المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 182 - بتاريخ: 28 - 12 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٨٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 182

- بتاريخ: 28 - 12 - 1936

ص: -1

‌الضحك

للأستاذ أحمد أمين

ما أحوجني إلى ضحكة تخرج من أعماق صدري فيدوّي بها جوّي! ضحكة حية صافية عالية، ليست من جنس التبسم، ولا من قبيل السخرية والاستهزاء، ولا هي ضحكة صفراء لا تعبر عما في القلب؛ وإنما أريدها ضحكة أمسك منها صدري، وأفحص منها الأرض برجلي؛ ضحكة تملأ شدقيّ، وتُبدي ناجذَيّ، وتفرج كربي، وتكشف همي

ولست أدري لماذا تجيبني الدمعة وتستعصي عليّ الضحكة، ويسرع إليّ الحزن، ويبطئ عني السرور، حتى لئن كان تسعة وتسعون سبباً تدعو إلى الضحكة وسبب واحد يدعو إلى الدمعة، غلب الدمع وانهزم الضحك، وأطاع القلب داع الحزن ولم يطع دواعي السرور!

ولي نفس قد مهرت في خلق أسباب الحزن؛ تخلقها من الكثير، ومن القليل، ومن لا شيء؛ بل وتخلقها من دواعي الفرح أيضاً. وليست لها هذه المهارة ولا بعضها في خلق أسباب السرور؛ كأن في نفسي مستودعاً كبيراً من اللون الأسود، لا يظهر مظهر أمام العين حتى تسرع النفس فتغترف منه غَرفة تسوّد بها كل المناظر التي تعرض لها، ثم ليس لها مثل هذا المستودع من اللون الأحمر أو اللون الأبيض!

يقولون لي: اضحك يدخل على قلبك السرور؛ وأنا أقول لهم: أدخلوا السرور على قلبي أضحك. ففي المسألة (دَوْر) كما يقول علماء الكلام، وكما يقول الشاعر:

مسألة (الدوْر) جَرَتْ

بيني وبين من أُحِب

لولا مَشيبي ما جَفَا

لولا جَفَاهُ لم أَشِب

وإلى الآن لم أَدر من المصيب! هل الضحك يبعث السرور، أو السرور يبعث الضحك؟ ودخلت المسألة في دور من الفلسفة مظلم كالعادة، وانتقلت إلى بحث بيزنطي، كالبحث في هل البيضة أصل الدجاجة أو الدجاجة أصل البيضة؟ فلنغلق هذا الباب ولنعد إلى (الضحك)

يقول المناطقة في أحد تعريفاتهم للإنسان: (الإنسان حيوان ضاحك)؛ وهذا عندي أظرف من تعريفهم الآخر: (الإنسان حيوان ناطق). فالإنسان في هذا الزمان أحوج إلى الضحك منه إلى التفكير، أو على الأصح نحن أحوج ما نكون إلى التفكير والضحك معاً

ولكن لمّ خصت الطبيعة الإنسان بالضحك؟

ص: 1

السبب بسيط جدّاً. فالطبيعة لم تحمّل حيواناً آخر من الهموم ما حمّلته الإنسان؛ فهمّ الحمار والكلب والقرد وسائر أنواع الحيوان أكلة يأكلها في سذاجة وبساطة، وشربة يشربها في سذاجة وبساطة أيضاً. فإذا نال الحمار قبضة من تبن وحفنة من فول وغَرفة من ماء، فعلى الدنيا العفاء، ولكن تعال معي فانظر إلى الإنسان المعقد المركب! يحسب حساب غده كما يحسب حساب يومه، وكما يحسب حساب أمسه؛ ويخلق من هموم الحياة ما لا طاقة له به، فيحب ويهيم بالحب حتى الجنون، ويشتهي ويعقّد شهواته حتى لا يكون لعقدها حل؛ فإذا حلت من ناحية عقدها من ناحية؛ ثم إذا سذجت اللذة وتبسطت لم تعجبه بل أخرجها من باب اللذة، وعقد أمله على لذة معقدة. وإذا تفلسف - والعياذ بالله من فلسفته - خرج بها عن المعقول، وحاول أن ينال ما فوق عقله، ولم تعجبه الأرض والسموات مجالاً لبحثه؛ إنما يريد الحقيقة والماهية والكُنْه. وويل له من كل ذلكّ! أستغفر الله فقد نسيت أن أذكر هموم الموظف بالعلاوات والترقيات، وما كان منها استثنائياً، وما كان غير استثنائي، وما يترتب على ذلك من معاشات وحساب تمغة، وما إلى ذلك من أمور لا تنتهي. وهذا أيضاً من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك

أقول إن الطبيعة عودتنا أن تجعل لكل باب مفتاحاً، ولكل كرب خلاصاً، ولكل عقدة حلاً، ولكل شدة فرجاً؛ فلما رأت الإنسان يكثر من الهموم ويخلق لنفسه المشاكل والمتاعب التي لا حد لها، أوجدت لكل ذلك علاجاً؛ فكان الضحك

والطبيعة ليست مسرفة في المِنَح، فلما لم تجد للحيوانات كلها هموماً لم تضحكها، ولما وجدت الإنسان وحده هو المهموم المغموم جعلته وحده هو الحيوان الضاحك

لو أنصف الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في (الصيدليات) بالضحك، فضحكة واحدة خير ألف مرة من (برشامة أسبيرين) وحبة (كينين) وما شئت من أسماء أعجمية وعربية. ذلك لأن الضحكة علاج الطبيعة، والأسبرين وما إليه علاج الإنسان. والطبيعة أمهر علاجاً وأصدق نظراً وأكثر حنكة. ألا ترى كيف تعالج الطبيعة جسم الإنسان بما تمده من حرارة وبرودة، وكرات حُمر وبيض، وآلاف من الأشياء يعالج بها الجسم نفسه ليتغلب على المرض ويعود إلى الصحة، ولا يقاس بذلك شيء من العلاج المصطنع؟

فانفجار الإنسان بضحكة يُجري في عروقه الدم؛ ولذلك يحمر وجهه، وتنتفخ عروقه. وفوق

ص: 2

هذا كله فللضحكة فعل سحري في شفاء النفس وكشف الغم، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأن يستقبل الحياة ومتاعبها بالبشر والترحاب

ولو أنصفنا - أيضاً - لعددنا مؤلفي الروايات المضحكة والنكت والنوادر البارعة التي تستخرج منك الضحك وتثير فيك الإعجاب، وتنشئ بك الطرب، وهؤلاء الذين يُضْحكون بأشكالهم وألاعيبهم وحركاتهم؛ أقول لو أنصفنا لعددنا كل هؤلاء أطباء يداوون النفوس، ويعالجون الأرواح، ويزيحون عنا آلاماً أكثر مما يفعل أطباء الأجسام، ولعددنا من يستكشف الضحكات في عداد من يستكشف دواء للسل أو للسرطان أو نحو ذلك من الأدواء المستعصية؛ فكلاهما منقذ للإنسانية من آلام، مصلح لما ينتابها من أمراض

والضحك بَلْسم الهموم ومرهم الأحزان؛ وله طريقة عجيبة يستطيع بها أن يحمل عنك الأثقال، ويحط عنك الصعاب، ويفك منك الأغلال - ولو إلى حين - حتى يقوى ظهرك على النهوض بها، وتشتد سواعدك لحملها

ومن مظاهر رقي الأمم أن نجد نواحي الضحكات، ملائمة لاختلاف الطبقات. فللأطفال قصصهم وألاعيبهم ومضحكاتهم، ولعامة الشعب مثل ذلك، وللخاصة وذوي العقول الراقية المثقفة ملاهيهم وأنديتهم ومضحكاتهم. فأن رأيت أمماً - كأممنا الشرقية - حرم مثقفوها من معاهد الضحك وكانت مسلاتهم الوحيدة أن ينحطوا ليضحكوا، أو يرتشفوا من الأدب الغربي والتمثيل الغربي ليضحكوا، فهي أمم ناقصة في أدبها، فقيرة في معاهدها. وهذا أيضاً ضرب من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك

تعال معي نتعاهد على أن نرعى في حياتنا جانب الضحك كما نرعى جوانب الصحة والمرض، وجانب الهزل بجوار جانب الجد، ولنتخذ الضحك علاجاً في بعض أمورنا

قال لي صديق مرة إنه حاول أن يتغلب على همومه وأحزانه بعلاج بسيط فنجح. ذلك أنه إذا اشتد به الكرب، وتعقدت أمامه الأمور حتى لا يظن لها حلاً، انفجر بضحكة مصطنعة فسُري عنه وتبخرت همومه

ويروي أنه كان عند اليونان فيلسوفان يلقب أحدهما الفيلسوف الضاحك، والآخر الفيلسوف الباكي؛ كان أولهما يضحك من كل شيء ضحِكَ جِدٍّ أحياناً، وضحك سخرية أحياناً: يضحك من سخف الناس ومن وضاعتهم وحقارتهم، ويبكي الثاني مما يضحك منه الأول

ص: 3

وقرأت مرة قصة لطيفة أن بئراً ركّب عليها دلوان، ينزل أحدهما فارغاً، ويطلع الآخر ملآن؛ فلما تقابلا في منتصف البئر سأل الفارغ الملآن مم تبكي؟ فقال: ومالي لا أبكي؟ أخذ الرجل مائي وسيأخذه وسيعيدني إلى قاع البئر المظلم! وأنت مم تضحك وترقص؟ فقال الفارغ: ومالي لا أضحك؟ سأنزل البئر وأمتلئ ماء صافياً وأطع بعد إلى النور والضياء!

وقد أراد مؤلف القصة أن يصور نفس الموقفين اللذين وقفهما الفيلسوف الضاحك والفيلسوف الباكي، وأن الحياة مليئة بأشخاص يتولون عملاً واحداً، ثم هذا ينظر إليه من الجانب السار الفرح، وذاك ينظر إليه من الجانب الحزين القابض

فكن الفيلسوف الضاحك، ولا تكن الفيلسوف الباكي. وكن الدلو الراقص، ولا تكن الدلو الدامع. وجرب أن تلقى الحياة باسماً أحياناً، ضاحكاً أحياناً، ولأجرب معك!

أحمد أمين

ص: 4

‌7 - القلب المسكين

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وأما صاحبُ القلب المسكين فما علم أنها قد رحلتْ عن ليلته حتى أظلم الظلامُ عليه، كأنها إذا كانت حاضرةً أضاء شيء لا يرى، فإذا غابت انطفأ هذا الضوء؛ ورأيتُه واجماً كاسفَ البال يَتنَازَعُهُ في نفسه ما لا أدري، كأن غيابها وقع في نفسه إنذارَ حرب

لماذا كان الشعراء ينوحون على الأطلال ويلْتاعُون بها ويرتمضون منها وهي أحجارٌ وآثارٌ وبقايا؟ وما الذي يتلقاهم به المكان بعد رحيل الأحبة؟ يتلقاهم بالفراغ القلبيّ الذي لا يملأه من الوجود كله إلا وجودُ شخص واحد؛ وعند هذا الفراغ تقف الدنيا مليًا كأنها انتهت إلى نهاية في النفس العاشقة، فتبطل حينئذ المبادلةُ بين معاني الحياة وبين شعور الحي؛ ويكون العاشق موجوداً في موضعه ولا تجده المعاني التي تمرُّ به، فترجع منه كالحقائق تُلمُّ بالفراغ العقليّ من وعي سكران

يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما الذي يجعل فيك تلك القدرة الساحرة؟ أهو فصلك بين زمن وزمن، أم جمعك الماضيَ في لحظة؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة؛ أم تكبيرك الحقيقة إلى أَضعاف حقيقتها؛ أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسُّه الروح؛ أم إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنيةٌ على الانقلاب؛ أم قدرتك على زيادة حالة جديدة للهم والحزن؛ أم رجوعك باللذة ترى ولا تمكن؛ أم أنت كل ذلك لأن القلب يفرغ ساعةً من الدنيا ويمتلئ بك وحدك؟

يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما هذه القوة السحرية فيك تجتذبُ بها الصدرَ ليضمك، وتستهوي بها الفم ليقبلك، وتستدعي الدمعَ لينفرَ لك، وتهتاج الحنين لينبعث فيك؟ أكل ذلك لأنك أثر الحبيب، أم لأن القلب يفرغ ساعةً من الدنيا ولا يجد ما يخفق عليه سواك؟

ووقف صاحبنا المسكين محزوناً كأن شيئاً يصله بكل هموم العالم؛ وتلك هي طبيعة الألم الذي يفاجئ الإنسان من مكمن لذته وموضع سروره فيسلبه نوعاً من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها، ويأخذ من قلبه شيئاً مات فيدفنه في قبر الماضي. يكون ألماً لأن فيه المضض، وكآبةً لأن فيه الخيبة، وذهولاً لأن فيه الحسرة؛ وتتم هذه الثلاثةُ الهموم بالضيق الشديد في النفس لاجتماع ثلاثتها على النفس، فإذا المسكين مبغوت مبغوت كأن الآلام

ص: 5

أطبقت عليه من الجهات الأربع فقلبه منها صُدُوعٌ صُدوع

وجعلت أعذلُ صاحبنا فلا يعتذل، وكلما حاولت أن أثبت له وجود الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود. ثم تنفس وهو يكاد ينشقُّ غيظاً وقال: لماذا رحلتْ، لماذا؟

قلت: أنت أذللت جمالها بهذا الأسلوب الذي ترى أنك تُعِزُّ جمالها به، وقد اشتددت عليها وعلى نفسك وتعنَّتَّ على قلبك وقلبها؛ كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خشناً في حبك، وسوَّغتك حقاً فرددته عليها، وتهالكتْ وانقبضتَ أنت، ورفعتْ قدرك على نفسها تحبباً وتودُّداً فخفضت قدرها عن نفسك من إطراح وجفاء، واستفرغتْ وسعها في رضاك فتغاضبت، ونَضَتْ عن محاسنها شيئاً شيئاً تسأل بكل شيء سؤالاً فلم تكن أنت من جوابها في شيء

ومن طبع المرأة أنها إذا أحبت امتنعتْ أن تكون البادئة، فالتوتْ على صاحبها وهي عاشقة، وجاحَدَتْ وهي مُقرَّة؛ إذ تريد في الأولَّة أن تتحقق أنها محبوبة، وفي الثانية أن يُقدَّم لها البرهان على أنها تستحق المهاجمة؛ وفي الثالثة هي تريد ألا تأخذها إلا قوةٌ قوية فتمتحن هذه القوة، ومع هذه الثلاث تأبى طبيعة السرور فيها والاستمتاع بها إلا أن يكون لهذا السرور وهذا الإمتاع شأنٌ وقيمة، فتذيق صاحبها المرَّ قبل الحلو ليكبر هذا بهذا

غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب على أن تبتدئ صاحبها؛ ثم ابتدأتْ ولم تجد الجواب منه، أو لم يأت الأمر فيما بينها وبينه على ما تحب، فان الابتداء حينئذ يكون هو النهاية، وينقلب الحب عدو الحب. وأنا أعرف امرأة وضعتها كبرياؤها في مثل هذه الحالة وقالت لصاحبها: سأتألم ولكن لن أغلب؛ فكان الذي وقع وا أسفاه - أنها تألمت حتى جُنَّت، ولكن لم تُغلب. . .

قال: فما بال هذه؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجلاً؟

قلت: إنها تبتدئ متكسِّبةً لا عاشقة، فإذا أحبت الحب الصحيح أرادتْ قيمتَها فيما هو قيمتها. وأنا أحسبها تحب فيك هذا العنفَ وهذه القسوة وهذه الروحية الجبارة، فإنها لذّات جديدة للمرأة التي لا تجد من يُخضِعها. وفي طبيعة كل امرأة شيء لا يجد تمامَه إلا في عنف الرجل، غير أنه العنف الذي أوله رقة وآخره رقة

أما والله إن عجائب الحب أكثر من أن تكون عجيبة؛ والشيء الغريب يسمى غريباً فيكفى

ص: 6

ذلك بياناً في تعريفه؛ غير أنه إذا وقع في الحب سمى غريباً فلا تكفيه التسمية، فيوصف مع التسمية بأنه غريب فلا يبلغ فيه الوصف، فيقع التعجب مع الوصف والتسمية من أنه شيء غريب؛ ثم تبقى وراء ذلك منزلة للإغراق في التعجب بين العاشق وبين نفسه؛ وهكذا يشعرون

فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب، وكأن النبوة نبوتان: كبيرة وصغيرة، وعامة وخاصة. فإحداهما بالنفس العظيمة في الأنبياء، والأخرى بالقلب الرقيق في العشاق. وفي هذه من هذه شَبهٌ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبةً على المادة، مجرِّدةً من إنسان الطين إنساناً من النور، محركةً هذه الطبيعة الآدميةَ حركةً جديدة في السموّ، ذاهبةً بالمعرفة الإنسانية إلى ما هو الأحسن والأجمل، واضعةً مبدأ التجديد في كل شيء يمر بالنفس، منبعثةً بالأفراح من مصدرها العلوي السماوي

بيدَ أن في العشق أنبياءَ كذَبة؛ فإذا تسفَّل الحب في جلال، واستعلنت البهيمةُ في عظمة، وتجرد من إنسان الطين إنسان الحجر، وتحركت الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السقوط، وذهبت المعرفة الإنسانية إلى ما هو الأقبح والأسوأ، وتجدد لكل شيء في النفس معنى فاسد، وانبعثت الأفراح من مصدرها السفلي - إذا وقع كل هذا من الحب فما عساه يكون؟

لا يكون إلا أن الشيطان يقلد النبوة الصغيرة في بعض العشاق كما يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجَّالين

هكذا قال صاحب القلب المسكين وقد تكلم عن الحب ونحن جالسان في الحديقة وكنا دخلناها ليجدّد عهداً بمجلسه فلعله يسكن بعض ما به؛ واستفاض كلامنا في وصف تلك العبهرَة الفتانة التي أحلَّته هذا المجال وبلغت به ما بلغت، وكان في رقةٍ لا رقة بعدها وفي حب لا نهاية وراءه لمحب. وخيل إلي أنه يرى الحديث عنها كأنه إحضارها بصورة ما

وأنفع ما في حديث العاشق عن حبه وألمه أن الكلام يخرجه من حالة الفكر، ويؤنسُ قلبه بالاتعاظ، ويخفف من حركة نفسه بحركة لسانه، ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحرك، فتسلبه ألفاظه أكثر معانيه الوهمية، وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة لا في النفس؛ وفي كل ذلك حيلة على النسيان، وتعلل إلى ساعة، وهو تدبير من الرحمة بالعاشقين في هذا البلاء الذي يسمى الفراق أو الهجر

ص: 7

وكان من أعجب ما عجبتُ له أن صديقاً مرَّ بنا فدعاه صاحبنا وقال وهو يومئ إليّ: أنا وفلان هذا مختلفان منذ اليوم لا هو يقيم عذراً ولا أنا أقيم حجة؛ وأحسب أن عندك رأياً فاقض بيننا

ويسأله الصديق: ما القضية؟ فيقول وهو يشير إليّ:

إن هذا قد تخرَّق قلبه من الحب فلا يدري من أين يجيء لقلبه برقعة. . . وأنه يعشق فلانة الراقصة التي كانت في هذا المسرح ويزعم لي. . . أنها أجمل وأفتن وأحلى من طلعت عليه الشمس، وأنه ليس بين وجهها وبين القمر وجه امرأة أخرى في كل ما يضيء القمر عليه، وأن عينيها مما لا ينسى أبداً أبداً أبداً. . . لأن ألحاظها تذوب في الدم وتجري فيه، وأن الشيطان لو أراد مناجزَةَ العفة والزهد في حرب حاسمة بينه وبين أزهد العباد لترك كل حيَله وأساليبه وقدَّم جسمَها وفنها. . .

فيقول له المسؤول: وما رأيك أنت؟

فيجيبه: لو كان عنها صاحياً لقد صحا. إن المشكلة في الحب أن كل عاشق له قلبُه الذي هو قلبُه، وحسبها أن مثل هذا هو يصفُها. وما يدرينا من تصاريف القَدَر بهذه المسكينة ما عليها مما لها، فلعلها الجمالُ حكم عليه أن يُعذَّب بقبح الناس، ولعلها السرورُ قضى عليه أن يسجن في أحزان

وقلت له: يا صديقي المسكين، أوَكلُّ هذا لها في قلبك. فما هذا القلب الذي تحمله وتتعذب به؟

قال: إنه والله قلب طفل، وما حبُّه إلا التماسُه الحنان الثاني من الحبيبة، بعد ذلك الحنان الأول من الأم. وكل كلامي في الحب إنما هو إملاء هذا القلب على فكره كأنه يخلق به خلق تفكيره

آه يا صديقي، إن من السخرية بهذه الدنيا وما فيها أن القلب لا يستمر طفلاً بعد زمن الطفولة إلا في اثنين: من كان فيلسوفاً عظيما، ومن كان مغفلاً عظيما

وافترقنا؛ ثم أردت أن أتعرَّف خبره فلقيته من الغد، وكان لي في أحلامي تلك الليلة شأن عجيب، وكان له شأن أعجب أما أنا فلا يعنى القراء شأني وقصتي

وأما هو. . .؟

ص: 8

(يتبع - طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌في الطفولة

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

زارني مرة في مكتبي صديق كريم، وكان معي في ذلك اليوم أصغر أطفالي؛ فقد تشبث بي وأبى إلا أن يصحبني. فلم أر بأساً من ذلك، وسأله الصديق بعد حوار طويل لم يعلق بذهني منه شيء (أبوك من. .) - قالها هكذا بالعربية الفصيحة - والصبي حديث عهد بتعلم القراءة والكتابة فلم يفهم (من) هذه وظنها شيئاً معيباً أو غير لائق وهز رأسه منكراً؛ فكرر الصديق السؤال، فقطب الصبي وقال:(توْ توْ) فنظر إليّ صديقي فقلت: (يا صاحبي إنه يحسب أن (من) هذه مثل قولك (كلب) أو (قط) أو شيء آخر لا يليق في رأيه أن يكونه أبوه، ولو كنت قلت له (مين) بالعامية لفهم وأجابك، وما أظن به الآن إلا أنه وقع في نفسه منك أنك تسب أباه وإني لأخشى أن يحقدها عليك ولا يكون رأيه فيك بعد اليوم إلا سيئاً، وأكبر ظني أنه سيحدث أمه عنك حديثاً لا يسرك أن تسمعه

وانقضت هذه الحادثة وأطلق الغلام خارجاً ليلعب فقد سئم الحوار الذي ارتفعنا به عن طبقته. فقال صديقي بحق: إنه موقن أن الصبي يشعر بوحشة مع أمثالنا من الكبار لأنه يحتاج إلى صغار مثله يفهمهم ويفهمونه فيسر بهم ويأنس. فقلت له إني لا أظن أن أبنائي يستوحشون حين أكون معهم لأني أستطيع أن أنزل إلى مستوى مداركهم فأكون معهم كأني أحدهم، فقال إن أمره ليس كذلك

وخرج صديقي فذهبت أفكر فيما قال فسألت نفسي: (لماذا لا نحسن نحن الكبار أن نفهم الصغار كما ينبغي أن يفهموا. . إننا لم نجيء إلى الدنيا كما نحن الآن. . ولم تلدنا أمهاتنا بأسناننا وشواربنا ولحانا ورؤوسنا الناضحة - أو التي نزعمها لغرورنا ناضجة - وإنما جئنا إلى الحياة صغاراً ثم كبرنا شيئاً فشيئاً. ولم تكن طفولتنا قصيرة العمر، بل كانت سنوات طويلات، وإن من الكبار لكثيرين لا يزالون أطفالاً وإن كانوا قد شابوا وشيخوا. . وأنّا لنذكر حلاوة الطفولة وجمال عهدها ونحن إليها ونتمنى لو أمكن أن نرتد إلى ما كنا في أيامها بكل ما حفلت به. . ومع ذلك لا نستطيع بعد أن كبرنا أن نفهم الأطفال ونفطن إلى أساليب تفكيرهم وقد كنا مثلهم. . ومع أن الطفولة ليست غريبة عنا ولا أجنبية منا حتى يستعصي علينا فهمها فان صفحتها تمحى من ذاكرتنا كل المحو فننقلب محتاجين إلى من

ص: 10

يشرحها ويفسرها لنا ويبين لنا ما فيها ويعلمنا كيف نقرأها ونفهمها. . .

