الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 180
- بتاريخ: 14 - 12 - 1936
عرس وسرير
بين سلطان وسلطان
يا كافرين بالشعر والأحلام والحب! أتريدون بعد حادث اليوم معجزة؟
هذا ملك المغرب، وإمبراطور المشرق، وإله البحر، وصاحب العرش المحمول على أعناق الشعوب، ووارث التاج المتألق على جباه القرون، وخليفة المجد المحفوف بالجلال الباهر والسؤدد العريق والسنَّة المقدسة، وسليل الدم السَّرى الذي يتدفق بالحياة في هدوء ويجيش بالنشاط في ثبات، وربيب البيئة التي تعظم القوانين وتقدس التقاليد وتعبد الإمبراطورية؛ هذا هو ينزل عن العرش، ويلقي التاج، وينبذ اللقب، ويهجر الوطن، ويلحق بحبيبته أميراً لا يميزه شعار، وإنساناً لا تحدوه أبَّهة، وفرداً لا تصحبه حاشية!
يا جاحدين لسلام الروح وراحة القلب ورضى العاطفة، أتمارون بعد اليوم في هذه الآية؟
زعمتم أن الأرض بدلِّت غير الأرض، والدنيا أصبحت غير الدنيا، فقدَّرتم سعادة الحياة بالوزن والكيل والمساحة، وقلتم أودى منطق العقل بإلهام القلب، وأزرت مادية العلم بروحية الأدب، وغلبت أثرة المنفعة على إيثار التضحية؛ ورحتم تتجهزون بما صنع العلم من صواعق وزلازل وبراكين، لتنسفوا ما قام من المدينة، وتقتلوا ما بقي من الإنسانية، وتقرُّوا في ملكوت الله نظاماً لا يعيش فيه جمال ولا خير ولا حق؛ فقام أكبر ملك في العالم، على أظهر مكان في الأرض، يعلن أن عظمة الملك لا تضمن سعادة النفس، وسلطان العرش لا يعوض حرية الإرادة، وجواهر التاج لا تساوي بسمة الحبيب!
سبحانك يا بديع الحياة والحي! ما هذا الذي تضعه في العيون فنسميه سحراً، وتجريه على الشفاه فندعوه جاذبية، وترسله في الأعضاء فيكون رشاقة؟ ما هذا الذي تودعه هذا الجسم الرقيق الناعم فيقهر سطوة الجبار، ويسوِّي أخدع المتكبر، ويطأطأ أشراف الملك؟ أهو إعجاز القدرة التي تغلب بالأضعف؟ أم سر الحكمة التي تمكر بالأقوى؟ أم روح القدس الذي ينفّذ قانون الحياة في هذا الكوكب؟
بين سورة الملك وأمانة التاج، وبين فتنة الجمال ومحنة الهوى، وقف العاهل ادوار الثامن يتحسس في مطاوي الغيب مشيئة القدر: أيعيش في نفسه ولنفس، أم يعيش في جنسه وللناس؟ أيظل رمزاً لأمته يخفق فوق رءوسها كالعلم، ويتغلغل في قلوبها كالأيمان، ويتردد
على ألسنتها كالصلاة، ثم لا يكون له ما للعامل الفقير من وجود مستقل وإرادة مختارة؛ أم يرتد إلى طبيعة الإنسان فيضرب بنفسه في الزحام، ويبحث عن نصيبه في الرغام، ويضطلع بعبئه ككل فرد؟؟ أيبقى أسير التقاليد التي نسجتها عناكب الماضي البعيد على نوافذ البلاط والبرلمان، فلا يفكر إلا بإيحاء، ولا يتحرك إلا بميقات، ولا يتكلم إلا بمقدار، ولا يعمل إلا بإشارة؛ أم يتمرد تمرد الحي المريد، فيدفع من أمامه ذلك الحاجز الصفيق الثقيل، ويجذّ من ورائه ذلك الذيل العتيق الطويل، ثم ينطلق في أجواء الله انطلاق الطائر المرح، يقع في كل روضة، ويهبط على كل غدير، ويتملى أليفه فوق عروش الورود، وعلى بسط المروج، وبين أفنان الخمائل؟؟
كانت هذه الآراء الحائرة تعصف نكباء في رأس الملك، بينما كان في (لندن) الواجب المرير الخشن يتمثل في وجه (بلدوين) الحازم الجبار، ومن خلفه برلمان متحد يؤيد دستوره، وملكوت واسع يريد إمبراطوره، وشعب مخلص يحب ملكه؛ وفي (كان) حب عنيف ملح يشرق في قسمات (مسز سمبسون) الفاتنة، ومن ورائه إنسان يطلب حريته، وقلب ينشد سعادته، وحي يتغنى حظه من الحياة
وهنا يتدخل القدر الذي يحكم وحده على الملوك، فيحل عقدة الرواية التي يشهدها العالم كله، على غير ما يحلها به الروائيون الخياليون، فينصر تجديد الطبيعة على تقليد العرف، ويغلّب سلطان الحب على سلطانالواجب، ويرفع سرير الأسرة على عرش الأمة!
يا كافرين بالشعر والأحلام والحب! أتريدون بعد حادث اليوم معجزة؟
أيها الناسون ما صنعت حواء بأبيكم آدم! لا تحسبوا أن الماسونية والجاسوسية والشيوعية والصهيونية والفاشية والنازية هي التي في تقلب في السر أو في العلن أوضاع المجتمع.
فتشوا في زوايا كل أولئكم عن المرأة! وإذا كانت مأساة البرنس ادوار تذكرنا بمأساة البطل أنطوان، فليست كليوبطرة أول النساء، ولا مسز سمبسون آخرهن؛ وسيظل هذا الجنس القوي الخفي الغامض سلطان الكون المطلق؛ فهو محور الطموح والمنافسة، ومصدر الخير والشر، ومنبع السرور والألم، ولئن خضع له اليوم أدوار، فمن قبلهخضع نابليون، ومن قبل نابليون خضع الرشيد وقال فيما حدَّث الرواة:
ملك الثلاث الآنسات عناني
…
وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها
…
وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى
…
- وبه قوين - أعزُّ من سلطاني
احمد حسن الزيات
6 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فقام ليخرج، وقد تفارطته الهموم وتسابقت إليه فانكسر وتفتّر؛ وكأنما هو قد فارق صاحبته باكياً وباكيةً من حيث لا يرى بكاءه غيرها ولا يرى بكاءها غيره
ورأيته ينظر إلى ما حوله كأنما تغشَّى الدنيا لون نفسه الحزينة إذ كانت نفسه ألفت ظلَّها على كل شيء يراه؛ وجعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقلٌ بحمل يحمله على قلبه
إنه ليس أخفُّ وزناً من الدمع، ولكن النفوس المتألمة لا تحمل أثقل منه، حتى لينتثر على النفس أحياناً وكأنه وكأنها بناءٌ قائم يتهدَّم على جسم. وبعض التنهدات - على رقتها وخفتها - قد تشعر بها النفس في بعض همها كأنها جبل من الأحزان أخذته الرجفة فمادت به، فتقلقل، فهو يتفلّق ويتهاوى عليها
آه حين يتغير القلب فيتغير كل شيء في رأي العين. لقد كان صاحبنا منذ قليل وكأن كل سرور في الدنيا يقول له: أنا لك؛ فعاد الآن وما يقول لك أنا لك إلا الهم؛ والتقى هو والظلام والعالم الصامت
جعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه. ومتى وقع الطائر من الجو مكسور الجناح انقلبت النواميس كلّها معطلة فيه، وظهر الجو نفسه مكسوراً في عين الطائر المسكين، وتنفصل روحه عن السماء وأنوارها حتى لو غمره النور وهو ملقىً في التراب لأحسَّه على التراب وحده لا على جسمه
ثم خرجنا فانتبه صاحبنا مما كان فيه؛ وبهذه الانتباهة المؤلمة أدرك ما كان فيه على وجه آخر فتعذَّب به عذابين: أما واحد فلأنه كان ولم يدم؛ وأما الآخر فلأنه زال ولم يعد. والسرور في الحب شيء غير السرور الذي يعرفه الناس، إذ هو في الأول روحٌ تتضاعف به الروح؛ فكل ما سرك وانتهى شعرت أنه انتهى؛ ولكن ما ينتهي من سرور العاشق المستهام يشعره انه مات، فله في نفسه حزن الموت وهمُّ الثكل؛ وله في نفسه همُّ الثكل وحزن الموت.
وينظر صاحب القلب المسكين فإذا الأنوار قد انطفأت في الحديقة، وإذا القمر أيضاً كأنما
كان فيه مسرح وأخذوا يطفئون أنواره.
كان وجه القمر في مثل حزن وجه العاشق المبتعد عن حبيبته إلى أطراف الدنيا. فكان أبيض أصفر مكمدا، تتخاذل فيه معاني الدموع التي يمسكها التجلد أن تتساقط.
كان في وجه القمر وفي وجه صاحبنا معاً مظهر تأثير القدر المفاجئ بالنكبة
وبدت لنا الحياة تحت الظلمة مقفرة خاوية على إطلالها فارغة كفراغ نصف الليل من كل ما كان مشرقاً في نصف النهار. يا لك من ساحر أيها الحبُّ! إذ تجعل في ليل العاشق ونهاره ظلاماً وضوءاً ليسا في الأيام والليالي.
أما الحديقة فلبسها معنى الفراق؛ وما أسرع ما ظهرت كأنما يبست كلها لتوّها وساعتها، وأنكرها النسيم فهرب منها فهي ساكنة؛ وتحولت روحها خشبيّة جافة، فلا نضرة فيها على النفس؛ وبدت أشجارها في الظلام قائمة في سوادها كالنائحات يلطمن ويولولن، وتنكر فيها مشهد الطبيعة كما يقع دائماً حين تنبت الصلة بين المكان ونفس الكائن فيه.
ماذا حدث؟
لا شيء إلا ما حدث في النفس؛ فقد تغيرت طريقة الفهم، وكان للحديقة معنى من نفسه فسلب المعنى، وكان لها فيض من قلبه فانحبس عنها الفيض، وبهذا وهذا بدت في السلب والعدم والتنكر، فلم يبق إيداعٌ في شيء مبدع، ولا جمال في منظر جميل.
أكذا يفعل الحب حين يضع في النفس العاشقة معنى ضئيلاً من معاني الفناء كهذا الفراق؟
أكذا يترك الروح إذا فقدت شيئاً محبوباً، تتوهم كأنها ماتت بمقدار هذا الشيء؟
مسكين أنت أيها القلب العاشق، مسكين أنت!
ومضينا فملنا إلى ندى نجلس فيه، وأردت معابثة صاحبنا المتألم بالحب، والمتألم بأنه متألم، فقلت له: ما أراك إلا كأنك تزوجتها وطلقتها فتبعتها نفسك
قال: آه. من أنا الآن؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسّق لي الدنيا في أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها؟ أتدري أن العالم كان في ثم أخذ مني فأنا الآن فضاء فضاء
قلت: أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه
قال: ولذلك يعيش المحب المهجور، أو المفارق، أو المنتظر وكأنه في أيام خلت؛ وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع
قلت: إن من بعض ما يكون به الجمال جمالاً انه ظالم قاهر عنيف كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ امره؛ وكأن الجميل لا يتم جماله إلا إذا كان أحياناً غير جميل في المعاملة.
قال: ولكن الأمر مع هذه الحبيبة بالخلاف؛ فهي تطلبني واتنكبها، وهي مقبلة لكنها مقبلة على امتناعي؛ وكأنها طالب يعدو وراء مطلوب يفرّ، فلا هذا يقف ولا ذلك يدرك
قلت: فإن هذه المشكلة، ومتى كانت الحبيبة مثلها، وكان المحب مثلك، فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسها فلا حل لها
قال: كذلك هو، فهل تعرف في البؤس والهم كبؤس العاشق الذي لا يتدبر كيف يأخذ حبيبته، ولكن كيف يتركها؟ ما هي المسافة بيني وبينها؟ خطوة، خطوتان؟ كلا، كلا؛ بل فضائل وفضائل تملأ الدنيا كلها. إن مسافة ما بين الحلال والحرام متراخية ممتدة ذاهبة إلى غير نهاية. وإذا كان الحب الفاسد لا يقبل من الحبيب إلا (نعم) بلا شرط ولا قيد لأنه فاسد، فالحب الطاهر يقبل (لا) لأنه طاهر؛ ثم هو لا يرضى (نعم) إلا بشرطها وقيدها من الأدب والشريعة وكرامة الإنسانية في المرأة والرجل
وإذا لم ينته الحب بالإثم والرذيلة، فقد أثبت أنه حب؛ وشرفه حينئذ هو سرُّ قوته وعنصر دوامه
أتعرف أن بعض عشاق العرب تمنى لو كان جملاً وكانت حبيبته ناقة. . . .؟ إنه بهذا يود ألا يكون بينهما العقل والقانون وهذا الحرمان الذي يسمى الشرف، وألا يكون بينهما ألا قيد غريزتها الذي ينحلُّ من تلقاء نفسه في لحظة ما، وأن يترك لقوته وتترك هي لضعفها؛ والقوة والضعف في القانون الطبيعة هما ملك وتمليك واغتصابٌ وتسليم
قلت: وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكن فيه إلا الحيوان، فان بينهما قوة وضعفاً من نوع آخر، فمعه الثمن وبها الحاجة، وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك
قال: وهذا مما يقطّع في قلبي، فلو أن للأمة ديناً وشرفاً لما بقي موضع الزوجة فارغاً من رجل، وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك المواضع الخالية أول ما ينزلن، فكل بغيّ هي في المعنى دينٌ متروك وشرف مبتذل في الأمة
قلت: فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هذا الاحتراق فيها، وأنت قد كنت بين يديها خالياً محصناً كأنما جمعتها في حواسك فأخذتها وتركتها في وقت معاً. وحواسك هذه لا تزال كما
هي قد زادت حدة، فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد
قال: أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك لا تحبني، إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق؛ ولكني في غيابها أفقد هذا الميزان الذي يزن المقدار ويحدده. وإذا كنت لم تعلم كيف يصنع العاشق في غيبة المعشوق، فأعلم أن كبرياءه حينئذ لا ترى بازائها ما تقاومه فتتخلى عنه وتخذله، وفضيلته لا تجد تستعلن فيه فتتواري وتدعه، وشخصيته لا تجد ما تبرز له فتختفي وتهمله؛ فما يكون من كل ذلك إلا أن يظهر المسكين وحده بكل ما فيه من الوهن والنقص وحدَّة الشوق، وهنا ينتقم الحب مما زوّرت عليه الكبرياء والفضيلة والشخصية فيضرب بحقائقه ضرباتٍ مؤلمةً لا تقوم لها القوة، ويجعل غياب الحبيب كأنه حضوره مستخفياً لرؤية الحقيقة التي كتمت عنه. وكم من عاشقة متكبرة على من تهواه تصدُّه وتباعده، وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم
ألا إنه لا بد في الحب من تمثيل رواية الامتناع أو الصد أو التهاون أو أي الروايات من مثلها؛ ولكن ثياب المسرح هي دائماً ثياب الاستعارة ما دام لابسها في دوره من القصة
ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال: آه. إن هذا القلب يغاضب الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه انه غضبان
مَن مِن الناس لا يعرف أحزانه، ولكن من منهم الذي يعرف أسرار أحزانه وحكمتها؟ أما إنه لو كُشف السر لرأينا الأفراح والأحزان عملاً في النفس من أعمال تنازع البقاء؛ فهذا الناموس يعمل في إيجاد الأصلح والأقوى، ثم يعمل كذلك لإيجاد الأفضل والأرقّ. ومن ثم كانت آلام الحب قويةً قويةً حتى لكأنها في الرجل والمرأة، تهيئ أحد القلبين ليستحق القلب الآخر
آه من هذه اللواعج! إنها ما تكاد تضطرم حتى ترجع النفس وكأنها موقد يشتعل بالجمر، وبذلك يُصْهرُ المعدن الإنساني ويصنع صنعة جديدة؛ وإلى أن ينصهر ويتصفى ويُصنع، ماذا يكون للإنسان في كل شيء من حبيبه؟
يكون له في كل شيء روحه الناري
قلت: بخ بخ. هكذا فليكن الحب. إنها حين تهيج في نفسك الحنين إليها تعطيك ما هو أجمل
من جمالها وما هو أبدع من جسمها، إذ تعطيك أقوى الشعر وأحسن الحكمة.
قال: وأقوى الألم وأشدَّ اللوعة. يا عجبا! كأن الحياة لا تقدم في عشق المحبوب إلا عشقها هي، فإذا وقعت الجفوة، أو حُمَّ البين، أو اعترى اليأس - قدَّم الموت نفسه فكل ذلك شبه الموت
إن الحزن الذي يجيء من قبل العدو يجيء معه بقوة تحمله وتتجلد له وتكابر فيه، ولكن أين ذلك في حزن مبعثُه الحبيب؟ ومن أين القوة إذا ضعف القلب؟
قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً. فإذا كان غدٌ وأنسلخ النهار من الليل، جئنا إليها فرأيناها في المسرح، ولعل الأمر يصدر مصدراً آخر. قال: أرجو
ولم يكد ينطق بهذه الرجيَّة حتى مرَّ بنا سبعة رجال يقهقهون، ثم تلاقينا وجئنا؛ ويا ويلتنا على المسكين حين علم أنها رحلت؛ لقد أدرك أن الشيطان كان يضحك بسبعة أفواه. . .
من قوله: أرجو
ولماذا رحلت؟ لماذا. . .؟
وأما هو؟
(يتبع - طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
سالزبورج
مدينة المطر والموسيقى
بقلم سائح متجول
لم يطل بنا المكث في ربوع سويسرا الجميلة فغادرنا (تسيريخ)(زيورخ) إلى ألمانيا عن طريق شافهاوزن، وقصدنا (منشن)(ميونيخ) عاصمة بافاريا عن طريق أوجسبورج واولم؛ وفي أثناء الزيارة الجمركية عند الحدود الألمانية، أحصى الموظف المختص ما معنا من صنوف النقد الأجنبي وقيمه وأثبتها بعد الاطلاع عليها في شهادة خاصة؛ وهذا إجراء لا بد منه لكي يستطيع السائح أن يخرج من ألمانيا بما يحمل من صنوف النقد الأجنبي، ووصلنا إلى (منشن) عصراً بعد رحلة ممتعة خلال سهولة بافاريا الغنية، فألفينا المدينة تموج بالوافدين عليها من السياج من مختلف الأقطار، وألفينا الفنادق غاصة بالزائرين، وقد رفعت أجورها جميعاً عن الأسعار الرسمية المدونة في سجل الفنادق الألمانية؛ وقد كانت دورة الألعاب الأولمبية قد بدأت في برلين قبل ذلك بأيام، فلم نرغب في الذهاب إليها اجتناباً لضجيجها وحياتها الصاخبة، وآثرنا البقاء في منشن وبافاريا فلم نجد ما كنا ننشد من الراحة والهدوء
وقد تحدثنا في فصل سابق عن (منشن) ومناظرها وعن أبهاء البيرة الضخمة التي اشتهرت بها، فلا نعود إلى ذلك. وإنما نلاحظ هنا فقط أن الفنادق الألمانية لا ترضى بالأسعار الرسمية التي تقيدت بقبولها والتي يعول عليها السائح، وهي مدونة في دليل الفنادق الرسمي الذي يقدم إليك؛ وإن السائح يتكبد في صرف تحاويل السياحة (رجستر مارك) خسائر لا مبرر لها، فكل تحويل بخمسين ماركا أو أقل يؤخذ عنه (مارك) ويؤخذ عن المائة مارك ونصف مارك، وهكذا فإذا ذكرت أنه يؤخذ مثل هذه النسبة أو أكثر عند شراء التحويل، فإن (العمولة) قد تصل بذلك إلى أربعة أو خمسة في المائة، هذا والسائح الذي يريد أن يحول ما تبقى لديه من النقد الألماني بعد انتهاء زيارته يتكبد في تحويله خسارة لا تقل عن عشرين أو خمسة وعشرين في المائة، وهذه نسبة غير معقولة.
