المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 181 - بتاريخ: 21 - 12 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٨١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 181

- بتاريخ: 21 - 12 - 1936

ص: -1

‌اللسان المرقع.

. .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وقال صاحب سر (م) باشا: جاء (حضرة صاحب السعادة) فلان لزيارة الباشا؛ وهو رجل مصري ولد في بعض القُرى، ما نعلم أن الله تعالى ميزه بجوهر غير الجوهر، ولا طبع غير الطبع، ولا تركيب غير التركيب، ولا زاد في دمه نقطة زهوٍ ولا وضعه موضع الوسط بين فَنَّين من الخليقة. غير أنه زار فرنسا، وطاف بإنجلترا، وساح في إيطاليا، وعاج على ألمانيا، ولون نفسه ألواناً، فهو مصري ملون. ومن ثم كان لا يرى في بلاده وقومه إلا الفروق بين ما هنا وبين ما هناك، فما يظهر له دين قومه إلا مقابلاً لشهوات أحبها وغامر فيها، ولا لغة قومه إلا مقرونة بلغة أخرى ودَّ لو كان من أهلها، ولا تاريخُ قومه إلا مغمى عليه. . . كالميت بين تواريخ الأمم

هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعَّمين: مصري المال فقط، إذ كانت أسبابهم ومستغلاتهم في مصر؛ عربيُّ الاسم لا غير، إذ كانت أسماؤهم من جناية أهلهم بالطبيعة؛ مُسلُم ما مضى دون ما هو حاضر، إذ كان لا حيلة في أنسابهم التي انحدروا منها

هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعِّمين المفتونين بالمدنية، لكل منهم جنسه المصريَُ ولفكره جنس آخر

قال: وكان حضرة صاحب السعادة يكلم الباشا بالعربية التي تلعنها العربية، مرتفعاً بها عن لغة الفصيح ارتفاعاً منحطاً. . . نازلاً بها عن لغة السوقة نزولاً عالياً. . . فكان يرتضخ لكنة أعجميةً بينا هي في بعض الألفاظ جرسٌ عال يطن، إذا هي في لفظ آخر صوت مريض يئنّ، إذا هي في كلمة ثالثة نغم موسيقي يرن. ورأيته يتكلف نسيان بعض الجمل العربية ليلوي لسانه بغيرها من الفرنسية، لا تظرفاً ولا تملحاً ولا إظهاراً لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه. فكانت وطنية عقله تأبى إلا أن تكذِّب وطنية لسانه، وهو بإحداهما زائفٌ على قومه، وبالأخرى زائف على غير قومه.

فلما انصرف الرجل قال الباشا: أفٍّ لهذا وأمثال هذا! أفٍ لهم ولما يصنعون! إن هذا الكبير يلقبونه (حضرة صاحب السعادة)، ولأشرفُ منه والله رجلٌ قرويُ ساذج يكون لقبه (حضرة صاحب الجاموسة). . . . نعم إن الفلاح عندنا جاهل علم، ولكن هذا أقبح منه جهلاً فانه

ص: 1

جاهلُ وطنية

ثم إن الجاموسة وصاحبها عاملان دائبان مخلصان للوطن؛ فما هو عمل حضرة (صاحب اللسان المرقع) هذا؟ إن عمله أن يعلن برطانته الأجنبية أن لغة وطنه ذليلة مهبنة، وأنه متجرد من الروح السياسي للغة قومه إذ لا يظهر الروح السياسي للغةٍ ما إلا في الحرص عليها وتقديمها على سواها

كان الواجبُ على مثل هذا ألا يتكلم في بلاده إلا بلغته، وكان الذي هو أوجبُ أن يتعصب لها على كل لغة تزاحمها في أرضها، فترك هذا وهذا وكان هو المزاحم بنفسه؛ فهو على أنه (حضرة صاحب سعادة) لا يُنزل نفسه من اللغة القومية إلا منزلة خادم أجنبي في حانة

أتدري ما هو سر هؤلاء الكبراء وهؤلاء السَّراة الذين يطمطمون إذا تكلموا فيما بينهم؟ إنهم عندنا طبقات:

أما واحدة فأنهم يصنعون هذا الصنيع منجذبين إلى أصل راسخ في طباعهم مما تركه الظلم والاستبداد والحمق في زمن الحكم التركي. فهم يُبدون جوهرَ نفوسهم لأعينهم وأعين الناس، كأن اللغة الأجنبية فيما بينهم علامة الحكم والسلطة واحتقار الشعب واستمرار ذلك الحمق في الدم. . . وهم بها يتنبَّلون

وأما طبقة فإنهم يتكلفون هذا مما في نفوسهم من طباع أحدثها النفاقُ والخضوع والذلُّ السياسي في عهد الاحتلال الإنجليزي؛ فاللغة الأجنبية بينهم تشريف واعتبار، كأنهم بها من غير الشعب المحكوم الذي فقد السلطة وهم بها يتمجدون

وأما جماعة فأنهم يتعمدون هذا يريدون به عيب اللغة العربية وتهجينها إذ اتخذوا من عداوة هذه اللغة طريقة انتحلوها ومذهباً انتسبوا إليه؛ وفيهم العالم بعلوم أوربا والأديب بأدب أوربا؛ وذلك من عداوتهم للدين الإسلامي إذ جعل هذه اللغةَ حكومةً باقيةً في بلادهم مع كل حكومة وفوق كل حكومة؛ وهم يزدرون هذا الدين ويُسقطون عن أنفسهم كلَّ واجباته.

وهؤلاء قد خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً إذ يغلون في مصريتهم غلواً قبيحاً ينتهي بهم إلى سفه الآراء وخفة الأحلام وطيش النزعات فيما يتصل بالدين الإسلامي وآدابه ولغته. وما أرى الواحد منهم إلا قد غطى وصفُه من حيث هو رقيعٌ، على وصفه من حيث هو عالم أو أديب أو ما شاء. إن هذا لمقتٌ (كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا)

ص: 2

ومن أثر تلك الفئات الثلاث نشأت فئةٌ رابعة تحوَّل فيهم ذلك الخلط من الكلام إلى طريقة نفسية في النفس، فهم يُقحمون في كتابتهم وحديثهم الكلمات الأجنبية ويحسبون عملهم هذا تظرفاً ومعابثةَ ومجوناً، على أنه هو الذي يُظهِرُ لعين البصير مواضع القطع التاريخي في نفوسهم، وأماكن الفساد القومي في طبيعتهم، وجهات التحلل الديني في اعتقادهم. هؤلاء يكتب أحدهم (النرفزة) وهو قادر أن يقول الغضب، (والفلير) وهو مستطيع أن يجعل في مكانها المغازلة، (وسكالنس) وهو يعرف لفظة أنواع وألوان، وهكذا وهكذا: ولا والله أن تكون المسافةُ بين اللفظين إلا المسافة بعينها بين قلوبهم ورشد قلوبهم

وما برح التقليدُ السخيف لا يعرف له باباً يلج منه إلى السخفاء إلا باب التهاون والتسامح؛ ونحن قومٌ ابتُلينا بتزوير العيوب على أنفسنا وعدِّها في المحاسن والفضائل، من قلة ما فينا من الفضائل والمحاسن. وبهذه الطبيعة المعكوسة نحاول أن نقتبس من مزايا الأوربيين فلا نأخذ أكثر ما نأخذ إلا عيوبهم إذ كانت هي الأسهلَ علينا، وهي الأشكلُ بطبعنا الضعيف المتسامح المتهاون

ومن هذا تجد مشاكلنا الاجتماعية على أنها أهونُ وأيسرُ من مشاكل الأوربيين، وعلى أن في ديننا وآدابنا لكل مشكلة حلها - تجدها هي علينا أصعبَ وأشدَّ لأننا ضعفاء ومتخاذلون ومقلدون ومفتونون، وكل ذلك من شيء واحد: وهو أن أكثر كبرائنا هم أكبر بلائنا

قال صاحب السر: ثم ضحك الباشا ضحكته الساخرة وقال: كيف تصنع أمة يكون أكثر العاملين هم أكبر العاطلين، إذ يعملون ولكن بروح غيرِ عاملة. . .

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 3

‌طور جديد في تاريخ أوربا السياسي

بقلم باحث دبلوماسي كبير

تجوز أوربا اليوم مرحلة فاصلة في تاريخها القومي والسياسي. وقد ظهرت الأعراض الأولى لهذه المرحلة الجديدة في التاريخ الأوربي عقب الحرب الكبرى، إذ قامت عصبة الأمم لتحقق أمنية عالمية، ولتؤيد مبادئ السلام والتفاهم بين الأمم، ولتحاول القضاء على الحرب كأداة للسياسة القومية؛ وقد كان قيام العصبة وما تحمل من مبادئ ومثل جديدة في السياسة الدولية، وفي علائق الأمم ظاهرة جديدة في تاريخ أوربا السياسي؛ فقد كانت أوربا حتى الحرب الكبرى تمثل من الناحية العامة كتلة معنوية موحدة، وكانت تأخذ بزعامة العالم القديم، وتحاول دائماً أن تفرض عليه حضارتها وسلطانها السياسي؛ وكانت أوربا تحتفظ باستقلالها المعنوي وسيادتها القديمة بين الشرق القديم وأممه من ناحية وبين العالم الجديد (أمريكا) وأممه من ناحية أخرى؛ ولكن الحرب الكبرى أسفرت عن ظاهرة جديدة هي تراجع أوربا عن دعواها القديمة في الاستئثار بزعامة العالم القديم، وإفساحها المجال لزعامة أمة عظيمة ناهضة هي اليابان التي استطاعت في الأعوام العشرة الأخيرة أن تقوض أسس النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، وشهدت أوربا لأول مرة تدخل العالم الجديد في شؤونها الحيوية؛ وقامت عصبة الأمم لتجمع أمم الشرق وكثيراً من أمم العالم الجديد مع أوربا في صعيد واحد؛ وبذلك نزلت أوربا أمام تطور الظروف والحوادث العالمية عن زعامتها القديمة واستئثارها القديم بالقيادة السياسية والمعنوية في شؤون العالم

وهذا التطور في موقف أوربا يرجع إلى الثغرة العميقة التي أحدثتها الحرب الكبرى في القومية الأوربية؛ فقد خرجت أوربا من الحرب محطمة ناضبة الموارد، وانقسمت إلى معسكرين كبيرين هما معسكر الغالبين ومعسكر المغلوبين؛ واستأثر الفريق الظافر مدى حين بالزعامة في توجيه الشؤون، فأملى على المغلوب شروطه المرهقة، وعمل على تمزيق الوحدات السياسية القديمة، وإحياء قوميات ناشئة ليحقق بقيامها أغراضاً عسكرية وسياسية؛ وبذلك مزقت أوربا نفسها، واضطرمت الأحقاد القومية القديمة أضعاف ما كانت قبل الحرب؛ وكان اضطرامها أشد في الجبهة المغلوبة أو المغبونة؛ ولم يلبث أن أسفر هذا الاضطرام عن النتيجة المحتومة، أعني الانفجار؛ فقامت الفاشية في إيطاليا ساخطة على

ص: 4

هذه الزعامة وهذا الاستئثار في استخلاص المغانم والأسلاب وفي توجيه الشؤون، وأخذت تعمل على إنشاء قومية إيطالية حديثة، تضطرم بمختلف الأطماع المشروعة وغير المشروعة، وتسرف في الحقد، وفي الوعيد والتحدي، وتمعن في انتهاك النظريات والمبادئ القديمة المتعلقة بالحقوق والحريات الشعبية، وتسخر من دعوة السلام ومن مبادئ العدالة الدولية. وقامت الاشتراكية الوطنية بعد ذلك في ألمانيا، وشعارها الانتصاف لألمانيا مما نزل بها من فروض مرهقة، وتحريرها من الأغلال التي طوق بها الغالب عنقها، والارتفاع بها إلى مكانتها القديمة في معترك الحرب والسياسة؛ ولكن الاشتراكية الوطنية، عملت من ناحية أخرى على إذكاء الأحقاد القومية والجنسية، بصورة لم يسمع بها، وقد فاقت الفاشية في عنف أساليبها، وفي نزعاتها العسكرية والاعتدائية، وفي سحق الحقوق والحريات الفردية، وإنكار الحقوق العامة، وفي تحدي كل مبادئ العدالة الدولية، وعادت النظرية الألمانية القديمة (الحق هو القوة) في أخطر صورها؛ ولم تشهد أوربا منذ حرب الثلاثين، والحروب الدينية موجة في الأحقاد والمنافسات القومية والجنسية أشد من تلك التي تثيرها اليوم الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية

تلك هي الظاهرة الأولى في انحلال القومية الأوربية. وأما الظاهرة الثانية فهي معركة المبادئ التي تضطرم اليوم في أوربا بصورة لم تشهدها منذ الثورة الفرنسية؛ ولقد بدأت هذه المعركة قبل نهاية الحرب الكبرى، حينما ظفرت البلشفية بتحطيم دولة القياصرة في روسيا، وأقامت مكانها جمهورية شيوعية تمثل سيادة الكتلة العاملة؛ وكانت المعركة يومئذ واضحة محدودة المدى؛ فقد كانت البلشفية في ناحية، وكانت أوربا كلها في الناحية الأخرى تناضلها وترد غزوها؛ بيد أن هذا النضال بين البلشفية والرأسمالية يغدو اليوم في المحل الثاني بالنسبة لمعركة أشد وأبعد مدى تضطرم بها أرجاء القارة الأوربية، تلك هي معركة الفاشية والديموقراطية؛ فالفاشية أو بعبارة أخرى نظم الطغيان العنيف التي تحمل لواءها إيطاليا وألمانيا، تحاول أن تغزو الديموقراطية الأوربية وأن تصرعها؛ والديموقراطية الأوربية تناضل عن كيانها بكل ما وسعت. وما زال حصن الديموقراطية في غرب أوربا: في فرنسا وإنكلترا؛ بيد أنه يمكن أن يقال أيضاً إن روسيا البلشفية تنحاز في هذا الصراع إلى جانب الديموقراطية؛ وليس أدل على خطورة هذا الصراع، مما نرى في الحرب

ص: 5

الأهلية الأسبانية من انتظام القوى الفاشستية والقوى الديموقراطية وجهاً لوجه، واعتماد الأولى على معاونة إيطاليا وألمانيا، واعتماد الثانية على معاونة روسيا وفرنسا، وظهور الحرب الأسبانية كلها بمظهر الصراع بين هاتين الجبهتين الخصيمتين. فهذا الصراع المذهبي الذي يخرج اليوم من طور الجدل والنقاش، إلى طور النضال المادي، يهز أسس القوميات الأوربية ويهددها بأروع الأخطار التي يمكن تصورها

وهنالك ظاهرة عامة ليست أقل خطورة وأثراً من تطور تاريخ أوربا السياسي، تلك هي انهيار المبادئ العامة التي يقوم عليها القانون الدولي، وانهيار الضمانات القومية والدولية التي كانت تكفل احترامه وتطبيقه. ففي الأعوام الأخيرة رأينا بعض الدول الكبرى، مثل اليابان وإيطاليا وألمانيا، تعمل على انتهاك المعاهدات والحقوق القومية والدولية بجرأة ترجع بالسياسة الدولية إلى فوضى العصور الوسطى؛ فاليابان تعتدي على منشوريا الصينية وتفتحها بالقوة المسلحة أمام سمع العالم وبصره، وتتحدى عصبة الأمم، ثم تغادرها لكي تطلق العنان لمشاريعها الاستعمارية دون أي تدخل أو وازع، وما زالت تتابع اعتداءها على الأراضي الصينية طبقاً لخطة منظمة ترمى إلى بسط حمايتها المسلحة على هذه الإمبراطورية الشاسعة؛ وإيطاليا تحذو حذو اليابان، فتنظم اعتداءها على الحبشة، وتجرد أقوى وأحدث وحداتها على الشعب الحبشي الضعيف، وتمطره وابلاً من القنابل الجوية والغازات الخانقة، ثم تنتزع منه أرضه قسراً، وتضمها إلى إيطاليا؛ وذلك على رغم كل العهود والمواثيق الدولية التي قطعتها على نفسها باحترام استقلال الحبشة ووحدتها الجغرافية، وبرغم ما اتخذته عصبة الأمم في هذا الظرف من تقرير العقوبات الاقتصادية على إيطاليا؛ وها هي ذي الفاشية تباهي اليوم بظفرها، وتسخر جهاراً من عصبة الأمم ومن كل المعاهدات والمواثيق الدولية، وهي على أهبة لتمزيق أي ميثاق وأية معاهدة لا تتفق مع أطماعها العسكرية والاستعمارية. وأما ألمانيا الهتلرية، فقد خصت بضرباتها أعظم دستور دولي وضع لأوربا منذ معاهدة فينا، ونعني معاهدة الصلح أو معاهدة فرساي، فنقضت جميع نصوصها العسكرية التي كانت تقيد حريتها في التسليح، والتي تتعلق بتحريم منطقة الرين، ونقضت أخيراً نصوصها الخاصة بنظام الملاحة الدولية في بعض الأنهار الألمانية؛ ونقضت وثيقة دولية هامة أخرى هي ميثاق لوكارنو الذي عقد لتدعيم معاهدة

ص: 6

فرساي وتأمين السلام في الحدود الفرنسية الألمانية؛ وحطمت ألمانيا بذلك آخر القيود العسكرية والسياسية التي فرضت عليها في معاهدة الصلح. ومهما قيل في تبرير هذا النكث من جانب ألمانيا وكونها حملت عليه مضطرة لتقضي بذلك على الأغلال الظالمة التي فرضتها عليها معاهدة الصلح، والانتصاف لسياستها القومية، وكرامتها كدولة عظمى، فإنها بلا ريب قد عملت أكثر من أي دولة أخرى لتمزيق العهود والمواثيق الدولية، ولتقويض أسس الثقة بين الأمم وإضعاف هيبة القانون الدولي؛ ولا ريب أنها قد أعادت للعالم ذكرى اعتدائها على البلجيك في سنة 1914 وذكرى نظريتها الشهيرة في المعاهدات الدولية بأنها (قصاصات ورق) لا يعتد بها

فهذه الظواهر والظروف الخطيرة تهز اليوم أسس الدستور الدولي الذي عاشت القارة الأوربية في ظله منذ معاهدة فينا، - أعني منذ قرن وربع - وتدفع بها إلى طريق جديد لم تتضح طوالعه بعد. بيد أن هنالك ما يدل على أن هذا المصير الذي تتهيأ أوربا لاستقباله سيكون هائلاً مروعاً؛ فالدول العظمى تستعد كلها لخوض أعظم معارك عرفها التاريخ؛ والدول الصغرى ترتجف كلها فرقاً من المستقبل، وتحسب لاعتداء القوة المسلحة أعظم حساب؛ وهي لا تستطيع أن تعتمد على قوة المواثيق والضمانات الدولية كما كانت في الماضي بعد الذي رأته من عبث بعض الدول العظمى بكل هذه المواثيق والضمانات، ولكنها تزمع في جميع الأحوال ألا تسقط دون دفاع: فالبلجيك وهولندة وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وسويسرة وغيرها من الدول الصغيرة تجد في تسليح نفسها بكل ما وسعت، وبعضها مثل البلجيك وهولندة ينظر بمنتهى الجزع إلى مصير أملاكه الاستعمارية الواسعة؛ على أن هذه الدول تندمج غالباً في إحدى الجبهتين الأوربيتين اللتين تستعدان لخوض المعركة القادمة، ومصيرها يتوقف على مصا ير المعركة ذاتها.

وقد فقدت أوربا القديمة زعامتها العالمية، وفقدت حتى زمام سياستها الخاصة؛ فاليوم نجد دولة أوربية عظمى هي ألمانيا تحالف دولة أسيوية عظمى هي اليابان ضد روسيا وضد الجبهة الأوربية التي تندمج فيها. وهذا تطور خطير في سياسة أوربا التقليدية التي حرصت دائماً أن تواجه الشرق متحدة؛ وهذه ظاهرة تعود بنا إلى القرن السادس عشر والسابع عشر حينما كانت فرنسا تستعين بمحالفة الدولة العثمانية على قتال خصومها

ص: 7

الأوربيين ولا سيما أسبانيا؛ وقد استطاعت أوربا أن تقضي على هذه الظاهرة، وأن تقف طوال القرن التاسع عشر متحدة ضد الدولة العثمانية حتى انتهت بتمزيقها؛ وفي الحرب الروسية اليابانية كانت أوربا كلها تتوجس شراً من انتصار اليابان، ولو أن دولا أوربية كانت تتمنى ألا تنتصر روسيا انتصاراً يؤدي إلى تقوية سلطانها في القارة؛ ولما انتصرت اليابان ارتاعت أوربا، وذاعت من ذلك الحين صيحة الخطر الأصفر، واجتمعت أوربا على مقاومة الاستعمار الياباني حتى كانت الحرب الكبرى فانضمت اليابان إلى الحلفاء ضد ألمانيا، واستولت على أسلابها الاستعمارية في الصين. أما اليوم فان ألمانيا تحالف اليابان ضد أوربا، وتحدث بذلك ثغرة عميقة في إجماع أوربا القديم، وتجمع الشهوات العسكرية والاستعمارية بين الجنس الأصفر الذي اعتبر فيما مضى خطراً على أوربا، وبين الجنس (الآري) الذي تزعم ألمانيا الهتلرية أنه أفضل أجناس العالم

وأخيراً نجد العالم الجديد (أمريكا) يتأهب للأخذ بنصيبه في توجيه سياسة القارة القديمة؛ وقد دخلت أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء، وعاونت على ظفرهم في المعركة الحاسمة، واشتركت في شؤون أوربا مدى حين، ولكنها انسحبت منها حينما تفاقمت الفوضى الدولية في أوربا، وعادت إلى سياستها التقليدية من اعتزال الشؤون الأوربية، بيد أنه يلوح لنا أن التحالف الياباني الألماني قد يحملها على العود إلى الاشتراك في السياسة الأوربية مرة أخرى، والى محالفة الدول الغربية على العمل لمصالحها المشتركة في الشرق الأقصى، وهذا عامل خطير أيضاً في إضعاف الطابع الأوربي للسياسة الدولية العامة

والخلاصة أن أوربا فقدت زعامتها السياسية والاجتماعية القديمة، وأخذت تندمج شيئاً فشيئاً في الوحدة العالمية الكبرى؛ وقد فقدت فكرة الحضارة الأوربية، وخصومة الشرق والغرب، والتضامن الأوربي في الشؤون الاستعمارية كثيراً من معانيها وأوضاعها القديمة التي كانت تسبغ على أوربا مكانة الزعامة والوحي والإرشاد

(* * *)

ص: 8

‌سوء تفاهم

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كانت الساعة العاشرة حين خرجت السيارتان إلى الطريق العام - أو صعدتا إليه إذا أردت الدقة فان الأرض هناك، في لبنان، قلما تكون مستوية - وكنت أقود إحداهما ومعي فيها زوجتي وأبنائي، وفي الثانية أقارب لنا يقضون الصيف في (ضهور الشوير) وقد مروا بنا في بكفيا - حيث كنا نقضي الصيف - ليرافقونا إلى (الشاغور) حيث دعينا إلى الغداء عند أسرة صديقة لنا من يافا. وتوكلنا على الله وأخذنا الطريق إلى بيروت وكله من بكفيا انحدار وبعضه أوعر من بعض، ولكني كنت قد ألفته وزايلني الخوف من التواءاته وتعاريجه الحادة التي يثب عندها القلب إلى الحلق. وكان اليوم مشرقاً والمناظر على الجانبين مما ترتاح العين إليه وينشرح الصدر له، والطريق أحسن ما يكون نعومة وملاسة وإن كان مما يدير الرأس أحياناً أن يصوب المرء عينه عن الجبل الأخضر من ناحية إلى الوادي العميق من الناحية الأخرى؛ وكان لا بد من العناية والحذر في السير لشدة الانحدار وكثرة المنعرجات وازدحام الطريق بالصاعدين والنازلين فيه بالسيارات الخفيفة والثقيلة والضخمة والصغيرة، فكان البطء الذي اضطرنا إليه الحذار من أسباب المتعة، فاستطعنا أن نتملى بالمناظر التي حولنا وأن نتحدث كما نشاء ونجنب الصمت الذي تدعو إليه السرعة والذي لا يكون إلا ثقيلاً على المسافرين

واحتجنا أن نتزود من (البنزين) ولم يكن معنا إلا ورق مصري، فقالت زوجتي وأنا أناول الرجل ورقة مصرية بجنيه وآخذ الباقي:(ماذا أعطاك؟)

ففتحت لها كفي على ما فيه فأخذته وعدَّته، ثم سألتني:(كم أعطوك؟. . إني لا أفهم!)