وأذكر أني وأنا طالب في مدرسة المعلمين العليا كنت أضحك فيما بيني وبين نفسي حين أسمع أستاذنا يقول لنا بلهجة الجد إن علينا أن نعنى بأن ندرس الطفل؛ وكنت أقول لنفسي وأي حاجة بنا إلى درس المعروف المفهوم كأنه مجهول أو غامض. فلما كبرت وصار لي ابن أدهشني أني وجدت أني محتاج أن أروض نفسي على النظر إلى الأمور بعين الطفل لا بعيني أنا؛ ولم تكن هذه الرياضة لا سهلة ولا خفيفة، فقد كانت تستنفد صبري ومجهودي معاً، ولكني كنت مضطراً إلى ذلك بعد أن شاءت الأقدار ألا يبقى له من أبويه سواي، ولولا ذلك لنفضت يدي من الأمر كله وتركت العبء لغيري

ومن فرط جهلي بالطفولة وثقل الشعور على نفسي بذلك أراني أحياناً أتمنى لو يرزقني الله عشرين أو خمسين طفلاً دفعة واحدة لا لأعذب نفسي بهم وأطير عقلي معهم، بل ليتسنى لي أن أدرس الطفولة كما ينبغي أن تدرس على نحو ما سمعت أن العلماء يدرسون ما لا أدري في معاملهم، ولكن الحوائل دون ذلك كثيرة: منها أن المرأة ليست كالقطة أو الأرنبة، ومنها إني لا أستطيع أن أعول كل هذا الجيش من الصغار، ومنها إني خليق في هذه الحالة أن أجن فلا أنا درست شيئاً ولا أنا أبقيت على عقلي

والضرورة تفتق الحيلة كما يقولون؛ والحاجة أم الاختراع. وقد لجأت إلى وسيلة أخرى أخف محملاً وآمن عاقبة، وفيها بعد ذلك لهو لا بأس به، وتلك أني أكون مع أطفالي كما يكونون أو كما أراهم يكونون، وكما يبدو لي منهم، فأخلع ثوب الكبر والوقار والاحتشام وأجعل من نفسي طفلاً مثلهم، وأحاول أن ألبس هذا الثوب الذي نضته عني الأيام بكرهي ولم تبقى لي منه إلا ذكرى السعادة وأما أمرح فيه. ومن العجيب أنا لا نذكر إلا أنا كنا سعداء به؛ أما كيف كنا سعداء، وما كان يسعدنا، فهذا ما نتخيله في كبرنا لا ما نعرفه على التحقيق. ولكن استعادة هذا العهد الذاهب عسيرة جداً. نعم أستطيع أن أقلدهم فيما أراهم يصنعون، فأضحك مثلاً بكل جسمي لا بفمي وعيني فقط! وأسقط على الأرض متهافتاً من شدة الضحك كما يفعلون، وأقذف بالكرة بلا حساب أو تقدير فتصيب المرآة أو زجاج الصورة المعلقة أو أنف جالس يستغرقه الحديث الذي يخوض فيه مع جاره فينتفض مذعوراً، ويسبقه لسانه بما لا يروي وما يجب أن يغتفر له، ونرى ذلك نحن الأطفال

ص: 11

فيترامى بعضنا على بعض من فرط السرور والجذل، وتتصادم رؤوسنا ثم نفطن إلى غضب الذي أصيب أنفه وندرك أن هذا الغضب قد يكلفنا ما لا نحب فنذهب نعدو ويد الواحد منا على كتف صاحبه أو ممسكة بذيل ردائه، ونتزاحم ونحن خارجون من الباب الذي لا يتسع لنا جميعاً؛ فيقع أحدنا ويتعثر الباقون فوقه، ويصيح المتأذون من الضجة التي أحدثناها وينهروننا ويزجروننا عن هذا العبث المزعج الذي يفلق الرؤوس ويعرض الأنوف والعيون للإصابات المباغتة، فتخفت أصواتنا ويلصق بعضنا ببعض في ركن من الغرفة الثانية ونكمن وراء خزانة أو غيرها مما يتفق وجوده ونصمت برهة ثن يشق علينا السكوت، وتمل ألسنتنا الهدوء، ويتذكر أحدنا ما أفاد من المتعة حين رأى المصاب في أنفه يصرخ ويرفع يديه إلى وجهه ويصيح باللعنات الحرار والتهديد المرعب - يذكر أحدنا ذلك فيغلبه الضحك فيكركر ويساوره الخوف مما هدد به فيتناول بعض ثوبه ويضعه على فمه ليخفض صوت السرور ولكنا نرى ذلك منه فيعدينا فنفعل مثل ما يفعل ونصبح نحن الثلاثة أو الأربعة كأننا ثلاثة قطط أو أربعة - قطط صغار وليدة من فرط التداني والاختلاط، فهذا وجهه مدفون في صدر ذاك، وذاك رأسه تحت ذقن الثالث، والثالث وجهه إلى الحائط وهو يغت ويغالب ضحكه، والرابع قاعد على الأرض ومخف وجهه في طيات الثياب. وأحيانا أكون مع الأطفال قطاراً يسير متعرجاً بين الكراسي والمقاعد والأثاثات المختلفة، ولا يخلو سير هذا القطار الآدمي من حادثة فيكسر كوباً أو إبريقاً أو يقلب شيئاً؛ وقد نقع الحادثة له - فيتعثر الذي هو القاطرة وتنكب المركبات على جسمه؛ ولكن الحوادث - كائنة ما كانت - ولا يراق فيها دم - إلا دم إصبع مجروح أحيانا - ولا تمنع البشر والضحك، بل لعل هذه الحوادث هي التي تجلب السرور ولا تكون المتعة إلا بها

أفعل ذلك وغيره وأقدر عليه، ولا يحس الأطفال الذي ألاعبهم وأغالط نفسي بأني أحدهم ومثلهم أن هنالك أي فرق بيني وبينهم، ولكني أنا أحس بالفرق الذي يخفي عليهم. ومهما بلغ من استغراق اللعب لي فليس يسعني أن أنسى أني كبير وأني مقلد ليس إلا. ولو نسيت لأذكرني التعب الذي سرعان ما يحل بي، وصدري الذي يعلو ويهبط كموج البحر، ودقات قلبي السريعة، وأنفاسي المنبهرة، فلا يلبث ذلك كله أن يردني بعنف وغلظة إلى ما أتجاهله من الحقائق؛ ولو لم يكن هناك شيء من هذا لكان حسبي من الفرق أن الأطفال يختلفون

ص: 12

عني في التفكير والنظر والتقدير، وأنهم يفعلون ما يفعلون بفطرتهم، ولأن حيويتهم كلها في أعضائهم وأين أجاريهم متكلفا؛ وهم يسرون بما يفعلون، أما أنا فسروري بمبلغ توفيقي في التقليد والتمثيل لا في الفعل نفسه، أي أن سروري بمحاكاتهم ومجاراتهم فني في الحقيقة؛ أما هم فالأمر عندهم طبيعي، وإفادة السرور راجعة إلى أنهم يرسلون نفوسهم على سجيتها

ولست ألاعب الأطفال لأسرهم فقط - وإن كان هذا وحده كافياً لتهوين ما أتكلفه من العناء والجهد - ولكني أحب أن أدرس الطفولة بمحاولة الاندماج مع الأطفال وتمثل احساساتهم وتصور بواعثهم على قدر ما يتيسر ذلك لي وبمعالجة استرداد القدرة على الصدور عن وحي الفطرة التي لا يكبحها العقل أو التهذيب أو العرف أو غير ذلك من اللجم التي يحسها الكبار كلما هموا بفعل شيء تغريهم به الفطرة

ولدرس الطفولة مزايا كثيرة هي السر في ولعي بهذا الموضوع: منها أن الطفل في بلادنا أشقى عباد الله. وإنه ليخجلني أن أقول إننا نعذب الأطفال ونقمع في نفوسهم الجديدة روح الطفولة ونمنعها أن تتفتح وتزهو وتربو؛ وأحر بنا إذا فهمنا الطفولة أن نحسن سياستها ونسعدها ونجعل عهدها حميداً وتمهيداً صالحاً لعهد الشباب؛ وأنا موقن أن خير الآباء ليس هو الذي يرضى عن أبنائه أو عما يعتقد فيهم ويظن بهم - فقد يكون مخدوعاً وهذا هو الأغلب - وإنما أحسن الآباء هو الذي يرضى عنه أبناؤه ويفرحون به ويباهون يعتزون

فسياستي مع أطفالي هي أن أسعى لاكتساب رضاهم عني لا أن يكونوا بحيث أرضى أنا عنهم؛ والفرق دقيق ولكني أظنه واضحاً. وقوام هذه السياسة أن تدرك أن للطفل نفساً غير نفسك، وأن لها استعداداً لعله غير استعدادك، وأن مهمتك أن تعين الطفل على إنماء مواهبه الكامنة والانتفاع بهذا الاستعداد المضمر، وأن توجد الفرصة لإبراز ذلك، لا أن تأخذ عليه الطريق وتسده؛ وبعد أن يبدو لك ما يشي بالاستعداد تسرع في توجيهه وتقويته. ولا يمكن أن يتيسر ذلك إلا إذا تركت للطفل حريته. وكيف يمكن أن تعرف ما يخفى من أمره إذا كنت تلزمه حالة معينة، أو تحتم عليه مسلكا لا يجوز له أن يعدوه أو ينحرف عنه؟. . . وكيف ترجو أن تكون له شخصية متميزة بخصائصها إذا كنت تأبى عليه الاستقلال والحرية؟. . . إن تربية الطفل هي في الحقيقة تجربة يجريها المربي ولا سبيل إلى الاطمئنان إلى صحة النتيجة إذا كنت تبدأ برأي معين وفكرة لا تحيد عنها. وسلسلة

ص: 13

الاختبارات المتعاقبة هي التي تشير إلى اتجاه النفس، وتدل على ناحية الاستعداد المجهول؛ فلابد من ترك الطفل حراً، ومن تعويده الاستقلال في النظر والعمل وفي تلقي وقع الحياة، وفي طريقة استجابته لهذا الوقع. ولا نكران أن الرقابة لا معدي عنها، ولكنها يجب أن تكون بحيث لا يشعر بها الطفل ولا يتأثر بها. وكذلك ينبغي أن يكون التوجيه حين يجيء وقته، وإلا فقد الطفل استقلاله وخيف أن يكون قد اتجه حيث أردت له لا حيث يدعوه استعداده الشخصي

ومزية أخرى هي أن الطفل يمثل الأدوار التي اجتازتها الإنسانية والمراحل التي قطعتها كلها في تاريخها الطويل. وصحيح أنها تكون فيه - أي في الطفل - مختزلة جداً، ولكن المرء يستطيع أن يفطن إلى بعضها وإن كان يفوته أكثرها. وحسبي هذا القدر لئلا ندخل في مباحث علمية لا قدرة لي عليها

ومزية ثالثة لا يشق عليَّ الكلام فيها ولا يثقل فيما أرجو على القارئ؛ وتلك هي أن الطفولة غرائز ساذجة وعواطف واحساسات فطرية لم تهذب ولم تصقل، ولكنا بالتربية نعود الطفل أن يكبح شهواته ويضبط أهواءه ويضع لنفسه اللجم والقيود، وهذا شبيه بما يصنعه المجتمع بنا نحن الكبار. وقد يعلم القراء - أو لا يعلمون فما أدري - أن سبيل المدنية أن تتخذ من النظم الاجتماعية مجاري تتدفق فيها العواطف والغرائز الإنسانية الساذجة الفطرية. مثال ذلك أن الحب هو الذي يرجع إليه الفضل في نظام الزواج الذي صلح به أمر المجتمع إلى الآن. ذلك أن الرجل كان فيما خلا من عصور الاستيحاش تأخذ عينه امرأة فتروقه فيخطفها أو يستحوذ عليها بالقوة أو غير ذلك من الوسائل، ويستأثر بها ويقاتل دونها ما دام راغباً فيها، ثم يدعها أو يبقيها بعد الفتور عنها إلى أخرى تستولي على هواه، وكان الأمر كله فوضى ولكنه انتظم بالزواج، فلا خطف الآن ولا قتل ولا عنف. وقد احتفر الرقي المجرى الاجتماعي فتدفقت فيه الحياة من هذه الناحية. وكذلك الوطنية ليست في مرد أمرها إلا مظهر أنانية وأثرة، ولكن نطاق الأثرة اتسع فشمل الجماعة المتماثلة كلها بعد أن كان قاصراً على القافلة الصغيرة مثلاً أو على الفرد قبل ذلك وهكذا إلى آخر ذلك؛ وما من نظام اجتماعي إلا والأصل فيه غريزة من الغرائز الساذجة التي لم تهذب ولم تصقل

ونحن نصنع بالطفل ما تصنع بنا الحياة المدنية - نعلمه كبح الغرائز ونروضه على ضبط

ص: 14

النفس وننشئه على إدراك الحدود والواجبات ونعده لحياة الجماعة المنظمة التي لا يسمح فيها بإرسال النفس على السجية في كل حال بغير كابح أو رادع أو ضبط

وشيء آخر لا سبيل إليه إلا الطفل، وذاك أن من أراد أن يعرف حقيقة الإنسان فليتأمل الطفل؛ وأنا أومن بأن الإنسان مخلوق لا شريف، ولا كريم، ولا خير، ولا فيه خصلة واحدة من خصال الخير؛ وأنه لا يعرف لا خيراً ولا شراً، ولا فضيلة ولا رذيلة، وإنما يعرف نفسه وأهواءها وشهواتها وما يحسه من رغباتها؛ وهنا موضع التحرز من خطا؛ فأنا لا أقول إن الإنسان خير بطبعه، ولكني لا أقول شرير بطبعه. وسبب ذلك أني لا أرى الغرائز الطبيعية لا خيراً ولا شراً، وإنما هي غرائز طبيعية وكفى، وعقلي لا يسمح لي أن أستنكر الفطرة التي بنينا عليها

ولا حاجة في الحقيقة إلى الرجوع إلى الطفل للاستدلال على أن الإنسان ليس بفطرته خيراً أو فاضلاً أو كريماً إلى أخر هذه المعاني الحسنة، فانه يكفى أن يفكر الإنسان في هذه الشرائع والقوانين وما إليها وكلها حض على الخير ونهى عن الشر. ولماذا يحتاج الإنسان إلى كل هذا الحض على الخير والتزيين له والتحبيب فيه، وكل هذا الزجر عن الشر والتخويف منه والتهديد بالعقاب عليه إذا كان بفطرته خيراً عزوفاً عق النكر والسوء؟.

ولكن الطفل مع ذلك أبرز مثال محسوس لحقيقة الفطرة الإنسانية. هات طفلاً وأعطه عصفوراً، وانظر ماذا يصنع به. . يربط رجله ويشد عليها ولا يبالي ألمه ويروح يطوح به ذراعه مسروراً بالدائرة الوهمية التي يرسمها به في الهواء غير عابئ بما يكلفه ويحمله من الأذى، أو يقبض على عنقه ويحبس أنفاسه ثم يلقيه على الأرض ويغتبط بأن يراه منطرحاً على جنبه ورجلاه إلى فوق، وهو لا يحس أن هذا قسوة لأنه لا يعرف لا القسوة ولا الرحمة، وإنما يفعل ما يفيده السرور الذي يطلبه والمتعة التي يشتهيها.

وتعطيه قطعاً من الحلوى ويجيء من يطلب منه واحدة، فإذا كنت لم تعلمه ما نسميه الأدب فانه لا شك يضم يده الصغيرة عليها وقد ينثني فوقها ليحجبها عنك ويمنعك في ظنه أن تأخذ منها ما طمعت فيه

وتكون في يدك موزة أو تفاحة أو ما يشبهها من الفاكهة فإذا كنت لم ترضه على كبح النفس فستراه يشب ويمد كلتا يديه إلى ما في يدك ويصيح بك أن هاتها واحرم نفسك وأعطني

ص: 15

وتكون قد وعدت أخاه بشيء إذا حفظ درسه مثلاً فيحفظه فتهدي إليه ما وعدته، ويراك أخوه فيغضب ويغار وينقم منك أنك اختصصت أخاه دونه بشيء، ويدعوك أن تأخذ من أخيه وتعطيه هو، ويسره أن تفعل ذلك ولا يبالي أخاه ولا يحفل أنه خطفت من يده الهدية الموعودة، بل يروح يخايله بها ويكايده ويغتبط بأن يراه منغصاً محروماً دونه

ولا شكر على صنيع جميل ولا حفاظ لعهد، ولا وفاء ولا ذكر، إنما له الساعة التي هو فيها، والشيء الذي يحس أن نفسه تطلبه، وفيما عدا ذلك على كل شيء وكل إنسان ألف سلام

قد يقال أن هذا من الجهل وقلة الإدراك، فأقول: إني أتكلم عن الأصل قبل التهذيب والصقل. أم الإدراك فهو كالرقي الذي وصل إليه الإنسان على الأيام وبعد الحقب الطويلة؛ وقد أسلفت أن الطفل يمثل الأدوار التي مرت بالإنسانية من بدئها إلى حاضرها. فأنت ترى في سنة من عمر الطفل اختزالا لما قضت الإنسانية دهوراً ودهوراً طويلة وهي فيه من الحالات. وأما التعليم والتهذيب فهذه هي اللجم والأعنة التي نضعها لضبط هذه الغرائز وكبح العواطف وتوجيهها إلى المجاري التي احتفرت على الأيام وتحدرت فيها حياة الجماعة المنتظمة المهذبة؛ واللجام طارئ، فإذا كان يكبح بما يشد ويصد فليس معنى هذا أن ما صار إليه الأمر بعدها هو الذي كان قبلها

ومع ذلك هل نحن الكبار المثقفون المهذبون المصقولون خير من الأطفال الصغار؟. وللجواب عن هذا السؤال أرجو أن يسأل القراء أنفسهم ماذا يكون الحال - حال المجتمع لو أمنتم عقاب الله وسطوة القوانين وحكم العرف؟. والقوانين لا تعاقب على بعض الرذائل مثل الكذب والخداع والنفاق، فانظر من الذي لا يكذب أو يخادع أو يداهن وينافق - أحياناً كثيرة على الأقل؟ أظن أنه لو أمن الناس البطش والعقاب لما بقى شيء لا يجترحونه

وتعالى إلى الرجل الساكن الوقور الرزين الذي يملك زمام أعصابه ولا يدعه قط يفلت من يديه، وادن منه وهو بين الناس والطمه على خده لطمة قوية، ثم انظر ماذا يبقى من صقله وسكون طائره ووقاره، ومن هذه القشرة التي كسته المدنية وزانته بها؟

وأوجز فأقول إن الإنسان يرتد إلى طباعه الفطرية إذا أوجدته في حالة تسمح لهذا الطباع بالظهور والتغلب على لجم المدنية مثل الجوع أو الغضب أو الألم أو الخطر على الحياة أو

ص: 16

السكر. فليس الطفل وحده هو الذي يشهد أن الإنسان في الأصل لا كريم ولا ذو مروءة أو شهامة أو غير ذلك، وأنه إنما يكون كذلك اكتساباً وبالدربة والعادة وبفضل الرغبة والرهبة وغيرها مما يدفع إلى الحرص على المصلحة الذاتية، ومن هنا كانت أهمية العناية بالطفل، فما ترك طفل وشأنه بغير عناية وتوجيه إلا فسد وصار شريراً وأمرؤ سوء. وهذا دليل آخر على أصل فطرة الإنسان. وليس معنى هذا أن أصل فطرة الإنسان سيئة، وإنما معناه أن عوامل ما نسميه الشر في الدنيا أقوى وأشد إغراء وأعظم استيلاء على النفس، وأن الخير مجعول لمصلحة الجماعة ومصلحة الفرد ضمنا

وليس أقدر من الأطفال على التخيل. ترى الواحد من الأطفال يمشي القهقري بحذر فلا تفهم، وتجده يحشر نفسه بين كرسيين ثقيلين ثم يعجز عن التخلص، ويضيق صدره فيصيح بك، أو يبكي فتنهض إليه وتسأله عن الخبر فيقول لك إنه كان يدخل السيارة في الجراج فانحشرت وانكسر السلم ويكون معنى هذا أنه عد نفسه سيارة واستولت عليه هذه الفكرة فهي تستغرقه وتذهله عن كل شيء، فلو كلمته لما سمع؛ وتراه مرة أخرى يشير إلى الهواء ويكلم من لا وجود له ويدعوه أن ينزل؛ فلو كان رجلاً لظننته قد جن، ولكنه طفل يتصور أن في الجو طيارة يحادث ربانها ويدعوه إلى النزول ليركب معه وهكذا

وللطفولة أحزانها كما أن لها مباهجها ومسراتها، ولكن المزية أن الأحزان أو الهموم لا تكون إلا هموم هنيهة قصيرة تزول وتمحي ولا يبقى لها ذكر متى عرض شاغل آخر. ويعيش المرء منا ما يعيش ويبلغ من العلم والعرفان والتجربة والفطنة ما يبلغ ولكنه لا يستكبر أن يتمنى أن يرد إلى هذه الطفولة الذاهلة. فإذا كان للسعادة معنى أو كان لها في الدنيا وجود فهي في عهد الطفولة ولا شك

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 17

‌القصور المثلى

للأستاذ محمد عبد الله عنان

للصروح والهياكل العظيمة، كما للأشخاص والدول شخصيات تشغل مكانها في حياة الأمم والعصور، وتؤدي دورها في الحوادث والسير العظيمة؛ فإذا ذهبت الدول وفنيت الأجيال بقيت الصروح والهياكل شاهدة بما توالى عليها من الإحداث والمحن تلقى على الماضي نوعا من الضياء القاتم، وتذكرنا بتلك الأدوار العظيمة التي لعبتها في سير الدول والشخصيات الذاهية

وما زالت طائفة كبيرة من هذه الصروح والهياكل العظيمة تزين العواصم الأثرية القديمة؛ ولدينا في مصر عدة من الهياكل الفرعونية الخالدة لعبت أدوارها العظيمة في تاريخ مصر القديمة، ولكنا لا نتحدث عنها هنا لأنها تقترن بعصور تغيض منا في ظلمات الماضي البعيد؛ ولم يبق بمصر من الصروح الإسلامية العظيمة سوى المساجد، وهي ليست مما نعني به في هذا الفصل

وإنما نريد أن نتحدث هنا عن بعض الصروح الأوربية العظيمة التي شهدناها، والتي تعتبر بما لعبت من أدوار خطيرة في الدول والعصور التي قامت فيها صروحا (مثلى)

إن أسماء صروح كاللوفر وفرساي والفاتيكان وقصر الدوجات لا تمثل الهياكل والأبنية العظيمة التي تعرضها هذه الصروح فقط، ولا تقف أهميتها وروعتها عند النقوش والذخائر الفنية العظيمة التي تحتويها، ولكن أعظم ما تدلى به هذه الصروح في نظرنا هو تراثها المعنوي والحوادث والذكريات العظيمة التي اقترنت باسمها

فقصر اللوفر مثلاً يمثل عصوراً بأسرها من حياة الملوكية الفرنسية ويعرض لنا في أبهائه الشاسعة ونقوشه وذخائره طرفا من روعة هذه الملوكية وأيام عظمتها وازدهارها؛ هذا جناح هنري الثاني، وهذا جناح زوجه كاترين دي مديتشي التي تملأ سيرتها كثيراً من القصص الشائق؛ وهذه غرف ولديها فرانسوا الثاني وشارل العاشر؛ وهذا جناح هنري الرابع؛ ولويس الثالث عشر، وهذا جناح الملك العظيم لويس الرابع عشر: في تلك الغرف والأبهاء الشاسعة عاشت الملوكية الفرنسية أحقابا تشرف على مصاير أمة عظيمة، وفيها كم دبرت أمور وكم قررت شؤون خطيرة كان لها أكبر الأثر في سير التاريخ الأوربي؛ كان