أضف إلى ذلك أن نفقات المعيشة في ألمانيا ليست من الرخص كما يقال، وهذا بالرغم مما وضعته ألمانيا من تسهيل في مسألة النقد بتقرير (الرجستر مارك) للسياج؛ وتمنح ألمانيا
على سككها الحديدية تخفيضاً قدره ستون في المائة، ولكنها تشترط في مقابل ذلك أن يقيم في أرضها سبعة أيام كاملة على الأقل، وهذا شرط مرهق بلا ريب؛ لأن إيطاليا تمنح للأجانب تخفيضاً قدره خمسون في المائة أو أكثر على سككها الحديدية دون اشتراط الإقامة مطلقاً، وكل ما هناك أنك تزور معرضاً في إحدى المدن الإيطالية التي تمر بها وقد لا يستغرق ذلك أكثر من ساعتين
غادرنا (منشن) بقطار الساعة الثانية مساء إلى مدينة سالزبورج، فوصلنا إليها بعد رحلة قصيرة وتمت الإجراءات الجمركية بسرعة في الجانب النمسوي من المحطة؛ ثم جزنا إلى خارج المحطة، ولشد ما كان سرورنا ودهشتنا إذ التقينا في فنائها بصديقنا القديم الصحفي النابه الأستاذ محمود أبو الفتح، فبادلناه تحية حارة، وتواعدنا على التزاور واللقاء، ولكن الظروف لم تسمح للأسف بتلاقينا بعد ذلك؛ وقد علمنا فيما بعد من صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم أنه كان في نفس الوقت الذي زرنا فيه سالزبورج يقبع في فندق (شتات ميران) الذي نزلنا فيه؛ ومع أننا كنا نجوس خلال المدينة في كل وقت بالنهار وبالليل ونغشى جميع المقاهي والمنتديات التي ذكر لنا الصديق أنه كان يغشاها أيضاً؛ فأننا لم نعرف بوجوده ولم نقع له على خبر أو أثر؛ ولعله كان يؤثر الاعتكاف والاحتجاب ليستجم كل تفكيره وخياله ثم يطالعنا بكتابه الذي اعتاد أن يخرجه كل موسم؛ وعلى أي حال فقد كان المطر ينهمر باستمرار في سالزبورج، ويحمل ذوي الأمزجة الرقيقة على الاحتجاب والاعتكاف. أما نحن فقد كنا نجد في هذا الغيث المنهمر الذي اشتهرت به سالزبورج ظاهرة بديعة من ظواهر الطبيعة، وكنا نستقبله باسمين مرحين رغم انه كان يغمرنا بالبلل ليل نهار. والواقع أن المطر يغمر هذه المدينة الرشيقة بنوع من الصباحة المنعشة، كما تغمرها الشمس أيام الصحو وبضوئها المنعش؛ وحينما يسقط المطر تقدم إليك تلك المدينة منظراً بديعاً، فالمظلات تنتشر فوق الرؤوس، ويرتدي الناس معاطف المطر الجلدية؛ وترى المطر يقطر من المارة، ولكن حركة المدينة تبقى على حالها؛ ومما يلفت النظر بنوع خاص من السيدات وهن يرتدين المعاطف الجلدية أو معاطف صنعت من ورق خاص يسيل عليها المطر وتحمي من البلل؛ وإذا كانت سالزبورج وقتئذ تموج بالوافدين لحضور حفلاتها الموسيقية الشهيرة، فقد كنا نرى أسراب الحسان يرتدين هذه المعاطف الورقية
المختلفة الألوان فوق ثياب السهرة، وينساب الماء فوق معاطفهن، كما ينساب السحر من زينتهن وعطرهن، وهن ضاحكات مرحات لا يزعجهن البلل
وإذا كانت سالزبورج تشتهر بمطرها الذي لا ينقطع حتى في أشد أيام الصيف، والذي يغمرها دائماً بالبلل المنعش، فإنها تشتهر أيضاً بصفة أخرى، هي أنها مدينة الموسيقى؛ وشهرتها عالية تدعو إليها الزائر من أقصى العالم؛ ولا غرو فهي مسقط رأس موتسارت، وفيها بزغ مجده؛ وما زال المنزل الذي ولد فيه موتسارت قائماً في سالزبورج، وفيه الجناح الذي قضى فيه طفولته؛ وقد حول هذا الجناح اليوم إلى متحف يحج إليه المعجبون بذكرى الموسيقي الكبير، ويتأملون فيه ذكرياته وآثاره؛ وإنك لتشعر حين ترى هذا المنزل المتواضع الذي حرص أولوا الأمر على استبقائه بشكله القديم؛ وحين تطوف بغرفه الضيقة ذات الأسقف الخفيضة، بنوع من التأثر يمازجه الخشوع؛ ذلك أنك ترى في كل زاوية من المكان أثراً حياً لذلك الذي بهر العالم وسحره منذ طفولته برائع أنغامه ورائع مقطوعاته؛ فهنالك مسودات لكثير من قطع موتسارت كتبت بخطه، وهنالك رسائل كثيرة، وصور عديدة تمثله في مناسبات وحفلات مختلفة؛ وهنالك جمجمة الموسيقى الكبير ذاتها، لا نجد لوضعها معنى بين هذه القطع والآثار الفنية؛ ثم هنالك مناظر سحرية تمثل كثيراً من القطع التمثيلية التي وضع موتسارت مقطوعاتها الموسيقية واشترك في إحيائها مثل (الدون جوان) و (زواج فيجارو) و (المزمار المسحور) و (كوزي فان توتي) و (اختطاف الحريم) وغيرها؛ وهذه المناظر آية في الدقة والإبداع لأنها تمثل المناظر والأشخاص والألوان مجسمة واضحة، وتدل على مبلغ ما انتهى إليه المسرح في عصر موتسارت أعنى في أواخر القرن الثامن عشر من التقدم؛ ولفت نظرنا بنوع خاص من بين هذه الذكريات عدة إعلانات مسرحية ترجع إلى سنة 1780 و 1781، عن روايات يشترك في إحيائها موتسارت وقد ذكر فيها أنه يتولى قيادة الموسيقى، وأن الأثمان عادية أو مخفضة! وما زلنا نرى هذه الأوضاع ونقرأ هذه العبارات التي كان يتخذها المسرح منذ قرن ونصف للإعلان عن نفسه، فيما يصدره اليوم من الإعلانات والبرامج! وإنك لتكاد تقرأ في هذه الغرف المتواضعة، وفي هذه الذكريات المؤثرة طرفاً من حياة ذلك الذي لم تغنه عبقريته الرائعة شر الحاجة؛ ذلك أن موتسارت قد بهر مجتمعات عصره يسمو فنه وافتنانه، ونهل من منهل
المجد ما شاء، ولكنه لبث طول حياته يتخبط بين غمار الفاقة، وتوفي مثقلاً بالبأساء والدين
وقد اسبغ تراث موتسارت وذكرياته على سالزبورج شهرة موسيقية عالمية ما زالت تحتفظ بها حتى اليوم. ولسالزبورج موسم موسيقى مشهور تقيمه في كل صيف في يوليه وأغسطس، ويشترك في إحيائه أقطاب الموسيقى العالميون مثل برنو فالتر، فليكس فينجارتنز، وأرتورو توسكانيني؛ وتمثل في هذا الموسم عدة من القطع المسرحية الخالدة التي وضع موسيقاها موتسارت وبيتهوفن وشوبرت وغيرهم من أقطاب الفن، وتنظم حفلات موسيقية رائعة تعرض فيها قطع وأناشيد من وضعهم، وتقوم بتنفيذها فرقة موسيقية رائعة على رأسها أحد أقطاب العصر ممن ذكرنا؛ وتقام إلى جانب هذه الحفلات حفلات موسيقية منوعة، كلاسيكية أو عصرية أو كنسية؛ وقد أعدت بلدية سالزبورج لإحياء هذه الحفلات الشهيرة مسرحاً شاسعاً يمتاز بسذاجة وفخامته معاً؛ وكنا في سالزبورج والموسم على اشده، والمدينة تموج بالوافدين عليها من سائر الأقطار؛ تغص بهم فنادقها ومقاهيها وطرقاتها، ولم نستطع أن نشهد من هذه الحفلات الرائعة أكثر من حفلين لاستحالة الحصول على التذاكر ولأنه يجب للحصول عليها أن نشتري قبل الموعد بأيام إن لم يكن بأسابيع، وكان مما شهدنا حفلاً موسيقياً رائعاً برآسة أرتورو توسكانيني، ونظم في ضحى يوم ماطر كثير البلل، ومع ذلك فلم نتمكن من شهوده إلا بعد جهد جهيد
وتتخذ مدينة سالزبورج وسكانها خلال الموسم استعدادات خاصة لاستقبال آلاف الزوار الوافدين عليها، وتنظيم معدات الاقامة، وتيسير حركة النقل والتنزه، ويرابط في الطرق المؤدية إلى المسرح كثير من رجال البوليس لتنظيم حركة المرور الهائلة التي تجري حوله، وتغص الشوارع المجاورة والمقاهي القريبة بالجماعات الأنيقة وأسراب الحسان من كل جنس وأمة، وتسمع مختلف اللغات في كل مكان
وتقع سالزبورج في بسيط ساحر تحيط به الجبال الشاهقة؛ ومن أشهر بقاعها ونزهها ضاحية (هيلبرون) وقصرها الشهير، وتقع هيلبرون على مسيرة نصف ساعة من سالزبورج، ويربطها بها ترام خاص، يخترق طائفة من الربوع والمحلات المزهرة؛ وقد قصدنا إليها ذات صباح ماطر، وزرنا قصرها وبساتينها الشهيرة، ورأينا في قصر هيلبرون مناظر عجيبة لم نرها في أي أثر آخر؛ ذلك أنه قد نظمت في هذا القصر الغريب
مغارات ومجالس جهزت كلها بنوافير من المياه تنبثق من كل نواحيها في أشكال وأوضاع ساحرة؛ ورتبت هذه النوافير والمنابع الخفية في حديقة القصر حول المماشي والأحراج بنفس البراعة والدقة، فكنا نتصور حين تطلق المياه من منابعها الخفية أننا أمام سحر ساحر؛ وفي المغارات والمجالس تماثيل بارزة وصور من الفسيفساء صنعت على مثل صور كنيسة القديس مرقص بالبندقية. وأما القصر ذاته فهو صرح فخم من صروح القرن السابع عشر، وقد زينت غرفة وأبهاؤه بطائفة من الصور الثمينة ومجموعات من الأثاث القديم الذي يرجع إلى عصر إنشائه، وزينت سقفه بالأخص بصور ونقوش بديعة تأخذ الألباب بدقتها وروعتها.
وقد فهمنا من دليل القصر، أن الذي أنشأ هذا الصرح الفخم أسقف سالزبورج في ذلك العصر، وأنه هو الذي أشرف على زخرفته وتنسيقه على هذا النحو المدهش؛ ويقع القصر وسط بستان شاسع نظمت في إحدى جوانبه حظيرة ترتع الغزلان في جنباتها، ويؤمها زوار القصر للتفرج ومداعبة الغزلان
وعلى الجملة فإن هذه المدينة الصغيرة - لأن سالزبورج مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها أربعون ألفاً - تبدو بفنادقها الأنيقة، وطرقها وميادينها المنسقة في ثوب خاص من الحسن والرشاقة، ينم عن حسن ذوق أهلها وسلطاتها البلدية، ويزيد في سحر سالزبورج ومتاع الإقامة فيها، فضلاً عن روحها الموسيقي، ما فطر عليه أهلها من الأدب الجم والشمائل الرقيقة. وهذه في الغالب أخلاق أهل المدن السياحية؛ بيد أنك تشعر في سالزبورج أن هذه الخلال الحسنة ترجع إلى الفطرة أكثر منها إلى مقتضيات المعاملة، وتشعر أنها بعيدة عن الرياء المعسول الذي تأنسه في المجتمعات السياحية الأخرى
وغادرنا سالزبورج لأيام قلائل، وقد ترك بللها المنعش، وموسيقاها الساحرة، وذكرياتها السريعة الممتعة في النفس أجمل الأثر
حبُّها.
. .
للأستاذ السيد محمد زيارة
عرفتها شاعرة في عينها الشعر؛ وكأنما خلقها الله بهاتين العينين ليودع فيهما من أسرار الغيب، ويصور بهما من معاني الخلود معنى الفن. . . فجاءتا هكذا ساحرتين لا يُفهم من أي نوع سحرهما، ولا يدرك إلى أي حد تأثيرهما؛ وغاية ما يفهم أو يدرك منها انهما حين تلمحان تجرحان، وحيث تنظران تأسران. . .
ويبدو فمها كأنه جمرة صغيرة. . . .
ويُرى خداها كأن على كل منهما وردة في لهب. . .
وعرفتها في كل هذا وبكل هذا. . . عرفتها في قصة حب أولها معروف وآخرها مجهول
كانت تغني، ووقع بصري عليها لأول مرة فلا أدري ما الذي نزل منها على نفسي فجال فيها ثم استقرَّ فيها فما ذهب عنها وما هو ذاهب أبداً!! إلا أنني أذكر. . . أذكر جيداً أنها كانت ترسل الأغاني من فمها ومن عينيها، وأنني كنت أسمع الأغاني بأذني وبقلبي
والله ما أحلاها وقد بدت في ثوبها الأسود الهفاف، فلا يظهر منها إلا وجه كأنه حلم بالوصل في منام عاشق محروم، ويدان كأنهما زهرتان غضّتان أسفرتا من جنة محجوبة
وقد أبى صدرها إلا أن يتيه ويشمخ، وعز عليه أن يحد الرداء من كبريائه فنهض يتحرر، وبدا كأن بينه وبين الرداء معركة. . .
وظهر جيدها فوق صدرها كشعاع الصبح يشرق من أعلى جبل. . .
ونظرت إليها فرأيتها كلها فناً منفرداً في كل جزء منه فن منفرد؛ ثم نظرت إليها فرأيتها نوراً تتشعب منه أنوار، ثم هممت أنظر إليها فريع البصر ورُدّت النظرة إلى الفؤاد سهماً
ثم تنفشت كالبلبل المتندي، ثم نظرت إلى الحشد ثلاث نظرات وقعت إحداها عليّ فملت أتحاشاها؛ ولكنها سبقت إلى القلب فإذا القلب عاصفة في وسط عاصفة؛ ثم راحت تغني فأرسلت من بين شفتيها صوتاً فيه شذىً جعلني أعتقد أن للورد تغريداً وأن هذا هو تغريد الورد، وأعتقد أن سراباً من البلابل لو أجتمع على أن يأتي بمثل سحرها لما أتى إلا بما يثبت أنها ساحرة معجزة
وأحسست أنها كلما زادت في غنائها آهة أو لفظة ربطت بين روحي وبينها آصرة، وأنها
كلما أصابتني بنظرة مدت بين قلبي وبينها جسراً. . . ثم أحسست أنها قربت مني حتى صارت جزءاً مني فيه روحي وقلبي وعقلي؛ ولكني بعد ذلك لم أحسب إلا أنني خبلت، ولم أدرك أن هذا هو حبها يدخل من عيني ومن أذني. . .
وانتهيت من ساعتها ثملاً لأتم ليلتها أرقاً وبي من الجنون مس في القلب يكاد يبلغ إلى مس في العقل. . . هو الحب. . .
هو الحب الوليد الجبار ولد ثم أيفع وشب شبابه في ساعة. . .
هو الحب خلق في عينيها ليعيش في قلبي. . .
هو الحب جاء يعلن أنه الحب بعذابه وسهره، وأنه سيكون عقدة بعد عقدة، ثم لا يكون إلا عقدة بعد عقدة. . .
هو سهمها جاء قاسياً ليقتل ثم اشتدت قسوته فلم يقتل؛ وإنما جرح وأدمى ليظل الجرح جرحاً ويظل الألم ألماً. . . يا ليته قتل. . .
ومرّ عام في ليلة، وآه منها ليلة قاسية وسعت كل دقيقة من دقائقها هاجساً من هواجسي فبتُّ أصبو بصبوة قلبي، ثم أحار بنزاع عقلي، ثم أغفي بعين أحلامي، واقطع مدى الليل بين الصبوة في جهلها وغرورها، والحيرة في شدتها وعسرها، والأحلام في جلوتها وروائها؛ وما أستطيع أن أخرج من هذا كله إلا باليأس منها حبيبة محبة ولو بعد حين. . .
ما كان لي أن أحبها وهي ذات جاه، ولها سلطان وحاشية، ويسعى إلى مجلسها من علية القوم فئة يبتغون الأنس والسمر، وهي تدلّ عليهم دلال حسنها ودلال عفتها، ثم تتدلى إليهم زهرة محصنة يستنشي أرجها ولا تقطف ولا تمس.
وما كان سهلاً على أن أيأس من حبها في أول حبها ما دامت في باطني عين لا تنظر إلا إلى أعلى فلا تبصر إلا ما هو أعلى، ولا مستحيل عندها ولا صعب. ما كان سهلاً علي أن أيأس من حبها وعين خيالي كالمنظار تقرّب لعيني رأسي بعيدها وتهوّن مسافتها.
وطلع الفجر يتثاقل كأنه لا يريد أن يطلع. . . طلع وأنا بين شيطانين شيطانها الفاتن وشيطاني المفتون، كلاهما يدعوني إليها بينا أتخوفها على نفسي ولا أبتغي إليها الوسيلة؛ فمثل هذه التي ألفت تهافت العشاق، وتغنَّت بآلام المدنفين، لا يقع في قلبها الحب إلا بمعجزة. . .
ومضى الليل إلا قليلاً وأنا كما أنا، آخذ بقلبي وأرد بعقلي! ولبثت يتقاذفني تحذير اليأس وإغراء الأمل حتى يئست ونمت.
ورأيت في الرؤيا أني أزورها وأنها ترحب بي؛ وما أحسب إلا أن لقاءنا كان في فردوس، فقد رأيتها ترفل في الخز حول قامتها قوس من نور يتهادى على أفق من شفق، وتحت قدميها ورد منثور كأنه طبقة من الأرض، وهي تتخفف في خطوها كأنها تسير على الماء.
وسرت إليها أترفق بالورد، ورأتني أحييها بتحية قلبي فتبسمت فتبسم في ثغرها الأمل، ثم تأودت فكأنها بانة عطفتها نسمة، ثم قالت: تعال. . .
ثم. . . ثم قالت: أهلاً. . . تعال. . .
ووثب قلبي إليها ووثبت أدركه بين يديها فصحوت. . .
وما تم الليل بانفلاق صبحه حتى تم في قلبي الحب بانتصار أمله على يأسه، فشعرت بها تغني في قلبي، وتتجلى في عقلي، وتميس في خيالي؛ ثم شعرت بها توحي إليّ وحي فتنتها لتؤدي به رسالة الجمال إلى الفن، وتثبت فيه ارتباط الفن بالجمال.
وعشت أستوحيها حيناً من الدهر طال ما طال ولم يكن فيه إلا اكتفائي من حبها بالوحي: أتنسم حنان صوتها، وأتفيأ ظلال مفاتنها، وأعيش في جوها وأناجيها وأستلهمها. . . كل هذا وأنا بعيد أتباعد لأن قلبي جعل لها سلطاناً عليه وتهيّبها وبذلك سد على منافذي إليها.
ولكن الحب أقوى وأشد. . . فما زال بي حتى طغى علي فرحت أطلب زيارتها؛ وهي كانت تعرف وحيها في كلامي ولا تعرفني، فعرّفت نفسي إليها بكتاب، ثم ذهبت أزورها في موعد حددته. . .
وكان موعدها في ضحوة النهار من يوم مخلد؛ قمت ليله أتطير بالشوق بين الفرح والرهبة، ولا يتحول بصري عن الساعة في يدي وهي تبطئ كأنها نائمة؛ وكلما غبرت من الليل، فترة ودعتها من الفؤاد زفرة، حتى أحسست في نهاية الليل أن دمي قد احترق بنيران فكري، وأنني لم يبق مني إلا هيكل كل ما فيه أنه هيكل.
وجاء الموعد الذي كنت احسبني لن أبلغه. . . جاء الموقف الذي كان وراء العقل. . . جاءت الساعة، ولقيتها. . . ولقيتها وأنا حي!!
ماذا كنت في تلك اللحظة؟. . . إني كنت بركاناً وكنت زلزالاً وكنت ريحاً عاصفاً. . .
وجلست هكذا في قاعة الاستقبال بدارها، ورأيت الأثاث فيها كأنه يهتز لينقلب على رأسي.
أكان هذا حباً؟. . . أكان هذا شوقاً؟. . . لا والله إنه كان هذياناً، ثم ظهرت فيه حكمة الحب عندما لاحت الفتانة بالباب تتقدم إليّ؛ وحكمة الحب لا تظهر إلا حين يريد هو أن تظهر. . .
جاءت تتيه في مشيتها كأنها سكرى، وكأن خطواتها همسات قلب متيم إلى صاحبه، وكانت قد بارحت فراشها من لحظة، فدخلت علي صاحيةً بكل جسمها إلا عينيها، فقد كانتا ذابلتين كأنهما ما تزالان في نعاسهما.
أما وجهها فكان بمسحة النوم عليه كأنه الفجر مائلاً بسناه يقبل باقة من الورد. . .
أما شعرها فكان ثائراً كأنه ليل عاشق مؤرَّق، وكأنها استيقظت وما يزال رأسها نائماً في ليله. . .
أما قوامها فكان سكباُ من البان في سكب من الحرير. . .
أما هي - أما هي فكانت سحراً يمشي ويتبختر، وكانت حسناً متكبراً بتواضع. . .
وجاءت تلوح لعيني متصوفة سكرى وقالت: أهلاً بمن سبقه إلينا شيطانه!!
ثم صافحتني بيد أنضر من الزهر، واتخذت مجلسها، ثم نظرت إلي تتأملني فقلت: وكيف عرفت شيطاني؟. . .
قالت: أما شعر لي وتغنى بي وكتب عني؟. . .
قلت: يا له حظاً سعيداً. . . ما كنت أحسب شيطاني موفقاً هذا التوفيق!! أو تقرئين ما يكتب؟!
قالت: بلى. . . وما أحبَّ شياطين الشعراء إلى نفوسنا نحن المغنيات. إن للمغنية في كل شاعر تستميله مرآة ترى فيها نفسها؛ والشاعر والمغنية كلاهما تمام الآخر فيما خلقا له.
فتنهدت وقلت. إنك الآن توقدين رأسي
قالت: وكيف ذلك؟
ثم انبسطت على شفتيها ابتسامة صغيرة بان فيها أنها داهية تمكر؛ إلا أن مكرها في ابتسامتها كان مكراً أحمر ملتهباً في فتنة حمراء ملهبة؛ فنظرت إليها أستزيده ثم قلت: كلامك هذا فيه نار أشعر بأجيجها في رأسي.
فقالت وهي تمكر مكراً أشد وأحلى: إذن لا يعجبك كلامي
قلت: كلا كلا. . . وهل يخرج مثل هذا الفم إلا ما يُحب؟ إن النار التي في كلامك نار لذيذة كنار الحب في قلب المحب.
لقد قلتِ إن الشاعر والمغنية كلاهما تمام الآخر، فهل بعد هذا من سحر على لسان؟ وهل بعد هذا من نار محبوبة في كلام؟.
إنك توقدين رأسي بهذه النار من هذا السحر في هذا المعنى. . .
إنك لو اطلعت الآن على أحشائي لعلمت أن الحسن يجني ولا يشفق في جنايته.
فخفرت وكسرت في عينيها لمحة وتهدل شعرها على وجهها ليستر روعة الخفر، ثم فتحت بيديها بين نوائبها منفذاً لقولها
وقالت: هذا كلام شيطانك
قلت: بل هذا كلام قلبي. . .
فرفعت بقية شعرها عن وجهها بيديها ورشقتني بنظرة داوية سمعت لها رعداً في صدري وقالت: أنت إذن. .
ووقف لسانها ببقية الكلمة، وقالت لي عينيها بنظرة أخرى حنون: أتممها. .
فقلت: أنا إذن. . أحب. .
فأطرقت فخبّأت وجهها يبن شعرها ثم هزت رأسها تنفض الشعر فرأيت وجهاً جديداً مشرقاً في معنى الحب.
يا عجباً!! يا عجبا! إن كلمة الحب تسمعها غادة جميلة من محب هائم تجعل في محياها المشرق قسمات جديدة.
ونضح الحياء على جبينها قطرات كأنها قطرات الندى على أوراق وردة بيضاء، فمسحتها بمنديلها وشخصت إلي فقلت: وجهك الآن مؤمن. . .
قالت: وهل كان من قبل كافراً؟ وكيف يكون إيمان الوجوه وكفرها؟
قلت: الوجوه تؤمن وتكفر إيمان القلوب وكفرها! وقد رأيت وجهك الآن مؤمناً إيمان قلبك. . لكأنه كان يقول لي: إني شاعر بك وشاعر بما بك، لأني أفهم حبك فهو وحي جمالي إليك، وأعذر قلبك لأنه صيد عيني منك. . .
أما سمعت وجهك يقول هذا؟
فضحكت وقالت: وجهي لم يقل شيئاً، وأنا لم أسمع منه شيئاً. . كيف يتكلم الوجه إلا بالفم؟. . ولكن فمي لم يقل هذا فمن أين جئت به؟.
وضحكت ضحكة أخرى وهي تنتظر جوابي فقلت: لا يتكلم من الوجوه إلا الوجه الجذاب، فتكون في كل لمحة من لمحات عينيه عبارة، وفي كل وقدة من وقدات وجنتيه همسة، وفي كل ومضة من ومضات جبينه إشارة.
أما رأيتني أصغي إلى كلام وجهك بشغف؟.
فضحكت مرة ثالثة ثم سكنت وجهها كأنها تتذكر، ثم قالت: لا. . . لم أر. . ولم أعقل ما تقول. .
قلت: آه!! ها هو ذا وجهك عاد يستهتر بإيمانه. . . ها هو ذا يدل ويتجنى.
وسكتت هي تداعب يداً بيد وطرفها يختلس ما يختلس، وسكت أنا ألتهمها بعيني في سكونها الساحر المترنم. . ثم فاجأتني بطرفها ينظر إلى كل أجزائي بكل ألحاظه وقالت: إنك لتنظر إلي بعين الشاعر المليئة بالحب فترى في كل شئ مني شيئين متناقضين.
قلت: وأنظر إليك بهذه العين من ناحية القلب فأراك نشوة للقلب تأخذه بقوتها؛ وأنظر إليك من ناحية العقل فأرى فيك غذاء للعقل ما أحوج العقل إليه!. ثم أنظر إليك بالعين المجردة من الشعر والحب فأراك في أقل درجاتك جميلة عزيزة الجمال.
فرأيتها كأنها تنظر إلي من خلال منظار لتتبين في كلامي حقيقة. . ثم كأنها تقتنع. . ثم رأيتها تفكر. فحدقت فيها ملياً ثم قلت: أنت شاعرة. .
قالت: وهي تمسك وراء شفتيها ابتسامة: وعلى هذا تكون أنت مغنياً. .