قلت: (الجنيه المصري يساوي 394 قرشاً سورياً، وقد أخذوا حقهم وأعطوني حقي وهو معك)

فقالت زوجتي والتفتت لأقاربنا (لست أفهم. . . لقد كان الجنيه يساوي 397 قرشاً)

فقلت: (ولكن الفرنك ارتفع وارتفعت تبعاً له العملة السورية)

فقالت مستغربة: (ولكن لماذا أهملت أن تستبدل النقود المصرية قبل أن يهبط)

قلت وأنا أبتسم: (إنه لم يهبط بل ارتفع)

ص: 9

فقالت وهي تخلط: (كيف يكون ارتفع وهو قد هبط. . ألسنا نأخذ أقل)

فقالت قريبتنا: (تمام. . 394 أقل من 397)

فقلت: (دعيني أشرح لك الأمر. . تصوري أن الفرنكات التي في الدنيا كلها انقلبت تفاحاً)

فقالت زوجتي: (نعم)

قلت: (وتذهبين إلى السوق وتجدين التفاح كثيراً فتشترين الأقة بخمسة قروش)

قالت: (نعم)

قلت: (وفي أثناء الليل يرتفع التفاح)

فقالت قريبتنا: (كيف يرتفع)

قلت: (يقل. . هه. . يتعفن. . يسرق. . تصيبه آفة. . . يقل والسلام؛ فإذا ذهبت تشترين أخذت بالقروش الخمسة أقل من أقة)

فقالت قريبتنا: (يعني أنه يهبط)

قلت: (يصعد)

قالت: (كيف يصعد وهو أقل؟)

فقال زوجها: (اسمعي. . أنا أفهمك المسألة. . . تعرفين مقياس الحرارة)

قالت: (بالطبع. . ما له؟)

قال (لا شيء. . تنظرين إليه يوماً فتجدين أن الرقم الذي يشير إليه ثلاثون؟)

قالت: (نعم)

قال (وفي اليوم الثاني تنظرين إليه فإذا الرقم قد صار 28. . . ومعنى هذا أنها هبطت

قالت: (نعم)

قال: (أما الفرنك فان المعنى يكون العكس)

قالت: (نعم)

قال: (هذا كل ما هنالك)

فنظرت إليه كالمذهولة وكنا نحن نضحك؛ فقالت زوجتي وهي تجرها: اسمعي. . . إنهم يضحكون منا ويخيل إلي أن أسلم طريقة أن نقول إن الفرنك صعد كلما فهمنا أنه هبط)

واستأنفنا السير وكنا قد ملنا عن طريق بيروت إلى طريق (عالية) وفرغنا من الانحدار

ص: 10

وبدأ الصعود والطريق في هذا الجبل أوسع وأرحب والتواؤه أقل حدة، فأطلقنا للسيارتين العنان، ولم تمنع السرعة زوجتي أن تتكلم فقالت:(إني أشعر أننا لن نجد زينب) تعني الصديقة التي دعتنا إلى الغداء. ففزعت وكادت عجلة القيادة تضطرب في يدي وقلت لها بصوت تشي لهجته بالقلق: (لماذا؟)

فلم تجب بل سألتني: (ماذا قلت لها بالتليفون. . بالضبط؟)

قلت: (قلنا كلاماً كثيراً. . وألححت عليها أن تجيء لتتغدى معنا في بكفيا ولكنها أصرت إصراراً شديداً على أن نذهب إلى الشاغور. . وأذكر تماماً وبغاية الوضوح أنها وصفت لي عين الماء التي هناك)

فأشارت إلي بكفها أن اسكت وقالت: (ماذا قلت لها بالضبط. هذا ما أريد أن أعرفه فلا تغرقه في طوفان من الوصف الذي لا يفيد شيئاً. . . وإذا كنت تريد أن تصف الشاغور فانتظر حتى تراه)

قلت: (ماذا قلت بالضبط. .؟ ياله من سؤال. . اتفقنا على اليوم. . وأؤكد لك أني لم اترك عندها أي شك فيه. . صرخت حتى بح صوتي. . قلته بالعربية. . وقلته بالفرنسية

فصاحت زوجتي

قالت: (بأعلى من هذا الصوت)

قالت: (هل قلت. هذا معناه السبت لا الأحد)

فتداركت الخطأ وقلت وأنا مضطرب (لا لا لا لا بل قلت

وجرى ببالي أني لا أزال أغلط في أسماء الأيام باللغة الفرنسية ولكني كافحت هذا الخاطر حتى نفيته وطردته وقلت لها: (وهبيني أخطأت فقد قلت لها بالإنجليزية ولا يمكن أن أغلط في هذا)

قالت: (سنرى)

فقلت وأنا محنق: (سنرى. . ألا يمكن أن أتكلم بالتليفون من غير أن تتهميني بالتخليط. . . هل هذا التليفون معجز. .؟ سبحان الله العظيم!)

قالت: (طيب اسكت بقى)

فسكت. ووصلنا الشاغور ودخلنا الفندق وسألنا عن السيدة وزوجها فقيل لنا إنها خرجت

ص: 11

معه في الصباح الباكر وإنهما قالا إنهما سيرجعان بعد المغرب؛ فنظرت إليَّ زوجتي نظرة ذات معنى، ولم تكفها النظرة بل راحت تقص الحكاية على أقاربنا بأسلوب وكلام لا يدعان أي شك في أني حمار من أطول الحمير آذاناً وأنا ساكت، لأن كل شيء كان يثبت أنها هي الصادقة وأنا الكاذب أو على الأقل المخطئ. ولا أحتاج أن أقول إني اضطررت أن أطعم كل هذا الجيش على حسابي. ولكن اليوم كان على الرغم من هذه الخسارة الفادحة ممتعاً وكان أحلى ما فيه أننا نمنا على الأرض بعد الغداء الباهظ التكاليف بجانب الماء الذي يتدفق كالشلال من العين وهو يرغي ويزبد ثم يتحدر في أقنية ضيقة محفورة له تتخلل الحديقة الواسعة

ولما آن أن نعود تركت هذه الرقعة لصديقنا وزوجته:

(لا شك أن النسيان أرخص. ولكنه كلفني ما أخشى أن أحسبه، فقد جئنا إليكما من غير أن نفطر فنجوتما أنتما ووقعت أنا في الفخ؛ وصدق مرة أخرى أن من حفر بئراً لأخيه وقع فيها. على أن هذا هين وإنما الذي يضيق صدري به ولا أكاد أقوى على احتماله أن زوجتي تحملني التبعة عن هربكم، وإذا كنت لا أطمع في أن تردوا إلي ما أنفقته على إشباع هذه البطون الجائعة كلها، فأني أطمع أن تردوا ثقة الزوجة بي وذلك بأن تعترفوا بأنكم هربتم)

ولم نكد نبلغ بيتنا حتى وقفت الصانعة - كما يسمون الخادمة في لبنان - وقالت لنا: إن السيدة زينب وزوجها كانا هنا ودفعت إلي ورقة فيها هذه العبارة الوجيزة:

(لا بأس! لعلكم نسيتم. والآن يجب أن تجيئوا أنتم إلينا. ولن نهرب منكم كما هربتم منا)

قرأتها وهممت أن أدسها في جيبي ولكن زوجتي سألتني ماذا فيها؟ فقلت إنهما يعترفان بخطئهما، ودفعت إليها الرقعة وذهبت أعدو. . وكيف أقنعها بأن الذي وقع خطأ غير مقصود. . كلا.

لا فائدة. والهرب أحجى وأرشد. . . حتى تهدأ الفورة

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 12

‌في الأدب المقارن

غرض الأدب في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

التعبير عن خوالج النفس الإنسانية وتأثراتها بمظاهر الكون المحيطة بها هو غرض الفنون جميعاً ومن بينها الأدب. ولا يرقى الأدب إلى مرتبة الفن السامي حتى يكون ذلك التعبير عن المشاعر النفسية غرضه الوحيد، منزهاً عن كل غرض خارجي أو مطلب مادي؛ فإذا خالطه شيء من ذلك هبط إلى مرتبة الصناعة، ولم يعد له في النفوس ذلك الوقع المطرب الذي تتركه فيها الفنون الجميلة

وقد ظل التعبير الحر الصادق عن نوازع النفس غرض الأدب الإنجليزي الوحيد في أغلب عصوره، فلم يكن غرض الكاتب أو الشاعر مما ينشئ إلا الإفصاح عما يشعر به أو يفكر فيه؛ فزخر الأدب في عصوره المتوالية بألوان الشعور وأشتات الأفكار في مختلف مشاعب الحياة ومتباين حالات النفوس؛ وتناول بالتصوير والتحليل دخائل النفوس وأغوار الطباع وأطوار الأفراد والمجتمعات، ولم يدع فحوله شاردة ولا واردة من نوازعهم وبوادرهم ومشاهداتهم وتأملاتهم إلا أثبتوها في منشآتهم وأبرزوها في روائع الصور

وكذلك كان التعبير الصادق المنزه عن الغرض الخارجي غاية الكثير مما نظمه الشعراء وسطره الكتاب في العربية، وحفل الأدب العربي بالرائع من الحكم والأمثال والدقيق من أوصاف النفس وغرائزها وميولها؛ وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى أو يشار إليها، وإنما نذكر منها الوصايا المنسوبة إلى بعض فحول العربية، كذي الإصبع العدواني وعلي بن أبي طالب، ومنها وصية ابن هراسة لابنه حيث يقول:(إن من الناس ناساً ينقصونك إذا زدتهم، وتهون عليهم إذا أكرمتهم. ليس لرضاهم موضع فتقصده، ولا لسخطهم موقع فتحذره. فإذا عرفت أولئك بأعيانهم، فأبد لهم وجه المودة، وامنعهم موضع الخاصة، ليكون ما أبديت لهم من وجه المودة حاجزاً دون شرهم، وما منعتهم من موضع الخاصة قاطعاً بحرمتهم)

غير أن في الأدب العربي بجانب ذلك آثاراً كثيرة لم يكن التعبير عن خوالج النفس غرضها، ولا الصدق شعارها، فهي لذلك لا ترقى إلى مرتبة الفن الجميل، ولا تؤثر في

ص: 13

النفس تأثيره، وإنما هي أدنى إلى الصناعة؛ لها كالصناعة غرض مادي تؤديه وغاية خارجية تخدمها. ولا غرو كان العرب يسمون النظم والنثر بالصناعتين، ويعدون الأدب (صناعة) أو (آلة)(يتعاطاها) صاحبها، ولم يكن لكلمة (الفن) لديهم ما لها اليوم من المعنى السامي

بلغ الأدب العربي مرتبة الفن السامي في عصر الجاهلية، حين كان أشراف القبائل وحكماؤها يودعون الشعر حكمتهم وإطرابهم وأحزانهم؛ فلما قامت الدولة العربية صحبتها عوامل لم تكن لتساعد على اطراد رقي الأدب في وجهته الصحيحة، بل عملت في غير ناحية على تقهقره وفقدانه ما كان له من الجاهلية من قوة وصدق وسمو، وهي سمات الفن الصحيح، حتى أصبح من السهل تقسيم الآثار الأدبية، بل تقسيم أثار كل أديب مفرد، إلى قسمين: قسم صادق يصدر عن شعور صحيح ويدخل في دائرة الفن السليم، وقسم كاذب مملوء بالمفارقات والمبالغات يمت إلى الصناعة ولا يمت إلى الفن

وأول تلك العوامل ذيوع التكسب بالشعر، فأنه جعل للشعر غرضاً سوى التعبير عن خوالج النفس الذي هو غرض الفنون جميعاً، وصير له غاية مادية هي صلة الممدوح التي قامت مقام الحافز النفسي والشعور الصادق، فسارع إلى الشعر الكذبُ والمبالغة، وهبط عن مرتبة الفن السامي وصار صناعة تمارس ويبرّز فيها ذوو اللباقة والمهارة، لا أصحاب العبقرية والنفوس الكبيرة؛ وداخل النثر من هذه السمات ما داخل الشعر، لأنه مثله سخر نفسه لخدمة الحاكمين

وثاني العوامل هو نزعة المحافظة والتقليد، التي سرعان ما تمكنت من الأدب العربي، حين أشفق العرب على أدبهم ولغتهم ودمائهم مما اجتاحها من هجنة الأعاجم الداخلين في دينهم ولسانهم ومجتمعهم؛ أدى ذلك إلى الضن الشديد بآثار المتقدمين والتبجيل العظيم لأشكال الأدب وصوره في عهدهم، والإعجاب المطلق بأشعارهم وخطبهم ذات اللغة الفصيحة السليمة؛ وتمادى الشعراء فقلدوهم في وعورة الألفاظ أحياناً، وفي المعاني وضرب الأمثال والاستهلال بالنسيب، وتمادى الكتاب فأنحوا على آثار المتقدمين محاكاة واقتباساً وتضميناً؛ وفي مثل هذا الجو من المحافظة والتقليد يخمد الفن الصحيح الذي يصدر عن صادق الشعور، ولا يسود إلا الصناعة التي تتكلف الألفاظ وتتعمل المعاني

ص: 14

وثالث تلك العوامل اعتزال الأدب العربي غيره من الآداب، فهو قد أهمل الأدب اليوناني ولم يتأثر بالأدب الفارسي، إلا قليلاً عن غير قصد، واتصال الأدب بغيره من آداب الأمم شرط أساسي لدوام رقيه في معارج الفن السليم، لأن ذلك الاتصال يدخل في الأدب صادق النظرات والأفكار، التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء على اختلاف المشارب واللغات، دون التفات إلى زخارف الألفاظ وتلفيقات المعاني، التي لا تمت إلى الطبع السليم بصلة، ولا تتعلق من الفن الصحيح بسبب. واعتزل الأدب غيره ينحرف به شيئاً فشيئاً عن وجهة الفن القويمة، ويميل به إلى ناحية التكلف والتعمل والتقليد والجمود والصناعة.

ولما كان الكاتب يكتب والشاعر ينظم ونصب أعينهما غايتان: إرضاء صاحب السلطان الذي تسخر له الأقلام، وإرضاء النقاد الذين لا يريدون عن مناهج الأولين حولاً، لم يسعهما إلا الإقلاع عن محاولة التعبير عن شعورهما الصادق، واللجوء إلى محاولة إظهار البراعة ليرضيا الفريقين، فصارت البراعة - لا صدق التعبير عن الشعور - هي غاية الأديب. فالبحتري وابن المعتز والبديع وابن العميد والحريري وأضرابهم، قلما نظموا أو نثروا بغية التعبير الصادق البسيط عن مشاعر حارة تعتلج في نفوسهم ولا يستطيعون لها حبساً، وإنما كان إبداء البراعة وطلب الإعجاب وتحري الأغراب ديدنهم في معظم ما أنشئوا، وكتاباتهم لذلك - حتى حين يجيدون - فاترة الشعور باردة الوقع لا تنفذ إلى القلب ولا تهز النفس، ربما أوحت إلى المطالع أن أصحابها بارعون، ولكن قلما توحي إليه أنهم نوابغ عظماء ذوو نفوس كبيرة ونظرات بعيدة

ولما جهد الأدباء في تقليد معاني الأقدمين ومناحيهم، واختراع أوصاف الممدوحين ومحامدهم، حتى لم يَعُدْ في مجال المعاني متسع لتكلف، التفتوا إلى الألفاظ يطلبون في مجالها السبق والبراعة، ففشت المحسنات اللفظية، فكانت انحرافاً جديداً للأدب عن جادة الفن القديم؛ وشغل الأدباء بالسجع والجناس والمقابلة وحسن التعليل عن صدق الشعور وصدق التعبير، وركبت الصناعة الأدب من ناحيتيه: ناحيتي المعنى واللفظ

وطلب الأدباء البراعة من طريق آخر: فأقحموا في الأدب ما ثقفوه من مصطلحات العلوم ومسائلها، كعلوم النجوم والكلام والنحو والمنطق، فتجلت البراعة فيما أنشئوه من ذلك ولكنه فقد دبيب الحياة، فمن تقليد قضايا المنطق قول المتنبي:

ص: 15

تقولين ما في الناس مثلك عاشق

جِدِي مثل من أحببته تجدي مثلي

وقول الشاب الظريف:

رمى فأصاب قلبي باجتهاد

صدقتم: كل مجتهد مصيب

ومن استخدم مصطلحات النحو قوله:

لأي شيء كسرت قلبي

وما التقى فيه ساكنان؟

ووقر في نفوس كثير من الأدباء أن الأدب مجال للصناعة والبراعة، وليس مظهراً لأحاسيس النفس ولا مستودعاً لخوالجها. فإذا أعوزهم ممدوح يثنون عليه بما هو ليس أهله من المبالغات، طلبوا البراعة واصطنعوا التظرف بوصف أمر تافه، كحَمل هزيل أو قدح خمر أو محبرة أو يراع، إلى غير ذلك مما لا خطر له في ذاته، ولكنه يمنح الفرصة لطلاب البراعة ليُظهروا لطافة بديهتهم وحسن محاضرتهم ووفرة محصولهم اللغوي. وكثيراً ما كانوا يتبادلون ذلك في الرسائل الإخوانية، والكتب التي يستهدون فيها الخمور والأقداح والمزاهر والقيان

ولإصدار الأدباء في كتاباتهم عن أغراض مصطنعة بعيدة عن غرض الفن الصحيح نجد الكثيرين منهم يقفون مواقف متناقضة: فيمدح أحدهم الرجل أرفع المدح ثم يذمه أقبح الذم، فأن خاف بطشه عاد مستغفراً متزلفا يقول كما قال الأعشى:

سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق

كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب

ويطلب أحدهم البراعة بتحسين القبيح وتقبيح الحسن، أو بمدح الشيء الواحد وتحسينه ثم ذمه وتقبيحه، كما فعل الحريري حيث جعل أبا زيد يمدح الدينار بمقطوعة من الشعر، ثم يذمه بأخرى حين اقترح عليه بعض الحضور أن (يذمه ثم يضمه)، ويدّعى المتنبي الغرام والصبابة والنحول في مطالع أماديحه، فإذا أفصح عن صادق شعوره وميوله قال إن المجد ليس زقا وقينة، وأن للخود منه ساعة ثم بينهما فلاة، وأنه يرى جسمه يكسى شفوفاً تَرُّبه، وقال:

ومن خبر الغواني فالغواني

ضياء في بواطنه ظلام

وجاء النقاد فأقروا الشعراء على هذا التناقض، وأباحوهم ضروب اللغو والهذر، وأخذوا تلفيقاتهم في قصائد المديح مأخذ الجد، وأضاعوا وقتهم ومنطقهم وحججهم في الموازنة

ص: 16

والمفاضلة بينها، وفضلوا شاعرا على شاعر، لا لصدق شاعر يته وصدق فهمه للحياة، ولكن لبراعته في احتيال الحيل اللفظية والمعنوية لتفخيم شأن ممدوحه. فقدامة بن جعفر مثلا يقدم الأعشى في قوله في ممدوحه:

وإذا تجيء كتيبة ملمومة

شهباء يخشى الراهدون نهالها

كنت المقدم غير لابس جُنة

بالسيف تضرب مُعْلَما أبطالها

على كثير لقوله في ممدوحه:

على ابن أبي العاصي دِلاص حصينة

أجاد المُرَئ نسجها وأذالها

يود ضعيف القوم حمل قتيرها

ويستظلع القرم الأشم احتمالها

لأن الأول جعل صاحبه يغشى الوغى غير مدرع، والثاني وصف صاحبه بالتحصن وراء الدروع الثقيلة، يفاضل قدامة بينهما بصرف النظر صرفا تاماً عما إذا كان المعنى المذكور في كل حالة صحيحاً، فالمسألة لا تتعلق لديه بالتزام الصدق، بل البراعة في الاختراع والمبالغة وتهويل أمر الممدوح ووصفه بكل عظيمة صحيحة أو مزعومة، ممكنة أو مستحيلة

وبهذا المقياس المجحف الذي لا يقيم اعتباراً لصدق الشعور والتعبير، بل يجعل الاعتبار كل الاعتبار للبراعة واللباقة والخفة والاحتيال، قاس كثير من النقاد آثار الأدباء وفاضلوا بينهم. بل إن النقاد صرفوا جل اهتمامهم إلى ذلك الضرب الصناعي من الأدب الذي قوامه التعمل والاختراع، وعماده الأقيسة المنطقية، بل المغالطات المنطقية، وأهملوا الضرب الصادق الذي يُترجم عن شعور الأدب الصحيح. فإذا رأوا أثراً من هذا القبيل مروا به كراماً ولم يروه أهلا للنقد والتحليل، لأنهم يرونه بسيطاً عادياً غير محتو على براعة لفظية أو معنوية. والأدب كان في نظر كثير منهم صناعة لا فناً. وقد سمى أحدهم وهو أبو هلال العسكري كتابه في أصول الشعر والنثر:(كتاب الصناعتين)

والحق أن أكثر ما يعرف اليوم بالفنون الجميلة كان لدى العرب صناعات؛ فالأدب والموسيقى والعمارة والنحت والتصوير كل هذه كانت أشبه بالصناعات، لأنها كانت في أكثر الأحيان تخدم أغراضاً مادية خارج ذاتها، وكانت تنتج نتاجها في ظلال الملوك والكبراء الذين يسخرونها لأبهتهم ومتعتهم، ولم تنل من الاستقلال الفني والغرض الذاتي ما