ص: 18

اللوفر مدى قرنين قلب فرنسا النابض، وأحيانا قلب أوربا بأسرها شأنه في عهد لويس الرابع عشر

وقد كان قصر فرساي يكمل حياة اللوفر؛ وكان في أواخر عهد الملوكية الفرنسية ملاذها ومستقرها: هذا جناح لويس الرابع عشر الفخم، وهذه غرفة نومه، وهذا بهو عمله ومتزينه، وهذا جناح الملك الخليع لويس الخامس عشر قد أثث بأثاث ما يزال إلى اليوم نموذجا فنياً رائعاً؛ أجل وهذا جناح خليلاته دوباردي ودي بومبادور الخ على مقربة من جناح زوجه الشرعية، ماري لكزنسكا، وهذه أبهاء الحفلات الباذخة التي كان ينفق عليها بغير حساب، وكانت تثقل كاهل الشعب المسكين؛ وأخيراً ها هو ذا (بهو المرايا) الشهير الذي عقد فيه مؤتمر الصلح في سنة 1919 وأملت فيه فرنسا وحلفاؤها الظافرون إرادتهم على ألمانيا المنهزمة ووقعت فيه ألمانيا وثيقة انكسارها وذلتها

في هذه الربوع والمواطن الصامتة التي تغدو اليوم آثاراً يحج إليها السائح كان يكتب تاريخ فرنسا وتاريخ أوربا

على أن الأحداث والذكريات التاريخية الرائعة لم تجتمع قدر اجتماعها في صرحين عظيمين، هما قصر الفاتيكان في رومة، وقصر الدوجات في البندقية (فينزيا) فأما الفاتيكان فهو بلا ريب أجل آثار النصرانية وأعظمها؛ وفي الفاتيكان الذي غدا علماً على البابوية والكرسي الرسولي، تتمثل عظمة البابوية، وبذخ البابوات، وكل ما في عصر الأحياء من عبقرية وجمال وافتنان؛ وليس الفاتيكان قصراً تستطيع أن تحيط برؤيته التجوال فيها والتمتع بروائعها أياماً عديدة. وقد نشأ الفاتيكان في أواخر القرن الرابع عشر قصراً متواضعاً إلى جانب كنيسة القديس بطرس، وغدا من ذلك التاريخ مركز الكرسي الرسولي، ثم تعاقب عدة من البابوات على إنشائه وزخرفته، فأقاموا إلى جانب القصر القديم قصوراً وأجنحة جديدة بلغت أعظم مبلغ من الفخامة والبهاء، نخص بالذكر منها مصلى سكستوس الرابع المسمى كابيلاسستنا، والذي خلف ميشيل آنجلو فوق جدرانه من ريشته آيات خالدات، وجناح آل بورجيا الذي أنشأهإسكندرالسادس، وأفاض عليه أبدع ما تمخض عنه الأحياء من بذخ وزخرف وبهاء؛ وجناح جوليوس الثاني (لوجي)، وهو الذي زينه رافائيل بآيات باهرات من فنه وريشته؛ ولبث البابوات يزيدون في صروح الفاتيكان وفي زخرفته

ص: 19

حتى غدا مجموعة من القصور الشامخة الباذخة، تضم عشرات من الأبهاء والأروقة الفخمة، وعشرات الساحات والأفنية العظيمة، ونحو عشرة آلاف غرفة. ولا يستطيع القلم مهماً أوتى من قوة أن يصف ما تزدان به تلك الصروح والأبهاء الخالدة من نقوش وزخارف وصور تأخذ الأبصار بجمالها وروعها؛ ويكفي أن نقول إنها مثوى لأبدع وأروع ما تمخضت عنه عبقرية الجمال والفن في أعظم وأزهى العصور

على أن روعة الفاتيكان لا تقف عند جمال الفن؛ وإنما تمثل بنوع خاص في ذلك الدور الخطير الذي أداه في تاريخ النصرانية، وتاريخ البابوية، فقد كان الفاتيكان وما زال رأس الكنيسة المفكر وروحها المسير، وكان مدى عصور طويلة مبعث تلك السلطة الزمنية القوية التي زاولتها البابوية مع سلطنها الروحية جنباً إلى جنب؛ وكانت أبهاء الفاتيكان ومخادعة مسرحاً لكثير من الحوادث التاريخية البارزة، وكانت أيضاً مسرحاً لكثير من المؤامرات والدسائس والمآسي المروعة

وليس بين صروح أوربا الأثرية كلها صرح يثير ما يثيره الفاتيكان في النفس من روعة وإجلال وإعجاب؛ وسيبقى الفاتيكان عصوراً علما على عظمة البابوية الذاهبة، وسيبقى حلية الآثار النصرانية والكنسية كلها

ولنتحدث بعد ذلك عن قصر الدوجات ذلك الصرح الذي لا يدلى مظهره المتواضع بذلك الدور العظيم الذي لعبه في تاريخ أعظم جمهوريات العصور الوسطى

كان قصر الدوجات الذي لا يزال يجثم بحناياه العربية البيزنطية وشرفاته المنخفضة بجوار كنيسة القديس ماركو على المنعطف الذي يصل بين البحر وبين ميدان سان ماركو (القديس مرقص) منزل الدوجات ومستقر الهيئات النيابية التي امتازت بها نظم البندقية في العصور الوسطى، مثل المجلس الأعلى ومجلس العشرة الشهير الذي يثير اسمه كثيراً من الذكريات المروعة؛ وكان رأس الجمهورية المفكر وقلبها النابض، يكتب فيه تاريخها وتدبر فيه أسباب قوتها وعظمتها، وتضطرم فيه تلك الدسائس والمؤامرات الخطيرة التي تدفع بها إلى براثن المحن الدموية أو الفوضى، وكان أخيراً حرمها المقدس وملاذ دستورها، وسلطانها الأعلى

ومن هم أولئك الدوجات الذين سمى الصرح العتيد باسمهم، وتوج اسمهم تاريخ البندقية

ص: 20

الحافل من مبدئه إلى منتهاه؟ كان الدوج (أو الدوق) رئيس الجمهورية وحاكمها الأعلى، وكان في المبدأ يعين بالانتخاب على يد جمعيات من الشعب، ثم أنشئ المجلس الأعلى في القرن الثاني عشر من نواب يعنيهم زعماء الولايات، ومنهم ينتخب الدوج والوزراء وكبار القضاة؛ وكانت البندقية جمهورية، ولكن جمهورية أرستقراطية، تقبض الأرستقراطية على مصايرها وتستأثر فيها بالحكم والسلطان؛ وكان الشعب يجاهد طول الوقت لكي ينتزع لنفسه تلك السلطات التي تستمد منه وتدار باسمه؛ ولكن تلك الأرستقراطية الطاغية المستنيرة معاً كانت حريصة على سلطانها وزعامتها؛ وفي القرن الثالث عشر استطاعت الأرستقراطية أن تقصي الشعب نهائياً عن كل اشتراك في الشؤون العامة، وذلك بأن حول المجلس الأعلى من هيئة نيابية انتخابية إلى هيئة وراثية خالدة، وبذا قامت في البندقية تلك الأرستقراطية الوراثية القوية التي يصفها المؤرخ الفيلسوف سسموندي بقوله:(كانت فياضة الحزم والغيرة والطمع، جامدة في مبادئها، راسخة في سلطانها، تقترف باسم الحرية طرفا من أشنع مثالب الاستبداد، مشاكسة غادرة في السياسة، دموية في الانتقام، متسامحة مع الفرد، باذخة في الشؤون العامة، مقتصدة في الإدارة المالية، عادلة نزيهة في القضاء، قديرة في إزهار الفنون والزراعة والتجارة، محبوبة مطاعة من الشعب؛ يرتجف النبلاء الذين تمثلهم منها فرقا) ثم اختارت الأرستقراطية مجلس العشرة الشهير، وخول سلطات استثنائية وعهد إليه بحماية الجمهورية وسحق كل جريمة وثورة يدبرها الخوارج والطامعون، فتم بذلك للأرستقراطية سلطانها المطلق، وغدت كل شيء في نظم الجمهورية وحياتها ومصايرها

وقصر الدوجات من أقدم الصروح التاريخية يرجع بناؤه إلى نحو ألف عام، ولكن القصر القديم أحرق وزالت معالمه غير مرة خلال الحوادث والفتن، وأعيد بناؤه، وتعهده الدوجات بالإنشاء والزخرف حتى اتخذ شكله الحالي منذ القرن الرابع عشر؛ وتشرف واجهة القصر الأمامية التي تذكرنا حناياها المرمرية بالمشرفات الشرقية، على منعطف سان ماركو، وتشرف واجهته الخلفية على قناة من الماء؛ ويقع في مواجهته بناء عتيق قاتم هو سجن الدولة القديم؛ وتربط الصرحين قنطرة معلقة هي قنطرة الزفرات الشهيرة (بونتي دي سوسبيري) التي يمثل اسمها في كثير من القصص المؤسى، والتي يقال إنها لعبت أيما دور

ص: 21

في مصارع النبلاء والسادة، يدفعون منها إلى السجن أو يلقون إلى الماء

وتتكون أبنية القصر من طبقات ثلاث تشرف من الداخل على فناء مستطيل واسع، وليس في مظاهرها الخارجية كثير من الزخرف، ولكنها تبدو قاتمة عابسة تؤذن بأنها كانت أيام مجدها ملاذ الكتمان والصرامة، فإذا نفذت إلى الداخل أخذتك روعة الغرف والأبهاء الشاسعة الفخمة التي زينت جدرانها وسقفها بأجمل ما خلقته عبقرية الأحياء من النقوش والصور؛ ولقد زينت شرفات الطبقة الأولى بتماثيل عدة من مشاهير الدوجات، وزينت إحدى غرف الطبقة الثانية بطائفة كبيرة من الدروع والأسلحة القديمة التي كان يرتديها أو يتقلدها الدوجات أو قادة الجمهورية؛ بيد أن أروع ما في هذا القصر الشهير هو الطابق الثالث حيث يوجد جناح الدوج والأبهاء الرسمية التي تحيط به؛ هذا هو بهو اجتماع المجلس الأعلى لا يزال بتقاسيمه ومقاعده الخشبية القديمة وفي صدره مقعد الدوج؛ وهذا هو البهو الأكبر حيث تنعقد الاجتماعات الرسمية الكبرى، وهنالك في أعماق القصر وراء هذه الأبهاء الشاسعة توجد غرفة متوسطة متواضعة أقيمت في صدرها عدة مقاعد خشبية هي غرفة اجتماع مجلس العشرة! وهنالك بالضبط عشرة مقاعد يتوسطها مقعد الدوج؛ وفي الغرفة المتواضعة التي يخيل إليك أنها تمثل روح العصور الوسطى، وتمثل الصرامة والغدر والسلطان المطلق معا، كانت تبرم أهم الشؤون وأخطرها، وتصدر أعظم القرارات في حياة الجمهورية، ولقد زينت جدران هذه الأبهاء وسقفها بطائفة بديعة من الصور التاريخية رأينا بينها صورة لافتتاح الصليبيين والبنادقة لقسطنطينيه سنة 1203 وموقعة لبانتو البحرية الشهيرة التي هزم فيها الترك سنة 1571

وقد عرفت مصر الإسلامية عظمة الجمهورية البندقية وعظمة الدوجات في العصور الوسطى وكانت ثمة في عصور السلام علائق ومخاطبات منتظمة بين بلاط مصر وبين قصر الدوجات، وكان البلاط المصري يخاطب (الدوج أو الدوك) باسمه مقرونا بألقاب التعظيم والتكريم

هذه طائفة من الصروح العظيمة التي تمثل بماضيها الحافل عصوراً وأحقاباً عظيمة من التاريخ؛ وهي بذلك صروح مثلى كالأمم والشخصيات المثلى، لا تقف عظمتها عند تلك الأبنية الشامخة وتلك الروائع الفنية التي أسبغتها عليها عبقرية الأجيال والعصور الزاهرة؛

ص: 22

ولكن أشد ما تمثل عظمتها في تلك الصفحات الخالدات التي سجلتها في بطون التاريخ، وذلك التراث المعنوي الزاخر الذي يغمر كل رحابها وجنباتها الصامتة

محمد عبد الله عنان

ص: 23

‌في الأدب المقارن

أثر الترف في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

الترف من مستتبعات الحضارة، تتجه إليه الأمم عقب عصور النهضات، إذ يلذلها الركون إلى الراحة واجتناء ثمرات مجهوداتها التي بذلتها في عهود النهوض والكفاح والتمهيد، وتميل إلى الاستمتاع بخيرات الحياة من دعة ولذة وسرور في ظل السلام والنظام اللذين تنشرهما الدولة بعد أن توطدت أركانها، وفي بحبوحة الثروة والنعمة اللتين أثلهما جهاد السنين والأجيال، فيهجر الشعب رويداً رويداً حياة الخشونة والقناعة والجد ويستكثر من أسباب الراحة والبهجة، وإشباع مطالب الجسم والنفس، وبدوات الخيال والشهوة

ويكون أشد الأمم إقبالاً على وسائل الترف ومضيّاً إلى غاياته، أشدها من قبل تخشناً في العيش، وأعظمها جلاداً في ميدان تنازع البقاء، وأتمها ظفراً وغلبة على البلدان، لما تجنح إليه من الراحة بعد الجهد، والاستمتاع بعد الحرمان، ولما تغدقه عليها انتصاراتها من أسلاب أعدائها وأرزاقهم، وما تطلَّع عليه من وسائل لهوهم وترفهم؛ ومن ثم انتشرت موجات هائلة من الترف في مصر الفرعونية عقب فتوحها الكبيرة في آسيا، وفي أثينا عقب امتداد سيادتها على سواحل بحر الأرخبيل وجزره، وفي روما بعد اتساع سلطانها شرقاً وغرباً

وكلتا الأمتين العربية والإنجليزية خرجتا من بداوة وخشونة عيش إلى حضارة وحياة دعة؛ وكلتاهما أقامتا إمبراطورية مترامية التخوم تعج نواحيها بالخيرات والكنوز، وَسرَت إليهما من جراء ذلك عدوى الترف وبدا أثرها في أدبيهما. بيد أنهما تفاوتتا تفاوتاً كبيراً في مدى تأثرهما بذلك الترف، فكانت الأولى على الأرجح أعظم الأمم أخذاً بوسائله وتفنناً في ضروبه؛ وكانت الأخيرة أقلها انقياداً لتياره وأشدها تشبثاً بأهداب الاعتدال

فالأمة العربية ينقسم تاريخها الاقتصادي إلى ثلاثة أطوار كبيرة: فالطور الأول وهو عهد الجاهلية أقرب إلى الفقر والخشونة التي فرضتها على العرب طبيعة بلادهم الضنينة، مما أورثهم صفات القناعة والصبر والجلد واحتمال المشقات، كما أورثهم الجود وقرى الأضياف، فتمدحوا بكل هاتيك الصفات وامتلأ بها شعرهم، وجاء ذلك الشعر في جملته قوياً

ص: 24

متسماً بالرجولة مثيراً للإعجاب؛ وندر في ذلك العهد شعر المجون والخلاعة ووصف دواعي الرفاهية ومظاهر الحياة الناعمة، بل كان السادة يتبرأون من الانقياد لشهوات الجسم والنفس. ومن روائع آثار ذلك في الأدب قول حاتم الطائي:

وإني لأستحي صديقي أن يرى

مكان يدي من جانب الزاد أَقرعا

وإنك مهما تُعط بطنَك حقه

وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقول عنترة:

يُخْبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعف عند المغنم

وأرى مغانم لو أشاء حويتها

فيصدني عنها الحيا وتكرمي

وبقيام الدولة العربية دخل العرب في الطور الثاني: طور الحضارة والرفاهية والترف، وتدرجوا في الأخذ بأسباب ذلك مع مرور الزمن حتى أوفوا على الغاية. ولا غرو فقد اجتمع لديهم من أسباب الترف ما لم يكد يجتمع لغيرهم؛ فأن نجاحهم الحربي الفجائي أوقع في أيديهم أغنى بقاع الأرض وأخصبها وأعظمها حضارة وترفاً لعهدهم، وأغدق على كبرائهم ومقاتلتهم فيضاً متلاحقاً من الأموال، وأدخل في حوزتهم شاسع الأملاك، وأقام في خدمتهم الجمَّ الغفيرَ من الموالي؛ وسمحوا هم لشتى الأجناس بمخالطتهم والإقامة بين ظهرانيهم، فجاءت الأمم المقهورة في ميدان الحروب تسلط على الأمة الغالبة ما بذتها فيه من أسباب الرفاهية واللذاذة، وهي التي كانت من قبلُ سببَ سقوط عزيمتها وأدبار دولتها

وكان كل ذلك جديداً على أعين العرب الذين قضوا الأجيال في شظف البادية وتقتيرها، فاندفعوا يصيبون من تلك اللبانات ما حرموه طويلاً، وأغرقوا في استمراء تراث الأمم المغلوبة كما يغرق الوارث الذي طال حرمانه في تبذير ثروة الغنى الراحل. وكأنما تعجل العربُ في تراث كسرى وقيصر ما وعدوه في الدار الآخرة من طيبات؛ ومن ثم ابتنى الخلفاء القصور وحشدوا لتشييدها الصناع من شتى الأجناس، ووفروا بها آنق أسباب الدعة والمتعة، وحشروا فيها الغلمان والقيان، وبالغوا في إعداد الموائد والأسمطة، وأكثروا من الألوان والصحاف، واستمتعوا بالغناء والشراب، ورفلوا في فاخر الثياب، واحتفوا بالمواسم والأعياد والمهرجانات، وأسرفوا في أعراسهم حتى ضربت ببعضها الأمثال، ولم يدعوا متعة من متعات النفس أو لذة من لذات الجسم إلا استاموها

ص: 25

واحتذاهم في ذلك الأمراء والكبراء وكل من أطاقه من عامة الشعب، فانتشرت مجالس الشراب والغناء، وأحكمت أوضاعها وارتقت آدابها، وراحت صناعة المغنين وحذقوا فنهم وجودوه، وراجت تجارة الرقيق ونفقت سوق الجواري، وأُخِذْن بالتثقيف والتهذيب ليجمعن فتنة اللب إلى فتنة النظر، وأولع الناس بالرقة والظرف والكياسة، ونفروا من الخشونة وتندروا بالجلافة والغفلة، واحتفوا بالمواسم يشخصون فيها إلى الرياض أو الأديرة في أرباض المدن، يتنادمون ويتغزلون

وأثر تلك الحياة المترفة جلى في الأدب العربي، بل لعله أكبر فارق يفرق أدب ما بعد الإسلام والحضارة عن أدب الجاهلية، إذ أن الأدباء اهتموا بتصوير مظاهر ذلك الترف كلها، بل كانوا من أشد الناس حرصاً على الانغماس فيه، بل تجمعوا في العواصم طلباً لأسبابه، وكان منهم من صاحبوا الخلفاء والأمراء في مجالس شرابهم وسماعهم وساعات تبذلهم واستمتاعهم، وجلسوا إلى موائدهم وشاركوا في محافلهم ومهرجاناتهم، وكل ذلك ضمنوه مدائحهم لأولئك الحكام؛ وكان شهودهم تلك المشاهد وما يحوكونه فيها من القصائد، من متممات السرور والأنس، ومستلزمات الأبهة والعظمة

ومن ثم يحفل شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن المعتز وابن الرومي وابن حمديس وكثيرين غيرهم بأوصاف القصور والحدائق والنافورات، وسفائن النزهة وكلاب الصيد، وألوان الطعام والفاكهة والأسمطة، ومجالس الشراب وحذاق المغنين وحسان المغنيات، والمحافل والمواكب، كما امتلأ بالنسيب الذي كان أغلبه نسيباً بالجواري دون الحرائر، والذي امتزج بكثير من الخلاعة والفجور؛ وروي الشعراء في كل ذلك عن ممدوحيهم من الأمراء تارة، وعن أنفسهم تارة أخرى، وصوروا في الحالتين حياة الترف المغرق التي طغى سيلها في عهود العباسيين والفاطميين وخلفاء الأندلس وغيرهم

وقد ظفرت الخمر من بين أسباب الترف هاتيك بالمكانة الأولى في النفوس، وفازت بالحظ الأوفر من حفاوة الشعراء، فكانت معقد السرور ومناط الأنس ورمز الصفاء؛ وتفنن الشعراء في تمجيدها ووصف تأثيرها ووصف مجلسها وساقيها وكأسها، وطلبوا البراعة بالابتكار في تلك الوجوه، وخلعوا العذار واطرحوا التدين في التوفر عليها والتغني بها، وهزئوا باختلاف الفقهاء في تحليل بعض أنواعها وتحريم بعض، وظفرت الخمر في الأدب

ص: 26

العربي بمنزلة لا تبارى في أدب آخر، وسما شأنها حتى زاحمت النسيب على مكانته الموروثة من عهد الجاهلية، فأصبح وصف الخمر كالتشبيب والوقوف بالدمن وسيلة تقليدية من وسائل استهلال القصيد

ومن أجمل الشعر في وصف أسباب الرفاهية تلك، قول ابن الرومي الذي يختمه بتحسره على حرمانه مما يصف، إذ أصبح التلهف على أسباب النعيم ديدن الشعراء، وكانوا من قبل في الطور السابق كما تقدم يتبرأون من الاستسلام للترفُّه والشهوات:

في أمور وفي خمور وسَموُّ

رٍ وفي قاقُمٍ وفي سنجاب

في حبير منمنم وعبير

وصحانٍ فسيحة ورحاب

في ميادين يخترقن بساتي

ن تمس الرؤوسَ بالأهداب

عندهم كل ما اشتهوه من الآ

لات والأشربات والأشواب

والطروقات والمواكب والول

دان مثل الشودان الأسراب

والغوالي وعنبر الهند والمس

ك على الهام واللحى كالخضاب

لم أكن دون مالكي هذه الأش

ياء لو أنصفَ الزمان المحابي

وقد بلغ من ولع كثير من الشعراء باجتناء ثمار تلك الحياة المترفة الغارقة في اللذات، أن خصصوا أشعارهم لمدح الأمراء بغية أن يُقرَّبوا ويُمنحوا طرفا من ظل تلك النعمة السابغة، ويشاركوا ممدوحيهم في أبهتهم ولذاتهم، وبغية النوال ينفقونه في ارتياد مواطن اللهو التي حفلت بها العواصم، ويبذرونه في مجالس الشراب والغزل يعقدونها في دورهم أو في دور المغنين والنخاسين أو في الحانات والأديرة؛ ومن ثم امتلأ شعرهم بالمدح من جهة، وبوصف الملاهي من جهة أخرى، وراح بشار مثلا يفخر بكلا الأمرين: باقتناص أموال الملوك، وانتهاب سوانح اللذات، قال:

وإني لنهَّاض اليدين إلى العلا

قروعٌ لأبواب الهمام المتوج

وقال:

قد عشت بين الريحان والراح وال

مزهر في ظل مجلس حسن

وبعد طور الثروة والترف هذا جاء الطور الثالث طور الفقر والانحلال، حين استنزفت موارد البلاد، وعظمت مفاسد الحكام، وخمدت العزائم من جراء الانهماك في ذلك الترف،

ص: 27

وفدحت الضرائب الأهلين، وتنازع الأمراء والولاة. وقد كان جانب كبير من الشعب يشقى ويألم في عهد الرخاء والترف السالف؛ أما في هذا العهد فعم الشقاء، وانتشر الخراب، وكسدت الصناعات، وظهر القحط وتتابعت المجاعات

ولم يبق معتصما بربوة الترف فوق سيل هذا البؤس إلا القليل ومنهم الأمراء الذين يتنازعون الحكم ويرهقون الأهالي بالمغارم ليتشبثوا بمظاهر الملك والفخفخة ويتشبهوا بالسابقين في الجاه والأبهة؛ يسلبون الناس أرزاقهم باليمين ليمنوا عليهم باليسار بالأثواب والأطعمة في المواسم والأعياد كأنما يأبون أن يطلبوا الرزق من وجوهه الشريفة، ولا يريدونهم إلا عجزة مستجدين يفزعون إلى بر الأمير ويتمدحون بجوده. تلك كانت حال مصر مثلاً في فترات طويلة من حكم الفاطميين والمماليك؛ وتلك كانت حال الأندلس على عهد بعض ملوك الطوائف الذين لم تكن الحرب بينهم تهدأ، حتى لقد تشابه ثمة الأمراء ذوو الجيوش وقطاع الطرق أصحاب العصابات والمناسر. وقد أوجز بعض شعرائها وصف عبث الأمراء برفاهية البلاد في قوله المفعم بالحسرة:

أطاعت أمير المؤمنين كتائبٌ

تصرَّفُ في الأموال كيف يريد

فثالث الأطوار المشار إليها في بدء هذه الكلمة هو طور العوز والبؤس الذي جاء رد فعل لطور الإسراف في الترف، كما يجيء الخمار عقب الإسراف في الشراب. وفرق ما بينه وبين فقر الطور الأول أن الأول كان فقراً طبيعياً معتدلاً قضت به البادية على أبنائها وحصنتهم منه بالخلق المتين؛ والأخير فقر منشؤه الإفراط والتفريط، وحليفُهُ الذلة والمسكنة واللئيم من الطباع، وفي طيه الشره والشهوة المكبوتة والتلدد والحرمان. وقد انعكس كل ذلك في أدب هذا الطور إذ جاء ضاوياً سقيما مملوءاً بالشكوى والتوجع، منطوياً على تمويهات المعاني ومخادعات الألفاظ التي تحكى ما كان يجيش به المجتمع من تمويه

هكذا جرى العرب من الترف إلى أبعد غاياته، ثم كانت سقطتهم من بعد ذلك بعيدة المهوى. أما الإنجليز فأنهم وإن شابهوا العرب ومن قبلهم الرومان في تأسيس إمبراطورية ضخمة، كانوا نسيج وحدهم في ترقي أعراض الترف وتحاشي عقابيله التي يجرها على المجتمع، والتي تحدث ابن خلدون وغيره من علماء الاجتماع بهدمها لصروح الدول، لما تسلب أبناءها من صفات النخوة والجهاد والغلبة، فلم يمسَّ الترفُ المجتمع الإنجليزي والأدب

ص: 28

الإنجليزي إلا مساً خفيفاً، وفي عهود قصيرة، وذلك للظروف التي أحاطت ببناء الإمبراطورية

فقد شيدت الإمبراطورية الإنجليزية ببطيء وتدرج، لا بسرعة كما شيدت الإمبراطورية الرومانية، ولا فجاءة كما بنيت الإمبراطورية العربية، فلم يغمر المجتمع الإنجليزي سيلٌ مفاجئ من الثروة؛ وبنيت الإمبراطورية في العصور الحديثة فلم يتبع الإنجليز الطريقة القديمة من انتهاب أموال العدو المهزوم وأسر المقاتلين أو المسالمين واسترقاقهم؛ ولم يستأثر الملوك والقواد بغنائم الحرب وثمرات الفتح، فتنحصر الثروة في طبقة محدودة تسرف في اللذات بينما بقية الشعب محروم، بل كان الإقليم المفتوح حرباً يفتح للتجارة الإنجليزية ورجال الأعمال الإنجليز صغارهم وكبارهم، فجاء توزيع الثروة بين طبقات الشعب أكثر تعادلاً مما كان في المجتمع العربي

أضف إلى ذلك أن الإنجليز لم يخالطوا الشعوب المفتتحة ولم يسمحوا لأبنائها أن يملأوا عليهم وطنهم الأول ولم ينتقلوا هم إليهم بحواضرهم كما فعل العرب، ولم يأخذوا عنهم ضروب لهوهم وترفهم ولا غير ذلك من مظاهر الحياة، لأنهم كانوا عادة يفتتحون أقاليم أقل منهم حضارة، لا يستسيغون ما عندها من ضروب المتَع؛ وظل الإنجليز في بلادهم بعيدين عن تأثيرات أملاكهم، متمسكين بتقاليدهم القومية وعوائدهم وأنظمتهم التي نمت وتوطدت قبل الالتفات إلى ما وراء البحار

هذا إلى أن الإمبراطورية لم تشيد إلا وقد كسرت شوكة الملكية في إنجلترا واستتب النظام الدستوري؛ والملوك المستبدون هم عادة رادةُ الترف في ممالكهم والموحون إلى رعاياهم باغتنام اللذات والملاهي، يتوفر أوائلهم على تأسيس الدولة وتأثيل السطان، ثم يعكف أخلافهم على الترف والأبهة واتباع الشهوات، ويقتدي بهم من هم دونهم. كذلك كانت الحال في الدولة العربية حيث توطد سلطان الملك بامتداد أطراف الإمبراطورية؛ أما في إنجلترا حيث كف الملك عن أموال الدولة أن يبذرها، فقد ظل الملوك متبعين سياسة الاعتدال، فلم يكونوا قدوة سيئة لغيرهم من الطبقات

إنما فشا الترف والفساد في المجتمع الإنجليزي في أواخر القرن السابع عشر حين عادت الملكية منتصرة من فرنسا مستعيدة بعض ما ضاع من نفوذها، مصحوبة بالفرسان الإنجليز

ص: 29

الذين عاشوا زمناً في المجتمع الفرنسي، والفرسان الفرنسيين الذين شبوا في بلاط لويس الرابع عشر، فعج البلاط الإنجليزي بمظاهر الترف وأسباب الغواية، وفشا ذلك منه في طبقات الشعب، وساعد على ذلك تبرم الناس بما كان حكم المطهرين الغلاة قد فرضه عليهم قبل ذلك من كبح وتزمت، وبدا أثر ذلك الترف والفساد الخلقي في درامة ذلك العهد

وانتشر الترف كرة أخرى في بعض القرن الثامن عشر بين طائفة أرباب الأعمال الذين أثلوا لأنفسهم ثروات ضخمة بشريف الوسائل وخسيسها في الولايات الهندية قبل أن تشرف الحكومة الإنجليزية على إدارتها، وعادوا إلى أوطانهم مكاثرين بطارف أموالهم مستكثرين من مظاهر الأبهة والفخفخة، وعرفوا بالنواب تشبيهاً لهم بأمراء الهند؛ ورأى فيهم أدباء العصر مواضيع شائقة لكتاباتهم الساخرة، وأولع بهم ماكنزي وكوبر وغيرهما طويلا؛ على أنه في كلتا هاتين الحالتين كانت النوبة عارضة قصيرة الأمد ضيقة الحيز، صمد لها الخلق القومي، والطبع الإنجليزي الهادئ، وتغلبت عليها تقاليد الأيام المتعاقبة وعاد الاعتدال شعار البلاط والمجتمع والأدب

فالأدب العربي قد حوى من آثار الترف الشيء الكثير، بل حوى من ذلك ما لعل أدباً آخر لم يحوه، وحفل بالرائع من الأوصاف لتلك الآثار، وإن نبأ بعضها أحياناً عن الذوق السليم والخلق الكريم. ولا ريب أن ميله هذا إلى زخارف العيش وولعة بتصويرها كان مما جنح به أخيراً إلى زخرف الألفاظ وأنيق المعاني. أما الأدب الإنجليزي فظل رجاله غالباً بعيدين عن موائد الأمراء، وظل الاعتدال في أغلب العصور رائده، بعيداً عن زخارف الحياة المترفة وزخارف الألفاظ المنمقة معاً، وكان رجاله أشد شغفاً بتصوير دخائل النفس الإنسانية ووصف محاسن المناظر الطبيعية منهم بوصف قصور الأمراء ومحافلهم ومواكبهم.

فخري أبو السعود

ص: 30

‌من صديق إلى صديقين

للدكتور أحمد فريد رفاعي

مدير قلم المطبوعات

صَدقني أيها الصديق، الكبير في أدبه، الكبير في خلقه، الكبير في أثره، أستاذنا الزيات، أنني معجب بما تفضلتم بنشره في مجلتنا الشرقية المحبوبة (الرسالة) مما دبجته براعة الصديق الزميل، البحاثة الدءوب، الكاتب العالم الوديع، الأديب عبد الوهاب عزام، خاصاً بما لاحظه - مشكوراً مني ومن المستفيدين بنقده وعلمه، مأجوراً من ربي وربه - على ما فات علينا جماعة (دار المأمون) أولا وقبل كل شيء، ومن عاوننا في الطبع والإخراج من وراقين وطابعين آخراً

ومهما يكن من إيماني بصدق قول يحيى بن خالد: (لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يصنف كتاباً) بيد أني ارتحت الارتياح كله إلى أن فاضلاً أديباً كأخي الأستاذ عبد الوهاب عزام تجشم المتاعب والصعاب، وأفنى الليل والصحة والجهد، في القراءة والمقابلة، والمطالعة والمقارنة، والتصحيح والاستقراء، في سبيل إقامة الأوّد، وإحقاق الحق؛ فله الحمد والثناء على ذلك، ما أبلى وأجاد، وبحث وأفاد. . ولست بقائل له إنني ألحقت بالجزء الثالث ما يفيد ويرشد، وفي الرابع ما ينصف ويحمد. ولست بمتألم لما كان من مبادرته بما تداركناه، لأن الكرم العلمي، والسخاء الأدبي لا يعدوان صنيعه. بيد أني - وهو الأستاذ الحجة - ناقل له هنا كلمات متواضعة أرجح أن علمه الوفير سيسيغها، وعطفه الفسيح سيسعها، وأدبه الجم سيبررها

(وكم كان يحلو لي أن أتحدث طويلاً عن النقد وحقيقته، علماً وفناً، وتاريخاً وتطوراً، وما له من أثر عميق يعتد به في توجيه نهضتنا التجديدية إلى الإنتاج والبقاء، والتشييد وحسن الأداء، والتقدم والنماء؛ وكم كان يحلو لي أن أستفيض معك في القول في هذا الباب، وأميط لك اللثام عما لنصفه النقدَة من سداد تزجية، وحكيم توجيه، وحسن إبانة، وفضل على الصناعة، ومنن في عنق التأليف، ورواج للكتب والتصنيف، وإصابة للنصاحة، وإعانة على الفصاحة؛ وكم كان يحلو لي أن أُزاملك في جولة في تلخيص كتاب (سالسبوري) في علم النقد، وأن أرافقك في سياحة في أسفار (ماكولي) وما كان له من إرشاد إلى الحقائق،

ص: 31

في شكر للناشر، وثناء على المؤلف، في غير افتئات ولا إعنات، وفي نأي عن الحقد والشحناء، والجدل والمراء، والإقذاع والهجاء. كم كان يحلو لي ذلك كله وما في سلكه ونظامه، لولا أن النية منصرفة، إذا مد الله في سني العمر، وأطال في حبل الحياة، إلى أن أفرد لك كتاباً في هذا، وأن أشرح لك فيه ما له صلات بالأدب والعالم، وأعرج لك فيه على مضار الخصومات والاتهام بالزندقة، والتشكيك في العقيدة، لأن العلم يجب أن يكون للحق خالصاً، والأدب يجب أن يُخلق للفن محضاً، والفن يجب أن يتجه للجمال صرفا، والجمال يجب تحليته لرفاهة الحس، ومتعة العين، وصقل الذوق، مستساغاً حلواً)

(وهذه فصول لعمرك تتطلب الدرس والتقرِّي، والفرْي والتقصي؛ ولكن قصارى ما نثبته لك هنا، التوجه إليك بالنصيحة، أن تجعل الدين السمح بينك وبين ربك، وأن تتخذ من هديه تهذيب نفسك، وتقويم عوجك، وتغذية روحك، وأن تتنكب ما في وسعك لها مزالق الفتن، واغترارات التردي، ومجاهل التدسي في الخصومات التي تقوم بين العلم والدين، وبين القديم والحديث، وبين الحق والأضلولة، وبين الموعظة والأحبولة، وبين الوجدان والسخيمة، وبين السليمة والسقيمة، وبين الصدق والمين، وبين القصد والسرف، وبين الافتيات والإرشاد، وبين الإعوجاج والسداد، وبين الحلكة والنور، وبين الإفادة والغرور، وبين الرقة واللطف، والشدة والعنف، وبين التعليم والتجريح، وبين الإبهام والتوضيح، وبين الملتوي والصحيح، وبين اللفظ والمبنى، وبين العبارة والمعنى، وبين الإجحاف والإنصاف، وبين الإصلاح والإتلاف، وبين المعدلة والتحيف، وبين الإفادة والتعسف، وبين الإجادة والتحرف، وبين العقل والشهوة، وبين الزبد والرغوة، وبين الهدى والتدني، وبين الجني والتجني، وبين الشفاء والتشفي، وبين الورع والغاية، وبين البداية والنهاية.)

(ولكن ذلك كله لا يحول بيننا وبين أن نجتزئ لك القول، بأن النقد هو المرشد البريء، والمعلم المؤدب، والظهير المعين، الذي يقدر متاعبك في التأليف، ويشيد بأوجه إحسانك، ويجلي لك مواطن الضعف، في أدب ولباقة، مع تحليل الموضوع، شخصاً كان أو عصراً، إلى ما له من عناصر ومقومات، وأثر بيئة ووسط، ووراثة ودم، ومنبت ومنجم، ومزاج نحيزة، وطبيعة إقليم، إلى ما يلابس عصرك من علوم وفنون، وحقائق وبداية، ونظريات وأسس، ومدارس تفكير، وقواعد جدل، وأصول نقد، ومعايير منطق، ومقاييس مقارنة،

ص: 32

وأوجه موازنة، وتناسب مقدمات، واستخلاص نتائج، وفهم لطريقة (ديكارت)، وتعرف لمناهج (كولريدج)، واستيعاب لتاريخ (سالسبوري)، وانتهال من مقولات (ماكولي)، وقفة على أطلال مذهب (بوالو)، في استشراف إلى ناحية الجمال والخير من كل شيء، ودرس للطبيعة المركبة في كل شيء، لذاتها لا لأشخاصها، ووصف للصفات الإنسانية العامة، والفضائل البشرية العامة، والطبائع الاجتماعية العامة، كمدرسة القرن التاسع عشر التي كان في طليعة كماتها (كورني)(وموليير) و (راسين) وأترابهم وأشباههم، وانتقال إلى أصحاب المذهب الإيجابي، وهم (أوجست كنت) و (أرنست رينان) ورائدهم (تين) الذين يتوخون البرهنة العلمية في كل شيء، ويرجعون مقومات الرجل إلى الجنس والبيئة والطبيعة والزمن وما إلى ذلك، مع إلمامنا بمذهب (فرديناند برونتير)، في التدرج والانتقال، المبني على فلسفة (دارون) في النشوء والارتقاء، من تقسيم الآداب العامة، من وجدانية واجتماعية، وشعرية ونثرية، إلى وحدات وفصائل، مما ليس هذا موضع الإسهاب فيه، والشرح له، مع أخذنا بأساليب العرب، وتذوق لمعنى الجمال، في صفاء روح، ومضاء عزيمة، ونفس طُلَعة، ورفاهة إحساس، للموازنة والإفادة، واضطلاع بقدسية العلم، وأمانة البحث، وحرمة العقول، واستكناه لهدى الجدل المترفق الوئيد، وتحرر من ربقة التعنت العتيد، ونزول على سياسة التسهيل والتعبيد، والتأسيس والتشييد، وأن تكون الروح الحاكمة على سلطان النقد الحافزة إلى الارتصاد له والتبسط فيه الأخذ بصفو المؤلف لا إهدار جهده، والمضي في الإعانة له لا التقحم لانتقاص أثره، والتقدم إلى شد أزره، لا التهانف بذكره، وإجلال صنيعه، في ذوب نفسه، واعتصار ذهنه، وسهر ليله، ومتاعب تحصيله، ودءوب إكبابه، ومضنى إمضائه، وعناء كتابه، بديلاً من سياسة السخرية والتكذيب، والهدم والتخريب، واللوم والتثريب، في غير هدى ولا تعقيب)

أما بعد: فلست يا سيدي الجليل بمنتحل كتاب ياقوت، إلى شخصي الضعيف، لاسيما وقد أفردت لتاريخه ربع الجزء الأول. وأود أن تعلم يا سيدي، غير معلم، في غير غمز ولا لمز، ولا تعليق ولا تعقيب، أن حكمة إصدارنا لما نحاول إصداره من مؤلفات السلف الصالح، (من رسمية وشبيهة بالرسمية؛ فالرسمية، ونعني بها كتب الأدب المجمع عليها، وهي البيان والتبيين، والعقد الفريد، والكامل، والأمالي؛ والشبيهة بالرسمية أمثال ابن

ص: 33

منظور، وابن قتيبة، وابن بسام، وابن ظفر، وأبي حيان، والزمخشري، والجاحظ في حيوانه، وما إليها، وكتب الطبقات والتراجم، أمثال معجم الأدباء لياقوت، وتاريخ الإسلام للذهبي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، ومن على شاكلتهم - أود أن تعلم يا سيدي أن حكمة إصدارنا لهذه المؤلفات هو أنا نرى في إحياء هذه الكتب، وبعثها إلى النشور والظهور، اللبنة الأولى في بناء صرح الموسوعة العربية، التي يحتاج إليها الناطقون بالضاد، والتمهيد الذي لا محيص عنه، إذا ما رغبنا رغبة عملية حقة في الاتجاه العلمي والعملي معا، في وضع دائرة معارف عربية شرقية، مستندة على أصول تاريخية صحيحة، وقائمة على أسس عملية حقة)

ثم أود أن تعلم يا سيدي الصديق الكريم أن وزارة معارفنا قد أحسنت صنعاً وأصلحت أمرا، حينما أخذت على عاتقها إنْشارَ الأدب، وإحياء لغة العرب، وبعث تواليف السلف الصالح، والأخذ بناصرنا في إصدار أمهات كتبنا الأدبية، ومظاننا التاريخية، ومراجعنا اللغوية. ولتعلم - غفر الله لي ولك - أنها قررت أن تفتح الباب على مصراعيه لكل أديب عالم، أو أستاذ مثقف، أو ناشر همام، يتقدم لها برغبته في المعونة برجالاتها وأئمتها لمراجعة ما يصدر، والإشراف على ما يطبع، رغبة في خدمة الثقافة، وحرصاً على الأمانة العلمية المرجوة. ثم أود أن تعلم يا سيدي أن تسعة أعشار ما يطبع الآن، وما يروج في السوق، ليس من آثارك النافعة، ولا من منتجات من هم في مكانتك وثقافتك، بل هو مع الأسف الشديد من الروايات المبتذلة، وقصص البوليسيات والإجراميات، وأن المصلحة كل المصلحة في محاولتنا جميعاً تغيير الاتجاه، وخلق الذوق الأدبي الجديد

ثم أود أن تعلم - غير معلم طبعاً - أيها الأستاذ الجليل أن ضبط الأعلام، ومراجعة الأعلام، وشرح المبهم، والتذبيل على ما فات المؤلف والناشر - كل هذا ليس بالسهل الميسور، ولا بالعمل الضئيل، الخليق بالسخرية والتهانف. وحاشاك أن تجنح - وأنت المؤدب خلقاً ولفظاً، ومعنى ومبنى - إلى ما لم يعهد فيك طوال حياتك. وأود أن تعلم أيها الصديق الأديب أننا كلنا، في أعمالنا الأدبية والثقافية والعلمية، لم ندرج بعد من مهدنا، وأننا في بداية البداية، وأن لغتنا العربية بحاجة إلى الضبط الكامل، والشكل الكامل، والأيْد الكامل، والتآزر الكامل، وأنني أومن بحاجتي إلى توالي نصحك، ومطرد إرشادك، ومتتابع

ص: 34

تعقيبك، ومحتاج حقاً إلى علمك وأدبك. وأود أن تعلم يا سيدي أنك ستأسف كثيراً - وأنا العليم برجاحة عقلك، وسجاحة خلقك، ومتانة مباءتك، ودماثة سجاياك - حينما ترجع إلى الجزءين الثالث والرابع، وترى فيهما أن حضرة أستاذنا سوياً الشيخ عبد الخالق عمر، أستاذ اللغة العربية الأول بدار العلوم لم يأل جهداً في إصلاح الكتاب وتدارك ما فات على الأستاذ المستشرق د. س. مرجليوث، في غير موضع، يستحق التقدير والشكر، والثناء وحسن الأجر

وأود أن يعلم الصديق الكريم - في غير منّ ولا تجمل، وفي غير زهو ولا اغترار - أنني ارتحت أيما ارتياح لتجنيك مبطلاً، أو هديك مرشداً، أو تحيفك متعنتا، أو إرشادك محقاً، في ترجيح نبالة القصد، وحسن الطوية، على ما عداهما علم الله. ارتحت أيما ارتياح - مهما كان الحافز والدافع، والحادي والهادي - لما كان، لأنني أسأت التصرف حقاً، ولأنني أخطأت محجة السبيل صدقاً، ولأنه لا معنى لأن يحتمل مثلي، ومن في صحتي ومتاعبي، ومن خرج أمس القريب من محنة المعاش، وإضاقة الرزق، وتوالي النكبات والأرزاء - لا معنى لأن يحتمل مثلي مسئوليات كبار، مخيفة ومفزعة، في التصدي لما تصدره الآن (دار المأمون)، التي تكلفني هي والمراجع الشمسية ومنسوخاتها ومصادرها ما لا يقل عن مائة وخمسين جنيهاً شهرياً؛ لو علم الصديق الكريم النفس والخلق مصدرها وطريقة جمعها، لتردد في أن يركب رأس الشيطان، ولتريث حتى يطلع على استدراكاتنا، ولكان نعم المشجع والظهير، ونعم العون والنصير

وأود أن يعلم الصديق الكريم - غفر الله لنا سوياً، وهو هو النبيل الخلق، الطاهر الذيل، العف الوجدان - أننا معشر الكتاب نعاني الأمرين من حسد الحاسدين، وظلم المبطلين، وشظايا الراجمين. ولو كان الصديق الكريم رحمه الله، وهو المتصل بالدكتور طه حسين بك زعيم الأدب ونصيره، ومن خاصة الأستاذ أحمد أمين وهو عميد الأخلاقيين، ومن كتاب الرسالة ولها في الأدب وبنائه رسالات خالدات ليس إلى انتقاصها من سبيل - لو كان الصديق الجليل أنعم النظر لآثر أن يترك منهجه الجديد في تقدمته لنقده، لمن هو دونه بمراحل، خلقاً وعلماً، وثقافة وأدباً؛ ثم لوازن - بفرض عدم مطالعته لاستدراكاتنا في الجزءين الثالث والرابع - بين معجم ياقوت لمرجليوث ومعجم ياقوت لدار المأمون، ثم لم

ص: 35

يبخل بالإرشاد عن طريق الصحف إن كان محباً للإعلان، أو عن طريق الصداقة إن جنح إلى الاحسان، في غير انتقاص لفضله ولا نكران

وأود أن يعلم الصديق الكريم - وأقول هذا من باب الإكبار وأنت خير أهله، ومن باب التقدير وأنت خير موضع له - أنني كنت أنتظر منك ومن زمرتك الصالحة الجليلة أن تكونوا أكثر عوناً لي من الأستاذ مرجليوث؛ فلقد كتب إليَّ - فيما بيني وبينه وبين ربي وربه - ليرشدني إلى أن نسخة شمسية لقسم ناقص من الكتاب لدى المستشرق يهودا، وأن آخر في فلسطين لديه كذا، وأن نسخة مكتبة جلالة الشاه فيها كذا، وهو ليس بعربي، وإن كان للعربية محبا ولها نصيراً؛ وأنت يا سيدي - الكريم البيت، الكريم الخلق، الكريم الماضي والحاضر - تمسك بمعاول هدم، ومقولات إقذاع، وتمهيدات تهكم! ويا ليتك أتيت بجديد، بل يا ليتك لم يفتك ما استدركناه! والله لا أحمل عليك لأنك شخص، ولكنه الإكبار لشخصك، والإكبار لعروبتك، والإكبار لمصريتك، والإكبار لنصفتك العلمية، ومكانتك الأدبية