فانتفضت في مكاني وقلت: إذن أنت تعتقدين إنني جزء منك يكملك في أي أحوالك - إذن قد تحقق الحلم يا آنستي.
فتأجج خداها وأطرقت، وعجز قلبي عن مقاومة ما فيه منها، وحسبت أنه قضي.
ثم إنّا تفرقنا عاماً لا نملك أن نلتقي، وكان هذا العام مثار الوحي ومجال القلم.
ثم تلاقينا في قصر جميل شيد على جناح النيل بين الخضرة والماء.
وجلست في بهو القصر أضم جوانحي على الأشواق والهموم، وينبعث دخان التبغ من فمي
مختلطاً بدخان كبدي المحترقة.
ومضت أفكاري تصور لي ما سيكون في لقاء ساعة بعد فراق سنة. . . وإني لمضطرب أجر نفسي جراً بين أول دقيقة الانتظار وآخرها، إذ سمعت على الدرج المرمري وقع حذاء الحسناء تتوثب في نزولها كالظبية تتنقل في واديها بين الربى والسهول.
وتلفت فإذا هي مقبلة تتمايد في وشاح فضفاض من حسنها، وأمامها في الهواء نهدان خلقاً ليسبقاها أينما مشت.
وكان وجهها يتلألأ بين ضوء الجبين ووهج الوجنتين حتى حسبته قمراً كحلت عيناه في ليلة التمام.
ووقفت يفصل بيني وبينها بعد خطوتين، وفي عينيها نظرة عتاب كأنها طعنة خنجر، ووقفت أنا وفي عينيّ نظرة اعتذار كأنها دمعة قلب. . . والتقت النظرة بالنظرة فإذا هما في الهواء قطعة من (المغنيزيوم) تشتعل، وإذا هما في كبدي شعلة من الوجد تضطرم.
ثم تقدمت الحسناء وقالت: أهلاً بذاكرنا أهلاً بناسينا
فقلت: وكيف أنساك وأنا ناس بك كل ما عداك؟. .
قالت: ما رأيت من تذكرك إلا ما قرأت من رسائلك؛ فهل كل ما عندك أن ترسل الرسائل؟! كأني بك لا تحب إلا أن تتخيل لتعيش في خيالك
قلت: وكثيراً ما أهرب من لقاء الحقيقة لأظل مفتوناً بالخيال ناعماً بمتعته؛ ولولا أنك فوق تصوره لما بحثت عنك إلا في خيالي بين أحلامي وأوهامي.
قالت: أنت إنسان عجيب. . .
وبدا محياها كأنه مبلول بالخمر، وعربد قلبي كأنه سكير، وصمتنا؛ ثم تنفست وقلت: ويحي. . . ويحي. . . إنك حقاً فوق تصوري وبعد خيالي، فإني لأحس الآن أن كل قطرة من دمي تناجيك وتسبّح لك، وأحسب إن الله تعالى قد خلقك خلقة ممتازة.
فضحكت ضروباً، وانعطفت في ناحية الكبرياء من جمالها وقالت: هكذا أنتم أيها الشعراء كثيراً ما تكفرون. . .
قلت: آه لو كنت رجلاً مثلي وعشقت فتاة مثلك!! إذن لصدقت أنك من خلقة ممتازة.
قالت: أما يزال شيطانك يكفر؟. . إنكم أيها الشعراء لقادرون؛. إنكم تستطيعون أن تصنعوا
من القبح جمالاً، ومن الجمال فنَّ جمال، ومن فن الجمال عالماً من الفنون. فكم تصورون من مشاهد الكون وتبالغون في التصوير فيظن الناس أن الطبيعة هي التي أبدعت ما صنعت فنقلتم عنها الحقائق.
ثم سكتت ثم قالت: هأنت تقول عني ما ليس فيَّ فأكاد أصدق أن فيَّ ما تقول. . .
فقلت: مهٍ مه. . . يا فاتنة. . . إنك تتكبرين في تواضع، وتتواضعين في تكبر؛ والله ما رأيت مثلك غادة جميلة تنكر أنها جميلة. . . ألا إن هذا وحده يقوم دليلاً على أنك مطمئنة إلى نبوغ جمالك وعبقريته.
فرمقتني بنظرة تائهة في فرح عينيها وقالت: إنك تغزوني. . .
قلت: أرأيت القاتل يقتل ويتهم المقتول؟. . . هذه أنت تتهميني بأنني أغزوك وأنت فاتحة قلبي.
قالت: لسانك وقلمك قد تآمرا عليّ. . .
وحزن جمالها فصوَّر في حزنه أجمل معاني الحزن، وترقرقت عيناي إلا أنني أمسكت العبرة بين أجفاني فتغشى بها بصري لحظة. . . ولما نظرت بعد ذلك رأيتها مطرقة تشد منديلها بين يديها وكأنها تغالب في باطنها قوة تمردت عليها. . . وكأن وحهها يفكر، وكأن لحظها يحلم. . .
قلت: إنك تخبأين شيئاً ويريد الشيء أن يظهر
فرنت إلي بطرفها مبللاً بالحنين، فانطبقت أجفاني تتنهد، ودارت بي الأرض دورة. . . ثم فتحت عينيّ فرأيت منديلها يسقط من يدها. . .
الله أكبر!! ما هذا السحر الذي كان يشع من فتنتها وهي تنهزم؟. . . كانت ساكنة سكون ثورة، وكان قلبها ينبض فلا يحتمل بدنها الرقيق نبضه فيتموّج، وانعكس قلبي على وجنتيها فرأيتهما تلتهبان بالحب، وكانت عيناها تتألم، وكانت نظراتها تئن!!
وزفر قلبها زفرة، وزفرت عيناها زفرة أخرى، ثم قالت وهي تجاهد نظرها إلي: أتحبني؟
ثم ماذا. . . ثم ماذا أيها العشاق؟
(طنطنا)
السيد محمد زيادة
وحي المعرفة
للأستاذ إسماعيل مظهر
لا أقصد به الوحي الذي ينزله الله وتعالى على المختارين من عباده، أو المصطفين من خلائقه، فإن ذلك الوحي بعيد عن أن تدرك العقول من ماهيته شيئاً، بل أعتقد أن جل ما تدرك منه إنما يتعلق بأعراضه وظواهره دون حقيقته وجوهره.
ولا أقصد به الوحي الذي يقول به الروحانيون، أولئك الذين يحاولون إثبات العلاقات بين الجواهر اللطيفة الروحانية، وبين المواد الغليظة الجسمانية، حتى بعد أن تفارق الأرواح الأبدان، وتنفصم تلك العروة التي تربط بين المبدأ العلوي الحال في الأجسام السفلية.
ولا أقصد به ذلك الوحي الذي حاول أوائلنا من السلف الصالح عليهم رحمة الله أن يثبتوا إن له بالأحلام وأضغاث الأحلام صلة ورابطة؛ ولا الوحي الذي يقول به بعض المحدثين من أنصار العلامة فرويد، أولئك الذين قلبوا آية الأحلام فجعلوا عالم الشهادة سبباً في الرؤى، بعد أن كانت الرؤى عند الأقدمين نذيراً بما سوف يقع في عالم الشهادة.
لا أقصد شيئاً من هذا ولا من غيره من الأشياء التي تجعل بين ما بعد الطبيعة والطبيعة رابطة، قد يدركها التصور، وقد ينفيها الإدراك الحسي، وإنما أقصد الوحي المادي، وحي المعرفة تلك التي تشعر ونعتقد أن لها بكياننا المادي علاقة السبب والمسبب، ورابطة العلة والمعلول. ذلك بأني أعتقد أن بعض العقول الممتازة، ولا أعلم كيف هي ممتازة، قد خصت بكفايات الوحي، مستمداً من المعرفة التي تستوعبها. وكذلك أعتقد أن لبعض العقول ميولاً أشبه بميولنا النفسية، وأن لبعضها دون بعض رباطاً بناحية معينة من نواحي المعرفة. فلبعضها رابطة بالعلم، ولبعضها رابطة بالأدب والفلسفة، ولبعضها رابطة بالفن، ولبعضها رابطة بالدين. تلك صدور من المعرفة، أو بالأحرى أشكال من المعرفة، لكل منها حدودها التي يعينها العقل تعييناً قد يبلغ بعض الأحيان مبلغ اليقين، وقد ينزل بعض الأحيان منزلة الشك؛ ولكنها على قدر ما نعلم من اختصاص العقول بالتبريز في ناحية من نواحيها لها حدودها المتفق عليها عند من يعنون بوضع الحدود والفروق بين كفايات العقل الإنساني.
أما وقد نعلم من طريق اختصاص العقول بالتبريز في نواح معينة من المعرفة أن لصور المعرفة من علم وأدب وفلسفة وفن ودين حدوداً معينة وتخوماً مقررة في شريعة العقل، فما
نشك بجانب هذا في أن لكل عقل من العقول اختصاصاً في ناحية من نواحي المعرفة. نضيف إلى ذلك ظاهرة أخرى؛ هي أن لبعض العقول فوق اختصاصها في التبريز في ناحية معينة من نواحي المعرفة، قد خلقت وفيها موهبة خاصة تجعلها أكثر من غيرها استعداداً لتلقي نوع من أنواع الوحي، تظهر آثاره باستيعاب قدر خاص من المعلومات قلّ أم كثر، وهذه الآثار التي تتجلى في إدراك بعض العقول لحقائق أو نظريات، قد تظهر عند درسها أنها قد لا تكون نتاجاً لدرس عميق، ولا لأكباب على التفكير، ولا تعمل أو تمحل في إدراك حقائق الأشياء؛ بل غالباً ما تكون أشبه بالومضة السارية في الظلام أو الشعاع المنير يفلق بنوره غياهب الشك ويقضي على الجهالات.
أي سر هذا؟ عقول تدرك بالومض كأنها اللوح الحساس وعقول تعجز عن إدراك ما تدرك تلك! عقول تنفذ إلى صميم الأشياء بلمحة سانحة، فتستخلص الحقائق الأولية وتنتزعها من تلك الأضغاث التي تراكمت حولها من فتنة الفكر وتحف الخيال، وأخرى تستوعب ما تستوعب من مبادئ العلم وصور الأدب ونظريات الفلسفة وتأريخ الفن وشرائع الدين، وتظل في جمودها تنظر إلى تلك الومضات التي تفيض بها الأولى مأخوذة بأن ما أدركت الأولى قريب مما استوعبت، ولكنه بعيد عن أحلامها قصي عن إدراكها!
يصعب على العلم أن يعلل هذا تعليلاً يصل به إلى حقيقة الأمر منه. بل ولا شك في أن الخيال والتصور يقفان أمام هذه الظاهرة وقفة العلم من حيث العجز عن إدراك السر فيه. وليس لنا أن نستوحي العلم أو نذهب مع الخيال نعلل حقيقة هذه الظاهرة. وإنما نريد أن نحصر بحثنا في بعض الظواهر التي ترجع إلى ما ندعوه وحي المعرفة.
إذا مثلت لتأريخ الفكر البشري بشريط طويل من اللون الأسود، وأردت أن تضع على مسافات معينة من هذا الشريط دوائر بيضاء، تمثل بها لتلك الومضات الوحيية التي جادت بها عقول ممتازة، وكان لها الأثر الدافع إلى غايات طلبها الإنسان وضرب في سبيل الوصول إليها، لرأيت أن الفراغات السود بين الدوائر البيض قد تطول حدودها حتى يخيل إليك أن الإنسانية منذ أبعد عصورها لم تستهد بغير عدد قليل من العقول التي وهبتها الطبيعة تلك الهبة السامية، هبة الوحي تستنزله المعرفة. ولا شك في أنك تقف عند فكرة التوحيد في عقل إخناتون، وفكرة الإنسان الكامل في عقل سقراط، وفكرة المنطق عند
أرسطو طاليس، وفكرة دوران الأرض والسببية الطبيعة في عقل غليليو، وفكرة الأسلوب والشك في عقل ديكارت، وفكرة المثاليات في عقل اسبينوزا و (كانت)، وفكرة التطور في عقل دورين.
قد نجعل لمثل هذه العقول منزلة وحدها ونرفعها إلى مكانة من الفضل مفردة. فإذا نزلنا عن هذه الدرجة أمكننا أن نسرد من العقول الممتازة عدداً إن خص بهذه الموهبة فإن اختصاصها بالفن يرفعها إلى درجة الأولى، بل تلوح لنا كأنها التابع حيال المتبوع، أو الصورة الواضحة في المرآة الصافية. ثم تنزل من هذه درجة ثم إلى أخرى، حتى نبلغ حداً لا نميز فيه بين العقول، وحيث نأنس أن العلم بالأشياء وحفظ المتون ظهر الغيب ليس له من أثر في الابتكار، كأنما تلك العقول ليست أكثر من نسخة مكررة في كتاب واحد.
أكثر أولئك الذين نسميهم علماء أو ننعتهم أدباء أو مفكرون، هم من طبقة الذين نطلق عليهم طبقة (النسخة المكررة من الكتاب الواحد). يعيشون في حدود ما قرءوا؛ وقد يجيدون حفظ الكتاب إجادة تبلغ الكمال، ويفكرون على الأسلوب الذي رسمه الكتاب، بل قلما يجيدون التفكير على ذلك الأسلوب فيفسدون ما قرءوا في الكتاب وينزلون به درجة بعد درجة حتى تمسخ عقولهم ما قرءوا وما حفظوا، فيصبحون بذلك نسخة مبدلة من كتاب قرءوه، أو فرض عليهم أن يقرءوه ليؤدوا بقراءته غرضاً لا يعترف به العلم، ولا هو من شريعة الفهم في شئ.
قد يكون السبب في ذلك راجعاً إلى أن عقول هؤلاء قد صرفت مقسورة عن تنمية الموهبة التي أعدتها الطبيعة فيها؛ وقد يكون للنشأة في ذلك أثرها وللبيئة طابعها الثابت؛ وقد يكون لنظرة ما ينظر من ناحيتها في الحياة أثر في العقل ينتج ذلك الجمود العلمي والتحجر العقلي؛ قد يكون للخلق وللشهوات عوامل خفية تؤثر في اتجاه العقول.
قد يكون ذلك وقد يكون أكثر منه. والحق أن من يفكر في مثل هذا الأمر يشعر بالعجز عن بلوغ الغاية في تعليله تعليلاً علمياً يقبله العقل، ولكن لنا أن نقول إن للوارثات المختلفة وحالات الحياة الأثر الأول في حدوث هذه الظواهر العجيبة.
على أننا إلى جانب هذا لا نستطيع أن ننكر أن هذه الملكة، ملكة الوصول إلى غايات من العلم والأدب والفن تكاد تظهر كأنها الوحي، هي من الملكات التي يمكن أن تنميها التربية،
وتصححها النشأة، وتقويها طرق التعليم. ذلك بأن العقل الإنساني في ذاته يكاد يكون في أشياء الطبيعة بمثابة الوحي في جمود الحيوانية وموت الجمادات. قسه مثلاً على غرائز الحيوان أو تفاعل الجمادات الكيميائي، وأنت واجد أنه في ظواهر الطبيعة نسيج وحده وطابع لا يتكرر. وهذا العقل بكفاياته وملكاته، تصبه البيئة والتعاليم والنشأة في قوالب تظهر بها مرونته وقدرته على التشكل في أشغال كثيرة، واستعداده إلى قبول حالات جديدة ليست له من قبل. وما تلك الأشكال وهذه الحالات إلا آثار مختلفة يخلقها ما يحيط بالعقل من عوامل التدرج نحو بلوغ الغايات العليا من المعرفة؛ تلك الغايات التي تنتهي إلى تلك الومضات الوحيية التي جادت بها على البشرية عقول ننعتها بأنها فذة وأنها بلغت من سمو الإدراك.
لما كان للتربية والبيئة خاصة التأثير في تكوين العقول، ولما كان لهما ذلك الأثر البالغ، كان علينا ألا ننكر إن همَّ المصلحين يجب أن يتجه أولاً إلى وضع التربية والتنشئة الأولى في موضع من الاعتبار يجعل لها القيمة العليا في أشياء الجمعيات الإنسانية كما يجب عليهم أن ينظروا في تأثير البيئات التي تكتنف النشء، وأن يسيطروا عليها إلى الحد الذي يباح فيه إلى للحكومات أن تحد في بعض النظم والمعاهد اتقاء لما تنشئ من بيئات مصطنعة بعيدة عما تتطلبه التربية السامية وقواعدها المقررة وأصولها المعروفة.
ففي البيت وفي المدرسة وفي الحياة العامة، ينبغي أن تقوم تلك البيئات التي تساعد على تنشئة العقل وتدريبه على النظر في الأشياء نظرات تنفذ إلى صميمها، وأول خطوة في هذه السبيل يجب أن تقوم على هدم الأوهام ومحو الأضاليل، وما محو الأوهام وهدم الأضاليل، إلا نتيجة أولية لتحرير العقل.
إسماعيل مظهر
قصة المكروب كيف كشف رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
وسطاء شر أبرياء
وصل الفائت:
بدأ اسميث ببحث علة الحمى التكساسية التي تنتقل من أبقار الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة إلى أبقار الولايات الشمالية فيها. فجهز حقلين: ووضع في الحقل الأول بقرات شمالية مع بقرات جنوبية ولم ينتزع من هذه الأخيرة القراد الذي عليها، ووضع في الحقل الثاني مثل ذلك بعد أن نظف البقرات الجنوبية من قرادها، وتركها جميعاً، فأصابت الحمى البقرات الشمالية في الحقل الأول، ولم تصبها في الحقل الثاني.
وزادت الحمى في الحقل الأول اتقاداً، ثم أخذت بقراته تموت واحدة بعد أخرى. وشقَّت بطون الجثث للفحص فجرى دمها أحمر صبيباً. واختلفوا بين حقول الريف ومكرسكوبات المعمل بالمدينة في امتحان الدماء. وانتقلت عدوى العمل إلى اسكندر الكسول لمّا أحس بأن في الجو أمراً جللاً، فنفض غبار كسله المأثور وأخذ نصيبه من الحركة. ونظر إسميث إلى دم البقر الخفيف وأخذ يتأمله، ثم قال:(إن المكروب الخفي لهذه الحمى التكساسية إنما يهجم على كريّات الدم الحمراء فيفقؤها. ففي بطون هذه كريّات يجب أن أبحث عن المكروب)
كان لا يثق بالتقارير التي يكتبها المكرسكوبيون المختصون، أو الذين يدعون بالمختصين، ومع ذلك فقد كان له بالمكرسكوب خبرة لا تبارى. وحرّر أقوى مكرسكوب لديه على دم البقرة التي ماتت أولاً، فأخذ الحظُّ بعينه، فارتأى لأول وهلة في الكريّة الدموية الحمراء، وهي في المعروف متصلة الجوف صماء، رأى فراغات صغيرة تعنقدت معاً فاتخذ مجموعها شكل الكمثرى؛ وتراءت له في أول الأمر كأنها ثقوب في قرص الكرة الدموية ليس إلا، ولكنه أخذ يبعد عدسة المجهر ويقرّبها فأحكم بوْأرتها، وأخذ يكثّر عدد العينات التي يمتحنها، فأخذت هذه الفراغات والثقوب تنبض في بصره بالحياة فتتمثل له على حقيقتها أحياء لها شكل الكمثرى. ورآها في دم كل بقرة ماتت بالحمى التكساسية، ورآها
دائماً في جوف كرات الدم الحمراء تفسد فيه وتُخفّه فيصبح مرهفاً كالماء.
ولم يرها قط في دم بقرة شمالية صحيحة، فأسرّ لنفسه:(لعل هذا مكروب الحمى). وكان له اتئاد الفلاح فلم يتعجل في الحكم، واعتزم قبل أن يقضي على أن يفحص دماً من مائة بقرة مريضة وسليمة، وأن يمتحن الملايين من الكرات الحمراء.
وكان الحرّ قد مضى وحلّ شهر سبتمبر، وكان في الحقل الثاني أربع بقرات من البقر الشمالي كلها سليمة ترعى الحشيش وتزداد سمناً - ولم يكن عليها قراد أصلاً. فقال إسميث وهو ينظر إليها:(إن من الميسور أن نحقق التهمة المعزوّة إلى القراد من تسبيب الحمى). وقام فساق اثنتين من هذه البقرات السليمة الأربع إلى الحقل الأول الذي مات به البقر المريض، ففي أسبوع رأى قراداً أحمر أغبر صغيراً على فخذ البقرتين. ومضى أسبوعان أو يزيدان قليلاً فماتت إحداهما، أما الأخرى فغادرها تعاني من الحمى ما تعانيه.
ولم يقتنع إسميث بكل هذا فطلب المزيد - المزيد الذي لا يطلب مثله في العلماء سواه. وكانت لا تزال هناك حيلة لا بد من احتيالها، أو إن شئت فقل تجربة لا بد من إجرائها. فقد كان جاء من كرلينة الشمالية صفائح ملأى بالحشيش تجري عليه جماعات القراد تسعى عطشى إلى دم تستقيه. فأخذ إسميث هذه الصفائح إلى حقل ثالث لم تطأ أرضه بقرة واحدة من بقر الجنوب أو قرادة قط من قراداته. وأخذ يذهب فيه ويجيء، يفرغ حشيش الصفيحات وينثره بقراده على أرضه فلعل فيه الموت، ثم اقتاد أربع بقرات سليمة إلى هذا الحقل، فمضت بضعة أسابيع انحل فيها دم البقر كله. وماتت منه بقرة، أما الثلاث الأخريات فنالتها نوبات شديدة من الحمى ولكنها اشتفت أخيراً.
وعلى هذا فقد نجح إسميث أول ناجح في تتبع أثر مكروب قاتل، والكشف عن السبيل الذي يسلكه إلى حيوان بركوبه على ظهر آخر. ففي الحقل حيث كان بقرٌ جنوبيّ، وكان قرادٌ مات البقر الشماليّ. وفي الحقل حيث كان بقرٌ جنوبي، ولكن لم يكن قراد، زاد البقر الشمالي سمناً وهنئ عيشاً. وفي الحقل الذي لم يكن به بقرٌ جنوبي ولكن كان قرادٌ، أصيبت البقرات الشمالية بالحمى التكساسية.
إذن فالقراد أصل البلاء.
وإذن فقد أثبت إسميث بذلك المنطق البسيط، وبهذا العدد العديد من التجارب أن البقّارين
في غرب أمريكا إنما قالوا حقاً ورأوا صدقاً، واستبانوا حقيقة جديدة من اكبر حقائق الطبيعة عندما اتهموا القراد. واستخلص إسميث هذه الحقيقة الكونية الكبرى من ذكاء الشعب ومما جرت به ألسنة الخلق فكان مثل هذا الكشف الخطير مثل العجلة يرد اختراعها إلى الناس، إلى قوة ابتكار الدهماء حتى تبوأت مكانها من المحركات الكهربائية العظيمة الدوّارة الطنّانة.
ولعلك حاسب بعد ذلك من وضوح تجاربه وثبوت نتائجه ثبوتاً قاطعاً أنه اكتفى بها، ولعلك حاسبٌ أنه نصح حكومته بعد ذلك بإشهار حرب طاحنة على القراد. ما كان هذا طبع إسميث، ولم تكن تلك سبيله، فبدل ذلك اصطبر إلى صيف العام المقبل علم 1890، فلما جاء حرّه أجرى تلك التجارب مرة أخرى وزاد عليها، وكلها تجارب بسيطة ولكنه إذ أتهم لم يرد أن يكون اتهامه إلا عن يقين. فتساءل:(كيف ينقل القراد الداء من بقرة جنوبية إلى بقرة شمالية، ونحن نعلم أن القرادة تقضي حياتها كلها على ظهر بقرة واحدة، وهي لا تطير كالذباب من بقرة إلى أخرى؟. .) وهذا سؤال لا شك عويص، أعوص من أن يحله البقارون بمعارفهم الساذجة. فنصب إسميث نفسه ليردَّ عليه.