ص: 17

لها اليوم. ومن ثم ظل الفنانِ الأخيران دائماً في حالة بدائية لم يتعدياها إلى أطوار الفن السامية

ولقد تترعرع الفنون الأخرى كالعمارة والنحت والتصوير في ظلال الرعاية والمنحة من جانب الأمراء، كما حدث في عهد النهضة الإيطالية التي أنجبت رافائيل وميكلانجو ودافنسي وعشرات من أمثالهم، أما الأدب فهو أشد احتياجاً إلى الحرية وأسرع انحطاطاً وركوداً في ظلال الاستبداد، فأن الملكية المسّتبدة إذا سخرته لأغراضها وسيرته في ركابها حَمَلَتْه على إخفات الحق وإغفال الصدق ونسيان رسالته؛ ولهذا ازدهر الأدب في إنجلترا أكثر من ازدهار غيره من الفنون التي اقتبسها الإنجليز عن أهل القارة، حتى بارى الإنجليز غيرهم في الآداب وبذوهم؛ فقد ألفى الأدب في إنجلترا من حرية الفكر والتعبير أكثر مما ألفى في غيرها. ولنفس السبب ازدهر الأدب في المدن الإغريقية، على حين كان رقيه في روما الملكية قصير العمر

لم يُسخِّر الأدب الإنجليزي نفسه لتمليق الأمراء والكبراء، كما سخَّر الأدب العربي نفسه، ولم يصرفه طلب رضاهم عن طلب رضى الفن الصحيح، وإن كان بعض رجاله - منذ عهد شكسبير - قد تزلفوا إلى سلطان آخر غير سلطان الحاكمين، فطلبوا رضى الجمهور من رادة المسارح وقراء الكتب، ولو بتضحية رضى الفن أحياناً. على أن ذك قلما كان؛ وأكثر الأدباء احتفظوا بسمو الأدب وأرستقراطيته، ولم يلبث انتشار التعليم أن وسع دائرة القراء الذين يقدرون الفن الصحيح ويتسامون عن الفضول؛ وانقسم الكتاب إلى فريق محافظ على سمو الأدب، فهم عماد الأدب السامي، وفريق ينشد إقبال العامة باللغو والهراء. ولم يحدث أن هبط الأدب جملة عن مرتبة الفن الصحيح المنزه الغرض

كذلك ربأ بالأدب الإنجليزي أن تركبه الصناعة وتغلبه على غرضه الصحيح، دوام تبصر رجاله في الآداب الكلاسية والأوربية المعاصرة، فكان معين تلك الآداب يجري في شرايينه من آن لآخر، فيجرد ما فَتَرَ فيها من دفعة الحياة، فكلما مر الأدب بطور ركود تغلب فيه الصناعة الفن الصحيح - كذلك الذي مر به في بعض القرن الثامن عشر - شعر الأدباء بعظيم الفرق بينه وبين الآداب الأخرى، فانتشلوه من وهدته

ومما ساعد على احتفاظ الأدب الإنجليزي بصبغته الفنية، وحماه الهبوط إلى درك الصناعة

ص: 18

الرخيصة، إطلاع فحوله على آثار الفنون الأخرى الراقية، من تصوير ونحت، تلك التي تشترك جميعاً في غرضها الذي ذكر في أول هذه الكلمة، وهو التعبير الصادق عن الشعور الصحيح، فكان للأدب دائماً من تلك الفنون أسوة، تهيب به أن يحيد عن جادته أو ينحرف عن غايته، أو يضل في تيه التلفيقات المعنوية والزخارف اللفظية

وقد راج في الأدب الإنجليزي ضروب من القول قد يتبادر إلى الظن لأول وهلة أن الأديب يتجرد عندها من نوازعه الشخصية وشعوره الصحيح ويطلق العنان للخيال والصناعة، كالرواية التمثيلية والقصة والملحمة التي يتحدث مؤلفها عن أشخاص بعيدين عنه ويصف عواطف غيره وتصرفاتهم، ولكن الواقع أن المؤلف فيها لا يقل صدقاً ووفاء للحياة وحقائقها عن المؤلف في غيرها، ولا هو يتجرد من ميوله، بل يخلع تلك الميول على أبطاله، وينطق أفكاره ومشاهداته على ألسنتهم؛ فكل بطل من أبطال شكسبير، كهملت وعطيل ولير، يمثل حالة من حالات نفسه وفكرة أو فكرات من أفكاره؛ والقصصي الإنجليزي الذي يتحدث عن الآخرين في كتاباته أصدق وأكثر إفصاحاً عن ذات نفسه من الشاعر العربي الذي يشبب بليلى ودعد ويصف ممدوحه بغير ما يعلم فيه

ففي كلا الأدبين العربي والإنجليزي ترى في آثار الفحول دلائل الطبع الجزل والشعور الصادق والفن الصحيح، ولكن نظراً لتلك العوامل التي صاحبت الأدب العربي فأفشت الصناعة في كثير منه، وهذه العوامل التي لازمت الأدب الإنجليزي فساعدته على الاحتفاظ بسمات الفن، جاء الأدب الإنجليزي أحفل بصادق الشعور وجاد الأفكار من الأدب العربي، وكان التعبير الصادق عن النفس الإنسانية غرضه دائماً، على حين زاحمت هذا الغرض في الأدب العربي أغراض أخرى: كالصناعة وطلب البراعة والأغراب والتظرف ومحاكاة الأقدمين.

فخري أبو السعود

ص: 19

‌صخرة النجوى

لالفرد دي ميسيه

(الحياة عذبة سائغة ولكن عند من لا يعرفونها. . .)

بقلم الأستاذ أحمد المحمود

وكان الليل جميلاً رائعاً، والقمر يصَّاعد متئداً على شمالي، وقد اجتذب إليه نظر (بريجيت) طويلاً وهو يخرج متسللاً من الأسنان السوداء التي كانت الهضبات الحرجَة ترسمها على رقيع الأفق. ورقت أغنية (بريجيت) المشجية حينما أخذ القمر يتخلص من أسوجة الغابة الكثيفة وتتسذرَّي أضواؤه في الفضاء وعلى الجلَد، فانحنت علي تطوق رقبتي بذراعيها قائلة:

(لا تظنن أنني لا أعلم قلبك، وأنني أنتسب لك لايلامك إياي؛ وليست الخطيئة خطيئتك إذا ضقت ذرعاً يا صديقي العزيز بنسيان حياتك الماضية. ولقد أحببتني وكنت مؤمناً بهذا الحب ولن أتأسف - إذا ما أسكت هواك نأمتي - على هذا اليوم الذي استسلمت لك فيه. واعتقدت أنك بُعثت إلي الحياة ثانية وأنك ستنسى - بين ذراعي - ذكريات اللواتي أضعنَك.

وا حسرتاه يا أكتاف! لقد تبسمت فيما مضى من هذه التجاريب الباكرة التي كانت لك في حياتك والتي كنت تدل بها عليَّ كالأطفال الذين لا يدرون من أمور الحياة شيئاً، وحسبت أن ليس لي إلا أن أشاء، وأن قد سيطفرُ كل ما في قبلك من صلاح وخير على شفتيك للقبلة الأولى التي منحتك إياها، وقد كنت أنتَ تحسبُ ذاك أيضاً ولكن كنا مخدوعين. أيها الطفل!. . . إنك تحمل في قلبك جرحاً لا يندمل، ويجب أن تكون قد أحببت هذه المرأة الخادعة الهاجرة حباً جماً؟ أجل. . . وأكثر مما أحببتني وإلي أبعد الحدود وا حسرتاه!. . . لأنني لم أستطع - مع حبي الشديد البائس - أن أمحو من مخيلتك صورتها! ويجب أن تكون خديعتها لك قاسية لأن أمانتي تبذل لك عبثاً؟ والأخريات الشقيات ماذا فعلن لتسميم شبابك؟ وهل كانت الملذات التي بعنها منك حادة ورهيبة لتطلب إليَّ أن أماثلهن وأتأثرهن!. . . وتذكرهن وأنت بجانبي؟ ما أقساك أيها الطفل!. . . ولأحبُّ للنفس وأثلج

ص: 20

للفؤاد أن أراك ظالماً مغضباً، وأن تنسب إلى الجرائم الوهمية وأن تثأر مني للأذى الذي لحق بك من خليلتك الأولى من أن تطفر في وجهك هذه المسرة الرهيبة وهذا المظهر الخليع الذي ينتصب حجاباً من الصلد الأصمّ بين شفتي وشفتيك. قل لي أكتاف، لم هذا الصقيعُ في شفاهك؟ ولم هذا التهكم والاحتقار يبينُ في حركاتك وسكناتك؟ وإنك لتسخر - بحزن شديد - حتى من أعذب صباباتنا، وكيف استحوذت على أعصابك المهيجة هذه الحياة الماضية الرهيبة حتى تنثال من فمك مثل هذه الشتائم بالرغم منك؟ أجل بالرغم منك لأن لك قلباً نبيلاً وتصطبغ خجلاً مما تفعل. أنت تحبني كثيراً ويجب أن يُسعدك هذا الحبُّ لأنني آلم منه كما ترى. آه! أعرفك الآن!. . وعندما وقع بصري عليك لأول مرة وأنت على حالك هذه عراني هول شديد لا شيء يعطيك صورة عنه. ولقد حسبتك ماجناً في توددك إليَّ، وأنك تحاول خدعي بسيماء هذا الحب الذي لم تكن لتحس به، وإني أرى حقيقة نفسك كما بدت لي لأول وهلة. أواه يا صديقي! لقد فكرت في الموت وأية ليلة نكراء قضيت! أنت لا تعلم حياتي ولا تدري أنني - أنا التي أخاطبك - قد خلصتُ من هذه الحياة بتجربة هي أعذبُ من تجربتك وأحلى. وا أسفاه! الحياة عذبة سائغة ولكن عند من لا يعرفونها

أي عزيزي أكتاف! لست بالرجل الأول الذي أحب. إن في أعماق هذا القلب ذكرى مشئومة راقدة أحب أن أطلعك عليها

أعدَّني والدي منذ بكوري في الحياة إلى ابن صديقه الأوحد، وكانا جارين في الدار والأرزاق؛ وعاشت العائلتان على هذا النمط من الاختلاط والوحدة. مات أبي وتصرّم زمن طويل على فقدان أمي فانتقلت إلى وصاية خالتي التي تعرفها، وأزمعت خالتي سفراً فأسلمتني إلى حمِىِّ الذي عشت في كنفه برهة من الزمن، وكان يدعوني بابنته، وكان الجيران يعرفون خطوبتي من ابنه، فيتركون لنا الحرية التامة

تظاهر دوماً هذا الشاب الذي لا أدري حاجة إلى ذكره بمحبتي، فقد كان صداقة ساذجة من أيام الطفولة تحولت إلى حب وهيام مع الزمن. وكان يقص عليَّ عندما نخلو، أو نكتَنُّ في زاوية من البيت عن السعادة التي تنتظرنا وذهوب صبره، وكان يكبرني بسنة واحدة، ولكنه تعرف إلى رجل من الجيران سيئ العيش محتكر للصناعة فوسوس له وأغواه،

ص: 21

وبينما كنت أستسلم إلى مداعباته بوداعة الطفل إذا به يغدر بوالده ويتركني بعد أن أضاعني

أتى بنا والده إلى غرفته وأبلغنا موعد الزواج فلقيني في مساء اليوم نفسه في الحديقة، وباح لي بقوة عما يكنه لي من الحب، وأنه زوجي منذ الآن أمام الله ونفسه ما دام أن موعد الزواج قد تحدد. فلم أعتذر إليه بغير شبابي وجهلي وسذاجتي، فاستسلمت إليه قبل أن يتم الاقتران الشرعي، ولم تمض ثمانية أيام حتى غادر بيت أبيه وهرب مع امرأة قدمها له صديقه الجديد فكتب لنا أنه مسافر إلى ألمانيا ومنذ ذلك الحين لم نره

هذه هي قصة حياتي وقد عرفها زوجي كما تعرفها أنت الآن، ولي من عزة نفسي وكبريائها ما أهاب بي إلى العزلة، فآليت ألا أقرب من رجل يسبب لي ألماً وضرًَّا أكثر مما لقيت في سابق حياتي؛ ورأيتك فنسيت قسمي ولكن لم أنس جرحي، فعليك أن ترأف بتضميده. وإذا كنت مريضاَ فأنا مريضة أيضاً، فيجب أن نتعهد نفسينا بالتداوي. وأنت ترى يا أكتاف أنني أعرف أيضاً قيمة الذكرى الماضية التي ما تزال تقض مضجعي إلى جانبك، ولكني سأتذرع بالشجاعة والصبر لأنني قاسيت أكثر مما قاسيتَ، ومن حقي البدء في هذا العمل، وإن قلبي لقليل الثقة بنفسه، وأنا أضعفُ عن احتمال أكثر مما احتملت. وكم كانت حياتي سعيدة في القرية قبل قدومك إليها! وما أكثر ما أخذت على نفسي ألا أغيّر من حالها شيئاً مما جعلني أتطلّبُ منها ما لا تستطيع أداؤه، ولكن لتكن مشيئة القدر فأنا لك الآن! أو لم تقل لي في أوقات انبساطك بأن العناية الإلهية سخرتني للحدب عليك كأم رؤوم؟ الحق ما قلت يا صديقي العزيز. أنا لست خليلتك كل الأيام وأود أن أظفر بأكثر من هذا في بعضها وأن أكون لك أماً حتى لا أرى فيك حبيباً يقسو على حبيبته. أواه يا أكتاف! لقد أصبحت طفلاً مريضاً عاتياً متشككاً، أريد أن أمرضه بنفسي وأبعث فيه الرجل الذي أحب وأهوى حتى الأبد. فليمدني الله بالقوة!. . . قالت ذاك ونظرت إلى السماء ضارعة: ربِّ يا من ترانا وتسمع نجوانا! يا إله الأمهات والمحبين، هب لي الحياة للقيام بهذا الواجب! وإذا كان لي أن أخفق وأن تثور كبريائي أو أن ينحطم قلبي البائس بالرغم مني وأن حياتي كلها. . .

ولم تتم الكلام حتى غامت عيناها بالدموع فلم تعد تستطيع النطق. يا إلهي!. إني أراها

ص: 22

راكعة أمامي ويداها مضمومتان منحنية على الصخرة والهواء يموجها كما يموج حقول الخلنج المجاورة. يا لك من مخلوق ضعيف سام! لقد صلت من أجل حبها ثم أنهضتها بذراعي متمتماً: (وا صديقتي الوحيدة! ووا خليلتي وأمي وأختي!. . اضرعي إلى الله واطلبي منه أن يمدني بالقدرة على حبك والإخلاص لك كما تستحقين. توسلي بأن يمد في حياتي وأن يقدرني على العيش وأن يغسل قلبي بدموعك وأن يجعله قرباناً مقدساً نقياً نقتسمه أمام الله!. . .)

واستلقينا على الصخرة وغرق كل ما حولنا في هدوء عميم وانبسطت السماء فوق رؤوسنا ألقه بالنجوم (أوتذكرين يا بريجيت لقاءنا الأول؟)

حمداً لك اللهم! ومنذ هاتيك الأمسية لم نعد إلى تلك الصخرة التي ظلت لنا قدساً طاهراً والطيف الأبيض الوحيد من حياتي الماضية ما يعبر من أمامي إلا ويغترق بصري ويملأ حسي

(طرطوس)

أحمد المحمود

ص: 23

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مدير مصلحة الكيمياء

عزرائيل يقبض بيد صفراء

- 1 -

كل الناس متفقون على أن ولْتر رِيد رئيس بعثة الحمى الصفراء، كان رجلاً ذا أدب جمّ ولطف كثير، لا يُؤخذ بملامة، ولا يُعوز ذمّتَه طُهْر؛ وكان يألف الاعتدال في أعماله، ويجري على المنطق في تفكيره؛ ولا شك أيضاً في أنه قامر بحياة آدمّيين فأقحمها المخاطر على علم في سبيل أبحاثه، ولم يكن له مندوحة عن ذلك، فالحيوانات تأبى كل الأباء أن تأخذ عدوى الحمى الصفراء

كذلك ليس بين الناس اختلاف في أن جيمس كارول وقد كان خشّاباً فيما مضى، كان على أتم استعداد للتضحية بنفسه في سبيل ما يريد ريدُ إثباته، وأنه لم يكن ممن تأخذه عاطفة أو رحمة بأرواح الخلق إذا ما أراد برهان أمر جلّ أو قل

كذلك يُجمع الكوبيّون وهم الذين شهدوا البعثة تعمل عن كَثَب في أرضهم، على أن الجنود الأمريكيين الذين تطوعوا بأجسامهم في التجارب عوضاً عن الخنازير الغينية المعهودة كانوا على جانب من الشجاعة لا يوصف. كذلك أجمع الأمريكيون الذين كانوا عند ذاك في كوبا وأكّدوا أن المهاجرين الأسبانيين الذين تطوعوا في التجارب مكان الخنازير الغينية لم يكونوا شجعاناً مخاطرين ولكن تجّاراً طامعين. أفَلْم ينقد كل واحد منهم مائتي ريال أجراً عن مخاطرته؟

وما من شك في أنك تستطيع أن تحني باللائمة الشديدة على القدر أن قسا تلك القسوة البالغة على جس لازار ولكن كذلك لا بد أن تنحى باللائمة عليه هو أيضاً، فهو الذي أبى أن يطرد تلك البعوضة التي وقعت على ظهر يده، وهو الذي أذن لها أن ترتوي من دمه ملء جوفها. والقدر إن كان قسا عليه فقد حنّ له من بعد موته وعطف على ذكره، فحكومة الولايات المتحدة سمّت باسمه مدفعية في ميناء بلتيمور إحياء له، ورتّبت لأرملته معاشاً

ص: 24

خمسمائة وألف ريال

وسترى أن قصة الحمى الصفراء لا نقاش فيها ولا خصام، فحكايتها متعةٌ للحاكي، وهي فوق ما فيها من المتعة ضرورية لكتاب يحكى عن المكروب ورجاله، فهي تحقق الحُلُم الذي ارتآه بستور، فهو لو قدر الآن لصاح من قاع قبره الجميل بباريس يتحدّى العالم أجمع تيّاهاً فخوراً:(ألم أقل لكم ذلك من زمن بعيد). ذلك أنني الآن وأنا أكتب هذا أعلم أن الدنيا أصبح لا يوجد بها من سمّ هذه الحمى ما تتغطى به رؤوس ستة دبابيس. وقد لا تمضي عدة سنوات أخرى حتى لا يكون على ظهر الأرض كلها ذرة من سمها، وتصبح الحمّى خبراً يُروى كبعض البائدات - هذا إذا لم نكن فوّتنا غلطةً خطيرة في التجارب المحكمة المريعة التي قام بها ريدُ وجنوده الأمريكيون ومها جروه الأسبانيون

كانت هذه الحرب التي انتهت بالغلبة على الحمى الصفراء مثلاً جميلاً للتعاون المجيد، انتظم في إثارتها وإدارتها جنود من أعجب الجنود. وكان أول من قدح شرارتها رجل عجوز غريب يُدعى الدكتور كَرْلوس فِنْلي أعفي من اللحية ذقنه، ولكنه انبتها على كل من صدغيه، فجاءت جميلة يغبطه الناس عليها. وكان يخلّط في التجارب تخليطاً. وحسبه أفاضل الكوبيّين وحكماء الأطباء رجلاً مغفّلاً قديم الغفلة مغرماً بالنظريات. وعدّه الناس أجمعون رجلا مأفوناً جسوراً. فهذا الرجل هو الذي خّمن في هذه الحمى تخمينة أبعدت في الأغراب ولكنها وقعت في الصميم من الصواب

نعم عدّه كل أحد مأفوناً، لأن كل أحد من الناس عرف عرفان اليقين كيف يدفع هذا الوباء المخوف - هذه الحمى الصفراء! وكان لكل أحد طريقته لدفعها: قال بعضهم: يجب تبخير الحراز والسّتان ومتاع الناس جميعاً قبل خروجه من المدن الو بيئة. وقال آخرون لا، فهذا غير كاف فلابد من حرقه جميعه، لا بد من حرق الحرائر والستان والأمتعة ولابد من دفنها ولابد من إتلافها قبل دخولها مناطق الوباء. وقال قوم: ليس من الحزم أن تصافح أصدقاءك إذا كان لهم أقرباء يموتون بالحمى الصفراء. وقال آخرون: ليس في هذا ضرر أبداً. وقالت جماعة ثالثة: إن الخير في هدم المنازل التي دخلتها الحمّى، فليس بكاف تطهيرها بدخان الكبريت. وعلى اختلافهم هذا فقد أجمع الناس في جنوب أمريكا وفي أوساطها وفي شمالها، مدة قرنين تقريباً، على أنه إذا حدث أن أهل مدينة أخذت تصفرّ وجوههم، وتشخص الريح

ص: 25

من صدورهم، ويصعد القيء أسود من جوفهم، ثم أخذوا يموتون بالعشرات والمئات كل يوم، لم يبق لعاقل ما يفعله إلا أن ينتفض على رجليه، ويتجه إلى أقرب باب للمدينة ويسير قُدُماً غير لاوٍ عن يمين أو يسار حتى يخرج منها. ذلك أن عِزْريل ذا اليد الصفراء يحذق النفاذ من الحيطان، واستراق الخُطا على الأرض، ومباغتة الناس من وراء الأركان، حتى النار يجوس خلالها؛ وقد يحق عليه الموت، ولكنه لا يلبث أن يُبعث حيّا. ويقوم الناس لمطاردته وفيهم أحذق الأطباء، فبعد أن يخطئوا في مطاردته أكثر ما يستطيعون من أخطاء، يأتونها بأكثر ما في قلوبهم من هوس، يجدون هذا القاتل الفلاّت لا يزال في قتله قائماً؛ ثم يسأم القتل بغتة فيكفُّ عن الناس. ويجيئه هذا السأم دائماً في شمال أمريكا بمجيء الصقيع

هذا ما كان من علم الناس عن الحمى الصفراء إلى عام 1900 وصاح فِنْلي عالياً ملء صدغيه: (أيها الناس إنكم تجهلون. أيها الناس إن الحمى الصفراء تأتي من بعوضة)، فذهبت صيحته كصرخة في واد، وارتد عليه صداها بالسخرية والهوان

- 2 -

في عام 1900 كانت الحال في مدينة هبانا أسوأ حال. فالحمى الصفراء كانت قتلت من الجنود الأمريكيين ألوفاً أكثر مما أسقط رصاص الأسبانيين، وكان المعهود في الأوبئة أنها تنزل اختياراً من طوائف الناس حيث الفقر والقذر. أما هذه الحمى فنزلت في أركان حرب الجنرال ليونارد وود فذهبت بثلث ضباطه، وضباط أركان الحرب، كما يعلم الحربيّون، رجال مصطّفون هم أكثر الجند نظافة، وأكبرهم حظاً في الحمية من الأمراض. وزأر الجنرال بأوامره فنزل رجاله على أهل هبانا غسلاً ودعكاً حتى أحالوا الكوبيّين من قوم في وسخهم سعداء إلى قوم في نظافتهم تعساء؛ وصنعوا كل ما يُصنع للمدينة، ولكن الوباء لم يتراجع، بل تزايد حتى بلغ حدّاً لم يبلغه في السنوات العشرين الماضية