ثم أود أن تعلم أيها الصديق الكريم، والزميل القديم، أنني - مع إكباري لكل نقد، ورضوخي لكل هدى، وإذعاني لكل ارشاد، وخضوعي لمحجة الصواب - كنت أؤمل منك كثيراً، وكنت أؤمل من (الرسالة) كثيراً، وكنت أؤمل من علماء العربية كثيراً، وكثيراً جداً؛ وليس بعباب ولا نقيصة أن أفتح لكم قبلي جميعاً، لأقول إن مشروع الأحياء أكثر مما أطيق، وأكثر مما أحتمل، وإنه بحاجة ماسة إلى عونكم الأدبي والمادي؛ أما الأدبي فبغير تلك السبيل الشائكة المقذعة المريرة؛ لاسيما وأنتم أعلم مني، وأدرى بطلاسم النساخ ومعميات الكتاب، وأخطاء الأجيال، ومجاهل اللغة، وفيافي الأحاجي؛ وأما المادي، فبأن تتقدموا بالدعاية القوية الحارة المؤمنة، بأن يساهم السراة والأغنياء في أكبر عمل ثقافي أدبي، يخدم لغة القرآن، ويرفع سمعة مصر إلى السماكين، ويحتفظ بزعامتها على الشرق وعلى الناطقين بالضاد

ثم أود أن يعلم سيدي الصديق الكريم - غير معلم طبعاً - أنني ممن لا يحفل كثيراً بمادحة أو ذامه، وأن مراني في هذا الباب كون مني رجلاً لا يخشى إلا الله، ولا يعمل إلا بوازع يخشى الله دون سواه، وأن مدح اليوم قد يكون ذم الغد، لأن معايير الأشياء تختلف بالبيئة،

ص: 36

والظرف، والمكان، والزمان. وما زلت أذكر ما تذكره جيداً من محاضرة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد المهدي، حينما حدثنا عن الصاحب بن عباد، وما عزاه إليه صاحب الأمتاع، في معرض الذم والهجاء، من ميله إلى أن يقال عنه:(أصاب سيدنا، وصدق مولانا، - ولله دره - ما رأينا مثله، مَن ابن عبد كان مضافاً إليه؟ ومن ابن ثوابة نقيسه عليه؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولي؟ ومن صريع الغواني؟ ومن أشجع السلمي؟ إذا سلكا طريقهما، قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة، وعلى أبي يوسف في القضاء، وعلى الإسكافي في الموازنة، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلى ابن مجاهد في القراءات، وعلى ابن جرير في التفسير، وعلى أرسطاطاليس في المنطق، وعلى الكندي في الجدل، وعلي ابن سيرين في العبارة، وعلي أبي العيناء في البديهة، وعلي ابن أبي خالد في الخط، وعلي الجاحظ في الحيوان، وعلي سهل بن هرون في الفقر، وعلي يوحنا في الطب، وعلي ابن يزيد في الفردوس، وعلي عيسى بن كعب في الرواية، وعلي الواقدي في الحفظ، وعلي النجار في البدل، وعلي ابن ثوابة في التقفية، وعلي السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلي مزيد في النوادر، وعلي أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى، وعلي بني برمك في الجود، وعلي ذي الرياستين في التدبير، وعلي سطيح في الكهانة، وعلي أبي المحياة خالد بن سنان في دعواه.) وما عزاه إليه آخر في معرض المديح والثناء، في باب مكارم الأخلاق:(إنه استدعي يوماً شراباً من شراب السكر، فجيء بقدح منه، فلما أراد شربه قال له بعض خواصه: لا تشربه فانه مسموم. فقال له: وما الشاهد على صحة ذلك؟ قال: بأن تجربه على من أعطاكه. قال لا أستجيز ذلك ولا أستحله. قال فجربه على دجاجة. قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز. وأمر بصب ما في القدح، وقال للغلام: انصرف عني، ولا تدخل داري بعدها، وأقر رزقه عليه. وقال: لا تدفع اليقين بالشك؛ والعقوبة بقطع الرزق نذالة). فلعلك ترى ما أراه من أن للكاتب الواحد أحزاباً لامتداحه، وأخرى لاستهجانه والزراية عليه؛ وأن وجهات النظر تختلف، بل معايير الحقائق تتباين على قدر غلبة النسبية فيها. ولعلك ذاكر قصة العميان السبعة مع فيلهم الموصوف؛ ولله في خلقه شؤون

وأخيراً أود أن تعلم يا سيدي أنني شاكر لك حقا كل فضل في إصلاح خطئنا في المعجم

ص: 37

وفيما أصدره، لأنني أنشد الخدمة الحقة لوطني وديني ولغتي

والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته

أحمد فريد رفاعي

ص: 38

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مدير مصلحة الكيمياء

عزرائيل يقبض بيد صفراء

وصل الفائت

أرسلت حكومة الولايات المتحدة البكباشي ريد إلى جزيرة كوبا ليفحص سبب وباء الحمى الصفراء. وكانت الحرب الأسبانية انتهت في كوبا. فأعلن البكباشي أن الحرب قائمة ضد عدو جديد هو الحمى الصفراء. وطلب متطوعين ليجرب فيهم عض البعوض ليعلم هل تنقل الحمى به. فتطوع لازار وهو صياد مكروب متدرب، وتطوع كارول وكان جراحا مساعدا في الجيش

- 3 -

واستدعى رجال الحكم رِيدَ إلى واشنطن ليؤدي تقريره عن أعمال جرت في الحرب الأسبانية. فلما جاءته الدعوة أصدر أوامره مفصلةً إلى كارول ولازار وأَجَرَمُنْتي. وكانت أوامر سريّة، وكانت غاية في التطرف والوحشية إذا أنت قرنتها بطبع ريد المعتدل الهادئ - أوامر إذنابية لا ترضاها الذمم، وهي إلى جانب هذا خروج على النظام العسكري، فما كان لدى ريد إذن من رؤسائه في الجيش بإصدارها. ورحل ريد إلى واشنطن. وقام لازار وكارول يصدعان بأوامره فيركبان خطة غاية في الجرأة لم يركبها قبلهما من صُياد المكروب أحد. أما لازار، وقد كنتَ بالأمس تقرأ في عينه معنى الفناء ووجْمة الموت، فقد صرت اليوم تقرأ فيها معنى العزم والتلهف على البحث. وأما كارول فقد كان جندياً بطبعه فلم يأبه عمرّه بمجالس التأديب العسكرية ولم يحفل قط بالموت، وقد كان في المكروب صياداً طويل الحبل طويل الباع

بدأ لازار خطته. فحمل معه في زجاجات تلك البعوضات التي فقّسها فخرجت من البيض تحمل على أظهرها أقلاما من فضة وأخذ يسير بها بين سرائر المرضى وقد اصفرّت

ص: 39

وجوههم كورق الخريف، واحمرت أعينهم بالدم القاني، وهذَوا في القول وحق عليهم الفناء. وفتح زجاجاته على جلود المرضى، فأخذت البعوضات تمتص من دمائهم حتى إذا امتلأت سدّ الزجاجات عليها، وحملها إلى منازل من الزجاج أُعدّت لها، وأدخل فيها إلى البعوض أطباقا صغيرة من الماء ومن سكر. وفي هذه المنازل هضمت أُنثيات البعوض هذه غذاءها من الدم المحموم، وطنّت قليلا، ثم سكتت في انتظار التجربة

وتذكر لازار ما قاله رِيدُ له: (يجب ألا تغفل عن حمى الملاريا، فلعل بينها وبين هذه الحمى الصفراء شبهاً قريباً، ففي حمى الملاريا لا يكون البعوض خطراً على الناس إلا بعد أسبوعين أو ثلاثة، فلعل الحال في هذه مثله في تلك)

ولكن أين الصبر من لازار، وأين منه صبر أيام بَلْهَ صبر الأسبوعين أو الثلاثة! فجاء بسبعة متطوعين لا أدري كيف جاء بهم، ولا ادري ما اسمهم، لأن أسماءهم على ما أعلم أُسدِل عليها الستار عمداً، لأن التجربة أُريدَ إجراؤها في خفاء كالليل البهيم. وقام لازار على هؤلاء السبعة - ولعّله أسكرهم أو لعّله خدرهم - فأسقَى البعوضَ من دمائهم، هذا البعوض الذي استقى منذ أيام قلائل من دم مرضى أصبحوا في هذه الساعة في عداد الأموات

وا أسفاه للازار! فقد جاءت النتيجة بغير ما ارتجى، فظل السبعة الرجال على أصح حال ولم تأتهم الحمّى. فانكفأ على عقِبَيْه خاسراً نادماً

خسر لازار، وبقى كارول لم يجرّب بعدُ حظَّه. وكارول هو الرجل الذي قضى سنين عونَ ريد الأول، وكان دخل الجيش أول ما دخل جندياً بسيطاً، ثم صار أمباشيَّ وجاويشَ سنوات عديدة تعلم فيها الطاعة حتى صارت من جبلّته. وكان رئيسه ريد قال:(جربوا البعوض). وكان رئيسه ريد ارتأى أن الشيخ المأفون فِنْلي لم يقل لغوا عندما اتهم البعوض. فلزم كارولَ أن يقول ما قال ريد وأن يرى ما ارتآه. أما رأيه هو فثانويّ في حكم الجيش ومألوفه. ألم يقل لهم البكباشي ريد عند رحيله (جربوا البعوض)!

فجاء كارول إلى لازار وهو في يأسه يذكّره، قال:(هأنذا بين يديك متأهب لما تريد). وسأله أن يُخرج إليه أخطر بعوضة لديه - بعوضة تكون عضّت لا مريضاً واحداً بل عدة من المرضى. ومن مرضى في أسوأ حال من حمّاهم. وفي السابع والعشرين من أغسطس

ص: 40

أخرج لازار بعوضة حسبها أخرط ما عنده، فقد كانت شربت من دماء أربعة من مرضى الحمى الصفراء كان من بينهم اثنان في أسوأ حال. وحطّت هذه البعوضة على ذراع كارول.

ونظر إليها الجندي كارول وهي تتحسس بمقراصها تتخير للقرص مكاناً من جلده. فما الذي دار في خلده وهو يرقها تنتفخ كالكرة مما تشرب من دمه؟ لا أدري ولا أحد يدري، ولكني أحسبه يداور في فكره حقيقة يعرفها كل أحد:(أنا الآن في السادسة والأربعين، وفي الحمى الصفراء كلما زادت السن قل الرجاء في الشفاء). وكان في سنّه السادسة والأربعين، وكانت له امرأة وخمسة أولاد، ومع هذا فقد كتب في هذا المساء إلى ريد يقول:(إذا كانت نظرية البعوض صائبة وجب أن يكون حظي من الداء وفيراً). وفعلاً قد كان حظه منه وفيراً

فبعد يومين أحس بالتعب ورغب عن عيادة المرضى في عنبرهم، وبعد يومين آخرين أحسّ أنه مريض، وخال أن عنده حمى الملاريا، فنهض بنفسه على رجليه وذهب إلى معمله وفحص دمه تحت المجهر فلم يجد به مما خال أثراً. ولما خيّم الليل ضرب في عينيه الدم، واحمرّ وجهه وأقتمّ، وفي الصباح حمله لازار إلى عنبر الحمى الصفراء، وبقى هناك أياماً طويلة وإلى جنبه الموت. . . ومرّت به دقيقة أحس فيها كأن قلبه سكت فلم ينبض. . . وتلك دقيقة أعقبته سوءاً ستعلمه بعد حين. وظل بعد شفائه يعد تلك الأيام التي قضاها مريضاً بالمستشفى أمجد أيامه. قال:(أنا أول رجل أصابته الحمى الصفراء في أول تجربة من عضة بعوضة متعمَّدة)

وعانى مثلَ حظ كارول جنديٌّ يدعى (س. ص)، أسماه هذا الاسم هؤلاء البحّاث الذين خرجوا على القانون فتستّروا في ظلام الكتمان، وكان اسمه الحقيقي وليم دِين ومسكنه جراند رابدز بمتشجان فهذا عضّته أربع بعوضات وكارولُ في أول مرضه، إحداها هي التي عصّت كارول، والثلاث الأخريات عضت ستة رجال في درجة من المرض معتدلة وأربعةَ رجال كانوا في أسوأ حالة من الحمى ورجلين ماتا بها. وحَظِي هذا الجندي بالشفاء كما حظي كارول

إذن فالتجارب جاءت بخير ما يُرجَى. نعم لقد عضَّ البعوض ثمانية رجال فلم يصبهم

ص: 41

سوء، ولكنه عض كارول وعض (س. ص) ونِعْم الخنزيرين الغينيين كانا في هذا التجريب فأصابتهما الحمى، وكاد قلب كارول أن يقف، وتماثل الاثنان للشفاء؛ وكان كارول مغتبطاً يكتب إلى رئيسه ريد وينتظر اليوم الذي يعود فيه ليطلعه على سجل التجارب زاهياً فخورا

ولم يشكّ في هذه التجارب أحدٌ إلا لازار، فداخله في هاتين الإصابتين شيء من الريبة، لأنه كان مجرِّباً متقناً دقيقاً حذِراً في تجريبه؛ وكان يرى أنه إذا قام بتجربة وجب عليه أن يتحكّم في ظروفها ويضبطها غاية الضبط حتى لا يتسرب إليها الخطأ، شأنَ البحّاثة القح. حدَّث لازار نفسه قال:(ليس من الكرم التشكك في أمر هاتين التجربتين بعد ما أبدى فيهما كارول و (س. ص) من التضحية والجرأة ما أبديا، ولكن كلا الرجلين تعرض للإصابة قبل التجربة وذهبا حيث توجد الحمى مرة أو مرتين قبل أن يصابا بها فعلا، فليست التجربة بالغة حدَّ الكمال، فمن يدريني أن بعوضي لا غيره هو الذي أعطاهم الحمى)

تشكك لازار، ولكن ما تشكُّكُ جندي أول واجبه إطاعة الأمر؟ وإذنْ فقد أخذ يجري على عادته فيذهب عصر كل يوم إلى أسرّة المرضى في تلك الحجرات ذات الرائحة الغريبة الضعيفة المعهودة، وإذنْ فقد استمر يقْلب زجاجات اختباره بما فيها من البعوض على أذرع رجال حمر الوجوه محمومين، ويجعل البعوض يمتص من دمائهم حتى يرتوي. وجاء اليوم الثالث عشر من سبتمبر، فكان يوماً على لازار مشؤوما، إذ بينما هو يأذن للبعوض في الزجاج أن يشرب من دم المرضى، حطت من الجو على ظاهر كفه بعوضة تائهة، فتركها تشرب من دمه وقال:(دعها تشرب فما أظنها من البعوض الذي يسيء)، قال ذلك عن بعوضة تائهة طائرة طليقة في عنبر به الرجال تموت!

كان هذا في اليوم الثالث عشر من سبتمبر

و (في مساء اليوم الثامن عشر من سبتمبر. . . شكى الدكتور لازار سوء المزاج، وجاءته رِعدة في الساعة الثامنة مساء). هكذا ذكر سجل المستشفى

واستمر السجل يذكر في إيجاز:

(19 سبتمبر: الساعة 12 ظهرً، الحرارة 39. 1 ? درجة. النبض 112. بالعين احتقان وبالوجه ارتشاح)

ص: 42

(الساعة السادسة مساء. الحرارة 39. 9 ? درجة النبض 106)

(ظهرت الصفراء في اليوم الثالث. واستمرت حالة المريض في التدرج إلى أن ظهرت عليه أعراض الحمى فكانت شديدة موئسة)

ثم يخرج السجل عن جفافه القاسي ويلطف من أسلوبه قليلاً: (جاءت الوفاة زميلنا العزيز فمات مأسوفا عليه في مساء الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1900)

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 43

‌إدوارد الثامن

بين عرشه وقلبه

للأستاذ محمود غنيم

أرأيت ذلك العاهل الشاب، ينازعه عاملا عرشه وقلبه، يهيب به الأول: أن الجاه الجاه، والسلطان السلطان؛ ويهيب به الثاني: لا سلطان إلا سلطان الغرام؛ وهو فيما بين هذا وذاك كريشة في مهب الريح، وقد أرهف العالم أذنيه، ليسمع كلمته الفاصلة، وكاد الفلك يكف عن دورانه، لينصت إلى قراره الأخير، حتى أطلقها من فيه كلمة كالقذيفة، وسمع دويها في الخافقين، فكانت فصل الخطاب؟

ألا فليشهد الفلك وليحدث التاريخ: أن عرش الإمبراطورية البريطانية الذي لا يهزه قصف المدافع، ولا تزعزته قوة الأساطيل، قد هزه لحظ فاتر، وزعزعه بنان مخضوب! وهكذا تثبث الطبيعة البشرية أن المرأة هي المرأة في كل زمان ومكان، منذ أن أخرجت آدم من الجنة إلى أن زحزحت إدوارد الثامن عن عرشه

لقد شهد تاريخ القرون الوسطى حرباً شعواء دارت رحاها بين السلطتين الزمنية والروحية، فليشهد التاريخ الحديث حرباً شعواء من نوع آخر بين السلطتين الزمنية والقلبية. فلئن كان العرش أخضع الفاتيكان يوماً لنفوذه، فها نحن أولاء نرى العرش ينهزم أمام الحب، ثم يقف بين يديه خاضعاً ذليلاً، يبايعه بالأمارة، ويعترف له بالغلب. ولعمري إن السلطة القلبية لهي أقوى السلطات الثلاث يأساً، وأصعبها مراساً، وأشدها عراماً، وأنفذها أحكاماً. ألم يضح الناس قديماً بالأديان على مذبح الحب والغرام؟

فأن تسلمي نسلم وإن تتنصري

يخط رجال بين أعينهم صُلبا

هذه هي بريطانيا العظمى أولى دول العالم، وهذا هو إدوارد الثامن الرجل الأول في بريطانيا العظمى، فأن شئت أن تشير إليه فقل: إن الإنسانية جسم هذا هامته، أو هي رأس هو ذؤابته، لو خلق إنسان من غير طين وماء لكان إياه، ولو استمر البشر على عبادة البشر لعبدوه من دون الله

ولكن، أليس عجيباً أن يكون هذا العاهل العظيم، لا يملك من أمر نفسه ما أملكه أنا من أمر نفسي، وما يملكه عامة شعبه من أمور أنفسهم؟! يشاء العامل البسيط أن يتزوج فيخطب

ص: 44

فيمهر فتزف إليه عرسه، ويشاء إدوارد الثامن أن يتزوج فتهز القوانين رأسها نفياً، ويطل شبح التقاليد بأذنيه، وتحول الحوائل، وتعترض العقبات، وتنطبق الزرقاء على الغبراء!

أليس عجيباً حقاً أن تتقيد حرية الملك فيما هو أمس الأشياء بشخصه إلى هذا الحد، وأن الذي يقيد حرية الملك إلى هذا الحد هو الدستور الذي يكفل جميع الحريات! الدستور الذي يحرر الأديان، ما باله يقيد العواطف؟ الدستور الذي يحرر اليد واللسان، ما باله يحول بين المرء وقلبه؟ ما باله يمنع الملك أن يتزوج زواجاً شرعياً، يقره الإنجيل، ويباركه يسوع! ما هذا الدستور الذي يبيح للرعية ما لا يبيح للراعي، ويمنع الملك ما يمنح المملوك، والذي يجلس الملوك على العروش آلات صماء تتحرك بالكهرباء؛ لا تأمر ولكن تأتمر، ولا تصدر الأحكام ولكن تتلقى الأحكام؟ أهكذا تنقلب الأوضاع وتنعكس الحقائق في القرن العشرين؟

لقد كان خليقاً بهذه الأزمة أن تستحكم حلقاتها في كل قرن إلا في القرن العشرين، وفي كل مكان إلا في أوربا؛ أوربا التي حملت لواء الديموقراطية وطافت تبشر بها في أنحاء الكرة الأرضية، ما بالها تنغمس اليوم في الأرستقراطية إلى الآذان، وتأبى الاعتراف (بمسز سمبسون) لأن الدم الملكي لا يجري في عروقها؟ أكان يجري الدم الملكي في عروق نابليون يوم سمحت له أوربا أن يكون إمبراطوراً يعبث بخريطتها كما يعبث الأولاد بالألواح، ويصرف ملوكها كما تصرف قطع الشطرنج؟ أحرام على (مسز سمبسون) أن تتبوأ عرش إنجلترا، كما تبوأت (جوزفين) عشر فرنسا من قبل، ولاسيما في هذا الزمان الذي أصبح فيه كل عامل في منجم وزيراً، وكل بائع صحف دكتاتوراً؟

وماذا يفعل الملك ببنات الملوك إذا كان قلبه عند غيرهن؟ وما ضر (مسز سمبسون) ألا تكون بنت ملك متوج، أو أخت ملك متوج، ما دامت هي ملكة متوجة على عرش الجمال؟. . . وكيف لا تتبوأ مع قرينها عرش الحكم كما تبوأت عرش القلوب، دولة بدولة، وسلطان بسلطان؟ فلماذا لا يقال: إنهما كفؤان؟ هبوها ليست عذراء، هبوها ذات زوجين من الأحياء، أليست فاتنة حسناء؟ إن الجمال يقتل كل غيرة، ويغطي على كل اعتبار، وهل نضيرها ببكارتها الذاهبة، ما دامت فتنتها باقية، ووجهها لم يفقد نضرته، وعينها لم تفقد سحرها. الحسناء عذراء وإن بدلت كل يوم بعلاً، بكر وإن أعقبت كل يوم نسلاً؛ ولن تزال

ص: 45

بكراً عذراء حتى تفقد جاذبيتها، وتحول نضرة خديها، وتنطفئ الجذوة التي تشع من عينيها؛ ألا رحم الله جاريتي الرشيد حين سحبت الأولى على الثانية ذيل التيه وقالت: أنا عذراء. فأجابت الأخرى ما بيننا إلا ليلة

ألا رحم الله زمانا كانت تثب فيه المرأة من أحضان عاشقيها إلى أريكة الحكم! رحم الله عشيقات البلاط الفرنسي في عهد أسرة البوربون - وما عهدهم ببعيد - حين كانت تقيد بأسمائهن التشريفات، وتصدر بأسمائهن الأحكام، وتعنوا أمامهن جباه أهل النفوذ والجاه! كلمة إحداهن مرسوم، وإيماءتها قانون، وأمرها نافذ حتى على الملك نفسه، وهي له خليلة لا حليلة

ألا رحم الله أيام العباسيين، إذا كان يؤهل المرأة لمشاطرة الملك فراشه رشاقة في قد، أو أسالة في خد، أو رأى صائب تبديه، أو بيت من الشعر فصيح ترويه، فتصبح زوجاً لخليفة، وأما لخليفة، كلاهما يتحكم في الرقاب، ويتحدى السحاب!

ألا رحم الله أيام الأندلسيين، حين كان يقف الملك على شاطئ الغدير، وينتقي زوجته من بين حملة الجرار، فيغدق عليها من ألوان النعيم ما لا عهد لها به، فتضيق بذلك كله ذرعا، ثم يعاودها حنينها إلى حمل الجرار، والانزلاق بها في الأمطار، فتخضب ردهة القصر بالحناء تخضيباً، وتمطر سماؤه بدل الماء طيباً، ثم تحمل جرتها وتسير فتنزلق قدمها، فيسري عنها، وتقر عينها، ثم لا تلبث أن تثور على الملك ثائرتها، فتقسم ما رأت معه يوم صفاء، حتى ولا يوم الحناء!