فتفكر ثم قال: (لا بد أن القراد يمتص من الدم ثم يمتص حتى إذا امتلأ وبلغ واستوى، سقط فانهرس على الأرض، فخلّف على الحشيش المكروب الكمثريّ الشكل الذي كان بالدم الذي استقاه، فجاء البقر الشمالي فأكل الحشيش ومكروبه)
وعلى ذلك أخذ آلافاً من القراد الذي جاء في الصفائح من الجنوب، وخلطها بحشيش جاف، وأطعمها بقرة شمالية لا تقوى على دفع الحمى، كان أسكنها حظيرة وحدها، واعتنى عناية مختارة بها؛ وانتظر أن يأتيها الداء فلم يأت. وأخذت البقرة تجتر طعامها الجديد هانئة مستمتعة، وازدادت عليه شحماً. وأشرب بقرةً أخرى حساء صنعه من قراد مدهوك، ثم عاد فأشربها ثم أشربها فكأنما أراد أن يغرقها في الحساء إغراقاً. ولكن هذه البقرة أيضاً خُيِّل أنها تستمرئُ شرابها الغريب وحسنت عليه حالها.
فسدت التجربة فأُرتج عليه، إذن فالبقر على ما يظهر لا يأتيه المكروب من أكل القراد. وفي الليل توالت عليه الأسئلة يلقيها على نفسه تباعاً في سلسلة لا تنتهي. وتساءل فيما تساءل: (إن البقر الجنوبي ذا القراد ينزل في الحقل فلا يكون هذا الحقل وبيئاً إلا بعد
ثلاثين يوماً من نزول البقر فيه. فلم هذا؟) وعرف البقارون هذه الحقيقة أيضاً، وعرفوا أنهم يستطيعون خلط بقر شمالي بجنوبي عشرين يوماً أو نحوها، ثم يفصلون بينها فلا ينال المرض البقر الشمالي أبداً. أما إذا هم تركوها على اختلاط فوق هذا القدر من الأيام، أو حتى إذا هم أبقوا البقر الشمالي وحده حيث هو من الحقل فوق العشرين يوماً بأيام قليلة، فلا يلبث أن يفجأه الداء فكأنما انقض عليه من السماء. فتلك أحجيةٌ أي أحجية
وذات يوم من هذا الصيف صيف علم 1890 تفسرت الأحجية بغتة واتصلت قطع الصورة المتكسرة المتفرقة فُجاءةً فاتضحت في عينيه على حين غرّة فشدهته، فوقف أمامها ذاهلاً مبهوتاً. وكان إذ ذاك في شغل من أمور عديدة أخرى وإجراء تجارب من ألوان شتى: كان يفصد البقر الشمالي ويسكب من دمه جالونات ليفقر دمه، فقد كان خال أن المكروب الكمَّثريَّ الذي رآه في كرات الدم ربما كان فقراً في الدم لا مكروباً. وكان يتعلم كيف يفقّص قراداً صغيراً نظيفاً في معمله. وكان لا يزال يلقط القراد من على ظهر أبقار جنوبية ليثبت أنها من غير قراد لا تضر الأبقار الشمالية، وقد يفوته أن يلتقطه كله فتأتي نتيجة التجربة بغير الذي أراد. وكان قائماً في سبيل استكشاف حقيقة باهرة؛ أن العجول الشمالية لا تصيبها إلا حمى هينة لا تميت في الحقول التي تقضي على أمهاتها. كان همه أن يجد كل أثر أياً كان نوعه للقراد في البقر الشمالي - فلعلها تسبب لها أسواء أخرى غير الحمى التكساسية.
ففي أثناء كل هذا تفسرت الأحجية. ذلك أنه سأل نفسه أتُرى أني بدأت ببويضات القراد في صحن من الزجاج فأخرجت منها في حجرتي قرادات نظيفة لم تر حقلاً أو بقرة وبيئة، ثم لو أني وضعتها بعد ذلك على بقرة شمالية وتركتها تمتص من دمها ملئها، أفتستطيع أن تمتص ما يكفي لإفقار دم بقرة؟ سؤال غريب يتراءى لي أنه كان لغير غاية، ولكنه يدل على أن فكرته كانت أبعد ما تكون من الحمى التكساسية.
ومع هذا حاول أن يحصل على جواب سؤاله، فأني بعجلة سمينة بنت عام ووضعها في زريبة مقفلة، وأخذ يهيل عليها يوماً فيوماً مئات من قرادات صغيرات من تفقيسه، ويمسك بها حتى يغوص القراد بعيداً تحت شعرها ويتمسك بجلدها. وأخذ يوماً فيوماً يشق جلدها ليأخذ قطرات من دمها ليستوثق من فقره. وذات يوم جاء إلى الزريبة ليجري عليها ما
اعتاده، فلما وضع يده عليها أخذته الدهشة مما أحسّ. فقد أحسها حارّة، شديدة الحرارة شدة جعلته يتهم حالها. ونظر إليها فوجد رقبتها تميل. وامتنعت عن الطعام، ودمها الذي كان يخرج من شقوق جلدها أحمر ثخيناً أصبح يجري رهيفاً داكناً. فجرى إلى حجرته بقطرات من هذا الدم على قطع من الزجاج، ووضعها تحت المجهر ورأى، ويا صدق ما خال. ورأى كرات الدم الحمراء قد التوت وتثلمت وتحطّمت وقد كان عهده بها قوراء ناعمة كالدرهم المسيح. وفي هذه الكرات الحطيمة وجد المكروب. . . فهاك غريبةٌ من الغرائب التي قد لا تجود بها الأحلام: فهذه المكروبات لا بد أنها جاءت من جنوب أمريكا في القراد البالغ، فلما باض وجد المكروب سبيله إلى البيض فاستكنّ فيه، فلما انفقس البيض في صحون الزجاج عن قرادات صغيرة حملت هذه المكروب معها، فلما وقعت على ظهر العجلة مصت دمها فانساب المكروب أكثر ما يكون تهيؤاً للفتك بالعجلة المسكينة التي وقعت فريسة القدر على غير قصد وبغير ذنب.
في سرعة البرق اتضح كل هذا لعين إسميث.
ليست القرادات العجائز التي امتلأت بالدم وارتوت هي التي تهيئ سبيل المكروب إلى البقر الشمالي، بل صغارها من ذات خمسة الأيام إلى العشرة هي التي حملت القتلة الأشرار إلى ضحاياها.
وعندئذ فقه السبب الذي من أجله تأخر الحقل أن يكون خطيراً، فان الأمهات من القراد كان لا بد لها من السقوط عن ظهر البقر الجنوبي الحصين أولاً، ثم لا بد لها على الأرض من أيام تبيض فيها، ثم لا بد للبيض من عشرين يوماً أو تزيد لإنفقاسه، ثم لا بد للصغار الخارجة من البيض من زمن تزحف فيه إلى أرجل البقر الشمالي فإلى أفخاذه - وهذه الأحداث تستغرق أياماً كثيرة، تستغرق الأسابيع. فهل وجدت جواباً أيسر من هذا لسؤال أعسر من هذا، لولا المصادفة البحتة ما تيسر بداً؟
وما لبث أن استخرج بالتفقيس في صحون دافئة من الزجاج آلافاً من القراد، وأخذ في زيادة إثبات اكتشافه الكبير حتى ثبت ثبوتاً قاطعاً. فكان كلما ركم قرادة على ظهر بقرة شمالية أصابتها الحمى؛ ولم تكن تكفيه الكفاية من البراهين. وأخذ صيف عام 1890 في الأدبار وأخذ البرد في الإقبال، فإذا به يسخّن الحظائر بمواقد الفحم، ويفقس القراد في مكان
دافئ، ثم يضعه على جلد البقرة فيقوم نار الحظيرة مقام الشمس في إكمال نموه، فإذا به يصنع على ظهر البقرة صنيعه المعهود، وإذا بها تجيئها الحمى في الشتاء وهي لم تكن جاءت شتاءً في الطبيعة أبداً.
وقضى إسميث وكلبورن صيفين آخرين يضربان في الحقل ليستكملان بحثهما، ويسدّان خروق السفينة بالقار والكتان، ويتساءلان كل سؤال يخطر بالبال، ويجيبان بتجارب غاية في البساطة غاية في الإفحام على كل اعتراض يحتمل أن يثيره العلماء البيطريون، وذلك قبل أن تعطي الفرصة لهم ليعترضوا. واكتشفنا ثناء ذلك حقائق غريبة في الحصانة، إذ وجدوا أن العجول الشمالية تصيبها الحمى التكساسية إصابتين خفيفتين أو ثلاثا ًفي الصيف، فإذا دار العام وكبرت أخذت ترعى في الحقول الوبيئة القاضية على كل بقرة شمالية فلا تحس وباءها أصلاً. . . لا يفسران حصانة البقر الجنوبي: إن هذه الحمى الخبيثة توجد في الجنوب حيثما وجد القراد. والجنوب كله قراد. فهذا القراد لا يفتأ يصب مكروبه في دماء الأبقار الجنوبية في كل آن ومكان، وهذه الأبقار الجنوبية تحمل المكروب في دمها ليل نهار، ولكنها لا تحفل به، لأنها أصيبت به وهي عجول فاحتملته فتحصنت منه نم بعد ذلك.
وأخيراً، وبعد أربعة أصياف شديدة الحر كثيرة الإنتاج مجيدة، جلس إسميث جلسة طويلة يصف الحمى التكساسية فلا يدع فيها سؤالاً لسائل، ويصف كذلك كيف يمحي الداء محواً. وكان ذلك في عام 1893، وكان بستور الذي تنبأ بإمحاء الأدواء جميعاً على نحو هذا المثال يتهيأ عندئذ للكفن والقبر.
كتب إسميث ما كتب عن هذه الحمى فأتى بقطعة رائعة من قطع الفن لم أجد أبسط منها ولا أوضح في حل لغز من ألغاز الطبيعة، أقول هذا وأنا لست بناس روائع لوفنهوك ولا بدائع كوخ أو أي رجل من رجال المكروب؛ قطعة رائعة يفهمها الصبيّ الذكيّ لبساطتها، ويرفع لها نيوتن العظيم قبعته احتراماً لعظمتها. كان إسميث وهو صغير يحب بيتهوفن وموسيقاه، وإني لأجد في قطعة إسميث هذه التي أسماها (بحثاً في طبيعة الحمى التكساسية أو حمى الأبقار الجنوبية، وفي أسبابها، وفي منعها) إني لأجد فيها من الروعة ما في السمفونية الثامنة لبتهوفن، تلك التي أنشأها في أواخر أيامه المريرة. كلتا القطعتين بسيط موضوعهما
بساطة بلغت حد السخف، ولكن موضوعهما هذا البسيط نُوِّع وركّب تنويعاً لا يستطيعه إنسي، فكانتا على مثال الطبيعة ذاتها، غاية في البساطة غاية في التركيب والتعقد.
فبهذا التقرير فتح إسميث للإنسانية فتحاً جديداً، فأرى الناس سبيلاً جديدة يسلكها المكروب بالداء إلى ضحيته: محمولاً على حشرة. وبدون هذه الحشرة لا يستطيع الوصول. أعدموا هذه الحشرة، غطّسوا كل مواشيكم في سائل ليقتل قرادها، أعيشوا البقر الشمالي في أرض لا قراد فيها. افعلوا كل هذا تختف الحمى التكساسية من على ظهر البسيطة. واليوم تقوم عدة ولايات كاملة بتطهير مواشيها بالتغطيس في المطهِّرات، واليوم لا تجد أحداً يرتاع أقل ارتياع لهذه الحمى التي أنذرت بالفناء الألوف المؤلفة من قطعان أمريكا.
وليس هذا كلَّ الخير الذي جاء من هذا التقرير البسيط الذي لا زركشة فيه ولا تزويق، هذا التقرير الخالد الذي لم ينل ما يستحق من التقدير حتى لا تجد منه في السوق نسخة واحدة. فأنه لم يلبث إن شاع حتى حدثت من جرائه أحداث عظيمة في جنوب أفريقيا وفي الهند وإيطاليا. ففي أفريقيا الجنوبية في أدغالها الخطيرة عضت ذبابة رئيس الأطباء في كتيبة من كتائب الجيش، وكان اسكتلنديا جسيماً، فسب من عضتها ولعن، ثم خطر له الخاطر فأخذ يفكر فيما عسى أن تصنع هذه الذبابة من الضر بالإنسان غير عضتها المقلقة. وبعد هذا بقليل حدث أن رجلاً إنجليزياً في الهند، وآخر إيطالياً في إيطاليا، فتح كلاهما آذانهما وسعهما ينصتان لجماعات البعوض ترسل بطنينها المديد الشاكي، ثم فتحا أذهانهما وأعملا خيالهما وأطلقا الأعنة للأحلام فاختطا خططاً عجيبة لتجارب غريبة. . .
على أن هذه قصص سترويها الفصول القادمة. قصص تحكي لنا عن أوبئة قديمة معجزة جامحة أعجزها الإنسان وألجمها، فأسلمت له المقادة؛ قصص تحكي عن وباء أصفر فتّاك، أمحى الآن من الوجود أو كاد، قصص تحكي لنا عن رجال ذوي آمال صوّروا الحياة البشرية تزداد بتناقص الأدواء، وتنشط ويمتد عبابها الزاخر حتى يغمر أدغالاً لا تسكنها الآن غير الزواحف والضواري، فتزدهر عن مدائن ذات أنوار وأبراج؛ فهذه القصص كلها مهَّد لها إسميث بما قام به في صيادة المكروب من بحوث جديدة عفّي عليها الآن النسيان أو كاد، بحوث هي الأولى التي سوغت لبني الناس أن يحملوا الأحلام الجميلة عن دنيا لهم مقبلة جميلة تختلف اختلافاً بيناً عن دنياهم الحاضرة.
أحمد زكي
الفتح الإسلامي
للأستاذ علي الطنطاوي
(الفتح الإسلامي) أكبر لغز من ألغاز العبقرية، وأروع أحجيًّة من أحاجي النبوغ، وأجل مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر. ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة، وأعصار مديدة، ارتقى فيها فن الحرب، وتقدم فيها البشر أشواطاً في كل ميدان من ميادين الحضارة، وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية، فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها، فبدت لهم هينة ضئيلة، بعد إن كانوا يرونها لغزاً لا يحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية - ولم يدركوا كنهها. وستمر قرون أخرى وأعصار - قبل أن يكشف ذلك السر، وقبل أن يرى تأريخ البشر حادثاً أعجب وأعظم من (الفتح الإسلامي).
إن الحوادث العظيمة في التاريخ على اختلاف مظاهرها وتنوع أشكالها، لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث: إما أن تكون عظمتها فيما أورثت الإنسانية من حضارة وعمران، وما رفهت من عيش الناس، وما أفادتهم من رغد ونعمة وترف، وإما أن تكون هذه العظمة فيما خدمت به العقل البشري، وأمدته بأسباب القوة والنضوج، ورفعت من تفكير الناس، وأدنتهم من المثل العليا التي يطمحون إليها، بما فتحت عليهم من أبواب الثقافة وسبل المعرفة، وإما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً؛ أي أن العظمة إما أن تكون عظمة حضارة وعمران، أو علم وفكر، أو بطولة وحرب.
(والفتح الإسلامي) أعظم الحوادث التاريخية كلها، في أبواب العظمة كلها، لا يدانيه في ذلك حادث في تأريخ الشرق والغرب، القديم منه والحديث.
أما في الحروب فإن التاريخ يعرف كثيراً من الفاتحين، منذ عهد الإسكندر ومن قبل الإسكندر، إلى عهد نابليون ومن بعد نابليون، ولكنه لم يعرف فتحاً أوسع ولا أسرع من (الفتح الإسلامي) الذي امتد في أثنى عشر عاماً فقط من طرابلس الغرب إلى آخر بلاد العجم، وحاز مصر وسورية وفارس كلها. . على أن ميزة الفتح الإسلامي ليست في السعة والسرعة وحدهما، ولكن ميزته الكبرى أنه فتح أبدى، فلم يعرف عن المسلمين أنهم دخلوا
بلاداً وخرجوا منها؛ ذلك أنهم لا يفتحون البلاد بسيوفهم شأن كل الفاتحين، ولكنهم يفتحون القلوب والعقول، بعدلهم وعلمهم، فلا تلبث البلاد المفتوحة أن تندمج بالمسلمين، وتصبح أغير على الإسلام من المسلمين الفاتحين، بينما ترى البلاد التي فتحها غيرهم تبقى خاضعة لهم ما بقى السيف مصلتاً فوق رؤوس أهلها، فإذا أحسوا من الفاتحين غرّة، وآنسوا منهم ضعفاً وثبوا عليهم فطردوهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، حتى أن أمريكا على رغم أنها كانت خالية إلا من قبائل لا شان لها، وليس فيها دين يناوئ ديناً، أو عادات تصادم عادات، وعلى رغم أن أهلها الذين استعمروها إنكليز كالإنجليز الحاكمين، فأنهم وثبوا عليهم وحاربوهم حتى نالوا استقلالهم؛ ولا تجد اليوم أمريكياً واحداً يريد الانضمام إلى إنكلترا (الأم الكبرى)، بينما تجد كل مسلم في الصين أو الهند أو جاوا أو القسطنطينية كل مسلم صحيح، يتحسر على الوحدة الإسلامية - ويسعى إليها - ولا يقبل بها بديلاً، على رغم ما أحدثوا لهم من كذبة القوميات وبدعة الوطنيات، وما أقاموا يبن الإخوان من سدود، وما فصلوا به بينهم من حدود، وما مر على هذه التفرقة من سنين وأعوام. ذلك لأن (الفتح الإسلامي) فتح أبدىّ، مستقر في القلوب، لا تقوى فيه بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ.
أما في العلم والثقافة؛ فقد كان (الفتح الإسلامي) أكبر حادث علمي، لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرر عقولها بالتوحيد، واعتقها من عبودية الأحجار والأشجار، واليزان والأخشاب، والقس والأشراف. ثم وضع في أيديهما القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، ويحفز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسنّة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم؛ وكان الفاتحون أنفسهم علماء، فما هي إلا أن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد (والمساجد برلمانات المسلمين وجامعاتهم العلمية) يدرسون ويقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدّثون، والفقهاء، والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص المؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدّروا بعدُ للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوربا، وكانوا أساتذة العالم الحديث.
فكان من ثمرة الفتح أن هذه البلاد الأعجمية - التي كانت تئن في ظلام الجهل والظلم - لم تلبث أن ظهر منها علماء فحول، كان لهم الفضل على العقل البشري، ولا تزال أسماؤها خالدة، تضيء في جبين الدهر.
ومن لعمري ينسى البخاريّ والطبريّ والأصبهاني والهمذانيّ والشيرازيّ والسَّرخسي والمروزي والرازيّ والخوارزمي والنيسابوري والقزويني والدِّينوري والسّيرافي والجرجاني والنّسائي وغيرهم وغيرهم ممن لا يحصيهم عدّ؟ ألا يشعر كل مسلم بأن هؤلاء وأمثالهم هم علماء الملة وأعلامها؟ ألا نحلّ كتاب البخاري أسمى محل من نفوسنا، ونتخذه حجة بيننا وبين الله؟ ألا يؤلف هؤلاء العلماء صلة من أوثق الصلات بيننا وبين فارس لا يستطيع أن يفصم عراها مائة حكومة من مثل الحكومة الحاضرة، التي تستن في فارس سنة (هذا الآخر. . .) في تركيا.
هذا هو فضل الفتح علينا وعلى الأجيال الآتية - أما فضله على العقل البشري - فحسبك أن تعلم أنه لولا الفتح الإسلامي، ولولا علماء المسلمين وفلاسفتهم لم يكن عقل القرن العشرين.
أما في الحضارة والعمران؛ فللفتح الإسلامي أكبر الأثر في نشر الحضارة وتوطيد العمران، والعمران طبيعة في العربي المسلم، فلم يمض على فتح المسلمين بلاد العراق إلا سنوات حتى أسسوا مدينتين كبيرتين كان لهما الفضل والمنة على الحركة العلمية والأدبية في العالم كله. فضلاً عن أنهما كانتا قاعدتين حربيتين من أكبر القواعد الحربية؛ وما استقرت أقدامهم في البلاد حتى شرعوا في بناء المدن الكبيرة، والقصور العظيمة، وإنشاء أروع آثار البناء، حتى كانت بغداد وسرَّ من رأى، وكانت دمشق من قبل، والقاهرة ومدن الأندلس من بعد، أعجوبة في فن العمران، وها إن أثراً صغيراً من آثار العرب - ليس بأعظمها ولا أكبرها - لا يزال إلى اليوم محطّ ركاب الرحال من أهل العلم ورجال الأدب، ولا يزال مصدراً مالياً لحكومة من كبار حكومات أوربة تعيش إلى اليوم بفضل العرب، هي حكومة أسبانيا. ولقد حاول الإنكليز على قوتهم وغناهم - في هذا العصر الذي تيسرت فيه أسباب كل شيء - أن ينشئوا مثل (الحمراء) فأنشئوا قصراً في سيدنهام يعدّ من أعظم المباني العصرية وأجملها، ولا يزال دون الأصل بمراحل فكيف بمن بنى الأصل في ذلك العصر
الغابر؟
وكيف لو بقيت (الزهراء) التي حيّرت رسل الإفرنج، أو بقى (التاج) في بغداد، أو (دار الشجرة) التي أدهشت وفود الروم؟
إنه ما من شك لدى المنصفين من المؤرخين، أنه لولا قيام الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى وازدهارها في الشرق حين كانت أمم الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، لم تقم الحضارة الحاضرة، ولم يتمتع البشر اليوم بثمراتها.
فالفتح الإسلامي إذن أعظم حادث في البطولة والفكر والعمران. وهو لغز غامض حيّر نابليون (نابغة العصر الحديث في فن الحرب) وحير المؤرخين كلهم. ذلك أن العرب على ما امتازوا به من الكرم والشجاعة والوفاء والعزة والإباء، كانوا في جاهليتهم بداة متفرقين، وجاهليين وثنيين، منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، لا يعرفون إلا جامعة القبيلة، ووحدة العشيرة، فإذا فخروا فبها يفخرون، وإن دافعوا فعنها يدافعون. . . إذا وجد العربي من القبيلة قافلةً من غير قبيلته، كان في حل من انتهاب مالها، وقتل رجالها، لا حكومة تنظم أمورهم، ولا دين يردعهم، إلا ديناً مضحكاً سخيفاً، دين من يتخذ رباً من التمر، فإذا جاع أكله، كما (أكلت حنيفة ربها. . .)، أو من ينحت من الصخر صنماً، ثم يعكف عليه عابداً داعياً، أو من يعبد الشجر والحجر. وكانوا يخشون كسرى، ويرهبون قيصر؛ وكان ملوكهم في الحيرة والشام تبعاً للفرس والروم وجنداً لهما، يضربون بعضهم ببعض، ليذهبوا هم بالغنم ويعود العرب بالغرم؛ وكان اتحاد قبيلتين اثنتين كبكر وتغلب في طاعة كليب، أو قيس والسَّكون في جيش قيس بن معدي كرب حادثاً عجيباً يكسب صاحبه فخر الأبد، وأمراً نادراً يلبث حديث الناس أياماً وليالي. . . فكيف يتحد العرب كلهم، عدنانيّهم وقحطانيّهم، ويسيرون في صف واحد، يقدمهم رجل واحد، حتى يواجهوا جيوش كسرى وقيصر التي يهابونها ويرهبونها، ثم يضربونها الضربة القاصمة للظهر، فإذا انجلى غبار المعركة نظرت فإذا المعجزة قد ظهرت على أتمها، وإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا فارس الوثنية، وسورية النصرانية، ومصر الرومانية، قد محيت كلها محواً، وقامت مكانهم أمم إسلامية في فارس وسورية ومصر، كأنما هي لإخلاصها للعربية والإسلام لم تكن يوماً من الأيام على غير الإسلام؟
أكان هذا الانقلاب ما بين ليلة وضحاها. . . أكان هذا التبديل الذي تغلغل في صميم الأمة العربية فغير كل شيء فيها وأنشأها إنشاء جديداً لأن رجلاً قام في مكة، يتلو كتاباً جاء به؟ أيقوى رجل مهما كان شأنه على مثل هذا العمل ويكون له في تأريخ العالم ومستقبل البشرية هذا التأثير؟
هذا هو اللغز الذي حير المؤرخين من الغربيين، ولم يعرفوا له حلاًّ معقولاً!