عندئذ أبرقت هبانا إلى واشنطن وفي 25 يونيو عام 1900 جاء البكباشي ولْتَرْ ريد إلى كويمادوس في كوبا ومعه أمر (بأن يُعنى عناية خاصة بكل ماله صلة بأسباب الحمى الصفراء وبطرق منعها). وهذا أمر كبير، يزيده كبره كبراً إذا ذكرنا مَنْ هو ولتر ريد؛ هو أمر حاوله بستور من قبل! وأين ريدُ من بستور؟ بالطبع لم يكن ريد خلواً من المؤهلات،

ص: 26

ولو أنك قد تعترض عليها بأنها ليست مما له صلة بصيادة المكروب؛ فهو جنديّ كأحسن ما يكون من الجنود، خدم في الغرب في سهوله وجباله أربعة عشر عاماً أو تزيد؛ وكان يطير كبعض الملائكة والريح تعصف والسماء تثلج حتى يحط على فراش المرضى ممن هبطوا تلك البقاع استعماراً واستيطاناً؛ وكان على خلق متين، وجانب ليّن رقيق؛ وكأني بك تقول: ما الرقة وما الخلق الكريم ومكروب الحمى الصفراء وهو إنما يتطلب عبقرية نادرة لاصطياده. أنت على حق، ولكن مع هذا سترى أن العمل الجليل الذي تم كان يتطلب قبل كل شيء خلقاً قوياً وإرادة من حديد. ومع هذا فان ريد قام ببعض صيادة المكروب في عام 1891، وقام ببعض بحوث متقطعة في أحسن مدرسة للطب في كنف أستاذ هو من غير شك أشهر أساتذة المكروب في أمريكا، وكيف لا يكون هذا الأستاذ هكذا وهو الذي عرف كوخ وخالطه مخالطة الحميم حميمه

وجاء ريد إلى كيمادوس. وبينا هو يدخل مستشفى الحمى الصفراء مرّ به عدد كبير من شباب الجند الأمريكي خارجاً منه محمولاً على الأعناق. . . فاطمأن ريد إلى أن العمل لن يعوزه، وأن المرضى الهالكين كثيرون. وكان مع ريد الدكتور جيمس كارول ولم يكن ممن يوصف بالرقة تماماً، ولكنك ستجد بعد قليل انه نعم الجندي الباحث كان. ووجد ريدُ جس لازار في انتظاره، وكان صياد مكروب متدرّب تدرب على صيادتها في أوربا. وكان له من العمر خمس وثلاثون سنة، وكان له زوجة وطفلان خلّفهما وراءه في الولايات المتحدة، وكانت تبدو في عينه نُذُر الموت. وكان رابع الثلاثة أرستيدس اجرامونتي وكان كوبياً، وكان عمله قطع جثت الأموات. وأحسن عمله إحساناً كبيراً، ولكن اسمه لم يذع لأنه كان أصيب بالحمى فتحصّن منها فخلا عمله من المخاطر. فهؤلاء الأربعة هم (بعثة الحمى الصفراء)

وكان أول ما صنعته البعثة أن عجزت عن إيجاد المكروب في الحالات الثماني عشرة الأولى التي فحصتها، وكان منها حالات غاية في السواء، ومات منها أربع. ولم يتركوا حالة من تلك الحالات إلا ضبعوا وأوغلوا فيها فحصاً وتنقيباً، فمن ابتزاز دم إلى تزريع مكروب إلى تشريح جثث. وكثرت زريعات المكروب حتى لم يحصرها عدٌّ، ولكنهم لم يجدوا في أيها بشلة واحدة. وكان الوقت صيفاً، والشهر يوليو، وهو أسوأ الشهور لهذه

ص: 27

الحمى. وخرجت الجنود من المستشفى متلاحقة وهي أجساد هامدة

خابت البعثة خيبة كاملة فيما ارتجت، ولكن من هذه الخيبة كان النجاح. فهذه إحدى خصائص هذه الصناعة صناعة المكروب. وهذا هو الأسلوب الذي يدرجُ عليه قُنّاصه ليجدوا منه مثل الذي وجدوا. وجد إسميث ما وجد من القُرَاد لأنه آمن بالذي قال الفلاحون. ووجد رونالد رُس ما وجد مما يفعل البعوض الأشهب لان بتريك منسون دّله عليه. وكشف جراسي ما كشف عن بعوضة الملاريا بدافع من وطنيته. وهذا ريدُ يخيب في أول خطوة يخطوها، وقد يقول كل أحد إنها أهم خطوة يخطوها، فماذا هو صانعه! لا شيء. فلم يبق لديه ما يصنعه. وإذن توّفر لديه الوقت الكافي ليفْرُغ إلى نفسه ويُفكر ويُصغي إلى صوت ذاك المغفل القديم ذي النظريات، صوت الدكتور كارلوس فنلي يصيح:(أيها الناس إنكم تجهلون! إن الحمى الصفراء تأتي من بعوضة!)

وخف رجال البعثة إلى هذا الرجل المأفون الذي ضحك منه كل سن، وصُمَّت دونه كل أذن. فتلقاهم هذا الشيخ بالسرور والترحاب وأخذ يفسر لهم نظريته، ويذكر لهم أسباباً غامضة إلا أنها مبدعة جميلة حدت به إلى اتهام البعوض في نقل أسباب الحمى الصفراء. وأطلعهم على نتائج تجارب أجراها هي بئست التجارب لا تقنع أحداً. وأعطاهم بعض بيض أسود اللون مستطيل كالإصبع وقال لهم:(هذا بيض المجرم). فأخذ ريد البيض وأعطاه إلى لازار؛ وكان هذا في إيطاليا من قديم فعرف هناك بعض الشيء عن البعوض. فأخذه لازار ووضعه في مكان دافئ فانفس عن دُويدة انقلبت إلى بعوضة صغيرة غاية في الحسن كأنما شُدَّت على ظهرها أوتار من فضة فتراءى كالقيثار

خاب ريد، ولا شك في هذا. ولكن إلى جانب إقرارنا له بالخيبة، يجب أن نُقرّ له بقوة الملاحظة الحادة، وبكثير من التمييز وحسن التبصر في الامور، وستعلم فوق هذا انه كان كبير البخت محظوظاً. ومن ملاحظته وهو في غمرة من إخفاقه أن رأى حالات للمرض ثقيلة فظيعة، احمرّت فيها عيون المرضى كأنما صعد الدم متدفعاً فيها، وأصفرت صدورهم فصارت كأنها الذهب وأخذوا يفوقون ويتهوعون إنذاراً بالسوء. ثم رأى الممرضات يجُسن خلال هذه الحالات وينلْن منها ويتلوثن بها، ولكنهن بالرغم من ذلك لم تجئهن الحمى الصفراء أبداً

ص: 28

فناقش ريد رجال بعثته، قال:(لو كان المكروب أصل هذه الحمى بمثل ما هو أصل الكوليرا والطاعون، إذن لأصاب الممرضات فجمعتهن الحمى)

وأخذ ريد بعد ذلك يلاحظ ألاعيب شتى تقوم بها هذه الحمى، فرآها تظهر في كيمادوس فجأة حيث لا مظنة لظهورها: جاءت رجلاً يسكن في منزل رقم 102 بشارع ديل، وإذا بها تنط من هذا الشارع فتنعطف إلى شارع الجنرال لي فتنزل بساكن به في منزل رقم 20. ثم هي تنط ثالثة إلى الصف الآخر من هذا الشارع. وما يكن بين المصابين صلة ما، ولا التقى بعضهم ببعض أبداً

قال ريد: (كأني بهذا الحال يشير إلى أن شيئاً ينقل المرض عبر الهواء من دار إلى دار). وكانت هناك حيل غريبة أخرى تأتيها هذه الحمى درسها عنها كرتر الأمريكي: تصيب الحمى رجلاً في منزل، فقد يموت وقد يُشفى فيرحل عن المنزل، ثم يمضي على هذه الإصابة أسبوعان فلا يحدث جديد، ثم ينقضّ البلاء كالصاعقة، فإذا بنفر من أهل هذا البيت يصابون بها. قال ريد لرجاله:(كأني بمكروب من هذا البلاء يترّيث أسبوعين في بطن حشرة ليستكمل نموّه)، فلم يصدقوه ولكنهم كانوا جنوداً طائعين

قال ريد: (وعلى هذا فقد يكون صواباً ما ارتآه فِنْلي عن البعوض، وعلى أساس فكرته فلنقم بالتجربة). فاعتزامه التجريب كان بناء على الأسباب السابقة والملاحظات السالفة، وعلى الأخص بناء على أن البعثة لم تدر ما تصنع بعد الذي صنعته

وكان القول بالتجريب قولاً هيّناً. ولكن كيف يكون البدء فيه، والمعروف الثابت أن الحمى الصفراء لا يمكن إعطاؤها للحيوانات، حتى القردة وهي أقرب إلى الإنسان خلْقاً لا تأخذها. ولكن لإثبات أن البعوض ينقل الحمى لا بد من حيوانات للتجريب، وإذن لم يبقى إلا أن تكون هذه الحيوانات آدمية. ولكن أيكون معنى هذه إعطاء هذه الحمى عمداً لبعض الناس! إن الإحصاءات دلّت على أن الوافدة إذا حلّت فقد يموت من المصابين ثمانون وخمسة من مائة، أو قد يبلغون خمسين، وعلى أية حال لا يقل الموتى عن عشرين في المائة. إذن فإعطاء الحمى عمداً لبني آدم قتل للأنفس التي حرّمها الله! ولكن هنا تتدخل شدة أخلاق ريد وصلابته لتلعب دورها الكبير. وكان ريد رجلاً لا شائبة في خلقه، ولا عائبة في ذمته، وكان مؤمناً، وبالرغم من اعتداله كان الرجل الذي اصطفاه الله لخدمة أهل بني هذه

ص: 29

الإنسانية على مثل هذا الأسلوب الوعر المتطرف. وتخيّل إسميث أنْ قد ثبت له أن البعوض وحدَه هو ناقل هذه الحمى وتخيلّ ما يكون بعد ذلك من أحداث خطيرة. . .!

وطاف نهار يوم بين رجال صُفرٍ يحتضرون. فلما جاء الليل بحرّه الشديد، جمع رجاله ثم قام فيهم فقال من حديث:(. . . فلو أننا نحن رجال هذه البعثة قمنا فجازفنا بأرواحنا فأذنّا لبعوض تغذّي من دم قوم محمومين أن يَعَضَّنا ويشرب من دمائنا، إذن لضربنا خير المُثُل للجند الأمريكيين. . .). ونظر إلى لازار. ونظر إلى كارول

قال لازار: (أنا أقبل عضة البعوض)، وكانت له زوجة وطفلان

وقال كارول: (اعتمد عليّ يا سيدي وتوكل على الله)، وكانت له زوجة وخمسة أطفال، ولم يكن له من متاع الدنيا غير أجر جراحٍ مساعد في الجيش، وهو أجر حقير معروف، وغير عقل الباحث ومزاجه

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 30

‌الخلود والأدباء

(مهداة إلى الأستاذ المازني)

للأستاذ عبد الحليم عباس

يعتقد الأديب - والأديب الناشئ على الأخص - بأنه الإنسان المصطفى لتأدية رسالة الحياة إلى الأحياء، وأن غيره. . . هذه المخلوقات التي لا تدين بالأدب ولا تتلقى وحي الفن، ليست خليقة أن تساميه، ولا أن تطال إلى مقامه. إنها تقف في حيث تأخذ عنه، وتسمع إليه. . . ومن ثم فهو خالد بخلود هذا الأدب، وما عداه - من عباد الله - فمن التراب وإلى التراب. . . وهذه قضيةٌ مسلم بها - في رأي الأديب - لا تحتاج إلى مماراة، ومن هنا يجيء هذا العنت، وهذه السلسلة من الخيبة والإخفاق في حياة الأديب. إنه يعجب من الناس كيف لا يقدرونه حق قدره، وكيف لا يتنحون له عن مقامه الذي هو خليق به، والذي أعدته الحياة له؟ ولم لا! وهذا العلم بالحياة، وهذه المذاهب الفلسفية، والتبحر في فنون الأدب، أليس من حقها أن تقدم صاحبها وتقدره من المجموع؟. . بلى بلى - هكذا يقول الأديب - ولكنه ظلم الحياة، وجحود الأحياء، فما عليه إلا أن يقف معانداً لهم، مناهضاً لهذه الحياة، ليُعاد إليه حقه السليب المهتضم. . .

وبين هذا العناد والإصرار يضيع الأديب حاضره، ويخرِّب حياته، وقد يخربه الجوع. . . قال لي أديب ناشئ: لست أنظر إلى الجراح الماهر إن لم يفهم الأدب أكثر من نظري إلى جزار

وقال لي آخر: سأترك العمل عند هذا الوزير لأنه سخيفٌ وبذئ؛ فقلت له: هل أصابك رشاش من بذاءته؟ قال: كلا؛ ولو حدث لأدَّبته؛ قلت إذن دعه وشأنه. قال لا أستطيع. وفي اليوم التالي أضاع أديبنا وظيفته. وقليل من رجال الأدب من ربحت تجارته الدنيوية، وأصبح من رجال الأعمال

مثل هذه الحوادث كثيرة نشاهدها في كثير من الأحيان، ونحتار في تعليلها؛ ولكن مردها في البعيد يعود إلى فهم الأدباء للحياة على ضوء الأدب، وإلى الذهاب في تقدير قيمهم، وإن من حقهم أن يتعالوا على الناس، لأنهم من طائفة الخالدين. . .

ويكبر الأديب، ويشب عن الطوق - كما يقولون - وتمر عليه صورٌ من الحياة، وتثقله

ص: 31

تكاليفها اليومية السخيفة - كما ينعتها سبينوزا فيرى أن يقبل عليها، ويضرب مع الضاربين فيها - إن أراد أن يعيش - فالكواكب ليست أرغفة، والسماء لا تمطر بقلا. . . وهكذا ترغمه الحياة على أن يصانعها ويصانع معها الأحياء. . .

. . . ولكن هل انتهى بينه وبينها الخلاف؟ وهل أصبح هو وبنيها على أتم وفاق، يوم علم أن هذا الأدب الذي يدلُّ به ليس له كبير فضل، وأن هذا الخلود لا يعني شيئاً؟ لقد خلدت في الدنيا بغلة أبي دلامة، وحمار الرشيد. أم أن فهمه للدنيا على هذا النحو الجديد، يعني بداية معركة جديدة حامية، ولكنها تحرق الأديب قبل أن تحرق غيره. . أظن أن كثيرين يوافقونني على أن هذه بداية معركة لا نهاية؛ فالحياة لم تلق من هؤلاء الذين يناصبونها العداء طول حياتهم مثلما لقيت من هذه الطائفة من الأدباء الذين يضربون في زحمتها، ويسايرون مواكبها، على أن يخرجوا لها ألسنتهم هزؤاً، كلما آنسوا منها غفلة، وليفضحوا سرائرها في كل حين. . .

لم تنته المعركة بعد، فليست قضية الخلود هي كل الخلاف بين الأديب والأحياء. فكيفما جارى الأديب الناس في فهمهم للحياة فلا مشاحة في أنه يفهم الحياة على وجهة تختلف عن الوجهة التي يفهمها عليها الأحياء، إذ أن الأمر لا يتعلق باختياره؛ وقد يحب هو أن يجاريهم في كل شيء، ولكن ما حيلته في هذه الأعصاب التي ركبت على شكلٍ يختلف عما ركبت عليه أعصاب الناس - أحسن منهم أو دونهم هذا لا يعنينا - إنها مرهفة دقيقة، مستوفزة، تفعل بها الإشارة الغامضة ما لا تفعله بغيرها العبارة الصريحة، كيف يحب؟ وكيف يكره؟ وكيف يجنُّ بالحسن، وتفعل به الزهرة الغضة أو الذابلة؟ هذه أشياءٌ تفسيرها عند هذه الأعصاب

وشيء آخر يباعده عنهم، ويمد في شقة الخلاف، هو أين يعيش الأديب، وما هي دنياه؟؟ لا نحب أن نكتب خيالاً، إن إدمان مطالعته في نماذج الجمال والأدب، ولد في نفسه حباً للجمال. إنه يعيش بهذا الجمال الذي يطالعه به الخيال، أكثر مما يعيش في دنيا الواقع. . . كما وإن إدمان دراسته للحياة والواقع فتح عينه على الجانب البشع منها. أليس في الحياة بشاعة؟ ومن لا يقول هذا مع الأديب، حتى عباد الحياة أنفسهم؟ إذن فهو يريد أن يتسامى في هذا الواقع ليوائم بينه وبين ما في نفسه من جمال، يود أن يرتفع بهذه الخلائق، يذيب

ص: 32

نفسه قطرة قطرة، ليرى الناس جمال الحق وعظمة الصدق ونبالة الوفاء، ولكن الحياة والواقع يحتاجان إلى نقائض هذه، فما هو إلا أن يشعر بالخيبة حتى يروح يحرق الأرم ويتلوى على نفسه؛ وبين الخيال، وركود الأحياء في دنيا الواقع، تختضب الأيام بدم الكاتب، فهو على مثل هذا وفاق بين الأديب ودنياه، على أننا لا نأسف - نحن النظارة - لذلك، فلو لم يغمس الأديب قلمه بدمه، ولو لم يقدم نفسه قرباناً للجمال والحق. . . لما عرفنا أين يقع الجمال والحق في هذه الدنيا. فلتدم هذه المعركة - وهي دائمة بفضل هذه الأعصاب الشاذة - ما برحت - وإن نحر فيها الأديب نفسه - تدنينا من الحق، ولو قيد شعرة. . . إذن فلا وفاق بين الأديب والأحياء. .؟ نعم ولو أصبحت هذه الدنيا وفاق حلم الأديب، ودنياه المثالية، فالخيال لا يزال يبدع والجمال في هذه النفوس لا يحد. . .

وما هذه المصانعة التي تبدو من جانب الأدباء للحياة في بعض الأحايين والتي يخيل إليهم فيها أنهم أصبحوا يتلقون الحياة كما يتلقاها الآخرون - (بلا تذمر ولا سخط) إلا مخادعة النفس، وإلهائها عن آلامها الرفيعة التي تحزُّ فيها؛ هي قطعة الحلوى نقدمها للطفل لنسكته عن الصراخ

كيف يكون على وفاق هذا السابق مع المقعد المتخلف؟ فالأدباء في كل أمة هم رواد النهضات. يشيرون إلى العالم البعيد المجهول الممتلئة به أفكارهم، الآخذ عليهم مسارب نفوسهم، وخفي أشواقهم. كلُّ نهضة كان يسبقها أديبٌ أو أكثر، يبشر أن فجر الحق قريبٌ ورائع، وأن هناك في ضمير الغيب دنيا أمتع من هذه وأحلى. . .

. .؛ والآن هل استطاع المازني - أن يلقى الحياة، كما يلقاها الغير، أبناؤها؟ أما هو فيكاد يقول نعم، أو قد قالها بالفعل، بعد أن أزاح من فكره - حب الولع بالخلود - والحمد لله. أما نحن جمهرة القراء فنقول لا، ونمدُّ بها أصواتنا

كيف يلقى الناس الحياة؟ إنهم ينسابون في غمارها، يندفعون في لجتها - كما تندفع أنت يا أستاذ بالذات - حذو القذة بالقذة، ولكن تمرُّ الشهور، وتتصرم السنون، وينتهي العمر، وهم لا يفطنون لذواتهم، ولا يعرفون عن هذا السرور شيئاً، كيف جاء، وكيف راح؟ تلك قضية لا دخل لهم فيها.

حسبهم انهم مسرورون وكفى؛ أما هؤلاء الذين يلقون أنفسهم بالسرور إلقاء، ثم يقفون عند

ص: 33

كل شوط، ليسائلوا أنفسهم هل سروا حقاً؟ هل استطاعوا أن يغرقوا ذواتهم المضطربة، ويسكتوها ولو دقيقة واحدة؟ فهؤلاء بعيدون عن السرور، وأحرى أن يتقلب بهم هذا السرور إلى شر، أو يزيدهم شراً.، إنهم يحتسون من خمرة الخيام تلك التي اتخذها ليغرق في أكوابها صحوه وعقله

وإذا ما التوت الحياة وتعقدت، وكان ضيقها لا ينفرج، وعقدتها لا تحل، إلا في نحر الوفاء، وتضحية الصدق، فما عسى يصنع الأديب؟ أما ابن الحياة فينحر هذه غير آسف، بل هو ينحرها دون أن يعلم، ولو توصلاً (إلى ترفيع درجة إن كان موظفاً). . . فهل يستطيع الأديب ذلك؟ وماذا يصنع بهذا الضمير وهذه المثل التي لا حياة له إلا بها؟ إنه خليق أن يجن أن فعلها. . .

نعود فنستميح - أديبنا المازني - عذراً، فما أراد كل هذا، وإنما أراد أن يوهم نفسه ساعة واحدة أنه أصبح كسائر الناس، يسر بما يسرون ويضحك كما يضحكون. وقديماً قال:

يا صدى إن بقلبي لكلوماً وهموماً

مدرجات فيه لكن لا تموت

كلما قلت قضت رهن السكوت

صحن بي من كل فج يتراءى

عم مساء

أما هذا الرفيق المخالف الذي يتمناه للأديب، فما أخال الأحياء مع الأديب إلا إياه، وما أظن الدنيا تتعدى أن تكونه. فحسبه هذا. . .

