الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 183
- بتاريخ: 04 - 01 - 1937
الرسالة في عامها الخامس
أستهل عام (الرسالة) الخامس والدنيا في بلاد الرسالة تلقى بسمعها إلى دعاء الوحي من جديد. فالعقول التي كبلتها أغلال الجهل تتحرر، والنفوس التي دنستها أرجاس الذل تتطهر، والعزائم التي طالما استنامت لسلطان القوة تستفيق! كأنما ارتد إشراق الروح إلى مطالعه بعد أن اضطرب في الضباب والسحاب عشرة قرون! هذه مصر والعراق وسورية وأكثر أمم الشرق تنبثق في أجوائها وأرجائها أشعة الشمس الصحراوية الأولى، فتنعش ما خمد من غرائز الرجولة، وتحي ما همد من نوازع المجد، وتقتل ما عاث من جراثيم البلى، وتهدي من ضل إلى سواء المحجة؛ بينما أمم الغرب يغيم عليها الأفق، فتدفع بالسلام إلى الحرب، وتلقي بالحياة إلى الموت، لأن حضارتها الحديدية علمتها كيف تهدم، ولم تعلمها كيف تبني! فالمصري أو العربي أو الشرقي يعلم أنه كان يناضل عن ذاتيته، فلما أستردها عاد يناضل عن إنسانيته؛ وسلاحه في كفاح البربرية اليوم، هو كسلاحه في كفاحها أمس: قوة صارمة تعتمد على العدل، وثقافة عاملة تستند إلى الروح، وسياسة جامعة تقوم على المحبة. ومحال على ابن الرسالة والنور أن يرى مخلفات العقل والقلب تتهاوى في العدم ثم لا ينهض!
أستهل عام (الرسالة) الخامس ومصر وأخواتها على باب عهد جديد؛ فالنوايا معقودة على تغيير الحال، والميول متجهة إلى طريق الكمال، والآمال معلقة على الثقة بالله؛ ولكل حال مقتضى، ولكل عهد رسالة، ولكل قوم أدب. وسبيل القلم أن يدخل في عُدد هذه النهضة دخول الآلة والمدفع: ينتج إنتاج الخير كتلك، ويدافع دفاع الحق كهذا، ثم ينفرد هو بالوساطة بين الروح والجسم، والسفارة بين السماء والأرض. ولقد كان لأدبنا في أمسه الدابر ذبذبة بين الشرق والغرب، فلا إلينا ولا إليهم. وتلك حال كانت لازمة لما نحن فيه لزوم النتيجة المحتومة؛ فإذا أحس الفنان مظاهر الاستقلال والاستقرار في الوطن والحكم والرأي والعقيدة والعزيمة، كان حريا بفنه أن يستقل، وبذهنه أن يبتكر. (والرسالة) ترجو أن تحمل بعون الله دعوة العقول الخصيبة إلى هذه الأمة النجيبة. وستظل تنقل خطاها الوئيدة السديدة المتزنة على ما رسمته لها كرامة الجنس وطبيعة البيئة وحاجة الثقافة؛ لا تتخذ لهوالحديث، ولا تصطنع خوادع الحس، ولا تتملق شهوات الأنفس. وأصدقاؤها - والحمد لله والشكر لهم - لبسوها على هذه الخشونة، فلا يريدون أن تخطر في وشي، ولا
أن تطرى في كلام، ولا أن تميل إلى هوى العامة، حتى أبوا كل الأدباء أن يتسع فيها مجال القصص، والقصص في الأدب الحديث فرع يكاد يختصر كل فروعه ويطغى على جميع نواحيه. وما زلت أذكر يوم أعلنا عن باب المسرح والسينما في الرسالة! فقد انثالت علينا رسائل الإشفاق والعتب تناشدنا الله أن نربأ بالصحف المهذبة الوقورة أن تنطوي على هذا (الهذر)! ولا يكاد العدد يخرج إلى الناس حتى تأتينا آراء القراء في التليفون أوفي البريد تستحسن ما ارتفع إلى المستوى الذي عهدوه، وتستهجن ما أنخفض عنه؛ وهذه الرقابة الغالية دليل على اشتراك الذوق ووحدة الهوى بين القارئ وبين المجلة. فنحن لذلك حريون أن نحرص كل الحرص على أن ندع للرسالة هذه الخطة، ونحفظ عليها تلك السمة
على أن هناك طائفة من ذوي الثقافة المتخطفة والذوق الملول، تعودوا أن يتناولوا كل شيء بالمس الرقيق؛ فهم يريدون أن يكون لكل عدد لون، ولكل مقالة خلاصة، ولكل خلاصة نكتة، ولكل نكتة صورة. وما دامت الصورة تمثل الفكرة، والعنوان يلخص الموضوع، فالاستغراق في التفاصيل بعد ذلك عناء وعبث!! هؤلاء هم الجناة على الأديب والأدب؛ يدفعون الباحث بسأمهم إلى توخي السهولة وإيثار الخفة، فيكون من ذلك هذا التفاعل الدوري بين سطحية القارئ وسطحية الكاتب. وإنا لنرجو أن تجد هذه الطائفة في (الرواية) مجازا إلى (الرسالة)؛ فإن المثل يقول: تطعَّم تطْعم، أو ذُق تشتهِ. ومن الخير أن تمهد للجد باللهو، وأن تجر إلى التثقيف بالتسلية. والرواية حلقات بين عامي ? الذوق ونبيله، ودرجات بين خفيف الأدب وثقيله؛ وخفتها من طرافة الموضوع لا من سخافة الفن، ووزانتها من براعة الأسلوب لا من وقار الفكرة. وبالرسالة والرواية نحاول مخلصين أن نرضي كل ذوق، ونساير كل طبقة، ونضع في بناء الأدب العربي الجديد لبنة
تحرشت بالرسالة في عامها المنصرم عوادٍ من الأسى والمرض، بعضها يقطع الوجهة على السالك البصير، ويدفع اليأس في صدر الواثق المؤمن. ولكن الله أبرُّ بالعمل الصالح أن يدعه فريسة الأحداث والغير. ومضيَّ الرسالة قدما في خطتها الرشيدة إلى غايتها البعيدة أربع سنين لا تتغير ولا تتعثر ولا تتخلف، يجرئنا على أن نجدد لقرائها العهد، ونؤكد لأصدقائها الوعد، ونحن أقوى ما يكون العاهد والواعد اطمئناناً للوفاء ووثوقاً بالمستقبل
احمد حسن الزيات
البحث عن الذهب
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
وجدت صديقي ينتظرني - كما وعد - فدخلنا معاً وجلسنا متقابلين إلى مائدة صغيرة، وبدأنا بأيدينا ففركناها - فقد كان البرد شديداً، وكان كلانا قد خلع المعطف والطربوش، وكانت الحجرة دافئة ولكنه لم يكن قد مضى من الوقت ما يكفي لانتقال الدفء إلى أبداننا. ثم أكب صاحبي على البيان الذي فيه ألوان الطعام وجعل يسردها لي لأتخير ما يطيب لي منها. وفرغنا من ذلك بعد طول التردد وانصرف العامل بدفتره الذي دون فيه ما طلبنا. فقال صديقي وهو يميل على المائدة:
(والآن ما العمل؟)
قلت: (هذا هو السؤال الأبدي! وما أظن بنا إلا أننا سنظل نسأل عن ذلك طول العمر - طال أم قصر. . المسألة مسألة حظ يا صاحبي)
فقال: (كلا. . لابد أن هناك وسائل كثيرة لاكتساب المال بسرعة. . كثيرون يفعلون ذلك. . وهذا دليل على أن الوسائل موجودة ولكنا نحن - لسبب ما - لا نهتدي إليها)
قلت: (فليكن الأمر كما تصوره، فلست أرى أن هذا يجدينا شيئاً)
قال: (ولكن لابد أن تكون هناك وسيلة)
قلت: (إذا كان ينفعك أو يريحك الإيقان من ذلك فأيقن وأرح نفسك)
فقال وهو يهز رأسه: (نحن اثنان. . كلانا محتاج إلى مبلغ حسن من المال. . والحاجة ملحة، والسرعة لا مفر منها. . لا سبيل إلى الاقتراض لأن الذين يقرضون يطلبون ضماناً. . شيئاً يطمئنون به على مالهم. . سخافة؟!. ولماذا ينبغي أن نرد شيئا؟؟. ألسنا أحق بالمال من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقونه ويروحون يكنزونه ويدفنونه في خزانات أوفي قدور يدسونها تحت الأرض. .؟؟)
فضحكت وقلت: (هذه بلشفية)
قال: (لا تصدق. . آه لو كنت غنيا!!. إذن لصارت الدنيا أرغد وأهنا. .)