أليس من حق الملك الذي نهاره لشعبه، أن يكون ليله لقلبه؟ قاتل الله السياسة، فإنها ما تركت شأناً من شؤون أصحابها، إلا دست فيه أنفها، لقد أحصت عليهم الحركات والسكنات، فلا يتحرك أحدهم إلا بميقات. ولم تقنع بذلك، بل تركتهم يمرضون حين تشاء لهم المرض، ويشفون حين تسمح لهم بالشفاء، ويأكلون على خوانها، ويشربون من دنانها، ويجوعون ويظمأون إذا ضنت عليهم بالطعام، أو حبست عنهم المدام؛ ثم لم تقنع بذلك، فأرادت أن تعض على قلوب أصحابها بأنيابها، فلا يميلون إلا وفق ميولها، ولا يتزوجون إلا ممن تحوز شرف قبولها

لحا الله شعراء العرب! لقد كان يأرق أحدهم ليلة في سبيل الحب، فيطول به الضجر، من

ص: 46

طول السهر، ومناجاة القمر؛ ولقد كان يذرف عاشقهم عبرة، فيلونها بالخمرة، ويشكو من تقرح جفنيه، ويجعل الدمع خلقة عينيه، ثم يعاف الماء القراح، ويشرب الدمع بالأقداح! كم أنشأ عاشقهم المعلقات الطوال، في والإيثار، وأنه ابتعد عن أهله، وفارقهم من أجله

وحاربت أهلي في هواك وإنَهم

وإياي لولا حبك الماء والخمر

فيا ليت شعري، ماذا يقول ذلك العاشق الذي لم يسل الحب نومه من عينيه، ولم يرق دمعة على وجنتيه، وإنما أفقده عرشاً يمتد ظله على ربع الكرة الأرضية؟

لا تباه امرأة بعد اليوم بما بذل في صداقها من فضة ونضار، ومنقول وعقار. إنهما امرأتان، مهر كل منهما عرش وإيوان! كليوباطره في التاريخ القديم، (ومسز سمبسون) في هذا الزمان. فما أحرى كلا من إدوارد الثامن ومارك إنطوان أن يترنم بقول أمير الشعراء:

من يكن في الحب ضحى بالكرى

أو بمسفوح من الدمع جرى

نحن قربنا له ملك الثرى

أعود فأقول: أيها الملك النازل عن عرشه، هون عليك. لا أقول لك: ابك مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه، لقد كسبت امرأة، ولم تخسر شيئاً، فانعم بالاً، وقر عيناً

ولعمري إن إمبراطور الحبشة لأولى منك بالدمع مقلة. لقد كان إمبراطوراً طيلة حياته، ولم تكنه في يوم من أيام حياتك. وماذا تجديك إمبراطورية واسعة لا تحتكم فيها على موضع قدميك؟ شتان بين من يحكم شعبه ومن لا يحكم قلبه! فعزاء له عن ملكه الزائل، وهنيئاً لك حريتك المستردة، وقلبك الحر الطليق.

(كوم حماده)

محمود غنيم

مدرس بالمدرسة الابتدائية الأميرية

ص: 47

‌7 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

دوحة الجبل

وارتقى زارا ذات مساء الربوة المشرفة على مدينة (البقرة الملونة) فالتقى هنالك بفتى كان يلحظ فيما مضى صدوده عنه؛ وكان هذا الفتى جالساً إلى جذع دوحة يرسل إلى الوادي نظرات ملؤها الأسى، فتقدم زارا وطوق الدوحة بذراعيه وقال: - لو أنني أردت هز هذه الدوحة بيدي لما تمكنت. غير أن الريح الخفية عن أعيننا تهزها وتلويها كما تشاء. هكذا نحن تلوينا وتهزنا أيادٍ لا ترى

فنهض الفتى مذعوراً وقال: هذا زارا يتكلم! وقد كنت موجهاً أفكاري إليه

فقال زارا: ما يخيفك يا هذا؟ أليس للإنسان وللدوحة حال واحدة؟ فكلما سما الإنسان إلى الأعالي، إلى مطالع النور، تذهب أصوله غائرة في أعماق الأرض، في الظلمات والمهاوي

فصاح الفتى: أجل! إننا نغور في الشرور؛ ولكن كيف تسنى لك أن تكشف خفايا نفسي؟

فابتسم زارا وقال: إن من النفوس من لا نتوصل إلى اكتشافها إلا باختراعها اختراعاً

وعاد الفتى يكرر قوله: اجل إننا نغور في الشرور. قلت حقاً يا زارا، لقد تلاشت ثقتي بنفسي منذ بدأت بالطموح إلى الارتقاء فحرمت أيضاً ثقة الناس، فما هو السبب يا ترى؟ إنني أتحول بسرعة فيدحض حاضري ما مضى من أيامي. ولكم حلّقتُ فوق المدارج أتخطاها وهي الآن لا تغتفر لي إهمالي. إنني عندما أبلغ الذروة أراني دائماً منفرداً وليس قربي من يكلمني، ويلفحني القَرُّ في وحدتي فترتجف عظامي، وما أدري ماذا أتيت أطلب فوق الذرى!

إن احتقاري يساير رغباتي في نموّها، فكلما ازددت ارتفاعاً زاد احتقاري للمرتفعين فلا أدري ما هم في الذرى يقصدون. ولكم أخجلني سلوكي متعثراً على المرتقى، ولكم هزأت بتهدج أنفاسي. إنني أكره المنتفضين للطيران. فما أتعب الوقوف على الذرى العالية!

ونظر زارا إلى الدوحة يتكئ الفتى عليها ساكتاً فقال: إن هذه الدوحة ترتفع منفردة على

ص: 48

القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات، فإذا هي أرادت أن تتكلم الآن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد. إنها انتظرت ولم تزل تتعلل بالصبر، ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة عليها

فهتف الفتى متحمساً: نطقت بالحق، يا زارا إنني اتجهت إلى الأعماق وأنا اطلب الاعتلاء، وما أنت إلا الصاعقة التي توقعتها. تفرَّس فيَّ، وانظر إلى ما آلت إليه حالتي منذ تجليت لنا، فما أنا إلا ضحية الحسد الذي استولى عليّ

وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم، فتأبط زرارا ذراعه وسار به على الطريق. وبعد أن قطعا مسافة منها قال زارا: - لقد تفطر قلبي، إن في عينيك ما يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من الأخطار. إنك لما تتحرر يا أخي، بل ما زلت تسعى إلى الحرية، وقد أصبحت في بحثك عنها مرهف الحس كالسائر في منامه

إنك تريد الصعود مطلقاً من كل قيد نحو الذرى، فقد اشتاقت روحك إلى مسارح النجوم، ولكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية أيضاً

إن كلابك العقورة تطلب حريتها، فهي تنبح مرحة في سراديبها، على حين أن عقلك يطمح إلى تحطيم أبواب سجونك كلها. وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل سجيناً يتوق إلى حريته، وأمثال هذا السجين تتصف أرواحهم بالحزم غير أنها تصبح وا أسفاه مراوغة شريرة

على من حرّر عقله أن يتطهّر مما تبقّى فيه من عادة كبت العواطف والتلطخ بالأقذار؛ لتصبح نظراته برّاقةً صافية. إنني لا أجهل الخطر المحدق بك، لذلك أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألا تطرّح عنك ما فيك من حب ومن أمل

إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريماً بالرغم من كرههم لك وتوجيههم نظرات السوء إليك، فاعلم أن الناس لا يبالون بالكرماء يمرون بهم على الطريق، غير أن أهل الصلاح يهتّمون بهم، فإذا ما صادفوا في سبيلهم من يتشح الكرامة دعوه رجلاً صالحا ليتمكنوا من القبض عليه لاستعباده

إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شياء جديدا وفضيلة جديدة، على حين أن الرجل الصالح لا يحن إلاّ إلى الأشياء القديمة، وجل رغبته تتجه إلى الإبقاء عليها

ص: 49

لا خطر على الرجل الكريم من أن ينقلب رجل صلاح، بل كل الخطر عليه في أن يصبح وقحاً هدّاما

لقد عرفت من الناس كراما دلّت طلائعهم على أنهم سيبلغون أسمى الأماني، فما لبثوا حتى هزأوا بكل أمنية سامية، فعاشوا تسير الوقاحة أمامهم، وتموت رغباتهم قبل أن تظهر، فما أعلنوا في صبيحتهم خطة إلا شهدوا فشلها في المساء

قال هؤلاء الناس: ما الفكرة إلا شهوة كغيرها من الشهوات

وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما، وبقيت الفكرة تزحف زحفا وتدنس جميع ما تتصل به

لقد فكر هؤلاء الناس من قبل أن يصيروا أبطالاً، فما تسّنى لهم إلا أن يصبحوا متنعمين، يحزنهم شبح البطولة ويلقى الخوف في روعهم

أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألاّ تدفع عنك البطل الكامن في نفسك إذ عليك أن تحقق أسمى أمانيك

هكذا تكلم زارا. . .

المنذرون بالموت:

ما أكثر المنذرين بالموت! والعالم ملئٌ بمن تجب دعوتهم إلى الإعراض عن الحياة

إن الأرض مكتظة بالدخلاء وقد أفسدوا الحياة، فما أجدرهم بأن تستهويهم الحياة الأبدية ليخرجوا من هذه الدنيا

لقد وُصف المنذرون بالموت بالرجال الصفر والسود، ولسوف أصفهم أنا فينكشفون عن ألوان أخرى أيضاً

إنهم لأشد الناس خطراً، إذ كمن الحيوان المفترس فيهم، فغدوا ولا خيار لهم إلا بين حالتين، حالة التحرق بالشهوة وحالة كبتها بالتعذيب. وما شهوتهم إلا التعذيب بعينه. إن هؤلاء المسوخ لم يبلغوا مرتبة الإنسانية بعد، فليبشروا بكره الحياة، وليقلعوا عن مرابعها

هؤلاء هم المصابون بسلّ الروح، فانهم لا يكادون يولدون للحياة حتى يبدأ موتهم، وقد شافتهم مبادئ الزهد والملال

يود هؤلاء الناس أن يُدرَجوا في عداد الأموات، فعلينا أن نحبّذ إرادتهم ولنحترس من أن

ص: 50

نعمل على بعث هؤلاء الأموات وعلى تشويه هذه النعوش المتحركة

إذا هم صادفوا مريضاً أو شيخاً أو جثة ميت، فانهم يقولون - لقد انتفت الحياة؛ ولو أنصفوا لقالوا إنهم هم نفيٌ للحياة، وإن عيونهم دحضٌ لها لأنها لا تتجه إلا إلى مظهر واحد من مظاهر الوجود

هم يتلفّعون برداء وسيع من الأسى ويتشوقون إلى الحوادث التي تجر وراءها الموت. ولكنهم يتوقعون الموت وأسنانهم تصطك فرقا. غير أنهم في الوقت نفسه يمدون أيديهم إلى ما لذّ وطاب هازئين، فكأن الحياة قشة يهزأون بها ولكنهم يحرصون عليها. إن حكمة هؤلاء الناس تهتف قائلة (الحياة جنون، أفظع منه التمسك بالحياة. وقد بلغ الجنون بنا هذا الحد الفظيع)

يقولون إن الحياة آلام؛ فهم يقولون حقا، فلماذا لا يضعون حداً لهذه الحياة إن لم يكن فيها سوى العذاب؟ تلك تعاليم ترمي إلى وجوب الانتحار؛ فيقول البعض وهو يدعو إلى الموت: إن الملاذ الجنسية خطيئة فيجب الامتناع عنها والإضراب عن التوليد. ويقول البعض الآخر: إن الولادة مؤلمة، فعلَامَ تلد النساء وهنّ لا يقذفن إلى الوجود إلا بالأشقياء؟ وهذه الفئة هي أيضاً من المنذرين بالفناء

وتقول لك فئة أخرى: إن الرحمة لازمة فخذ ما نملك، بل خذ ما تتكون شخصيتنا منه، فان فعلت فأنك تقطع من الأسلاك التي تشد بنا إلى الحياة. ولو أن رحمة هذه الفئة من الناس تتغلغل في صميم ذاتهم لكانوا يبذلون الجهد في سبيل دفع سواهم إلى كره الحياة. ليستمر هؤلاء الناس على ما هم عليه، لأن رحمتهم الحقيقية كامنة في إيقاع الأذى

إن ما يقصد هؤلاء الناس إنما هو التملص من تكاليف البقاء فلا يهمهم أن هم ألقوا بأغلالهم على الآخرين.

وأنتم أيضاً، أيها المتحملون من الدنيا همومها وجهودها المرهقة، أفما تعبتم من الحياة؟ أفما أنضجت المحن نفوسكم لتقوم هي أيضاً منذرة بالموت؟

أنتم يا من تحبون الأعمال الوحشية وكل حادث يمتعكم بكل جديد وغريب سريع الزوال! لقد ضقتم ذرعا بأنفسكم فما تتهالكون في العمل إلا تهربا من الحياة وطلبا للاستغراق لتصلوا بذاتكم إلى نسيان ذاتها. ولو كنتم أشد إيمانا بالحياة لما كنتم تستسلمون هذا

ص: 51

الاستسلام الكامل لحاضركم. لقد خلت سرائركم من القوة اللازمة للانتظار، بل خلت مما يستلزم كسلكم نفسه من جلد

إن صوت المنذرين بالموت يدوي في كل مكان، والعالم مكتظ بمن وجبت دعوتهم إلى الموت أو بالحري إلى الحياة الأبدية؛ ولا فرق عندي بين ذاك وهذه إذا كان هؤلاء الناس يسارعون إلى إخلاء الأرض

هكذا تكلم زارا

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 52

‌في بهو فندق

خيانة اللغة العربية والآباء والأجداد والدهر والتاريخ

للأستاذ محمد بدر الدين الخطيب

أنا (ولا أنانية) والسائح العراقي الأستاذ يونس البحري الساعة في (صالون) فندق من أكبر فنادق بيروت، نقلب الطرف والسمع في الزمر التي نحتشد حولنا، ونتداول شتى الحديث ونود إلى (الرسالة) وافتتاحيتها المشرقة بما في نفس كاتبها الأستاذ الزيات وبما في نفوسنا نحن إخوانه من شعور صحيح يتصل بتيار الحمية ولا يتقطع ملحقا بسلك مذبذب ضعيف يتفرع إلينا من الغرب.

نحن في حماس وإشراق، والزمر التي رأيت تلغط حولنا بالفرنسية، وبالفرنسية فقط، لغطاً ضعيفاً أشبه بالنور الضئيل في المصباح الكهربائي الذي يستمد تياره من الفرع الضعيف الذي رأيت أيضاً

هذه فتاة ريانة يهفهف العطر والجمال والدلال في خطوها، تتحدث إلى أخرى بالفرنسية، وأزاءها أمها تتطلع إليها تطلع المأخوذ الذي لا يعي ما يقال.

ها هي ذي أمها تسائلها (بالعربية)

التفتت الفتاة في نزق وقد التهب وجهها بالحمق ولسانها بالنزق وصاحت بأمها:

أي! أي! هس! هس!

وعادت إلى الكلام بالفرنسية وفي نفسها أن أمها قد مسخت المدنية أو مسخت موقفها في المدنية والفرنسية في حديثها إليها بالعربية.

لم أكتم نفسي وتركت الغضب يمد عليها ويجعلني ألتفت إلى صاحبي (يونس) وأحدثه بما يشبه الصيحة عما أرى وأسمع.

وكان صاحبي مثلي في وجوم وألم مما يرى فلم يكتم نفسه وانبعث يصيح ويعلن أسفه (بالثلث)

وكان بجوارنا زمرة من الشباب وقع عليها ما نقول وقع العجب في غير رجب، فالتفتت بجملتها وتوجه أحدها إلينا يقول:

(الناس أحرار يتكلموا ما شاءوا أفرنسية ولا عربية ولا ألمانية حتى شوهاد يا إخوان).

ص: 53

قلت له شوهاد؟ أي كلمة كبرت، وأي حمية صغرت، وأي. . .

ليتك تذهب إلى تركيا وتتكلم بغير التركية ويحسبك الأتراك تركيا مارقا فترى وتسمع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من التأنيب والتعذير!

لا دواء لك ولا لأمثالك إلا أن تذهب إلى تركيا في شكل تركي، ولا أحسب المنطق يفيدك أو يفيد هذا الجمهور الغريب من أشباه الشباب وأشباه الرجال، هذا الجمهور الخارج من حظيرة فنية استعمارية. . نعم. . .

وصاح صاحبي السائح العراقي يقول: لقد طفت أكثر بلاد العالم فلم أجد أمة تحتقر نفسها وتلوي ألسنتها وتتحمس لهذا العبث إلا في بلادنا العربية

ما شأن اللغة العربية حتى تتجاوز عنها وترطن بالفرنسية؟ أليست لغة المجد والعلم، ولغة دمك وبلادك؟

بهتت الزمرة، وساد وجوم، وتلجلج الجو، لا يحير، وماذا يحير، وعناصره عربية، وإن لم تكن عربية فطبيعية، تشهد للأمر الواقع، وتخشع احتراماً له وإجلالاً؟

ساد صمت وعدنا إلى حديثنا، ثم انفضت من حولنا الزمرة! وذهب أفرادها وفي نفوسهم ما لا يعلم إلا الله

وعدنا نقرأ مقال الأستاذ الزيات نفرج به ما اشتبك واحتبك من الشجون، ونثني على كاتبه ثناء خالصاً مشرقاً وثناء صحيحاً يجدر بالشعور الصحيح والرأي الصحيح

وتأملنا ولا زلنا نتأمل في هذه الظاهرة السوء والعلة الغريبة التي تجد في كثير من الذين داخلتهم حمية وحماسة ورعونة ولؤماً للدفاع عنها والسفاهة في سبيلها

تأملنا ولا زلنا نتأمل، وفي نفوسنا وأمانينا أن يبادر من يشعر بالخطر وبما وراء هذا الانحلال من نذر من الكتاب إلى معالجته بقوة وبصراحة

محمد بدر الدين الخطيب

ص: 54

‌في ساعة يأس

للشاعر القروي

هل بينكم من راحمٍ قاتلِ

يزحزح الأيامَ عن كاهلي

يقذِفُ بي في دَرَك اللجّ لا

يلفِظني موجٌ إلى ساحِلِ

يا من يُذَرّيني طحيناً على

وجهِ صعيدٍ محرقٍ قاحل

ما رشَحَت من جوّهِ قطرةٌ

يوماً على نَضْرٍ ولا ذابل

أُشفِقُ أن أُبعثَ في عُشبةٍ

أو زهرةٍ أو غُصُنٍ مائل

يا لَاشتهائي جنَّة من لظىً

آكلُ من يانعِها الآكلِ

في شجر من لهب ثائرٍ

على ضفاف اللهبِ السائلِ

مأدبةٌ تأكلُ أضيافَها

آمنةُ الوارشِ والواغِلِ

وأبَرْدَها عندي إذا اجحَو حَمَت

كأُختِها في قَفصي الناحِلِ

لاقفةً فُلكَ همومي معي

ذاهبة بالحِمل والحامِل

من يشتري لي عَدَما مطلقاً

يُعْيى على النافخ والجابل

لاشِ حياتي يا إلهي ولو

حقّقتَ زعمُ الملحِدِ الجاهل

جسمي وروحي وأغانيَّ لا

تُبقِ على باق ولا زائِلِ

ما حيلةُ اليائسِ لا ينتهي

من عاجل إلا إلى آجلِ

أقسى من الموتِ على النفسِ أن

تسعى إلى الموتِ بلا طائل

هَبْ كانَ لي الخلدُ تنغّصْتُهُ

بذكرِ هذا الألمِ الهائلِ

وا حيرة العاقلِ في. . .

قضى وأمضى بشَقَا العاقل

يفعل ما لو غيره فاعلٌ

لقامت الدنيا على الفاعِلِ

يا بائعاً (سَحبانَ) من (باقل)

كبيعه شعبيه بالشاقلِ

القدسُ لم تَزَنِ فما بالها

تُرجَمُ عن (بابِلَ) من (بابِلِ)

كم صرعةٍ للحق قد زعزعَت

رأييَ في الحقِّ وفي الباطِلِ

مُت يا أخي العامل، مُت جائعا

ولا تسل عن أجرة العامل!

إن فاتَكَ الخبزُ فَلُكْ آية

وانعم بموت الآمن الآمل!

ص: 55

غداً لك الخلدُ فما ضرّ إن

لم تأكلِ اليومَ مع الآكلِ!

قبّلْ يدَ الظالمِ قسراً ولا

تعتب على خالقهِ العادلِ!

هل كانت الآلام مذ قُدِّرت

إلا نصيبَ الرجل الفاضلِ!

فلنحمدِ المولى على نعمةٍ

خُصت بنا من فضله الشامل،

إبليسُ! يا مسكين! مُت غيرة

فالصَّلب. . حظ البشر الكامِلِ!

يا سائلي عن سر هذا الأسى

أَقصِرْ وقاك الله يا سائلي

ما أبعد الشكوى، على هولها

عن بعض ما ينهش في داخلي

عن سرّ أسرار عذابي الذي

عزّ على السامع والقائلِ

يا مستعير الدمع لبيّكَ خذ

ما شئت من طَلٍّ ومن وابلِ

في كل جفن من جفوني سَماً

وكُلَّ هدب مقلتا. ثاكل

(سنبولو - البرازيل)

الشاعر القروي

من العصبة الأندلسية

ص: 56

‌إدوارد الثامن

للدكتور أحمد زكي أبو شادي

كأنكَ لم تبذل فؤادك داويا

لشعبكَ حتى فاتكَ اليوم داميا

كأنكَ لم تدر البطولة يافعاً

ولم تصحب الهيجا وتَسْلُ المغانيا

كأنك لم تُعطِ العظائم حقَّها

ولم تعرفْ الأوطان حُبّكَ فاديا

كأنك ما طاردت عن شعبك الأذى

وأنفقت في هذا الطراد اللّياليا

مَواهبُ يَجنى العُرْفُ شَرَّ جنايةٍ

عليها، ويَنْسَى العُرْفُ غيرك جانيا

وما قيمةُ التاجِ الذي أنتَ تارك

إذا بات هذا التاجُ خصما وعاديا؟

تفانيتَ في الإحسانِ للشعبِ دائما

فلم يَزِن الإِحسانَ أو كان ناسيا

وأذعَنَ للتقليدِ في حين قد أبى

نُزُولَكَ عن عرش زهابك ساميا

وهيهات أن يحظى بسحرك تاليا

وهيهات أن يلقى شبيهك ثانيا

فكان مُهينا كبرياَءك، جارحا

وفاَءك، مهما عُدَّ للعرش وافيا

ومِنْ قِدَمٍ كان التذبذبُ مِلّةً

وسوف على الدهماءِ يلبثُ عاتيا

أَمثلكَ في إِشفاقِهِ وإِبائِهِ

يُسَخَّرُ، مهما زُخْرفَ القيدُ حاليا

أَتحْرَمُ مَحْضَ العيشِ مثلَ بني الوَرى؟

إذنْ كلُّ عيش دونه ليس غاليا

تُضَحِّي؟ نعمْ ضحَّيتَ أضعافَ ما رَجَوْا

ولكنّهم ما بادلوكَ الأمانيا

وما كنتَ للحبِّ المقدَّسِ خاضعا

ولكن لمعنىً بَذّ عندي المعانيا

هو البرُّ بالنفسِ العظيمةِ عندما

تَرَى الناسَ فَوْضى والأماني مآسِيا

ومِثلُكَ لن يرضى الحياةَ مَنِيَّةً

ولكنّما يهوى الحياةَ معاليا:

معالي مِنْ نُبْل وسعى وخدمة

وحرية، لا أن يرى العيش خاليا

وَهَبْتَ الكثيرَ الفخم للشعبِ خالصا

ولكنَّه يأبى لكَ النّزْرَ صافيا

ومِنْ عَجَبِ يحنو عليكَ بلهفةٍ

فلم ترض إلا أن تكون المواسيا

وكنت عظيم النُّبْلِ في كلِّ موقف

كأنكَ يومَ الرَّوْعِ تشدو الأغانيا

فأفعمت قلبي من ثباتِكَ نشوة

ومِنْهُ لباكي الشعب صُغْتَ التعازيا

إذا أَسَرَ التقليدُ أحلامَ أُمَّةٍ

نظمتُ لها قبلَ العَزاءِ المراثيا!