(شرق الأردن)

عبد الحليم عباس

ص: 34

‌9 - تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

ترجمة حسن محمد حبشي

الفصل الثاني

لم ينس العرب هذه الحوادث فبعثت فيهم الكبرياء القومي، فقالوا إن الجيوش الرومانية سارت ذات مرة - على أية حال - تحت لواء أميرة عربية، ولكن القصة - كما نستدل من أخبارهم - ذات صلة قليلة بالواقع، ولم يقتصر التغيير على أسماء الأشخاص والأماكن فحسب، (كما حدث في اختلاط اسم زينوبيا باسم وزيرها زبدي) بل إن الوضع التاريخي قد أصبح مستحيلاً على التمييز. وكل ما بقى لا يتعدّى قصة من قصص المخاطرات التي كان عرب الجاهلية يميلون إلى سماعها، وكما هو الحال اليوم في أبنائهم المحدثين الذين لا يملون سماع قصة عنتر أو ألف ليلة وليلة

ويقال إن أول ملك من العرب الذين استقروا في العراق هو مالك الأزدي الذي رمى بقوس من يد ابنه سليمان وقبل أن يسلم الروح قال بيتاً راح فيما بعد مضرب المثل:

أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتد ساعده رماني

وقد وحّد مملكة مالك - إذا جاز أن توصف بهذا اللقب - ونظم أمورها ابنُه جذيمة الأبرش (وهو تصحيف أدبي لكلمة أبرص)، الذي حكم كتابع لأردشير بابكان (226م) مؤسس الدولة الساسانية في فارس، التي استمرت مسيطرة على عرب العراق طول فترة ما قبل الإسلام، وإن جذيمة هذا لبطل كثير من الخرافات والأمثال، وكان من كبريائه - كما يقال - إنه لم يكن ليسمح لأحد ما بمجالسته ومنادمته سوى نجمين يسميان بالفرقدين، فإذا ما عاقر الحان صبّ لكل منهما كأساً، وقد علقت أخته بوصيف له يدعى (عديا بن نصر)، وفي لحظة لعبت الخمر برأس جذيمة رضى بزواجها إياه، فبنى عدي بها؛ وفي الصباح، عندما عاد أخوها إلى رشده، وثاب إلى صوابه تميز من الغيظ من تلك الخديعة التي جازت عليه فأطاح رأس الزوج المسكين، وأرغم أخته أن تتزوّج من عبد حقير، ومع ذلك فلما وضعت غلاماً تبنّاه جذيمة وكلأه بعطفه وحدبه؛ واختفى الشاب عمرو ذات يوم فجأة ويئس

ص: 35

الجميع من وجوده، وانقضى زمن طويل لم يعثر أحد فيه له على أثر حتى صادفه أخوان: هما مالك وعقيل، وقد وجداه عرياناً متوحشاً يهيم على وجهه، فاهتما به وألبساه ومثلا به أمام الملك الذي غلب عليه السرور فوعدهما ألا يرد لهما طلبة يسألانه إيّاها، فاختارا الشرف الذي لم يجرؤ على طلبه إنسان قبلهما قط: وهو أن يكونا نديميه، وعرفا فيما بعد باسم (ندماني جذيمة)

وكان جذيمة هذا أميراً مفكراً شجاعاً، وفي إحدى حملاته ذبح عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة، وهو رئيس عشيرة عربية كان قد ضم جزءاً من سورية الشرقية وأرض الجزيرة إلى نفوذه، والذي يتضح لنا أنه (كما هو ظاهر من اسم أذينة) كان بعينه أذينة زوج زينوبيا، يؤيد هذا الرأي ما قاله ابن قتيبة (وخطب جذيمةُ الزباء، وكانت بنت ملك الجزيرة وملكت بعد زوجها) وطبقاً لما يراه المؤرخون المسلمون، فقد كانت الزباء ابنة عمرو بن ظرب، واختيرت لتكون خليفته، بعد ترديته في ساحة القتال، ومهما يكن هذا الأمر فقد برهنت على أنها امرأة نادرة الشجاعة ذات عزم جبار، ولكي تأمن شر الغارات شيدت حصنين قويين على شاطئ الفرات جعلت بينهما نفقاً، وأقامت هي في أحدهما وسكنت أختها زينب في الآخر، فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة لأبيها فكتبت تقول له إنها قد رغبت في صلة بلدها ببلده، وإنها في ضعف من سلطانها وقلة ضبط لمملكتها وإنها لم تجد كفؤاً غيره، وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه، فلما وصل ذلك إليه استخفه الطرب ولم ينتصح برأي مشيره، فقال له قصير مرشده في طريقه (انصرف ودمك في وجهك) حتى إذا شارف مدينتها قال لقصير:(ما الرأي) قال: (ببقّة تركت الرأي) فراحت مثلاً، ثم استقبله رسلها بالهدايا والألطاف فقال:(يا قصير كيف ترى؟) قال: (خطر يسير في خطب كبير، وستلقاك الخيول، فأن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون، اركب العصا (أي فرسه) فإنها لا تدرك ولا تسبق قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك) فلم يفعل، ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيراً على فرسه العصا، وقد بعدت ثلاثين ميلاً، وأدخل جذيمة على الزباء، ثم أمرت جواريها أن يقطعن رواهشه في طست من ذهب وقالت:(يا جذيمة لا يضيعن من دمك شيء فإنما أريده للخبل)، ثم سقطت نقطة من دمه على اسطوانة رخام ومات

ص: 36

ومضى قصير إلى عمرو بن عدي وطلب إليه أن يثأر لخاله، فقال عمرو:(كيف وهي أمنع من عقاب الجو)، فجدع قصير أنفه وأذنه ودخل على الزباء، وأخبرها أن عمْراً لاحق به لقتله جزاء خيانته فصدقته وأعطته مالاً للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها، وانصرف به إليها، ففرحت به، ثم قال لها يوماً:(إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقاً يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها) فقالت له: (قد اتخذت نفقاً تحت سريري هذا يخرج إلى نفق تحت سرير أختي) وأرته إياه، فأظهر لها سروره بذلك وخرج في تجارته وعرف عمرو بن عدي ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق، حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل وقال لها:(اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك وتقدمي إلى بوابك)، فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكما من الأعكام، فأصاب خاصرة رجل فصاح، فقال البواب:(شر والله عكمتم به في الجواليق) فثاروا بأهل المدينة وانصرفت الزباء راجعة، فلقيت عمرو بن عدي فمصت خاتمها، وقالت:(بيد لا بيد عمرو)

ولقد بلغت الثقافة في مملكتي الحيرة وغسّان في عصر ما قبل الإسلام شأواً بعيداً في الرقيّ وشعشعت أنوارها، وعمّ أثرها جميع أنحاء الجزيرة العربية، وليس من الإسراف في القول أن نذكر في هذا المجال تاريخ وملابسات الظروف، التي مكنتهم من القيام بنشر الرقي والحضارة

في مستهل القرن الثالث بعد الميلاد كانت هناك بعض قبائل يرجع كلها أو بعضها إلى أصل يمني، وقد عقدت فيما بينها حلفاً وسميت في مجموعها (بتنوخ)، وكانت تلك القبائل تثير بين آن وآخر كثيراً من الاضطرابات، وانتشرت في جميع ربوع إمبراطورية وأغارت على العراق، حتى ألقت عصا التسيار في إقليم غرب الفرات الخصيب، وبينما ظلّ بعض المغيرين يحيون حياة بدوية محضة، اشتغل آخرون بفلاحة الأرض وزرعها، وعلى كر الأيام نشأت المدن والقرى، وكان أعظمها أهمية الحيرة (أي المعسكر) ذات الموقع الصحيّ الجميل وعلى مسيرة عدة أميال قليلة من جنوب الكوفة، بالقرب من بابليون القديم، وطبقا لما ذكره هشام بن محمد الكلبي (+ 819 أو 821م) المؤلف العظيم عن عصر الجاهلية، فقد كان سكان الحيرة في عهد أزدشير بابكان أول ملك ساساني لفارس

ص: 37

(226 - 240م) يتكوّنون من ثلاث طوائف هي:

(1)

تنوخ: وتسكن غرب الفرات بين الحيرة والأنبار في طنب من وبر الجمال

(2)

العباد: ويسكنون البيوت في الحيرة

(3)

الأحلاف: ولم يكونوا ينتمون إلى إحدى الطائفتين السابقتين بل ألحقوا أنفسهم بأهل الحيرة، وعاشوا بينهم كأنهم آبقون قتلة يلاحقهم الثأر، أو مهاجرون معوزون يحاولون الاطمئنان على مستقبلهم

وطبيعي أن يؤثر أهل المدن إلى حد بعيد في السكان، ولقد رأينا هشاما يسميهم (العباد) وهذا لفظ غير دقيق تماماً إذ العباد عرب الحيرة المسيحيون، وقد سموا بذلك لاعتناقهم النصرانية، أما العرب الوثنيون الذين سكنوا الحيرة منذ أن أنشئت، وظلوا مقيمين بها، فلم يكونوا يدلون على نقيض المعنى المفهوم من الوثنية. أما لفظ (العباد) فيقصد به خُدَّام الله والمسيح، ولا نستطيع أن نحدد تماماً أيان بدئ إطلاق هذا اللقب على أولئك المتدينين الذين كانوا من قبائل مختلفة، كانت تسكن الحيرة أثناء القرن السادس، وليست التواريخ ذات قيمة كبيرة نسبياً، بيد أن الأمر الذي تجب الإشارة إليه، هو وجود جماعة عربية في فترة ما قبل الإسلام لم تكن قائمة على صلات الدم أو تجمها العصبية، ولكن تربطها روابط روحية أعني بذلك الإيمان العام. أما ثقافة وديانة (العباد) فقد تسرّ بنا إلى أقصى الأماكن والجهات النائية المنعزلة في شبه جزيرة العرب كما سترى ذلك مفصلاً في مكانه الخاص، وكان هؤلاء أساتذة العرب الوثنيين الذين قليلاً ما كانوا يقرءون أو يكتبون كما كانوا عازفين عن التعليم فخورين بجهلهم بالتهذيب الذي يرون فيه نوعاً من المذلة، ومع ذلك نرى أن أرقى العقول ثقافة بين البدو كانت مجذوبة بلا نزاع إلى الحيرة، ولقد وجد شعراء هاتيك الأيام في الأمراء خير مشجع، فزار كثير من شعراء الجاهلية بلاط اللخميين كما اتخذها بعضهم كالنابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص دار إقامة

وليس من المهم أن ندخل في تفاصيل غير مجدية كأصل ونشأة دولة اللخميين في الحيرة، ويذكر هشام بن محمد الكلبي إن أول حاكم لخمي كان يدعى (عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن لخم) وهو الذي تبنّى جذيمة والذي انتقم له من الملكة الزّباء، ولسنا ندري في الغالب شيئاً عن خلفائه، حتى نصل إلى النعمان الأول المسمّى بالأعور، والذي كان حكمه

ص: 38

في الربع الأول من القرن الخامس الميلادي، وقد اشتهر النعمان هذا بأنه باني الخورنق، وهو قصر فخم بقرب الحيرة بناه في عصر الملك الساساني يزدجرد الأول الذي أراد مسكناً صحياً لابنه الأمير بهرام جور، وعند إتمامه أمر النعمان بأن يلقى مهندسه الروماني سنمار من شاهق البنيان، إما لافتخاره بأنه كان يستطيع إقامته بناء عجيباً يدور مع الشمس حيث دارت، أو خوفاً من أن يذيع مكان حجر خاص إذ أزيح من مكانه انهار البناء كله. وفي صباح يوم من أيام الربيع أخذ النعمان مجلسه في الخورنق مع وزيره، وأشرف على النجف وحدائقها وما فيها من نخيل وعيون، وأدار بصره في جميع النواحي شرقاً وغرباً، فلما امتلأت نفسه بسحر ما رأى قال لوزيره:

- أرأيت مثل هذا؟

- كلا. ولكن لو دام!

- وما الذي يخلد؟

- ما عند الله في السماوات

فسأله النعمان: كيف يتوصل المرء إلى ذلك؟ فأجابه الوزير: بالعزوف عن الدنيا والتفاني في خدمة الاله، والكفاح من اجله. ويقال إن النعمان آلى على نفسه حينئذ أن يهجر مملكته، حتى إذا ما أقبل الليل تدثر بثوب خشن، وتسلّل في جنح الظلام، وساح في الأرض فلم يره أحد بعد ذلك؛ ويظهر أن هذه الأسطورة قد تبلورت وتضخمت من هذه الأبيات التي نظمها عدي بن زيد العبادي:

وتدبّر ربّ الخورْنق إذ أش

رف يوماً والهدى تفكيرُ

سره حاله وكثرة ما يم

لك والبحرُ معرضاً والسدير

فأرعوى قلبه فقال: (وما غِبْ_طة حي إلى المماتِ يصيرٌ؟

ثم بعد الفلاحِ والملك والأمَّ

ة وارتهمُ هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جف

فألوت به الصبا والدبور

أما ما يراه جمهرة مؤلفي العرب من اعتناق النعمان المسيحية فليس له أساس من الصحة، وإن كان هناك ما يبعث على الاعتقاد بأنه كان ميالاً إليها، إذ كانت الحرية الدينية مطلقة لرعاياه المسيحيين، كما ورد ذكر حبر مسيحي بالحيرة سنة 410م

ص: 39

(يتبع)

ترجمة حسن حبشي

ص: 40

‌6 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

الملذات والشهوات

إذا كان لك فضيلة يا أخي، وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فأنك لا تشارك فيها أحداً سواك. ولا ريب في أنك تريد أن تدعوها باسمها وتداعبها لتتسلى بها، ولكنك بهذا أشركت بها الناس بما أطلقت عليها من تعريف، فأصبحت أنت وفضيلتك مندغمين في القطيع

خير لك يا أخي أن تقول: إن ما تلذ به روحي وتتعذب به يتعالى عن الإيضاح، ويجل عن أن يسمى، وهذا العجز عن إدراكه يخلق المجاعة في أحشائي

لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف بالأشياء عند تحديدها، وإذا ما اقتحمت هذا التحديد، فلا تستحي من أن تتلفّظ به تمتمةً، فقل وأنت تتمتم:

- إن هذا هو خيري الذي أحب، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير إلا على هذه الصورة. لا أريد هذه الأشياء تبعاً لإرادة ربّ من الأرباب ولا عملاً بوصية أو ضرورة بشرية، فأنا لا أريد أن يكون لي دليل يهديني إلى عوالم عليا وجنات خلود. . .

قل: ما أحب سوى فضيلة هذه الأرض، لأن ما فيها من الحكمة قليل، وأقل منه ما فيها من صواب متفق عليه. إن هذا الطير قد بنى عشه على مقربة مني، لذلك أحببته وعطفت عليه، وها هو ذا الآن يحتضن عندي بيضه الذهبي

على هذه الوتيرة تكلّم وأنت تتمتم ممتدحاً فضيلتك

لقد كان لك فيما مضى شهوات كنت تحسبها شروراً، أما الآن فليس فيك إلا الفضائل، وقد نشأت هذه الفضائل من شهواتك نفسها، لأنك وضعت في هذه الشهوات أسمى مقاصدك فتحولت فيك إلى فضائل وملذات هي منك ولك، ولسوف ترى جميع شهواتك تستحيل إلى فضائل، ولسوف ترى كل شيطان فيك يستحيل ملاكاً حتى ولو كنت ممن يستسلمون للغيظ والشهوات وكنت من فئة الحاقدين المتعصبين

لقد كانت الكلاب المفترسة تسكن دهاليزك من قبل، فها هي ذي الآن أطيار مغرّدة. لقد

ص: 41

استقطرت بلسماً من سمومك وحلبت ناقة الأوصاب، وأنت الآن تكرع لذيذ دَرِّها

لن يخلق شرٌّ منك بعد الآن؛ غير أن هنالك شراً قد ينشأ من تخاصم فضائلك. فأصغ إليّ، يا أخي! إنك إذا شعرت بسعادة فما يكون ذلك إلا لفضيلة مستقرة فيك وهي تسهِّل اجتياز الصراط عليك

إنها لمزية أن تكون للإنسان فضائل عديدة، غير أن تعدّد الفضائل يرمى بالإنسان إلى أشقى الحظوظ. وكم من مجاهدٍ أرهقه النزال في ساحات الفضائل فتوارى لينتحر في الصحراء

إذا كنت ترى المعارك والحروب شروراً، فاعلم يا أخي أنها شرور لا بد منها، لأن للحسد والريبة والشتيمة مقامها المحترم بين فضائلك نفسها. تبصر ترَ أن كلا من فضائلك تطمح إلى المقام الأسمى وتطمع في الاستيلاء على جميع أفكارك لتستعبدها وتحصر بها وحدها كل ما في غضبك وبغضائك وحبك من قوة

إن كلا من فضائلك تحسد الأخرى، والحسد هائل مريع يتناول الفضائل أيضاً فيبيدها

إن من يحيط به لهيب الحسد تنتهي به الحال إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجه حمته المسمومة إلى نحره

أفما رأيت، يا أخي، من الفضائل من تشتم نفسها وتنتحر؟

ليس الإنسان إلا كائناً وجب عليه أن يتفوق على نفسه، لذلك حقَّ عليك، يا أخي، أن تحب فضائلك لأنك بها ستفنى هكذا تكلم زارا. . .

المجرم الشاحب

أفما تريدون أن تنزلوا القصاص، أيها القضاة والمضحون، ما لم يهز الحيوان رأسه؟ إليكم رأس المجرم الشاحب، إنها لترتعش؛ وها إن أفظع احتقار يتكلم في نظراته

إن عيني المجرم تقولان لكم ما الشخصية إلا شيء وجب علينا أن نتسامى فوقه؛ وما شخصيتي إلا عظيم احتقاري للبشر

لقد انتهى أجل هذا المجرم عندما أصدر حكمه على نفسه؛ فلا تتركوا للتسامي سبيلاً يندفع منه إلى الانحطاط. عاجلوه بالموت فهو المنفذ الوحيد لمن بلغ عذابه بنفسه هذا الحد البعيد

ليكن قصاصكم، أيها القضاة رحمة لا انتقاماً. وإذا ما حكمتم بالموت فلتكن غايتكم تبرير

ص: 42

الحياة. لا يكفيكم أن تقيموا السلم بينكم وبين من تقتلون، بل يجب أن يكون حزنكم تعبيراً عن ولهكم بالإنسان الكامل. وهكذا تبررون الاستبقاء على أنفسكم

قولوا إن هذا الرجل عدوٌ ولا تقولوا إنه سافلٌ. صفوه بالمرض لا بالدناءة. اعتبروه مختّلاً لا مجرماً. وأنت أيها القاضي لو أنك تعلن للملأ، وأنت في برودك الحمراء، ما ارتكبت من مآتٍ في تفكيرك، لكنت تسمع الناس يهتفون قائلين: اخلعوا هذا الرجل عن كرسيه فهو ممتلئ أقذاراً وسموماً

ولكن الفكرة شيء والعمل شيء آخر، كما أن شبح العمل شيء مستقل بنفسه أيضاً. فليس بين هذه الأشياء الثلاثة أية علاقة يصح أن تعتبر علاقة العلة بالمعلول

إن شبح الجريمة كان صورة لاحت لهذا الرجل فعلا وجهه الاصفرار، لأنه عندما ارتكب جرمه كانت قوته على مستواها، ولكنه ما أتم الجرم حتى وهنت تلك القوة فلم يستطع أن يتفرّس في شبح جرمه

لقد لاح لهذا الرجل أنه ارتكب فعلة واحدة لا غير، وبذلك يقوم جنونه لأن الشواذ تحوّل إلى قاعدة في كيانه. إن الدائرة التي يرسم خطها المجرم هي قيد الأفكار، إذ يصبح كالفرخة يرسم المنوّمُ حولها دائرة فلا تستطيع اجتياز خطّها. وهكذا لا يكاد المجرم يخرج من جرمه حتى يدخل في دائرة جنونه

أصغوا إليّ، أيها القضاة؛ إن الجنون الذي يتلق العمل إنما تقدّمه جنونٌ آخر قبله؛ وانتم لم تسبروا روح المجرم إلى أقصاها

إن القاضي الأحمر يتساءل عن سبب إقدام المجرم على القتل، فيقول في نفسه إن القاتل أراد السرقة أولاً، أما أنا فأقول إن نفس المجرم لم تقصد السرقة بل طلبت إراقة الدماء، لأنها كانت ظامئة إلى إغماد النصل. إن عقلية المجرم لم تفهم هذا الجنون فاندفع إلى ارتكاب جرمه، وعقليته تناجيه قائلة: ما يهمك أن تريق الدماء ما دام جرمك يوصلك إلى السرقة أو الانتقام. لقد أصغى المجرم إلى صوت عقليته المسكينة لان ما أسرّت به إليه كان ثقيلاً كالرصاص، فسرق بعد أن قتل لأنه أراد أن يبرّر جنونه ولا يخجل منه

وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص أيضاً، فثقل عقله المسكين فاستولى عليه التخدّر والشلل. ولو أن هذا المجرم تمكّن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى حمله الثقيل عنه، ولكن من

ص: 43

كان سيهزّ له رأسه يا ترى؟

لو أنك أنعمت النظر في هذا الإنسان، لما تجلّى لك إلا مجموعة علل تتطلع بالعقل إلى العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها

ليس هذا الإنسان إلا كتلة أفاع اشتبكت وهي في تدافع مستمر لا تستكن إلا لتتفكك منسابة في شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها

انظروا إلى هذا الجسم المسكين! إن روحه الضعيفة طمحت إلى استكناه ما في الجسم من ألم ورغبات، فخيّل لها أنها متشوقة إلى القتل

إن من يتسلط عليه هذا المرض في هذه الأيام لتباغته شرورها فيريد أن يعذب الآخرين بما يتعذب هو به؛ غير أنه قد مرّ زمان من قبل كان له خير وشر، هما غير خير هذه الأيام وشرها. ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك الإنسان ومطامعه جرائم عليه، فكان المبتلى بالشكوك والمطامع يعدّ ساخراً ومنشقاً عن المجتمع فيعمد هو إلى تعذيب الآخرين بعذابه

إنكم لا تريدون الإصغاء إلى أقوالي إذ ترونها تلحق الضرر بالصالحين بينكم، ولكنني لا أقيم وزناً لرجالكم الصالحين

إن في هؤلاء الرجال من تشمئز منه نفسي؛ وليس ما أكره فيهم ما يُعدّ من الشرور، فإنني أتمنى لهم جنوناً يوردهم الردى كجنون المجرم الشاحب

والحق أنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو إخلاصاً أو عدلاً، لأن فضيلة هؤلاء الناس لا تقوم إلا على إطالة عمرهم لقضائه بالملذّات السافلة ولا ملذّة لهم إلا بالارتياح إلى نفوسهم والرضى عنها

ما أنا إلا حاجز قائم على ضفة النهر، فمن له قدرة على التمسك بي فليفعل، ومن لا طاقة له على ذلك فلا يظن أني سأكون في يده يقبض علي كما يقبض الكسيح على عصاه

هكذا تكلم زارا. . .

القراءة والكتابة

إنني أستعرض جميع ما كُتب، فلا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه. اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح، وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دماً غريباً. إنني أبغض كلّ قارئ كسول لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مرّ قرن آخر على طغمة القارئين

ص: 44

فلابد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير

إذا أُعطى لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمان فحسب، بل إن الفكرة نفسه سيفسد أيضاً

لقد كان الفكر فيما مضى إلهاً فتحوَّل إلى رجل؛ وها هو ذا الآن كتلة من الغوغاء. إن من يكتب سُوَراً بدمه لا يريد أن تتلى تلك السورة تلاوة، بل يريد أن تستظهرها القلوب

إن أقرب الطرق بين الجبال إنما هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة، ولا يمكنك أن تتبع هذا السبيل إذ لم تكن لك رجلا مارد. يجب أن تكون التعاليم شامخة كهذه الذرى، وأن يكون لمن تلقن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم

لقد رقّ النسيم وصفاً، وهذه المخاطر تحدق بي عن كثب، وفكرتي تتخطر مرحة في قسوتها؛ أمامي الصراط الممهد فلأتخذنّ من الجن أتباعاً. أنا ربّ الجسارة والعزم؛ ومن توصل بأقدامه إلى طرد الأشباح لا يصعب عليه أن يخلق من الجنّ له أتباعاً

لقد تاقت شجاعتي إلى الضحك، وقد انقطع كل حبل بيني وبينكم. إن السحب المتمخّضة بالعواصف لهي سحبكم السوداء الثقيلة وأنا أهزأ الآن بها

إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما تحت أقدامي. فهل بينكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذرى

من يحوِّمْ فوق أعالي الجبال يستهزئ بجميع مآسي الحياة، ويستهزئ بمسارحها، بل بالحياة نفسها

تريدنا الحكمة شجعاناً لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين، لأن الحكمة أنثى، ولا تحب الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب

تقولون لي إن الحياة وقر ثقيل، فقولوا لي أيضاً لماذا تقابلون الصباح بغروركم، ثم يجيء المساء فلا يجد فيكم إلا المذلة والخضوع؟

إن الحياة جدّ ثقيلة، ولكن ما هذا الخورُ الذي يبدو عليكم؟ أفلسنا كلنا دواب ولكل دابَّة منا وقِرُها؟ وهل من شبه بيننا وبين برعم الورد، يرتجف متضايقاً لسقوط قطرة الندى عليه!

