل ما فيها أنها تقدم الجمال إلى الحب، فأزهى ألوانها اللون المشرق من روح لابستها، وأسطع الأنوار عليها النور المنبعث من فرح قلبين.

تلك الثياب التي تكون سكباً من خالص الحرير ورفيع الخز، وحين تلبسها مثل هذه الفاتنة تكاد تنطق أنها ليست من الحرير، إذ تعلم أن الحرير ما تحتها. . .

ثم تنهد المسكين وقال: أفهمت؟

قلت: فهمت ماذا؟

قال: هذا هو انتقامها

قلت: يا عجبا! أتريدها في ثياب راهبة؛ مكبكبة فيها كما ألقيت البضاعة في غرارة، بين سوادٍ هو شعار الحداد على الأنوثة الهالكة، وبياض هو شعار الكفن لهذه الأنوثة؟

قال: أنت لا تعرفها؛ إن الرواية التي تمثل فيها بين الروح والجسم، هي التي احتاجت إلى هذا الفصل يقوي به المعنى؛ وكل عاشقة فعشقها هو الرواية التي تمثل فيها، يؤلفها هذا المؤلف الذي اسمه الحب؛ ولا تدري هي ماذا يصنع وماذا يؤلف، غير أنه لا يفتأ يؤلف ويضع وينقح كما تتنزل به الحال بعد الحال، وكما تعرض به المصادفة بعد المصادفة؛ وعليها هي أن تمثل. . .

قلت: فهذا، ولكن كيف يكون هذا انتقاما؟

قال: إن الأفكار أشياء حقيقية، ولو كشف لك الجو هذه الساعة لرأيته مسطوراً عباراتٍ عبارات كأنه مقالة جريدة. هذا الفصل حوار طويل في الهموم والآلام ورقة الشوق وتهالك الصبوة؛ لو كتب له عنوان لكان عنوانه هكذا: ما أشهاها وما أحظاها! إن الهواء بين كل عاشقين متقابلين يأخذ ويعطى. . .

ص: 4

قلت: يا عدو نفسه ما أعجب ما تدقق. لقد أدركت الآن أن المرأة تتسلح بما شاءت لا من أجل أن تدافع، ولكن لتزيد أسلحتها في سلاح من تحبه فتزيده قوةً على قهرها وإخضاعها. . .

أما هذه (العروس) فكانت أفكارها لا تجد ألفاظاً تحدها فهي تظهر كيفما اتفق، مرسلةً إرسالاً في اللفتة والحركة والهيئة والقومة والقعدة، وهي من علمت: امرأة تعيش للحقائق، وبين الحقائق، ككل ذي صنعة في صنعته، فكانت في تماديها خطراً أي خطر على صاحب القلب المسكين، تمثل شيئاً لا أدري أهو ظاهر بخفائه أم هو خافٍ بظهوره؛ وقد وقع صاحبنا منها فيما لم يدخل في حسابه، فكانت الخبيثة الماجنة كأنها تسكره بمسكر حقيقي غير أنه من جسمها لا من زجاجة خمر.

وكانت لذهنه المتخيل كالسحابة الممتلئة بالبرق؛ تومض كل لحظة بأنوار بعد أنوار، وبين الفترة والفترة ترمي الصاعقة. . .

وظهرت كأنها امرأة مخلوقة من دم ولهب؛ فلقد أيقنت حينئذ أن الحب إن هو إلا الغريزة البهيمية بعينها محاولة أن تكون شيئا له وجود فني إلى وجوده الطبيعي، فهو مصيبتان في واحدة، وكل عمله أن يجعل اللذة ألذ، والألم أشد، والقلة كثرة، والكثرة أكثر، وما هو نهاية كأنه لا نهاية.

هذه (العروس) كانت قبل الآن واقفة على حدود صاحبها، أما الآن فإنها تقتحم الحدود وتغزو غزوها وتمتلك.

يا لسحر الحب من سحر! كل ما في الطبيعة من جمال تظهره الطبيعة لعاشقها في إحدى صور الفهم. أما الحبيب الجميل فهو وحده الذي يظهر لعاشقه في كل صور الفهم، وبهذا يكون الوقت معه أوقاتاً مختلفة متناقضة، ففي ساعة يكون العقل، وفي ساعة يكون الجنون.

يا لسحر الحب! لقد أرادت هذه المرأة أن تذهب بعقل صاحبها، وأن تنقله إلى وحشية الإنسان الأول الكامن فيه، وأن تقذف به إلى بعيدٍ بعيدٍ وراء فضائله وعصمته؛ فسنحت له كما يسنح الصيد للصائد يحمل في جسمه لحمه الشهي. . . وتركت شعوره جائعاً إلى محاسنها بمثل جوع المعدة. . . وبرزت له صريحة كما هي، ولما هي، ومن حيث أنها هي هي؛ وكل ذلك حين ألبست جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة.

ص: 5

آه من (هي) إذا امتلأت الهاء والياء من قلب رجل يحب! وآه من (هي) إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد!

إن في كل امرأة. . . امرأة يقال لها (هي) باعتبار الضمير للتأنيث فقط كما يعتبر في الدابة والحشرة والأداة ونحوها من هذه المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضمير؛ ولكن (هي) المفردة في الكون كله لا توجد في النساء إلا حين يوجد لها (هو). . . . . .

أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، قد كابدت من شدة الحب وإفراط الوجد ما يملأ قلبين مسكينين لا قلباً واحداً؛ وكانت لي (هي) من إلهيات عانيت فيها الحب والألم دهراً طويلاً؛ وقد ذهبت بي في هواها كل مذهب إلا مذهباً يحل حراماً، أو مذهباً يخل بمروءة؛ ولقد علمت أن الشيء السامي في الحب هو ألا يخرج من العاشق مجرم.

فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بين الحب من أجل جمال الأنثى يظهر عليها، وبين الحب من أجل الأنثى تظهر في جمالها. فهو في الأولى يشهد الإلاهية في إبداعها السامي الجميل. وفي الأخرى لا يرى غير البشرية في حيوانيتها المتجملة. . .

وقد أدركت من فلسفة الحب أن الحقيقة الكبرى لهذا الجمال الأزلي الذي يملأ العالم - قد جعلت حنين العشق في قلب الإنسان هو أول أمثلتها العملية في تعليمه الحنين إليها إن شاء أن يتعلم. فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة؛ وهذا هو الذي يسميه الفلاسفة (تلطيف العسر) أي جعله مستعدا للتوجه إلى النور والحق والخير، وقد عدوا فيما يعين عليه الفكر الدقيق والعشق العفيف.

وكذلك تبينت مما علمني الحب أن طرد آدم وحواء من الفردوس، كان معناه ثقل معاني الفردوس وعرضها لكل آدم وحواء يمثلان الرواية. . . فإذا (قطفا الثمرة) طردا من معاني الجنة طردا كهوَ من الجنة، وهبطا بعد ذلك من أخيلة السماء إلى حقائق الأرض.

نعم هو الحب شيء واحد في كل عاشق لكل جميل، غير أن الفرق بين أهله يكون في جمال العمال أو قبح العمل. وهذه النفوس مصانع مختلفة لهذه المادة الواحدة؛ فالحب في بعضها يكون قوة وفي بعضها يكون ضعفاً؛ وفي نفس يكون الهوى حيواناً يراكم الظلمة على الظلمة في الحياة، وفي أخرى يكون روحانياً يكشف الظلام عن الحياة.

والمعجزة في هذا الإنسان الضعيف أن له مع طبيعة كل شيء طبيعة الإحساس به، فهو

ص: 6

مستطيع أن يجد لذة نفسه في الألم، قادر على أن يأخذ هبة من معاني الحرمان. وبهذه الطبيعة يسمو من يسمو، وهي على أتمها وأقواها في عظماء النفوس حتى لكأن الأشياء تأتي هؤلاء العظماء سائلةً: ماذا يريدون منها؟

فمن أراد أن يسمو بالحب فليضعه في نفسه بين شيئين: الخلق الرفيع والحكمة الناضجة، فأن لم يستطع فلا أقل من شيئين الحلال والحرام.

أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، أعرف هذا كله، وبهذا كله فهمت قول صاحب القلب المسكين: إن ظهور صاحبته في فصل العروس هو انتقامها، حاصرت عيناها عينيه، وزحفت معانيها على معانيه، وقاتلت قتال جسم المرأة المحبوبة في معركة حبها، وبكلمة واحدة: كأنما لبست هذه الثياب لتظهر له بلا ثياب. . .

وأردت أن أعيبها بما صنعت نفسها له، وأن أعيبه هو بدخوله فيما لا يشبهه، وقلت في غير طائل ولا جدوى، فما كنت إلا كالذي يعيب الورد بقوله: يا عطر الشذى ويا أحمر الخدين.

وقد أمسك عن جوابي وكانت محاسنها تجعل كلماتي شو هاء، وكان وضوحها يجعل معاني غامضة، وكانت حلاوتها تجعل أقوالي مرة، وكانت ثياب العروس وهي تزف تريه ألفاظي في ثياب العجوز المطلقة. وكلما غاضبته مع نفسه أوقعت هي الصلح بينه وبين نفسه.

والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين على الجميل المحبوب هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الأحلام؛ ليس إلا هذا ولا يكون أبداً إلا هذا. فمهما أعطيت من جدل فإقناعك المحب المستهام كإقناعك النائم المستثقل؛ وكيف وله ألفاظ من عقله لا من عقلك، وبينك وبينه نسيانه إياك، وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطنه لا يملك فيها أخذاً ولا رداً إلا ما تعطي وما تمنع.

ثم. . . ثم غابت (العروس) بعد أن نظرت له وضحكت ضحكت بحزن حزن الذي يسخر من حقيقة لأنه يتألم من حقيقة غيرها. . . وكان منظرها الجميل المنكسر فلسفة تامة مصورة، للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحاله؛ والإرادة التي أكرهها القدر فأخضعها؛ والعفة المسكينة التي أذلتها ضرورة الحياة؛ والفضيلة المغلوبة التي حيل بينها وبين أن تكون فضيلة ويا ما كان أجملها ناظرة بمعاني البكاء ضاحكة بغير معاني الضحك؛ تتنهد

ص: 7

ملامح وجهها وفمها يبتسم.

كان منظرها ناطقاً بأن قلبها الحزين يسأل سؤالاً أبداه على وجهها بلطف ورقة؛ كان يسأل إنساناً: ألا تحل هذه العقدة. . .؟

وانقضى التمثيل وتناهض الناس

أما صاحب القلب المسكين؟

(يتبع)

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 8

‌تطور خطير في السياسة الدولية

هل تقترب نذر الحرب

بقلم باحث دبلوماسي كبير

تتابعت الحوادث الدولية في الأسبوعين الأخيرين بسرعة، وبدت في الأفق أزمات واحتمالات مزعجة يرى فيها المتشائمون نذر الحرب تجتمع وتهيئ الأسباب للاصطدام الخطر؛ ففي أسبانيا تتطور الحوادث تطوراً واضحاً، إذ يقف هجوم الثوار على مدريد، بعد أن كادت تسقط في أيديهم، وترجح قوات الجمهوريين التي تؤيدها نجدات سوفيتية قوية؛ وتسارع إيطاليا وألمانيا إلى الاعتراف بحكومة برجوس (حكومة الثوار) لكي تشد أزر الجنرال فرانكو زعيم الثورة من الوجهة المعنوية، ولكي تسبغ على حكومته صفة الدولة المحاربة فيسهل عليه تلقي النجدات الخارجية بصورة أوسع؛ وقد ظهر أثر هذا التأييد واضحاً في تصرفات الجنرال فرانكو الأخيرة؛ فقد أعلن أنه سيفرض الحصار البحري على شواطئ أسبانيا الشرقية والشمالية، وأنه سيغلق ثغور أسبانيا التي بأيدي الجمهوريين أعني برشلونة وبلنسية واليقنت ومالقة، وأن سفنه ستطلق النار على أية سفينة أجنبية تدخل هذه المياه؛ ووجه الجنرال فرانكو أيضاً إلى فرنسا إنذاراً بطلب الذهب الأسباني الذي سحبه الجمهوريون من بنك أسبانيا، وأودعوه في باريس؛ ومع أن الجنرال فرانكو لا يملك من الوحدات البحرية سوى عدة طرادات صغيرة لا تستطيع أن تضطلع بمثل هذا الحصار الخضم، فان المفهوم أنه سيعول في تنفيذ وعيده على يد الغواصات الإيطالية والألمانية؛ وقد ظهر أثر هذه المعاونة البحرية سريعاً في إصابة الطراد الجمهوري (سيرفانتيس) من مقذوف بحري أطلقته عليه غواصة أجنبية؛ على أن الجنرال فرانكو لم يلبث إزاء موقف إنكلترا وتشددها في عدم اعتبار صفة شرعية لحكومة الثوار، ومطالبتها بالا يتعدى الحصار المياه القومية، أعني مدى الثلاثة أميال المقررة في القانون الدولي، وأن تعين منطقة محايدة لرسو السفن الأجنبية، أن اضطر إلى تعديل موقفه والتسليم بهذه المطالب التي أيدتها إنكلترا بإجراء بعض المناورات البحرية الضخمة في المياه الأسبانية.

وظاهر من هذه الخطوة التي اتخذها الجنرال فرانكو، بتحريض الدول الفاشستية أعني إيطاليا وألمانيا وتأييدها المعنوي والمادي، أنه يقصد وقف المساعدات القوية التي تتلقاها

ص: 9

الحكومة الجمهورية من روسيا السوفيتية عن طريق برشلونة وبلنسية، ومطاردة السفن الروسية التي ترد بلا انقطاع إلى هذه المياه مشحونة بالذخائر والمؤن، وهي معاونة كان لها أكبر الأثر في إحباط هجوم الثوار على مدريد، وفشل خطط الجنرال فرانكو فشلاً قد يؤدي إلى انهيار الثورة بصورة نهائية؛ وظاهر أيضاً أن فشل الجنرال فرانكو إنما هو فشل لألمانيا وإيطاليا اللتان تؤيدانه منذ البداية وتمدانه بكل أنواع المعاونة في البر والبحر والهواء؛ ولهذا بادرت الدولتان الفاشستيان إلى الاعتراف بحكومة برجوس ستراً لهذا الفشل، وإلى دفع الجنرال فرانكو إلى إعلان الحصر البحري وتأييده بإرسال الغواصات إلى المياه الأسبانية لمحاولة اعتراض السفن الروسية أو الأجنبية الأخرى التي تحمل الذخائر والمؤن للحكومة الجمهورية.

بيد أنه يشك كثيراً في أن يكون لهذا الإجراء أثره المنشود، ذلك لأن روسيا السوفيتية أبدت أنها لن تعبأ به، وأنها ستقاوم العنف بالعنف إذا اعتدى على سفنها، وما زالت السفن الروسية ترد إلى برشلونة وبلنسية تحرسها وحدات بحرية روسية؛ وهذا مما يجعل الموقف في هذه المياه في منتهى الدقة والخطورة خصوصاً بعد أن ثبت وجود بعض القوات الإيطالية في جزيرة ميورقة تجاه بلنسية، ووجود بعض الطرادات والغواصات الإيطالية في مياهها، هذا فضلا عن أن إنكلترا تهتم بالحالة في تلك المياه اهتماماً شديداً وتجوسها بعض وحدات أسطولها، وكذلك فرنسا، فأن وقوع هذه المياه على مقربة من شواطئها، ثم في طريق الجزائر يحملها على أن تشاطر إنكلترا اهتمامها، وأن ترقب الحالة مع الاستعداد لكل طارئ.

وهكذا نرى هذه المعركة التي تضطرم في الظاهر في أسبانيا بين الجمهورية وخصومها تبدو في صورتها الحقيقية صراعاً بين الفاشستية والديموقراطية حسبما بينا من قبل غير مرة؛ وهي تبدو اليوم في هذه الصورة واضحة تؤيدها الأدلة المادية الظاهرة، فمن وراء الجنرال فرانكو تعمل إيطاليا وألمانيا والبرتغال بصورة منظمة مستمرة؛ وتعمل روسيا السوفيتية لمعاونة حكومة مدريد الجمهورية بكل ما وسعت، وتؤيدها فرنسا وإنكلترا بصورة مستترة؛ وقد شرحنا من قبل ما ترتبه الدول الفاشستية من المطامع والأماني على إضرام نار الحرب الأهلية في أسبانيا بهذه الصورة، والسعي بواسطة الجنرال فرانكو إلى إقامة

ص: 10

حكومة فاشستية في أسبانيا تعضد نفوذ إيطاليا وألمانيا في غرب البحر الأبيض المتوسط، وتحقق لهما بعض المغانم الاستعمارية في جزر البليار والكناري، وربما في مراكش الأسبانية؛ وبينا أيضاً ما يحمل الدول الديموقراطية أعني إنكلترا وفرنسا على مقاومة هذه المحاولة وإحباطها؛ وإذا كانت الدولتان الديموقراطيتان لا تعملان لمعاونة أسبانيا بصورة ظاهرة، فأنهما تعتمدان في هذه المعاونة على روسيا، وتؤيدان مساعيها في هذا السبيل؛ وهناك بالأخص نقطة تلفت النظر؛ وهي أن الأسطول الروسي الذي يحمل المؤن والذخيرة إلى حكومة مدريد يسير بعيداً عن قواعده لنجدة الجمهوريين، ويغامر بالظهور في مياه أجنبية، وقد يتعرض لاعتداء الغواصات الألمانية والإيطالية؛ ولكن لا ريب في أن روسيا لا تقدم على مثل هذه المغامرة إلا وهي معتمدة على تفاهمها مع إنكلترا، وعلى حماية الأسطول الإنكليزي وإمكان استخدام المياه الفرنسية لحماية سفنها وقت الخطر.

وقد لاح مدى لحظة أن قوات الجنرال فرانكو تكاد تكتسح كل شيء في طريقها وتستولي على مدريد بأيسر أمر؛ ولكن الحوادث تطورت بسرعة وتحطم هجوم الثوار على مدريد، وبدا التفوق في جانب الجمهوريين واضحاً، وربما كان هذا الفشل مقدمة انهيار الثورة الأسبانية، والخطط الفاشستية التي تؤيدها.

على أن هناك غير حوادث أسبانيا عدة تطورات وحوادث دولية خطيرة أخرى زادت في حرج الموقف ودقته. ذلك أن السياسة الفاشستية نشطت أخيراً إلى مضاعفة جهودها في سبيل تقوية جبهتها ضد أوربا الغربية بوجه عام، وروسيا السوفيتية بوجه خاص؛ فبعد أن عقدت ألمانيا وإيطاليا تحالفهما المعروف ضد (البلشفية)، وبعد أن اتفقتا على تقسيم أوربا الوسطى إلى منطقتي نفوذ سياسي واقتصادي، تتعاونان في استغلالهما وتوجيههما مع اختصاص ألمانيا بالعمل في تشيكوسلوفاكيا، واختصاص إيطاليا بالعمل في المجر، واشتراكهما معاً في العمل في النمسا، فاجأت ألمانيا العالم بعقدها تحالفاً مع اليابان اتخذت مكافحة البلشفية والثورة العالمية التي تعمل روسيا لإضرامها ستاراً له، وهذه الحجة الظاهرة، أعني مكافحة البلشفية هو الشعار الذي تستتر به ألمانيا في سياستها الحالية وتقرنه بالتهويل في وصف الخطر البلشفي ووجوب اتحاد أمم العالم على مقاومته وإنقاذ المدنية من شره؛ بيد أنه يظن أن الاتفاق الألماني الياباني، رغم ما نشر من نصوصه،

ص: 11

يبطن تحالفاً عسكرياً سرياً، ويقصد إلى غايات خطيرة أخرى تتلخص في تعاون اليابان وألمانيا على مقاومة روسيا وتهديدها في الشرق الأقصى، وفي أوربا؛ وتدعيم الخطط الاستعمارية اليابانية في الصين والشرق الأقصى، نظير تدعيم الخطط الألمانية العسكرية والاستعمارية في شرق أوربا وفي غربها إذا اقتضى الأمر؛ وبعبارة أخرى يمكن اعتبار التحالف الألماني الياباني رداً على التحالف الفرنسي الروسي الذي اعتبرته ألمانيا موجهاً ضدها.

وقد كان لعقد هذا التحالف الألماني الياباني وقع شديد في أوربا وأمريكا معاً؛ ومع ما قدمته ألمانيا واليابان من الإيضاحات لتخفيف وقع التحالف، فأن الغاية من عقده لم تخف على أحد؛ ولم تقتنع الدول الكبرى بصحة الزعم الذي اتخذ ستاراً لعقده، وهو التعاون على مكافحة البلشفية، لأن البلشفية نظام داخلي يخص روسيا وحدها، وفي وسع الدول التي تخشى من تسربه إليها أن تقاومه داخل أرضها بوسائلها الخاصة؛ ولدى ألمانيا واليابان أشد الوسائل الداخلية لمكافحة البلشفية وغيرها من الأنظمة غير المرغوب فيها؛ وترى إنكلترا وفرنسا وأمريكا في عقد هذا التحالف خطراً على مصالحها في الشرق الأقصى، لأنه يعاون اليابان في تنفيذ خطتها لاستعمار الصين الجنوبية، ويقوى مركزها في المحيط الهادي على حساب أمريكا وإنكلترا، وقد كانت هذه الدول ترى في التوازن الياباني الروسي في الشرق الأقصى نوعاً من الضمان لمصالحها، فإذا قضى على هذا التوازن، واستطاعت اليابان أن تطلق يدها في شؤون الشرق الأقصى اعتمادا على انشغال روسيا بحماية حدودها الغربية من مطامع ألمانيا، أصبح التفوق الياباني خطراً على مصالح الدول الغربية وسيادة أمريكا في المحيط الهادي.