على حين أن الأمر واضح والسبب ظاهر، ذلك أن هذا الأمر لم يكن عمل رجل عظيم من عظماء الناس، ولكنه عمل الله جلّت قدرته، أظهره على يد سيّد أنبيائه، وخاتم رسله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن (الفتح الإسلامي) معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن من الخطأ أن نعدّ الفتح الإسلامي، مثل ما نعرف من فتوح الأمم المختلفة في الأعصار المتباينة، لأن للفتح الإسلامي طبيعة خاصة به تجعله ممتازاً عن سائر الفتوح، وتنشئ له في التاريخ باباً خاصاً، ذلك أن كافة الفتوح إنما كانت الغاية منها ضمّ البلاد المفتوحة إلى أملاك الفاتحين، والانتفاع بخيراتها ومواردها، لا نعرف فتحاً يخرج عن هذا المبدأ إلا الفتح الإسلامي، فلم تكن الغاية منه ضمَّ البلدان إلى الوطن الإسلامي. وامتصاصا دماء أهلها وأموالهم، واستغلال مواردهم الطبيعية وخيراتها، ولكن غايته نشر الدين الإسلامي، والسعي لإعلاء كلمة الله، وإذاعة هدى القرآن في الأرض كلها؛ فكانوا كلما وطئوا أرضاً عرضوا على حكومتها وشعبها الإسلام، فأن قبلوا به واتبعوه ونطقوا بكلمة الشهادة انصرفوا عنهم وعدوهم إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين أمير المؤمنين وآخر مسلم في أقصى الأرض؛ كلهم سواء في الحقوق والواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وإن لم يقبلوا بالإسلام عرضوا عليهم الجزية، وهي أقل بكثير مما كانوا يدفعونه إلى ملوكهم وأمرائهم، وسموهم ذميين لهم ذمّة المسلمين، وأعطوهم الحرية في أمور دينهم ودنياهم، وتعهدوا لهم بالأمن الداخلي والخارجي. وإن أبوا أن يعطوا الجزية حاربوهم. . . ثم لم يكرهوا أحد على الإسلام، لأن صحة الإسلام وفوائده في الدنيا والآخرة ما يغني في الدعوة إليه عن السيف. وما (دين محمد ودين السيف) كما يهتف العامة والجاهلون، ولكنه دين العقل والمنطق والعلم، والمسلمون عامة دعاة مرشدون،
ولكنهم دعاة أقوياء، يحملون القرآن بيد، والسيف بالأخرى، فمن قبل فما كانوا ليحاربوه، ومن أبى وحاربهم أدّبوه حتى يرجع إلى الحق، ويجنح إلى السلم.
ثم إن معاملة المسلمين للذميين، ووفائهم بعهودهم، وصدق وعودهم وكرمهم وتسامحهم الذي شهد به الأصدقاء والأعداء؛ وصار أشهر من أن يذكر ما يؤكد طبيعة (الفتح الإسلامي) ويرفعه عن أن يقاس به فتح آخر!
وهذه هي التواريخ فاستقروها واحكموا!
(بغداد)
علي الطنطاوي
كتاب أنساب الأشراف للبلاذري
للدكتور إسرائيل ولفنسون
أستاذ اللغات السياسية بدار العلوم
يعلم كل من تتبع حركة النشر والطبع في الأقطار الشرقية في العصر الحديث أن كثيراً من المصنفات العربية العظيمة الشأن إنما نشرت بوساطة العلماء المستشرقين؛ ومما لا شك فيه أن هذه العناية المفرطة إنما كانت من الأسباب المباشرة التي ساعدت على نمو النهضة العلمية في الديار العربية.
كلنا نعلم أن كتاب السيرة النبوية لمحمد بن أسحق من رواية عبد الملك بن هشام طبع للمرة الأولى سنة 1859 - 1860 بوساطة العالم ويستنفلد، وكذلك تولى العلامة دي غويه بمعونة علماء آخرين طبع كتاب تأريخ الأمم والسلوك لأبي جعفر محمد أبن جرير الطبري في ليدن من سنة 1876، وكذلك طبع نخبة من المستشرقين كتاب الطبقات الكبرى لأبن سعد من سنة 1905 - 1921.
وكذلك طبع كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لمصطفى بن عبد الله المشهور باسم حاجي خليفة من سنة 1835 - 1858 بمدينتي ليدن وليبسيك، وكان ذلك تحت إشراف العالم فليجل، وهو الذي تولى طبع كتاب فهرس أبن النديم من سنة 1870 - 1871.
وليس هذا المقام مقام إحصاء كل ما طبع العلماء من المستشرقون، وإنما سردت بعض الكتب القيمة العظيمة القدر التي لا نتصور حركاتنا العلمية ونهضتنا الأدبية دون الرجوع إلى هذه المصادر الهامة.
وهناك أمر آخر له خطره في أمر نشر المصنفات العربية بوساطة المستشرقين وهو أنهم أساتذة لنا، معشر الشرقيين، في إخراج المطبوعات على الطريقة العلمية المجدية، إذ هم ليسوا طابعين وناشرين فحسب كما اعتدنا أن نرى من الناشرين للمؤلفات عندنا، بل هم يميلون إلى المراجعة بعناية، والمقابلة بما ورد في الكتاب الذي أمامهم بالمصادر والمراجع الأخرى، ويذيلون مطبوعاتهم بحواش هي غاية في الدقة والخطورة في أغلب الأحوال.
وقد لاحظنا أن بعض الناشرين عندنا عمدوا إلى إعادة طبع ما طبعه المستشرقون في
أوروبا، ولكن مع الأسف الشديد جاء عملهم ماسخاً لما عمله المستشرقون مشوهاً له؛ إذ كانت الطبعة الثانية غير مضبوطة، كثيرة الأغلاط، فاحشة الأخطاء.
على أن بعض الأفراد ممن تثقف في أوروبا، وممن أتصل بالحركة العلمية الأوروبية قد بدأ ينشر بعض المصنفات العربية على الطريقة المألوفة عند الأفرنج، وخصوصاً ما ظهر من الهمة والعزيمة في نشر الكتب تحت إشراف دار الكتب المصرية، فلا شك أن عمل دار الكتب يعد صفحة بيضاء جديدة في تأريخ نشر الكتب والعرفان في الشرق. على أننا نريد أن نقول لدار الكتب كلمة صريحة نؤجلها إلى فرصة أخرى إن شاء الله.
ذكرت ذلك بمناسبة تولي المعهد الشرقي بالجامعة العبرية بالقدس نشر كتاب أنساب الأشراف للبلاذري الذي ظهر منه في الآونة الأخيرة الجزء الخامس.
ذاع صيت أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في العصور الأخيرة بوساطة كتابه الصغير فتوح البلدان الذي أقدم العالم دي غويه على طبعه سنة 1866 بمدينة ليدن. أما مصنفه العظيم المذكور في معجم ياقوت الحموي باسم أنساب الأشراف (معجم الأدباء ج2 - ص131) أو كما سماه ابن النديم بكتاب الأخبار والأنساب (فهرس ص114) أو كما يقول الشريف المرتضى (الشافي ص260، 688) كتاب البلاذري، أو كما يشير أبن عساكر إلى البلاذري ويصفه بصاحب التأريخ (تأريخ دمشق ص131).
وهو الكتاب الذي ارتشف من منهله المتقدمون والمتأخرون ممن جاءوا بعد البلاذري من كبار الأدباء والمؤرخين والجغرافيين مثل الشريف المرتضى الذي توفي سنة 436، وابن عساكر الذي توفي سنة 571، وياقوت الحموي الرومي الذي توفي سنة 626، والنويري الذي توفي سنة 632، وأبن خلكان الذي توفي سنة 681، وأبن حجر الغسقلاني الذي توفي سنة 852، وأبن تغرى بردى الذي توفي سنة 874. أما هذا الكتاب فقد توارى عن العيون في العصور الأخيرة ومر عليه العلماء مر الكرام حتى أصبح نسياً منسياً إلى أن جاء العالم أهلوارت في سنة 1883 وأخرج جزءاً منه كان يشك في بعض العلماء في صحة نسبه إلى البلاذري. ثم حدث أن أعلن الأستاذ بيكر في مؤتمر المستشرقين الثالث عشر أنه عثر على نسخة كاملة من كتاب أنساب الأشراف في الآستانة ولم يحفظ الدهر لهذا الكتاب نسخة كاملة غيرها؛ وكان قد عقد النية على نشر الكتاب ولكن كبر حجمه من ناحية
ومشاغل الأستاذ بيكر من ناحية أخرى عاقته عن المضي في تحقيق هذا المشروع إلى أن أقترح عليه الأستاذ جوتهلد الذي كان مديراً للقسم الشرقي من مكتبة برلين الكبرى على العلامة بيكر أن يعرض مشروع طبع أنساب الأشراف على هيئة تدريس اللغة العربية في الجامعة العبرية بالقدس ففعل.
أما المخطوط من هذا الكتاب فيشتمل على 1228 صفحة، وهو أكبر حجما من الطبقات الكبرى لأبن سعد أو أقل قليلاً من كتاب التأريخ لأبن جرير الطبري؛ وهو بحث مفصل في أنساب العرب يبدأ دراسته بالتأريخ القديم من عهد نوح وذريته إلى سيدنا إبراهيم خليل الله وأعياصه، ثم ينتقل إلى قريش وبني هاشم ويبحث في أصلهم وفصله من ثم يقص سيرة الرسول وأخبار علي بن أبي طالب وما جرى في عهد الخلفاء الراشدين، ويفصل تفصيلاً كثيراً مطولاً تأريخ بني أمية حتى تشتمل أخبارهم على ثلث الكتاب بأجمعه. ومع أنه كان من الموالين لبني العباس وكان يشغل منصباً رفيعاً عند خلفائهم فان ما ورد بشأنهم من الحوادث والأخبار لا يتجاوز سبعين صفحة من المخطوط الكبير.
وكذلك يوجه عناية شديدة إلى قبائل مضر الآخرين فيتعرض لأنساب كنانة وأسد وهذيل وعبد مناة ومزينة وتميم وقيس وذبيان وفزارة وعبس وهوازن وسليم وثقيف.
ولم يذكر قبائل ربيعة واليمن لأن المنية عاجلته عن إتمام كتابه إذ لقي حتفه في أوائل عهد الخليفة المعتضد سنة 279 (كشف الظنون جـ1 ص 274).
ومع أن هناك مصنفات في أنساب العرب قبل البلاذري إذ كان محمد بن هشام الكلبي الذي توفي سنة 204 قد وضع كتابه جمهرة الأنساب والهيثم بن عدي ألَّف مصنفاً في تأريخ الأشراف وهو ممن توفي في أوائل القرن الثالث فان كتاب أنساب الأشراف للبلاذري يعد من الذروة مما وصل إليه الأدب التاريخي عند العرب في الأنساب.
والبلاذري لم يكتف بجمع الأخبار من مصنفات من سبقه بل جمع كثيراً من الأخبار من المسجلات الرسمية التي كانت في خزائن الدولة؛ وهو على ميله إلى العباسيين لا يظلم بني أمية بل يقص عنهم أخباراً كثيرة تدل على أن حنكة المؤرخ الذي يتغلب على شعوره ويتجرد عن أهوائه، وذلك أمر لا بد للمؤرخ المنصف منه.
والكتاب الذي طبع الآن ليس الجزء الأول بل الخامس منه، إذ وزعت صفحات المخطوط
على جملة من العلماء لم يتمكنوا إلى الآن من إتمام العمل الذي كلفوا أن يقوموا به.
وكان الجزء الخامس قد وكل أمر العناية به إلى الأستاذ س. د. جويتاين وهو الآن في العقد الرابع من العمر تخرج من جامعة فرنكفورت بألمانيا وكان من خيرة تلاميذ الأستاذ المرحوم يوسف هورفيتس واختاره للتدريس بالجامعة العبرية بالقدس.
وقد بذل الأستاذ جوبتاين جهده مدة سنين كثيرة في مراجعة صفحات المخطوط وأخرجه بعد عناء ومشقة على النسق المألوف عند كبار المؤلفين من المستشرقين مع مقدمة علمية بحث فيها الناشر في أصل تسمية الكتاب وما يحتوي عليه مع مقارنة بين من سبقه وبين من أتى بعده من المؤرخين وبيّن ما أخذه ممن كان قبله ومن أخذ عنه ممن جاء بعده.
ومما يؤسف له أن هذه المقدمة النفيسة قد وضعت بالعبرية من ناحية، وبالترجمة الإنجليزية من ناحية أخرى، وقد أكتفي الناشر بكلمة موجزة بالعربية. كان من الواجب أن يصدر بالمقدمة العربية قبل كل شيء، لأن الكتاب عربي موجه إلى الناطقين بالضاد قبل غيرهم، وإذا كان جمهرة من العلماء الإفرنج يدرسون كتاب أنساب الأشراف فهم يستطيعون أن يدرسوا المقدمة بالعربية أيضاً.
وكذلك أقول عن الذيل الذي وضع بالإنجليزية كأن الكتاب إنما كان موجهاً إلى الغربيين لا للأندية المثقفة من أبناء الشرق أيضاً.
وإني أوجه أنظار الأساتذة العاملين على إخراج بقية أجزاء الكتاب ألا يتورطوا فيما تورط الأستاذ جويتاين من مسألة المقدمة والذيل التي أغفل فيهما العربية إغفالاً يكاد يكون تاماً
والذي نتمناه من صميم الفؤاد أن يبادر بقية العلماء القائمين بمراجعة الكتاب بإخراج الأجزاء الأخرى حتى يستفيد العالم العربي عاجلاً من كتاب أنساب الأشراف الذي يعد بحق من أمهات المصادر لكل من يبحث في عصر ظهور الإسلام وفجره وضحاه
إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب)
8 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
الفصل الأول
وقد استمر إرياط يتوغل في اليمن بعد موت ذي نواس الحميري (فقتل ثلث رجالها وخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها فضبطها وأذلها، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبش، وكان في جنده حتى تفرقت الحبشة عليهما، فأنحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم؛ ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى إرياط (إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئاً، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده) فقيل أبرهة، وكان رجلاً قصيراً لحيماً حادراً وكان ذا دين في النصرانية؛ وخرج إليه إرياط وكان رجلاً عظيماً طويلاً وسيماً، فرفع إرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة يريد يفوخه، فوقعت على جبهة أبرهة فشرمت حاجبيه وعينه وأنفه وشفته، فسمى أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتورة على إرياط فقتله، فملك أبرهة، ثم كتب إلى النجاشي:(أيها الملك إنما كان إرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في أمرك، وكلٌّ طاعته لك، إلا أني كنت أقوى منه على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرض اليمن ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه) فثبته النجاشي. ثم إن أبرهة بنى (العكيس) بصنعاء لم ير مثلها في زمانها، ثم كتب إلى النجاشي:(إني قد بنيت لك كنيسة ولست بمنته حتى أصرف إليها حاجّ العرب) فلاكت الألسن ذلك فقام رجل من بني فقيم: فخرج إلى العكيس فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه) ولكن الفشل الذريع الذي منيت به هذه الحملة التي وقعت عام الفيل (سنة 570م) لم يحرر بلاد اليمن في الحال من نير الأحباش، إذ أن ولدي أبرهة يكسوم ومسروق كانا عبئاً ثقيلاً على العرب ضجوا منه. وقام في ذلك الحين أحد أشراف حمير واسمه (سيف بن ذي يزن) مستحثاً الهمم، ولكن ضاعت دعوته إياهم أدراج الرياح.
ولما لم ير مساعدة من قومه وجه وجهه شطر الاستعانة بغوث أجنبي، وتردّد بين قيصر الروم وكسرى فارس، فمضى أولاً إلى القسطنطينية فردّه القيصر خائباً، فطلب من والي الحيرة العربي الذي كان خاضعاً لفارس أن يقدّمه إلى بلاط المدائن؛ ولكن كيف استطاع أن يكسب عطف الملك الساساني أنو شروان الملقب بالعادل حتى أرسل معه ثمانمائة مقاتل من نزيلي السجون ممن أطلق سراحهم؟ وكيف أبحروا معه إلى اليمن وعلى رأسهم قائد طاعن في السن؟ وكيف أحرقوا مراكبهم واستمدوا من اليأس قوّة، وكيف هزموا الأحباش هزيمة منكرة وطردوهم واستردوا اليمن وجعلوها ولاية فارسية. . . كل هذا يسوقنا إلى سرد قصة آثرت تخطيها وإغفالها في مثل هذا المجال، لأنها تتصل بتاريخ الفرس أكثر من اتصالها بتاريخ الأدب العربي، تلك الأمور التي قامت - كما رجّح نلدكه - على أخبار لقنها الغزاة الفرس الذين استوطنوا اليمن لأبنائهم الأشراف، الذين يسميهم العرب الأبناء أو بني الأحرار.
وإنا لنترك الآن مملكة اليمن وقد تهاوت دعائم قوتها ودالت دولتها وسقطت من علياء مكانتها إلى الأبد، ونعود من ناحية الشمال في دراسة التاريخ العربي:
الفصل الثاني
تأريخ العرب الوثنيين وأساطيرهم
يسمى المسلمون الفترة الواقعة منذ فجر التاريخ العربي حتى ظهور الإسلام بالجاهلية، وقد ورد هذا اللفظ في أربع فقرات في القرآن، ويقصد به عادة (الجهل)، وإن كان جولدزيهر قد أوضح أن المدلول الذاتي لكلمة (جهل)(الذي اشتقت منه الجاهلية) عند شعراء ما قبل الإسلام لا يقصد به (عدم المعرفة) أو (الوحشية) و (الهمجية)، وليس المعنى المضاد لكلمة (علم)، ولكنه عكس معنى حلم المعبّر عن التهذيب الأدبي عند الرجل المثقف. (وحينما يقول المسلمون إن الإسلام قضى على طبائع وعادات الجاهلية فانهم يقصدون بذلك العادات المستقبحة، وهذا الخلق الهمجي الذي تفترق به الوثنية عن الإسلام، وبالمستهجن من الطباع التي جدّ محمد (ص) في استئصالها من نفوس قومه: كحمية الجاهلية، والعصبية القبلية، والجد في طلب الثأر، والحقد، وغير هذا من طبائع الوثنية المستهجنة التي قضى
عليها الإسلام)
وإن المصادر التي نستمد منها صورة حياة هذه الفترة لتندرج تحت أربعة أبواب كما يلي:
(1)
القصائد والمقطعات الشعرية التي وإن لم تكن قد دونت في ذلك الحين إلا أنها ظلت محفوظة بالرواية الشفهية، ثم كتب معظمها بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون، وهي في الحقيقة الأثر الوحيد الذي بين أيدينا عن تأريخ العصر السابق للإسلام، وتتضح أهميتها من القول المأثور (إن الشعر ديوان العرب وجامع شتات المحاسن التي سلفت لهم) وسيرى القارئ في الفصل التالي بعضاً من الشعر العربي في تلك الفترة
(2)
الأمثال وهذه أقل قيمة من الشعر، إذ قلما تفسر نفسها بينما يكون الشرح المرفق بها من عمل الأدباء الذين يدأبون على تفسيرها، ولو أنه في حالات عدة يؤتى بمعانيها ومقصودها على سبيل الحدس، كما نسيت الظروف التي بعثتهم على إرسالها، وبالرغم من هذا فقد كنا نخسر شيئاً جسيماً لو لم تكن بين أيدينا المجاميع الشهيرة للمفضل بن سلمة (المتوفى حوالي 900 م) والميداني (1124م) التي تضمنت إشارات عجيبة وأخباراً تلقي بصيصاً من النور على كل جوانب الحياة التي سبقت ظهور الإسلام.
(3)
الأخبار والأقاصيص: لما لم يكن للعرب الوثنيين - على العموم - معرفة بفن الكتابة الخطية واستعمالها فقد كان من المستحيل أن تقوم للنثر - باعتباره فناً أدبياً - قائمة فيهم، ومع ذلك فان بذور النثر الأدبي يمكن إرجاعها إلى عصر الجاهلية، وعدا المثل والخطبة نجد عناصر التاريخ والقصة في القصص النثري الذي كان يقدمه الحفاظ والرواة لتوضيح موضوع أغانيهم، وفي القصص التي تعدّد مآثر القبائل وأبنائها. وإن العدد الوفير من هذه القصص (التي يرجع بعضها إلى أصل حقيقي والآخر يحمل طابع الخرافة) لمثبوت في ثنايا المؤلفات الأدبية والتاريخية والجغرافية التي وضعت أيام الدولة العباسية وخاصة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (967م) وهو مجموعة ثمينة قامت على دراسة الشخصيات الأدبية الكبيرة في القرنين الثاني والثالث للهجرة. وقد ضاعت الكتابات الأولى لهؤلاء الأدباء والنقاد دون استثناء، ولولا اقتباسات الأغاني الكثيرة لما كان في متناول أيدينا نماذج من آثارهم. ويقول أبن خلدون عن هذا السفر: (إن أبا الفرج جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي
اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلم وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها.
ولن أحاول في الصفحات التالية أن أضع في ترتيب واتصال هذه الأشعار والقصص المضطربة التي رسخت في الأذهان واندس بين ثناياها جميع ما نعرفه عن بلاد العرب في العصر السابق للإسلام؛ إذ أنجز هذا خير إنجاز وفي دقة عجيبة كوزان دي برسيفال في كتابه ' ' وليس هناك ثمة جدوى مطلقاً من أن أسوق للقارئ موجزاً مقتضباً لهذا العمل القيم، والأجدى - كما يتراءى - أن أسوق للقارئ بضع ظواهر واضحة بينة تمثل هذه الفترة كما وضعها العرب أنفسهم. وإذا كانت الأحاديث العربية يعوزها الدقة التاريخية فإنها في مجموعها تكشف القناع عن الروح السائدة في العصر المظلم الذي تستحضره في غياهب الزمن السحيق وتبرزه أمامنا.