لا ريب أننا نحب الحياة، وليس سبب ذلك لأننا تعودناها، بل السبب في أننا تعوّدنا حب الحياة

ص: 45

إن في الحب شيئاً من الجنون، ولكن في الجنون شيئاً من الحكمة. وأنا نفسي التائق إلى الحياة يتراءى لي أن خيرَ من يدْرك السعادة إنما هي الفراشات وكرات الصابون الفارغة، ومن يشبهها من الناس. ولا شيء يبكي زارا ويدفعه إلى الإنشاد كنظره إلى هذه الأرواح الصغيرة الخفيفة الرائعة الدائمة الخفقان في جنونها

إن الإله الذي يمكنني أن أومن به إنما هو الإله الذي يمكنه أن يرقص

عندما تراءى لي الشيطان رأيته جامداً مستغرقاً ملؤه الجد والجلال، فقلت هذا هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحالات لديه

إذا أردت القتل فلا تستعن بالغضب، بل استعن بالضحك. فهيّا بنا نقتل الروح الثقيل

إنني ما زلت راكضاً منذ تعلمت المشي. وهأنذا أطير الآن ولست بحاجة إلى من يدفعني لأتحرك

لقد أصبحت خفيفاً، فأنا أطير مشعراً بأنني أحلّق فوق ذاتي وأن إلهاً يرقص في داخلي

هكذا تكلم زارا. . .

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 46

‌مشرقيات

في الأدب العربي الحديث

للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي

الأستاذ بجامعة ليننجراد

بقية ما نشر في الأعداد السابقة

إن مسألة لغة الحوار في التأليف المسرحي قد تبدو ذات أهمية أكثر منها في عالم القصة. ويستدل من الاتجاه السائد أن اللغة العربية الفصحى احتفظت حتى الآن بقواعدها، لكن هناك محاولات جديرة بالاهتمام، مشبعة بروح متناقضة. ولنذكر منها محاولات جلال وتيمور. وكثيراً ما ظهرت مؤلفات نظرية تشير إلى ضرورة انتهاج تقاليد أدبية ثابتة. بل إنه قام جدال قلمي حاد في سوريا، عند ظهور مؤلفات مارون غصن، (المولود في سنة 1881)، فالموضوع يثير اهتمام الباحث المدقق، لكن حله ليس من السهولة بمكان

ومما تجدر ملاحظته أن القصصي محمود تيمور، الذي كان يكثر من استعمال العامية في الطبعات الأولى من مؤلفاته، عاد يكتب بعدئذ بلغة هي أقرب إلى الفصحى، وذلك على الرغم من أنه - نظرياً - ينبأ بمستقبل العامية المصرية ويدافع عنها

وفي مؤلفات توفيق الحكيم المسرحية، نراه يجمع بمهارة بين اللهجة العامية في الحوار وبين اللغة الفصحى عندما يدون ملاحظاته أو وصفه. وقد دلت التجارب العملية على أن هذا الحل هو خير الحلول الوسطى في الوقت الحاضر

ء - أنواع أخرى

إن تاريخ تقدم الأدب العربي الجديد محاط ببعض الظروف الخاصة التي تضطرنا إلى الولوج في بعض أنواع قد تترك جانباً إذا أثير البحث حول ما اتفق على تسميته (الأدب). مثال ذلك الصحافة، فقد لعبت بأسرها دوراً من المرتبة الأولى في الأهمية، إذ كانت مدرسة لا للقراء فحسب، بل وللكتاب أنفسهم، فكان ما ينشره الكتاب من المقالات في الصحف يساعدهم على تحسين أسلوبهم شيئاً فشيئاً، وذلك يؤثر في كتابتهم عندما يتناولون الأنواع الأخرى

ص: 47

وأشد هذه الأنواع تأثراً: النثر الخطابي (السياسي وغيره) وهكذا نشأت أبحاث في النقد وتاريخ الأدب، ورسائل أدبية مختلفة، تذوقها الجمهور، إذ وصلت في أسلوبها إلى مرتبة الشعر المنثور. وسار هذا الأسلوب الخاص بالصحف والمجلات والرسائل سريعاً في طريق التقدم. نعم، إن القرن التاسع عشر لم ينتج شيئاً جديراً بالاهتمام، لكننا لا نستطيع أن ننكر أثر البستاني ونشراته الدورية العديدة. وقد تخرج في تلك المدرسة عدد كبير من الصحفيين أمثال أديب اسحق، الخطيب الملتهب حماسة، ونجيب حداد الذي اتجهت ميوله إلى الجدل الفلسفي

وكان للهجرة إلى أوربا بعض الشيء من الأهمية، إذ أنجبت شخصيات فذة عديدة، مثل الشدياق وخصمه رزق الله حسون المتوفى في سنة 1880، ورشيد الدحداح الذي امتاز بما نشره من المؤلفات القديمة (1813 - 1889). وفي خلال المدة من سنة 1880 إلى 1890 اجتازت مصر نقطة من أدق النقط في تاريخها. فعلى أثر نشوب الثورة العرابية بدت في الأفق شخصية عبد الله نديم (1844 - 1896) الذي أخذ يعالج في صحف عدة المسائل الاجتماعية والسياسية بأسلوب لاذع وفي لغة الكلام العادية. ومثله يعقوب صنوع (1839 - 1912) المعروف باسم الشيخ أبو نضارة والذي أقام فترة طويلة في فرنسا. أما عبد الرحمن الكواكبي (1849 - 1903) فكان في شبه عزلة عن كتاب عصره. كان الكواكبي رحالة ثائراً، يحلم بالجامعة الإسلامية، وقد أنشأ في كتابه (أم القرى) فكرة خيالية رائعة عن مؤتمر الاتحاد الإسلامي بمكة المكرمة

في خلال تلك المدة، أخذت مدرسة الشيخ محمد عبده تنمو وتقوى. ومن الذين تخرجوا في تلك المدرسة سعد زغلول (1859 - 1927) أشهر خطيب سياسي في مصر الحديثة، فلم يكن له نظير في مستهل القرن العشرين سوى مصطفى كامل (1874 - 1908) مؤسس الحزب الوطني. أما الذين خلفوا الشيخ عبده مباشرة، فقد وقفت جهودهم عند أبحاث إسلامية بحتة في التفسير وفي الدفاع عن الإسلام، ولم تحدث أي أثر واقع في الحركة الأدبية. وهذه الملاحظة تنطبق على أمثال محمد رشيد رضا، وهو أدقهم محافظة وأشهرهم. ومحمد فريد وجدي (المولود في سنة 1875)، وهو أكثرهم تشبعاً بالروح العصرية

وفاقت شهرة علي يوسف (1863 - 1913) - منشئ (المؤيد) - في عالم الصحافة

ص: 48

شهرته في أي ميدان آخر. ولا يزال الأمير الدرزي شكيب أرسلان نزيل أوربا منذ سنوات، يشغل المقام الأول. واستأنفت المدرسة الصحفية السورية تقاليدها في مصر، بفضل يعقوب صروف (1852 - 1925) صاحب المقتطف، وسليمان البستاني (1856 - 1925) الرحالة النابه، ومترجم الإلياذة، وقد كتب عن تركيا مؤلفاً جاء فيه بأحسن الأوصاف عن حالة العرب الاجتماعية قبل الحرب العظمى. وللأسلوب العلمي الفلسفي الذي امتاز به البستاني نقيضه فيما كتبه ولي الدين يكن (1873 - 1921) من مقالات ورسائل، وقصائد

كان ولي الدين من أشد أنصار التقرب من الأتراك والعرب، فراح يصنف بعبارات تلتهب حمية وحماسة، وفي صور مؤثرة أيام أسره في إستامبول في عهد السلطان عبد الحميد، وما شاهده من المفارقات الاجتماعية في تركيا

وامتاز مصطفى لطفي المنفلوطي - وهو أصغر تلاميذ الشيخ عبده سناً - بما بذله من الجهود الموفقة لابتكار أسلوب جديد شائق، ويمكننا أن نقول إنه نجح نجاحاً كبيراً عن جدارة واستحقاق. أما البحث فيما إذا كانت المؤلفات العديدة التي نقلها بتصرف عن أصلها الأوربي قد أفادت القراء من حيث فهمها على حقيقتها، فهذا موضوع بحث آخر

وأظهرت المدرسة السورية ميلاً خاصاً إلى الرسائل والشعر المنثور. ويعتبر أمين الريحاني مبتكر هذين النوعين، وهو كاتب معروف، حائز حسن التقدير. وكان أول من رفع فن الرسائل والشعر المنثور إلى المكانة الأولى وضمن لهما شهرة ذائعة، وقد ظل مخلصاً لفنه، كما هو واضح في مؤلفاته الأخيرة. ومثله جبران خليل جبران، فانه تفرغ إلى هذين النوعين، بل إن جل مؤلفاته دواوين من الشعر المنثور أو رسائل تحوم حول نظرية خاصة أو فكرة مركزية. ثم سارت المدرسة السورية المتأمركة في طريق التنويع (مثال ذلك: ميخائيل نعيمة) لكن الأفضلية ظلت للرسائل والشعر المنثور. وهذه الرسائل، مع اختلاف مضمونها، تعد أهم مميزات المدرسة الحديثة، وإن كانت في مصر توجه عناية واهتماماً خاصاً إلى مسائل تاريخ الأدب، والفلسفة، والاجتماع

ومن الأمور الغريبة الجديرة بالملاحظة أن كتب رواد هذه المدرسة (كمنصور فهمي والعقاد وهيكل والمازني وسلامة موسى) إن هي إلا مقالات سبق أن نشرت على صفحات

ص: 49

المجلات والصحف اليومية، وهو دليل على حيوية هذا النوع، بل برهان ساطع على الأثر القوي الذي تركته الصحافة الدورية بالنسبة لتقدم الأدب

ترجمة محمد أمين حسونه

ص: 50

‌من ذكريات رحلة الجامعة المصرية إلى أوربا

زاكوبانا

مدينة الأحلام والثلج

بقلم محمد عبد الرحيم عنبر

كان من برنامجنا الطويل أن نزور بولندا، فوصلنا عاصمتها الجديدة (فارسوفيا) في مساء 17 أغسطس الماضي، كما كان من المقرر أن نقيم فيها ثمانية أيام، إلا أن أموراً شاقة عرضت فجعلت رئيس الرحلة يغير وجهة السير، إذ أن شرذمة كبيرة من مهرة (النشالين اليهود) قد احتفت بمقدمنا الاحتفاء اللائق! ومما زاد في مضايقتنا إجراءات البوليس البولندي التي كان لها كل الفضل في تأخير وصلوا حقائبنا إلى (بيت الطلبة) القذر الذي هيئ لأقامتنا!. وكان أغلبنا قد غلبه النعاس من فرط الإعياء فأسلم عينيه لسلطان الكرى ونام ببذلته نوماً هنيئاً حتى تبدت خيوط الصباح في اليوم التالي. وفي ذلك اليوم استفحلت احتفاءات النشالين إلى درجة مزعجة

فكان طبيعياً أذن أن يستقر بنا الفكر على مغادرة فارسوفيا بعد إذ جاهدنا جهاد الأبطال في الذود عن (جيوبنا) مما محا من نفوسنا جمال كل رؤية!

وعلى رصيف المحطة حدثني أحد الأولاد البولنديين عن هذه الظاهرة في أسف قائلاً لي: (يؤلمنا جداً أن يزعجكم أولئك النشالون الدوليون من سفلة اليهود الذين تضيق بهم بلادنا!) فشكرته وطيبت خاطره لكي أذهب عن وجهه لمعة الخجل

وبعد سفر شاق دام عشر ساعات بالقطار بلغنا زاكوبانا. وكم كان المنظر رائعاً حين كنا نعدو سراعاً خفافاً، كل خمسة منا في عربة رشيقة صغيرة ذات حصان واحد ينهب الأرض نهباً، ويطوي المسافات الطويلة صاعداً فوق صدر ربوات عاليات في طريقنا إلى فندق (مارتون الجميل الذي يطل على قلب المدينة من فوق ارتفاع تسعمائة متر، ارتفاع شاهق يتيح للنزل أن يدوروا بأعينهم فوق آفاق الجبال السامقة المترامية الأطراف، ذات التيجان الثلجية؛ أو أن يرسلوا أنظارهم بعيداً إلى حيث تفترش أشعة الشمس رقع الأرض ذات الألوان الصارخة المختلفة؛ وأينما تقع أبصارهم يشاهدوا جمالاً أخاذاً، ويروا صوراً

ص: 51

مختلفات من سحر الطبيعة الخالدة. فها هي ذي تلك الذرى الشاهقة - ذرى الجبال - تلتحف بأوشحة رمادية فاتنة من ضباب كثيف لا يلبث أن يستحيل رذاذاً خفيفاً ثم مطراً ثقيلاً يتجمع ليفترق لينتهي إلى جداول ضئيلة تتشابك أو تتشعب، وتلتوي أو تستقيم، وتنتهي بدورها إلى مجار أوسع تعترضها صخور ضخمة ترقاها المياه بعد صراع عنيف تنبعث في لحظات عنفوانه ألحان الانتصار وأنغام موسيقية شجية فتنة الناظرين ومرح السامعين!

وها هي ذي الغابات الكثيفة تزين كل مكان وتهز في النفوس حنين الالتجاء إلى أحضانها، في ظل أشجارها الباسقة، وتحت أغصانها المتهدلة، لقضاء ساعات طوال بين الخضرة والماء والوجه الحسن!

وههنا وهناك المنازل الخشبية الريفية على صدر الجبال وقممها أو على قلب السهول، متقاربة حيناً ومتباعدة أحياناً. وتبدو جلية طوراً تحت أشعة الشمس وبين الرياض النضرة كأنما هي زهرات من بنفسج فضاح! وشاحبة طورا بين لفائف الضباب كأنها فكرة سابحة في خيال شاعر مفتون!

فكيف إذن لا تكون زاكوبانا مدينة الخيال والأحلام؟

وزاكوبانا ليست مصيفاً فقط، كما أنها ليست مشتى فقط، بل هي هما معاً. فالمعجبون بها يرحلون إليها في الصيف كما يرحلون إليها في الشتاء، ويبهرهم جمالها في الفصلين. فإذا زرتها في الصيف فلست منتّهياً من سماع وصف الشتاء حين يهبط بثلوجه فتتحول تلك البقاع الخضراء الضاحكة إلى بساط فاتن من الثلج فتتيح للناس الانزواء في منازلهم يلتمسون الدفء والراحة. وتعطي الأزواج فرصة الأوبة إلى زوجاتهم مبكرين على غير العادة! ولا يخرج إلا أولئك الراغبون في الانزلاق على الجليد. عادة شائعة في تلك البلاد

فإذا كان الشتاء حدثوك عن جمال الصيف وسحره. الصيف المفتون حيث تطوى شمسه الدافئة ذلك البساط الرهيب وتدفع بأفواج الناس إلى أحضان الغابات، راجلين أو فوق ظهور الجياد. حيث تدب الحياة من جديد في الكائنات المقرورة. حيث تلبس الطبيعة رداءها الجديد! فالناس هناك لذلك تواقون إلى الرياضة العنيفة. وتتجلى هذه الروح في الطفل والشاب والشيخ! في الرجل والمرأة! في الفقير والغني! في العاشق والخلي! في كل

ص: 52

كائن حي حتى الحيوان الذليل. . .

والقوم هناك لا يألون جهداً في توفير أسباب السعادة حيث يعيشون عيشة الفطرة وينزعون عن أجسامهم المنهكة أردية السهرات الأنيقة وملابس العمل الثقيلة. فلا كلفة ولا تصنع ولا رياء ولا حقد ولا مفاخرة كاذبة. تأويلهم المدنية كلهم على السواء، ولا تجعل لأحدهم مجال الفضل على آخر، كأنهم أسرة واحدة يخرجون إلى الشوارع (بالبيجامات) وأثواب النوم. ذلك الأمر المستقبح في مدن العمل والرسميات. يتبادلون المجاملات الرقيقة كأنهم متعارفون متوادون منذ زمن بعيد

ولم يحاول أهل تلك البلاد زخرفة الطبيعة. بل تركوها كما هي بزركشتها الإلهية. وإن كان هناك ثمة مجهود يبذله الإنسان فهو في الاستمتاع بسحر الطبيعة ليس إلا؛ فيتسلق الجبال أو ينزلق على الثلج،. . . الخ. وزاكوبانا في كل هذا كالجمهورية الفاضلة التي أسسها أفلاطون في خياله الواسع!.

تكفي نفسها بنفسها وتعيش بذاتها لذاتها. يكاد يشعر المقيم بها أن تلك المدينة الوديعة هي كل ما يستطيع أن يتصور من الدنيا

وفيها السهرات الصاخبة التي تصل الليل بالنهار، وتجعل السهران يستطيع أن يقول في شيء من الزهو - إن كان هناك ثمة مجال لزهو - (بدأت سهرتي تحت ضوء القمر وختمتها تحت ضوء الشمس!)

وإن أنس لا أنس تلك الليلة البارعة التي أمضيناها في كازينو وتشاسكا حيث سعدنا ساعتين أو يزيد بمشاهدة الرقصات القومية التقليدية التي يؤديها الوطنيون في ثوبهم الوطني الموشى بالقصب والحرير ذي الألوان الفاقعة. يؤدونها رجالاً ونساء وأطفالاً! يختلط الحابل فيهم بالنابل. يأخذ الرجل يد أية امرأة يقع عليها بصره! ويمسك الطفل الغرير - مازحاً - بذقن الشيخ العجوز المائل على حافة القبر! ويحتضن الشاب الغريب الفتاة المكتملة ذات الصدر الناضج! فيدورون جميعاً في حلبة الرقص، يتجاذبون ويصفقون ويلفون لفات سريعة بارعة على كعوب أحذيتهم أو أطراف أصابعهم! ضاحكين متراقصين

وصعدنا مرات جبال تاتري راجلين أو ممتطين (القطار المعلق) إلى حيث ارتفع بنا نحو ألفين وخمسمائة متر فوق سطح البحر! نوع غريب من المواصلات لا يوجد إلا حيث

ص: 53

تتناهى الجبال إلى مثل هذا الارتفاع الشاهق كسويسرا.

وهو عبارة عن صندوق ذي أركان من الصلب وجدران من الزنك، معلق في أسلاك قوية شدت إلى أعمدة متينة رفعت فوق ذرى الجبال السامقة. وفي كل ذروة محطة كبيرة، ومكتبة وبوفيه صغيران

وزاكوبانا ككل قرية أوربية بها دار للسينما وأخرى للتمثيل وناد للرياضة. وتتوفر فيها كل أسباب الحياة من حوانيت ومقاه ومستشفيات وفنادق. . . الخ

وتنتشر هناك على الأخص الصناعات الخشبية الرفيعة كالتماثيل وأدوات المكتب والزينة والعصي لوفرة الخشب المجلوب من الغابات الكثيفة

هذه هي زاكوبانا التي تفتح ذراعيها لكل قادم. وتتألم لكل راحل بعد إذ يكون قد أنشأ بينه وبين المقيمين بها علاقات ودِّ وصداقة! المدينة التي تأوي كل هارب من مضنيات الحياة، كل ناشد راحة ومتعة وسعادة وجمالاً!

وأخيراً! المدينة التي قضينا في رحابها ستة أيام بين جمال لا ينتهي وسحر لا يوصف. والتي غادرناها محملين منها في جعابنا بمقادير غير محصورة من الأحلام والشعر!

ولعل كثيراً منا دخل إليها وقد أقفلت دونه أبواب الشعر والنثر، وخرج منها شاعراً مجيداً وأديباً فريداً!!. . .

محمد عبد الرحيم عنبر

بكلية الحقوق - الجامعة المصرية

ص: 54

‌القصص

راعية الغنم

للآنسة جميلة العلايلي

هناك في أعماق الصحراء النائية اتخذت راعية الغنم مأواها؛ وعند شط البحر الزاخر بأمواج الأزل استقر بها المقام، حيث تختلط أضواء السماء بظلال الأجواء، ويبدو الفضاء كأنه مرآة لصورة اللانهاية

في هذه الدنيا المجهولة اتخذت الراعية سكنها أو معبدها كما نظن وهي لا تدري كيف استطاعت أن تعبر محيط الحياة المحدود لتعيش في كنف الوحشة الهائلة التي لا حد لها، وكيف تمكنت من تحكيم التقاليد المرعية لتقيم لنفسها حياة لا وزن لها ولا قيمة في نظر المجتمع الإنساني

كذلك لا تدري كيف تمكنت من مغالبة رغبات الشباب وأهواء الصبا ونزعت راضية إلى حياة التقشف والحرمان

وتحار أيضاً في تفهم حياتها بقدر حيرتها من خضوعها لقوة قاهرة مجهولة ساقتها دون وعي منها إلى هذه الحياة الجرداء

وهي تذكر ماضيها القريب بما يحمله من نعم الحياة ومباهج الترف والملذات وأطايب الوجود كأنه حلم مر بها لحظات من الزمن الحالم، ولكنها لا تذكره بحنين ولا تتوق إليه ولا تتمناه، وهي تتأمل نفسها في حاضرها فيحلو لها أن تشعر بقدرتها التي حملتها - وهي لم تتعد بعد العشرين من عمرها - إلى اجتياز عقبات الحياة، وقد عبرت محيط الوجود في غير خوف، وحطمت تقاليد المجتمع الغاشمة في غير لين. . .

إنها تضحية هائلة منها بلا ريب، إذ كيف يمكن لإنسانة رقيقة ناعمة شديدة الحساسية أن تعيش في دنيا موحشة مليئة بالمخاوف والأوهام! إنها تشعر بذلك، ولكنها تعرف أيضاً أن الوحشة الهائلة والخوف المروع والسكون الرهيب أهون من أباطيل المدنية وتهاويل الجموع ومساوئ البشر، وأقل خطراً من محن التقاليد وتعسف البيئة الحاكمة!!!