والظاهر أن ألمانيا تحاول أن تحشد في هذه الجبهة الجديدة كل الدول التي تميل إلى التعاون معها وفي مقدمتها إيطاليا، وهي تعمل لذلك الغرض بنشاط مضاعف؛ ومن المشكوك فيه أن تستطيع ألمانيا أن تحشد في تلك الجبهة الشرقية دولاً أخرى، وإن كانت إيطاليا تميل إلى تأييدها من الوجهة المعنوية، لأن إيطاليا مع صفتها الفاشستية العميقة لا تذهب في خصومة روسيا إلى الحد الذي تذهب إليه ألمانيا، والواقع أنه إذا كانت ألمانيا قد استطاعت بتحالفها مع اليابان أن تقوي مركزها ضد روسيا السوفيتية فإنها قد أثارت بعقده

ص: 12

في نفس الوقت شكوكاً ومخاوف جديدة، ففرنسا وروسيا تريان فيه خطراً جديداً عليهما يجب أن يقابل بمضاعفة الجهود في التسليح والاستعداد، وإنكلترا وأمريكا تتوجسان شراً من تطور الأحوال في الشرق الأقصى تطوراً قد يضطرهما إلى العمل لصون مصالحهما؛ فهذه الظروف مع ازدياد الشك في نيات ألمانيا ومطامعها العسكرية والاستعمارية يثير حول سياستها ريباً ما كان أغناها عن إثارتها، ويجعل مزايا التحالف الجديد ضئيلة بالقياس إلى ما أحدثه من رد فعل عميق.

هذا، ومن جهة أخرى فأنه مهما كانت مزايا هذا التحالف من الوجهة العسكرية، فان الدول التي تقصدها ألمانيا بعقده، وهي فرنسا وروسيا، هما الآن أعظم الدول استعداداً من الوجهة العسكرية، وكلتاهما تتمتع بتنظيمات دفاعية وموارد عسكرية هائلة، ومهما قيل في استعداد ألمانيا الحربي من الوجهة الفنية، فإنها فقيرة في المال والمواد الأولية؛ وفرنسا تعني بمضاعفة جهودها في التسلح والدفاع ولا سيما في الأشهر الأخيرة التي ظهرت فيها ألمانيا بمظهر الوعيد والتحدي؛ وكذا روسيا فإنها مذ أدركت خطر السياسة النازية العسكرية على حدودها الغربية، انضمت إلى جبهة الدول الغربية، وعقدت ميثاق التحالف مع فرنسا؛ وفرنسا لا يمكن أن تترك روسيا وحيدة إذا هاجمتها ألمانيا، لأن بقاء روسيا قوية سليمة مما يهم فرنسا كضمان لسلامتها؛ وعلى ذلك، فإذا اندفعت ألمانيا في سياستها العسكرية الخطرة، وعملت على إثارة الحرب في شرق أوربا بصورة من الصور، فلا ريب أن الحرب ستقع أيضاً في غرب أوربا، وعندئذ تقع حرب عالمية أخرى.

والخلاصة أن الأفق الدولية مثقل بالسحب؛ ومما يلفت النظر في ذلك كله أن الفاشستية تلعب في إثارة هذه الأزمة الدولية الدقيقة أكبر دور، ولا تحجم عن تغذية الاتجاهات والشهوات العسكرية الخطرة بكل ما وسعت؛ وقد شرحنا في مقال سابق ما تنطوي عليه سياسة الدول الفاشستية، أعني ألمانيا وإيطاليا، من المغامرة وقصر النظر، وبينا أن الخطر على سلام أوربا وسلام العالم يرجع قبل كل شيء إلى هذه السياسة الخطرة. بيد أنه مما يبعث إلى نوع من الطمأنينة أن تكون الدول الغربية، أعني فرنسا وبريطانيا العظمى قد فطنتا إلى الخطر في الوقت المناسب، واستطاعتا أن تصلا في تحقيق التسليح والتنظيمات الدفاعية إلى حدود بعيدة؛ فإذا أضفنا إلى ذلك أن كفة روسيا إنما هي دائماً مع الدول

ص: 13

الغربية، فأن مما يشك فيه أن تذهب الفاشستية الصاخبة إلى المغامرة بإثارة حرب تلقى فيها مثل هذه القوى الساحقة؛ وإذا كان ثمة سحب وأزمات خطيرة تكدر أفق السياسة الدولية، فلسنا مع ذلك نذهب مع المتشائمين إلى حد الاعتقاد بأنها نذر الحرب، وأن الحرب قد غدت على وشك الاضطرام.

(* * *)

ص: 14

‌التنكر

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قلت مرة لنفسي: (لماذا لا أخرج للناس متنكراً كما كان يفعل الولاة والسلاطين والخلفاء وفيما تحدثنا الروايات أو الخرافات؟).

وليست لي رعية أتفقدها، ولا لي شعب أتعهد مرافقه ومراشده، ولكن هذا الخاطر استبد بي مع ذلك فلم يسعني إلا أن أجري معه إلى حيث يوميء؛ والتنكر فن، وإتقانه لا يتسنى إلا بالتدريب، ولكن قلت إن الله ركب لي في وجهي عينين أنظر بهما، وعندي مرآة تستطيع أن تريني هل وفقت أو أخفقت، وفي وسعي أن أعيد التجربة مرة وأخرى فلا أبرز للناس إلا وأنا مطمئن القلب.

وقد كان. اشتريت لحية كثة طويلة - شبراً وبعض شبر إذا أردت الدقة - وشاربين وحاجبين، ومسحوقاً أبيض أنفضه على شعر رأسي، وشرعت أجرب - أعني ألصق هذه الأشياء بوجهي، وعيني على المرآة، وكنت أوصد الباب علي، وأنا أفعل ذلك، لأضمن الوحدة، ولأني اعتزمت أن أجعل التجربة الأولى في بيتي. فلما وثقت أني قد أحكمت التنكر، وأني أستطيع أن أقوم وأقعد وأمشي، وأحرك رأسي، وألمس لحيتي، وأفتح فمي، وأرفع حاجبي على هيئة المستغرب، وأضحك وآكل وأشرب من غير أن تسقط اللحية أو ينحرف أحد الحاجبين عن قوسه، أو يتدلى شارب، على حين يبقى الآخر مفتولاً - خرجت على أهلي، وعلى وجهي هذه الأشياء، وفي يدي عصا غليظة أتوكأ عليها وقد تقوست قناتي من الهرم، فلم تكد تقع علي العيون في مدخل الباب حتى صرخت أمي وجدتي وأسرعتا فسترتا وجهيهما عن هذا الشيخ الغريب؛ وكان أخي الصغير معهما فوثب إلى قدميه وصاح بي يسألني أنا من؟ ويأمرني أن أخرج، وينعتني بقلة الحياء وسوء الأدب ويهددني بالشرطة، وأنا أقول له بصوت يرعش من الكبر وما يجره من الضعف (حلمك، حلمك يا بني!) فيأبى أن يكون حليماً، ولا يعبأ بشيخوختي، ولا يترفق بوهني البادي، ويدفعني عن الباب فأكاد أسقط على الأرض؛ فأنه صبي قوي، وأنا شيخ هم أقوم على العصا، فلم تبق لي حيلة إلا الخروج من البيت كما أمر. . .

خرجت مطمئناً واثقاً؛ وإذا كان أخي - ابن أمي وأبي - لم يعرفني فكيف يعرفني الإخوان

ص: 15

والخلان؟ ومن ذا الذي يمكن أن يفطن إلى أن هذه الغابة التي زرعتها حول وجهي وسترت بها شبابي جليبة؟ وكان انخداع أخي - لا أمي ولا جدتي - هو الذي أراح بالي، ونفي عني الخوف؛ لأن فزعهما واستحياءهما منعا أن ينظرا ويحدقا؛ أما أخي فأمره مختلف جدا، وقد كان يمسك بكتفي ويهزني ويدفعني ويحدق في وجهي متعجباً لجرأتي، منكراً لتطفلي. ومع ذلك لم يعرفني!

ومضيت إلى شارع الدواوين، وكنا - إخواني وأنا - نختلف إلى (القهوة) فيه، ونقضي هناك بعض الوقت، نشرب (الخشاف) ونتبارى في لعب (الطاولة) ونصغي إلى الفونغراف وننظر إلى الرائحين والغادين، فلقيت في بعض الطريق أحد هؤلاء الأخوان، فوضعت يدي على كتفه وابتسمت له وقلت:

(هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أو غلى) فقال: (يظهر أنك لست من أهل الحي؟! هذا هو أمامك مسافة مائة متر لا أكثر).

قلت: (آه! لعن الله الشيخوخة! وقاتل الله الضعف! مائتا متر! يا سلام! أقول لك. . . ربنا المعين. نعم ربنا المعين) وهممت بأن أنصرف عنه، فقال:(هل تسمع بأن أتناول ذراعك وأساعدك على السير قليلاً؟)

فدعوت له بخير، وبشرته، وأكدت له أن الله سيجزيه أحسن الجزاء، وتركت له ذراعي، وسرنا معاً بعض الطريق، وأنا أدب بالعصا وأقول من الضعف (إه! إه) كما يفعل الشيوخ الذين انقطعت أنفاسهم، فقد كانت اللحية التي لففت فيها وجهي عظيمة جداً وبيضاء كالقطن. وبلغنا (القهوة) المألوفة فهمست في أذنه بصوت خافت:(أقول لك يا بني؟ سأستريح هنا قليلاً. . . نعم فأن العجلة من الشيطان، ولا خير في أن يحمل المرء على نفسه ويكلفها فوق وسعها).

وجلست إلى أقرب مائدة ووضعت العصا عليها واضطجعت مغمض العينين حتى انتظمت أنفاسي وسكن اضطراب صدري، وهدأت دقات قلبي، ثم التفت إلى صديقي وقلت (الله يرحم أيام الشباب!! هل تعرف يا بني؟ لقد كنت أصعد درج السلم - مائة درجة - خمس مرات أو ستاً في اليوم، جرياً بلا تمهل أو ترفق؛ وكنت أستحم في الشتاء القارص البرد من بئر في البيت، مرتين. . . مرة في الفجر ومرة في العصر؛ وكنت أستطيع أن ألتهم

ص: 16

نصف الخروف وحدي فضلاً عن غيره من الألوان. . . أين هذه الأيام؟ إيه؟

وتنهدت: فقال: (يظهر أنك كنت قوياً متين الأسر في شبابك!)

قلت: (قوي؟ ولو لم أكن قوياً لما عشت إلى هذه السن. أنا أقول لك. . . كنت أتناول عيدان القصب. . . سبعة وأربطها ثم أتناولها من الطرفين وأضرب بها ساقي، فتنكسر. . . أعني العيدان هي التي كانت تنكسر لا ساقي بالطبع. . . هأ هأ. . . تنكسر ولا تبقى قشرة واحدة تصل قطعتي عود. . . فهل تستطيع الآن - وأنت شاب - أن تصنع هذا؟)

فهز رأسه وابتسم، فقلت:(على الرغم من ضعفي الظاهر وشيخوختي العالية، لا أزال محتفظاً ببعض القوة، ولولا أن الدخان قطع نياط قلبي لما رأيتني أنهج. . . أحذر يا بني أن تعتاد التدخين! إنها نصيحة شيخ مجرب. . . نصيحة لوجه الله. نعم لا تزال في قوة باقية. . . هذه يدي. . . اقبض عليها. . . احتفظ بكل قوتك وانظر)

وفتحت له كفي، ومددت إليه ذراعي فتناول يدي كما يفعل المرء عند المصافحة، ثم قبض عليها وقبضت على يده، وضغط وضغطت. ثم بدت عليه الدهشة، وقد نسيت أن أقول إني كنت وما زلت قوي الذراعين جداً إذا اعتبرنا ضآلة جسمي، وكل قوتي في يدي، فلا عجب إذا كان قد دهش، فقلت له:(أرأيت؟؟ ألم أقل لك؟؟ وتصور كيف كنت خليقاً أن أكون لولا فعل الدخان الملعون؟؟ لقد خرب صدري من سوء تأثيره. . .)

وسحبت يدي وفركتها فقد كانت ضغطته قوية لا رفق فيها قبحه الله؛ وجاء في هذه اللحظة واحد آخر من إخواني وكان كثير العبث، فوقف ينظر إلينا ويعجب، ثم سأل صاحبه بصوت عال كأنما كان قد وثق أني أصم.

(من هذا الرجل الفظيع؟

قال: (هذا شيخ يستريح. . . اسمع. . . (لي) أعطه يدك ليمتحن قوتها. . .)

فقلت: (لا يا بني. . . تعبت. . .)

وقال: اللعين الواقف (ماذا تصنع بكل هذه اللحية؟ أليس في بيتك مقص؟ أو مخرطة؟ أو منشار؟)

فخطر لي أن أمازحه - وليتني ما فعلت - فقلت: (لا فائدة. وما غناء المقص؟؟ إنه يتقصف إذا لامسها. . . والمنشار ما حيلته في هذه الخيوط الحديدية؟؟ لا. . . لا تطمع في

ص: 17

محوها، فقد أعياني أمرها مذ جئت إلى هذه الدنيا. . . وقد كنت حين بدأت أتعلم المشي بعد الحبو أتعثر بها. . .)

فقهقه اللعين ثم مد يده إليها وتناول شعرات منها وفتلها كما يفتل الحبل، وأنا صابر جامد لا أتحرك مخافة أن أرتد برأسي فتتزحزح عن موضعها أو تسقط في يده، وكنت أتبسم أيضاً لأتألفه وأخجله عسى أن يكف عن لحيتي، فأطمعه حلمي، فكف عن فتل الشعرات، وتناول منها قبضة، فاضطربت، وجذب هو، أو ارتدت أنا - لا أدري - فإذا هي في يده.؟؟

وقلت بعد أن سكتت العاصفة: (ما قولكما الآن؟؟ ألم أخدعكما؟؟) وبدأت أقلد نفسي وأقول: (هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أو غلى؟. . . لقد قطع الدخان أنفاسي، فيحسن أن أستريح هنا برهة. . . أحذر يا بني الدخان، فأنك ترى ما صنع بي. . . والآن أعترف أني كنت بارعاً. . .)

فقال اللعين: (بارع؟ أنت كنت بارعاً؟. . لقد عرفتك على بعد عشرة أمتار. . . يقول إنه كان بارعاً؟؟ وأين المغفل الذي يمكن أن تخدعه هذه اللحية السخيفة؟؟. . . وعلى فكرة. . . ألا تنوي أن تخلع الشاربين والحاجبين؟؟ فأنا أخاف أن يجتمع علينا الأطفال ويتدخل الشرطة وتسوء العاقبة بها).

فنزعتها، فما بقيت بي إليها حاجة بعد زوال اللحية، ولكني لم أستطيع أن أصدق أن يكون قد عرفني كما زعم بعد أن نكرني أهلي - وأخي على الخصوص. وقد أعياني أن أعرف الحقيقة، فسكت. . . وآليت بعد ذلك ألا أبرز الناس إلا في جلدي الذي خلقه الله لي. . . .

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 18

‌في الأدب المقارن

أثر نظام الحكم في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

تمر الأمم في استقرارها وتحضرها بثلاثة أطوار عامة من أنظمة الحكم: ففي الطور الأول تكون أزمة الأمور بأيدي رؤساء القبائل الرحالة أو القريبة العهد بالاستقرار، وهو ضرب من الحكم أرستقراطي؛ وفي الطور الثاني تتجمع مقاليد الحكم في يد حاكم فرد يوحد أجزاء مملكة ذات مساحة يعتد بها وتخوم طبيعية، وهو نظام الملكية؛ وفي الطور الثالث يعود تصريف شؤون الدولة في أيدي جميع أبنائها القادرين، وهو النظام الديمقراطي الذي هو أصلح الأنظمة جميعاً، إذ هو أدناها إلى العدل والمساواة وأجدرها أن يفسح المجال للمواهب الفردية ويمهد الطريق لرقي الأمة.

ومن الشعوب البدائية ما لا تتجاوز الطور الأول، ومن الأمم ما تقف عند الثاني كجميع دول الشرق القديم، ومنها ما تصل إلى الثالث كبعض مدن اليونان ورومه، وقد تعود دولة بعد بلوغ الطور الثالث فترتد إلى الثاني، لنكسة في أحوالها تحرمها التمتع بمزايا الحكم الديمقراطي وتجعل الحكم الفردي ضربة لازب، ومثال ذلك رومه حين اتسع سلطانها وأفسد الترف أخلاق أبنائها، فعجز السناتو عن تصريف شؤونها ووقع حكمها في قبضة الدكتاتوريين والأباطرة.

وقد عرف العرب الطور الثاني من أطوار الحكومة في جاهليتهم في أطراف الجزيرة، حيث ساعد خصب الأرض واستواؤها على توحد دولة متسعة وتوطد ملكية قوية، أما في سائر الجزيرة فظل الطور الأول، طور الحكم الأرستقراطي، سائداً، وبلغ بين بعض قبائلها ولا سيما في الحجاز مستوى عالياً من الأحكام؛ وكانت لأشراف العرب دراية عملية فائقة بقواعد الحكم والاجتماع. تتمثل في قول الأفوه الأودي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت

فان تولت فبالأشرار تنقاد

وهو تلخيص شعري رائع لنظريات أرسطو في السياسة. وقد نمى هذا النظام في نفوس العرب نزعات الحرية والحمية والشجاعة التي أدت إلى دوام الخصام بينهم، وأورثتهم

ص: 19

الفخر بالعصبية والتمدح بالنسب؛ وأثر كل ذلك بين في أشعار ذلك العهد التي أغلبها تكرار مستمر للمفاخر والمآثر القبلية، وتمدح بالعز والمنعة، فإلى ذلك صرف شعراؤهم قولهم، ولم ينصرف الشعراء إلى مدح الملوك وتعداد مآثرهم دون مآثر القبيلة أو الأمة إلا حيث قامت ممالك الغساسنة والمناذرة والتبابعة، فكانت من ذلك مدائح حسان والنابغة والأعشى.

فلما جاء الإسلام خرج العرب دفعة واحدة من الطور الأول من أطوار أنظمة الحكم طور الأرستقراطية، إلى طور الملكية الذي توطدت بينهم قواعده وظلوا في حدوده لا يتعدونه إلى الطور الثالث طور الديمقراطية؛ ويرجع تمكن الملكية بين العرب بعد تعودهم التشاور في الأمور ورغم حض الإسلام على ذلك التشاور، إلى عوامل خطيرة أولها مكانة النبي عليه السلام: إذا كان أول حاكم فرد للجزيرة، وكان له من جلال النبوة وعظمة الشخصية والقدرة الخارقة ما عود العرب الامتثال لأمير مطاع؛ وزادهم انقياداً لهذا الضرب من الحكومة اقتفاء العمرين أثره في عدل الحكم ونجاحهما في الخارج والداخل، وحرص المسلمين على وحدة الكلمة والدين ما يزال يجاهد أعداءه؛ ومن تلك العوامل أيضاً اتساع أطراف الدولة العربية السريع، حتى عادت إدارتها متعذرة إلا بيد حاكم فرد مطاع؛ ومنها قيام الدولة على أنقاض ملكيات عتيدة ما لبثت تقاليدها أن سرت في كيان الدولة الجديدة؛ ومنها الصفة الدينية التي ظل يتخذها الحاكمون

لذلك هجر العرب تدريجياً تقاليد التشاور وتوطد لديهم نظام الملكية المطلقة، فكان منذ قيام دولتهم النظام الوحيد الذي عرفوه، أو فكروا فيه، فلم يقم من مفكر يهم من نادى بنظام مخالف له، أو دعا إلى ضرب من الديمقراطية؛ بل كانت الملكية لديهم هي النظام الطبيعي الذي لا نظام غيره؛ وظل لسان حالهم قول المتنبي:(وإنما الناس بالملوك)، وإنما كان أحرار هم يفرضون في الملك العدل والإصلاح واتباع أحكام الدين وإلا وجب خلعه. وعلى هذا الأساس كان خلع عثمان والوليد ابن يزيد، وامتلأ تاريخ العرب بالثورات، ولكنها لم تكن - فيما عدا ثورة الخوارج الذين تمسكوا وحدهم بتقاليد الجاهلية وديمقراطية الإسلام - تمردا على نظام الملكية المطلقة، بل كانت ثورة مظلوم على ظالم، أو وثبة فرد بفرد، أو فتكة أسرة بأسرة؛ وفي ظل هذا ظل هذا النظام الملكي المطلق بلغ الأدب العربي غاية رقيه.

ص: 20

أما في إنجلترا، فساعدت الظروف المحلية الجغرافية والتاريخية على خروج الشعب من الطور الثاني إلى الطور الثالث من أنظمة الحكم، فأن عزلة الجزيرة أبعدتها عن غمار الحروب التي تتخذها الملكية ذريعة لتقوية سلطانها، وفرض الضرائب، وجمع جيش قائم يخمد كل تمرد على مظالمها في الداخل ويشيد في الخارج إمبراطورية لا يتسق حكمها لغير الملكية، فلم يتجه الشعب الإنجليزي إلى التوسع الخارجي، ولم يبن إمبراطورية إلا بعد أن وطد أساس حقوقه وحرياته، وبنى تلك الإمبراطورية تدريجياً، فلم يستهدف لتضخم فجائي يوقع حكومته في يد دكتاتور، وبذلك ظل الشعب غنياً عن خدمات الملكية في الخارج قادراً على كبح جماحها في الداخل لقوته وضعفها، فأحرز عليها النصر الحربي في كل ثورة ثارها في وجهها، بينما كان نصيب الثورات الشعبية في الدولة العربية السحق العاجل.

ترعرع الأدب الإنجليزي وقد ثبت النظام الدستوري في إنجلترا بجانب نظام الملكية، وشهد الأدب تضامنهما أحياناً كما في عصر شكسبير، وصراعهما أحياناً كما في عصر ملتون، وكان رجال الأدب عادة في جانب الحرية والديمقراطية يجاهرون المستبدين العداء، وقد عميت عينا ملتون في دفاعه بقلمه عن الجمهورية في ظل كرومويل؛ ولم يصلح ما بين الملوك والأدباء إلا بعد انتصار الديمقراطية على الملكية، وصيرورة الملكية جزاء من النظام الدستوري، وشارة من شارته؛ وفي ظلال هذه الديمقراطية بلغ الأدب الإنجليزي مبالغ عظمته.