قلت وأنا أبتسم: (ماذا كنت تصنع؟)
قال: (أصنع؟. أتسأل؟. . كنت أضع المال في صرر وأرمي بها لمن أتوسم فيهم أنهم أهل
لأن يكون في يدهم مال. . (وأطرق شيئا ثم رفع رأسه وقال): هل تعرف أني زرت اليوم أختي؟؟. . إنها غنية كما تعرف. . وكيف لا تكون غنية وهي لا تنفق شيئاً؟ فلما دخلت عليها وفتحت فمي لأتكلم رفعت يدها في وجهي وقالت: (ولا مليم!) فغضبت وصحت بها ونهرتها عن هذا السلوك)
فقلت: (ماذا قلت لها على سبيل الزجر عن هذا السلوك الذي لا يليق بين الأخ وأخته؟)
قال: (قلت لها؟. قلت لها هل تظن أنها من بوليس المرور حتى ترفع يدها هكذا لأقف؟؟ شيء غريب فقالت بهدوء: إنها ليست هذا، وليست كذلك دكان تسليف! كلا لا فائدة. . بح صوتي معها. . أكدت لها مائة مرة أني محتاج إلى قليل من المال، فوافقت وأكدت لي أني سأكون محتاجاً إلى هذا المال حين أخرج من بيتها. . سلوك يطير العقل. . فهل تسمى هذه أختاً؟ إني أتصور أختاً ظريفة لطيفة سخية كريمة تعطيني، وهي تعتذر، وتملأ يدي وهي مغضبة. . . وهكذا تكون الأخت. . . أما هذه؟. . . أعوذ بالله!. . على كل حال لا فائدة. . وإنما أردت أن أقول لك أن هذا الباب أيضا سد في وجهي)
فقلت: (لماذا لا تفكر في طريقة لكسب المال)
قال بلهجة الاستنكار: (أفكر. . وما الفائدة من التفكير؟ لا فائدة مادامت الدنيا مقلوبة. . آه لو كان لي سلطان في هذه البلاد. . إذن لعقدت امتحاناً كل ثلاثة شهور للأغنياء. . . يجلس أعضاء اللجنة ويقف أمامهم الغني فيقول له أحدهم: (كم تملك يا مولانا؟) فيقول: (ألف فدان، ونحو مائتي ألف جنيه في المصرف وعمارتين - كلا منهما ذات سبع طبقات في شارع الملكة نازلي) فيقول أحد الأعضاء (وماذا تصنع بكل هذه الثروة) فيقول (أوه لا أصنع شيئا. . كل ما زاد على حاجاتي الضرورية جدا أضيفه إلى المدخر) فتقول اللجنة: (شيء جميل. . . أهذا رأيك فيما ينبغي أن يصنع المرء بالمال؟. . لا بأس. . اسألوا أحمد (أي العبد الخاضع المطيع) ماذا يكفيه؟) فأقول ردا على السؤال: (أوه يكفيني القليل. . خمسون ألفاً. . كفاية. . أعني مؤقتاً. .) فتقول اللجنة: (أحمد هذا رجل يحسن أنفاق المال. . أعطوه ما يطلب) فاقبض المبلغ وأفرك يدي وأقول (إذا سمحتم لي يا حضرات الأعضاء الموقرين فأني أستأذنكم في لفت نظركم إلى رجل يعرف كيف يعطي. . . بارع جدا في الإنفاق) فيسأل أحدهم (من هذا. . . قل بسرعة) فأقول (انه المازني) فيقول (آه صحيح. .
كيف نسيناه؟. . هاتوه حالاً. . علينا به. . اقبضوا عليه حيثما تجدونه) فيقبض عليك الشرطة ويجرونك مصفدا إلى اللجنة فيضحك الأعضاء ويقولون (خذ. خذ. خذ أيضا) فتخرج معي مسرورا. . ونروح ننفق باليمين وبالشمال حتى يحين موعد الامتحان التالي. . ما قولك؟)
فقلت وأنا أضحك: (شيء عظيم جدا. . . ولكن إلى أن يتيسر أن تلي أمور الناس ماذا نصنع؟)
فقال: (آه هذه هي المسألة. . ما رأيك أنت)
قلت: (يمكننا أن نكسب الورقة الأولى الرابحة من يانصيب المؤاساة، أو اليانصيب الأيرلندي)
قال: (هذا ممكن. . ولكن ذلك يتطلب أن ننتظر بعضة شهور. والعجلة من الشيطان، ولكنه لا معدي لنا عنها - كائنة ما كانت منه. . شيطان أو غير شيطان. . سيان. .)
قلت: (صدقت. . يمكن أن نخترع شيئا ونحتكر بيعه - وصنعه بالطبع - فنغنى)
قال: (صحيح. . . فكرة لا بأس بها. . سأدون هذا في مذكرتي. . تنفع في المستقبل. . وعلى ذكر ذلك ماذا نخترع؟)
فقلت: (باب الاختراع واسع. . واسع جدا. . . مثلا نخترع طريقة تجعل السيارات تستغني عن البنزين وتكتفي بالماء - أو حتى بالهواء - أو نخترع بديلا من النقود، فان النقود هي أصل البلاء في هذه الدنيا. . . أو نخترع. .)
قال: (يكفي! يكفي! ولكن هذا كله يحتاج زمن. والمطلوب هو الاهتداء إلى وسيلة تكفل إفادة المال اللازم في أربع وعشرين ساعة. . .)
فقلت وأنا اضطجع وأرسل الدخان من فمي خيطا متلويا - فقد فرغنا من الطعام -: (يظهر أن الضرورة تفتق الحيلة حقيقية)
فقال: (معلوم. . اسمع. . أترى هذا الرجل القاعد هناك في الركن الأيمن؟. أترى كيف يأكل؟. أترى كرشه المدورة كالكرة، ووجهه المنتفخ؟ وكيف يفتح عيناً ويغمض أخرى وينظر حوله قبل أن يدس اللقمة في فمه كأنما هو يخشى أن يراه أحد؟. . الحق أقول لك إني أكره وجهه ولا أرتاح إلى النظر إليه)
قلت: (يا أخي لا تنظر إليه. . دعه وحول عينيك عنه)
قال: (ولكني لا أستطيع. . إنه وجه سوء. . لا يمكن أن يكون هذا الرجل من أهل الخير. . إنه ممن لا يؤتمنون على القصر والأيتام والأرامل. .)