ص: 57

الإسكندرية

أحمد زكي أبو شادي

ص: 58

‌إلى الفيلسوف الشاعر نيتشه

بقلم محمد فهمي

نظمت على أثر قراءة ديوانه (هكذا قال زرادشت) الذي

تترجمه (الرسالة)

أَذبْتَ قلبك أَشعاراً تردِّدُها

أَوْدَعْتها لَذعَ ما في القلب من نارِ

في كل بيتٍ لسانُ النار مندلعٌ

في كل بيت تَبدّي شبه إِعصارِ

وأُيُّ قلب تراك اليوم ساكبه

وأَيُّ فكر تراءى لي بأسرار

أَلا هو القلب دفاقاً ومنطوياً

على البُطولة في سيّالها الجاري

أَلا هو الفكر في أَجوازه لُمَعٌ

من الخلود كضوء الفرقد الساري

تُلقى القذيفة من شعرِ مؤججةً

نحو القلوب فتغدو كالّلظى الواري

وتبعث البأس فيها جِدّ محتدمٍ

وتوقُظ العزم في إِقدام جَبّار

وتحطِمُ القيد إذ حلقاتُه نسجت

من الخرافة في تأثيرها الزَّاري

وتُطلق الروح كالطير الذي فُتحت

له السجون وأَقفاصٌ لأُسَّار

يمضي يُحلِّق نشواناً ومنطلقاً

ويهتك الحُجب من غيب وأستار

حتى يشارف سر الكون مجتليا

غايَ الحياةٍ لإنسان به سار!

فما الحياة أراها اليوم أُلْهيةً

لفتنةٍ النفس في كشف وإضمار

وما الخلود أراه طيف أُمِنَيةٍ

تساور الفكر في حلٍّ وتسيار

ولا الوجود هباء ليس يَعْدِله

في كفّة الزُّهد حتى عُشر مِعشار!

بل الحياة كفاحٌ لا قرار له

وليس يلحاه إلا كلُّ خوَّار

بل الوجود هو الفردوس تحجبه

عنا سخائف أوهامٍ وأوطار

وما الخلود سوى قُصوى بُلَهْنِيةٍ

لكامل الخلق فوق الأرض قرَّار

أنت الذي جعل الآمال دانيةً

وأَنْزَلَ الخُلد في الأخرى لذي الدار

وَحْيٌ من الفكر يهدي شهد حكمته

في كأس سِفرٍ تَجلّى فوق أسفار. . .

(المنصورة)

ص: 59

محمد فهمي

ص: 60

‌من هنا ومن هناك

بوشكين أمير شعراء روسيا

تستعد روسيا السوفيتية استعداداً عظيما للاحتفال بمرور مائة سنة على وفاة شاعرها الأكبر بوشكين الذي مات متأثراً بجروح بالغة بعد مبارزة جنونية مع هيكرين دانت أحد ضباط الحرس القيصري الذي كان يغازل امرأة بوشكين، والذي قيل إنه استطاع أن يحظى بها بعد مجازفات غرامية سافلة انتهت بمقتل شاعر روسيا الكبير في 27 فبراير سنة 1837

ولو عاش بوشكين إلى اليوم لأبى أن تحتفل به روسيا هذا الاحتفال الذي يؤلمه ويكبر عليه من رجال مستبدين غاشمين داسوا تعاليمه، ولم يبالوا أن يجعلوا روسيا جحيما لا يطاق من العسف والجبروت، والفاقة والعوز، والكبت والتنكيل. وهي أمور وقف بوشكين حياته على محاربتها في عهد القيصر، وانضم بسببها إلى جماعة الديسمبريين يناضل الظلم بيده ولسانه وقلبه، ولم يبال أن ينفى إلى الجنوب، وأن يحرم ملذات بطرسبرج وأنوارها التي كانت في ذلك الوقت زينة الحياة الدنيا

ولد بوشكين في 26 مايو سنة 1799 من أب روسي، وأم خلاسية يجري في عروقها دم الزنوج الأفريقيين، لأنها حفيدة (هينبال!) العظيم، أحب خدم البلاط إلى بطرس الأكبر، والذي كان يلقبه عاهل روسيا (جوهرة بلاطي!) من سبيل الدعابة، لأنه كان عبداً أسود امتاز بشجاعته النادرة وإخلاصه المتين لصاحب التاج

وكان أبوه روسياً مثقفاً يقتني مكتبةً حافلة تزخر بأجود الكتب الفرنسية كقصص فولتير ومؤلفات روسو وغيرها، فكانت النبع الفياض الذي ارتوى منه بوشكين وشفى نفسه الصادية، وساعدته ذاكرته القوية على استظهار ما في كتبها من درر وغُرر ومُلَح وطُرف، وهو لم يعد بعد طور الصبى. ولم يظهر بوشكين عبقرية ما في صغره؛ وكان يكره اللغة الروسية من صميمه، ولم يكن يعلم أن سيصير عما قريب إمامها المجلي، وفارسها المغوار، وشاعرها الذي لا يدانيه شاعر

وكان أبوه يضيق بضعف ولده في الروسية، فلما ضبطه مرة مكباً على فولتير يكاد يلتهمه، لم يسعه إلا أن يضربه ضرباً مبرحا وحرَّم عليه دخول مكتبته حتى يتقن اللغة الروسية. . . (وعندها يا بني يمكن أن يثمر في قلبك، وعلى لسانك، هذا الأدب الفرنسي الجميل!. . .)

ص: 61

وقد صدق أبوه!!

وفي سنة 1812 التحق بصالة المحاضرات في قرية زارسكوسيلو، إحدى ضواحي موسكو، وهناك تعرف إلى الشاعر (درزهافن) فنفخ فيه من روحه وشجعه على قرض الشعر، وكان يستملح منه هذه القصص الممتعة التي كان ينظمها وينشدها أخواته الصغيرات. وحدث أن زار الشاعر الروسي الكبير (زهيكوفسكي) ضاحية زارسكو، وسمع بوشكين فأعجب به وتنبأ له عن مستقبل باهر. وقد تأيدت تك النبوءة عندما نظم بوشكين قصيدته الطويلة (رسلان ولدميلا) سنة 1820 فأرسل إليه الشاعر الروسي صورته وعليها هذه العبارة (إلى التلميذ: من أستاذه المغلوب على أمره!)

وقد اشتملت قصيدة رسلان على طائفة كبيرة من الفوكلور الروسي الذي كان يترفع عنه الشعر في ذلك الوقت، وبرغم ذلك فقد كان للقصيدة رنة عظيمة في روسيا ولهج بها كل لسان؛ وكان الشاعر باتيوشكوف يصبو إلى إمارة الشعر الروسي، فلما صدرت قصيدة بوشكين حقد على الشاعر الشاب (الذي سبق الشعراء إلى ما كانوا يصبون إليه!)

رحل بوشكين إلى العاصمة الصاخبة بعد حصوله على شهادة الليْسيوم، وكان يتمنى لو التحق بالمدرسة الحربية، بيد أنه ألحق بوظيفة في السلك السياسي، واستطاع أن يجوب آفاق القوقاز، وهو في ذلك العهد مسبح خيال الشعراء ونبع إلهامهم؛ ثم تجول في ربوع القرم، وقضى حقبة طويلة درس فيها الإيطالية والإنجليزية، واشتد ولعه بشاعر الإنجليز بيرون فكان يستظهر قصائده، وبلغ ما إعجابه به أن قلد بقصيدته (أسير القوقاز) قصيدة بيرون (تشيلد هارولد). وفي هذه القصيدة يبدع بوشكين في الكلام عن الحب ووصف الجمال القوقازي والخرائد القوقازيات ويرتفع ببطل القصيدة إلى ذروة الطهر

وشعر بوشكين في هذه الفترة من عمره متأثر بالأدب العربي إلى حد بعيد؛ وأثر أبي نواس والمدرسة العباسية فيه شديد الوضوح، فهو يصف بيوت الحانات وما فيها من ألوان الترف وجمال السراري والولدان. ومن يقرأ ما جاء في الأغاني ونهاية الأرب عن حب الأعراب ثم يقرأ قصيدة (الغجر لبوشكين يلمس أثر الثقافة العربية في هذا الشاعر لمساً تاما. فهذا الفتى (أليكو) الذي يسأم صخب المدن ويفر إلى الريف فيحب الفتاة (زمفيرا) ويتزوجها، ثم تمله الفتاة وتقلوه وتعلق فتى وسيم الخلق فتتصل به وتساقيه كؤوس الغرام ويفاجئهما أليكو

ص: 62

في حالة مريبة فيقتلهما جميعا، ويثير عليه غضب سيده وهو والد الفتاة، فيطرده من خيامه ليهيم على وجهه في الأرض، ويعود السيد ليرى زوجته بين يدي عاشق أثيم فتسود الدنيا في عينيه ويترك العاشقين وشأنهما وينطلق على وجهه في الأرض حيران. . . كأنما انتقم منه القضاء للفتى أليكو

وتأثر بوشكين بشكسبير أيضاً، ويبدو ذلك الأثر على أتمه في قصيدته (بوريس جوديونوف) التي تصور رجلاً آفاقياً متشرداً يصل إلى عرش أمة في غفلة الزمن، وقد عرض فيها بديمتري الذي استطاع أن يحكم روسيا ولم يكن من قبل شيئاً مذكورا

ومن أحسن قصائده (أونجين) التي بدأ بنظمها سنة 1823 وأتمها سنة 1831 وسنعود إليها في عدد تال

مسز جراندي

اشتهر القرن التاسع عشر في إنجلترا بأنه قرن الانتقال المفاجئ في حياة أمة عظيمة عتيقة محافظة - ففيه ظهر داروين الذي قلب البيولوجية رأساً على عقب؛ وفيه تبدل الاجتماع الإنجليزي فأصبح اجتماعاً صناعياً يرتكز على أساس من الآلة البخارية بعد أن كان اجتماعاً زراعياً أو صناعياً يرتكز على أساس من آلة تدار باليد. وفيه خطا الطب خطوة واسعة من الشعوذة إلى التشريح العلمي وبحث خصائص المكروب

ولكن القرن التاسع عشر لم يستطع أن يخطو بالأسرة الإنجليزية خطوة واحدة إلى الأمام، بل إنه زاد الطين بلة فأغرق إنجلترا في بحر من الذهب فأنزف الإنجليز إترافا زادهم جموداً وقوى من سلطان مسز جراندي عليهم جميعاً

ومسز جراندي هذه هي هذا الشبح الخرافي الذي يكنى به في إنجلترا إلى اليوم عن سلطان التقاليد العتيقة البالية التي تعطي للأب في منزله سلطة الدكتاتور، وللأم سلطان القديسة، تأمر وتنهي وترفع في وجوه أبنائها عصا القرون الوسطى فتفل بها من حريتهم وتحد من استقلالهم إن فرض أن لهم استقلالا أو حرية. وكان صوت مسز جراندي يدوي في كل بيت إنجليزي فيقول: هذا واجب وذاك لا يصح، وينبغي أن تدنى الفتاة عليها من جلاليبها، وألا تفتح النافذة، وألا تمد عينيها إلى أحد إذا سارت في الطريق، وألا تختار لنفسها بل أبوها هو الذي يختار لها

ص: 63

وكان لمسز جراندي سلطان مخيف على الأدباء، وكانوا جميعاً يخشون بأسها، ولذا كانت أفكارهم سجينة في زخارف من الكلام الأجوف الموشى الذي يعجب اللغويين ويهزأ به الأدباء المصلحون. وماكولي دليل على ذلك، فأسلوبه المرقص المطرب لا يكاد يدانيه أسلوب آخر في موسيقاه، ولكنه بأفكاره يعيش كما تعيش العناكب في الأركان والزوايا، وكما تسعى الخفافيش في ظلام الليل. وجون رسكن كذلك، وهو رجل أنيق العبارة رشيق الأسلوب، ومع ذلك أراد أن يضحي تقدم إنجلترا ورقيها الآلي ما دام هذا الرقي في رأيه ينافي الفن الصحيح. ولقد ثار على مسز جراندي أديبان عظيمان هما لورد بيرون وبرسي شللي فكان أولهما يجاهر بآرائه الكفرية، ويغيظها فيشرب الخمر في جمجمة ميت، ويترخص في الحب وينظم دون جوان. وكان الثاني يحتقرها في عظمة ووقار وينظم مأساة سنسي ويفلسف في الحب، ولكن مسز جراندي هي الأخرى لم تأبه بهما، بل هي قد لفظتهما من إنجلترا إلى اليونان وإيطاليا ولذلك لم يشعر بهما أحد إلا بعد أن مرضت هذه السيدة المحتشمة وأوشكت أن تموت

والذي يهمنا من هذه الكلمة عن مسز جراندي أن الشريعة الإسلامية أكبر أعدائها، ومع ذلك فسلطان مسز جراندي في مصر أقوى منه بكثير في إنجلترا، فهل يتأذن الله أن تموت؟!

د. خ

ص: 64

‌البريد الأدبي

كتاب جديد لأندريه جيد

منذ بضعة أعوام ظهرت للكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد عدة مقالات رنانة تفيض بالمديح في روسيا السوفيتية وفي نظمها وأحوالها، وفيما هيأته للطبقات العاملة من حياة جديدة، ولكن أندريه جيد يطلع الآن على قرائه بكتاب جديد عنوانه: (العودة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي وفيه يحمل على روسيا السوفيتية بعنف وشدة، وينعت ما سماه قبل بجنة العمال والطبقات العاملة بالجحيم المستعر، ويقول لنا أندريه جيد في سر هذا الانقلاب إنه كان يحب روسيا ونظمها الجديدة قبل أن يرى ويختبر بنفسه ما فيها؛ ولكنه الآن وقد وقف بنفسه على الحقيقة، وشاهدها في موطنها، وبعد أن أقام في روسيا زهاء ثلاثة أعوام، يستطيع الآن أن يقول فيها كلمة حق وصدق

يقول لنا أندريه جيد في كتابه: (إن أقل احتجاج أو نقد يعاقب عليه في روسيا السوفيتية بأشنع العقوبات، ثم يخمد في الحال؛ وإنه يرتاب في أن دولة أوربية أخرى - حتى ألمانيا الهتلرية ذاتها - يخمد فيها الرأي ويسحق ويذل مثل ما هو في روسيا)

ثم يقول لنا أن الثقافة العالية وسفه الرعاع في روسيا أمر سواء، ولا يسمح لإنسان أن يفكر بغير ما تفكر به جريدة (برافدا) لسان الحزب الشيوعي؛ ويحظر على كل روسي أن يعبر الحدود؛ وأن يعرف شيئاً عن العالم الخارجي؛ والمهم دائماً هو أن يعتقد الشعب الروسي أنه أسعد حالاً من كل الشعوب الأخرى

ثم إنه فيما خلا الطبقة الممتازة التي تنعم بالحياة المترفة في الطعام واللباس والمسكن، ترى الشقاء يسحق كل الطبقات والجموع؛ ويتكدس الناس في مساكن ضيقة قذرة ويعيش معظمهم على الخبز الجاف والسمك؛ وأما البضائع فهي مكدسة في الحوانيت والمخازن ولكنها جميعاً من أردأ صنف؛ والرداءة صفة عامة لكل شيء في روسيا. وأما المبادئ الشيوعية فلم يبق منها إلا صورتها؛ وتجد السياسة السوفيتية الحالية في التدرج في إحياء الأسرة والملكية الشخصية والميراث، حتى يشعر الفرد أنه يملك شيئاً لنفسه يجب أن يدافع عنه؛ بيد أن الفرد ليس له وجود، وقد سحق كل ما فيه من مظاهر الاستقلال المادي والمعنوي

ص: 65

وقد أحدث ظهور كتاب أندريه جيد دهشة كبيرة في جميع الدوائر لأنه كان معدوداً من أصدقاء روسيا الحميمين، ومن أخلص محبيها ودعاتها

معرض للتاريخ السياسي

افتتح في برلين أخيراً، في جناح من المكتبة الملكية البروسية، معرض من نوع خاص عنوانه:(ألمانيا السياسية، الطريق إلى مصير الشعب الألماني)، وقد عرضت في هذا المعرض الجديد عدة وثائق تاريخية، مما عرض من قبل في مؤتمر نورمبرج، مما يتعلق بتطورات الحزب الاشتراكي الألماني، وكفاحه في سبيل الحكم، وما قامت به الحكومة الجديدة في الأعوام الثلاثة الأخيرة من المشاريع والأعمال؛ وفيه أيضاً وثائق ومخطوطات تاريخية، لقادة ألمانيا في العصر الحديث، مثل إرنست مورتس آرنت، وفردريك وليم الثالث، والبارون فون شتاين، وشارنهورست، وأندرياس هوفر، وكلها ترجع إلى العصر المسمى في التاريخ الألماني (بعصر التحرير) وهو في أوائل القرن التاسع عشر

وقد أذيع عن المعرض والغاية التي أقيم لأجلها بيان جاء فيه إن هذا المعرض يوضح كيف أشرفت الإمبراطورية الألمانية غير مرة على السقوط، وأنها كانت تجتاز مثل هذه المرحلة حين قبض الحزب الاشتراكي الألماني على زمام الحكم، وأن الكفاح لانتشال ألمانيا من هذه الوهدة والعود بها إلى مركزها القديم هو نقطة التحول في تاريخ العصر الجديد؛ وأن ألمانيا تكتب الآن تاريخها مرة أخرى، وأنها قد حققت مركزها القديم في الأسرة الأوربية، وستعمل على تبوء مركزها في تاريخ العالم؛ وأن الاشتراكية الوطنية التي تقود ألمانيا الآن إلى مصايرها، تقدر القوى الثقافية والكفاحية التي كانت لها في الماضي حق قدرها، ولذا ترى أن تبرز هذه القوى للجيل الجديد

قبيلة الكنتين

تلقينا من (نيالا) بمديرية دارفور بالسودان من مأمورها الفاضل عبد الماجد إبراهيم الكلمة الآتية:

السلام عليكم ورحمة الله؛ وبعد: فتوجد قبيلة في دارفور الآن تسمى الكنتين نزحت إلى دارفور من جهة مراكش وأن رجالها ملثمون ونساءها سافرات؛ وفي أكثر حليهم وسيوفهم

ص: 66

علامة الصليب؛ وهم مسلمون ولغتهم أعجمية؛ وهم يقولون إنهم عرب أو أصلهم عربي، وينتمون في نسبهم إلى طارق بن زياد.

ولكن بعض المؤرخين يقول إن الكنتين (بربر) من جهات مراكش، وبعضهم يقول إنهم تتار. فأرجو أن تتفضلوا وتوضحوا لنا أصل هذه القبيلة إذا كانوا حقيقة من أصل عربي أو بربري أو تتري. . . الخ

وقد رأينا أن نذيع الاستفهام على صفحات (الرسالة) عسى أن يتقدم من الباحثين الذين توفروا على دراسة السودان وقبائله من يتفضل بإجابة الكاتب عن سؤاله

مرثية جراي

نشرت الرسالة في عددها 180 بتاريخ 141236 كلمة من

نابلس عن مرثية جراي أبدي كاتبها فيها إعجابه بالنص

العربي كما خطه يراع صديقي الأستاذ على الطنطاوي وأنحى

باللوم على الترجمة. ولما كان لهذا اللوم مساس بي فقد أحببت

أن أقول كلمة في الموضوع:

قال الكاتب ما نصه: (وعندي أن الأستاذ لو ترجم المرثية عن أصلها لبان له من روحه الفنانة وإخلاصه ما يجعل ترجمته في دقتها تقف في صف واحد مع ترجمة جرالد للرباعيات الخيامية المشهورة). وأكبر ظني أن الكاتب المحترم لم ينتبه إلى كلمة (دقة) التي ذكرها وعلاقتها بالموضوع فإذا كان يريد بالدقة المحافظة في الترجمة على المعنى الحرفي للأصل فأني أعترف بأن ترجمتنا للمرثية لم تكن دقيقة، لأننا لم نسع لذلك البتة، بل كان هدفنا الوحيد جعل القارئ العربي يستمتع - على قدر الإمكان - بجمال الفكرة التي أوحت الأصل، وقد كان أسلوب الأستاذ الطنطاوي كفيلاً بذلك. ولا شك أن الكاتب يوافقني إذا قلت بأن ترجمة فيتز جرالد (لا جرالد كما ذكر هو) لرباعيات الخيام لم تكن قط دقيقة بهذا المعنى. وإذا كان في شك من ذلك فليقارن ما بين ترجمة فيتز جرالد المذكورة وترجمة الأستاذ الصافي النجفي. هذا وقد أجمع النقاد الإنجليز على أن قصيدة فيتز جرالد ما كانت

ص: 67

لتتبوأ مكانتها العظيمة في الشعر الإنجليزي لو راعى المترجم النص الأصلي (بدقة)

وأخيراً فان جاز لي أن أفهم رأي الكاتب في الدقة بالترجمة من قصره لمعنى كلمة على العم وترجمته لكلمة بقارة بدون أن يفكر في معناها الخاص، أو من ترجمته لمقدمة ولبول التي اعترف باني لم أفهمها إلا بعد الرجوع للنص الأصلي

- نعم إن كان هذا مراده من الدقة في الترجمة فإني مغتبط بأن ترجمتنا لم تكن دقيقة ولله الحمد

(بغداد)

علي حيدر الركابي

ص: 68

‌النقد

سلسلة الموسوعات العربية

معجم الأدباء - الجزء الأول

للدكتور عبد الوهاب عزام

وعدت القارئ في المقال السابق أن أعرض عليه بعض ما أخذته على تعليق الناشرين في القسم الأول من المعجم

والمآخذ هنا أنواع: منها شرح كلمات بيّنة لا يجهلها أحد ممن يقرءون معجم الأدباء، ومنها غلط في الشرح، ومنها فضول يذكر ما لا يحتاج إليه البيان ولا ينتظره القارئ، ومنها نوع آخر لا أدري ماذا أسمّيه إلا أن أسميه الشرح المضحك.

وسأجتزئ بمثل من هذه الأنواع دون استقصاء:

(أ) فمن الأول الأمثلة الآتية:

ص 52 دري الشيء وبالشيء دراية: وصل إلى علمه

ص 52 حسب ما اقتضاه: قدر ما استلزمه. وهذا معنى يعثر عليه بالقرائن اهو أنا أسأل القارئ هل يحتاج إلى قرائن لمثل هذا التفسير؟

ص 55 القرطاس: الصحيفة التي يكتب فيها، الغيّ: الضلال. العيّ: العجز عن الكلام

ص 56 الفسحة: السعة

ص 113 النصارى: أتباع يسوع المسيح، الواحد نصراني نسبة على غير قياس إلى الناصرة أو جمع نصران أو جمع نصري الخ، فهل يرى القارئ أن ورود كلمة نصارى في المعجم تحوج إلى هذا التفسير؟ وهي لم ترد في سياق بحث في الدين أو في الاشتقاق، بل لأن بعض المترجمين أخواله نصارى

ص 115 اقترضي: استسلفي. يقال استسلف منه دراهم وتسلف

ص 157 أجلّك: عظّمك

ص 208 سما: علا

ومن العبث الضار أن الشارح ينقل أحياناً عن كتب أخرى ترجمة لبعض أدباء المعجم لا

ص: 69

تزيد على ما رواه ياقوت، كما فعل في ترجمة إبراهيم بن العباس الصولي، وفي نقل ترجمة ياقوت نفسه عن شذرات الذهب بعدس ترجمة وافية لا تعدو الثانية أن تكون نبذاً منها. ولو كانت التراجم التي ينقلها مفيدة فوائد ليست في المعجم ما جاز إثباتها ولوجب أن يكتفي ببيان موضعها ليرجع إليها من يشاء. وفي الجزء الثاني من هذا مثال عجيب جداً سيراه القارئ إن شاء الله

(ب) وأما الغلط فسأقتصر منه على ما لا يقبل التأويل والتخريج على الأوجه الضعيفة في اللغة والنحو حتى لا أفتح باباً للمناقشات الواهية

ص 47 ذكر ياقوت كتاب المرزباني في النحو وقال: (إلا أنه حشاه بما رووه، وملأه بما وعوه، فينبغي أن يسمى مسند النحويين) وجاء في التعليق: (المسند من الحديث ما عزى ورفع إلى قائله) وهذا صواب، ولكنه لا يصلح تفسيراً لكلمة المتن. فالمسند هنا الكتاب الذي يجمع الأحاديث على ترتيب الرواة؛ وليس كل كتاب في الحديث يسمى مسنداً، فلا يقال مسند البخاري كما يقال مسند أحمد

ص 106 (وكانت كلماته حاملة إياي على هذا التصديع لمجلسه الرفيع) وهذه جملة من رسالة كاتب إلى بعض الرؤساء يقول فيها: إن ما بلغه من ثنائه عليه، حمله على كتابة الرسالة إليه. فالتصديع هنا كناية عن الكتابة التي تكلف المكتوب إليه مشقة القراءة. ولا تزال هذه العبارة جارية في بلاد العرب والفرس.