فهذا فرق ما بين الأدبين في هذا الصدد: أن أحدهما بلغ أوجه في ظل النظام الملكي؛ والثاني جرى إلى مداه في حمى النظام الدستوري؛ ومن ثم نجد الأدب الإنجليزي أعظم حرية في النزعة وأصدق في التعبير، وأغنى بالمواضيع، وأكثر تنوعاً في الأشكال، لأن الملكية ليست بخير النظم التي يترعرع في ظلها الفن الصحيح، لأنها شديدة الأثرة والغيرة، ولا ترضى من ضروب النشاط إلا بما يتوفر على خدمتها، ولا تسمح للحق والفن بالذيوع إذا كان في ذيوعهما تحدٍ لسلطتها. أما النظام الدستوري فيفسح المجال للمواهب بلا عائق، ويطلق العنان للحقيقة بلا كابح.

فمن شأن الملكية المطلقة أن تخمد الرأي العام في بلادها، لأنها (هي الدولة) والرأي لها، لا

ص: 21

يكاد ينطق ناطق أو يعمل عامل إلا بما ترضاه؛ ومن ثم كفت الشعب عن ممارسة شؤون الحكم، وكفت الأدباء عن نقد أحوال المجتمع؛ فعاش أدباء العربية بنجوة عن ذلك المجتمع لا يكادون يشعرون بشعوره أو يعبرون عن خوالجه أو يصفون أحواله، ومن ثم لم تظهر في الأدب العربي القصة التي تدرس المجتمع وتحلل دخائل النفس، وجاء شعر الشعراء ونثر الكتاب أكثره نظرياً لا اتصال بينه وبين حقائق المجتمع والحياة اليومية. أما في إنجلترا فان توطد أركان الديمقراطية صاحبه ظهور القصة الاجتماعية وتعاظم مكانتها حتى طغت على أشكال الأدب الأخرى.

وفي ظل الملكية المطلقة ذوى ضرب آخر من ضروب الأدب، هو الخطابة التي لا تزدهر إلا حيث الديمقراطية والمشاورة وحرية الرأي، فنراها بعد أن بلغت أوجها قبيل الإسلام وفي صدره تخمل تدريجيًا تحت الملكية التي تستأثر بالرأي والفعل، وتبطل كل رأي آخر وكل فعل، على حين ظلت للخطابة في الإنجليزية منزلتها، وأنجب البرلمان الإنجليزي في عهوده القريبة خطباء مصا قع، أمثال والبول وفوكس وبت وبرايت وغلادستون.

وفي نظير ابتعاد الأدباء عن نقد المجتمع والخوض في شؤون الحكم، ترك لهم الملوك عنان العبث مرسلا، يقارفون ضروب المجون في منتدياتهم، ويدونون صنوف الهجر في آثارهم، ويتبادلون فاحش القول في أشعارهم، فامتلأ الأدب بذلك السقاط حتى ظن المتأخرون الذين شبوا على دراسته أن الرقاعة والخلاعة من صفات الأديب، وحتى ترفع ذوو الحسب عن معاطاة الأدب

ولم يكتف الملوك بكف الأدب عن نقد أعمالهم بل اتخذوا رجاله أبواقاً للتمدح بمآثرهم ما صبح منها وما بطل، فكما اتخذوا من مرتزقة الجند أنصاراً لهم على إخضاع الرعية، اتخذوا من مرتزقة الشعراء أعواناً على تضليلها، وقد هبط هذا الارتزاق بالأدب عن مكانته السامية درجات؛ وحسبك أن يهبط الشاعر من قمة الفن والشعور والصدق إلى وهدة الشحاذة والتمليق والكذب، وهذه خلال تنزه عنها الأدب الإنجليزي في أغلب عهوده، لأن الشعب لم يمكن الملكية من ابتزاز ثمار اجتهاده وكده لتبعثرها في مظاهر الأبهة الجوفاء، وتنثرها على المرتزقة من الجند والشعراء.

وفي سبيل استرضاء الحكام واستدرار صلاتهم لم يحجم كثير من الشعراء عن امتهان الفن

ص: 22

من جهة، فأذالوا الشعر وملئوه بالأكاذيب، وعن امتهان الخلق الكريم من جهة، فمدحوا الظالم والقاتل ما دام في دست الحكم، وتقربوا إليه بذم أحفاد الرسول، وتملقوه بهجاء من فتك بهم من قواد ووزراء، وهجا البحتري الخلفاء المخلوعين ومدح من استعادوا العرش على التوالي، ومدح بشار العلوي الخارج على المنصور، فلما علم باندحاره حور القصيدة ومدح بها المنصور. وتحاسد الشعراء وتهاجوا لتنافسهم على جوائز الأمراء، على حين نرى في الإنجليزية أن شلي لما بلغه امتداح سوذي لملك إنجلترا في ذلك العهد امتداحاً متملقاُ، كتب إليه يوسعه توبيخاً ويجاهره بالقطيعة.

وإذا ندرت في الأدب العربي آثار انتصار الأدباء للشعب ومناصبتهم الملوك دفاعاً عنه، فلم تندر فيه أخبار الخارجين على الحكام طلباً للملك والمجد الشخصي كحكاية تميم بن جميل الذي أنشد بين يدي المعتصم تائيته البديعة التي مطلعها:

يعز على الأوس بن تغلب موقف

يسل علىَّ السيف فيه وأسكت

ولم تندر أخبار الأدباء الطامحين إلى الملك كالمتنبي الذي خرج في صباه وظل يتوق إلى الخروج طول حياته، والشريف الرضى الذي باح مرة بدخيلة نفسه فأسقط عليه الخليفة، بقصيدته التي أولها:

ماُ مقامي على الهوان وعندي

مِقوَل صارم وأنف حَمىّ

وما كان مثل ذلك ليكون في الأدب الإنجليزي: فالأدباء الإنجليز كانوا أشد حباً للأدب واعتداداً بمكانة الفن من أن يهجروهما إلى شيء آخر ولو كان هو الملك، كما كانوا من جهة أخرى أشد إخلاصاً لوطنيتهم ووفاء لسعادة بلادهم من أن يفكروا في اعتراض سبيل الحياة الدستورية التي رضيتها لنفسها، وما كانت الظروف لتعينهم لو حاولوا بأكثر مما أعانت أدباء العربية سالفي الذكر.

ولتزاحم شعراء العربية على صلات الملوك ومن تشبه بهم من الأمراء تجمعوا في المدينة وانصرفوا عن محاسن الطبيعة، فلم تفز من أغلبهم بكبير التفات. وقل مثل ذلك في شتى أبواب الشعر: فما يكاد يكون في أشعار الفحول وصف لجيش أو أسطول أو بحر أو بلد أو قصر أو منظر، أو رثاء أو حكمة أو تفكير في الحياة والموت، إلا مرئياً كل ذلك من وجهة نظر الممدوحين وجارياً في أطواء مدحهم والترنم بما حازوا من رفيع الشأن، فكانت مدحة

ص: 23

صاحب النوال هي الوحي الأول الذي يدفع الشاعر إلى ملاحظة تلك المشاهد وتدبر تلك الحقائق.

ولاعتماد الأدباء في معاشهم على صلات الأمراء، وتوقف سعودهم ونحوسهم على رضى الأمراء وغضبهم، كثرت الشكوى في الأدب العربي، وأنحى الأدباء على ما أسموه الدهر ذماً وتقريعاً وتفنيداً، وعزوا أنفسهم بالتفاخر الأجوف، وطال ذمهم لحرفة الأدب، وما يزاملها من شقاء وحرمان؛ ولا ذنب للأدب، وإنما هم صيروه حرفة وما هو إلا فن، بل هبطوا به إلى ما دون الحرفة فصيروه تسولاً. أما في الإنجليزية فنرى جيبون مثلاً يسخر مر السخر ممن يزعمون أن الأدب أشقاهم ويعلن في صراحة واغتباط أن كتابه عن تاريخ الرومان كان خير رفيق له وسمير لروحه أعوام تصنيفه، ثم أناله من بعد ذلك صيتاً وضمن له بعد مماته ذكراً ما كان يستحقه بدونه.

أما من قنطوا من صلات الأمراء من بين شعراء العربية، وقعد بهم عجز حيلتهم عن الوصول إلى ساحات الملوك، فأما هجروا الشعر جملة وإما عكفوا على نظم أشعار الزهد، فغزر ذلك الضرب من النظم في العربية. وليس التزهيد في الحياة بأسمى رسالات الآداب، بل رسالتها الصحيحة الترغيب في الحياة والتعبير عن جمالها والدعوة إلى الاستمتاع به.

ولطمع الأدباء في جوائز الأمراء نزحوا من أطراف البلاد إلى العاصمة؛ فصارت دون سواها من المدن مجال الشعر وسوق الأدب، وخمد في غيرها نور الفنون؛ أما في إنجلترا فقلما هجر أديب بلده إلى لندن طلباً للحظوة والمال، بل هجر بعضهم مقامه بالعاصمة إلى منطقة البحيرات، فاستقر حيث الجمال الطبيعي والحياة الشعرية والوحي الصادق، وحيث عرش الطبيعة لا عروش المالكين.

ومن خلال المدح كان يتحدث شعراء العربية عن انتصارات الدولة في الحروب، فكل من أبي تمام والمتنبي وابن هاني الأندلسي يشيد بانتصار ممدوحه، وينسب إليه كل الفضل في تدبير الرأي والإقدام وهزيمة العدو ونصر الدين؛ أما في الإنجليزية فكان شعراء الوطنية أمثال كاميل وتنيسون وكبلنج يرون في انتصارات الدولة ظفراً للقومية الإنجليزية لا فخراً شخصياً للملك، فتغنى الشعراء بتلك الانتصارات، وشادوا ببسالة القواد وأمراء البحر الذين أكسبوا أمتهم مواقف الفخار، وقلما التفتوا إلى الملك أو خصوه بذكر.

ص: 24

وكما طلب شعراء العربية الرزق بمدح الملوك، طلبه الكتاب بالاستيزار والإنشاء في دواوينهم، فجاءت آثارهم الأدبية كآثار الشعراء، كثيرة المبالغة والإغراق، قليلة النصيب من صدق الشعور وصحة النظر، كثيرة التلاعب بالألفاظ؛ وكان لأولئك الوزراء شأن أعجب من شأن الشعراء: إذ اتخذهم الخلفاء وسيلة لابتزاز أموال الرعية، حتى إذا ما حان الحين فتكوا بهم واستصفوا أموالهم، وكتب الأدب حافلة بأنباء نكباتهم.

ولا ريب أن غيرة الملوك على سلطانهم المطلق كانت من أسباب الانصراف عن ترجمة تراث اليونان الأدبي والتاريخي، كما ترجم تراثهم الفلسفي إلى العربية، لأن هذا الأخير مشحون بالنظريات والقضايا الخيالية التي لا تتعرض لسلطانهم بسوء، على حين أن تراث اليونان الأدبي حافل بمظاهر الديمقراطية، وآثار اشتراك الشعب في حكم نفسه، فالملكية أكثر تسامحاً مع العلماء وتشجيعاً للعلوم التي تدرس ظواهر الكون العامة، منها للآداب التي تترجم عن مشاعر النفوس؛ ولا شك في أن اطلاع الإنجليز على آداب الإغريق وتاريخهم كان من عوامل تمكين نفوسهم وتشبثهم بحقوقهم. وهكذا كانت الملكية المستبدة من أسباب حرمان الأدب العربي من الأثر اليوناني الذي استفاد منه الأدب الإنجليزي فوائد جزيلة.

فالملكية في إبان صولتها ليست بخير أنظمة الحكم التي تزدهر في ظلها الآداب الرفيعة، أما في عهود عجزها فهي شر مستطير على الفكر والحضارة عامة: فحين ضعفت قبضتها على الدولة العربية تقطعت أوصال المملكة، وتكاثر الملوك والأمراء وتنازعوا وتحاربوا، فكل بلدة (فيها أمير المؤمنين ومنبر)، وظهروا في جلود الأسود منتفخين، وأفقروا البلاد بحروبهم ومغارمهم، وكان منهم الأعاجم الذين لا يقدرون الأدب، فخيب لديهم رجال الشعراء فركد حتى ذلك الضرب من الشعر المملوء بالأماديح والمبالغات، ودخلت الحضارة عامة والآداب خاصة في دور ذلك التدهور الطويل الذي دام قروناً.

فالأدب العربي قد شهد الطورين الأول والثاني من أطوار النظام الحكومي التي تقدم ذكرها في صدر هذه الكلمة: طور الأرستقراطية في الجاهلية، وطور الملكية في الإسلام، فجاء في الطور الأول أكثره حماسي عصبي ممجد للقبائل وأبطالها، وكان قائلوه عادة من الأشراف ذوي المكانة، وظل في الطور الثاني مكفوفاً في حيز الحدود التي رضيتها له الملكية، منصرفاً عن أغراض كثيرة من أغراض الفن السليم، وترعرع الأدب الإنجليزي في الطور

ص: 25

الثالث من أنظمة الحكم، طور الديمقراطية، فجاء حر النزعة، متعدد النواحي، واسع الأفق، محتفظاً بسمو الفن وتجرده عن المادة؛ وكان الفرق بينه وبين الأدب العربي، أن الأخير بلغ أشده في ظل الحماية والمنحة، والأول جرى إلى غايته في ظل الحرية والاستقلال.

فخري أبو السعود

ص: 26

‌نظرية النبوة عند الفارابي

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

- 6 -

للباحثين في تاريخ الفلسفة مذاهب كثيرة وطرائق مختلفة. فجماعة يرون إن واجب المؤرخ ينحصر في دراسة الأشخاص وتفصيل القول في حياتهم وبيان الظروف المحيطة بهم والعوامل الداخلية والخارجية التي أثرت فيهم. ولا يعنون عناية كبيرة بأفكارهم في نشأتها وتكونها وارتباطها بالآراء والنظريات السابقة واللاحقة. على أنهم إن تعرضوا لهذه الأفكار نظروا إليها منعزلة عما حولها، وبدت في أيديهم كأنها وحدة مستقلة وحلقة منفصلة عن سلسلة التفكير الإنساني. وهناك طائفة أخرى تؤمن بأن الفلسفة دائمة وأن الأفكار الفلسفية في مختلف العصور متصلة الحلقات مرتبط بعضها ببعض. فيجب على الباحث إذن أن يبين مقدار تأثر الخلف بالسلف وما زاد التلميذ على الأستاذ. وليس بكاف أن يقال إن فيلسوفاً ما جاء بفكرة معينة، بل لا بد من البحث عن أمهات هذه الفكرة وجداتها القريبات أو البعيدات، وعن بناتها وبنات بناتها إن صح أنها أعقبت في الأجيال التالية؛ والأفكار كالأشخاص ذات تاريخ يطول ويقصر وحياة متنوعة الألوان والأشكال، ففي حين أنه يقدر لبعضها الخلود قد يقضى على بعضها الآخر بالإهمال والنسيان.

وفي رأينا أن الدراسة التاريخية الكاملة تستلزم الجمع بين هاتين الطريقتين؛ وكي تفهم الأفكار فهماً صحيحاً يجب أن تدرس على ضوء حياة أصحابها والبيئة التي تكونت فيها، ولا يمكننا أن نقدر الفلاسفة والمفكرين حق قدرهم وننزلهم في المنزلة اللائقة بهم إلا أن تتبعنا أفكارهم في مختلف أدوارها وأثبتنا ما أنتجت من آثار. وكثيراً ما أعانت الأفكار على توضيح نواح غامضة في حياة مبتكريها أو القائلين بها.

وسيراً على هذه السنة قد بدأنا فعرضنا نظرية النبوة كما تصورها الفارابي، وحاولنا أن نبين الأسباب الاجتماعية والدينية التي دفعته إليها، والمناقشات اليومية والأبحاث النظرية التي ولدتها، ثم صعدنا إلى أصولها التاريخية ووضحنا العلاقة بينها وبين بعض الآراء

ص: 27

القديمة، وناقشناها أخيراً مبينين ما إذا كانت تلتئم مع التعاليم الإسلامية وتقتصر شقة الخلاف بين الفلسفة والدين؛ ونرى اليوم واجباً علينا أن نبين ما لهذه النظرية من أثر فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين، وسنتتبع تاريخها في المدارس الإسلامية على اختلافها محاولين أن نبين كذلك مقدار نفوذها لدى اليهود والمسيحيين في القرون الوسطى والتاريخ الحديث.

وقد يكون أول سؤال يسأله الباحث هو: هل أخذ فلاسفة الإسلام الآخرون بهذه النظرية؟ والجواب على هذا أن ابن سينا أولاً اعتنقها في إخلاص، وعرضها على صورة تشبه تمام الشبه ما قال به الفارابي من قبل، وقد خلف لنا رسالة عنوانها:(في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم)، وفيها يفسر النبوة تفسيراً نفسياً سيكلوجياً، ويؤول بعض النصوص الدينية تأويلاً يتفق مع نظرياته الفلسفية. ويبدأ كالفارابي، فيوضح الأحلام توضيحاً عليماً؛ فإذا ما حل مشكلتها جاوزها إلى موضوع النبوة. وفي رأيه أن التجربة والبرهان يشهدان بأن النفس الإنسانية تستطيع الوقوف على المجهول أثناء النوم؛ فليس ببعيد عليها أن تستكشفه في حال اليقظة. فأما التجربة والسماع فيقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبئوا بالمستقبل بواسطة أحلامهم. وأما عقلاً فنحن نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلة مثبتة في العالم العلوي ومقيدة في لوح محفوظ، فإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى هذا العالم والوقوف على هذا اللوح عرفت ما فيه وتنبأت بالغيب، وهناك أشخاص يدركون هذا أثناء النوم عن طريق مخيلتهم فيحلمون بأشياء كأنها حقائق ملموسة، وآخرون عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم، فأدركوا ما في عالم الغيب في حال اليقظة كما يدركونه أثناء النوم. وهؤلاء هم الأنبياء الواصلون إلى مرتبة النور والعرفان. يقول ابن سينا (التجربة والقياس متطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال المنام. فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة إلا ما كان إلى زواله سبيل ولارتفاعه إمكان. إما التجربة فالتسامع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج نائم قوي التخيل والتذكر. وأما القياس فاستبصر فيه من تنبيهات:

تنبيه: قد علمت فيما سلف إن الجزئيات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلي، ثم قد

ص: 28

نبهت لأن الأجرام السماوية لها نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأي جزئي. ولا مانع لها عن تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري.

إشارة: ولنفسك أن تنتقش بنقش ذلك العالم بحسب الاستعداد وزوال الحائل. قد علمت ذلك فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينتقش فيها من عالمه) فالحقائق منقوشة في العالم العلوي وكل من اتصل به أدركها. والمهم فقط هو شرح كيفية هذا الاتصال. وابن سينا يوضح هذا توضيحاً يحاكي فيه الفارابي حذوك القذة بالقذة. فيلاحظ أن بعض المرضى والممر ورين يشاهدون صوراً ظاهرة حاضرة دون أن يكون لها أية صلة باحساساتهم الخارجة؛ ولابد لهذه الصور من سبب باطني ومؤثر داخلي. وإذا بحثنا في قوى النفس المختلفة وجدنا أن المخيلة مصدر الصور الباطنية المختلفة بيد أنه قد يصرفها عن عملها شوا غل حسية وأخرى باطنية. فإذا انقطعت هذه الشواغل أو قلت أثناء النوم لم يبعد أن تكون للنفس فلتات تخلص بها إلى جانب القدس فينتقش فيها نقش من الغيب. وإذا كانت النفس قوية الجواهر تسع الجوانب المتجاذبة، وتستطيع الاستيلاء على الشواغل المختلفة، لم يبعد أن يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة. وهذه القوة ربما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي؛ وقد تحصل بضرب من الكسب يجعل النفس كالمجرد لشدة الذكاء كما تحصل لأولياء الله الأبرار. والذي يقع له هذا في جبلة النفس ثم يكون خيراً رشيداً مزكياً لنفسه، فهو ذو معجزة من الأنبياء، أو كرامة من الأولياء. وتزيده تزكيته لنفسه في هذا المعنى زيادة على مقتضى جبلته فيبلغ المبلغ الأقصى.