فضقت به وصحت (ولكن مالك أنت؟. . دعه وشأنه. . أليس له حق في أن يأكل هنا مثلي ومثلك؟)
قال: (يا أبله. . إن هذا الرجل لا بد أن يكون منطوياً على أسرار يكره أن تذاع. . لأن وجهه ناطق بأنه شرير. . فلوقمت إليه الآن وقلت له: (طيب. طيب) كأني أعرف سره الذي يجاهد لإخفائه ألا تظن أنه يفزع ويضطرب ويشتري سكوتي بأي ثمن. .)
فقلت: (أها؟. أهذه طريقتك؟. أتريد أن تبتز المال من الناس بهذه الوسائل؟. .)
قال: (المصيبة أني لا أستطيع. . تنقصني الشجاعة. . ولكني واثق أني أنجح إذا استطعت أن أصنع هذا؟. . ومع ذلك لكل إنسان سره القبيح. . ولو أن واحداً جاء إليّ ووقف على رأسي الآن وحدق في وجهي ثم هز رأسه هزة العارف بكل ما هناك ثم قال (طيب! طيب! يا أحمد) لما وسعني إلا أن أضطرب. . على كل حال يظهر أنه لا فائدة. . لا أمل في مال كثير نفيده بالسرعة اللازمة. .)
قلت: (صدقت. لا أمل)
قال: (خسارة. . سأظل أتحسر لأني لم أجد الشجاعة الكافية للوقوف على رأس هذا المجرم - هو مجرم ولا شك - وإبلاغه بعيني أني لا أعرف باطنه كما أعرف ظاهره البادئ لنا. . خسارة. . نهايته
. . . نقوم؟)
قلت: (تفضل)
ودفع إلى الخادم ثمن الطعام وخرجنا
ولم نقل للرجل المنتفخ الأوداج شيئاً فلم نعرف أله - أم ليس له - سر يشتري كتمانه. .
وقلت لصاحبي وأنا أودعه (على فكرة. . من قبيل الاحتياط للمستقبل. . من يدري؟.)
قال: (نعم. .)
قلت: (ما هو الجواب الصحيح. . أمام اللجنة؟)
قال: (آه!. . انفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب)
قلت: (أهو ذاك؟. أما ما في الجيب فلست أحتاج في أمر إنفاقه إلى التكلف. . وأما ما في الغيب فهل تعرفه يأتي يا صاحبي؟)
فأشار لي بيده ومضى عني وهو يضحك
إبراهيم عبد القادر المازني
عاصفة في الشرق الأقصى
حول حوادث الصين الأخيرة
بقلم باحث دبلوماسي كبير
بينما تواجه أوربا أزماتها الخاصة، في أسبانيا وفي حوض البحر الأبيض بنوع خاص، وتنظر إلى تطوراتها بحيرة يمازجها الجزع، إذا بحدث خطير يقع فجأة في الشرق الأقصى ويثير في الصين فتنة جديدة كادت تسفر عن أخطر العواقب لو لم تخمد في مهدها. وقد غدت هذه الفورات الفجائية ظاهرة الحوادث في الصين، وأضحى من الصعب أن نقف على بواعثها وغاياتها دون الرجوع إلى مثيلاتها من الحوادث والمفاجآت التي توالت في الصين في عشرة الأعوام الأخيرة، واستعراض الأوضاع السياسية الفريدة التي تعيش في ظلها تلك الإمبراطورية الشاسعة
وملخص الحادث المسرحي الجديد الذي كاد يثير ضرام الحرب الأهلية في الصين كرة أخرى، هو أن الماريشال تشانج هسويه ليانج الذي يرابط بقواته في سيانفو عاصمة إقليم شنصي، قد دبر كميناً للقبض على الماريشال تشانج كايشك رئيس حكومة نانكين الوطنية، والقائد العام للجيوش الصينية بينما كان يستشفي قريباً من سيانفو، واعتقله مع بعض حاشيته؛ ثم أذاع أنه يرمي بذلك إلى حل الحكومة الوطنية الحاضرة التي تمادت في خضوعها لليابان، وتأليف حكومة جديدة تعلن الحرب على اليابان، وتعمل على استرداد الأقاليم التي انتزعتها اليابان من الصين وفي مقدمتها إقليم منشوريا؛ وقد أخطر الماريشال الثائر أسيره بهذه المطالب، وأخطر بها حكومة نانكين، فرفض الرئيس المعتقل ورفضت الحكومة أن تبحث في شانها قبل الإفراج عن الرئيس، وإعادة الأمور إلى نصابها؛ وقد حاولت حكومة نانكين أن تصل بطريق المفاوضة والتفاهم إلى تسوية مؤقتة يفرج معها عن الماريشال المعتقل، فأبى الزعيم الثائر؛ واضطرت الحكومة أن تجرد عليه بعض قواتها؛ وقد زحفت القوات الحكومية فعلاً صوب سيانفو، وبدأت المعارك الأولى بين الفريقين ونحن نكتب هذه السطور
فمن هو هذا الزعيم الثائر تشانج هسويه ليانج؟ وما هي بواعث حركته؟ إن الماريشال تشانج هسويه ليانج هو ولد الماريشال تشانج تسولين زعيم منشوريا السابق الذي قتل غيلة
في حادث قطار دست له القنابل سنة 1930؛ وكان تشانج تسولين مدى أعوام طويلة حاكما بأمره في منشوريا قبل أن تنتزعها اليابان؛ وكان يعمل بالاتفاق مع السياسة اليابانية، فلما قتل خلفه ولده في حكم الإقليم، ولكنه اختلف مع السياسة اليابانية، وكانت حكومة نانكين الوطنية قد قامت يومئذ باسم الصين المتحدة كلها، فأعلن تشانج هسويه ليانج انضمامه إليها؛ ورأت اليابان الفرصة سانحة لتنفيذ مشروعها الاستعماري في الصين، فاحتجت بوقوع بعض حوادث اعتداء على الرعايا اليابانيين، وغزت منشوريا في سنة 1931، واضطر الجنرال تشانج هسويه ليانج إلى الانسحاب بقواته دون مقاومة تذكر؛ وعسكر مدى حين في إقليم جيهول في جنوب منشوريا؛ ولما أتمت اليابان غزو منشوريا واحتلالها، دفعت قواتها إلى جيهول، فارتد أمامها الماريشال المنهزم بقواته؛ واحتلت اليابان هذا الإقليم في سنة 1933؛ وعسكر تشانج هسويه ليانج من ذلك الحين بقواته في بعض أنحاء إقليم شنصي. وفي سنة 1935، انتدبته حكومة نانكين، أوبعبارة أخرى انتدبه الماريشال تشانج كايشك لمحاربة القوات الشيوعية التي تقدمت جنوباً واحتلت ولاية ستشوان المجاورة لشنصي؛ ولكنه بدلا من أن يقوم بهذه المهمة فضل التفاهم مع الشيوعيين، واتخذ من ذلك الحين موقفه المريب من حكومة نانكين
ويجب أن نذكر كلمة عن الشيوعية في الصين؛ ففي الصين الآن حزب شيوعي كبير يسيطر على قوات عسكرية كبيرة بقيادة زعيم الشيوعية الصينية ماو تسي دون؛ فقد كانت الشيوعية من قبل عضد الحركة الوطنية، ومنذ سنة 1924 إلى سنة 1927 وهي فترة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، تعمل الحركة الوطنية بمعاونة الشيوعية، ويندمج الحزب الشيوعي في الحزب الوطني الصيني (الكومن تانج) وتستمد الحركة الوطنية كثيرا من القوة والتنظيم من روسيا البلشفية ودعاتها في الصين. ولكن الماريشال تشانج كايتشك بعد أن تم له الظفر على قوات الشمال في سنة 1927، واستطاع أن يقيم حكومة نانكين الوطنية رأى أن يضع حدا للتعاون مع الشيوعية، وقضى على عناصرها من (الكومن تانج) ومن الحكومة والجيش، وبدأت الخصومة من ذلك الحين بين حكومة نانكين وبين الشيوعية؛ ومنذ عدة أعوام تعمل قوات الحكومة لمطاردة قوات الشيوعية ومحاصرتها في الأقاليم الوسطى التي تسيطر عليها ولكنها لم تستطيع حتى ألان أن تقضي عليها