لذلك ارتضت حياة الحرمان قانعة؛ ومع أن ليل الصحراء المروع كان يملأ جوانب نفسها رهبة، فإنها كانت تقتل الخوف بأحلامها السانحة. . .

ص: 55

كانت تتخيل دائماً أن الله معها، وأن ذلك الشروق البهيج كلمة الأمن تنطق بها شفتا الأزل، وأن مظهر الغروب كلمة العزاء ترسم على صفحة السماء لتوحي إليها أحلام الأمن والطمأنينة والصفاء!!!

كانت تشعر أن قلبها عامر بالحب إلى درجة يسع معها ذلك الخلاء المطلق لو ضمت الخلاء بين جانحتيها؛ وعندما تواتيها أخيلة المساء تتأمل الكون في خشوع فيرتد إليها الأمن وتعاودها الطمأنينة، ويبعث الله إليها ملائكة الرحمة فتنام نوماً هادئاً لا تشوبه مرارة القلق ولا الفزع حتى يقبل الصبح فاها بمنقار طير جميل فتستيقظ وهي على يقين أن ذلك الطير بعثه الله ليحمل إليها رسالة رضاه

على أن حياتها كانت لا تخلو من العمل الجدي في نهارها. كانت ترعى أغنامها وتغزل أصوافها وتستخرج الزبد والجبن من ألبانها ولا تنتفع بذلك لنفسها بل كانت تهبه راضية أبناء السبيل وهم في ناظريها اليتامى والمساكين والمحرومون

هؤلاء هم الذين يعرفون الله ويحبونه حباً جماً، ومع ذلك تحرمهم الحياة من نعمه وهي واحدة منهم - كما تعتقد - ولكنها الآن تملك ما لا يملكون فلم لا تمنحهم مما وهبها الله الجليل العظيم؟

إنها تشعر أنه وهبها ذلك من أجلهم وعليها أن ترد الأمانة لهم، ولعل هذا الإحساس الذي ولد معها وظل ينمو ويترعرع حتى اشتد أزره وملك عليها قلبها وعقلها هو الذي دفعها إلى ترك حياة القصور والفرار من بيئتها سراً لتعيش هنا في كنف هاته الوحشة أليفة وحيدة. بنت عشها من الأغصان وزينته بالزهر، وراحت تقتات النبت وتروي عطشها من ماء النهر، وباتت تحس أن كل ما يحيط بها حانٍ عليها، وتحس بنسمات العطف ترف عليها من كل جانب، فتشعر أن قلبها بحبه الهائل أسمى من الوجود، أو لعله صورة لذلك الذي يسمونه الخلود. ويخيل إليها أنها تملك الحياة بأسرها لأنها تتنفس في طلاقة، وتعدو في غير قيد، وتخلع أرديتها دون أن تخشى النظرات الفاسقة، وتسير كما يحلو لها فلا يلاحقها أصحاب القلوب المريضة

مرت بها الأيام وهي لا نعرف لأيامها حساباً، بل تشعر أنها كما ولدتها أمها خالية الذهن إلا من الإيمان الأكيد حتى بلغ بها الخيال يوماً فحسبت أنها تعيش في الفردوس الذي وعد الله

ص: 56

به المخلصين من عباده، حتى رأت يوماً إنسياً يروح ويجيء من بعيد فأيقنت أنها ما زالت على أرض الحياة تعيش

وتعلق نظرها بذلك الشبح الذي تراءى لها وهو يتمشى في سكون، وينقل خطاه في هوادة، وفي يده كتاب لا يقرأ منه إلا لماما ليتأمل مظاهر الطبيعة الفاتنة البادية في الصحراء؛ وظل كذلك حتى لمح عن بعد طيف الراعية الحانية على الغنم تطعمها وتسقيها، فتقدم نحوها عامداً، وراح يتأملها في عجب وهو يتوجس خيفة من وحشة المكان الذي يأويها؛ وقد عجب لجرأتها، وظن أنها لا بد أن تكون همجية مستأنسة أو أنسية متوحشة - ولكن مظهرها الملائكي طبع في ذهنه فاكتسح أمامه هذه الخواطر وراح يرثى لحالها ويفكر في أمرها، ووجد نفسه يتقدم إليها من حيث لا يدري فتوقف عن المسير وأسرع الخطى بعيداً عنها

فلشد ما كان يؤلمه أن يخاطب امرأة مجهولة، وكذلك يخجله أن يواجه امرأة. ولما ابتعد عنها وشعر بطول المسافة بينهما - ندم على تسرعه وقال لنفسه: وما ضرني لو حادثتها؟ ألا يحتمل أن تكون هي صحيفة مجلوة من ذلك الكتاب الغامض الذي يحتاج لقاموس؟ ثم ارتد إليه اعتدال رجولته فاطمأن إلى تصرفه

أما هي فقد راحت تتأمله في حذر وتعجب بدورها! فلأول مرة في تاريخ وجودها في الصحراء ترى إنسياً، وقد كانت سعيدة بوحدتها، فأي قدر قذف إليها اليوم بذلك الرجل المجهول. فملكها خوف ورعب، وسادها قلق واضطراب، وراحت تنظر للخلاء كأنه مغارة مخيفة تكاد تبتلعها، ثم تتزل عليها خاطر غريب فهدأت أعصابها فاطمأن قلبها وقالت لنفسها: عله عابر سبيل!! ثم استعادت بخيالها صورته، فأدركت أنه شاب وسيم الطلعة عليه مهابة الشباب الثري، وتأمله في كتابه يدل على أنه من طلاب العلم أو المتأدبين، من عسى أن يكون؟

عله يملك هذه البقاع فجاء اليوم يزورها - ولكن لو كان لسألني بأي حق اتخذت هذه البقعة؟ ثم إني لا أعرف إنساناً متمدينا يبلغ به جنون الزهد أو التقشف إلى حد يدفع به إلى شراء أرض قاحلة لا فائدة منها. والناس كلهم يجرون وراء الفائدة المادية

بهذه الخواطر شغلت نفسها طوال الليل حتى طلع الصباح فمر بها وقد تأملها في سكون،

ص: 57

بينما هي تتأمله في خفر، وراح يمر عليها كل يوم ملقياً عليها نظرة عابرة وهي تتعمد أن تبدو غير آبهة ولا حافلة، حتى اشتد ظمؤه يوماً، فاقترب منها وعليه طابع الصلف والكبرياء وطلب كوب ماء، فقدمت له إناء به ماء وهي تبتسم وتقول: يؤسفني أن الماء غير مكرر. . . فذق مياه الزاهدين (قالت ذلك بلهجة لا تخلو من عطف خفيّ، ولطف ساذج، وعذوبة محببة، وتحفظ رزين، فتأفف وأبى في صمت قالت: إذن تفضل كوبة من اللبن؟

فهز رأسه موافقاً وشرب ثم مد يده ببعض دريهمات إليها فامتنعت في إباء وقالت: المال لطلاب الحياة ولست منهم! فشكرها في إيجاز وكبرياء، وتركها في موقفها وسار في طريقه في هدوء وراحت تترقب مروره وقد هيأت له كوب اللبن في كل صباح فلم يحضر، ومرت الأيام وقد ازدادت لهفتها

لم ترغب فيه كرجل يحادثها أو يجالسها، ولكنها كانت تود أن تراه ثم تغمض عينيها إلى الأبد، ولم تستطع تفسير شعورها الغامض الذي ملكها. لقد باتت تحلم به في الليل وتترقبه في النهار، وجاءها على غير موعد يطلب لبناً. . . ولما شرب ظل في موقفه لا يتحرك ولا يتكلم وهي في موقفها تواري اضطرابها بالاشتغال في غزلها وأخيراً قال بلهجة التهكم المر: ما الذي جاء بك إلى هذه البقاع الجرداء وأنت صبية حسناء؟

فمالت برأسها إلى الخلف وقد بانت أشد فتنة وسحراً ثم قالت في هدوء ودعة:

ما الذي نجنيه من حياة المدنية وضجيجها! ما الذي نجنيه من أوهام الحياة؟

لا شيء بالتأكيد!!. .

إذن خير لنا أن نفكر على قدر عقولنا في حياة تكفل لنا بقدر المستطاع الأمن والسلام

فضحك الشاب متهكما وقال: وإذا كان جميع الناس على هذا الطراز (طرازك التقشفي) فما الذي تجنيه الإنسانية أيضاً؟

قالت: على الأقل تخلو من التنابذ والتنافر فترتدع الخلائق عن الحرب والتقاتل

فازداد تهكما وقال:

وهل تظنين أن امتناعك عن مشاطرة الناس حياتهم العامة يشوه من جلال الحياة؟

قالت: لا، ولكن يطمئنني أنا ويسعدني

ص: 58

قال: إذن فأنت تلبسين مسوح الراهبة إمعاناً في الأنانية؟

قالت: وهل يمكن لإنسان أن يتحرر من الأنانية؟. . . ولكن يمكن تحديد الأنانية وتوجيهها إلى طريق مستقيم، فهناك فارق كبير بين إنسان يقتل إنساناً ليسعد نفسه، وبين آخر يعرف كيف يمتع نفسه في حدود الخير والفضيلة دون أن يلجأ إلى الشر أو الرذيلة

فهز رأسه وهو يتمتم ويقول: هيه؟؟. . . وأخيراً قالت: سأعيش هنا حتى نهاية أيامي، فقال: ألا تشعرين بوحشة الوحدة؟

قالت: قلبي عامر

قال: بمن؟

قالت بنغمة حارة: بالحب!

فعاد إلى تهكمه ضاحكا وقال: وأين ذلك الحبيب؟

قالت: إنه معي

قال: ولكني لم أره، قد جئت هنا كثيرا

قالت: يخيل إليّ أنك تتغابى لتستدرجني

فتلفت الشاب يمنة ويسرة كأنه يفتش عن ذلك الحبيب، ولكنها لم تدعه في حيرته وقالت: أيمكنك أن ترى الله؟ من أجل الله جئت هنا، ومن أجله أعيش، ومن أجله أحب العالم كله!

قال: قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن لا بد لك من تحديد هذا الحب وتركيزه

فلم تفهم ما يعنيه وقالت: إنني أحب كل كائن لأنني أرى فيه سمة من سمات العظمة الإلهية، فأنا أحب الكائنات كلها لأنها تكون في مجموعها القوة الجليلة الهائلة والجمال اللامحدود، أعني أحب صورة الله منوعة الرسوم

كانت تتحدث وكل خالجة فيها تعبر بوضوح عن صدق إيمانها، وكان في التماع عينيها واختلاج شفتيها معنى صريح لعواطفها الصادقة

فغمغم الشاب بلهجة المريب: لقد دفعك الحرمان إلى ذلك

فتندت عيناها وتمتمت بصوت خفيض: أجل. هو الحرمان الذي قربني إلى الله، وهو الذي فتح قلبي للحب السامي، وهو الذي أودع في قلبي عاطفة هائلة هي على قدر غموضها عميقة عميقة

ص: 59

وأحس الشاب أن كلماتها تنزلت على قلبه فتمنى لو يعانق جسمها اللدن ليبثها الحرارة التي في كيانه، ولكن بقية من كبريائه دفعته للصمت، وكان شعورها قد فاض بها فازداد اضطرابها

ولما أحس بحنينه يشتد خاف أن يفتضح أمره فانسحب وقد حياها على عجل وانصرف

ومرت بها الأيام وهي تتجنبه بقدر ما تتمناه، فقد أدركت من المرات التي لقيته فيها أن في التماع عينيه حكاية، وعلى شفتيه طابع الرغبة الجامحة؛ ولعله ظن ذلك التجنب زهداً فاحترم مشيئتها وراح يمر بها هادئاً ويعرض عنها صامتاً

وقد فسرت هي تصرفه بالخشونة والجمود فاكتفت أن تنظر إليه من بعيد عندما يجيء ويجلس هناك على صخرة وسط الرمال كأنه يحدثها بسرائر نفسه ليرفه عن صدره عبء خواطره الثقيل

وفي أمسية قمرية ساجية أحست بشعور قوي جارف يدفعها إليه. . . لتراه ثم تعود، ولما جاءته وكان قد أخذ مجلسه على الصخرة، نظر إليها نظرة خاطفة، ثم أشار إليها بيده لتجلس فامتنعت واتجهت خلفه لتعود، فانتصب في هدوء وقال لها في رفق: أجلسي يا طيفي الهارب. . . فامتنعت. . .

فعاد يقول بصوت حزين: أنا مريض

فتمتمت: لا أظن

قال: صدقيني

قالت: لست مريضاً. . . ولكنك حالم - أجل - إن ما بك هو حلم عميق وهو الذي أورثك هذا الجمود

فارتاع ثم قال: أجامد أنا؟

قالت: أو تشك؟

قال: أجل

قالت ثق

قال: لا أظنه جمود عاطفة ولكنه رهبة وخوف

قالت: ممن تخاف؟

ص: 60

قال: منك!!!

قالت: أيمكن أن يخاف الرجل القوي امرأة ضعيفة؟

قال: آه من المرأة! في عينيها بريق الأمل وعلى شفتيها طابع الألم، ومن هذا الالتماع تتدفق القسوة في شبه زلال الرحمة

قالت: إن الله يحيط المرأة بسياج الغموض وهو ما يخيف الرجل، وما يسميه بالقسوة ليجعل لها حصانة طبيعية وسلاحا لا يؤذي. فتكلف ابتسامة شاحبة وقال: وبرغم ذلك فألف أف من سلاح عينيك

فضحكت في سذاجة وقالت: في عينيك حكاية وفي عيني سلاح - هه - يا للفارق الهائل:

فتماكر وقال:

في عيني حكاية!! عجبا!!

أتعرف الراعية التكهن؟

قالت: أجل

قال: إذن نبئينني يا كاهنتي؟

فلزمت الصمت طويلاً وهي تحدق في عينيه ثم قالت: في عينيك حكاية حلمك!!

قال: يا لله، وهل لحلمي حكاية؟

وإذا كان هذا رأيك عن عيني فما عساي أقوله في عينيك

فقالت: بدون اكتراث:

قال ما بدا لك

فنظر إليها طويلاً ثم أرخى جفونه وراح يعبث بعصاه في الرمل كأنه يصور خواطره بها ثم نظر إليها وقال:

في عينيك عمق الأبد وسر الأزل

قالت: ثم

قال: لا شيء

قالت: فسر ما وراءهما

قال: عسير عليّ إدراك ما وراء الأبد وتفهم خفايا الأزل

ص: 61

قال ذلك وهو يتأهب للانصراف فتشبثت بردائه وقد نسيت حذرها وخوفها وقالت: ابق بجانبي، ابق بجانبي، لا تتركني هكذا وشيكا

فتعمد عدم الاهتمام وحاول أن يخلص نفسه من بين يديها. ولما رفع وجهه إلى عينيها ولمح دموعها تخاذل وأخفق وأطرق برأسه في استسلام وقد تجهم وجهه ولزم الصمت. وأخيراً غمغم بصوت خفيض: أتمنى، فقبضت على يده وهي تقول: افتح عينيك!! ودعني أتأمل فيهما طويلا

دعني أتأمل فيهما حتى نهاية الوقت بل دعني أتأمل فيهما حكاية قلبي!! وهنا تلاشى كبرياؤه وبدأت عواطفه تشيع في عينيه وتتراءى كالظلال على شفتيه بسمة السخرية حتى امتدت إلى قهقهة طويلة فاستفاق فوجدها بين يديه جثة هامدة

فنضحها بالماء حتى استفاقت ففتحت عينيها في بطء وغمغمت: أما زلت هنا أيها القدر الجائر. ثم ابتسمت وقالت أترانا انتهينا؟

قال: أي قوة هائلة قد قذفتك من أعماق الحياة لتأخذي مكانك في قلبي؟ فانتصبت وقد ملكها الفرح وقالت: إذن أنت لي وسوف تظل بجانبي إلى الأبد

وأحس في أعماقه بسخرية القدر فتألم لها وعليها، إذ أدرك خطورة تصرفه وأيقن أنه عاجز عن مكافأتها على حبها - انه مرغم على فراقها، فللتقاليد حرمة يجب أن تصان، ولبيئته تقاليد مرعية يجب أن تحترم، ولوالده عليه حق الطاعة والخضوع - فتلطف بها وقال: قد أكون تطفلت عليك فمعذرة، سأذكرك دائماً بالخير، وإذا احتجت إلى معونة فأنا أقرب الناس إليك

فتألمت واحتجت في عنف وحاولت أن تحتم عليه البقاء بجانبها فخانها النطق وقعد بها الحياء

ولم يترك لها مجالاً لاستعادة قواها. فحرك ساقيه ومضى عنها مهرولاً وتركها في مكانها تتمتم:

أيمكن أن تقذفني الحياة من أعماقها إلى شاطئ فيصدمني القدر بصخرة الفناء

ومرت الأيام سراعا وهي تترقبه كل يوم وتسقط ورقة أحلامها من على شجرة أمانيها ذابلة صفراء وحاولت أن تبحث عنه هنا وهناك فلم تعثر على آثار خطاه

ص: 62

لقد مل الصحراء كما ملتها، أو لعله تعمد تجنبها رحمة بها وخوفاً عليها فأنه كان على يقين من أنه أعجز من أن يحارب أوضاع المجتمع الصارمة، وأضعف من أن يحطم التقاليد الغاشمة

ورأته في منامها على سفر يشير إليها بيده من نافذة القطار فقامت مبكرة وقطعت الوهاد والنجاد حتى بلغت محطة أول قرية تقرب من الصحراء لتتعزى برؤية المسافرين، ومرت القطر تباعا وهي تتأمل الوجوه الغادية والرائحة؛ (وأخيراً) لمحته من النافذة يرقبها في حذر ويشير إليها بيده من نافذة القطار، وسمعت بجانبها صوت رجل يقولون له (العمدة) يصيح: مع السلامة! لا تتأخر في الميعاد المحدد! وقال له صاحبه لماذا؟

فأجابه: يوم زفافه:

جميلة العلايلي

ص: 63

‌البريد الأدبي

نظريات جديدة في الفن والنقد

اطلعنا في البريد الأخير على تفاصيل القرار الذي صدر في ألمانيا بتحريم النقد الأدبي والفني، والبواعث التي أملت بإصداره؛ ويقضي القرار الجديد بتحريم نقد المؤلفات الأدبية والفنية والموسيقية والمسرحية، ويشمل أيضاً المسرح والسينما والحفلات الموسيقية كما يشمل أشخاص المؤلفين والفنانين جميعاً، ولا يباح بمقتضى القرار الجديد سوى عرض الموضوعات ووصفها دون التعليق أو إبداء الرأي. وقد صدر من قبل قرار يقضي على الكتاب بأن يعنوا عند نقد المؤلفات الفنية بالتنويه بالمزايا السياسية والثقافية والجنسية للاشتراكية الوطنية

ويرجع هذا التحريم إلى رأي الوطنية الاشتراكية (أو الهتلرية) في الفن وهو أن الفن يجب أن يستمد إلهامه من المثل والخواص القومية، وأنه لا يوجد من أجل قيمته الذاتية فقط، ولكنه يوجد لخدمة مصالح الدولة والأمة

وقد بسط الدكتور جبلز وزير الدعاية الألمانية في بيانه الرسمي بواعث هذه الخطوة الحديثة، فذكر أن مهمة الفنان هي أن يحمل إلى الأمة (القوة مع السرور)، وأن النقد الفني لا يزال في ألمانيا يحمل طابع (الحرية اليهودية) على رغم جميع الجهود التي بذلت لمحو هذا الطابع؛ وإن أولئك الفتية الذين يزعمون اليوم أنهم أقطاب المعرفة والنقد يسيئون دون قصد إلى حياتنا الفنية والثقافية؛ وهم بلا ريب ورثة الأرستقراطية اليهودية الناقدة دون أن يشعروا. ثم قال إن ذلك لا يعني إخماد حرية النقد، ولكن القصد أن يقتصر النقد على أولئك الذي تؤهلهم معارفهم ومقدرتهم للحكم على أعمال الآخرين. وإنه ليس من الإنصاف أن يتصدى فتية أحداث في العشرين أو الثانية والعشرين لنقد أعمال رجال من أقطاب الفن قضوا أعمارهم في تفهمه وإتقانه وأحرزوا شهرة عالمية فيه، وإنه يجب أن يبدأ أولئك الفتية بالتمرن على الوصف والعرض، وإن باب النقد مفتوح للقادرين، ولكنهم لا يوجدون الآن، وإنه لا يريد أن يسقط الفنانون صرعى النقد الحر. هذا ولن يفقد الفن شيئاً إذا بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، فالعظمة الزائفة تسقط في ظرف عام حتى ولو لم يقتلها النقد. أما ذوو العظمة الحقيقية فيجب أن يسمح لهم بحرية الابتكار والاحتفاظ بكرامتهم

ص: 64

الفنية، ويجب أن تصان العبقرية الحقيقية من كل ما يؤذيها ويمهد لسقوطها

هذه هي نظريات العهد الألماني الجديد في الفن وفي النقد؛ ومهما كانت في ظاهرها تحمل الطابع الطرافة، فلا ريب أنها أخطر ما يكون على الفن وعلى العبقرية الفنية، فالفن الحقيقي لا يزدهر في ظل العبودية الفكرية، ولا تنظمه القوانين العسكرية، والعبقرية الفنية أو الفكرية، لا تزدهر إلا في جو النقد الحر، والنقد وحده هو الذي يبرزها ويذكيها ويصقلها

كتاب عن علائق العرش والأمة

لعل من الأزمة الدستورية التي تجتازها إنكلترا الآن وفي الخلاف الذي قام بين العرش والحكومة ما يجعل لمثل هذا الكتاب أهمية خاصة؛ فقد صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب للدكتور بريديل كايت عنوانه (الملك والتاج الإمبراطوري. ما لجلالته من حقوق وما عليها من واجبات) ويتناول المؤرخ بالشرح كل الواجبات والأعمال التي يضطلع بها العرش في مختلف الشؤون العامة، ثم مركز الملك وعلائقه بالنسبة للإمبراطورية وما له من حقوق وما عليه من واجبات في الحالتين؛ ثم مدى تأثير العرش في مختلف الدوائر الحكومية، ويتناول المؤلف خلال بحثه كثيراً من الشخصيات السياسية الكبيرة، ويبين ماذا كان موقفها من العرش؛ ويخص السياسي الكبير جلادستون بمديحه وتقديره، في حين أنه يحمل على دزرائيلي وعلى أسلوبه. ومع أن الكتاب يدور في معظمه على علاقة العرش بالحكومة والأمة، ومدى ما يقوم به في سبيل الخدمة العامة، فان أهم فصل في الكتاب هو الفصل الذي يتناول علاقة العرش بالإمبراطورية، لأن هذا البحث جديد (ولأن المسألة التي يتناولها جديدة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية)

وقد أسبغت الأزمة الإنكليزية الأخيرة على هذا البحث أهمية خاصة

ذكرى موسيقى كبير

يحتفل في العام القادم في مدينة ليبسك بألمانيا بذكرى الموسيقي الكبير بكستهودي أعظم أساتذة (باخ) عميد الموسيقى الألمانية، وذلك لمناسبة مرور ثلاثمائة عام على مولده؛ وستقام بهذه المناسبة حفلات موسيقية يعزف فيها بآلات الكنيسة القديمة التي كان يعزف عليها في عصر بكستهودي، ويقام قداس موسيقى، وينظم متحف يضم مخطوطات الموسيقي الكبير