يقول المتكلم لمن يخاطبه، أو الزائر لمن يزوره: صدّعناكم. أي سببنا لكم الصداع بكلامنا الخ. فقول الناشرين في الحاشية في تفسير الجملة السابقة: (صدعت إلى الشيء ملت إليه) خطأ

ص 108 في ترجمة أبان بن عثمان: (يعرف بالأحمر البجلي أبو عبد الله مولاهم) فُسرت كلمة مولاهم بهذه العبارة: (من الشيعة) وهذا غلط، والمراد بها أنه مولى بجيلة. ومثل هذا شائع في التراجم. مثلاً يقال: محمد بن الحسن الشيباني مولاهم. أي مولى بني شيبان. الخ

ص 110 (إبراهيم بن عبد الوهاب الابزاري الطبري) وفي الحاشية: (نسبة إلى طبرية) والمعروف أن الطبري نسبة إلى طبرستان، وأن طبرية يقال في النسبة إليها طبراني، ومنها الحافظ أبو سليمان الطبراني أبو سليمان الطبراني المحدث المعروف

ص: 70

ص 110 بنو حمدان ممن استقلوا بالموصل. . . وكان مقر ملكهم الموصل وأشهرهم سيف الدولة. . . الخ. والمعروف أن سيف الدولة لم تكن له إمارة بالموصل بل في حلب، وأن أمارة الحمدانيين بالموصل ورثها ناصر الدولة وحده

ص 117 استحلفني: أقسمت له يميناً بناء على طلبه. ويرى القارئ ما في هذا التفسير

ص 121 (ونهى النبي عن لبس السراويل المخرفجة).

وفي الحاشية: (خرفج الشيء أخذه أخذاً شديدا. وكأنه يريد أنها أخذت وهي تخلط أخذاً حتى ضاقت فصارت بحيث تصور أعضاء الجسم لضيقها.) وهذا تفسير بالنقيض. يقال عيش مخرفج أي واسع، والسراويل المخرفجة الواسعة التي تسقط على ظهر القدم. وبهذا فُسر الحديث

ص 222 في الحاشية: رماح خطية منسوبة إلى الخط: مكان فيه شجر تصنع منه الرماح. والصواب: أن الخط بلد في البحرين تجلب إليه الرماح من الهند. قال في اللسان: وليست الخط بمنبت الرماح، ولكنها مرفأ السفن التي تحمل القنا من الهند)

(جـ) وأما الفضول في الشرح فمن شواهده:

ص 102 ذكر في المتن الجواليق بمناسبة أبي منصور الجواليقي، فقال الناشرون في الحاشية: (الجوالق والجواليق وعاء من صوف أو شعر مندوف وهو الذي تقول عنه العامة شوال: قال الراجز.

يا حبذا ما في الجواليق السود

من خشكنان وسويق مقنود

أي مختلط بالقند: وهو عسل قصب السكر؛ يقال: سويق مقنود ومقند.)

فإذا أغضينا عن التسوية بين الجوالِق والجواليق في الشرح مع أن الأول مفرد والثاني جمع نجد الشارح أتى بالرجز لا شاهدا بصحة تفسيره ولكن لاشتماله على كلمة الجواليق، ثم استطرد لتفسير المقنود الخ

وص 105 الصنائع جمع صنيعة وهي الجميل والمعروف قال الشاعر:

إن الصنائع لا تكون صنيعة

حتى تصيب بها مكان المصنع

وفي الحديث صنائع المعروف تقي مصارع السوء

ص 151 وأغرب من هذا ما جاء في ترجمة إبراهيم بن سعدان، فقد أبى الشارح إلا أن

ص: 71

يشرح، فلما قال ياقوت:(وكان لسعدان ابن المبارك النحوي ابن يسمى إبراهيم) كتب هو في الحاشية:

(سعدان علم منقول. والسعدان نبات من أحسن المرعى وأجوده يضرب به المثل؛ فيقال في الشيء يحسن ولَا يبلغ في الحسن درجة غيره: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان.)

وص 238 (وهذا قول متمرد على الله مستغربا مهال الله)

وفي الحاشية: أغراه إمهال الله استدراجا له فتمرد وتمادى. وفي الحديث إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وقال تعالى: (وأُملي لهم إن كيدي متين)، (فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً)

وظاهر أن سوق الحديث والآية الأولى شرح للموضوع لا للفظ وهو فضول هنا. ومصدر هذا كله أن الشارح لا يسير على خطة، فهو حيناً يستطرد بما لا حاجة إليه، وحيناً يترك ما يحتاج إليه القارئ. بل أحسب أن للكتاب شراحاً مختلفين ليس بينهم اتفاق؛ ولهذا أدلة فيما يأتي

وأما ما سميته الشرح المضحك فمن فكاهاته:

ص 131 في سياق الكتاب: (فجاء كتاب بعض بني مارقة من الصراة) فأراد الشارح أن يعرف القارئ بني مارقة فقال: (بنو مارقة قوم يسكنون الصراة) قلت: وفوق كل ذي علم عليم!

ص 165 في الكلام على إبراهيم الصولي ويزيد بن المهلب: (حتى قتل يزيد يوم العقر). وفي الحاشية: يوم العقر بفتح العين من أيام العرب، قتل فيه يزيد بن المهلب) فهل زاد الشارح على ما فهمه القارئ من الكتاب؟ على أن قتل يزيد كان في أيام بني أمية، وأيام العرب تقال غالباً لأيام الجاهلية

ص 167 روى ياقوت أبياتاً أولها: ولكن الجواد أبا هشام، الخ ثم قال بعد الأبيات:(وهذا الشعر يدل على أن قبله غيره) فقال في الحاشية في تفسير كلمة (غيره): أي من الشعر

ص 101 هراة بفتح الهاء والراء بلد، النسبة اليها هروى، وبلخ بفتح وسكون يصرف ويمنع من الصرف، وإليها ينسب أبو معشر البلخي). لم يبال الشارح أن يبين أين هراة وبلخ، ولكن اهتم بأن يبين أن بلخا ممنوعة من الصرف أو مصروفة.

ص: 72

ثم قوله في هراة (بفتح الراء) لغو لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحاً

هذا وموعدنا العدد الآتي لنبين بقية مآخذ الجزء الأول وبعض مآخذ الجزء الثاني. والله المستعان

عبد الوهاب عزام

ص: 73

‌نفح الطيب في طبعته الجديدة

بقلم الأستاذ أحمد يوسف نجاتي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

3 -

لم يقل الشارح الذي علّق على ما في صفحة 52 إن القدماء جميعاً لم يذكروا الأهرام إلا بصيغة التثنية ولكنه قال: إن شعراء الماضي يذكرون الهرمين، وليس معنى هذا أنهم لا يذكرون الأهرام، ولكن الغرض أن الكثير الشائع على ألسنة أغلب الشعراء ذكر الهرمين: هرمي خوفو وخفرع كما في قول المتنبي، وقول لسان الدين بن الخطيب وغيرهما، وخطب هذا يسير أيضاً

4 -

قد يكون تفسير الرسيم في صفحة 61 ناقصاً كما يقول حضرته، بل كان خيراً لو بينت مرتبة هذا الرسيم من السير، ولكن لو تتبع حضرته كل صفحات الجزء لوجد أنها مشروحة شرحاً شافياً في غير هذا الموضع؛ ودعوى أن أمثالها في الكتاب كثير دعوى مجازفة لا ينهض عليها دليل؛ بل إن بعض الكلمات اللغوية التي يوجز في شرحها في موضع يشبع القول فيها في موضع آخر؛ ولو فصل القول في كل مرة للعبارة الواحدة - والكلمة قد تتكرر في الكتاب نحو مائة مرة لكان هذا البيان (فضولاً) من القول يتحقق به وصف الناقد الأديب صانه الله

5 -

شكرنا لحضرة الكاتب أن أحسن ظنه بالشارح في مثل هذا التحريف الذي يدركه كل قارئ في صفحة 79 حتى أن نقطتي قاف (فشرقنا) في ذيل ص 14 ظاهرتان جد الظهور

6 -

أضم صوتي إلى حضرة الناقد الأديب في أن شرح الأثير ص 98 الشرح الأول خطأ لا يصح - ويعلم الله كيف سرى هذا التفسير إلى الكتاب فقدسها عن محوه مراجع النموذج الأخير وكان قد أثبته غيره، وان كان حضرة الناقد إنما يوجه نقده إلى ما في الكتاب من تفسير خاطئ لبعض كلماته من حيث هو خاطئ. وليس بدافع اللوم عن هذا الخطأ تعدد الأيدي في الشرح فهي متكاتفة على العمل متضامنة فيه ولكن الكرام يعفون عن نصف تفسير خاطئ لأكثر من ألفي تفسير مصيب.

وأما التفسير الثاني الذي أتى به الشارح لكلمة الأثير فالنظر الدقيق يؤيده، والذوق السليم لا يبعده، بل هو الذي رآه حضرة الناقد بعينه، لا بل إن الشارح قد قال فيه أكثر مما قال،

ص: 74

وكان يحسن بحضرته أن يأتي بنص العبارة تاما ولا يختزلها.

وما رآه حضرته من أن صحة العبارة: ومسحنا بالخطأ منها أثراً وصفيحا لا نراه، بل صحة العبارة كما هي في الأصل (أثيراً) الموازنة (صفيحاً) فان أثر السيف، أثره، وأثيرة فرنده ورونقه، وكأن المقري جعل الطريق سيفاً لاستطالته ودقته وصعوبة السير فيه وجعل خطاهم به وقطعهم إياه مسحا له

7 -

ليت شعري ما الدليل على أن (الشارح) لم يطمئن (ص 139) لكلمة الرباع بالباء الموحدة؟ ويا لله لمن يدري خلجات النفوس أكثر من أصحابها ويعرف اطمئنان القلوب وقلقها وإن لم يشعر بذلك ذووها. ولو أن الشارح لم يطمئن لها لاستبدل بها في الأصل غيرها كدأبه في كثير من صفحات الكتاب مع تنبيهه إلى ذلك، ولكنه أبقاه لارتياحه إليه واطمئنانه به، ثم قال أيضاً في أسفل الصفحة تعليقاً عليه (لعلها الرياع بالياء المثناة أي الريع والنماء والزيادة، و (لعل) تفيد معنى ربما، وقد يكون، ولا يزال الشارح مصرا على ذلك الجواز فكلا المعنيين لا غبار عليه. أما المعنى الأول فيجذب إليه كلمة (البقاع) فان الرباع جمع ربع بمعنى الدار والمحلة والمنزل والوطن، فهو بذلك التفسير مناسب للبقاع؛ وقد يكون الربع بمعنى أهل المنزل مثل السكن، وجماعة الناس، ولست أحيل أن يكون (رباع) جمعاً لربع بهذا المعنى الذي يراه حضرة الناقد وإن كان الأنسب أن تكون بمعنى الأماكن معطوفة في سجعة المقري على كلمة البقاع. وأما الرأي الثاني وهو أن تكون الكلمة (الرياع) فيقتضيه كلمة الفضل المجاورة له، ولا زلنا نصر على رأينا (أن اللغة تقول بملء فيها (الرياع) بمعنى النماء والزيادة، ويقول أهل اللغة: راع الطعام وغيره رَيْعاً رُيوعا ورِياعا ورَيَعانا إذا نما وزاد وزكا

8 -

قال حضرة الناقد وفي ص 152 قول القائل في وصف دمشق:

. . . أو تكن في السماء فهي عليها

قد (أمدّت) هواءها وهواها

فقال الشارح: لعلها أمرّت!؟ نقول ومعنى أمرت أذهبت ولا يصح المعنى على هذا (الحدس) الخ. ونحن نقول: أنّا لا نزال عند رأينا في جواز إرادة معنى أمرَّت، وإن اللغة تقول: أمرّ كذا بالشيء إذا جعله يمرُّ به وينعطف عليه، والمعنى الذي شرحه لكلمة (أمدت) فيه شيء من القلق لا يساعد عليه كثيراً تركيب البيت

ص: 75

9 -

اشتد حضرة الكاتب في حملته على تعليقنا الذي رأينا جوازه في معنى كلمة (الشمال) بصفحة 181 عند قول الشاعر:

تمتع بالرقاد على (شمال)

فسوف يطول نومك باليمين

فقد قال الشارح (يجوز) أن تكون (شمال) جمع شملة وهي كساء يشتمل به. . . ثم أتى بحديث علي رضي الله عنه الخ فقال حضرة الناقد الأديب - بعد أن نقل العبار مقتضبة: (وهذا كله شرح فاسد) فان المراد بالشمال مقابل اليمين، إذ المعنى: تمتع بالنوم على جنبك الشمال في الحياة قبل أن يستمر نومك باليمين.

ولا زلنا مصرين جد الإصرار على أن هذا المعنى جائز - وان لم يكن متيقنا - بل أن سياق الحديث ربما رجح هذا المعنى. قال المقري: ويحث على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة، ويذكر بقول من قال - وأكف الدهر موقظة ومنيمة: تمتع بالرقاد على شمال الخ. فالشاعر يحض على انتهاز الفرصة وانتهاب المسرة، ويحرض المرء أن يختلس غفلات الدهر إذا نامت عيونه عنه فيتمتع من يحب بالنوم على هذه الشمال التي تجمع الشمل وتلم الشتات يلتف المتحابان بها إذا لفهما الليل بشملته قبل أن يودع كلاهما بطن الثرى فلا يكون فراش وثير ولا مضجع ممهد، وإنما يوسد في القبر يمينه، ويجعل عمله لا حبيبه قرينه. ومن لفظ (الشملة) اشتقت العرب معنى الشمل واجتماعه، والجمع والتئامه

وأنا لنعجب جد العجب من وضع حضرة الكاتب علامتي التعجب والاستفهام بعد قولنا (وفي حديث علي!؟) فليس في العبارة ما يتعجب منه ولا فيها منكر يستفهم عنه. فما أحوج علامتيه هاتين إلى بضع علامات التعجب والاستفهام

قال الناقد الأديب في شرح زجر الطير (وهذا فضول في الشرح ومثله في الكتاب كثير) وهاتان دعويان يصعب على حضرته تأييدهما، فان ما يراه حضرة الناقد فضولاً قد يراه غيره لازماً؛ والضعيف أمير الكرب. وهل على الشارح من حرج أو ضير وهو يشرح بيتاً يقول: إذ زجرنا للوصل أيمن طير، أن يبين أن زجر الطير كان عادة جاهلية أبطلها الإسلام (وإن لم يرد الشاعر هنا حقيقة معناها البدوي). وأي فضول في هذا البيان الذي استدعته المناسبة وجر إليه الحديث وهو ذو شجون؟

قال حضرته: وفي صفحة 203 قرأت قول ابن الخياط:

ص: 76

فلم أر الطرة حتى جرت

دموع عيني بالمريزيب

ثم قال وأنا أحفظها كالمريزيب وهي أصح وأبين. وأنا أقول كلتا الروايتين لا بأس بها والمعنى عليهما واحد

أما ما نبه إليه في صفحة 220 من أن المراد بالفتى الطائي هو البحتري لا أبو تمام فلم يفت الشارح، بل سبقه إلى التنبيه عليه منذ شهرين في الاستدراك على الجزء الأول الذي طبع ملحقاً بالجزء الثاني؛ وكان يجمل بحضرة الناقد الحكيم أن يطلع عليه قبل أن يسجل نقده على صفحات الرسالة الغراء؛ وقد تداولت الأيدي الجزء الثاني من مدة غير قصيرة (يريد بالفتى الطائي أبا عبادة البحتري لسبق ذكره في هذه الأبيات) وقول حضرته إنه يريد بامرئ يصطاد نسر الجو بالنسر نفسه على جهة التشبيه بامرئ القيس (كما قلنا في ذيل صفحة 220) أخالفه فيه، فقد يسوغ لي أن أرى الآن خلاف ما ذهبنا إليه معاً في ذلك بل يصح أن يكون امرؤ القيس لا دخل له هنا، وأن الشاعر (وهو ابن شاهين) إنما يرى نفسه كالبحتري الذي يزعم أنه ورث منه طرفاً كريماً وجواداً سابقاً أعنقت عليه قصيدته، وسار مسرعاً عليه أدبه، وأنه يريد (بامرئ يصطاد نسر الجو بالنسر) ممدوحه المقري إقراراً من الشاعر بأنه أشعر منه كما صرح بذلك من قبل في قوله:

ورثته منه ولكنما

من شاعر وافى إلى أشعر

فالشاعر ابن شاهين هو نسر الجو (وقد اصطنع التوجيه والتورية في اسمه (شاهين) نسر الجو، والذي يصطاد نسر الجو بالنسر ويتغلب عليه هو المقري الممدوح بالقصيدة، يعني أنه أقوى من النسر، وأشد افتراساً من الشاهين. والغرض من هذا أنه أشعر وأقدر وذلك ظاهر واضح لمن يتأمل

ومثل ذلك ما أخذه حضرته على تعليقنا على مدينة (برديل) بصفحة 257، فقد تلافينا هذا السهو بالاستدراك، فنرجو حضرته أن يطلع عليه بصفحة 10 منه، بل قد نبهتا إليه مرة أخرى في الجزء الثالث وأشبعنا القول في هذه المدينة، وهدانا الله منذ زمن إلى موقعها، والى لغات العرب فيها، بل إلى لغات غير العرب، وقلنا إنها هي مدينة بوردو، وأطلنا الكلام في ذلك بالجزأين الثاني والثالث

وفي الختام نقول لحضرة الكاتب أن اسم صاحب المرية هو (خَيْران) الفتى العامري

ص: 77

الصقلي وإليه تنسب قلعة خَيْران بالأندلس. أما ما في الإحاطة من أن اسمه (خيروان) فهو تحريف فاسد لا يعول عليه، وإنما هو (خَيْران)(فَعْلان من الخير) وقد ذكرنا ترجمته وتكلّمنا عليه طويلاً في الجزأين الثالث والرابع (الذي يجري الطبع فيه) والشارح يعرف من قديم (خيْران) هذا فله أثر عظيم في تاريخ العرب بالأندلس، وهو مشهور لدى المؤرخين وليس من رجال الأندلس من يسمى خيروان أبداً

وأرجو من حضرة صديق الغيب أن يحمل حديثي هذا على خير محامله، وأن يتنزل بقبول شكري له وثنائي عليه أن عُني بالكتاب وقدر العمل فيه قدره ونبِّه إلى ما اعتدَّه هفوات، وكلنا نتعاون في خدمة هذه اللغة الشريفة والنهوض بآدابها ونشر ثقافتها.

أحمد يوسف نجاتي

الأستاذ بدار العلوم العليا

ص: 78

‌سافو على مسرح الأوبرا الملكي

لناقد الرسالة الفني

وهذه رواية أخرى تقتبس للمسرح وتلاقي من النجاح ما بلغته (الجريمة والعقاب) وإن أضاع الاقتباس نواحي كثيرة من جمال الرواية القصصية على الرغم من أن مؤلفها العظيم الفونس دوديه اشترك مع مؤلف مسرحي آخر هو أدولف بيلو في وضع هذه المسرحية. ولكنها مع ذلك عظيمة تحوي شخصيات قوية وفيها دقة وصدق تصوير وجمال

تصف حال الشبان عندما يبلغون العشرين ويمرون بهذه المرحلة الخطرة من الحياة وهم في سذاجة وقلة تجريب يتصلون بالنساء فيقاسون من ألم الفراق والهجر والوصل والغيرة ما تنوء به كواهلهم، فيه إنذار للشبان من بنات الهوى وتحذير لهم من الاتصال بهن والعيش معهن تحت سقف واحد، فان من أخطر الأمور على الشاب أن يقع في حب واحدة منهن لأنه لا يستطيع أن يحتمل ماضيها ويغفر لها ما سلف من حبها لغيره ويكون الخطر أشد لو أن المرأة بادلته الحب الخالص فإذا حدث وخضع أحد الحبيبين للعقل والواجب وترك الآخر فما أشد الهجر وأمر الفراق ولهذا فقد أهدى دوديه القصة:(إلى أولادي عندما يبلغون سن العشرين)

الإخراج والتمثيل

يؤلمني أن مخرج الفرقة القومية لا يقوم بدراسة الروايات كما يجب، فإزاء رواية كهذه كان من الخير للفرقة والفن أن يرجع إلى الرواية القصصية ليفهم كل شخصية على حقيقتها فيوفر على نفسه هذا التخبط في توزيع الأدوار وتفهيم ممثليه لروحها وهو لو فعل لما أسند دور سافو إلى السيدة دولت أبيض، ولما عهد إلى علي رشدي بدور جان جوسان أو على الأقل لأفهم كلا منهما الشخصية على حقيقتها حتى لا تكون الهوة بين ما رسم المؤلف وبين ما أبرز الممثلون سحيقة

إن أول ما يلفت نظر الناقد أن سافو دولت أبيض تكبر في السن عن سافو الفونس دوديه وفي هذا نقص يجب على الممثلة والمخرج أن يعملا على تغطيته، ولكن طبيعة السيدة دولت جامدة وهي لا تليق لأدوار العاطفة، ومن المؤلم أنها تعتقد أن البكاء وحده هو الوسيلة التي تستطيع بها أن تؤثر في النظارة وتصل إلى قلوبهم ونسيت أن الصناعة

ص: 79

وحدها ليست كافية فهي لم تتأثر بالقصة ولم تعش في هذه الشخصية وتحس بها وإلا لأبرزت ما يضطرم في نفسها من احساسات متباينة ولم تقصر همها على الإلقاء والبكاء وتبدو سطحية بكل معنى الكلمة

انظر إليها وهي تسرع بإلقاء كلماتها في الفصل الأول ثم وهي تقف خلف جان، ثم وهي في الحان لا تهتم بأن تبرز عاطفة، بل تهتم بالإلقاء، وفي هذا الفصل الثاني بينما يكون الموقف على أشد ما فيه من حياة بين الممثلين تراه فجأة قد برد عند دخولها واشتراكها في الحديث معهم واتهامها لهم، وكان الطبيعي أن يزداد حياة وقوة

كل هذه دلائل على أن دولت لم تستطع أن تسمو بالدور أو تؤديه على وجه مرض. على أني لا أبخسها مواقفها في الفصل الخامس منذ دخول جان وحوارها معه. ثم وهي تلقى علينا الرسالة التي تكتبها له فقد أجادت إلى حد بعيد. فهذه المواقف تلائم طبيعتها لأنها مواقف تخمد فيها العاطفة الثائرة ويعمل فيها العقل وتتغلب غريزة الأمومة والواجب؛ وهذا يؤيد قولي بصلاحيتها التأدية أدوار الأمومة

وكما أن دولت تكبر من سافو كذلك (علي رشدي) لا يصلح لجان، فليس هو بالشاب الريفي القوي، وليس بالجميل الذي يجعل إحدى النساء تصرخ:(يا للفتى الجميل) وهو مع هذا كان بعيداً عن الشخصية بعداً تاماً إذ كان عبداً لتعاليم المخرج حتى كأنه يحاول أن يبرز لنا عزيز عيد الشاب في صباه لا جان جوسان

قلت إن الشاب كان ريفياً قوياً جامد العواطف؛ فقد كان يجلس إلى مكتبه بينما سافو أمامه على كرسي فلا يتحرك إليها في تلهف بل يبقى مكانه يقرأ، وهكذا عكس ما أبرزه علي رشدي فقد كان في الفصل الأول متظرفاً ضعيفاً حتى كأنه باريس، بل وأكثر من ذلك كانت تبدو لنا منه جوانب الخنوثة وكان اهتمام علي بالإلقاء والصناعة أكثر من اهتمامه بإبراز احساساته وما يضطرم في نفسه من مختلف العواطف. ولست أسوق دليلاً أكبر من موقفه في الفصل الثاني حيث الفارق كبير بينه وبين منسي وعباس. وكذلك في الفصل الرابع ترى الصناعة واضحة يكشفها إلقاء عباس الهادئ الحزين الذي يؤدي بعاطفته

أكتفي بهذا اليوم وسأتحدث عن بقية الممثلين والترجمة كما أتحدث عن رواية المعجزة.

يوسف

ص: 80