وفي حوالي منتصف القرن الثالث المسيحي كانت تتاخم بلاد العرب من الشمال والشمال الشرقي إمبراطوريتان تتنافسان في الزعامة هما دولة الروم ودولة الفرس اللتان تفصلهما صحراء الشام عن بعض؛ ولما رأى الفرس أنهم عرضة لغزوات البدو الذين كانوا يشنون الغارات بين حين وآخر على الحدود، ويستولون على ما يصل أيديهم من الغنائم، ثم يختفون بنفس السرعة التي اتسمت بها اغاراتهم، لما رأوا ذلك وجدوا الضرورة تدعوهم إلى إيجاد حامية على طول حدود هذه الصحراء، وبهذا أمكن صد غزوات القبائل البدوية وغاراتها، ولكن تبيّن أن القوة علاج غير ناجح تماماً، فضلاً عما تكلفه الدولة، وعملاً بالمثل القائل: (فرّق تسد فقد ارتُؤي إدخال بعض القبائل المغيرة في خدمة الإمبراطورية. ومما أدّى إلى عدم قيام البدو بأي اضطراب دفع شيء من المال لهم بانتظام، واستعدادهم على الدوام للغزو الفجائي إذ كان الروم والفرس في هذه الأيام في حروب لا يخمد أوارها ولا يخبو ضرامها، ومن ثم فقد حاربوا كمحالفين أحراراً تحت لواء أمرائهم أو شيوخهم. وبهذه الوسيلة ظهرت أسرتان عربيتان هما دولة الغساسنة في سورية واللخميين في الحيرة غرب الفرات، وكانتا في نزاع دائم واصطدام ونزال، حتى ولو لم تكن تدفعهما من الخلف قوة الإمبراطوريتين، وسرعان ما ظهرت كفاية العرب الحربية ومهارتهم حينما درّبوا على الأسلحة. وفي أثناء حرب فاليران مع كسرى سابور الأول
خرج شيخ عشيرة عربي في (تدمر) ويدعى أذينة وسار على رأس قوة كبيرة ضد المغير ونازله وفرّق شمله وطرده من سورية واقتفى آثاره حتى رده إلى أبواب المدائن عاصمة فارس سنة 265م ولقد قدر الإمبراطور جاليانوس صنيعه الباهر فأنعم عليه بلقب العظيم)، ولقد كان في الحقيقة السيد المطاع في الكتائب الرومانية في الشرق، ولكنه قتل غيلة في العام التالي وكان في زوجته زينوبيا (الزباء) خير خاف، فأخذت على عاتقها تشييد إمبراطورية شرقية ضخمة، ولم يكن نجاحها أعظم من نجاح كليوباترا في مثل هذه المحاولة، ولكن حدث ما ليس في حسبانها إذ أنتصر أرليان واقتيدت (ملكة الشرق) المتكبرة أسيرة أمام عربته في شوارع رومة عام 274م
(يتبع)
حسن محمد حبشي
مرثية توماس جراي
نشر الأستاذ علي الطنطاوي في (الرسالة) عدد 178 بتاريخ 30 نوفمبر سنة 1932 ترجمة لمرثية جراي الشاعر الإنجليزي الشهير نقلاً عن قراءة صديقه الأستاذ حيدر الركاني، والأستاذ الطنطاوي أديب فنان لا يشق له غبار في كل ما يكتب، ومن الأفذاذ الذين رفعوا رأس الأدب العربي الحديث عالياً، ومن الملهمين الذين أراد الله لهم ولأدبهم الخلود ليؤدوا رسالة الأديب الفنان للمجتمع الذي يعيش فيه. ومما لا شك فيه أن الأستاذ الطنطاوي يؤلمه أن يقوم إنسان فيغير على آثاره الأدبية يترجمها ويقول على لسانه شيئاً لم يقله، أو يشوه أفكاراً وتعابير خالدة في فنه. ومما لا شك فيه أيضاً أن المترجم يحمل أمانة في عنقه لمن يترجم عنه، وعليه أن يؤديها غير منقوصة، وألا ينقل إلا الواقع وإلا ما أراده ذلك المترجم عنه. وعندي أن الأستاذ لو ترجم المرثية عن أصلها لبان له من روحه الفنانة وإخلاصه ما يجعل ترجمته في دقتها تقف في صف واحد مع ترجمة جرالد للرباعيات الخيامية المشهورة. ولو كانت صفحات الرسالة تتسع لأكثر من هذا المقدار لقدمت أمثلة على عدم دقة النقل؛ والذي يراجع الأصل لا يجد صعوبة في اكتشاف ذلك وهو كثير. على أن الواقع يدفعني إلى تقديم الشكر للأستاذ الطنطاوي على الإجادة التي لا تجارى في ترجمته التي كادت أن تقرب من الكمال. وإنا لنرجو أن يتبارى الشعراء في نقل هذه القطعة الخالدة إلى الأدب العربي شعراً بالرجوع إلى الأصل مع الاستعانة بترجمة الأستاذ المذكورة.
وزيادة لفائدة القراء رأيت أن أذكر مختصراً لحياة الشاعر توماس جراي وعن الظروف التي رافقت نظم تلك المرثية.
توماس جراي
ولد في السادس والعشرين من ديسمبر 1716 في كورن هل حيث كانت والدته وشقيقها يتجران بقبعات السيدات، وكان والده فيليب جراي كاتب عقود رسمية، وكان هو الوحيد الذي عاش من أسرة عدد أفرادها اثنا عشر شخصاً.
وفي سنة 1727 التحق بكلية إيتون حيث كان عمه مدرساً مساعداً في تلك الكلية، وهناك نشأت صداقته المتينة مع ريتشارد وست، وهراس ولبول، وتوماس اشتون.
وترك كمبردج في السنة التالية دون أن ينال إجازة علمية؛ ورحل في عام 1729 إلى القارة مع صديقه الحميم هراس ولبول في رحلة استغرقت ما يقرب من التسعة أشهر، وعاد بعدها إلى لندن. وفي سنة 1741 توفي والده فانتقلت والدته وشقيقتها إلى المعيشة مع أخت ثالثة اسمها ماري في مقاطعة بكنجهام شير وهناك نظم أول قصيدة عنوانها اجربينا وفي عام 1742 مات صديقه ريتشارد وست، فرثاه رثاء مؤثراً. وفي هذه السنة عاد إلى كمبردج وبقى مدة سنتين حصل في نهايتهما على درجة بكلوريوس في الحقوق.
وبعد ذلك بخمس سنوات توفيت خالته ماري وأحرق منزله في كورن هل.
وفي عام 1750 أكمل مرثيته التي نحن بصددها، وبعد ذلك بثلاث سنوات توفيت والدته. وفي سنة 1757 عرض عليه أن يكون شاعر العرش البريطاني الذي خلا بموت كولي سيبر فرفض ذلك. وبعد ذلك بخمس سنوات عرض نفسه ليكون مدرساً للتاريخ بدلاً من الدكتور ترنر المتوفى في تلك السنة، ولكن اللورد بيوت حال بينه وبين هذه الأمنية التي نالها بعد ثماني سنوات.
وفي سنة 1765 زار اسكتلندا وهنا عرضت عليه جامعة أبردين أن تمنحه لقب دكتور في الحقوق فرفض ذلك مستنداً إلى أن دراسته في كمبردج لا تؤهله لقبول مثل هذا اللقب. وبعد ذلك بأربع سنوات نظم نشيده المشهور الذي مثل عند تولية دوق جرافتون رئاسة الجامعة التي كان يدرس فيها التاريخ الحديث، وزار في تلك السنة منطقة البحيرات.
وفي سنة 1771 توفى فجأة بينما كان يتناول طعام الغداء، إلى جانب والدته في ساحة الكنيسة في في مقاطعة بكنجهام شير.
هذا مختصر لحياة هذا الشاعر. وفيما يلي وصف لظروف المرثية:
ابتدأ في نظم هذه المرثية في عام 1742 ولكن القسم الأعظم منها كتبه بين السنوات 1746 - 1750، وقد أتمها في اليوم الثاني عشر من شهر يونيه سنة 1750، وفي العاشر من فبراير أرسل إليه رئيس تحرير مجلة المجلات الإنجليزية يستأذنه في نشرها في مجلته فرفض طلبه. وعند ذلك أسرع وطلب إلى صديقه هراس ولبول أن ينشرها على الناس دون إمضاء. وفي السادس عشر من نفس الشهر طبعت في كراسة بعنوان (مرثية
كتبت في ساحة كنيسة قرية) مع المقدمة التالية من ولبول: (لقد وقعت القصيدة التالية في يدي مصادفة، إذ جاز أن يدعي انتشار هذه القطعة وذيوعها بين الناس عرضاً. إن الاستحسان الذي صادفته هذه القصيدة سيجعل اعتذاري لمؤلفها في غير محله، لأنه ولا شك يشعر باغتباط شديد لإعجاب الناس وسرورهم بها فيما مضى. ومما لا شك فيه أيضاً أنه سيغفر لي جرأتي على النشر، لأشاركه تقديم المسرات لعدد آخر غير قليل).
وهناك ثلاث نسخ بخط الشاعر جراي نفسه محفوظة حتى اليوم. فالأولى كانت سابقاً ملكاً للسير وهي الآن في كلية ايتون، ومن المحتمل أن تكون النسخة الأصلية. والثانية تخص ورتون وهي موجودة في المتحف البريطاني تحت الرقم (2400). والثالثة في كلية بيمبروك وفي آخر هذه النسخة كتب جراي بخطه أيضاً ما يأتي:(نشرت في فبراير سنة 1751 بواسطة دوزلي وأعيد طبعها أربع مرات شهرين، وبعد ذلك طبعت الطبعة الخامسة حتى الحادية عشرة. وأعيد طبعها في 1753 بواسطة مستر بنتلي ثم ترجمت إلى اللاتينية وطبعت في عام 1762).
(نابلس)
ف. . . . .
الثقافة والإنتاج العلمي في فلسطين
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لا يختلف اثنان في أن الوضع الحاضر في فلسطين شاذ وغير طبيعي وهو غيره في الأقطار الشقيقة المجاورة، فالكل يقاسي آلاماً مبرحة من الاستعمار والمستعمرين، والكل واقع تحت نير الاستعباد والعبودية؛ ولست واجداً أحداً يرضى عن السياسة المتبعة في بلاده وعما يجري حوله، إلا أن هناك فرقاً بين فلسطين وغيرها من البلاد المجاورة، ففي هذه جبروت واحد وطاغية واحد، وهنا جبروتان وطاغيتان قد تسلحا بالخبث والمكر والقوة والدهاء، وعلى هذا فالمصيبة هنا أعظم والبلاء هنا أعم والخطر محقق والفناء يتهدد.
ومن الطبيعي أن بلاداً هذه حالها لا تكون صالحة للإنتاج العلمي ولا لازدهار الثقافة والأدب بالمعنى الواسع. ومن الطبيعي أن تؤثر هذه الأوضاع على الشباب المثقف وعلى الأدباء والعلماء فتأخذ قسماً من أوقاتهم ومجهوداتهم وتفكيرهم يصرفونها في مبادئ السياسة لدرء الأخطار المحدقة، ولتخفيف المصائب علينا انصباباً من كل جانب. وكيف يمكن لثقافة أن تنمو، ولقريحة أن تنتج وتبتدع إذا لم تكن تلك القريحة في جو من الحرية، وفي محيط خال من القيود والغلال ليس فيه من يسخرك لمنافعه ومصالحه، وليس فيه من يسعى للقضاء على معنوياتك، وعلى قتل الطموح فيك؟
وكيف يمكن لشاب أن يعكف على العلم بقصد الاستزادة والاكتشاف والبحث والاستقصاء إذا لم يكن هناك من يساعده ويشجعه ويأخذ بيده؟ فكيف به إذا وجد في محيطه كله تثبيط للهمم، وكله إحباط للعزائم؟ وإذا تتبعنا الطرق التي تسير عليها الحكومات المستعمرة في مختلف دوائرها، ولا سيما المعارف منها نجد أنها ترمي إلى القضاء على روح الطموح، على روح البحث وحب الاستزادة من العلوم والفنون؛ ترمي إلى خلق روح الاعتماد في الناشئة على الغير، إلى إماتة روح الوطنية، وبث روح الاستهتار بالتراث العربي والإسلامي وانتقاصهما بشتى الوسائل، وفوق ذلك نجدهم (المستعمرين) يشغلون أوقات الناس والموظفين في أمور ليس فيها متاع، وليس فيها ما يعود على البلاد بخير أو انتفاع. فمن الطبيعي إذن - هنا وفي البلاد المرزوءة بالاستعمار - أن الحكومات فيها لا تشجع العلم ولا تحث على متابعته، ولا على إيجاد رغبة صادقة في التأليف والبحث على الرغم
من حاجة الأمة إلى كل ذلك. وإذن فلا محال لغرابة الكثيرين في موقف الحكومة تجاه المؤلفين وتجاه الذين يلاحقون فروعهم في العلم والفن، بل الغرابة كل الغرابة في حسن ظن هؤلاء الكثيرين بالحكومات المنتدبة والاعتماد عليها في تشجيع الناس في التنوير والتقدم وقد جهلوا أو تناسوا أن هذه الحكومات تسير على برنامج استعماري خاص من شأنه أن يقضي على كل ما من شأنه رفع مستوى الأمة ورقيها. لهذا وجب على العلماء العرب أن يلتفتوا إلى هذه الناحية، وأن يعيروها بعض اهتمامهم، وأن يعتمدوا على أنفسهم قبل كل شيء، وأن يأخذوا من موقف الحكومات قوى تحفزهم إلى توسيع الحركة الثقافية في فلسطين وغيرها، ونشر روح البحث والاستقصاء بين المثقفين، ويقضي الواجب الوطني على الشباب العامل والأساتذة أن ينحوا في تعليم الناشئة وتثقيفها ناحية قومية وطنية، وقد يجدون في هذا صعوبة، وقد يصادفون أمامهم عقبات، ولكن عليهم أن يجاهدوا ويصرفوا بعضاً من مجهوداتهم في التغلب على ذلك، وفي توجيه التعليم والثقافة توجيهاً يخلق في النشء روح الاعتزاز بالقومية وروح الاعتقاد بالقابلية، يخلق في الناشئ شخصية قوية وكياناً مستقلاً ورجولة مستعدة لتلبية نداء الوطن قادرة على المساهمة في خدمة الحضارة. ويقضي الواجب الوطني على الباحثين أن ينحوا ببحوثهم الناحية القومية، وأن يبينوا للناشئة فضل العرب الكبير على المدينة، وقد تبوءوا مركزاً سامياً لم يتبوأه غيرهم أيام كانوا سائرين على النهج القديم الذي وضعه الرسول وصحبه وخلفاؤه، أيام كان الاهتمام باللباب دون القشور؛ بهذا وحده يمكن أن تنشئ الأمة شباباً مؤمنين عاملين على رفع مستوى البلاد، شباباً مثقفين ثقافة قومية وطنية يعرفون كيف يخدمون الوطن. وهذا هو أقوى سلاح يمكن أن تمد به الأمة الناهضة ليساعدها على خوض غمار هذه الحياة عالية الرأس موفورة الكرامة، وعلى نيل ما تبغي من عز وسؤدد.
وقد يسر القراء الكرام أن يعلموا أن هناك مساعي جدية للشروع في أعمال مشتركة تقوم بها جماعات مثقفة تأخذ على عاتقها الأشغال في ناحية خدمة الأمة عن طريق بعث الثقافة والتعليم القومي، عن طريق بعث الثقافة العربية والإسلامية، عن طريق تشجيع ذوي العقول النيرة والقرائح الخصبة في توجيه بحوثهم ونتاجهم في العلم والفن إلى ناحية قومية وطنية. وقد قام جماعة في نابلس من الشباب المثقف بإنشاء ناد ثقافي أطلقوا عليه أسم
(النادي الثقافي) غايته هي: (إيجاد روابط وصلات بين المتعلمين، والعمل على تأليف قلوبهم وتوحيد جهودهم العلمية والأدبية وتوجيهها توجيهاً قومياً، ورفع مستوى البلد الثقافي والأدبي بطرق مختلفة عملية أهمها المحاضرات والحلقات العلمية وإيجاد مكتبة حافلة بالكتب القيمة. .) وسيجد الناس في هذا النادي وطنية عملية ستعود على البلاد بفوائد جليلة. وكذلك هناك جماعات في نابلس والقدس ويافا وحيفا وبقية البلاد تفكر في مشروع إنشاء لجنة ترجمة وتأليف ونشر على غرار لجنة مصر. والذي نرجوه أن توفق هذه الجماعات في مشاريعها الثقافية، وأن تأخذ بيد الأمة إلى حيث التقدم والمجد ومعارج القوة والعظمة.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
كبرياء الألم
وراحة النفس في الشكوى ولذتها
…
لو أمكنت، لا تساوي ذلة الشاكي
(أسامة بن منقذ)
للأستاذ أمجد الطرابلسي
أتظلُّ تخفق في الأضالع واهياً
…
يا قلب حسبك! لن تراني شاكيا
يا ذلة الباكي! إذا أعداؤُه
…
شمتوا به، والخِل أصبح راثيا
يا ذلة الباكي! لجرحي لاهباً
…
أرضى لنفسيَ يا خفوق ونارِيا
أكتم لهيبك ما تقسمك الأسى
…
لا يرخصن بكاك جرحاً غاليا
واشمخ بأنفك في الخطوب ولا يكن
…
غلف القلوب أشد منك تعاليا
ولْتكرم الألم المخلِّد، ولتكن
…
بلظى تكتمه الضلوع مباهيا
فالكون تضحكه الدموع إذا جرت!
…
أتظل تضحك ذا الزمانَ اللاهيا؟
والمجد للألم الدفين على المدى
…
لا للذي يؤذي المسامع باكيا
والوجد أنبله كمينٌ صامت
…
وأجله ما كان جُرحاً خافيا
كنز من الإلهام لا تلقى له
…
بين الكنوز مشابهاً ومساوياً
يهب الجلال لمن يطيق صيانه
…
والعبقرية والثناَء الباقيا
يا أصدقائي النائحين تجملوا!
…
لا تصبحوا بين الأنام ألاهيا
تبّاً لقلب لم يذق مجد الأسى
…
وبِلىً لقلب لا يملّ تشاكيا
أغلوا الجراح فلن تروا مثل الجوى
…
للعبقرية مُنضجاً ومواتيا
إِن القريض أعز مجداً من فتى
…
يمسي ويُصبح ضارعاً متباكيا
لا يستحق الخلد شِعر ناحب
…
تتقاطر العبرات منه جواريا
يا أيها الشاكي! إلى من تشتكي؟
…
أفأنت مُلْفٍ في الأنام مواسيا؟
وإذا لقيت فإِن في إشفاقه=ورثائه ذلاًّ لنفسك كافيا
أم الطبيعة ما تبث وأُذنها
…
موقورة ما إن تجيب مناديا
تشكو فتعتنق الطيور على الرُّبى
…
بين الغصون ضواحكاً ولواهيا
وتنوح الأزهار وتضحك خلسة
…
والجدول المِطرب يسخر جاريا
هل أسكنت يوماً لشاكي علة
…
طيراً على عرش الأزاهر شاديا
أو حطمت أغصانها لفجيعة
…
أو مزقت حُللاً ترف زواهيا
أوَلم تجيء هذي الطبيعة مرة
…
ولهان تفتقد الحبيب النائيا
كم جئتماها قبلُ كنف الهوى
…
وقضيتما فيها ضحى وأماسيا
الزهر حولكما يرفُّ مهنئاً
…
والطير فوقكما تحوم شواديا
والغصن مخمور يصفق ناثراً
…
قُبَلاً على عطفيكما ولآليا
أودعتماها الذكريات حبيبة
…
تحكي أزاهرها اللطافُ، غواليا
وكتبتما فوق الجذوع مواثقاً
…
ونقشتما فوق الصخور أساميا
واليوم. . .! تأتيها وحيداً شارداً
…
ترجو بمغناها لجرحك آسيا
فانظر إليها! هل رعت ذمم الهوى
…
أو خلدت ذكراً حلَوْن خواليا
سائل! فلست ترى لعهدك ذاكراً
…
وابحث فلست ترى لحبك راعيا
واجزع! فلن تلقى لخطبك جازعا
…
واندب! فلن يلقى بكاك مباليا!
ما بالها تلهو وأنت مكلّم
…
تتلمس الذكرى وعهداً خاليا
إن الطبيعة غادة فتانة
…
لا تعرف القلب الوفي الحانيا!
أحبيبي الغالي، وأنت مخاطبي -!
…
هيا استشفَّ من القصائد ما بيا
هذا القريض يشف عما تحته.
…
أتظن قلبي بعد ذلك ساليا؟
ألهو وأضحك ليس يبصر ناظري
…
ماذا تكنُّ أضالعي وفؤاديا
أتقول: لا يذكي الهيامُ قصائدي!
…
لولا لحاظك ما زكتْ أشعاريا
أقصائد يحملن آلام الهوى!؟
…
يا هونَهن! ولو يكنَّ دراريا
وانا قصيدتك البديعة صغتُها
…
من فيض سِحرك أبحراً وقوافيا
وبخافقي ما لو تقسمه الورى
…
وسع القلوبَ على الزمان خواليا
لكنني أغلى فؤادي أن يرى
…
بين الأنامِ - وأنت فيه - داميا
(دمشق)
أمجد الطرابلسي
ذكرى 17 رمضان:
ثورة بدر
بقلم محمود حسن إسماعيل
مقتطفات منها
خَفَق العرشُ بالنشيدِ المطهرْ
…
فدع الشعرَ والأغاني. . وكبِّرْ!
رجفتْ في الجنانِ كالزعزع القصَّ
…
افِ تدوي بجانبيَّ وتزأرْ
من فجاجِ الغيوبِ هاجت صباحا
…
ثورةٌ في الرمالِ هبّت تُزَمْجِرْ
أقبلت كالعجاجِ في هبوة الحرْ
…
بِ (قُرَيْشٌ) على الحياض تُنَفِّرْ
حَشَدوا موكبَ المنايا وخفوا
…
لِضياء الإلهِ غاوين فّجّرْ
يتراءوْنَ كالصواعِقِِ في الرم
…
ل ووجهُ الضحى من الروعِ أغبر
كالشياطين جلجلت في دجى اللي
…
ل وهاجت في البيد تعوى وتصفر
أرزمت فوقهم سيوفهم، وريعت
…
من تناديهمُ أضاءةٌ وِمغْفر
زلزلوا راسي الفيافي، وراحت
…
منهم البيدُ تقشعر وتذْعَر
ومضى الشرك بينهم مزعج الهي
…
جة طيشانَ كاللظى المتسعِّر
جمَّع الهول كله في يديه
…
ومضى بالحمام في الهول يزفر
إن يكن كبرهُ أجَنَّ البلايا
…
لنبيِّ الإسلام. . . فالله أكبر
وعلى التلِّ خاشع في عريش
…
قُدسيِّ الظلال زاكٍ مُنوِّر
كاد من طيب الجريدُ المحنَّى
…
من ذُبول البلى يميس ويُزهر
هالة تسكُبُ الجلال، وتندى
…
بوميض الهدى يُفيق ويسحر
لو رميت كاسف البصيرة أعمى
…
عاد منها مُبلّج القلب أحور
باسطٌ كفّه إِلى الله يدعو:
…
رَب حُمّ القضا لدينكَ فانْصر
إن أجناديَ البواسل قُل
…
وخميس العدو كالموج يَزخَرْ
خفقة من كرى تجلّتْ عليه
…
مال من طهرها الرِّداء المحبَّرْ
وإذا الوحي بارقٌ مستهلٌّ
…
من سماء الغيوب هَنَّا وبَشّرْ
فانتضى سيْفه وهبَّ على الفا
…
رةِ بالسَّرْمد القويِّ مؤَزّرْ
ينفح القوم بالحصا فتدوِّى
…
أَسلاتُ الإسلام في كل مِنجر
وجنود السماء من كل فَجٍّ
…
غُيّب للعيان في القلب حُضّر
تشعل النار في قلوب المذَاكي
…
وتَؤُج الرجال ناراً تَسعَّر
قوَّةٌ من جوانب العرش هبَّت
…
ذاب من بأسها الحسام المشهّر
و (بلال) يلقى (أُميّة) غضبا
…
ن فيشفى الغليل منه ويثأر
أمس كم حمل الصخور الذَواكي
…
بلهيب الرمضاء تغلي وتسعر
وهو اليوم قاذف صخرَة المو
…
ت. . . عليه تهوى فتردى وتقبر
وأبو جهل جندلته قناة
…
فهوى تحت جندل البيد يزحر
وقف الكفر فوقه يندب الكف
…
ر ويهذي على الرُّفات وَيهذر
لكأني بعظمك الآن يصطكُّ
…
وَيغلي من الأسى وَالتحسُّر
وَشظايا اللسان ندمانة كا
…
دت لنور الهدى حنيناً تكبِّر!