وفي تلك الفترة استطاعت اليابان أن تنتزع منشوريا وجيهول وبعض الأقاليم الأخرى من الصين، وان تمهد تمهيدا قويا لسياستها الاستعمارية في الصين؛ وهنا حدث تطور واضح في سير الحركة الوطنية، فقد رأى كثير من الزعماء والمستنيرين أن استمرار الحرب الأهلية على هذا النحو يقوي نفوذ اليابان ويفتح أمامها أبواب الصين، وانه من الحكمة والضرورة أن تتضافر القوى المشتتة لمقاومة الاعتداء الأجنبي؛ ولوحظ أيضا أن الماريشال تشانج كايتشك رئيس الحكومة الوطنية يتبع إزاء الغزو الياباني سياسة الضعف والتسليم، وانه لم ينفك عن التصريح بأنه يريد التفاهم والاتفاق مع اليابان، ولكن على أي الأسس؟ إن اليابان تسير مسرعة في تنفيذ برنامجها الاستعماري، ومازالت تنتهز كل فرصة للتوغل في قلب الصين واحتلال أراضيها. ويرد زعماء (الكومن تانج) على ذلك بأن الحكومة الوطنية مرغمة على اتخاذ هذا الموقف، وأن الصين لا تستطيع في ظروفها الحاضرة أن تقف أمام الغزو الياباني، وأنه يحسن التفاهم مع العدو المغير حتى تقوى الصين نفسها وتستطيع أن تقاوم الاعتداء بصورة فعلية؛ وقد اضطر تشانج كايتشك نفسه أمام هذا التيار الجديد أن يؤكد في تصريحاته الرسمية أمام مؤتمر اللجنة التنفيذية للحزب الوطني (الكومن تانج) في الصيف الماضي أن الحكومة المركزية لن تتنازل قط عن التمسك بوحدة الصين وسلامة أراضيها ولن تعقد أي معاهدة تخالف هذا المبدأ، ولن تنزل عند أي رغبة أو وعيد بإرغامها على إقرار الحالة في منشوكيو (منشوريا) أو أية حالة أخرى من حالات الاعتداء على الأراضي الصينية
وقد رأى الماريشال تشانج هسويه ليانج أن ينتهز فرصة هذا التطور لينزل إلى الميدان، والظاهر انه يريد أن يحاول استغلال الشعور القومي الذي آثاره اعتداء اليابان المتكرر على الصين، وأن يجعل من مطالبته حكومة يانكين لان تعلن الحرب على اليابان شعاراً قوميا يلتف حوله المعارضون لسياسة الحكومة الوطنية. بيد أن تشانج هسويه ليانج شخصية ثانوية في الواقع، وهو لا يشغل بين زعماء الصين أو قادتها مركزاً خطيراً يمكنه من تزعم مثل هذه الحركة الخطيرة؛ ومن جهة أخرى فان الأساليب التي لجأ إليها في اعتقال رئيس الحكومة وقائد الجيش الأعلى ومعاونيه، ليست مما يشهد له بالفطنة والكياسة، وليست مما يعاون على التمهيد للحسم لمشاريعه. وتقدر قوات الزعيم الثائر بنحو
مائة وخمسين ألف جندي، وهي قوة ضئيلة بالنسبة للوحدات العسكرية الصينية، وبالنسبة لقوات الحكومة المركزية التي تقدر بنحو مليونين؛ وإذا كانت الحوادث لم تسفر حتى كتابة هذه السطور عن حل حاسم للمشكل فانه لا ريب أن حكومة نانكين لن تنزل عند وعيده، ولن تتخلى عن محاربته حتى يلقي سلاحه
هذا من الناحية الداخلية، بيد أن للمسألة ناحية خارجية في منتهى الخطورة. فنحن نعرف أن الصين ميدان للتنافس الخطر بين اليابان وروسيا، وان اليابان تسيطر على منشوريا، كما تسيطر روسيا على منغوليا الخارجية، وأن عوامل الاحتكاك بينهما لا تنتهي، وخصومة اليابان وروسيا خصومة طبيعية وتاريخية معاً؛ وكلتاهما تخشى الأخرى وترقب مساعيها في الصين بمنتهى الغيرة واليقظه؛ وقد ذهبت اليابان في توغلها في الصين إلى حد يثير مخاوف روسيا ويحملها على مضاعفة جهودها لصون أملاكها ومصالحها في الشرق الأقصى؛ ومن جهة أخرى فقد عقدت اليابان أخيراً تحالفاً مع ألمانيا ضد الشيوعية أو بعبارة أخرى ضد روسيا، ومن المرجح أن هذا التحالف الذي يقوم في الظاهر على هذا الأساس، يتضمن تحالفاً سرياً عسكريا بين الدولتين، وان غاية الحقيقة حصر روسيا بين نارين: نار اليابان من الشرق، ونار ألمانيا من الغرب إذا ما وقعت حرب عالمية. ذلك أن ألمانيا الهتلرية تعتبر روسيا البلشفية عدوتها المميتة، وتسعى إلى تحطيمها وسحقها بكل ما وسعت وتعتقد أن تعاونها مع اليابان على هذه الصورة يكون رداً بليغاً على الميثاق الروسي الفرنسي الذي اعتقدت انه موجه ضدها، وانه خطر دائم على سلامتها؛ والظاهر أن حوادث الصين الأخيرة لم تكن بعيدة عن آثار الميثاق الياباني الالماني، وانه يمكن أن نلمس فيها أثرا لإصبع روسيا، وأن الماريشال تسانج هسويه ليانج كان يعول في ثورته على معاونة روسيا الخفية إذا ما ساعدته الحوادث على تنفيذ برنامجه، وأن روسيا ترى في اضطرام هذه الثورة على حكومة نانكين وضد النفوذ الياباني، ما يمكن أن يكون رداً من جانبها على الميثاق الياباني الألماني؛ بيد أن روسيا لم تخرج عن تحفظها إزاء هذه الأزمة ولم يبد منها ما يدل على إنها تتصل بها أو تعلق عليها أهمية خاصة، هذا في حين أن اليابان قد أبدت استعدادها وتحفزها للتدخل إذا ما تطورت الحوادث تطورا يمكن أن يهدد نفوذها أو مصالحها
ثم هنالك الدول الغربية وعلى رأسها إنكلترا، وهي تعلق أهمية خاصة على سير الحوادث في الشرق الأقصى؛ وهنالك أمريكا، وهي تخشى ازدياد النفوذ الياباني في الصين وفي المحيط الهادئ. ومن الواضح أن بريطانيا العظمى، والدول الأخرى التي تسيطر على أملاك عظيمة في الشرق الأقصى مثل فرنسا وهولنده، يهمها كبح التوغل الياباني ومقاومته، لأنه يزداد كل يوم خطراً على أملاكها ومصالحها؛ والسياسة البريطانية تميل بلا ريب إلى تأييد كل حركة تؤدي إلى تحقيق هذه الغاية؛ بيد أنها لا تميل في نفس الوقت إلى نهوض الشيوعية وتقدمها في الصين، لأنها تعتبرها خطراً عظيما على أملاكها ونفوذها؛ وهي ألان في موقف انتظار وتريث واستعداد للطوارئ؛ وأما أمريكا فهي تسير في ذلك على سياسة مستقلة، وكل ما يهمها هو الاحتفاظ بنفوذها وسيادتها في المحيط الهادئ، وهي تعتقد أنها تستطيع تحقيق هذه الغاية بالتفاهم مع اليابان وعقد اتفاق يصون مصالح الفريقين