فالنبوة إذن فطرية لا مكتسبة، وكل ما للكسب فيها من يد أنه يزيد النبي كمالاً على كماله، ورفعة فوق رفعته. وإذا ما حظي شخص بالاتصال بالعالم العلوي تمت على يديه أمور خارقة للعادة من معجزات وكرامات. وهذه الأمور وإن غاب عنا سرها يمكن أن تفسر من هذه الطريق النفسي الروحاني. يقول ابن سينا: (لعلك قد تبلغك عن العارفين أخبار تكاد تأتي بقلب العادة فتبادر إلى التكذيب. وذلك مثل ما يقال إن عارفاً استسقى للناس فسقوا، أو استشفى لهم فشفوا، أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر، أو دعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان، أو السعير والطوفان، أو خشع لبعضهم سبع، أو لم ينفر

ص: 29

عنه طير، أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح، فتوقف ولا تتعجل، فان لأمثال هذه أسباباً في أسرار الطبيعة، وربما يتأتى لي أن أقص بعضها عليك). وهذه الأسباب، في رأي ابن سينا، ليست شيئاً آخر سوى ان النفوس السامية وقد تجردت عن المادة وصعدت إلى سماء الأرواح تستطيع التأثير في العالم الخارجي مثل نفوس الأفلاك وعقولها. وأثرها هذا خاضع في الواقع للإرادة الإلهية وفيض من العناية الربانية. فالمعجزة وإن خرجت على المألوف في ظاهرها هي أثر من آثار القوى المتصرفة في الكون. وكأن ابن سينا أحس بأن هناك أشخاصاً سيتمادون في طريق الفروض العقلية ويرفضون هذه التفسيرات الروحانية، فعاد في آخر بحثه ودعاهم إلى التأني والتدبر والبحث والتمحيص قبل الإنكار والقطع بالاستحالة، وختم إشاراته بتلك النصيحة الذهبية الغالية التي يجب أن يضعها كل باحث وكل مفكر دائماً نصب عينيه. يقول:(إياك أن يكون تلبسك وتبرؤك عن العامة هو أن تنبري منكراً لكل شيء فذلك طيش وعجز، وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك بينته. بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما دامت استحالته لم تبرهن لك. والصواب لك أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنها قائم البرهان، واعلم أن في الطبيعة عجائب، وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب)

درس ابن سينا نظرية النبوة في البحث الأخير من الإشارات فجاءت درة العقد وإكليل الكتاب، وأفاض عليها من فصيح بيانه وقوة برهانه ما منحها سلطاناً فوق سلطانها وقوة إلى جانب قوتها، ويغلب على ظننا أن كل فلاسفة الإسلام اخذوا بها. ومما يؤسف له أنه لم يصلنا شيء عن ابن باجة وابن طفيل يوضح موقفهما إزاءها، إلا أن نزعتهما التصوفية ورغبتهما الأكيدة في التوفيق بين الفلسفة والدين تدفعنا إلى القول بأنهما كانا يسلمان بها ويدعوان إليها، أما ابن رشد فقد عرض لها في تهافت التهافت مفنداً لاعتراضات الغزالي ومدافعاً عن الفلاسفة القدامى والمحدثين، وهو يرى أن هذه النظرية وإن تكن من صنع فلاسفة الإسلام وحدهم مقبولة في جملتها، ولا وجه للغزالي في الاعتراض عليها، وما دمنا نسلم أن الكمال الروحي لا يتم إلا باتصال العبد بربه فلا غرابة في أن تفسر النبوة بضرب

ص: 30

من هذا الاتصال. غير أن هذه التفسيرات العلمية يجب أن تبقى وقفاً على الفلاسفة والعلماء، فأن عامة الناس لا يدركون كنهها ولا يستطيعون الوقوف على حقيقتها، وجدير بنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، ونقدم لكل طائفة ما يناسبها من غذاء.

(يتبع)

إبراهيم بيومي مدكور

ص: 31

‌الشفاء

للأستاذ علي الطنطاوي

. . . كان مصاباً بالسل، ولكنه سل غريب قاتل، لم يكن في الرئة ولا في الأمعاء، بل كان في النفس، في الفكر، فكان يعطل شعوره وتفكيره، ويخنق حياته، ويهد كيانه. . . كان مصاباً (بداء الحب).

خمدت جذوة قريحته، وتعطلت ملكاته كلها، وضاع ذكاؤه وبادت فطنته، وضاق كل شيء في نظره، فأصبح يراه مقتضباً مختصراً: فالمسرات كلها اختصرت في لقاء من يحب، والآلام في فراقه، والواجبات كلها في إرضائه، والمحرمات كلها في أغضابه، واختصر كتاب حياته، وطمس اسمه وعنوانه، فكان حاشية صغيرة على هامش الحياة التي يحبها، واختصرت الدنيا الطويلة العريضة المليئة بالفضائل والأمجاد، الفياضة بالجمال والحقيقة والخير، فكانت كلها هذه المرأة. . .

وأقهم عن الطعام واجتواه، وأصبح خالفاً لا يشتهيه ولا يميل إليه؛ وإذا اضطر أكل أكل من قزت نفسه واكتفى بلقيمات ما يقمن صلبه، كأن هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس، حتى يحطم الجسم؛ وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهداً، وإذا رنق النوم في عينيه، وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة، ثم أفاق فزعاً، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغرق في بحر عينيه!. . .

فهزل جسمه وخارت قواه، وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهماً رازماً، ضعيفاً مخبخبأ، ولم يعد يعيش إلا على المجاز، يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي، وفكر ثاقب، وقلت شاعر. . . ولم يعد ينتفع بنفسه، أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه. . .

وهكذا الحب أبداً: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة!

وكان أمس، وكان يوماً هجهاجاً من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء معصفة، تذعذع الأشجار، وتثير الأوراق، وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة، فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا، وههنا. . . معتكرة تسفي التراب. وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في

ص: 32

السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس، ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش في العيون والمناخر والآذان، وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق، وبطون الخزائن، وقلوب الساعات. . . بل إنه لدقته وخفته وسرعته ليكاد يدخل في نفسه. . .

وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بداً، فتحزم وتدثر، وتعطف بمعطفه الثخين، والتحف فوقه بالممطر (المشمع) يتقى به المطر، ولف شملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها؛ وسار الهويني، لا يطيق حراكاً، لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق، وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء.

وكان وحده في طريق (الصليخ)، لم يجد سيارة يركبها، ولا قوماً يصحبهم، فنزل ماشياً، وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل، تعبث به الرياح فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه. فتفرقها ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة، تحركها يد لا ترى، فتروح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها، وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطى على كل شيء، ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه؛ وكانت الرياح زعزعاً شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتاً وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضعفه وأحماله. . . ولحظ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوته، فجعل ينظر في عطفيه زهواً وتيهاً، وجعل يتأمل دخيلته، ويفكر في نفسه؛ من هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟. . .

واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيراً، فلم يبال بها ولم يحفلها، لأن زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبت في نفسه. . . تنطح هذا الحب وتريد أن تنسفه. . . فوقف يفكر: لماذا يضيق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنساناً جميلاً ظن أنه يحبه؟

لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومن قال إنه لا يعيش إلا بها؟ ماذا كان يصنع قبل

ص: 33

ان يعرفها؟ ألم يكن يعيش؟ ألم تكن حياته أجمل وأحفل بالعظائم، وأملأ بالفضائل؟ هل كان هذا الحب إلا مرضاً عضالاً هد جسمه ومحا مواهبه، وفل عزيمته، وأقام بينه وبين الحياة سداً من لحم ودم؟

يا للسخف! أيحكم على نفسه بالألم الدائم، والقلق المستمر ليحظى ذلك الإنسان بالسرور والاطمئنان؟

أيوجب على نفسه الشحوب لأنها موردة الوجنتين؟ أيختار المرض والهزال لمجرد أنها صحيحة بضة؟. . .

يا للخجل! ألا يرى الدنيا إلا في عيني هذا الإنسان؟ أيقنع من السعادة والمجد والعلم والبطولة والدفء والنور والحياة بابتسامة واحدة؟

وبدا له الحب كأسخف شيء يكون. . .

وكانت الدنيا قد استطير لبها، وجن جنونها، وهطلت الأمطار سريعة قوية، تضرب وجهه. . . فأحس بالقوة والنشاط، وجعل ينشق ملء رئتيه، وتبرق عيناه بريق العزم، ثم ألقى عصاه وشملته، ونزع عنه هذه الأحمال من الثياب. . . وانتفض وضرب الفضاء بقبضيته، وصاح صحية الفرح: قد شفيت!

ثم انطلق نحو الدنيا الواسعة. لم تعد محرمة عليه، لأنه لم يعد يحب!

(بغداد)

علي الطنطاوي

ص: 34

‌ما قول علمائنا؟

الوحدة الإسلامية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

الأستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر

سمعت المحاضرة التي ألقاها بدار جمعية الشبان المسلمين صاحب السماحة الشيخ عبد الكريم الزنجاني كبير مجتهدي الشيعة ورئيس مجلسهم الأعلى، وكانت المحاضرة في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، فرأيت فيه عالماً كبيراً، وإماماً مصلحاً، يندر وجود مثله بين علماء المسلمين في هذا العصر. ولا غرو أن تنجب بلاد إيران مثله، فقد أنجبت قبله في هذا العصر ذلك الحكيم العظيم، (جمال الدين الأفغاني) موقظ المسلمين من غفلتهم، وباعث الدعوة الإصلاحية القائمة الآن فيهم؛ وكأن الله أتى بالأستاذ الزنجاني ليكمل ما بناه قبله الحكيم الأفغاني، فليسر الأستاذ في سبيله، ولينسج على منواله، فالطريق ممهدة والغاية مرجوة، والأمل كبير في النجاح بعون الله تعالى.

ولكن كيف تتم الوحدة الإسلامية التي يدعو الأستاذ الزنجاني إليها؟ وما هو الطريق الموصل إليها حقيقة لا خيالاً؟ هنا أخالف الأستاذ الزنجاني فيما يراه من قيام هذه الوحدة على إزالة الفوارق بين الطوائف الإسلامية في الأصول الدينية على الأقل، وتقريب شقة الخلاف بين هذه الطوائف حتى تنحصر في الفروع وحدها.

فأني أرى ان هذا طريق شائك لا يوصلنا إلى الغاية المطلوبة من هذه الوحدة، لأن هناك خلافات حقيقية وكبيرة بين هذه الطوائف، ولا يمكن التقريب بينها فيها ولو بذلنا في ذلك ما بذلنا؛ فلا بد من طريق آخر يوصلنا إلى هذه الوحدة غير هذا الطريق ويقوم فيه بناؤها مع قيام هذه الفروق، وبقاء تلك الخلافات في الأصول والفروع.

فالخلاف بين أهل السنة والشيعة في عصمة الأئمة خلاف حقيقي، وهو خلاف في أصل من أصول الاعتقاد لا في حكم من الأحكام الفرعية؛ وأهل السنة يرون أن العصمة صفة خاصة بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما الشيعة فلا يرون العصمة صفة خاصة بهم ويعتقدون العصمة في الأئمة من أهل البيت أيضاً، ولكنهم لا يقولون بأنهم أنبياء أو

ص: 35

رسل. وقد تكلف الأستاذ الزنجاني إزالة الفرق بين أهل السنة والشيعة في هذا الاعتقاد، فقال ما مؤداه إن عصمة النبيين تختلف عن عصمة الأئمة عند الشيعة، وأنها في الأئمة معناها العدل والثقة، ونحن إذا وثقنا من رجل في علمه ودينه وعمله استبعدنا أن يقع منه خطأ أو مالت نفوسنا إلى استبعاد وقوع هذا الخطأ منه؛ أما عصمة الأنبياء فلها معناها الحقيقي، فهم معصومون عن كل خطأ، والفرق ظاهر في التقديرين وفي الحكمين. وإني أرى أنه لو كان هذا هو المراد من عصمة الأئمة لما كان هناك معنى في تسميتها عصمة، ولكان شأن الناس فيها كشأن الأئمة من أهل البيت وهو ما لا يقول به الشيعة.

وكذلك الخلاف بين أهل السنة والشيعة في خلافة الشيخين (أبي بكر وعمر) خلاف حقيقي، وله قيمته عند الفريقين.

ويضاف إلى هذا وذاك أن الشيعة في أصول الاعتقاد يتفقون في كثير منها مع أئمة المعتزلة، ويخالفون أهل السنة، كمسألة نفي الصفات وغيرها من مسائل علم الكلام، وهذه كلها خلافات يصعب إزالتها، فلا يصح أن نطمع في بناء الوحدة الإسلامية على محوها

وإنما الواجب في ذلك أن نقبل هذه الخلافات في ديننا، وأن تتسع لها صدورنا، وأن نجعل الخلاف في مثل هذه الأصول مثل الخلاف الذي نقبله في الفروع، فإذا قال الشيعة بعصمة الأئمة فلهم في هذا رأيهم، ما داموا يقولون إنهم أئمة معصومون، وليسوا بأنبياء ولا برسل؛ وإذا قال الشيعة إن علياً رضي الله عنه كان أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنكروا خلافتهما فلهم في هذا أيضاً رأيهم، ولنا رأينا في أن خلافتهما خلافة صحيحة.

وليقم الجدال في هذا وأمثاله بين الطوائف الإسلامية على الإقناع بالحجة النقلية أو العقلية، ولنبعد فيه عن التغالي في التعصب للرأي، والطعن في الدين والعقيدة، والرمي بالإلحاد والكفر، ولنجعل الخلاف في الرأي أداة تواصل وتعارف، لا أداة تقاطع وتجاهل، وليقم الخلاف بيننا على أنه خلاف بين أخوين في الدين، تجمعهما كلمة الإسلام، وتظلهما راية التوحيد، وقد امتاز الإسلام على غيره من الأديان بما سنه من سنة الخلاف في الرأي، فقال الله تعالى في سورة هود (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وجعل

ص: 36

الرسول صلى الله عليه وسلم للمجتهد إذا أخطأ أجراً واحداً، فإذا أصاب فله أجران، ولم يفرق في هذا بين أصول وفروع، بل أطلق الأمر إطلاقاً، وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً.

وهذا هو الأساس الصحيح الذي لا يمكن أن تقوم على غيره تلك الوحدة المطلوبة، أما ذلك الأساس الذي يراد بناؤها عليه فلا يمكن تحقيقه أبداً، لأن الخلاف في الرأي سنة طبيعية في الإنسان، وعلى هذا مضى أمره منذ الخليفة، وسيمكث عليه إلى ما يشاء الله تعالى.

ولابد أن أشير في هذه الكلمة إلى أنه لا بد في تحقيق تلك الوحدة من قبر ذلك الماضي القائم على التدابر والتقاطع، ولا يمكن قبر هذا الماضي إلا بقبر هذه الكتب المتدابرة المتقاطعة، وهي الكتب التي يدرسها أهل السنة في الجامع الأزهر بمصر، والكتب التي يدرسها الشيعة في معهد النجف الأعلى بالعراق؛ وقد أخذت النفوس في الأزهر هذه السنة تحن إليها، وتعمل على إعادة كثير منها، وتمدح مماحكاتها اللفظية الساقطة، وتنسى ما جلبت من الشقاء على الإسلام والمسلمين، وأنه بينما كانت كل قوانا الفكرية مصروفة إلى ألفاظها، كانت قوى غيرنا مصروفة إلى حقائق الأشياء ومعانيها، فنجحوا في علومهم دوننا، وتقدموا وتقهقرنا، ولم تنفعنا هذه المماحكات اللفظية التي برعنا فيها. ولا بد أن أشير أيضاً إلى أنه لا يكفي في تحقيق تلك الوحدة أن يزور الأستاذ الزنجاني الأزهر والكليات التابعة له، ثم نبادله في معهد النجف الأعلى زيارة بزيارة، بل لا بد من الاعتراف في الأزهر بفقه الشيعة ودراسته فيه كما يدرس فقه أهل السنة، ويكون هذا بندب أستاذ لدراسته في الأزهر من أساتذة معهد النجف الأعلى، كما يجب أن يعترف الشيعة بفقه أهل السنة، ويدرسوه في معهدهم كما ندرس فقههم في أزهرنا، ويكون هذا بندب أستاذ من أساتذة الأزهر لدراسة فقهنا عندهم، فيتم بهذا التعارف بيننا وتزول تلك الجفوة الممقوتة، وتتحقق تلك الوحدة المطلوبة.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 37

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مدير مصلحة الكيمياء

- 3 -

إن العلم يجب أن يكون حراً طليقاً يبحث في العالم المجهول حيث شاء وأين يقع. هكذا تقول أنت، وهكذا كنت أقول يا سيدي، ومن أجل جهري بهذا الرأي وإعلاني إياه بصوت غير خافت ساء ما بيني وبين قوم ذوي نباهة وسلطان. كلانا مخطئ يا صحابي في زعمه! وشاهدنا إسميث الذي نحن بصدده. بدأ عمله مستمتعاً بحرية لا تزيد إلا قليلاً على حرية كاتب حكومي صغير، ووجب عليه ألا يبحث إلا في أشياء يمليها عليه الدكتور سلمون، وهذا بدوره إنما استخدم ليوجه إسميث إلى حل معضلات أعجزت المزارعين وأرباب المواشي. فالثلاثة جميعهم - سلمون وكلبورن وإسميث، وكذلك إسكندر، وليس بنا عنه غنى - كل هؤلاء دفعت السلطات إليهم أجورهم كما تدفعها إلى فرقة المطافئ، وانتظرت منهم مثل الذي تنتظره من فرقة المطافئ: أن ينهضوا كرجال الحريق كلما اشتعلت عدوى المرض في الخنازير والعجول والثيران والخرفان فيوجه إليها خراطيمهم فيندفع منها العلم اندفاعاً حتى تنطفئ فيعود البرء والسلام إليها. وكان أصحاب الماشية في هذا الوقت قلقين قلقاً شديداً من جراء مرض غريب يدعى بحمى تكساس.

كانت الأقطار الجنوبية تستورد أبقاراً من الشمال، فتساق هذه الأبقار السليمة من القطر الحديدية إلى المراعي فتنساب فيها فتختلط بأبقار الجنوب وهي جد سليمة، فيمضى الشهر أو الشهران على خير، ثم فجأة تظهر الوافدة الخبيثة في هذه الأبقار الشمالية الجميلة فلا تلبث أن تعاف الطعام، ويصيبها الهزال فتفقد في اليوم الواحد أرطالاً من وزنها، ويجري بولها أحمر غريباً، وتقف حائرة متقوسة الظهر حزينة العين، ثم لا تمضي أيام قليلة حتى تكون كل بقرة قد سقطت سقطة الإعياء، ثم ترقد على الأرض رقدة الموت، وقد تصلبت أرجلها، واستترت بجسومها الباردة المديدة أرض الحقول. وحدثت هذه المأساة عينها عندما

ص: 38

استورد أهل الشمال من الجنوب عجولاً، فلما رعت هذه العجول في الحقول ونزحت عنها، وحل محلها قطعان من بقر شمالي، لم يمض على هذا البقر ثلاثون يوماً أو نحوها حتى أخذ يموت، ولم تمض عشرة بعد أيام ذلك حتى عمه الموت.

أي موت غريب هذا الذي حملته الأبقار الجنوبية إلى الحقول الشمالية دون أن تصاب هي به، فاختبأ بعد ذلك في مخابئ الأرض يتربص لأبقار الشمال ليذيقها عذاب الموت ألواناً؟ وما السر في أنها إذا طلعت على هذا الموت المخبوء لا يبادرها بالهلاك بل يتمهل شهراً أو يزيد؟ وما السر في أن هذا الهلاك لا يحيق بها إلا في أشهر الصيف الحرار.

وثارت ثائرة الأمة كلها من أجل هذا، وساءت العلاقة بين أصحاب البقر في الشمال وأصحاب البقر في الجنوب. وهاجت مدينة نيويورك وارتاع أهلها لما جاءت الأنباء بموت مئات من الأبقار في القطر التي كانت تحملها من الغرب إليها لتغتذي من لحومها. وتحرج الموقف، وصار لا بد من عمل شيء، فنهض الأطباء الفخام في مصلحة الصحة للمدينة العظيمة وأخذوا في البحث عن المكروب الذي سبب هذا الداء. . .

وكان في الغرب طائفة من البقارين كسبوا الحكمة من طول تربيتهم للبقر، فخالوا لهذا الداء علة أوحيت إليهم إيحاء من خلل الدخان المتصاعد من نراجيلهم وهم يتأسون بتدخينها فوق الجثث المركومة التي أضاعوها بسبب هذا الداء. خالوا في شيء من الإبهام أن هذه الحمى التكساسية تسببها حشرة تعيش على جلد البهيمة وتمتص دمها، وأسموا هذه الحشرة القرادة

وضحك الأطباء العلماء في مصلحة الصحة بالمدينة العظيمة، وضحك معهم كل بيطري ممتاز في المحطات التجريبية الحكومية.

قرادة تقدح حمى! حشرة تخلق داء، من ذا الذي سمع بهذا أبداً! وأي علم يرضاه؟ إنها حماقة بالغة! وقال الدكتور جامجي وهو عمدة في الموضوع معروف: إن تفكيراً يسيراً قصيراً يقنع كل أحد بسخافة الفكرة. وكان قائماً قاعداً في بحث حمى تكساس، ولكن لفظة القراد لم تخرج من فيه أبداً. وكان العلماء في كل نواحي القطر قائمين في تقطيع أجسام الأبقار النافقة وكانوا يجدون البشلات في بطونها، ولكنهم لم يستخرجوا منها قرادة واحدة! قال أحدهم: إن روث البهائم ينشر بينها الحمى، فقال الآخر: إنك مخطئ، بل إن اللعاب ينقلها. وهكذا تعددت النظريات بتعدد الباحثين، وظلت الأبقار تموت وهم يختلفون.

ص: 39

- 4 -

وفي عام 1888 كلف الدكتور سلمون رجاله الثلاثة أن يتوفروا على بحث الحمى التكساسية، فوضع اسميث في القيادة يعاونه كلبورن، ثم اسكندر ينظف من ورائهما. وطلب إليهم (أن يكتشفوا الجرثومة)، ولم يذكر لهم شيئاً عن القراد. ولم يأتهم في هذا العام من البقر غير أربع من الأكبدة ومثلها من الأطحلة، جاءتهم في الثلج في جرادل من فرجينيا وماريلاند إلى غرفتهم في ذروة البناء وهي كالفرن في حرارتها.

وكان لدى اسميث حس لم يكن لدى سائر البحاث، فحرر مكرسكوبه على قطع من الطحال الأول فرأى فيه مكروبات كثيرة عديدة الأنواع. واقترب بأنفه منها فتجعد من سوء ما أحس من رائحتها. فقد كانت فاسدة.

عندئذ قام يرسل الرسائل فوراً إلى البقارين أن ينتزعوا أحشاء البقر عقب موته بلا تريث، وأن يرسلوها إليه في الثلج، وأن يعملوا على تقصير ما تستغرق من الوقت في سفرها. وأنفذوا ما أراد. ونظر في الأطحلة لما جاءته فلم يجد بها مكروبة واحدة، ولكنه وجد بها عدداً كبيراً من خلال الدم الحمراء قد انفقع لغير سبب ظاهر، قال:(إن هذه الخلايا انفقعت فتحطمت بفعل فاعل)، ولكنه لم يجد مكروباً، وكان لا يزال حدثاً، وكانت به سخرية الشباب، وكانت به قلة اصطبار واحتمال للبحاث الذين لا يقدرون على التفكير العميق والتركز الشديد.