تمرات في كف أعزل جوعا
…
ن هضيم بين الوغى متعثِّرْ
عربيٍّ من شيعة الله وانٍ
…
عن صراع الهيجاء قهراً تأخر
حينما شاهد النبيَّ تلظّت
…
جمرة النصر في حشاه المفتّر
هاج كالعاصف المدمِّر في الجي
…
ش وَأهوى كالموت يبلى ويدحر
سلَّ من روحه حُساماً وَمن إس
…
لامه في مسابح الروع خِنجر
هكَذا نجدة السماء أحالت
…
واهِن الجسم كالعتيِّ المدمر
فإذا النصر صيحة هزت الدني
…
اوراعت بروج كسرى وقيصر
وإِذا (بدر) خفقة في لسان الش
…
رق يزهى على صداها ويفخر
محمود حسن إسماعيل
القصص
قصة واقعية
الغريب. . .
(نالت هذه القصة جائزة قدرها 100 جنيه في مسابقة للقصص
الواقعية في مجلة الإنجليزية)
نقلها عن الإنجليزية
أحمد فتحي مرسي
لا أعلم ما الذي جعلني أشعر بالخوف والوحدة بعد أن امتطى فرانك صهوة جواده ومضى في سبيله ظهر أحد أيام الأحد. . . لقد كان عليّ أن أمكث مع طفلي العزيزين أياماً وأياماً وحيدين في مزرعتنا بين تلك المروج الواسعة، لم يساورني خلالها مثل ما ساورني ذلك اليوم. . ربما كانت الوحدة تخيف بعض النساء؛ بيد أنني قضيت في هذه الجهة ما يقرب من عامين بعيدة عن العالم منفردة عن المجتمع، فضلاً عن إنني نلت قسطاً من التعليم جعلني أنبذ ما تدعيه النساء من خرافات وأباطيل. . . كان هناك ما يقرب من العشرين ميلاً بيننا وبين أقرب جار لنا؛ ولقد كان في تناثر المزارع على هذا الشكل مغنم للصوص ورجال العصابات، فكان الإنسان يقضي أياماً طوالاً دون أن يرى في هذه الناحية وجهاً لإنسان، اللهم إلا أحد رعاة البقر يبحث عن قطيعه الممزق ويجمع أشتات ماشيته المتفرقة، ولكني كثيراً ما قضيت مع فرانك الشهور الطويلة دون أن يقع بصرنا على إنسان ما.
ولقد كانت مصاحبة طفلي العزيزين تجعلني سعيدة قريرة العين. وكان أكبرهما في الثانية من عمره ويدعى بوبي؛ وأما فيل الصغير فقد كان عمره لا يزيد على بضعة أشهر، ولكنه برغم ذلك كان طفلاً هادئاً مريحاً.
ولقد يتساءل البعض: لماذا اخترنا هذه البقعة الموحشة لنقضي فيها ميعة صبانا وزهرة شبابنا؟ فأجيب: منذ حوالي أربع سنوات عندما تزوجت من فرانك، كان يشغل منصباً في أحد البنوك في مدينة ولتون فيل على مسير خمسة وثلاثين ميلاً من مزرعتنا؛ وكان قد
اقتصد قليلا من المال مدة اشتغاله في المصرف. ولم يلبث فرانك طويلاً في المصرف بعد زواجنا؛ فقد أصبح المصرف في غنى عن عمله لضيق أعماله، فأخذ يبحث عن عمل ولكن دون جدوى. . . وأخيراً وجدنا أنفسنا وليس معنا إلا قليل مما اقتصدناه. وكان فرانك قد درس هذه المنطقة ملياً مدة اشتغاله في المصرف، وكانت تحوي الكثير من المزارع التي تصلح لتربية الماشية وزراعة بعض الحاصلات الصيفية.
وفي ركن قصيّ من تلك الأصقاع كانت تقع مزرعة جميلة فيها منزل ريفي بديع الموقع بسيط التأثيث، وبها بئر طيبة المورد عذبة الماء، وحول المنزل قطعة مسورة من الأرض يخيل إليّ أنها كانت حديقة فيما مضى. وأخذنا الفرح بهذه المزرعة، فاشتريناها وبدأنا عملنا فيها.
وكان كلانا في ضحوة شبابه وربيع حياته يتمتع بصحة جيدة وبنية قوية. وكان فرانك لا يعرف الكثير من أحوال المزارع وإدارتها فلازمنا الفشل في أول الأمر - شأن كل من يبدأ عملاً لم يمارسه من قبل - ولكن أدركتنا عناية الله فذللنا كل ما قابلنا من العقبات.
ولد لنا (بوبي) في مدينة ولتون فيل، وأما (فيل) فقد ولد في مزرعة مري وذر على بعد عشرين ميلاً منا. ولقد كانت السيدة مري وذر نعم الأم الحنون البرة مدة إقامتي عندها.
ومضت الأيام تتبع الأيام والشهور تقفو أثر الشهور، ونحن سعيدان بهذه الحياة الهادئة على رغم بعدنا عن العالم وانفرادنا عن المجتمع، إلى أن كان يوم زارنا فيه جار لنا يدعى جيبون، يطلب مساعدة فرانك في إصلاح قطعة من الأرض اشتراها أخيراً. فلما اعتذر له فرانك بأنه ليس لديه جواد، فضلا عن أنه لديه من الأعمال ما يشغله عن ممارسة غيرها، قال غاضباً:
- هذا شيء لا يحتمل! من أين لي أن أجد رجلا آخر في هذه الناحية المقفرة؟ سأعطيك كل ما تطلب من الأجر نظير ترك أعمالك، فضلاً عن أني سأعوضك جواداً خيرا من جوادك.
وبعد نقاش طويل قبل فرانك ما عرضه عليه الجار على أن يدعه يعود إلى المزرعة في أيام السبت والأحد لإنجاز أعماله الهامة. وعلى هذا أصبحت أقضي جل الأسبوع وحيدة إلا من طفلين لا يستطيع أكبرهما أن ينطق. ولكني كنت أعزي نفسي بأن العمل يستغرق
أسابيع يعود بعدها فرانك ومعه المال والجواد.
ولا أكون مبالغة إذا قلت إننا نشعر في حياتنا بسرور قدر ما شعرنا به تلك الليلة عندما عاد فرانك للمرة الأولى يحمل أجرة الأسبوع الأول، فقد خيل إلينا أننا في حلم عندما نثر النقود على المائدة؛ وليس هذا عجيباً، فقد كان كلانا لم ير النقود من زمن غير قليل. قال فرانك:
- أظن أنه ليس في الإمكان السفر إلى ولتون فيل لإيداعها في المصرف قبل أن أنتهي من مساعدة جيبون، وستكون هنا في مأمن. فقلت:
- إذن دعنا نخبئها في مكان ما.
- حسن! ثم وضع النقود في كيس صغير وأعطاها إياي قائلاً:
- ضعيها تحت وعاء الدقيق يا عزيزتي. . . فإذا داخلك الشك يوماً في أحد يحوم حول هذا المكان فاحفري لها في الأرض.
وفي مساء الجمعة التالية زاد قدر ما عندنا من النقود بما أضافه إليها فرانك من أجره الثاني.
وفي صبيحة السبت نهض فرانك مبكراً وأخذ يعمل في المزرعة بجد ونشاط - كعادته في سائر أيام السبت والأحد - حتى إذا كان ظهر الأحد خرج ليسرج جواده ويمضي إلى عمله عند جيبون. . . ولسبب ما داخلني شعور غريب هذه المرة، فقد كنت أريد من أعماق نفسي ألا يذهب وألا يتركني هذه المرة. ولما ضمني ليودعني لم أجد ما أقوله غير هذه الكلمات:
(لا تذهب يا فرانك. . . لا تتركني هذه المرة يا عزيزي) والحقيقة أنني كنت أشعر بشعور خفي، وبدافع من صميم قلبي يدفعني إلى استبقائه بجانبي. لكنه ابتسم قائلاً:
- تشجعي يا عزيزتي. . . سأعود قريباً
ثم انطلق الجواد كالسهم وأنا واقفة أتابعه بنظري وهو يختفي في ظلام من الغبار.
استيقظت في الرابعة من فجر اليوم التالي، لأنه كان يروق لي أن أنجز أعمالي في الصباح الباكر قبل أن يشتد وهج الشمس في سماء الصيف الصافية ويحمرُّ قيظها، فأخرجت الماشية من حظائرها وأوقدت النيران في الموقد، ثم عدت إلى المنزل لأغذي الأطفال، وألقيت وأنا أصعد الدرج نظرة خاطفة على الطريق الذي مضى فيه فرانك أمس. ولشد ما
كانت دهشتي عندما أبصرت من بعيد شبحاً سائراً على قدميه يقترب رويداً رويداً من المزرعة؛ وقد عجبت من ذلك أشد العجب، فهذه أول مرة أرى فيها شخصاً يجوب هذي السهول المترامية سيراً على الأقدام. أسرعت إلى المنزل ووقفت في النافذة وأنا أفكر فيمن يكون ذلك الشخص وما مأربه؟ أهو صاحب مزرعة من اللواتي حولنا يطلب مساعدة؟ ولكن هذا لا يمكن، فكل منهم يملك جواداً على الأقل إن لم يكن يملك مركبة. إذن فهذا الرجل غريب عن الناحية.
ولكن لماذا يأتي الغريب إلى هنا؟ ربما ضل الطريق وأخطأ الجهة التي يقصدها! ولكنه لا يمكن أن يصل إلى هذه الجهة المنفردة دون أن يدرك أنه أخطأ الطريق. . . كل هذه الأفكار كانت تساورني وأنا واقفة في النافذة أرقب الرجل وهو يقترب:
- ترى ماذا يفعل ذلك الرجل لو علم أني وحيدة في ذلك المنزل؟ وماذا يفعل لو عرف شيئاً عن النقود؟
وأخيراً قلت لنفسي: (حسن. ما دام فرانك أخذ دوره وعمل بجد حتى حصل على هذه النقود، يجب أن أخذ دوري في الدفاع عنها) وأسرعت إلى (مسدسي) وكان محشواً، وأيقظت الأطفال حتى لا يزعجهم إطلاق النار. وكان الرجل قد وقف على بعد خمسين خطوة من المنزل يقلب الطرف في الحديقة والدار؛ وبدا لي وجهه مخيفاً مرعباً وملابسه قديمة رثة. على أنه لم يدهشني قط عندما أخرج مسدسه من جيبه ومشى صوب الباب لأني كنت أتوقع ذلك بين لحظة وأخرى. . . . انتظرت حتى أصبح على بعد خطوات من الباب ثم دفعت الباب بقدمي فأصبحت أمامه وجهاً لوجه.
- مكانك وإلا لهبت رأسك!
فوقف الرجل مبهوتاً، ثم أردفت على عجل:
- والآن ماذا تريد؟
- سيدتي! ما أنا إلا رجل فقير جائع؛ أريد قطعة من الخبز أسد بها رمقي، أو أي عمل عندكم أعيش منه. . . ثم تابع كلامه وقد رأى الشك في عيني:
- أنني أمين يا سيدتي؛ لا تسيئي بي الظن
- شكراً لك! إن زوجي قد قام بكل الأعمال، وليس لدي ما أعطيك إياه
- لقد قضيت يا سيدتي يومين سائراً. يعلم الله أني لم أذق في خلالهما شيئاً قط. . . .
وأيقنت من نبراته أنه صادق في كلامه برغم ما داخلني فيه من شك. وقد رأيت أن من الغباء أن أدعه يعمل عندنا ونحن لا نعرف أصله، ولكني لم أعدم شيئاً من العطف على رجل لم يذق الطعام من يومين؛ فقلت له وأنا ما أزال قابضة على المسدس:
- إن ورائي على المائدة وعاء من اللبن وقطعتين من الخبز خذهما وأمض في سبيلك. . فنظر لحظة إلى المسدس قبل أن يجد في نفسه الجراءة الكافية على الدخول، ثم جمع أشتات نفسه ودخل وحمل الطعام ثم خرج متمتماً بكلمات الشكر.
ومضيت في عملي فنسيت ذلك الحادث. وكانت الشمس قد ارتفعت في السماء. فجلست مع بوبي لنتناول الفطور في هدوء وصمت. وفجأة تذكرت أنني لم أجمع بيض الدجاج هذا الصباح، وكانت عادتي أن أجمعه في الصباح الباكر قبل أن تعبث به زواحف القفر. فلما بلغت آخر مجاثم الدجاج طرق سمعي فحيح حاد صادر من الحطب الهشيم الملقى على جوانب المجثم، فعرفت الصوت لساعته وإن كنت لم أسمعه في هذه الجهة من قبل، فهلع قلبي وأسرعت بالعودة، إلا أنني لم أكد أدير وجهي حتى شعرت باللدغة في قدمي اليمنى.
لقد كانت عضة أفعى سوداء كبيرة. وقد جمدت في مكاني لمجرد ذكراها قبل أن تلمحها عيناي المضطربتان وهي تزحف بين الهشيم وأخيراً بلغت المنزل أجر قدمي ورائي وأنا ألهث من التعب، ومزقت الحذاء سريعاً فبدا أثر النابين عميقاً ظاهراً، وكنت أجهل تماماً ما سأفعل وأنا على قاب قوسين من الموت. . . فجعلت أجهد ذاكرتي حتى أصل إلى ما قاله لي فرانك عن علاج مثل هذه الحالة. وأخيراً وجدت ضالتي المنشودة. لقد قال لي: يجب أن تربط الرجل من فوق اللدغة بقليل حتى لا يسري السم مع الدماء، ثم تعالج الإصابة (ببرمنجانات البوتاس). . . وسرعان ما مزقت قطعة من القماش من غطاء المائدة وربطت بها الرجل من فوق اللدغة بقليل ثم قمت أبحث عن الدواء
ولكني تذكرت فجأة أنه لم يبق عندنا منه شيء، فقد استنفذته عن آخره في تطبيب الدجاج في الربيع الماضي ونسيت أن أطلب من فرانك أن يشتري بدله.
عدت إلى المقعد في ذهول وأغمضت عيني وجعلت أفكر وأفكر ولكن دون جدوى. . . . كل ذلك والسم آخذ طريقه في قدمي حتى تصلبت عضلاتها. . . . ماذا افعل وأنا وحيدة مع
طفلين وهناك عشرات الأميال بيني وبين أقرب نجدة؟ وإذا قدر لي الموت فما مصير الطفلين البريئين؟ كانت قدمي تؤلمني ألماً مبرحاً ولا أعلم إن كان ذلك من السم أم من شدة الرباط؟
لم يكن أمامي ثمة شيء ينقذ حياتي وحياة الأطفال إلا أن أحاول أن أذهب معهم إلى (مري وذر). فربما أتمكن من إدراكها قبل فوات الوقت إذا تركت للجواد العنان. . . فقمت أتحامل على نفسي وعلى الحائط؛ ولكن قبل أن أدرك الباب تذكرت شيئاً آخر جعلني أكاد أسقط على الأرض. . . لقد أخذ فرانك الجواد ولسنا نملك غيره. شعرت بأن الدم يكاد يفيض من وجهي، وأنا أعود إلى المقعد في ذهول. . . أأصحب الطفلين وأمضي سائرة على الأقدام؟ ولكن هذا معناه ساعات وساعات دون أن نصل إلى وجهتنا. . . قمت ثانية لأحمل (فيل) ولكني عدت فتذكرت أن قدمي بوبي الصغيرتين لا تحتملان السير أكثر من ميل أو ميل ونصف. . . إذن سأضطر إلى حمل الطفلين في الطريق، وسأبذل من الجهد ما يجعل الدم ينشط والسم يسري فتكون النهاية المحتمة الأليمة: طفلان في القفر في يد القدر بجانب أم ميتة.
يا ألهي! ماذا أفعل وهذا الموت المحقق يسير في عروقي، وعن قريب أصير في عداد الأموات. . . ولكن الطفلان ما مصيرهما؟ الموت دون شك. . وإذا كان لابد من الموت فلم لا أسرع حتى أخلص من عذاب النفس الممض وعذاب الجسم المبرح؟. . . لم لا أسرع بالقضاء على نفسي وعلى الطفلين حتى نستريح جميعاً؟. . . خففت قليلاً من وطأة الرباط فلم تعد ترجى منه فائدة، وتناولت قلماً وورقة من المكتب ثم جلست أكتب لفرانك ظهر الاثنين:
عزيزي فرانك:
لقد لدغتني أفعى سامة كبيرة. ولم أجد لها علاجاً ناجعاً ولا يمكنني أن أعيش أكثر من بضع ساعات. أما الطفلان فلا أظنهما يلبثان على قيد الحياة إلى حين حضورك. لذلك سأفعل الأمر الوحيد الذي يمكنني أن أفعله في هذه الحالة فأريح نفسي والطفلين من العذاب الأليم. وأتمنى لك حياة طويلة سعيدة.
عزيزتك
روز ماري
ووضعت الورقة على المائدة ثم تناولت المسدس، واقتربت من طفلي فيل وكان مستغرقاً في نومه فركعت بجانبه ثم طبعت على جبينه قبلة حارة وصوبت (المسدس) إلى رأسه بيد مرتعشة، ثم أغمضت عيني لأطلق النار. . .
- بحق السماء ماذا تفعلين يا سيدتي. . .؟
اضطرب (المسدس) في يدي وتلفت إلى مصدر الصوت في جزع فإذا الرجل الغريب الذي رأيته في الصباح واقفاً بالباب ينظر إلي تارة والى المسدس أخرى. . ثم تقدم أخيراً فقبض على المسدس من يدي وألقاه على المائدة، ثم تابع كلامه قائلاً - أتقدمين على قتل هذا الطفل البريء؟
- نعم أقدم على ذلك
- أمجنونة أنت؟
- كلا. . . لقد لدغتني أفعى سوداء سامة وأدركت أن الموت من نصيبي وأيقنت أن الطفل سيموت جوعاً ففضلت أن نموت سوياً
- أفعى سوداء! قالها وتقدم إلي في سرعة فرفعني من مكاني وأضجعني على المقعد ثم أخرج من جيبه سكيناً حاداً رسم بها دائرة حول أثر النابين، ثم أخذ يضغط الجرح بشدة حتى سالت الدماء وفاضت على جوانبه. . . ثم نهض مسرعاً وجذب قضيباً من الحديد كان ملقى على المائدة، ثم سأل:
- أين الموقد؟
- وراءك إلى اليمين. فأسرع إليه ووضع القضيب في النار إلى أن أحمر طرفه ثم عاد إلي قائلاً:
- يعز علي أن أفعل ما أنا مقدم عليه، ولكن هذا هو العلاج الوحيد. ولما انتهى من كي الجرح أحضر لي جرعة من الماء. ثم تبع ذلك صمت طويل قطعه أخيراً بقوله:
- لقد توسمت فيك الشجاعة هذا الصباح يا سيدتي. وقد رأيتها الآن رأي العين؛ وأظن أنك ستشعرين بألم مبرح بضعة أيام يزول بعدها كل شئ. ورانت على الغرفة فترة أخرى من الصمت ثم قال أخيراً في هدوء وتؤدة:
- لا يمكنني على ما أظن أن أمضي وأتركك على ما أنت عليه. . . ثم أردف باسماً:
- إنه ليبدو عجباً أن أحضر إلى هنا رغبة في الاستيلاء على أموال زوجك وقتلك إذا دعت الحال، فإذا بي أساعدك وأسهر عليك وأعني بمرضك كما لو كنت صديقاً حميماً!
وأظن أن آخر شئ يمكنني أن أذكره قبل أن يأخذني الإغماء هو صورة الغريب في يده وعاء اللبن وهو ذاهب لحلب البقرة وبوبي يقفز حوله في سرور. أما فيل فقد كان مستغرقاً في سباته، وكانت الشمس قد آذنت بالغروب. . . ثم أظلم المكان في عينيّ ولم أشعر بما يجري حولي، اللهم إلا أشباحاً تتراقص، وأيدياً تلوّح، وأصواتاً تدوي. . .
حينما أفقت من الإغماء كان الوقت ظهراً والسجُف مرخاة على النوافذ والغرفة خالية إلا مني ومن بوبي الذي كان جالساً يأكل في أحد الأركان في سرور جعلني أشعر بمثله.
- أظنك تشعرين الآن ببعض التحسن يا سيدتي. . . كان ذلك صوت الرجل الغريب، فتلفت فإذا به واقف بجانب السرير ينظر إلي في حنان وعطف. فسألته:
- في أي يوم نحن الآن؟
- الأربعاء يا سيدتي
وفي مساء الجمعة وكان قد ثاب إلي بعض صحتي ونشاطي؛ وكان بوبي وفيل قد أخذتهما سنة من النوم، قال لي الغريب:
- في أي وقت تتوقعين حضور زوجك يا سيدتي؟
- إنه يصل عادة بعد التاسعة بقليل
- إذن يجب عليّ أن أذهب، ولكن لن أتركك حتى أسمع وقع حوافر جواده
- ولكن لماذا؟ قد يرغب فرانك في رؤيتك ليقول لك شيئاً
- شكراً، أني أعلم ما سيقوله لي
- إذن دعني أمنحك قليلاً من المال، أنه لشيء تافه بجانب ما تكبدته لإنقاذي وإنقاذ الطفلين. . ثم قمت لأحضر النقود، ولكنه أعترض سبيلي قائلاً:
- أرجوك الجلوس يا سيدتي - لقد كانت النقود في متناول يدي طول أيام الأسبوع، ولكني لم ألمسها ولن أمسها. . .! ثم خيم على الغرفة صمت طويل قطعه أخيراً وقع حوافر جواد قادم في الطريق، فقام الرجل وسار نحو الباب في خطوات متزنة ثم اختفى بين طيات
الظلام.
قصصت على فرانك القصة فما انتهيت منها حتى أبتدر الباب باحثاً عن الرجل، ولكني استوقفته وأخبرته أن من العسير أن يعثر عليه في هذا الظلام الحالك، فرجع آسفاً. ومنذ ذلك الحين ونحن نتمنى لو تتاح لنا فرصة نشكر فيها ذلك الغريب ونوليه أضعاف جميله؟
أحمد فتحي مرسي
البريد الأدبي
قانون جديد للصحافة في فرنسا
صدر أخيراً قانون جديد للصحافة في فرنسا يرمي إلى وضع حد لذلك الإغراق التي انتهت إليه بعض الصحف المتطرفة في شأن الأنباء الكاذبة والمقالات القاذفة؛ وكان صدوره على أثر انتحار المسيو سالنجر وزير الداخلية الذي لبث مدى أشهر هدفاً لحملات بعض الصحف المتطرفة مثل (جرينجوار) و (لاكسيون فرانسيز)، فقد استمرت هذه الصحف تنشر عنه وعن ماضيه كثيراً من الأخبار والمطاعن المثيرة، وتطعن في وطنيته ونزاهته وإخلاصه لوطنه. ومع أن اللجنة الخاصة التي ألفت لبحث ماضي المسيو سالنجرو قد انتهت بتقرير بطلان هذه التهم جميعاً، ومع أن البرلمان ذاته قد انتهى بتبرئته وإعلان تقديره لوطنيته، فأن هذه الصحف القاذفة لم تنقطع عن مطاردته حتى سقط صريعاً في الميدان. فبادرت الحكومة باستصدار القانون الجديد، وهو يرمي إلى أغراض ثلاثة: الأول قمع الأخبار الكاذبة؛ والثاني منع المطاعن والحملات القاذفة؛ والثالث وضع رقابة فعلية على المصادر المالية للصحف، نظراً لما ثبت من أن كثيراً من الصحف تندفع بتأثير ما تتناوله من الإعانات المالية إلى إثارة الخصومات السياسية والمطاعن الشخصية دون اكتراث للنتائج والشخصيات. وبناء عليه يجب أن تقوم الصحف من الآن فصاعداً في شكل شركات مساهمة، وأن يعتبر مديروها كما يعتبر محرروها مسؤولين عما يظهر في الجريدة.