هذا وقد صح ما توقعناه من أن حكومة نانكين لن تخضع لوعيد الزعيم الثائر، وإن الثورة لن يرجى لها النجاح المنشود؛ فقد وردت الأنباء الأخيرة بأن المارشال تشانج هسويه ليانج قد أذعن للإنذار الذي وجهته إليه الحكومة المركزية، واستمع لنصح زملائه حكام الولايات المجاورة، وأفرج عن الماريشال تشانج كايشك؛ وقد عاد الماريشال إلى نانكين عود الظافر في مظاهرات حماسية، واعتذر الزعيم الثائر على فعلته؛ ولم تعرف شروط التسوية بعد؛ ولكن الظاهر أن تشانج هسويه ليانج سيغادر الصين مدى حين، وان الحكومة ستمنحه معاشاً حسنا، وانه تعهد بعدم التدخل في الشؤون العامة العسكرية أو السياسية
على أنه يبقى لنا أن نتساءل، هل انتهت الفتنة وأخمدت نهائياً، أم أنه يخشى أن تكون بذورها قد تمكنت في القوات المتمردة، وإن الشيوعية المحلية لا تزال تغذيها؟ هذا ما لا يتضح الآن: بيد أنه يمكن القول أن حكومة نانكين ستنشط إلى محاربة الشيوعية والقضاء عليها، لأنها تخشى منها على نفوذها واستقرارها. ولا ريب أيضاً أن الحكومة الوطنية ستعنى بأمر هذا التطور العميق في شعور الشعب الصيني واتجاهه إلى وجوب الوقوف في وجه اليابان ووضع حد لمطامعها؛ وربما اضطر الماريشال تشانج كايشك غير بعيد إلى أن يتخذ سياسة اشد حزماً إزاء المطامع اليابانية، إذا وجد في مثل هذا الشعور ما يكفي لتوحيد الصفوف، وشد أزر السياسة الوطنية المتطرفة التي يجب اتباعها يومئذ وتدعيمها بقوة
السلاح إذا اقتضى الأمر
(* * *)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 7 -
تعددت المدارس وتنوعت الفرق في العالم الإسلامي، فمن متكلمين إلى متصوفة، ومن شيعيين إلى سنيين، وتحت كل شعبة من هؤلاء طوائف شتى وأحزاب متفرقة. بيد أن هذه المدارس المتنوعة والفرق المتعددة تلتقي في نقط مشتركة ويقوم الخلاف بينها على بعض المبادئ العامة. وقد استطاعت التعاليم الفلسفية أن تنفذ إليها جميعاً، ولكن بدرجات متفاوتة. ففي حين أن الشيعة، وخاصة الإسماعيلية، يتقبلون بقبول حسن كثيراً من الآراء الفلسفية، نرى أهل السنة يقفون من هذه الآراء موقف الحذر والحيطة؛ وعلى هذا النحو يمكننا أن نلاحظ أن المعتزلة يدنون في اغلب أبحاثهم من الفلاسفة، في حين أن الأشاعرة يعارضونهم ويناقضونهم. وقد سبق لنا أن بينا مقدار تأثر فلاسفة الإسلام بنظرية النبوة الفارابية، ونريد اليوم أن نبين إلى أي مدى استطاعت هذه النظرية أن تؤثر في المدارس الإسلامية الرئيسية، وكيف استقبلت من معارضيها ومحبذيها. ولا نظننا في حاجة إلى أن نبين موقف الصوفية منها، فهي بما فيها من تصوف كفيلة بأن تنال حظوتهم، وهي فوق هذا تضع أساساً علمياً لآرائهم ونظرياتهم. وسنقصر حديثنا على المعتزلة والأشاعرة من علماء الكلام، والإسماعيلية والباطنية من الشيعيين
فأما المعتزلة فقد دالت دولتهم تقريباً وانقضى سلطانهم قبل أن تظهر نظرية النبوة الفارابية في ثوبها الواضح وشكلها الكامل. غير أن نظرية كهذه تتلاءم مع نزعتهم العقلية وروحهم الفلسفية، ولا نظنهم، لو أدركوها، كانوا يحاربونها ويقابلونها بالرفض والمعارضة الصريحة، ذلك لأن أكبر مأخذ يؤخذ عليها، كما أسلفنا، أنها تتعارض مع بعض النصوص الثابتة الواضحة، ولكن المعتزلة وقد فتحوا باب التأويل على مصراعيه لن يعدموا الحيلة في التوفيق بين هذه النصوص وبين فكرة تشرح النبوة شرحاً عقلياً فلسفياً. وأما الأشاعرة فقد نصبوا أنفسهم للدفاع عن التعاليم الإسلامية المأثورة، وجدُّوا في تفهمها كما وردت. حقاً
إنهم يقولون بالتأويل، ولكنهم لا يتوسعون فيه توسع المعتزلة
ونظرية الفارابي في النبوة تناقض في رأيهم مناقضة صريحة طرق الوحي المسلم به في الكتاب والسنة ومما يؤسف له أن أبا الحسن الأشعري وهو من معاصري الفارابي لم يخلف لنا شيئاً يعتد به في هذا الصدد. إلا أن الغزالي وهو اكبر نصير للأشاعرة على الإطلاق، وفي النصف الأخير من القرن الخامس الهجري بوجه خاص، لم يغفل نظرية الفارابي في النبوة، وتحامل عليها كما تحامل على الآراء الفلسفية الأخرى، ولكنه في تحامله هذا لم يستطع أن يرد عليها رداً مقنعاً أو ينقضها بشكل واضح. على انه هو نفسه بالرغم من خصومته لها وتحامله عليها لم ينج من أثرها، وقال بآراء تقترب منها كل القرب؛ وخصومة الأفكار تختلف إلى حد ما عن خصومة الأشخاص، فقد تستطيع التبرؤ من كل ما يتصل بخصمك المادي مع انه يعز عليك أحياناً أن تنجو تماماً من سلطان فكرة تعارضها، ذلك لان النظريات والآراء بما فيها من قدر من الصواب يمكنها أن تؤثر في أصدقائها وأعدائها، بل وفي اشد الناس هجوماً عليها؛ ولا أدل على هذا مما نلاحظ في مسألتنا الحاضرة، فأن الغزالي يناقش في كتابه (تهافت الفلاسفة) نظرية النبوة الفارابية ملاحظاً أن النبي يستطيع الاتصال بالله مباشرة أو بواسطة ملك من الملائكة دون الحاجة إلى العقل الفعال أو قوة متخيلة خاصة أو أي فرض آخر من الفروض التي يفرضها الفلاسفة، ثم يعود في كتابه (المنقذ من الضلال) فيقرر أن النبوة أمر مسلم به نقلاً ومقبول عقلاً، ويكفي لتسليمها من الناحية العقلية أن نلاحظ إنها تشبه ظاهرة نفسية نعترف بها جميعاً، آلا وهي الأحلام والرؤى. وهاكم عبارته بنصها:(وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه أن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير).