وكان رجل يدعى بيليجنس ادعى في سخافة أنه رأى بشلة عادية في كل جزء من جثة كل بقرة فحصها، وفي كل ركن من أركان الزريبة، حتى في أكوام روثها، ونسب إلى هذه البشلة حمى تكساس، ونشر عن ذلك مقالاً قال يفتخر فيه:(إن شمس البحوث الأصيلة في الأدواء تحول مطلعها من الشرق إلى الغرب).

قرأ إسميث هذا المقال فقال: (تلك لعمري طنطنة الفخور الغالي). وعقب على هذا ببضع جمل قصيرات قاسيات نال بها شر منال من هذا العبث الذي يدعى علماً. واستيقن أن لا فائدة من الجلوس في معمل مهما كثرت خنازيره الغينية، وترصصت زاهيةً بارقةً محاقنه، ما دام أن البحث لا يصنع فيها إلا التحديق في أكبدة وأطحلة من جثث بقر نالها الفساد إن قليلاً وإن كثيراً، وأراد أن يسلك السبيل السوي، سبيل التجريب الصادق؛ أراد أن يدرس

ص: 40

الداء في البهائم الحية، أراد أن يدرسه فيها وهي تلفظ آخر أنفاسها، أراد أن يتتبع الطبيعة في خطواتها. وجاء صيف عام 1889 فأخذ يتجهز له. وذات يوم أخبره كلبورن بخبر تلك النظرية الخرقاء التي يتحدث بها البقارون، تلك النظرية التي تعزو الداء إلى قراد البقر.

عندئذ أرهف إسميث آذان عقله، لو أن للعقل آذاناً:(إن البقارين الذين يعيشون مع البقر، ويخسرون البقر إذا مات، ويرون من هذه الحمى الخبيثة أكثر مما يرى الباحث، هؤلاء البقارون هم الذين يقولون بهذه النظرية!).

ولد اسميث في المدينة، فهو ابن المدينة لا ابن الريف، ومع هذا فقد كانت تستهويه نفحات الحشيش وهو يحش، وأخاديد الحقل الدكناء وهو يفلح. وكان يؤمن بتلك الجمل القصيرة المقلمة التي ينطق بها الفلاحون عن الجو وعما تنبت الأرض، وكان يرى الحكمة فيها وأنها الحق أو أقرب ما تكونه. كان إسميث ضليعاً في الرياضيات عارفاً باختزالاتها البديعة، وهي علوم يجهلها كل الجهل هؤلاء الرجال الذين اصطنعوا الأرض واحترفوا فلاحتها. وكان كذلك ضليعاً خبيراً في كل تلك العلوم التي تتمثل في المجاهر والأنابيب والخرائط وبريق المعامل، ملماً بكثير من فنون العرفان الدنيوي الصناعي المزوق الذي درج على احتقار الحكمة تجري على ألسن العامة، والسخرية بسذاجة الفلاح وبساطة حاله. ولكنه مع كل هذه الدراسات الواسعة لم يأذن للأبنية الفخمة والمعامل البديعة وأجهزتها المعقدة أن تعكر عليه فكره الرائق، أو تتنفس على مرآة ذهنه الصقيلة، وهذا فيمن نشأ نشأته غريب نادر. وكان دائم الشك لكل ما يحصله من الكتب، دائم الريبة في كل ما تريه الأنابيب. . . ونظر إلى أشد الفلاحين جلفاً واخشيشاناً، وأحصرهم وأعقدهم لساناً؛ حتى إذا أمسك ببيبته - وهي من قلاح الذرة - فأخرجها من قبضة أسنانه - وقد تكون صفراء قلحة قذرة - فهمهم كالرعد بالمثل الريفي المشهور:(شآبيب ابريل تنبت زهور مايو)، سقط هذا القول من فم هذا الفلاح إلى قلب صاحبنا كأنما سقط من شفة حكيم أريب.

واستمع إسميث إلى كلبورن وهو يتحدث حديث النظرية السخيفة، وأكد له كلبورن أن البقارين في الغرب يكادون يجمعون على أن القراد أصل البلاء؛ ثم أخذ يفكر ملياً: (رؤوس هؤلاء البقارين خالصة من زخارف المنطق ومفسدات الفكر، وإن أجسامهم لتتفاوح منها

ص: 41

روائح الثيران والعجول كأنهم بعضها، وهم هم الذين سهروا الليالي وقد تركزت فكرتهم على الداء وهو يجري بالفناء في عروق بهائمهم فيحيل دمها الثخين ماء رقيقاً، وينتزع لقمة الرزق من أفواه أبنائهم وعيالهم، وهم هم هؤلاء الذين قاموا على دفن هذه البهائم الضائعة بعد موتها. فهؤلاء الفلاحون هم الذين يقولون في نفس واحد:(لا حمى حيث لا قراد).

فارتأى إسميث ان يتبع الزراعين، وأن يراقب الداء عن كثب مراقبة البقارين، وتلك طريقة مستجدة في صيادة المكروب: اتباع الطبيعة والتدخل فيها بالحيلة الهينة القليلة.

وجاء صيف عام 1889 واشتد حره، فذكر الناس خسائرهم الماضية، وذكروا شكاواهم المرة التي كانت، فكان لا بد من عمل شيء. وأحست الحكومة كذلك بالحاجة إلى عمل حاسم، فاعتمدت الوزارة للبحث مبلغاً طيباً من المال، وقام الدكتور سلمون بإدارة البحث المطلوب. ومن حسن الحظ أنه لم يعرف إلا القليل عن التجارب والتجريب فلم تقم إدارته عقبة في سبيل إسميث أبداً.

- 5 -

وفي منطقة منعزلة بعيدة أقام إسميث معمله، وأعانه كلبورن في إقامته. وما بالمعمل المعهود كان، فلم يحده سقف وأربعة أركان، بل كان سقفه السماء الحارة، وكان حجراته خمسة أو ستة من الحقول تسورت عن بقية الأرض بسور. وفي يوم 27 يونيو سنة 1889 جاءت سفينة فخرجت منها إلى المعمل سبع بقرات نحيفة بعض النحافة ولكنها صحيحة سليمة. وجاءت هذه البقرات من كرلينة الشمالية وهي بؤرة الحمى التكساسية ومقبرة كل بقرة تدخلها من الأقطار الشمالية. وكان على ظهور هذه البقرات بضعة ألوف من القراد، منها الصغير الذي لا تراه إلا بالمجهر، ومنها أنثيات عظيمة تبلغ نصف بوصة طولاً، وقد انتفخت مما امتلأت بالدم الذي شربته من الجسم المعذب المنكود الذي أضافها غير مختار.

فساق إسميث وصاحبه كلبورن إلى الحقل الأول أربع بقرات من هذه، وأدخلوا معها ست بقرات شمالية سليمة. قال إسميث:(والآن فلن يلبث القراد أن ينتقل إلى هذه البقرات الشمالية، وهي لم تعرف قط ما الحمى التكساسية، فهي لا تعرف ما الحصانة منها. . .) ثم

ص: 42

قال: (والآن فلننهض إلى حيلة يسيرة لنعرف أحقاً هذا القراد سبب الحمى)

وأنفذ حيلته الأولى - أو إن شئت فأسمها تجربته الأولى - وما كانت إلا تجربة قليلة، كان في استطاعة أي بقار ذكي أن يبتدعها لو أنه فرغ من عمله الكثير للتفكير. أما سائر العلماء الأمريكيين فعدوا هذا التجربة من السخف بحيث لا تستأهل محاولة. وبالرغم من هذا قام إسميث وكلبورن فأجرياها، فأخذا يلتقطان بأيديهما ما على ثلاث البقرات الجنوبية الباقية من قراد فلا يفلتان منه واحدة، وأخذ البقر يرفص ويضرب في وجههما بذيله، واحتر الجو فعلت درجته على السابعة والثلاثين، وارتفع تراب الأرض برفص البهائم فانعقد سحباً فوق الرجلين وحولهما، وامتزج بالعرق على جبهتيهما فتعجن وتلصق. واحتل القراد من جلود البقر موضعاً تحت شعورها المتلبدة، وخرج صغاره من اللبد فما أحس بأنامل اللاقطين وهي مجهودة تتحسس حتى انكفأ راجعاً يجد له في مسارب الشعر مهرباً. وتلك القرادات الكبيرة، تلك الأنثيات التي جرعت من الدم حتى انتفخت، كانت لا ترضى أن تنتزع فتتعلق بجلد البقر، فإذا شدت عليها أنامل اللقاط انفقعت فتبجس دمها ولوث.

ولم ينقض النهار حتى خلصت البقرات الثلاث من القراد جميعه، فلم تكن لتجد على جلدها قرادة واحدة، فوضعاها في الحقل الثاني، ووضعا معها أربع بقرات شمالية صحيحة؛ ثم قال:(هذا البقر الشمالي على تمام الاستعداد لأخذ الحمى والموت بها لو تهيأت إليه أسبابها؛ وقد وضعناه الآن مع هذا البقر الجنوبي على أرض واحدة، فسيأكل الجميع حشيشاً واحداً، ويشرب الجميع ماء واحداً. وهذا البقر الجنوبي سيحك أنوفه في أنوف الشمالي، وسيتشمم روثه، ولكنه لن يستطيع أخذ قرادة واحدة منه. إذن فلنصبر لنرى ما شأن القراد والحمى!)

وصبرا على القلق والحر شهرين: يوليو وأغسطس، تسلى فيهما إسميث بدراسة القراد دراسة واسعة، أعانه فيها خبير في الحشر حكومي يدعى كوبر كرتيس فدرسا معاً حياة القراد وأعماله وأحواله، فاكتشفا كيف يتسلق طفل القراد وله ست أرجل ظهر البقرة، وكيف يرتبط بجلدها، فلا يقع من على ظهرها، وكيف هو يمص من دمها بعد ذلك، وكيف ينسلخ من جلده ثم يزيد في أبهة إلى أرجله الست رجلين فتصير ثمانية، ثم هو ينسلخ من جلده مرة أخرى، واكتشفا كيف أن الأنثى من بعد ذلك تتخذ لها زوجاً صغير تتزوجه على ظهر البقر، ثم كيف تجرع بعد ذلك من دم البقر جرعات عظيمات كأنها وليمة العرس، فإذا

ص: 43

هي استكملت أنوثتها سقطت إلى الأرض لتبيض فيها ألفي بيضة أو تزيد؛ وعندئذ، وبعد ما لا يزيد على عشرين يوماً من تسلقها رجل البقرة في أول مرة، تكون قد أدت رسالتها في هذه الحياة الدنيا فتأخذ تنضمر ثم هي تموت. أما الألفان من البيض فتبدأ فيها سير وأحداث غريبة أخرى

وكان إسميث لا يفوتها السفر إلى معمله في العراء البعيد يوماً واحداً، وكان يجد روحه في الخروج من المدينة وترك معمله المعهود في تلك الحجرة الكابسة الحابسة هرباً من صراصيرها ولو إلى تلك الحقول وهي تكاد من الحر تتقد ناراً، وكان كلبورن قواماً على معامل الحقل، وهو الذي طلب الرزق بعد ذلك من تجارة الصيني والفخار. وكان إسميث يدخل في الحقل الأول ليرى هل ظهر القراد على أي من البقرات الشمالية، وليرى هل زادت حرارتها وأخذت رقابها تميل. ثم هو يخطو من بعد ذلك إلى الحقل الثاني ليلتقط من على ظهور البقرات الجنوبية التي فيه بضع قرادات ظهرت عليها، وما كان أفلتها في لقطه الأول، ولكنها كانت عندئذ صغيرة لا ترى. وما كان تنظيف البقر من القراد والتيقن منه إلا عملاً ثقيل مجهداً. والحق أن تلك الأيام التي صبراها على الحر والعرق لم يكن فيها إلا السأم امتد واتصل، حتى جاء يوم بعد منتصف أغسطس بدأت تطلع البشائر فيه. ففي هذا اليوم ظهر القراد على بقر من البقر الشمالي في الحقل الأول، ولم يمض طويل حتى تقوس ظهرها وعافت الطعام. ثم ظهر القراد على كل أخواتها، واتقدت الحمى فيها جميعاً، وخف دمها فصار كالماء، وشفت أضلاعها وبرزت في الجوانب عظامها. والقراد؟ رحماك فقد كان يموج عليها موجاً.

هذا هو الحقل الأول. أما الحقل الثاني حيث لا قراد، فقط ظلت البقرات الشمالية فيه صحيح سليمة كصاحباتها الجنوبية التي اختلطت بها.

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 44

‌بحث لغوي

كلمة (قرآن)

بقلم محمد طه الحاجري

للقراء في أداء كلمة قرآن طريقان: تحقيق الهمزة فيها، وإهمالها منها؛ فبعضهم يقرؤها (القران) وبعضهم (القرآن) والقراءة غير المهموزة تنسب إلى إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين قارئ أهل مكة في زمانه، وآخر أصحاب ابن كثير زماناً، كما يقول عنه الذهبي في كتابه (طبقات القراء المشهورين) وقد روي عن أبي عبد الله الشافعي قوله في هذا الصدد، قال:(قرأت على إسماعيل وكان يقول القرآن اسم وليس بمهموز، ولو كان من قرأت كان كل ما قريء قرآناً، ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والانجيل، تهمز قرأت ولا تهمز القرآن) وكذلك روى صاحب اللسان مثل هذه الرواية، وزاد عليها تزكية لها وإعلاء لسندها النسب الذي يصل قراءة إسماعيل بالقراءة الأولى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:(قال إسماعيل قرأت على شبل، وأخبر شبل أنه قرأت على عبد الله بن كثير، وأخبر عبد الله أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجهد أنه قرأ على ابن عباس رضى الله عنه، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبي، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أورد ابن منظور هذا القول روى عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: (كان أبو عمرو بن العلاء لا يهمز القرآن، وكان يقرؤه كما روى عن ابن كثير) فهذه إذن قراءة معتبرة لا شك في صحتها وقوة سندها.

ولكن عبارة القسط ينظر إليها من ناحيتين: ناحية الرواية وناحية الدراية أو التعليل، أما الأولى فلا كلام لنا فيها، وأما الناحية الثانية فقد نازعه فيها كثير من العلماء الذين أورد الفخر الرازي أقوالهم، فقد قال الزجاج عن قول إسماعيل هذا إنه سهو والصحيح أن ترك الهمزة من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، فكأنه يرى أنها مشتقة من مادة قرأ، وأنها تساوي كلمة قرآن المهموزة، إلا ما كان من هذا التخفيف الذي تجيزه اللغة وتخضع له، ولا يغير شيئاً من أصول الكلمات فيها

على أن هذا التخفيف كثير شائع مطرد في كثير من القراءات التي ترجع إلى أهل الحجاز لما في طبيعة نطقهم وميلهم اللغوي، وهاك ما يقوله ابن الجزري في كتابه: (النشر في

ص: 45

القراءات العشر): (ولما كان الهمز أثقل الحروف نطقاً وأبعدها مخرجاً، تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف كالنقل والبدل وبين بين والإدغام وغير ذلك، وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفاً، ولذلك اكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش وغيره، وكأبي جعفر من أكثر رواياته، وكابن محيصن قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده، وكأبي عمرو فأن مادة قراءه عن أهل الحجاز)

وهذا صريح جلي في بيان قول الزجاج وصحة مذهبه، وأن إسماعيل بن قسطنطين قد غاب عنه المنحى العربي اللغوي في مثل هذا، فذهب يلتمس التعليل المنطقي ويقول:(لو كان من قرأت كان كل ما قرء قرآناً) كما غاب عنه أيضاً أن الاصطلاح من طبيعته أن يحد من مدلول الكلمة المصطلح عليها.

وذهب آخرون إلى تلمس اشتقاق لها في مادة (قرن) باعتبار أن الكلمة على أصلها لم تعان شيئاً من الإبدال والإعلال: فقال قوم إنها مشتقة من قرنت الشيء بالشي إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسمى به لقران السور والآيات والحروف فيه، ونسب إلى الفراء القول بأنها مشتقة من القرائن لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً ويشابهه.

هذا مجمل الآراء في تعليل كلمة قران بغير همز. أما القراءة الأخرى المهموزة فاختلف كذلك في اشتقاقها على قولين أو ثلاثة

فابن جرير الطبري يروي رأيين في هذا، أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن قتادة، أما الأول فيذهب إلى أن القرآن مصدر من قول القائل:(قرأت) كقولك الخسران من خسرت والغفران من غفر الله لك، والكفران من كفرتك، والفرقان من فرق الله بين الحق والباطل - ولم يتعرض الطبري لرواية قراءة ابن عباس لها، وإن كان مساق القول في المهموزة، لكن ذلك لا يعتبر نصاً؛ وإنما تعرض لاشتقاقها. وقد رأينا من كلام إسماعيل بن قسطنطين أن سند قراءاته يتصل بابن عباس؛ فكأن ابن عباس كان يقرؤها مخففة، ويعلم أنها مخففة عن تحقيق، كما رأى ذلك الزجاج فيما سبق بيانه.

أما رأي قتادة فهو أنها مصدر من قول القائل: (قرأت الشيء) إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، كقولك ما قرأت هذه الناقة سلى قط، أي لم تضمم رحماً على ولد قط. كقول عمرو بن كلثوم:

ص: 46

ذراعي عيطل أد ماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا

أما الرأي الثالث فيرويه السيوطي في كتاب الإتقان عن الزجاج. فهو يرى أنه مشتق من القرء بمعنى الجمع. ثم هو لا يعتبره مصدراً - كما يروى عن ابن عباس وقتادة - وقد سمى به الكتاب المقروء، وإنما يعده وصفاً على فعلان.

وقد وقف الطبري بين رأيي ابن عباس وقتادة، ثم أخذ يرجح الأول على الثاني بأنه يتمشى مع تأويل قوله تعالى:(إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) على الأصل الثابت المقرر في الدين، إذ لو كان القرآن هنا بمعنى الجمع والتأليف لما لزم الرسول صلى الله عليه وسلم فرض (اقرأ باسم ربك) ولا فرض (يا أيها المزمل) ولا غيرهما من آي القرآن الكريم قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن.

وهذا توجيه وجيه استطاع ابن جرير أن يملك به على خصمه الحجة في أسلوب منطقي حاسم.

ونحن إذا أجزنا لأنفسنا أن ندخل في هذا النزاع، وندلي برأينا فيه، اتخذنا لأنفسنا مسلكاً غير ذلك المسلك؛ فقد نستطيع أن ننظر إلى المسألة من ناحية فنية محضة، نلتمسها في القرآن نفسه؛ وحينئذ نلاحظ أن كلمتي القرآن والقراءة تزدوجان في كثير من آي الكتاب الكريم، فأولى أن تكون كلمة (القرآن) مشتقة من القراءة لا من القرء، قال تعالى:

(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً). (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم). (إن علينا جمعه وقرآنه)(فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)(وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)(فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)

وقد تقترن بكلمة القرآن كلمة التلاوة في نحو قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن). (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله).

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشير إلى أصل كلمة قرآن إشارة نحسبها كافية في مثل هذا المجال.

ثم إن تسمية القرآن بالذكر وبالكتاب تشير إشارة ما إلى هذا الأصل أيضاً، وحسبنا هذا.

ص: 47

فإذا انتقلنا من مادة قرآن إلى صيغتها رأينا المتقدمين يختلفن فيها: هل هي مصدر أو وصف على فعلان. وأيا كان الوجه فلا شك أنها قد تركت المصدرية أو الوصفية وتمحضت للاسمية المحدودة، علماً على ذلك الكتاب المقدس.

ولكن بعض المستشرقين مثل شفللي وفلهوزن يعارض في عربية كلمة (قرآن)، ويرى فيها كلمة (قرياني) السريانية، وهي بمعنى القراءة أو المقرء، ويقوي هذا الفرض لديهم مقاربة الكلمة السريانية للكلمة العربية في الصبغة ولكن هذا المقاربة أو المشابهة لا قيمة لها، لأن في العربية كثيراً من المصادر على وزن فعلان مثل رجحان ونقصان وغفران وكفران وخسران وغير ذلك مما هو عربي صريح مادة وصيغة، فأي شيء يلجئنا إلى مثل هذا الفرض؛ ألأن السريانية لغة الإنجيل. . .؟

قد لا نمنع أن يكون الكتاب الكريم قد استحدث كلمة (قرآن) استحداثاً، وليس هذا الاستحداث بالأمر الغريب في اللغة. بل ربما لم نجد بداً من فرض ابتداع القرآن الكريم لهذه الكلمة، ما دامت نصوص اللغة الجاهلية الصريحة النسبة إلى ما قبل الإسلام قليلة نزرة لا تمدنا بالدلائل العلمية الكافية القاطعة. ولكن إذا كان كتاب الله قد استحدثها فذلك من أصل عربي وعلى نحو عربي. وقد لا يكون ذلك النحو شائعاً في اللغة كثير السريان فيها كغيره من الصيغ، ولكنه في حقيقة الأمر موسيقى مرنان ليس أجدر منه أن يكون اسماً وعنواناً لذلك الكتاب الخالد. وقد قصد إلى تقرير ذلك الإسلام في الأذهان إذا كان ذلك من الأمور الخطيرة في الدعوة، ولذلك كرره أكثر من ستين مرة على أساليب متنوعة، وفي مواضع مختلفة، ومناسبات شتى.