ص: 65

ورسائله والكتب التي ألفت فيه

وقد كان بكستهودي من أهل ليبسك وقضى معظم حياته فيها ولبث أعواماً طويلة رئيس الفرقة الكنسية في كنيسة سان ماري؛ وما زالت بهذه الكنيسة المنابر التي أمر بكستهودي بإنشائها ليلقى منها مقطوعاته الشهيرة؛ وهنالك أيضاً معزف صغير كان يعزف عليه، وعدة آلات موسيقية أخرى كان يستعملها لتوقيع الموسيقى المقدسة؛ ويوجد بمكتبة ليبسك كثير من القطع الموسيقية التي وضعها، وكثير من الوثائق التي تتعلق بحياته وعلائقه مع تلميذه باخ

معهد من نوع جديد

افتتحت جامعة لايبزج أخيراً معهداً تاريخياً من نوع جديد يخصص لدراسة المسائل المتعلقة بشعوب جنوبي شرق أوربا؛ وسيقوم بالتدريس فيه جماعة من الأخصائيين من يوجوسلافيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا واليونان وبلغاريا والمجر وتركيا؛ وقد انتدب لإدارة المعهد الأستاذ الدكتور (منستر)، وهو من أعظم المتخصصين في هذا الباب

كتاب عن العراق الحديث

صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن العراق عنوانه (تكوين العراق الحديث) بقلم كاتب أمريكي هو مستر هوارد فوستر والكتاب بحث نقدي مدعم بكثير من الوثائق، كتب بأسلوب هادئ؛ بيد أنه يكتفي من الوثائق بالمطبوع منها، ولا يدعى بأنه اطلع أو أحاط بأية وثيقة غير معروفة. ويستعرض المؤلف تاريخ العراق الحديث حتى سنة 1934؛ إلا أنه يغضي عن ذكر بعض الحوادث المعروفة كثورة الآشوريين وإخمادها في سنة 1933، وعقد اتفاق أنابيب النفط في سنة 1934، مع أنه يتحدث عن موضوعات أخرى لا تتعلق مباشرة بتاريخ العراق مثل الحرب بين ابن السعود والإمام يحيى. وينوه المؤلف بمجهود الرئيس ولسون في وضع مبدأ تقرير الشعوب لمصيرها، ويرى أنه لولا جهاده في سبيل هذه المثل العليا لكانت العراق وغيرها قد راحت ضحية الاستعمار الجشع. وهذا رأي لا يوافقه عليه الكثيرون

آثار فرعونية في المتحف البريطاني

ص: 66

تعرض لأول مرة في المتحف البريطاني مجموعة من التماثيل الفرعونية نادرة المثال. وهي ملك للمسيو كالوستي جلبنكيان من كبار رجال المال والزيت الدوليين، وقد أعارها للمتحف من مجموعته الخصوصية المشهورة بباريس

وهناك أربع عشرة قطعة بينها رأس تمثال يرجح أنه للملك أمينمحعت الثالث من ملوك الأسرة الثانية عشرة. وهو مصنوع من (الابسديان) أو الزجاج الطبيعي، وكان يستعمل قبل المعادن في صناعة الأسلحة مثل رؤوس الحراب والرماح. وكذلك يوجد تمثال لقطة بحجمها الطبيعي ومعها قطتان صغيرتان. وربما كان التمثال الفريد بينها رأس امرأة يرجع عهده إلى 3500 سنة خلت، وهو مؤلف من جزءين: غطاء الرأس وهو من الفخار المدهون بطلاء أزرق، ثم الوجه وهو من مادة زجاجية

ص: 67

‌النقد

سلسلة الموسوعات العربية

معجم الأدباء

بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

سمعت بعد عودتي من العراق الصيف الماضي أن الأديب الهمام الدكتور احمد فريد الرفاعي تطوع لنشر طائفة من أمهات كتبنا، وأن وزارة المعارف وآزرته فيما تطوع له فضمنت له تصحيح الكتب، وأن تشتري من كل كتاب ألف نسخة. وتلك همة مشكورة من الدكتور، وسنّة محمودة من الوزارة

وقد عرفت من قبل في معجم الأدباء، كما طبعه الأستاذ مرجليوت، نقصاً وسقطاً وتحريفاً، فرجوت أن تكون الطبعة الجديدة سادّة ما في الكتاب من خلل، ولبثت أنتظر أن يتحقق رجائي حين ينشر القسم الأول من الكتاب. فلما طلعت الجرائد بالبشرى بادرت إلى قراءة الأجزاء التي نشرت؛ ولكني ألفيت غير ما رجوت، وتوالت عليّ أثناء القراءة خيبة ظن بعد خيبة حتى فرغت من القسم الأول موقناً أن نشر الكتاب على هذه الشاكلة أمر لا يفي ربحه بخسارته، ولا يقوم سروره بندامته؛ وأنه يجب وقف الطبع إلى أن تؤخذ الأهبة الكافلة تصحيح الكتاب وإتقان طبعه. فليس يليق بالكتاب العظيم، ولا بالناشر الفاضل ولا بوزارة المعارف هذا التحريف والمسخ والشرح السخيف

- 2 -

وسأعرض على القارئ كيف توسمتُ الخيبة ثم ترادفت شواهدها، وتوالت أمثلتها:

نظرت إلى صفحة العنوان فرأيت أسطراً لم أبالها، ثم رأيت اسم الكتاب والمؤلف على هذا الترتيب:(معجم البلدان) وتحته: (في عشرين جزءا) وتحت هذا: (لياقوت). فبدا لي أن وضع اسم الكتاب والمؤلف على هذا الشكل ليس فاتحة خير. وكان ينبغي أن يقدم اسم المؤلف على عدد الأجزاء ويكمل الاسم بذكر اسم الأب والنسبة ويكتب بخط كبير. ثم المؤلف لم يجزّئ كتابه هذه التجزئة، فكان ينبغي الاحتفاظ بتجزئته، وتقسيم كل جزء

ص: 68

أقساماً. ومن اللطائف أني قلت لبعض الأصحاب: لماذا كتب اسم ياقوت مختصراً بحرف صغير؟ قال انظر. وأراني نسخة أهداها الناشر إلى بعض الأدباء، وقد سمي نفسه فيها المؤلف لا الناشر، ثم قال لا تعجب بعدُ من وضع اسم ياقوت هذا الوضع. قلت: أتعني أن قلم المطبوعات يفكر في حذفه؟

ثم قرأت على صفحة العنوان: (الطبعة الأخيرة) فلم أدر كيف سمى الناشر طبعته الطبعة الأخيرة. أرأيت إن طُبع الكتاب طبعة أخرى أتكون طبعتنا هذه الطبعة الأخيرة أيضاً؟ أيمكن أن يقال إن في نية وزارة المعارف أن تحرّم على الناس طبع الكتاب من بعد فتبقى طبعتها الطبعة الأخيرة إلى يوم القيامة؟

رأيت هذا كله في صفحة العنوان فسألت الله ألاّ يصدق المثل: (الكتاب يقرأ من عنوانه)، ومضيت أتصفح الكتاب فإذا هو مشكول كله كلمة كلمة وحرفا حرفا. وعجيب أنه تحمّل الكلمات هذه الأحمال، ويؤذي القارئ بهذه الأشكال دون فائدة. إن الشكل في مثل هذا الكتاب ينبغي أن يُتحرّى به مواضع اللبس، فلا يشكل ما لا يشتبه على القارئ، وأما شكل واو العطف و (في) الجارّة، والقاف من قال واللام من أداة التعريف فعمل أقل ما يوصف به أنه عبث. خذ مثلاً هذه الجملة من صفحة 194:(كان من أبلغ الناس في الكتابة) فهذه لا تحتاج إلى أن تشكل لقراء معجم الأدباء. فإذا راعينا المبتدئين من طلاب الأدب وضعنا كسرتين تحت الغين والسين. فأية حاجة إلى شكل الحروف كلها: (كَانَ مِنْ أَبْلَغِ الْنَّاسِ فيِ الكِتاَبَةِ)

قلت لنفسي: دعي شكل العنوان وشكلات الحروف ولا تقفي عند الأشكال وانظري إلى الموضوع. فقرأت فألفيت تحريفاً في الطبعة الأولى مُتَّبعاً، وتحريفاً آخر مبتكراً، وسوء صنيع في بيان مبادئ الكلام ومقاطعه، والفصل بين ما يقوله ياقوت وما ينقله، وشرحا في الحاشية لا يعدو في معظمه أن يكون غلطاً أو عبثاً

أعرض على القارئ أمثلة من هذه المآخذ، وأكتفي في هذا المقال بالتحريفات الواضحة والغلطات البيّنة تاركاً التحريف الخفيّ الذي يحتاج إلى مراجعة الكتب لبيان صوابه ريثما أفرغ له

أ - تحريفات في حروف الكلمات أو شكلها:

ص: 69

أول ما يلقى القارئ من التحريف الذي كشف عنه الولع بشكل الكلمات اسم مرجَليوث بفتح الجيم وجُب بضمها، وقد وردت الثانية مرتين ص 5 و 15.

ولا أدري ما عذر الناشرين في هذا الضبط. ونحن نسأل صديقنا المستشرق الأستاذ جب: أجاء اسمه بِضم الجيم في لهجة إنكليزية أو قحطانية أو عدنانية؟

أنا أعلم أن شاعر الترك الكبير عبد الحق حامد حينما كتب البيتين اللذين ينشران على غلاف مطبوعات جب، اضطر إلى مدّ الجيم من جب أو الكاف كما كتبها فقال:

نه اولور دي ياشامش اولسه ايدي مستر كَيب

ولكني لا أعرف ضرورة تقضي بضم الحرف

ص 16 - نَشوار، والقَفطى. والصواب كسر النون والقاف

ص 20 - كيش وعَمّان. والصواب عُمان. وشتّان ما بين البلدين

ص 21 - السلطان محمد بن تَكْش. والصواب تُكُش بضمتين

ص 23 - ثعلبة بن عكاية، وص 107 ثعلبة بن عكاشة. والصواب عكابة بالباء

ص 31 - مرو الشاهِجان، ونِتَفها. والصواب فتح الهاء وضم النون

ص 35 - لبّ عازب، وحُلم غائب. والصواب كسر الحاء

ص 37 - يعالج لما خَرّبه من هذا الأمر المقيم المقعدِ. وفي الحاشية: خرّبه نزل به. والصواب لما حزبه. يقال حزبه الأمر لا خرّبه الأمر. والمقيم بالفتح مفعول يعالج لا صفة للأمر

ص 40 - أبيات لياقوت (في غلام تركي رمدت عينه وعليها رفائد سود). وفي الحاشية الرفادة الخرقة توضع على الجرح. وهذا صواب. ولكن جاء في البيت الثاني:

(أرخى على عينيه فضل وقاية) وكان ينبغي أن يُعلم أنها فضل رفادة بعد أن ذِكرت الرفادة وشرِحت

ص 63 - قول ياقوت: (فاجعل جائزتي دعاء يزكو غرسه عند ذي العرش، واحمدني في بُسُطه والفرش) والصواب في بَسْطه أي بسط الكتاب

ص 64 - (إذ كلٌّ همَّه تحصيل المأكول والمشروب). والصواب همُّه بضم الميم. والمراد هنا الاسم، لأن الفعل أَهّم لا همّ

ص: 70

ص 80 - ومعاوية بفارسٍ. والصواب بفارسَ، فإنها ممنوعة من الصرف، وفي الصفحة نفسها: ينعىِ. والصواب ينعىَ بالفتح

ص 82 - أمغطٍّ منى على بصري بالسحب أم أنت أكمل الناس حُسناً

وقد شرحه الناشر في الحاشية وقال: (ويروى أمُغَطىَّ على صيغة المفعول). والصواب أمغطَّى لا يحتمل البيت غيرها، وكان الواجب تصحيح البيت لا إثبات الغلط وشرحه، وفي البيت غلط آخر في وضع كلمة السحب بدل الحب. والبيت معروف.

ص 93 - (ولا أبدأُ نفعا ولا أحمدُ أخلاقا ولا أدومُ سرورا)، وقال في الحاشية: في الأصل أبد نفعا. فقد أصلح غلط الأصل بغلط آخر. والصواب أبدي بالياء.

ص 99 - (ولم تُعوَّض من ذاك ميسُرة). والصواب فتح السين.

ص 108 - (لُغوِيا نبها ثَبَتا). وقد شرحها في الحاشية فقال: والتَبَت بفتح الباء الحجة والرجل الثقة. والصواب ثبْتا. يقال رجل ثبْت لا ثبَت، والثبت بالفتح البرهان اسم لا وصف.

ص 112 - كأنْ ثنى النُّحوص. . الخ والصواب فتح النون.

ص 115 - أُضِقت إضاقة شديدة، وبعد أسطر: أُضِقت مرّة. والصواب أَضَقت بالبناء للفاعل أي أصابه ضيق.

ص 133 - فلا أزال أماكسهم ويزيدوني. والصواب يزيدونني.

ص 188 - فنقطت القلم نقطة. وفي الحاشية: الأنسب نقط القلم. أقول: وأنسب من هذا نقطت من القلم نقطة.

ص 187 - يسائل عن أخي جُرم. . الخ والصواب جَرم وهو اسم قبيلة.

ص 208 - إبراهيم بن قُطْن. ونحن نعرف في الأسماء قَطَنا لا قُطنا.

ص 209 - المُصَيصَة اسم بلد. والصواب المَصِّيصة

ص 213 - أبو عليّ الرَّوْزباري. والصواب الرُّوذباري.

ص 219 - ثنى الصَّبا غصنا قد غازلته صَبا، والصواب ثنى الصِّبى

ص 237 - أحمد الفِرغاني. والصواب فتح الفاء

ص 240 - غُمار الناس. والصواب كسر الغين

ص: 71

ص 221 - :

يخال بأن العِرض غير موفَّر

عن الذم إلا أن يدال له الوفر

والصواب يذال بالذال المعجمة من الاذالة أي الامتهان

ص 224 - :

سقى الله صوب القصر تلك مغانياً

وإن غنيت بالنيل من سُبُل القطر

وهذا بيت معمور بثلاث غلطات. والصواب صوب القطر. و (عن سَبَل القطر)

ص 233 - (وسعد بن مسعود هو أخو عبيد بن مسعود صاحب يوم الجسر.) والصواب أبو عبيد وهو صحابي معروف قاد جيوش المسلمين في وقعة الجسر وقُتل بها. والعجيب أن في الكتاب بعد سطر واحد: وسعد هو عم المختار بن أبي عبيد الثقفي. ولم يتنبه الناشر إلى أن أبا عبيد الثقفي هذا هو أبو عبيد ابن مسعود الذي سمّاه عبيد بن مسعود. ومثل هذا ما جاء في ص 235: (محمد بن علي الشلمغاني) وبعدها بسطرين: (من أهل قرية من قرى واسط تعرف بشلغمان. ولو لم يكن المصحح نائماً لما سمى الرجل في سطرين عبيداً وأبا عبيد، وسمى القرية في سطرين شلمغان وشلغمان

ص 256 - (وكان حسن الحفظ للقرآن. أولَ ما يبتدئ به الخ). وفي الحاشية: أول مفعول يبتدئ. والصواب أولُ بضم اللام وهي مضافة إلى المصدر المؤول بعدها لا مفعول يبتدئ. وينبغي أن يُعلم أن ما بعد ما المصدرية لا يعمل فيما قبلها

ص 187 - في متن الكتاب: (ثم التي لا يقع حسم الداء بغيرها.) وهو كلام مستقيم، ولكن الناشر أخرج هذه الجملة إلى الحاشية. وأثبت في المتن (التي لا يقع بحسم الداء غيرها.) أجاز لنفسه هنا أن يغيّر المتن وهو صحيح. ولم يجز لنفسه في مواضع أخرى أن يصحح المتن وهو غلط بيّن فاكتفى بإثبات الرواية الصحيحة في الحاشية

ص 191 - كان في متن الكتاب:

كذبت همة عين

طمعت في أن تراكا

أَوَ ما حظٌّ لعين

أن ترى من قد رآكا؟

فغير الناشر (أَوَ ما) إلى (أَيُّ ما). والصواب ما كان في المتن. والغلط ما رآه الناشر. وغلط آخر في رسم (أَيّما) مفصولة كما رسمها

ص: 72

ص 270:

معاذ الله أن نُلقى غضابا

سوى ذاك المطاع على المطيع

وفي هذا غلطان. والصواب: نُلفى غضابا بالفاء، في الشطر الأول و (دَلّ المطاع) بدل (ذاك المطاع) في الشطر الثاني

هذا ما أخذته وأنا أعبر القسم الأول وهو جزء من عشرين، ووراء هذا معضلات من التحريف تحتاج إلى بحث وتنقيب ليتبين صوابها. وسأبين في المقال الآتي ما في تعليق الناشرين من غلط وعبث، يرى فيهما القارئ المبكي المضحك، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله

عبد الوهاب عزام

ص: 73

‌نفح الطيب

في طبعته الجديدة

بقلم الأستاذ أحمد يوسف نجاتي

شارح الكتاب

اطلعت في العدد الأخير من مجلة (الرسالة) الغراء على مقال بالعنوان الذي اخترناه لكلمتنا هذه بقلم الأديب محمد فهمي عبد اللطيف، فأردت بعد قراءته أن أقدم لحضرته هذه الكلمة في غير ردّ عليه ولا تزييف لقوله. وعسى أن تكون هذه الكلمة البريئة رسالة تعارف ودّي بيني وبين الناقد الكريم تتلاقى به الأشباح كما تلاقت الأرواح، فطالما قرأت له بمجلة (الرسالة) القيمة مقالات شائقة ممتعة؛ ولا غرو في ذلك فالرسالة ميدان تتبارى فيه فرسان البلاغة وجياد البراعة، وهي المجلة التي يتقبلها الأدباء بقبول حسن ويحلّونها من أنفسهم أكرم محل

افتتح حضرة الناقد الجهبذ مقاله الكريم بكلمة طيبة أثنى فيها على تلك الهمة المشكورة التي يبذلها حضرة الأستاذ الدكتور أحمد فريد الرفاعي في إحياء الأدب العربي وبعث تراثه من مراقده ونشر موسوعاته الجامعة؛ وراقه من كتاب نفح الطيب (وغيره طبع متقن وضبط كامل وتقسيم واضح وتصحيح دقيق تقوم وزارة المعارف بمراجعة أصوله النهائية مبالغة في إجادته وحرصا على إتقانه)؛ ونحن نشاركه في هذا الثناء ونتوجه بالشكر الجزيل لحضرة صاحب المعالي زكي العرابي باشا وزير المعارف الجليل وإلى حضرتي وكيليه الهمامين، فما منهم إلا نصير للغة وآدابها عامل على ترقيتها، فجزاهم الله خير الجزاء. وكذلك سرّنا من حضرة الناقد أن نوه بالمحاسن - وإن أجمل القول في ذلك إجمالاً - فجانب بذلك عادة عرف بها كثير من نقادنا وهي إغضاؤهم عن الحسنات وتشهيرهم بما يرونه هفوات

فليس من الحزم في شيء أن ينزل الكاتب - لشهوة الكتابة - على حكم النظرة الأولى العجلى فطالما أعجلت الكاتب عن التفكير، وكان حكمها خاطئاً بعيداً عن الحق متنكباً جادة الصواب؛ وليس من الكياسة الحكيمة أن يسرع بعض الناقدين إلى رمي من ينقدون أعمالهم

ص: 74

بفساد القول وزلل المنطق، فقد كان من آثار ذلك أن أحجم كثير من المبرزين في الآداب أن يجلوا للناس عرائس أفكارهم، ضناً بأعراضهم أن ترتع فيها الألسنة المضرِّاة حتى تركوا الميدان لهؤلاء الذين جعلوا عقولهم وراء ألسنتهم، يجولون فيها وحدهم، ونرجو أن يكون للكتاب والناقدين قدرة حسنة في حضرة ناقدنا الأديب وأسوة صالحة بالكاتبين الكرام في الرسالة الغراء

1 -

قال حضرة الناقد: إن الناشر (وضع اسم الكتاب على الغلاف ناقصاً فسماه: (نفح الطيب) والمؤلف قد سماه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، وهذا الاسم هو الذي وضع على الطبعات السابقة) ونحن أيضاً نرى أنه كان الأولى أن يكتب على الغلاف اسم الكتاب كاملاً محافظة على وضع المؤلف. ولعل العذر في ذلك اشتهار الكتاب باسم (نفح الطيب) فحسب، وأن الاسم لو أثبت كاملاً لم يتسع له نطاق الغلاف بهذا الوضع المنسق الذي هو عليه، وأن القارئ لا يلبث إذا تصفح بضع ورقات من الكتاب أن يرى اسمه التام الذي اختاره له مؤلفه، والخطب في هذا يسير وليست ملافاته عسيرة. وكذلك نرى أنه كان من الخير أن يراعى تقسيم المؤلف فيقسم كل جزء من الأجزاء العشرين إلى أقسام ينبه بها إلى التقسيم الأصلي للمؤلف، ويبين فيها حدود أجزائه الأربعة الأصلية، وهذا أيضاً شيء يهون أمره ولا يعز تداركه في الأجزاء الآتية إن شاء الله

2 -

ونقول لحضرة الناقد إن المقدمة التي صدر الجزء الأول بها للتعريف بمؤلف الكتاب ليست للناشر ولا لغيره من الشارح أو المراجعين، وإنما هي منقولة بنصها من كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر لابن فضل الدين المحبي، وقد نبه حضرة الناشر إلى ذلك في أول ذيل الصفحة الأولى، وما كان للناشر أن يتصرف في تلك المقدمة بمحو أو إثبات. فليس من العجب أن ينقل الأستاذ عبارة المحبي كما هي، وليس هو الذي أثبت اسماً قد ألغاه صاحبه ولكن المحبي صاحب خلاصة الأثر هو الذي أثبته غير مرة في هذه الترجمة الطويلة التي (جاء فيها بأشياء ذكرها المقري نفسه في المقدمة التي كتبها عن سفراته ورحلاته والباعث له على تأليف الكتاب) وإذا عرفنا أن المقدمة كلها من ص 9 - 31 منقولة من خلاصة الأثر فقد ارتفع اللوم عن الناشر وغيره

ص: 75

وليس (لفّا) من الشارح ولا (فضولاً) أن ينبه في أسفل صفحة 9 إلى أن المؤلف قد غير اسم الكتاب من (عرف الطيب) إلى (نفح الطيب) قبل أن ينبّه المؤلف نفسه إلى ذلك في صفحة 244 حتى لا يتوهم بعض القراء في أول الكتاب عند صفحة 9 قبل أن يقطع المسافة إلى صفحة 244 أنهما كتابان متغايران

(يتبع)

أحمد يوسف نجاتي

ص: 76