ونحن في غنى عن أن نشير إلى أن هذه العبارة تحمل في ثناياها أفكاراً فارابية واضحة وبصرف النظر عما في موقف الغزالي من تناقض فان اعتراضه على نظرية الفارابي في النبوة لم يكن شديداً ولا قاطعاً. ولهذا لم يتردد في أن يعتنقها في مكان آخر محاولاً، كما صنع الفارابي، إدعامها على أساس من الفيض والإشراق. ولعل هذا هو الرأي الأخير الذي اطمأنت إليه نفسه، ولاسيما. والدلائل قائمة على أن المنقذ متأخر تأليفاً عن التهافت،
ومشتمل على خلاصة أبحاث الغزالي ونتيجة دراساته السابقة
وإذا كانت نظرية النبوة الفارابية قد استطاعت التأثير في خصومها من الأشاعرة فهي على هذا أقدر لدى من ينتمون إليها من الإسماعيلية والباطنية. وإنا لنلحظ منذ أخريات القرن الرابع الهجري أن إخوان الصفا الذين لم يبق اليوم شك في أمر اتصالهم بالإسماعيلية يشيدون بذكر قوة المخيلة ويبينون ما لها من اثر في المظاهر النفسية المختلفة، وخاصة في المنامات والأحلام والوحي والإلهام. ويلخص لنا الغزالي في رده على الباطنية معتقدهم في النبوات قائلاً إنهم يذهبون إلى (أن النبي عبارة عن شخص فاض عليه من السابق بواسطة المثالي قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات كما قد يتفق ذلك ليعض النفوس الذكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحاً بعينه أو مدرجاً تحت مثال يناسبه مناسبة ما فيفتقر فيه إلى التعبير إلا أن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة، فلذلك يدرك الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية، كما ينطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجسام الصقيلة). ويضيف الغزالي أن هذه الآراء كلها مأخوذة عن الفلاسفة، وهذه ملاحظة لا تقبل الشك ولا الإنكار وقد تأثر الإسماعيلية بالأفكار الفلسفية في غير موضع، إلا أن نظرية النبوة على الخصوص راقتهم إلى حد كبير وصادفت هوى في نفوسهم. فإنها لا توضح النبوة فحسب، بل تشرح فكرة الإمامة التي قامت عليها دعوتهم، وقد قدمنا أن الفارابي يصرح بان الإمام والنبي والفيلسوف يرمون إلى غاية واحدة ويستمدون تعاليمهم من مصدر مشترك آلا وهو العقل الفعال. وإذا كان بعض الإسماعيلية قد أخذ على عاتقه أن يرد على منكري النبوة فهو في الوقت نفسه يدفع شبهاً يمكن أن توجه إلى الإمامة. فنظرية النبوة الفارابية أساس علمي متين بنى عليه الإسماعيليون كثيراً من تعاليمهم. ولم يزيدوا عليها شيئاً إلا انهم تأولوا بعض النصوص التي سكت عنها الفارابي فقالوا مثلاً إن جبريل هو العقل الذي يفيض على الأنبياء بالمعلومات، وإن القران تعبير عن المعارف التي فاضت على النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المصدر
الآن وقد لخصنا في اختصار أثر نظرية النبوة الفارابية في القرون الوسطى الإسلامية،
يجدر بنا أن نولي وجهنا شطر القرون الوسطى اليهودية والنصرانية لنبين ما إذا كانت هذه النظرية قد تمكنت من النفوذ إليها أم لا. وسنكتفي من بين مفكري اليهود بموسى بن ميمون الذي يعلن في صراحة تلمذته للفارابي وابن سينا. وسنشير بين المسيحيين إلى (ألبير لجراند) فقط الذي كثيراً ما ردد اسم الفارابي في مؤلفاته اللاتينية. فأما ابن ميمون فلا نظن أن واحداً من رجال الفلسفة المدرسية - اللهم إلا ابن سينا - قد أستمسك بنظرية النبوة الفارابية وعنى بها مثل عنايته، فقد وقف عليها في الجزء الثاني من كتابه (دلالة الحائرين) نحو مائة صفحة أو يزيد، وبذل جهده في التوفيق بينها وبين الديانة الموسوية وترجع الآراء المتعلقة بالنبوة في نظره إلى ثلاثة أقسام. فطائفة ترى أن النبي مجرد شخص اصطفاه الله من بين خلقه وكلفه بمهمة خاصة سواء أكان عالماً أم جاهلاً صغيراً أم كبيراً، فلا يشترط فيه أي شرط ما دام الله قد أختاره، اللهم إلا أن يكون حسن السلوك سامي الأخلاق؛ ويرى المشاؤون - ويعني بهم ابن ميمون فيما نعتقد الفارابي وابن سينا - أن النبوة تستلزم كمالاً في الطبيعة الإنسانية وسموا في المواهب العقلية والاستعدادات الفطرية، فليس لكل شخص إذن أن يكون نبياً، بل من اكتملت فيهم صفات نفسية وعقلية معينة. والرأي الأخير الذي ينحاز إليه الفيلسوف اليهودي هو أن النبي إنسان كامل من الناحية العقلية قد فضله الله واصطفاه على عباده الآخرين. ولا بد له من مخيلة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال وتقفه على الأمور المستقلة كأنما هي أشياء محسوسة ملموسة. وعلى قدر ما تعظم المخيلة ويزيد اتصالها بالعالم العلوي تسمو الإلهامات النبوية وتتنوع، ومن هنا تفاوت الأنبياء فيما بينهم بتفاوت مخيلاتهم، وأختلف ما يوحي إليهم تبعاً لذلك. فقوة المخيلة إذن ذات اثر كبير في الكشف والإلهام وشرط أساسي في كل من يرقى إلى مرتبة النبوة. بيد انه يجب أن يضم النبي إلى مخيلته قوى عقلية عظيمة، لأن المخيلة لا تستطيع أن تصعد إلى درجة العقل الفعال إن لم يكن في معونتها قوى فكرية ممتازة. هذه الملاحظات على اختصارها تكفي للبرهنة على أن ابن ميمون اعتنق في إخلاص نظرية الفارابي في النبوة
وأما ألبير لجراند فقد أثرت فيه الآراء الفارابية عامة من نواح كثيرة. فهو يقول بنظرية في السعادة لا تختلف كثيراً عما ذهب إليه الفارابي، ويقرر إن الإنسان متى وصل إلى
مرتبة العقل المستفاد اصبح على اتصال دائم بالعالم الروحاني، وأضحى إلى حد ما شبيها بالله، ووقف على المعارف المختلفة، وفاز بغبطة لا نظير لها. ويحلل من جهة أخرى نظرية النبوة تحليلاً سيكولوجيا يتفق اتفاقا تاما مع ما جاء به الفارابي. كل هذا يثبت، كما لاحظ رينان من قبل، إلى أي حد نفذت اللغة العربية والنظريات الإسلامية الخطيرة إلى المدرسة الألبيرية. وسهل علينا أن نحدد على وجه التقريب المصدر الذي استقى منه ألبير نظرية النبوة الفارابية، فإنه لا يبعد أن يكون قد قرأ عنها شيئاً فيما ترجم من كتب ابن سينا إلى اللاتينية، أوفي كتاب دلالة الحائرين الذي أحرز منزلة عظيمة في مختلف المدارس المسيحية