لقد كان أساس الدعوة إلى الدين الجديد هو القرآن، ولاسيما في العهد الملكي، فلا جرم كان تقرير اسمه أمراً جديراً بالعناية فكان كثير التكرار كما قلنا، وهذه الكثرة واضحة وضوحاً تاماً في العهد المكي، دون المدني الذي لا نكاد نقرأ فيه كلمة (القرآن) في أكثر من خمسة مواضع، وقد كان المقتضى لذكرها في بعض هذه المواضع مجرد السياق الذي لا بد منه كما في آية سورة التوبة:(. . . وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) أو سبب النزول كما في آية سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) - على حين نرى في إحدى السور

ص: 48

المكية الظاهر فيها أسلوب الدعوة الحارة المفتنة، والجدل القوى الغلاب، وهي سورة الإسراء، إن كلمة القرآن تكررت فيها نحو ثمان مرات. والفرق بين العهدين ظاهر، ففي العهد المدني كان اسم (القرآن) قد ثبت وتقرر وأخذ ذلك المعنى المحدود فلم تعد الحاجة ماسة إلى تكراره وإشاعته، كما في العهد المكي

إن قول المستشرق في إنكار كلمة (القرآن) يرجع - فيما أحسب - إلى أصلين: أحدهما قولهم في القرآن إنه يصدر عن أصول أجنبية كالتوراة والانجيل، فمن هنا لا يرون بأساً في أن يكون القرآن قد استعار عنوانه من هذه المصادر أو من اللغة التي كتبت بها، ولاسيما إذا عزز هذا الأصل الثاني المقرر لديهم وهو عدم ورود كلمة قرآن في نص جاهلي، وبعد الذي تقرر من صيغة فعلان صيغة عربية صريحة لا يكون لهم إلا إنكار مادة قرأ بمعنى القراءة في اللغة العربية الخالصة ' وقد يكون لهم عذرهم في هذا، فأن من العسير حقاً أن نعثر فيما بين يدينا من النصوص الجاهلية على مادة القراءة، وإني أقطع بأن هذه المادة لم تجيء في المعلقات العشر، وإنما وردت كلمة (تقرأ) في بيت عمرو بن كلثوم على رواية أبي عبيدة، ولكن هذا من واد آخر

ولكن هبه صحيحاً أن مادة القراءة لم ترد في نص جاهلي آخر، فهل يدل هذا دلالة قاطعة على عدم وجود الكلمة في اللغة؟ إنما يكون هذا لو أن الأدلة انحصرت في النص وحده، وليس النص هو كل شيء، فالوقوف عنده يؤدي بنا من غير شك إلى الخطأ في الاستنتاج.

لم تكن العرب قبل الإسلام أمة كتلك الأمم التي تعيش في حالة أولية، وإنما كانت أمة تجارة تتعامل بتجارتها مع أمتي التاريخ الكبريين: الفرس والروم على معرفة وبصيرة، وكانت مكة بصفة خاصة مركزاً من المراكز الكبرى لهذه التجارة الواسعة النطاق، وكانت المظاهر التجارية فيها بارزة في حياتها بروزاً كبيراً مما دعا الأب لامنس إلى تلقيبها في كتابه عنها بالجمهورية التجارية. وهذه الحياة التجارية تعتمد إلى حد كبير على الكتابة - ولن تكون كتابة بغير قراءة - فمن الغريب جداً الحكم بأن لغة العرب لا تحتوي على ما يدل على هذا المعنى. وإن النصوص الجاهلية نفسها تدل على أن العرب قد اتخذوا الكتابة، لا في الوثائق التجارية فقط، بل في عقد المحالفات بين القبائل المختلفة، وحسبنا ما قاله الحارث بن حلزة في شأن بكر وتغلب:

ص: 49

واذكروا حلف ذي المجاز وما

قدم فيه العهود والكفلاء

حذر الجور والتعدي وهل

ينقض ما في المهارق الأهواء

ونحن نعرف في السيرة مظهراً من مظاهر هذه العهود في (عهد الحديبية) وكان مندوب قريش في كتابته عمرو بن سهيل، وهو يقدم إلينا صورة من صور الحصافة والدقة في كتابة العهود والاتفاقات، فلم تكن قريش حديثة عهد بمثل هذا وانظر هذه الصورة التي يقدمها لبيد في معلقته:

وجلا السيول عن الطلول كأنها

زُبُر تجد متونَها أقلاُمها

ومثل هذه الصورة شائع في الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا، وكلها تثبت أن العرب لم يكونوا غرباء عن الكتابة والقراءة وإذن فافترض أن القرآن استعار مادة القراءة من بعض اللغات السامية الأخرى لعدم العثور على هذه المادة في النصوص الجاهلية التي بين أيدينا افتراض فيه شيء كثير من المجازفة.

محمد طه الحاجري

ص: 50

‌5 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فرديك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

المأخوذون بالعالم الثاني

وترامي زارا يوماً بخياله إلى ما وراء الإنسانية، فتراءى هذا العالم لديه كما يراه جميع المأخوذين بالعالم الثاني خليقة رب متألم مضطرب، فقال:

رأيت الدنيا كأنها أحلام نائم أبدعت أبخرة حوالة متلونة ترتد عنها ألوهية النفس على غير رضى. وقد لاح لي الخير والشر والأفراح والأحزان وذاتي وذات الآخرين كما تلوح الأبخرة الملونة لعين المبدع، ولعل المبدع أراد أن يتحول ببصيرته عن ذاته فأوجد العالم.

لا ينتشي المتألم بمسرة أشد من مسرته حينما يعرض عن آلامه وينسى نفسه. هكذا تكشف لي العالم يوماً فرأيت مسرته ثملاً ونسياناً وهو يتقلب أبداً في نقائصه معكساً للتناقض الأبدي

نظرت إلى العالم يوماً فلاح لي مسرةً مسكرة يتمتع بها مبدع غير كامل خلقته أنا، فجاء ككل أعمال البشر جنةً بشرية.

ما كان هذا الإله إلا إنساناً، بل جزءاً من شخصية إنسان، لأنه نشأ من ترابي ومن لهبي. إنه لشبح من هذا العالم لا من وراء هذا العالم.

شهدت ذلك، أيها الأخوة، فتفوقت على ذاتي بآلامي، وحملت ترابي إلى الجبل حيث أوقدت ناراً تشع نوراً فإذا بالشبح يتوارى مبتعداً عني.

فإذا ما آمنت الآن بمثل هذا الشبح، فلا يكون إيماني إلا توجعاً وصغاراً، ذلك ما أقوله للمأخوذين بالعالم الثاني.

ما أوجدت العوالم الأخرى في هذا العالم سوى الآلام والشعور بالعجز، ذلك ما أوجدته تلك العوالم فأوجدت معه هذا الجنون السريع الزوال بسعادةٍ ما ذاقا من الناس إلا أشدهم آلاماً

إن المتعب الذي يطمح إلى اجتياز أبعد مدى بطفرة واحدة بطفرة قاتلة، وقد بلغت به مسكنته وجهالته حداً لا يستطيع عنده أن يريد، إنما هو نفسه مبدع جميع الآلهة وجميع

ص: 51

العوالم الأخرى.

صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد، فغدا يجس بأنامله مواضع الروح المضللة، وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة على مسافة بعيدة.

صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد تملكه اليأس من الأرض فسمع صوتاً يناديه من قلب الوجود، فأراد أن يخترق برأسه أطراف الحواجز، بل حاول العبور منها إلى العالم الثاني، غير أن العالم الثاني جد خفي عن الناس لأنه بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إلا سماء من العدم. إن قلب الوجود لا يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان.

والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه. أجيبوا أيها الأخوة، أفما يلوح لكم أن أغرب الأمور أثبتها دليلاً؟. . .

أجل! إن هذه الذات على ما فيها من تناقض واختلال تثبت بكل جلاء وجودها فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع المقاييس وتعين قيم الأشياء، وما تطلب هذه الذات في إخلاصها إلا الجسد حتى في حالة استغراقه في أحلامه وتحفزه للطيران بأجنحته المحطمة

إن هذه الذات تتدرب على الإفصاح عن رغباتها باخلاص، وكلما ازدادت تدرباً ألهمت البيان للإشادة بالجسد وبالأرض.

لقد علمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها الآن للناس: علمتني ألا أخفي رأسي بعد الآن في رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأساً عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض.

إنني أعلم الناس إرادة جدية يتخيرون بها السير على الطريق التي اجتازها الناس عن غباوة من قبلهم؛ أعلمهم أن يطمئنوا إلى هذه الطريق فلا تنزلق أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل الاعلاء المتهكمين، وما هؤلاء إلا من ابتدعوا الأشياء السماوية واخترعوا قطرات الدماء المراقة لافتداء البشر. على أن هذه السموم التي أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إلا من الجسد ومن الأرض.

لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة المنال فوجموا يدفعون بالزفرات قائلين: وا أسفاه! لم لا تنفتح أمامنا سبل في السماء ننسحب عليها إلى وجود آخر وسعادة أخرى.

في ذلك الحين اخترعوا أوهامهم وكؤوسهم الصغيرة المترعة بالدماء. . . وحسب هؤلاء

ص: 52

الناس في عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيداً عن جسدهم وعن الأرض؛ وتناسوا أن تنعمهم ورعشة ملذتهم إنما نشأت من جسدهم ومن هذه الأرض.

إن زارا ليشفق على الإعلاء فلا يغضب لما أوجدوه من وسائل السلوان ولا يتمرمر لأنهم عقوا جسدهم وأرضهم، بل هو يرجو لهم الشفاء والتغلب على أنفسهم ليوجدوا لهم أجساداً أرقى من أجسادهم.

إن زارا لا يغضب أيضاً على الناقه الذي يحن إلى وهمه فيذهب في منتصف الليل ليطوف بقبر إلهه، ولكنه لا يرى في دموع هذا الناقه إلا أثر المرض والجسم المريض.

لقد وجد في كل زمان كثير من المرضى المستغرقين المتشوقين فهم يكرهون إلى حد الهوس كل من يطلب المعرفة، ويكرهون أبسط الفضائل وهي فضيلة الإخلاص.

إنهم يلتفتون دائماً إلى الوراء، إلى الأزمنة المظلمة، إذ كان للجنون وللإيمان حلتهما الخاصة؛ فكان الإله يتجلى في هوس العقل، وكانت كل ريبة خطيئة.

لقد عرفتهم جد المعرفة، أولئك المتجلين على صورة الله ومثاله، فتيقنت أن جميع رغباتهم تتجه إلى أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة، وما فات مداركي ذلك الإيمان الذي يدعون رسوخه فيهم. فانهم لا يؤمنون لا بالعوالم الأخرى ولا بقطرات الدماء تفتدى العالم، بل هم كسائر الناس يعتقدون بالجسد، ويرون أن أجسادهم نفسها هي الكائن الواجب الوجود

غير أن هؤلاء الناس يرون الجسد كائناً معتلا، فيودون أن يبار حوا جلودهم وذلك ما يدفعهم إلى الإصغاء للمبشرين بالموت وما يهيب بهم إلى التبشير بالعوالم الأخرى.

أما أنتم، يا إخوتي، فأصغوا إلى صوت الجسد الذي أبل من دائه لأن هذا الجسد يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك الأصوات.

ان الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم وليس بيانه إلا إفصاحاً عن معنى الأرض.

هكذا تكلم زارا.

المستهزئون بالجسد

لأقولن للمستهزئين بالجسد كلمتي فيهم: إن واجبهم ألا يغيروا طرائق تعاليمهم، ولكن عليهم

ص: 53

أيضاً أن يودعوا أجسادهم فيستولي على ألسنتهم الخرس.

يقول الطفل: أنا جسد وروح. فلماذا لا يتكلم هؤلاء الناس كالأطفال؟ أما الإنسان الذي انتبه وأدرك ذاته فيقول: إنني بأسري جسد لا غير، وما الروح إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد.

ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد. إن هو إلا ميدان حرب وسلام، فهو القطيع وهو الراعي.

إن آلة جسدك إنما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحاً، أيها الأخ، إن هو إلا أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم.

إنك تقول: (أنا)، وتنتفخ غروراً بهذه الكلمة، غير أن هنالك ما هو أعظم منها، أشئت أن تصدق أم لم تشأ، وهو جسدك وأداة تفكيره العظمى؛ وهذا الجسد لا يتبجح بكلمة أنا، لأنه هو (أنا)، هو مضمر الشخصية الظاهرة.

إن ما تتأثر الحواس به وما يدركه العقل لا نهاية له في ذاته، غير أن الحس والعقل يحاولان إقناعك بأن فيهما نهاية الأشياء جميعها، فما أشد غرورهما!

ما الحس والعقل إلا أدوات وألعوبة؛ والذات الحقيقة كامنة وراءهما مفتشة بعيون الحس ومصغية بآذان العقل.

إن الذات ما تبرح مفتشة مصغية، فهي تقابل وتستنتج ثم تهدم متحكمة في الشخصية سائدة عليها، فأن وراء إحساسك وتفكيرك، يا أخي، يكمن سيد أعظم منها سلطاناً، لأنه الحكيم المجهول، وهذا الحكيم إنما هو الذات بعينها المستقرة في جسدك وهي جسدك بعينه أيضاً.

إن في جسدك من العقل ما يفوق خير حكمة فيك، ومن له أن يعلم السبب الذي يجعل جسدك بحاجة إلى خير ما فيك من حكمة

ان ذاتك تهزأ بشخصيتك وبألعابها قائلة: - ما هي خطرات الفكر وتساميه إن لم تكن جنوحاً إلى هدفي، أفلست أنا رائدة الشخصية وملهمة أفكارها؟

تقول الذات للشخصية - اشعري بألم، فتتألم وتفتكر بالتخلص من هذا الألم وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية.

وتقول الذات للشخصية - اشعري بالسرور، فتسر وتفتكر بإطالة أمد هذا السرور؛ وقد

ص: 54

تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية

لي كلمة أقولها للمستهزئين بالجسد، وهي أن احتقارهم إنما هو في الحقيقة حرمة واعتبار، إذ من هو يا ترى موجد الاحترام والاحتقار والتقدير والإرادة؟

إن الذات المبدعة أوجدت لنفسها الاحترام والاحتقار كما أوجدت اللذات والألم، إن الجسم المبدع أوجد العقل لخدمته كساعد يتحرك بإرادته.

إنكم لتخدمون الذات الكامنة فيكم حتى في جنونكم وفي احتقاركم. وأنا أقول لكم أيها المستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت، وقد تحولت عن الحياة لأنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح اليه، وما أقصى رغباتها إلا إبداع من يتفوق عليها، ولقد مضى زمن تحقيق هذه الرغبة، لذلك تطمح ذاتكم إلى الزوال أيها المستهزئون بالأجساد.

إن ذاتكم أصبحت تتوق إلى الزوال، وهذا ما يدفع بكم إلى الاستهزاء بالأجساد إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم.

إن هذا العجز قد ولد فيكم النقمة على الحياة والأرض. وها هي ذي تتجلى شهوة في لحظاتكم المنحرفة دون أن تعلموا

إنني لا أسير على طريقكم أيها المستهزئون بالأجساد، لأنني لا أرى فيكم المعبر الذي يؤدي إلى مطلع الإنسان الكامل

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 55

‌الربيع الناطق!

للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير

يا مَن تفتَّح كالربيع لناظري

فلمحت فيه شقائقاً وبهارا

والفُلَّ يشرق بالضياء وبالشَّذا

والنرجسَ النعسان والنوَّار

والوردَ فخوراً يتمتم: (ويحكم

هيا أغنموا مُتع الحياة قصارا)

متباين الألوان ألّف بينها

ذوق يبلبل سرُّه الأفكارا

تلك المفاتنُ ينتهين لغايةٍ

ولقد يريبك أنها تتبارى!

أمثولةُ الحسن البديع مرامُها

تطوى لها المضمار فالمضمارا

فكأنها أحزاب شَعب راشدٍ،

كلٌّ يجمّع حوله الأنصارا

يتنافسون، وإنما مرماهم

تحقيق آمال البلاد كبارا

ما للجمال وللسياسة؟ إنه

أهدى إلى قصدِ السبيل منارا

هو عالم ننساب في أطيافه

ونعانق الأنداء والأنوارا!

من ضلّ في ساحاته كمن اهتدى

وكمن صحا من لا يفيق خُمارا

يا من تفتَّج كالرّبيع لناظري!

أضرمت ما بين الجوانح نارا

أسكرتَ روحي بالسَّنا فذهلتُ عن

نفسي، وخلت العالمين سكارى!

وسهوتُ عن زمني فلست بمثبتٍ

أسكرتُ ليلاً أم سكرت نهارا؟

رمتُ الكلامَ، فحار في شفتِي كما

تاه الجمالُ بناظريك وحارا!

ماذا أقول وكل لفظٍ شاردٌ؛

عيناك أعظم أن تُطيقَ حوارا

عيناك أقوى بالحياة وفيضها

زخراً، وأعمق في الحياة قرارا!

لَبَصُرْتُ بالُّتفاح يلعن نفسه

لما أبيتَ مساسه استكبارا!

كم ودّ لو يلقى الشهادة في فمٍ

يهبُ الخلود وينهب الأعمارا!

ما كان ضرّك لو مسحت جبينه

فأحاله لَهبُ الحياة نُضارا!

أو لو قبلت فداءه فجعلَته

معنى يحيط به الجمال إطارا

أم غرت منه؟ فيا لقلبك قاسياَ!

ماذا تركت لحسنه فتغارا؟

يكفيه في زيناته أن يكتسي

شَفقاً له منن وجنتيك مُعارا

ص: 56

ما كان إلا خادماً لك طائعاً

يقفو خُطاك يُقبّل الآثارا!

راجع فؤادك في أحقِّ مُورَّد

برضًى وأكرمِ مُشبهيكِ نِجاَرا

تغفو وتصحو، وهو في صلواته

لخدودك الآصالَ والأسحارا!

أما نثار الورد إذ بدّدته

فلو استطاع من السرور لطارا

أَلأَنّه يحكي القلوب بشكله

عبثت يداك بشمله استهتارا؟

إهنأْ بظلُمك؛ فالقلوب تودّ لو

تُلقى لديك على البساط نثارا!

ويح القلوب! غلوت في بغضائها

فمَقتَّ من جرَّائها الأشعارا

أتلوم أرضا ً - يا غمام - بخيرها

حفلت، وأنت فجرَتها أنهارا؟

أهبطت (شاكسبير) من عليائه

وأزحْتَ عن كرسيّه (مهيارا)

ووقفت في وجهِ (الخلود)؛ فهل تُرى

تطوى الخلود وقد طوى الأدهارا؟

لن تستطيع! فمن جمالك دونه

سدٌّ يقيه سطوك الجبارا!!

رفقاً بحبّات القلوب تسومُها

سوء العذاب وما جنت أوزارا

ألاِنها تهفو لحسنك كلما

لمحته أو هجست به تذكارا!

يا لائم الأوتار في إرنانها

مهلاً! بنانك تضرب الأوتارا!

يا طاوي الأقدار تحت جفونه!

حتَّى لنَخْشاهنَّ لا الأقدارا

لما أبيتَ على مشاعرنا الهوى

هلا مسخت قلوبنا أحجارا!!

علي أحمد باكثير

ص: 57

‌خاطرة!

قلبي يعاطف هذا الكون أجمعه

لكنه لم يجد قلباً يعاطفُه!

يا ليت لي في الورى قلباً يلوذ به

قلبي فتبيضّ من حُبٍّ صحائفُه

أقول شعري فهل قلب يصيخ له

وتستبيه كما أهوى طرائفُه!؟

العوضي الوكيل

ص: 58

‌قسوة الطفولة

للأستاذ أمجد الطرابلسي

عُدْ به للوطن الغا

لي وِللامِّ الرؤومِ

عد به للموْكن البا

كي وللصّحب الوُجومِ

عد به للِفْنَنِ الذا

وي وللزَّهر الكليم

وارحَم اليُتْمَ فمن أص

عبَ عيشاً مِن يتيم

زهرةٌ فواحةٌ مَط

روحَةٌ فوقَ الأَديم

وُئدَتْ في عُنفُوان ال

حُسْنِ ما بيْنَ الرّجوم

تَطأُ الأقدامُ خَدَّي

ها على التربِ الوَخيم

أيّها الطفلُ - وهَلْ أَر

هَبُ من طِفْلٍ غَشوم -

ما جنى ترْبُكَ حَتَّى

سِمَ أَلوانَ الهُموم؟

هُوَ يا طفلُ حزينٌ

جائعٌ غيرُ فَطيم

صامتٌ يجهلُ بَثَّ ال

حزِن والكربِ العَظيم

أَيُّ مسكينٍ غريبٍ!

أيُّ مظلومٍ مَضيم!

جسْمُهُ الأَزْغَبُ لايَنْ

هَضُ بالخَطْبِ الجَسيم

يَتَنَزّى فَرَقاً كالزّ

هرِ في مَسْرى النَّسيم

أَوْ كَغُضْنٍ مُرْعَشٍ ما

بينَ عَصْفٍ وَهَزيم

أُمُّهُ يا طفلُ تَبكي

في دُجى اللَّيْلِ البَهيم

تَتَمَشَّى فَوْقَ أغصا

نِ الرّبى مَشْىَ السَّقيم

تَسْأَلُ الأَزْهارَ عَنْهُ

وَعناقِيدَ الكُروم

والنسَيمْاتِ اللّواهى،

ونُثاراتِ الغُيوم

لم تذُقْ طَعْمَ الكرى في

وَكْرِها الداجي الوَجوم

أكَرىً والدَّمْعُ ما بَي

ن نَثيرٍ وَنَظيم؟

والجوى يَعْصِفُ بالأَضْ

لاعِ والقَلْبِ الهَشيم

أكَرىً بَعْدَ فِراقِ الأَ

هلِ أَوْ فَقْدِ النَّديم

ص: 59

غَابَ لا تدْري أَحَيٌّ

هُوَ أَمْ بَعْضُ الرَّميم

أَسَجينُ القَفَصِ الخا

نِقِ أَمْ فَرْسَةُ بُوم

أنا يا عُصفورُ منْ ير

أَفُ بالغَمِّ الكَظيم

ما بأَشْجانِكَ يا مِسْ

كينُ مِثلي من عَليم

هِجْتَ في قَلْبيَ جرحاً

غافياً جِدَّ قَديم

هو عطفُ الأُمِّ، ما أَن

دْاهُ في القَلْبِ الكليم!