وقد كانت الحملات الصحفية القاذفة تعرقل كثيراً من أعمال الحكومات، وكانت الحكومات المختلفة تفكر في إصدار مثل هذا القانون منذ زمن طويل، ولكنها تتراجع دائماً، حتى جاءت الحكومة الاشتراكية ووقعت حادثة مسيو سالنجو. ومن الغريب أن تكون الحكومة الاشتراكية هي التي اضطلعت بإصدار مثل هذا القانون المقيد للحرية، ولكنها في الواقع أصدرته لحاجة ماسة. ذلك أن الإسراف في نشر الأنباء الكاذبة والحملات القاذفة قد وصل إلى حدود لا يمكن احتمالها، وكثرت الصحف القاذفة التي تعيش من الطعن في الأشخاص والجماعات؛ والقذف معاقب عليه في القانون الفرنسي دائماً، ولكن القانون الجديد يعتبر القذف واقعاً في جميع الأحوال إذا كان يمس الهيئات الرسمية أو الأشخاص الذين تشير
إليهم المادة 35 من قانون سنة 1881؛ وقد نص في القانون الجديد على تقصير الإجراءات حتى يقع العقاب المنشود بالقاذفين بسرعة، ونص فيه على عقوبات مالية فادحة إلى جانب العقوبات المقيدة للحرية وما نص عليه من تعطيل الصحيفة. وقد أثيرت حول القانون الجديد اعتراضات كثيرة أهمها أنه لا يمكن إجراء الرقابة المالية المنشودة دون الإضرار بكثير من الصحف النزيهة المخلصة وعرقلة تقدمها، وإنه يخشى أن تعمد الهيئات التي تستتر وراء الصحف القاذفة إلى تزويدها برجال من قش يحكم عليهم دون أن ينال هذه الهيئات شيئاً ودون أن تقطع معونتها على الصحيفة المحكوم عليها. ثم إنهم يخشون جداً من عدم استقلال القضاء الفرنسي وميله مع الاتجاهات السياسية. بيد أن الحكومة الاشتراكية تتمتع في إصدار هذا القانون بكثرة من كل أولئك الذين يقدرون قيمة النزاهة والإخلاص والتعفف عن المطاعن القاذفة في صناعة القلم التي يجب أن ترتفع عن الاستغلال في الخصومات الدنيئة.
كارل فون أوستيسكي أيضاً
بسطنا في العدد الماضي كارل فون أوستيسكي الكاتب الألماني الكبير الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عن سنة 1935، والذي اعتبرت الحكومة الألمانية فوزه بهذا الشرف تحدياً لها لأنها تعتبره خائناً، لما كان يكتبه من مقالات في الدعوة إلى السلام ونزع السلاح؛ وقد أرادت أن تعتقله منذ سنة 1933، ولكنها اضطرت إزاء اشتداد العطف الدولي عليه أن تطلق سراحه، فغادر المستشفى مريضاً منهوكاً حيث يعالج الآن. وقد اطلعنا أخيراً في جريدة (بازلر ناخرختن) السويسرية على حديث جرى لمكاتبها البرليني مع هذا الكاتب الشهير بإذن السلطات الألمانية، خلاصته أن فون أوستيسكي حينما نقل إليه خبر فوزه أبرق إلى الأكاديمية السويدية بقبول الجائزة، وبأنه سيأتي بنفسه إلى استوكهلم ليلقي خطبة القبول؛ بيد أنه سيحاول جهد استطاعته أن يكون واسطة لتحسين العلائق بين ألمانيا والسويد. ويصرح فون أوستيسكي بأنه ما زال على عقيدته السلمية يدعو إلى تفاهم المم، وأن الدعوة إلى السلم إنما هي في مصلحة وطنه، وأنها تتجه إلى جميع الأمم التي تبالغ في التسليح مثل روسيا السوفيتية؛ وأنه حين يغادر ألمانيا لن يعود إليها بعد. على أنه لا يريد قط أن يكون فوزه بجائزة السلام مدعاة لمظاهر سياسية؛ وأنه يأسف كل الأسف إذ كان
فوزه بهذه الجائزة مثاراً للمناقشين بين السويد وألمانيا. ويأسف بنوع خاص لأنه كان موضع حملة من الشاعر النرويجي الكبير كنود هامبسون.
والظاهر أن الحكومة الألمانية قد اقتنعت أخيراً بإطلاق سراح الكاتب الكبير نهائياً، ورأت أن ليس في صالحها أن يطول أمد اعتقاله؛ وقد كان الكاتب عند وطنيته وإخلاصه لوطنه على رغم ما لحقه من صنوف الأذى طيلة هذه الأعوام.
نقل الآداب الأوربية إلى الأدب العربي
ذكرنا من قبل في إحدى افتتاحيات (الرسالة) أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أعدت مشروعاً لنقل الآداب الغربية إلى الأدب العربي؛ ويسرنا أن نذكر اليوم أن وزارة المعارف العمومية قابلت هذا المشروع بما يستحقه من التقدير والعناية، فقررت أن تساعد اللجنة على تحقيقه بخمسمائة جنيه في ميزانية هذا العام، تزيدها إلى ألف جنيه في ميزانية العام المقبل (على أن يشرف على هذا المشروع لجنة من حضرات الأساتذة الدكتور طه حسين ومصطفى عبد الرزاق وأحمد أمين مع الاستعانة بالعناصر الأجنبية للإرشاد عن خير المنتجات الأوربية في اللغات الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والألمانية). وبعد عطلة العيد ستجتمع اللجنة لتنتخب الأساتذة الذين يناط بهم تنفيذ هذا العمل الخطير تمهيداً للسير فيه.
وفاة لويجي بيراندللو
توفى في صباح يوم الخميس الماضي الكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو على أثر إصابته بالتهاب الرئة. وهو زعيم الأدب المسرحي في إيطاليا من غير منازع، وصاحب المذهب الفني المعروف بمذهب الفكاهة أو نسبة إليه. وقد ولد في أجريجانتي بجزيرة صقلية في سنة 1867 ودرس الأدب في روما ثم سافر إلى ألمانيا فحصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة (بُن). ولما رجع إلى بلاده عين أستاذاً في المدرسة العليا للبنات فظل فيها من عام 1897 إلى عام 1921، وكان في خلال ذلك يؤلف القصص والروايات وينشرها حتى بلغ إنتاجه أربعمائة أقصوصة وثلاثين رواية. وفي سنة 1934 نال جائزة نوبل للآداب، وبهذه المناسبة نشرت (الرسالة) عنه فصلاً تحليلياً إضافياً في عددها الرابع والسبعين فارجع إليه إن شئت المزيد.
كلمة حول زارا وتحقيق نسبته
كتاب (زاراتسترا) للفيلسوف الشاعر الألماني (فردريك نيتشه) الذي تنشر ترجمته (الرسالة) من مؤلفات الذائعة الصيت في عالم الثقافة الغربية، ويعدُّ هذا الكتاب بل (الديوان) أعظم أثر شعري في العصر الحديث. وقد قيل فيه إنه لم ينتج شاعر في العصر الحديث أثراً يضارع ما حوته دفتا هذا الكتاب! وحسبك أن تعلم أن الموسيقي الألماني الشهير (ريشارد شتراوس) قد لحنه موسيقياً.
وبلغ من تأثير هذا الكتاب أن عُدَّ مسؤولاً إلى حد كبير عن إذكاء تلك الروح التي حفزت الشباب الألماني ودفعته إلى خوض غمار الحرب الكبرى، ولم يقتصر أثر هذا الكتاب على كثير من عقول مفكري الغرب، بل تناول كثيرين من مفكري الشرق. فالشاعر الهندي الفيلسوف محمد إقبال قد تأثر به إلى حد كبير تحسه في كتبه (أسرار الذاتية) و (أسرار اللاذاتية). . . وما دعوة الجهاد الإسلامي التي يريد إحياءها (إقبال) ولا يفتأ يرددها ويدعو إليها إلا أثر من آراء نيتشه وفلسفته في تمجيد القوة والدعوة إلى (السوبرمان).
وجبران خليل جبران الشاعر اللبناني ينهج في كتابه (النبي) نهجاً يشابه طريقه الفيلسوف الألماني، وهو إن خالفه في الروح والمبادئ فانه يشابهه في الأسلوب وطريقة الأداء التي يتميز بها كتاب (زاراتسترا)، وقد تبوّأ هذا الكتاب مكانه في التفكير الغربي كإنجيل جديد يبشر بمذهب جديد في الحياة وغايتهم على الأرض، مذهب هو أقرب إلى الدعوات الدينية منه إلى المذاهب الفكرية الفلسفية.
وقد دعاني إلى كتابة هذه الكلمات ما رأيته من خلاف في نسبة (زارا). على أن كل المصادر مجمعة على نسبته إلى ولكن الخلاف هو في تفسير هذا؛ فالمستر في مقدمة الترجمة الإنجليزية طبعة ' يشير إلى أنه زرادشت صاحب الديانة الفارسية القديمة، وهكذا أيضاً تفسره دائرة المعارف الفرنسية وأما دائرة المعارف البريطانية فلم أجد بها ما يفسره.
على أنه توجد طبعة لترجمة إنجليزية أخرى بدار الكتب المصرية بالقاهرة تفسر هذا الاسم بأنه لأحد آلهة الإغريق القدماء يدعى ولست أدري المصدر الذي استقى منه محرر مقدمة هذه الطبعة. على أن هذا الرأي كفيل أن يسترعي منا كل عناية واعتبار، لأنه من المعلوم
أن نيتشه كان متضلِّعاً في الثقافة الإغريقية؛ ثم إنه يدين للإغريق بكثير من إنتاجه وفلسفته؛ وتأثره بآلهة الإغريق عميق ولا سيما الإله ديونيزوس إله الخمر، وقد أسهب في هذه النقطة البروفسور ليشتنبرجر في كتابه عن نيتشه المسمى (إنجيل السوبرمان)
فلا نستبعد أن يكون نيتشه قد نسب بطل كتابه إلى هذا الإله الإغريقي القديم اعترافاً منه بفضل الثقافة الإغريقية وتمجيداً لها. وهذا موضوع من الفائدة بمكان لو تبارت فيه عقول المحققين لتجلو غامضة وتظهر حقيقته؛ وإنه لخليق بمجلة البحث والفكر (الرسالة) الغراء.
(المنصورة)
محمد فهمي
الكتب
كتاب باب القمر
تأليف الأستاذ إبراهيم رمزي
بقلم الأستاذ محمد فريد أبو حديد
ماذا أسميه؟ أأسميه قصة؟ إنني إن فعلت فلن أعدو الحقيقة إذ هو في الواقع قصة فيها ما في القصص عادة من مداخل الخيال وطلاوته. ففيها لمياء ابنة الحارث بن كلدة، تلك الصورة الحية الناطقة التي لا يسع قارئ القصة إلا أن يتمثلها ويحس ما تحسه من أشجان. فتاة عربية رومية تجمع ثقافة الإغريق وصفاء نفس العرب، وتتمثل فيها فضائل المدنية وفضائل البداوة جنباً إلى جنب. وفيها ورقة ابن العفيفة، ذلك الفتى العربي النبيل الذي يتقلب في بلاد العرب وفيما حولها حتى ينتهي به التجوال إلى الإسكندرية فيصبح فيها أمين الحاكم وكبير حراسه. وهذان هما الشخصان اللذان قد حيكت حولهما حوادث القصة على ما ألف الناس في القصص من دوافع العواطف الشريفة وخوالج النفوس المضطرمة؛ على أنني لا أملك إلا أن أعقب على هذا القول لأحدد منه. فان هذا الكتاب ليس على ما يفهم من القصة المحض، فان المؤلف قد جعل إلى سداه القصصي لحمة من التاريخ المصفى الذي لا يخطئ القارئ إذا اعتمد عليه ووثق من حقائقه، فهو يصور حال بلاد العرب في أول أيام البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، فابتدأ في نجران وصور ما كانت عليه حال تلك المدينة القديمة ومكان الأسقف المسيحي منها؛ ثم هبط اليمن مع قوافل التجار التي تيمم الشمال في رحلاتها المنتظمة حتى بلغ معها بلاد الحجاز فصور مكان النبي عليه الصلاة والسلام في أوائل سني البعثة وصور صحابته تصويراً لا أظن ريشة المصور تبدع خيراً منه، كما صور أعداءه وشتى وسائل عداوتهم له إلى حصارهم إياه في الشِّعب على ما هو معروف في كتب السيرة؛ وعبر بعد ذلك إلى الشام فعرض صورة لدولة الروم وهي تناضل الفرس ذلك النضال الهائل الذي غلبت فيه في أدنى الأرض، وعرض بعدها صورة ثانية لمصر والإسكندرية وبين ما كان فيها من اضطراب وأحزاب إلى أن دخلتها جيوش فارس بتدبير بعض الخونة مثل بطرس
البحريني المنافق.
فصور القصة قد تدخلت فيها صور التاريخ تدخلاً عجيباً كان من أثره أن جليت للعصر صفحة واضحة يكاد قارئها يحس أنه يحيا بين أهله ويتنفس في جوهم.
ولست بمستطيع في هذه الكلمة الموجزة أن أذكر كل من جلاهم ذلك الكتاب القيم من شخصيات التاريخ، فانك لا تكاد تجد اسماً من الأسماء المعروفة في هذه الفترة لم يبرزه في ناحية منه ويصور له صورة حية؛ ولكن شخصيتين من هذه الشخصيات كانتا مثالاً عالياً في التصوير الأدبي؛ ولعل المؤلف النابه قد قصد منهما أن يكونا رمزين للحزبين المتناضلين: حزب الرسول وحزب قريش، ألا وهما حمزة بن عبد المطلب رمز المسلمين، والنضر بن الحارث الطبيب رمز المكذبين من قريش. وأما أشخاص غير العرب فقد أبدع في تصوير بعضهم إبداعاً عظيماً، ومن هؤلاء بطرس البحريني الذي قيل إنه كان آلة الفرس في فتح الإسكندرية بالخديعة والخيانة.
وإذا كان المؤلف الفاضل قد جمع يبن القصة والتاريخ هذا الجمع فانه لم يقع في خطأ وقع فيه كثير من القصصيين، وذلك هو الخلط بين الخيال والحقيقة وما يترتب على ذلك من تشويه لكليهما، فانه حرص على أن تكون وقائع التاريخ كلها صحيحة، وبالغ في ذلك فجعل في هامش القصة ذكر بعض المراجع وبعض فقرات الإيضاح، واحتاط عند ذكر ما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام، فما وقع منه فعلاً نسبه كما جاء في كتب السيرة، وأما ما كان فيه مدخل للخيال فقد قاتل فيه:(واخاله قد فعل). فهذا الكتاب حلقة مجيدة ظهرت في الأيام الأخيرة لبعض أعلام الأدب الحديث.
وإنا إذا رأينا هذه النهضة المحمودة في إيراد حوادث التاريخ على هذا الأسلوب كان علينا أن نبتهج ونغتبط وأن نشكر هؤلاء الأدباء الأعلام الذين يمهدون لجمهور القراء مثل هذا الغذاء العقلي السليم. ولا أظن إن في استطاعة أحد أن يكافئ هؤلاء الأفاضل على ذلك المجهود الكبير، اللهم إلا أن يكون رضاؤهم عن أنفسهم وشعورهم بأنه قد أدوا للناس خدمة أدبية تفيد لغتهم الشريفة، وتعمل على إعلاء نهضتهم المباركة. (فعلى هامش السيرة) للأستاذ الكبير الدكتور طه حسين و (محمد) للأديب الكبير توفيق الحكيم و (باب القمر) للأديب الكبير إبراهيم رمزي ثلاثة أعوام يجدر بالعصر الحديث أن يفاخر بها.
ولقد حاولت في قراءتي لهذه القصة التاريخية أن أجد مأخذاً أدخله إلى مقالي حتى لا يكون كله صورة من الإعجاب الذي ملك على نفسي فلن أظفر من ذلك إلا برأي أظنه جديراً بأن يعرض، وهو أن الاستطراد الكثير في سياق القصة كان كثيراً ما يضيع شيئاً من تماسكها.
وأمر آخر لمحته في بعض المواضع وهو أن بعض القول كان على غير ما يمليه الطبع. ومن ذلك أن سيدة كانت في موقف حزن عميق إذ فقدت زوجها وولدها (فخنقتها العبرات وتحدرت الدموع على خديها متداركة كقطرات السقاء المخلخل، ولم يستطع ورقة (الذي كان في موقف الصديق) أن يحبس دمعه لدن هذا المنظر المؤلم فبكى لبكائها ثم تملك نفسه يقول: هوني عليك يا سيدتي. لا تضعفي نفسك بهذا الوجد، أنت شابة وسرية كما أرى، وستشرق عليك شمس حياة طيبة جديدة يوم تعودين إلى الإسكندرية، وسيكون لك أولاداً وزوج تحبينه. إن الله واسع الرحمة. ما أرجو منك إلا أن تضعي أمور الدنيا أمامك كما تضعين الكتاب، وتقرئي فستجدين في هذا الكتاب مخطوطاً بقلم عريض كبير: لا تنظري إلى الوراء: انظري إلى الأمام. إذا ورد عليك فكر مؤلم فرديه بيدك وسيري إلى الأمام لتبلغي ما تعده الدنيا لشبابك وجمالك من النعمة والمتعة التي تنسين بها كل ما مضى الخ). وإنني لأظن إن هذا القول ما كان يلائم أن يقال في مثل هذا الموقف ولا سيما من قائله (ورقة). على أنني أرى مع ذلك إن مثل هذا النقد ناشئ من اختلاف في النظر والتفكير، وما ينبغي أن يتفق الناس في مثل هذه الأمور كل الاتفاق.
وأما لغة الكاتب فأنها اللغة الجديرة بكاتب مجيد كإبراهيم رمزي جمع إلى لباقة الفنان الأديب. فمرحباً بذلك الفتح الجديد في الأدب العربي. وما أحرانا أن نهنئ الأديب الكبير بنجاحه الباهر في قصته، وأن نستنجزه الوعد الذي وعد به في آخرها أن يتحفنا بباب الشمس بعد أن أمتعنا بباب القمر.
في المسرح المصري
الفرقة القومية المصرية
وسياسة إعداد المخرجين
لناقد الرسالة الفني
تحدثنا في العدد الماضي عن بعثات التمثيل إلى أوربا وانتخاب اللجنة لأربعة من الأعضاء؛ اثنين من الممثلين واثنين من غيرهم. ونزيد اليوم إن أسماء هؤلاء الأعضاء قد أذيعت، وقد استولت الدهشة على كل المتصلين بالمسرح والذين يعنون بشؤونه، لأن اللجنة ترسل واحداً إلى إنجلترا لدراسة المناظر المسرحية وتصميمها، وبقية الأعضاء إلى ألمانيا وفرنسا لدراسة فن الإخراج والتمثيل ولم ترسل أحداً إلى إنجلترا في حين أنها في مستهل الموسم أذاعت على الممثلين إنها ترى أن ينهجوا على الطريقة الإنجليزية في أداء الأدوار لأنها أجدى على الفن؛ وهذا اعتراف صريح بما للمسرح الإنجليزي من مكانة تفوق مكانة المسارح الأخرى.
والثقافة الإنجليزية هي الثقافة الغالبة والسائدة الآن ولا سيما بين الشبان منذ أصبحت الإنجليزية اللغة الأوربية الأولى في المدارس المصرية. والأدب المسرحي الإنجليزي لا يقوم على العواطف والحب والصلات غير الشريفة كالأدب المسرحي الفرنسي، بل هو يعالج الشؤون الاجتماعية والدراسات النفسية والآراء الإصلاحية، ولذلك يحتاج إلى وسائل خاصة في إخراج رواياته.
ولست في حاجة إلى القول بان المسرح الإنجليزي يقوم على البساطة في وسائله وطرق إخراجه، فقد رأينا فيما تعرضه الفرق الإنجليزية على مسرح الأوبرا الملكية بالقاهرة شواهد عدة وهو في هذا عكس المسرح الفرنسي الذي يقوم على الصناعة والمغالاة والتعقيد في الإخراج. هذا إلى إن الإضاءة المسرحية في إنجلترا قد تقدمت حتى بزت جميع المسارح الأوربية. فإزاء هذا نرى من واجب اللجنة أن تبعث بأحد الممثلين الذين يجيدون الإنجليزية إلى لندن ليدرس الفن هناك.
وإنما طالبت بأن يكون المبعوث ممثلاً لا متعلماً أياً كان لإن الممثل أقدر من غير على تفهم
وسائل الإخراج والقيام بهذه المهمة فيما بعد، فان من الصعب على غير الممثل وهو يخرج رواية أن يرشد الممثلين إلى أداء الأدوار أداء صحيحاً أو رد أي ممثل إلى حدوده الشخصية إذا ما خرج أو شذ عنها.
ولقد أزددنا دهشة حين لم نجد اسم الممثل الأستاذ أحمد علام بين أعضاء البعثة، ففي تخطي اللجنة له إلى غيره من الممثلين وغير الممثلين قسوة وإنكار لجهوده الطويلة ومواهبه العظيمة؛ فأعضاء اللجنة المحترمون أكثر من غيرهم معرفة بمكانته الدبية وثقافته الإنجليزية واطلاعه الواسع على فنون المسرح، ومكتبته عامرة بكتب الفن الإنجليزية التي ازدحمت هوامشها بالملاحظات الجديرة بالتقدير، كما تعلم إن وزارة المعارف قد عهدت إليه بتدريس الفن المسرحي في مدارسها الأميرية، فقام بالمهمة خير قيام، وهو كممثل من أقدر الممثلين، فأدواره في رمسيس منذ عام 1926 تشهد بنبوغه، فلا يستطيع إنسان أن ينكر أدواره في روايات: اللهب، والذئاب، والإغراء، وتوسكا، والشرف، وغرام الوحش؛ ولنجاحه المنقطع النظير في فرقة السيدة فاطمة رشدي في روايات: الحب المحرم، والبعث، ويوسف الصديق، ومجنون ليلى.
ولقد أرسلته وزارة المعارف عام 1931 في بعثة صيفية إلى إنجلترا، فمن الواجب أن تعاونه اللجنة على إتمام دراسته، ولا أظن إن هنالك مجالاً للاعتذار لأن بقائه تعزيزاً لقوة الفرقة القومية، فالواقع يؤيد أنها لا تنتفع به كما يجب فهو حتى اليوم لم يظهر على المسرح ولا ينتظر ظهوره حتى الرواية الرابعة، وعلى اللجنة ألا تنظر إلى المنفعة القريبة بل تنظر للمستقبل، وتعمل للبناء حتى يمكنها أن تجني ثمار جهودها الكبيرة.
هذه كلمة دفعنا إليها حبنا للمسرح نرجو أن يكون لها أثرها.
يوسف