يتبع
إبراهيم بيومي مدكور
في الأدب المقارن
أشكال الأدب في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تبدأ العلوم والفنون الإنسانية كلاًّ مختلطاً كالسديم، فإذا ما ارتقت وتطورت تبينت أجزاؤها وانفصلت، ووضحت أشكالها وتميزت، وتعددت مناحي كل علم وفن، وتوفر بعض ممارسي تلك العلوم أو الفنون على ناحية من نواحي العلم أو فرع من فروع الفن وتوفر غيرهم، كلٌّ يتبع ما هو أقرب إلى طبعه وأوفق لعبقريته وأتمُّ تعبيراً عن منازعه؛ وكلما ارتقى العلم أو الفن جدت فيه ضروب وأشكال لم تكن من قبل، وتولدت من الأشكال القديمة أخرى غيرها
وذلك شأن الأدب: يبدأ بانفصال الشعر عن الموسيقى، فإذا هو ألحان وأهازيج ساذجة المعاني؛ ثم ما يزال جانب المعنى منه يقوى حتى يطغى على جانب النغم، حتى يبلغ الشعر أشده وما تزال الآمة متبدية؛ فإذا ما نالت حظاً من الحضارة والثقافة ظهر النثر بجانب النظم، حاوياً لكثير من مميزات الشعر الفنية: كالتعبير عن الوجدان وحسن الاختيار الألفاظ المعبرة، فإذا ما استمر الأدب في رقيه تعددت أشكال النظم والنثر واختلفت صورهما، واجتذب كل شكل فريقاً من الأدباء يصطفونه دون غيره أو بجانب غيره، لإخراج أفكارهم وأحاسيسهم في قالبه، وإبراز نظرتهم إلى الحياة في أوضاعه وحدوده
فتعدد أشكال الأدب من دلائل رقيه وابتعاده عن عهود الابتداء وعصور الإبهام والعموم، وهو أيضاً من دلائل سريان روح التجديد فيه: فمن طبيعة النفس الإنسانية أن تسأم النغمة الواحدة إذا كررت، مهما كانت عذوبتها أو براعة صاحبها، وتستوي في ذلك الموسيقى وغيرها من الفنون، فإذا ما سئم جيل شكلا من أشكال الأدب، أو أصبح ذلك الشكل الأدبي غير ملائم لعصره، فأن روح التجديد - إذا كانت هناك - تدفعه إلى ابتكار شكل طريف ملائم، وهجر الأشكال القديمة مهما كانت منزلة الأدباء المتقدمين الذين مارسوا تلك الأشكال، ومهما يكونوا قد أودعوها من صادق الأفكار والشعور، ومحكم الصور لعصرهم
وقد شهد الأدب الإنجليزي عصر اليزابيث، وهو ما يزال مختلط الأجزاء، مضطرب الصور، لم تتميز أشكال منظومه ومنثوره، بل لم تستقم بعد أساليبه الشعرية ولا لغته
الكتابية؛ فما لبث الشعر على أيدي شكسبير ومعاصريه من مؤلفي المسرح، وسبنسر وملتون ثم دريدن، أن كسب لغة نقية مختارة، وأشكالاً واضحة بينة، صالحة للتعبير عن شتى الأفكار وتصوير مختلف الحالات النفسية. وضع شكسبير أساس الشعر المرسل، ورفع بعبقريته مكانة ذلك الضرب من الموشحات المعروف بالسونيت، وهوموشح من أربعة عشر بيتاً متداخلة القوافي على هيئة تبرز الفكرة الوحيدة التي تتضمنها السونيت إبرازاً رائعاً؛ ووضع سبنسر موشحه المنسوب إليه والمكون من أبيات تسعة متداخلة القوافي آخرها أطول عروضاً من سائرها، مما يجعل أداة صالحة للقصص الشعري الرصين
وجاء ملتون فأدخل الملحمة في الشعر الإنجليزي الحديث: والملحمة أعظم ضروب الشعر شأناً، وأكثرها كلفة، وأبعدها منالاً لما تحتاج إليه من طول التوفر، وعمق البصر بالأدب، واتساع الثقافة، والتضلع من اللغة، والتمكن من الأساليب الشعرية، وامتداد الخيال؛ وقد قدر كولردج الزمن اللازم لإنشاء ملحمة بعشرين عاما: ينصرف الشاعر في عشر منها إلى الاستعداد والتحضير؛ وبتوفر في عشر على الإنشاء والتجويد؛ وجاء دريدن عقب ملتون فوطد أساس ضرب آخر من النظم يدعى الأود أو القصيد الخطابي، يمتاز بوعورة عروضه وقوافيه، ويوجه الخطاب فيه عادة إلى شيء مخصوص أو فرد معروف أو ذكراه؛ ورفع دريدن كذلك مكانة (الدوبيت) في الشعر الانجليزي، أعني القصيد المؤلف من أبيات ثنائية القوافي، محكمة الوزن، مصقولة اللفظ؛ وهو الضرب الذي تلقفه عنه بوب فزاده صقلاً وإحكاما، وساد من بعدهما القرن الثامن عشر
توطدت دعائم الشعر وتميزت أشكاله فجاء دور النثر، وهو دائماً متأخر عن الشعر في الظهور، ودعت الأحوال السياسية والاجتماعية التي سادت القرن الثامن عشر إلى احتفاء الأدباء والمثقفين بالنثر: فقد كانت النظم الدستورية قد استتبت، والرأي العام قد تكون، والطبقة الوسطى قد تعاظم شأنها، والحركة العلمية قد نشطت بعد ما اقتبسته إنجلترا من علوم أهل القارة، والصحف قد انتشرت معتمدة على الرأي العام والطبقة الوسطى، وقد غبر عهد المخاطرة والجهاد الذي تجلى في حكم اليزابيث وثورة المطهرين، ألهب خيال الشعراء، وجاء عهد الإصلاح والعمل الرزين في الداخل والخارج
وفي أول ذلك القرن كان النثر الإنجليزي حطاماً مبعثراً من الألفاظ المتنافرة والتعابير المتعثرة، والأساليب العامية، وزخارف اللفظ، وبهارج المعنى، والتقليدات الفاشلة للأسلوب اللاتيني المتطاول الجمل؛ فما لبث دريدن وكاولي أن هذبا من حواشيه وقوّما من معوجه، ونقياه من الغريب والسوقي، فظهر النثر الإنجليزي الحديث المعروف ببساطة ألفاظه، ولطافة مأخذه، وسلاسة تعابيره؛ ثم تلاهما اديسون وسنيل فوطدا دعائم (المقالة) في الصحف التي تعاونا في إصدارها، فإذا المقالة شكل من أشكال الأدب جم المزايا. فهي تدور حول فكرة مفردة تكون وحدتها وتجمع شتى الأفكار الثانوية، وتتناول ما شاء الكاتب أن يدرسه من مسالة اجتماعية أو نقد أدبي أو حالة نفسية، أو نظرة في الفنون
ومن المقالة نمت بذور شكل آخر من أشكال النثر دعت أليه طبيعة ذلك العصر: هو القصة التي تكونت من اجتماع عدد من المقالات تدور حول شخصيات معينة، فما لبث الذوق العام أن استطرفها وكان قد مل الرواية التمثيلية، فحلت القصة محلها في تصوير المجتمع ودرس الأخلاق واستكناه دخائل النفس الانسانية، وتوفر عليها من كبار الكتاب أمثال ريتشاردسن وجولد سميث، وجين اوستن، فاحكموا أوضاعها، وهذبوا حوارها ووضحوا شخصياتها، وأسلموها إلى القرن التالي شكلا من أشكال الأدب جم المزايا مبشراً بمستقبل حافل