لم أَذُقْهُ؛ ليتَ لي منْ

قدْسِهِ بَعْضَ رسوم

إيهِ يا عُصْفورُ هذي

سُنَّةُ البَغْيِ الذميم!

هكذا الناسُ! فمنْ عا

دٍ وَمٍنْ نَهْبٍ هَضيم

ظالم يَقْسوا عَلى ال

حقِّ انتصاراً لظلوم

وجريح مُؤْلم يح

نو على الجرحِ الأَليم

القصورُ الشمُّ نَشوى

الراح واللَّحْنِ الرّخيم

والدموعُ الحُمْرُ تَنْ

هَلُّ منَ الكوخِ الهَديم

ساكِنُ الفِرْدَوسِ لا يُد

ركُ وَيلاتِ الجحيم

وهو في الأحلامِ واللّ

ذاتِ والعِزِّ المقيم

أينَ طعمُ العَسَلِ الدفّ

اقِ منْ لذَعِ الحميم!

أينَ مَرُّ النسمة الحُل

وةِ من لَفْحِ السَّموم!

أينَ أَصْداءُ الأغاري

دِ وَهَمْساتُ النُّجوم

من عويلِ الأَكْبدِ الحَرَّ

ى وأَناتِ الجُسوم!

عدْ بهِ للوطَنِ الغ

الي وللامِّ الرَّؤوم

وارحَمِ الضَّعْفَ فما يَسْ

حَقُهُ غيرُ لئيم

سافِكٍ لا يَعْرِفُ الرَّأْ

فَةَ أَوْ أَسْوَ الكُلوم

يَتَلَهَّى بالدَّم المُهْ

راقِ والدَّمْعِ السَّجيم

كيفَ تَصْفو عِيشَةُ الحُ

رِّ وَأَفراحُ الكَريم

وعَلى الأَرضِ شَقُّى

واحِدٌ نِضْوُ غُموم

ص: 60

كُنْ رَحيماً إنما الإِنْ

سانُ ذو القَلْبِ الرّحيمِ

(دمشق)

أمجد الطرابلسي

ص: 61

‌7 - تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

ترجمة حسن حبشي

الفصل الأول

أما القصيدة الموجهة إلى ولده وخليفته حسّان والتي اقتضت التقاليد والعرف أن يقولها فلا تعدو نصيحة الوداع وقد استنفد جزءاً كبيراً منها في تعداد غزواته والفخر بأسرته وبنفسه وكل ما نجده فيها من الأمثال والنصائح لا يعدو قوله:

حضرتْ وفاة أبيك يا حسّان

فانظر لنفسك فالزمان زمان

فلربّما ذل العزيز وربّما

عزّ الذليل وهكذا الإنسان

قولوا الحمير يقبروني واقفاً

وتكن معي الخيلان والرّقان

وانظر لكاهنتي فان كلامها

علم وأن بصوتها غيمان

وعلى ذكر غيمان فيمكن إضافة بضع كلمات قلائل حول قلاع اليمن التي تجثم بقاياها الخربة وتتراءى للمسافر المار بها في وحدتها متجهمة ساخرة؛ ومنذ ألفي عام، وربما قبل ذلك بكثير كان يسكن هذه القلاع والحصون أمراء أقوياء الشكيمة مستقلون أو شبه مستقلين يولون ملوكهم ويعزلونهم أحياناً حينما أخذت دعائم الإمبراطورية الحميرية تتداعى. ولقد أسهب الهمداني الجغرافي في وصف هذه القلاع في المجلد الثمن من مؤلفه العظيم (الإكليل) الذي تناول فيه تاريخ اليمن وذكر عادياتها وآثارها، وإن أقدم هاتيك الحصون وأشهرها لهو المسمى (غمدان) قلعة صنعاء، ويصفونه بأنه صرح هائل ذو عشرين طابقاً ارتفاع كل طابق عشر أذرع؛ وقد شيدت أوجهه الأربعة من حجارة متباينة الألوان: بيضاء وسوداء وخضراء وحمراء، وعلى قمة الصرح غرفة ذات نوافذ رخامية محلاة بالأبنوس والخشب المصقول، وفي وسطها لوحة مرمرية فإذا ما اضطجع صاحب غمدان على سريره، شاهد الطيور محلقة فوق رأسه، واستطاع أن يميز الحدأة من الغراب؛ وفي كل ركن من أركان الغرفة قد نصب تمثال أسد من البرنز، فإذا ما هبت الريح تغلغلت في ثناياها، فيخرج منها إذ ذاك صوت أشبه بزمجرة الليوث.

ص: 62

وإن مخاطرات (أسعد كامل) مع الساحرات الثلاث تذكر القارئ ببعض مناظر خاصة في رواية ماكبث. وإن العجيب في تاريخ ابنه حسان، تلك الحادثة التي تؤلف منظراً أشبه بمنظر مسير غابة برنام. وهنا نشير إلى قبيلتي طسم وجديس، ولما أحدثت جديس المجزرة التي فتكت فيها بطسم استطاع أحد أفراد القبيلة الثانية الهروب وهو (رباح بن مرة) فاحتمى بتبع حسان، واستطاع أن يؤثر فيه حتى أرسل معه جيشاً ليقتص به من القتلة. وكانت أخت رباح وتدعى (زرقاء اليمامة) قد بنت بأحد رجالات جديس، وكانت حادة البصر حتى لقد كان في استطاعتها أن ترى الجيش على بعد ثلاثين ميلاً، ولما كان رباح يعرف ذلك في أخته فقد نادى في الجيش أن يقتلع كل رجل شجرة ويحملها أمامه. وإذ جن المساء وأصبحوا على مسيرة يوم من جديس قالت زرقاء اليمامة لقومها:(إني أرى غابة تسير إليكم) فلم يصدقها أحد وسخروا بها حتى إذا كان الصباح أغار حسان عليهم وأعمل السيف في رقابهم.

ولقد أحس زعماء حمير أن الحملات الحربية - التي شجعها حسان - إنما هي عبء ثقيل عليهم، فدبروا مؤامرة لذبحه وتولية أخيه عمرو مكانه، فقالوا له:(اقتل أخاك حساناً وتملك علينا وترجع بنا إلى بلادنا) فامتنع بادئ ذي بدء وأبى الخضوع لما أشاروا به، غير أنهم استطاعوا التغلب عليه فطعن بيده تبع؛ بيد أن الجرم أقض مضجعه، ولم يذق جفناه الكرى فصمم على أن يقتل كل من وسوس إليه بذلك؛ وكان هنا زعيم يدعى (ذا رعين) حاول جهده إنقاذ عمرو مما هو مقدم عليه فما استطاع، ولما وجد أن محاولاته ذهبت عبثاً كتب رقعة رفعها إليه وختمها وقال له:(ضع لي هذا الكتاب عندك حتى أطلبه) فلما مثل ذو رعين أمام عمرو سأله عن الرقعة فأخرجها:

ألا من يشتري سهراً بنوم

سعيد من يبيت قرير عين

فأما حمير غدرت وخانت

فمعذرة الإله لذي رعْين

فلما قرأها عمرو أيقن الإخلاص في قوله ثم أطلق سراحه وقد انتهى عهد التبابعة بعمرو هذا. أما الملوك الذين خلفوهم فقد كان يختارهم ثمانية أقيال أقوياء، كانوا في الحقيقة أمراء مستقلين، يحكم كل منهم في حصنه القوي. وفي أثناء هذه الفترة غزا الأحباش بعض أجزاء المملكة، وأرسل النجاشي ولاته المسيحيين ليحكموها باسمه، حتى قام أخيراً ذو

ص: 63

نواس - وهو من ذرية تبع أسعد كامل - وطرد الأشراف الثائرين، وجعل نفسه حاكماً لليمن غير مسئول، وكان يهودياً متعصباً، فجمع العزم على أن يستأصل شأفة المسيحية من نجران التي يقال إن النصرانية دخلتها على يد رجل مبارك يدعى فيميون، ودخل الحميريون في دينه أفواجاً يدفعهم إلى ذلك كرههم لاستبداد الأحباش أكثر من احترامهم للدين. وحدث إذ ذاك أن قتل طفلان يهوديان فأتاح هذا الحادث لذي نواس فرصة ليصب نقمته عليهم، فسار إلى نجران على رأس قوة جرارة، ودخل المدينة وخير أهلها بين اليهودية أو القتل، فرفضوا دينه، فحكم السيف في أعناق الكثيرين، وألقى بالآخرين في أخدود أمر بحفره وأشعل النار فيهم؛ وبعد مائة عامة تقريباً من هذا الحادث حين لقي محمد (ص) أشد ضروب الاضطهاد من قومه أخذ يضرب لأتباعه المثل بنصارى نجران وكفاحهم:(قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود؛ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) وقد دفع ذو نواس ثمن هذا النصر غالياً، فان دوس ذا ثعلبان كان قد نجا من القتل ففر إلى إمبراطور الروم مستنصراً إياه باعتباره كبير المسيحيين ليساعدهم على أخذ ثأرهم، فكتب يوستنيانوس رسالة إلى النجاشي طالباً إليه أن ينوب عنه في تنفيذ هذه المهمة؛ وسرعان ما حشد النجاشي سبعين ألفاً من الأحباش الأيدين، وجعل عليهم أرياط قائداً فغزا اليمن. ولم يستطع ذو نواس الاعتماد على إخلاص أشراف حمير، وتفرقت قواته (فلما رأى ما نزل بقومه وبه وجه فرسه إلى البحر ثم ضربه فدخل فيه، فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى إلى غرق فاقتحمه فيه فكان آخر العهد به) وبهذا انتهت سلسلة الملوك الحميريين.

وعلى كل فان اليمن تظهر في تاريخ ما قبل الإسلام، كإمارة حبشية أو ولاية خاضعة للفرس، وأما القصص التي تروى بعد ذلك فتعتبر تمهيداً لرواية جديدة يمثل على مسرحها عرب الجنوب دوراً تافهاً لا يعتد به.

(يتبع)

حسن حبشي

ص: 64

‌البريد الأدبي

بين الأدب والسياسية - فون أوسيتسكي حاصل جائزة نوبل

قررت اللجنة المختصة بجامعة استوكهلم أن تمنح جائزة نوبل للسلام عن سنة 1935 للكاتب الألماني كارل فون أوسيتسكي، وعن سنة 1936 للدكتور سافدرا لاماس سفير جمهورية الأرجنتين في لندن، وذلك لما أبداه كل منهما في سبيل قضية السلام من خدمات وجهود.

وليس في قرار جامعة استوكهلم ما يثير الدهشة، لأن جائزة نوبل للسلام تمنح كل عام كباقي جوائز نوبل الأخرى عن العلوم والآداب والفنون، وقد منحت في الأعوام السابقة لكثير من الكتاب والساسة مثل مسيو بريان رئيس وزارة فرنسا السابق، والسير نورمان انجل الكاتب الإنجليزي المعروف.

وقد منحت جائزة نوبل للهرفون أوسيتسكي تطبيقاً لدستور نوبل الذي يقضى بأن تمنح هذه الجائزة (لكل من قام بأكبر جهد وبأفضل جهد في سبيل توثيق روابط الأخوة بين الشعوب، أو في سبيل تخفيض السلاح، أو نشر الدعوة إلى السلام)، وقد لبث فون أوسيتسكي مدى أعوام يبث بقلمه الدعوة إلى السلام من منبر الصحافة، ولاسيما في صحيفة (الفلت بينه)(مسرح العالم) التي كان يحررها مع صديقه وزميله في الدعوة إلى السلام الكونت فون جيرلاخ الكاتب السياسي الكبير الذي توفى منذ أشهر في منفاه في باريس.

ولكن حكومة برلين النازية ترى في منح جائزة السلام لهذا الكاتب الألماني إهانة لها، وتحتج على ذلك رسمياً لدى حكومة السويد، ولماذا؟ لأن كارل فون أوسيتسكي يعتبر في نظرها خائناً لوطنه، فتكريمه بهذه الصورة من هيئة عالمية يعتبر مناقضاً لواجب المعاملة الدولية، بل يعتبر استفزازاً لألمانيا.

واليك قصة كارل فون أوسيتسكي المحزنة، ولماذا تعتبره ألمانيا الهتلرية خائناً لوطنه: كان فون أوسيتسكي من دعاة السلم كما قدمنا، وكان كاتباً مستقلاً لا ينتمي لأي حزب سياسي، وإنما يبث دعوته السلمية بالكتابة الملتهبة، ويدعو إلى تفاهم الشعوب ونزع السلاح بكل قواه، ويحمل على السياسة العسكرية لأنها خطر على السلام والمدنية؛ ولم تكن هذه الدعاية مما يتفق مع مبادئ الوطنية الاشتراكية ونزعتها العسكرية؛ فلما قبض الوطنيون

ص: 65

الاشتراكيون (النازي) على زمام الحكم في سنة 1933، كان فون أوسيتسكي ممن قبض عليهم من الكتاب المعارضين للمبادئ الهتلرية؛ فزج من ذلك الحين في أحد معسكرات الاعتقال المشهورة دون محاكمة أو تهمة معينة، وعانى في الاعتقال ضروباً مرهقة من الحرمان والتعذيب؛ والتمس كثير من الهيئات الأدبية والكتاب في مختلف الأمم من الحكومة الألمانية أن تطلق سراحه فأبت حتى أشرف الكاتب المعتقل على الموت، وعندئذ فقط سمحت بأن يغادر معسكر الاعتقال إلى أحد المستشفيات، حيث هو الآن تحت الحجر والاعتقال.

ورأت الهيئات الأدبية المختلفة وأكابر الكتاب في أنحاء العالم أن يلفتوا نظر جامعة السويد إلى قصة هذا الكاتب الشهيد لكي تمنحه جائزة نوبل للسلام، واشترك في تقديم هذا الطلب رومان رولان، وابتون سنكلير، وهنريش مان، والفيلسوف ليفي بريل، وأميل لودفيج، وجيللمو فيريرو وغيرهم، تقديراً لخدماته وكتاباته الكثيرة في سبيل قضية السلام؛ وكان أن شاطرت اللجنة المختصة تقدير الرأي العالمي ومنحت كارل فون أوسيتسكي هذا الشرف العظيم.

والآن يحتضر فون أوسيتسكي على سرير موته، وقد يموت بعد أيام أو أسابيع قلائل دون أن يعرف شيئاً عن الشرف العظيم الذي أسبغ عليه.

أما اعتبار الحكومة الألمانية مواطنها خائناً، فلأنه كان قبل تبوئها الحكم بأعوام، يكافح بالقلم في سبيل السلام.

كتاب عن نابليون لاوكتاف أوبري

أوكتاف أوبري كاتب ومؤرخ من أشهر كتاب فرنسا الحاليين؛ وهو مؤرخ قبل كل شيء يمتاز بأسلوبه الشائق وبيانه الساحر في عرض الوقائع وتصنيفها؛ وقد اتخذ في الأعوام الأخيرة عصر نابليون بونابرت ميداناً لمباحثه، وأصدر عن نابليون وعن العصر وأبطاله عدة كتب: وآخرها كتاب (نابليون وعصره وفي هذا الكتاب يعني أوكتاف أوبري بالنواحي الشخصية والاجتماعية أكثر مما يعني بالنواحي السياسية والعسكرية؛ فلست تقرأ في كتابه استعراضاً تاريخياً جامداً، وإنما تقرأ قصة ممتعة عن الإمبراطور، وأطوار حياته الشخصية، وعن خاصته وصحبه من الرجال والنساء، وعن حوادثه الغرامية؛ وتقرأ عن

ص: 66

جوزفين وعن منافساتها فصولاً شائقة؛ ثم تقرأ تفاصيل المأساة الأخيرة: نفى الإمبراطور، واعتقاله في سنت هيلانة، وما قاساه من الآلام المادية والمعنوية، وتعرف الكثير عن بطانته التي صحبته في الاعتقال من رجال ونساء إلى أن تصل إلى ختام المأساة في جو يفيض سحراً وتأثراً. ويفرد أوكتاف أوبري للإمبراطورة ماري لويز بحثاً شائقاً يحلل فيه شخصية هذه الأميرة التي ألقتها أقدار الحرب والسياسة في طريق الإمبراطور، وأنجبت منه ولده (ملك رومة) أو النسر الصغير أو الدوق فون ريخشتاث، كما يسميه آل هبسبورج.

هذه محتويات كتاب أوبري تغري بالقراءة، ويحطيها جميعاً جو من السحر المؤثر.

بين العلم والعاطفة

كثر الجدل منذ حين في إنكلترا حول مسألة اجتماعية وإنسانية دقيقة، وهي هل يحق للإنسان أن يعاون على الموت شخصاً عزيزاً عليه أصابه المرض وعز شفاؤه؛ وقد ثارت هذه المسألة أخيراً في ألمانيا على اثر ظهور رواية للكاتب الوطني الاشتراكي الدكتور هلموث عنوانها (الرسالة والضمير) ويطلبها طبيب يعالج هذا السؤال: هل يحق لي أن أعجل الموت لمريض استعصى شفاؤه، أم يجب علي الانتظار حتى يوافيه الموت؛ وقد عنى ببحث هذه المسألة عدة من أكابر الأطباء الألمان، وأذاعوا آراءهم في الصحف؛ فيرى الأستاذ زاوربروخ الجراح الأشهر، أن هذه مسألة ضمير لا يمكن حلها على هذا الوجه، وأنه لا يمكن أن توضع لها قاعدة ولا أن يشرع لها قانون، وهي تبعة عظمى لا يمكن أن يحتملها الطبيب بسهولة. ويقول الدكتور كلاري الأخصائي الكبير في مباحث السل؛ إنها مسألة لا يمكن التسليم بها، ولا معنى مطلقاً لأن تثار مسألة اليأس من الشفاء لأن العلم يتقدم ويأتي كل يوم بالعجائب، فمن يدرينا أنه لن يكتشف بين اليوم والغد علاج للسرطان مثلاً؟ إنه من الاستهانة الكبرى أن تعامل الحياة بمثل هذه الرعونة بحجة الإشفاق على مريض عزيز؛ ويؤيده الدكتور أونفرخت في ذلك ويقول إن مهمة الطب هي أن تعاون على صون الحياة وإطالتها، لا على تحطيمها والتعجيل بسحقها؛ وهذا هو رأي معظم أعلام الطب في ألمانيا في هذه المسألة الدقيقة.

ديوان حافظ

ص: 67

رفع الأستاذ أحمد أمين إلى صاحب المعالي وزير المعارف ديوان المرحوم حافظ بك إبراهيم بعد أن تم جمعه وشرحه وتبويبه وقد بدأت مطبعة دار الكتب في طبعه.

ولم يعثر الأستاذ في جميع المجلات والصحف المتداولة على قصيدتين من خير قصائده وهما قصيدته في رثاء البابلي ومطلعها:

بدأ الممات يدب في أترابي

وبدأت أعرف وحشة الأحباب

والثانية قصيدة في وصف الحالة في مصر قبيل وفاته ومطلعها:

قد مر عام يا سعاد وعام

وابن الكنانة في حماه يضام

وهو يرجو ممن لديه القصيدتان أو أحدهما أو شيء منهما أن يتفضل فيبعث بذلك إليه في لجنة التأليف والترجمة والنشر في شارع الكرداسي رقم 9 بعابدين وله الشكر.

واجبنا بعد المعاهدة

فرغت لجنة أسبوع المعاهدة من تنظيم محاضراتها التي تبحث فيما يجب أن يتجه إليه المجتمع المصري في عهده الجديد على البيان التالي:

يوم السبت 5 ديسمبر (واجب الشباب بعد المعاهدة) لسعادة أحمد نجيب الهلالي بك.

يوم الاثنين 7 ديسمبر (فكرة عامة عن منشأ الحروب وواجبنا الحربي بعد المعاهدة) لسعادة اللواء عزيز المصري باشا

يوم الخميس 11 ديسمبر (واجبنا الاجتماعي بعد المعاهدة) لسعادة حسن نشأت باشا

السبت 19 ديسمبر (واجبنا الأدبي بعد المعاهدة) للدكتور طه حسين بك

الاثنين 21ديسمبر (واجبنا نحو التعليم بعد المعاهدة) للدكتور علي مصطفى مشرفة

الخميس 24 ديسمبر (واجبنا الصحي بعد المعاهدة) للدكتور حامد محمود (واجبنا الزراعي بعد المعاهدة) لحسين عنان بك

الاثنين 28 ديسمبر (واجبنا الرياضي بعد المعاهدة) لصاحب السعادة محمد طاهر باشا

الخميس 31 ديسمبر (واجبنا القانوني بعد المعاهدة) للدكتور عبد الرزاق السنهوري

الاثنين 4 يناير سنة 1937 (واجبنا القومي بعد المعاهدة) للأستاذ محمد توفيق دياب

الخميس 7 يناير (واجب الطلبة بعد المعاهدة) للأديب فريد زعلوك

ص: 68

الاثنين 11 يناير (واجبنا الصحفي بعد المعاهدة) لأنطون الجميل بك (واجبنا نحو الفلاح بعد المعاهدة) للآنسة ابنة الشاطئ

الخميس 14 يناير (واجب المرأة بعد المعاهدة) للسيدة استر فهمي ويصا.

وستلقى هذه المحاضرات في قاعة يورت التذكارية وقد أعدت اللجنة بطاقات تبيح لحاملها الدخول في جميع المحاضرات أو بعضها مجاناً لمن يطلبها من سكرتير اللجنة بكلية الحقوق أو بنادي الجامعة.

وثائق الحملة الفرنسوية

اعتزمت الجامعة المصري شراء طائفة من الوثائق والمستندات التاريخية الخاصة بعهد نابليون بونابرت في مصر، وقد طلبت إلى وزارة المالية الموافقة على الاعتماد الذي قدرته لهذا المشروع؛ وفي انتظار تلك الموافقة وكلت إلى صاحب العزة عميد كلية الآداب أن يتصل بالمفوضية المصرية في باريس ويطلب إليها موافاة الجامعة بالبيانات والمعلومات الخاصة بهذه المجموعة، فتلقى الأستاذ العميد من معالي وزير مصر المفوض برقية يقول فيها إن هذه المجموعة ملك لأحد الفرنسيين، وأنه قد عرضها للبيع بالمزايدة العلنية خلال هذا الشهر. أما ثمنها الأساسي فيقدر بنحو ألفي جنيه. ثم عرض معاليه على الجامعة استعداده لشراء هذه المجموعة إذا هي رغبت في ذلك.

ص: 69

‌الكتب

نفح الطيب في طبعته الجديدة

بقلم محمد فهمي عبد اللطيف

همة مشكورة تلك التي يبذلها الدكتور أحمد فريد رفاعي في الحرص على تراثنا الأدبي الحافل، بإحياء عناصره، ونشر مصادره. وإذا كنا قد عرفنا هذه الهمة في نفس الأستاذ من قبل - رغبة وأملا - فأننا الآن نلمسها منه عملاً جليلاً وجهداً كبيراً يؤديه في نشر كتابي، معجم الأدباء، ونفح الطيب، في طبع متقن، وضبط كامل، وتقسيم واضح، وتصحيح دقيق، تقوم وزارة المعارف بمراجعة أصوله النهائية مبالغة في إجادته وحرصاً على إتقانه.

ولقد وقع لي (القسم) الأول من نفح الطيب، فرأيته كالعروس المجلوة تخطر في الثوب القشيب، فهو يغري بالقراءة إغراء، ويستحث على المضي في استجلائه وتأمله، فعاودت الكتاب بالنظر والتصفح، إذ كنت قد قرأته من قبل في طبعته الأولى، فقدرت عمل الدكتور النافع، وتملكني الإعجاب بذلك المجهود الذي بذله في إخراج هذا الكتاب الجليل، ولكن نشوة الإعجاب بالدكتور لا تمنعي من أن أنبه على بعض هنوات ما تحسبها إلا قد ندت عن الخاطر اليقظ، وخرجت عن الدقة البالغة.

فمن ذلك أنه وضع اسم الكتاب على الغلاف ناقصاً، فسماه نفح الطيب فحسب، والمؤلف قد سماه (نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب) وهذا الاسم هو الذي وضع على الطبعات السابقة، فكان على الأستاذ أن يثبته كاملاً للمحافظة على وضع المؤلف، ولأن ذكر لسان الدين هو الفكرة الداعية لتأليف الكتاب كما أوضح ذلك المقري في مقدمته.

ثم إن الأستاذ رأى أن يخرج الكتاب أقساماً تبلغ العشرين وأسمى القسم الأول منها بالجزء الأول، ومن المعلوم أن المؤلف قسم كتابه عند التأليف إلى أربعة أجزأء، ومسألة التقسيم مسألة اعتبارية، والدقة تقضي بالمحافظة على اعتبار المؤلف الذي أخرج الكتاب عليه؛ فكان الأنسب أن يقسم الناشر كل جزء إلى أقسام، فيقول مثلاً: القسم الأول من الجزء الأول، والقسم الثاني من الجزء الأول. . . وهكذا حتى ينتهي الجزء الأول، فيبتدئ تقسيماً جديداً للجزء الثاني.

ص: 70

ونتجاوز هذا إلى صميم الكتاب، فنقف مع الأستاذ في تلك المقدمة التي دبجها في التعريف بمؤلف الكتاب، فنجده قد جاء بأشياء ذكرها المقري نفسه في المقدمة التي كتبها عن سفراته ورحلاته، والباعث له على تأليف الكتاب. ومن العجيب أن يقول الأستاذ وهو يسرد مؤلفات المقري: ومن مؤلفاته الشائقة عرف الطيب في أخبار ابن الخطيب، ثم يقول في الهامش: ذكر في كشف الظنون أنه سماه بعد ذلك نفح الطيب، وهذا لف لا حاجة إليه، فإن المؤلف قد شرح مسألة التسمية في المقدمة فقال:(وقد كنت أولاً سميته بعرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب، ثم وسمته حين ألحقت به أخبار الأندلس بنفح الطيب. . .) فكان سبيل الكلام أن يقول الأستاذ: ومن مؤلفاته نفح الطيب. . . ولا يثبت اسماً قد ألغاه صاحبه، ولا ينتدب كشف الظنون لمهمة قد أداها المؤلف عن نفسه؛ على أنه بعد ذلك قد ذكر الاسم الأول محرفاً كما يتبين ذلك من مقابلته بعبارة المؤلف.

وفي (ص52) قال المقري من قصيدة طويلة:

أين الذي الهرمان من

بنيانه الحاكي اعتزامه

فعلق عليه الشارح بقوله: كشف من الأهرام حتى الآن أربعة!! إلا أن شعراء الماضي يذكرون الهرمين: هرم خوفو وهرم خفرع، ثم استشهد لذلك بقول أبي الطيب:

أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه ما يومه ما المصرع!

نقول: وشعراء الماضي يذكرون الأهرام بلفظ الجمع وهو كثير في أشعارهم، ومن ذلك قول ابن جبارة:

لله أي غريبة وعجيبة

في صنعة الأهرام للألباب

أخفت عن الأسماع قصة أهلها

ونضت عن الإبداع كل نقاب

وفي (ص 61) قال المقري: (وقد زمت للرحيل القلص الرواسم) فقال الشارح: الرواسم هي الإبل السائر رسيما قال الشاعر:

متى تقول القلص الرواسما

يدنين أم قاسم وقاسما

وهذا تفسير ناقص فكان عليه أن يبين مرتبة هذا الرسيم من السير، أهو إلى السرعة أم إلى الريث، وإنما نبهنا على هذه لأن أمثالها في الكتاب كثير. ألا تراه يعلق على كلمة - نيسان - بالشرح فيقول. هو شهر رومي؟

ص: 71

وفي (ص 79) قرأت قول القائل:

رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا

ففاضت لروعات الفراق عيون

وقد رأيت كلمة فشرفنا بالفاء، ولعل من الواضح أنها بالقاف لتكون في مقابلة (فغربوا) وأحسب هذا الخطأ من تحريف الطابع.

وفي (ص 98) قال المقري: (فكم جبنا من مهامه فيحا، ومسحنا بالخطأ منها أثيراً وصفيحاً. . .) فقال الأستاذ الشارح: الأثير عند الأقدمين الفلك التاسع، فهو على تشبيه المهامه بالفلك في اتساعه، أو الأثير من أثر السيف وهو فرنده ورونقه وديباجته ولعل هذا أنسب. نقول: أما المعنى على التفسير الأول فخطأ لا يصح، وأما التفسير الثاني ففيه نظر؛ تقول اللغة: أثر السيف بوزن الأمر فرنده؛ وتقول اللغة أيضاً: الصفيح العريض من كل شيء، فالمقري يريد أن يقول: إننا جبنا هذه المهامه وسرنا بالعريض منها والدقيق. ومن هنا ترى أن صحة العبارة (ومسحنا بالخطأ منها أثراً وصفيحاً. . .)

وفي (ص 139) قال المقري وهو يتكلم عن دمشق: (وهي المدينة المعمورة البقاع، بالفضل والرباع) فلم يطمئن الشارح لكلمة الرباع بالباء الموحدة، وقال: لعلها الرياع بالياء المثناة أي الريع والنماء والزيادة. نقول. واللغة لا تقول الرياع وإنما تقول الريع، ثم لاشك أنها الرباع بالباء الموحدة جمع ربع بمعنى القوم كما هو إطلاقهم على الحجاز، فكأن المقري يريد أن يقول: إنها عامرة بالفضل وبالأقوام، وهو كما يقولون في التعبير الحديث (آهلة بالسكان).

وفي (ص 152) قول القائل في وصف دمشق أيضاً:

إن تكن الجنة الخلود بأرض

فدمشق لا يكون سواها (؟)

أو تكن في السماء فهي عليها

قد (أمدت) هواءها وهواها

فقال الشارح: لعلها أمرت!! نقول ومعنى أمرت أذهبت ولا يصح المعنى على هذا الحدس، فهي أمدت كما في الأصل لأن الشاعر يريد أن يقول: إن تكن الجنة بالأرض فهي دمشق، وإن كانت بالسماء فموضعها فوق دمشق وإنها أمدتها بهوائها وهواها. . .

وفي (ص 162) قال الشاعر:

رونق كالحباب يعلو على الما

ء ولكن تحت الحباب الحباب

ص: 72

والشارح قد قيد الحباب جميعها في البيت بالضم، وإنما هي في الأولى والثانية بالفتح بمعنى الفقاعات التي تعلو سطح الماء، وقد فطن إلى هذا الخطأ فقيد الكلمة مصححة بالفتح فيما بعد.

وفي (ص 164) قال المقري: (ولو كان بين الصفا والحجون) وقد رأيت الصفا مضبوطة بكسر الصاد، وإنما هي بالفتح كما جاءت في القرآن الكريم.

وفي (ص 181) البيتان:

تمتع بالرقاد على (شِمال)

فسوف يطول نومك باليمين

ومتع من يحبك باجتماع

فأنت من الفراق على يقين

فقال الشارح: يجوز أن تكون (شمال) جمع شملة وهي كساء يشتمل به. . . وفي حديث على (!؟) قال للأشعث بن قيس: إن أبا هذا كان ينسج الشمال بيمينه؛ وهي من أحسن الألفاظ وألطفها بلاغة!! وهذا كله شرح فاسد، فأن المراد بالشمال مقابل اليمين، إذ المعنى: تمتع بالنوم على جنبك الشمال في الحياة قبل أن يستمر نومك باليمين في الموت. ولعل من المعروف أن الأفضل في دفن الميت أن يوضع على جنبه الأيمن:

وفي (ص 201) قال الشاعر:

أين أيامنا اللواتي تقضت

إذ زجرنا للوصل أيمن طير

فقال الأستاذ في الشرح: زجر الطير من العيافة ثم قال: والعيافة باطلة، واحتج لذلك بقول الشاعر:

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا

ولا (زجرت) الطير ما الله صانع

وهذا فضول في الشرح ومثله في الكتاب كثير، ثم في كلمة زجرات تحريف وإنما هي زاجرات.

وفي (ص 203) قرأت قول ابن الخياط:

فلم أر الطرة حتى جرت

دموع عيني (بالمربزيب)

وأنا أحفظها كالمربزيب وهي أصح وأبين. . .

وفي (ص 220) أثبت المقري قصيدة للمولي الشاهيني جاء فيها:

وهاكها سيارة أعتقت

على جواد كان للبحتري

ص: 73

ورثته منه ولكنما

من شاعر وافى إلى أشعر

ما للفتى الطائي شواط امرئ

يصطاد نسر الجو بالمنسر

وقد علق الأستاذ على البيت الأخير فقال: أظنه يريد بالفتى الطائي أبا تمام وبامرئ امرأ القيس فانظر - وقد نظرنا فرأينا أنه يعني بالفتى الطائي البحتري الذي ذكره في البيت الأول، وأنه يريد بامرئ: نفسه على جهة التشبيه بامرئ القيس وهذا هو الذي يقتضيه السياق، ويتطلبه المعنى.

وفي ص (257) قال المقري في تحديد الأندلس: (وهذه المدينة - يعني مدينة أربونة - تقابلها مدينة برديل. . .) فقال الأستاذ: لم نعثر في المعاجم على اسم هذه المدينة، وقد تكون محرفة عن (برديش) وهي من مدن قرمونية بالأندلس. وليس ثمة تحريف، فأن برديل هي بردو الآن، وتقع حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي، وهي في مقابل أربونة؛ وقد كان القدماء يقسمون الأندلس إلى ثلاثة أركان، ويقولون إن ركنها الثاني يقع بالشرق بين أربونة وبرديل.

وفي (279) قال وهو يتكلم عن المعادن والأفاويه بالأندلس: (وقد سبق منه - أي العود الهندي - إلى خيران الصقلي صاحب المرية) والمقري قد نقل العبارة بنصها عن الإحاطة للسان الدين، وقد جاء في الإحاطة اسم صاحب المرية (حيزوان)

ذلك ما أحصيناه في هذا القسم من الكتاب في نظرة عجلى، وربما لو عدنا إليه بالنظرة الفاحصة لعثرنا على ما هو أهم وأجل، ولعل الله ييسر لنا النظر في جميع أقسام الكتاب.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 74

‌العالم المسرحي والسينمائي

بعوث التمثيل وسياسة أعداد المخرجين

لناقد (الرسالة) الفني

لقد ترك الأستاذ زكي طليمات باعتزاله العمل في الفرقة القومية مكاناً شاغراً وإنه ليصعب على فرقة تضم هذا العدد الكبير من الممثلين أن تسير بمخرج مسرحي واحد، ونحن إذا طالبنا الأستاذ عزيز عيد أن يخرج جميع روايات الموسم فإنما نطلب ما ليس في الاستطاعة وما يخرج عن القدرة؛ وهو إن قبل هذه المهمة فإنما يظلم نفسه، وتكون النتيجة تعطيل عدد كبير من الممثلين انتظاراً لإعداد رواية بعد أخرى كما هو حاصل اليوم. ثم إن قيام مخرج واحد بهذه المهمة يجعل دراسة الروايات سطحية لكثرة العمل وضيق الوقت؛ وقد يضطر المخرج إلى تأجيل موعد التمثيل في إحدى الروايات حتى يتسع له الوقت لتدريب الممثلين كما حدث في رواية (سافو) في الأسبوع الماضي.

ونحن نناشد مدير الفرقة أن ينظر إلى هذه الحالة جيداً وأن يقدر الموقف لعله يستطيع أن يوفق إلى مخرج. أما نحن فنرى أن من الخير للممثلين أنفسهم وللجمهور وللفرقة أن يعهد صاحب العزة مديرها إلى أحد كبار الممثلين الذين لهم من الثقافة وسعة الاطلاع ما يؤهلهم للقيام بمهمة الإخراج ببعض الروايات لإخراجها، وأنا على ثقة من أن في الفرقة من سبق له أن أخرج عشرات الروايات لطلبة المدارس الثانوية الأميرية وغير الأميرية. فهل تحقيق الفرقة هذا الرجاء حتى يعود إليها من الخارج من توفدهم من البعوث لدراسة الفن في أوربا!!

وعلى ذكرى البعوث نقول إن خير عمل قامت به لجنة ترقية التمثيل العربي منذ إنشاء الفرقة القومية في العام الماضي، هو قرار لجنتها التي عقدت في مساء يوم الخميس الماضي، القاضي بإرسال أربعة من الشبان المصريين إلى أوربا لدارسة فن الإخراج والتمثيل: اثنين من الممثلين المعروف، واثنين من الشبان المتعلمين الحائزين على درجات علمية محترمة. وهذه السياسة التي تسير عليها اللجنة جديرة بأن تقابل من كل محب للمسرح بالشكر إذ تهيئ لنا شباناً مثقفين ثقافة مسرحية شاملة، وسوف يدخلون على المسرح المصري كل جديد طريف ويسيرون به إلى الإمام خطوات واسعة، وسوف يجد

ص: 75

فيهم صغار الممثلين أساتذة وإخواناً يستفيدون منهم كل ما تغيب عنهم معرفته.

إن أهم ما يشكو منه المسرح هو عدم وجود المخرج الفنان، فعلى أعضاء البعثة أن يعنوا بدراسة الإخراج أكبر العناية، وأن يخصصوا له الجانب الأكبر من جهودهم فيتفهموا وسائله ونظرياته ويدرسوا الضوء، فمن المحزن أن نبقى حتى اليوم ونحن لا نكاد نفهم ما هو الضوء، وكيف نستخدمه ونستفيد منه، وكيف نستعين به في معاونة الممثلين على التعبير وإبراز عوامل الجمال في الرواية.

رواية سافو

كانت الفرقة القومية المصرية قد أعلنت عن تمثيل رواية سافو ابتداء من 2 ديسمبر الماضي، ولكن اضطرت الفرقة لظروف خاصة إلى تأجيل هذا الموعد إلى يوم الثلاثاء القادم الموافق 8 ديسمبر، ونحن نرجو أن يقبل الجمهور على هذه الرواية فهي من روائع الأدب المسرحي الفرنسي.

فيلم جديد لاستديو مصر: الشيخ شريب الشاي

جرت العادة أن تدعو الشركات الأجنبية ممثلي الصحافة إلى حفلة عرض خاصة لكل فلم جديد تنتجه، وقد اقتدى استديو مصر بهذه الشركات فدعا النقاد السينمائيين إلى شهود آخر منتجاته (الشيخ شريب الشاي) الذي قام بإخراجه لحساب جمعية الشاي الدولية.

فالفلم للدعاية وأصحابه هم أصحاب فكرته، ولكن الاستديو هو الذي قام بإعداده وإدارته فنياً؛ وموضوعه تحبيذ للشاي الجيد، وحض للناس على تفضيل هذا النوع من الشاي. وبطل الفلم شيخ من الفلاحين له مكانته في قريته يستيقظ في الفجر هو وأولاده يطلبون الشاي ويلقون الأغاني في طلبه، ونرى الأم تقوم بإعداده على الطريقة الصحية. وهنالك مواقف كثيرة فيها تتجلى مضار الشاي الأسود، ومحاسن الشاي الجيد المصنوع على الطريقة الصحية وأثر هذا الشاي في الصحة. وقد وفق الأستاذ نيازي مصطفى في إدارة الفلم فنياً كما وفق يوسف بهجت في تصميم مناظره، وكذلك وفق حلمي رفلة في عمليات التنكر وإبراز الشخصيات مما يتفق وأدوارها في الفلم، وأذكر له شخصية الشيخ، وشخصية الخفير الأبله الذي تدل سحنته على البلاهة حقاً كما كانت سحنة بائع الشاي

ص: 76

(المغشوش) بغيضة أيضاً. وإلى مجهود هؤلاء الشبان يعود الأثر الأكبر في متابعة النقاد لمشاهدة الفلم برضاء وسرور مع أنه كما قلنا فلم دعابة فيه كثير من الترديد والإعادة والتحبيذ للشاي الصحي وشربه، وفي هذا ما قد يبعث الملل إلى النفس.

ويمكنني أن أقول إن نيازي أثبت في هذا الفلم أنه مدير فني متمكن من فنه، فعمله يفوق أي فلم مصر آخر مما تخرجه الشركات وتستغل به طيبة المصريين.

والتمثيل لا بأس به، وفي مقدمة الجميع كان محمد كامل الذي قام بدور البربري فله مواقف طريفة، وإبراهيم عمارة في دور الشيخ شريب الشاي أعطى جوانب طيبة من الشخصية، ولكنه أهمل جوانب أخرى واهتم بالإلقاء أكثر مما اهتم بالتمثيل ولهذا لم يبرز روح الفلاح كاملة. أما الموسيقى فكانت تتنافر وجو الفلم، وكان من الأفضل أن يميل الملحن فريد غصن إلى الموسيقى البلدية في أغاني القرية حتى ولو كانت عن الشاي.

والفلم في مجموعه مجهود موفق، فنرجو للاستديو التوفيق المستمر.

التصوير أم الإضاءة

رأي المدير الفني لفيلم نشيد الأمل

يعلم رجال شركة فلم الشرق بهمة كبير لإخراج فلم نشيد الأمل الذي تقوم بالدور الأول فيه الآنسة أم كلثوم، ويبذل كل من المخرج والمدير الفني مجهوداً مضنياً، حتى ينتهي إعداد الفلم قبل يوم 10 يناير وهو الموعد المحدد لعرضه في سينما رويال.

جمعني مجلس بالأستاذ أحمد بدرخان فتحدثنا عن فلم نشيد الأمل وعن الجهود التي يبذلها الجميع لإخراجه في هيئة تنال رضاء الشعب، وانتقل بنا الحديث إلى التصوير فقلت له: إن الذين شاهدوا فلم (وداد) لاحظوا أن الآنسة أم كلثوم في الصور المأخوذة عن قرب تبدو غير جميلة، وتضعف شخصيتها كثيراً عما نعرفه عنها، وتمنيت أن يكون قد عمل على تلافي هذه الغلطة في فيلم نشيد الأمل. وسألته عما إذا كان قد فكر في إظهار الآنسة أم كلثوم في الصور القريب غير واضحة التفاصيل حتى يمكن تلافي أي عيب. وقد أجاب الأستاذ بدرخان بأنه لو كان قد أشرف على الإدارة الفنية في (وداد) لما ظهرت أمثال هذه الصور التي لفتت الأنظار، لأنه يعرف كيف يلافي أمثال هذه الأخطاء، وأنه شخصياً يرى

ص: 77

أن الصور غير الواضحة التفاصيل تظهر الوجه بديناً إلى حد ما وإن أدت إلى الغرض المقصود، وهذه الصور تلائم الممثل النحيف كالأستاذ محمد عبد الوهاب ولكنها لا تلائم الآنسة أم كلثوم؛ ولهذا يرى أن الإضاءة الفنية تحقق هذه الغاية.

وسوف يرى النقاد ورواد فلم نشيد الأمل كيف تظهر الآنسة أم كلثوم هذه المرة، وسوف يحكمون على إدارة المصريين للأفلام ويقارنون بين ما ينتجون وبين ما أنتج الأجانب الذين استقدمناهم لإدارة أفلامنا الشرقية والمصرية.

(يوسف)

تصويب

جاء في مقال المسرح المنشور بالعدد الماضي صفحة 1979 في السطر الثاني عشر من العمود الأول: (ذلك الكاتب الألماني العظيم) والصواب (الكاتب الإنساني).

ص: 78