وكأن النثر لم يقنع بهذا الضرب الخيالي من التأليف، وآثر أن يجعل من الحقيقة الواقعة مادة للفن كما جعل من القصص الخيالي، ويتخذ من الماضي مراداً له كما اتخذ من الحاضر، فالتفت إلى التاريخ، وكان من قبل يدون باللاتينية أو بإنجليزية ملتوية التراكيب مختلطة الحقائق بالأوهام والاكاذيب، فبعث فيه الروح الفنية التي شملت نواحي الأدب ونفخ فيه النزعة العلمية التي تمشت في سائر العلوم، ولم ينصرم القرن إلا وقد ظهر اكبر اثر تاريخي في اللغة، وهو كتاب جيبون عن الدولة الرومانية، وإذا النثر الفني قد كسب شكلا جديداً هو التاريخ الفني للعصور أو الوقائع أو الأبطال
وهكذا صار الأدب الإنجليزي أدباً رفيعاً متسع الجوانب متميز الأوضاع متعدد الأشكال، مشتملاً على أرقى ما لدى الأمم الأخرى من الصور الأدبية، يقدم لممارسيه ما يختارونه من أشكال الأدب ملائماً لطبائعهم، ولقرائه ما يؤثرونه موافقاً لأذواقهم، وورث القرن التاسع
عشر عن القرنين السابقين له تراثاً ضخما من أشكال المنظوم والمنثور وآثار الفحول فيهما، فلم يكد يحس حاجة إلى استحداث أشكال أخرى، بل انصرف إلى استغلال ما بين يديه منها، ولاءم بين بعضها وبين حاجاته، وآثر بعضاً منها على بعض: فعالج وردزورث وتيسون الشعر المرسل، وعالج سوذي وموريس وهاردي الملحمة واختلفت حظوظهم من النجاح، واستغل هازلت وثكري وماكولي المقالة في النقد الأدبي، وعالج ماكولي وكارليل التاريخ. وهجرت الرواية التمثيلية الشعرية وحلت محلها أخرى نثرية أكثر التزاما للواقع وملاءمة لحاجة العصر، وتعاظمت مكانة القصة الطويلة والقصيرة حتى فاقت ما عداها، والتفتت إلى تصوير المجتمع الجديد القائم على الصناعة والمخترعات
أما تاريخ الأدب العربي منذ نهضته بقيام الإسلام وتوطد دولته، ودخوله في طور الحضارة والثقافة، فمغاير لهذا: فقد ورث عن الجاهلية لغة قوية غنية تبشر بمستقبل عظيم، وشعراً رصيناً محكم الأوزان متعددها موطد الأركان ممهد الأساليب مؤذنا برقى إلى ابعد الغايات، فإذا الأدب يجمد في أول الطريق، ويجتزئ بماضيه عن مستقبله، ويطوي زهاء خمسة قرون من عهود الحضارة والثقافة، فلا يتفرع كما تفرع الأدب الإنجليزي إلى أشكال متميزة ذات خصائص واضحة، بل يظل كل من الشعر والنثر سديماً مشوشاً كما كان في أول بدئه، وينبغ من فحول العربية أمثال ابن المقفع والجاحظ وابن الرومي والمتنبي والمعري، فلا يعنيهم غير تقيل السلف فيما درجوا عليه من مناهج القول، ولا تتوطد على أيديهم أشكال جديدة للنظم والنثر، ولا يؤدون للعربية الخدمات الجلي التي أداها للإنجليزية أبناؤها
طوى الأدب العربي عصور ازدهاره وهو يضرب على نغمة واحدة في النظم وأخرى في النثر؛ ففي النظم ظلت القصيدة المفردة القافية، غير المحدودة الطول، غير الموحدة الفكرة، غير المعروفة العنوان، هي الشكل الشعري الوحيد، يصوغ فيه ابن القرن الخامس أفكاره كما صاغ الجاهلي أفكاره من قبل؛ وفي النثر ظلت كتب الأدب المبهمة العناوين المشتجرة الفصول والفقرات المتباعدة المواضيع، المختلطة النظم بالنثر، والأدب بالدين، والقصص بالنقد، وهي الضرب السائد منذ انتشرت الكتابة إلى أن خمد الأدب
وفي الشعر ابتكرت الموشحات، فلم تكن غير زخارف من القوافي ينمقها الناظم كما شاء دون أن تكون أوضاع قوافيها معينة على إبراز المعاني، ولم ينتشر استعمال تلك
الموشحات واقتصرت على من ضروب الشعر الوجداني الضئيل الحظ من المعنى. قال ابن رشيق: (وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات، ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقا صنع شيئاً منها لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه. . . وهذا الجنس موقوف على ابن وكيع والأمير تميم ومن ناسب طبعها من أهل الفراغ والرخص)؛ وفي النثر ابتكرت المقامة فإذا هي أشد من الموشح احتفاء باللفظ، وإذا هي لا تفوقه ذيوعا ونجاحا، وحاكته عقما فلم ينتج عنها ابتكار جديد، كما مهدت المقالة في الإنجليزية السبيل مثلاً للقصة
فإذا بحثت في الأدب العربي عن أشكال أدبية متميزة متعددة لم تجدها، وإنما ظل الأدب كما بدأ سديما مختلطا متشابها: ارتقت معانيه وتعددت أغراضه ورقت ديباجته، ولكن جمد شكله فلم يتحول إلى أشكال جديدة، وظل النقاد لا يقسمون الأدب إلى أكثر من نظم ونثر ثم يقفون، ويفاضلون بين النظم والنثر مفاضلة ليس لها موضع ولا هناك ما يسوغها؛ فأن أرادوا التوسع فاضلوا بين الرجز والقصيد، وقدموا شاعرا على شاعر لبراعته في الطول أو في القطع، وهي مفاضلات كذلك لا موضع لها ولا مبرر، لأن هذه الأشياء متقدمة الذكر ليست بأشكال للشعر متميز كلٌّ منها بخصائص في الأسلوب أوفي الموضوع، تجعل شكلا منها أصعب على الشاعر المعالج من شكل آخر أو أبعد متناولا
وإنما جنح بالأدب العربي إلى هذه الحال من الجمود الشكلي التي لا يجد معها جديد، ولا يحل طريف محل عتيق، ولا يتسع أفق الأدب ولا تتشعب مناحيه، عوامل تقدمت الإشارة إليها مراراً وكان لها أبعد الأثر في تاريخ العربي، بل كان لها فيه ضرر بليغ، إذ باعدت بينه وبين أن يكون دائما تعبيرا حرا صحيحا عن شعور الفرد والمجتمع، متطورا مع حاجات الأجيال وتجدُّد شؤون الحياة، وتلك هي تغلب روح المحافظة على روح التجديد فيه، واعتماده على تشجيع الملوك، واعتزاله الآداب الأخرى، واحتفاله باللفظ قبل المعنى
فلو عنى أدباء العربية بدراسة الآداب الأخرى حق العناية لا طلعوا على أشكال للأدب تستحق أن تنقل إلى العربية فتكون باعثا على ابتكار غيرها. ولقد اهتدى الأدباء الإنجليز في كل ابتكاراتهم سالفة الذكر بهدى الأمم الأخرى: فالسونيت اقتبسوها عن بترارك، والشعر المرسل أخذوه عن الدرامة الإغريقية، والأود نقلت عن بندار، والملحمة تأثر فيها
ملتون أثر هوميروس وفرجيل، والمقالة أوحت بها كتابات مونتين؛ وليس يدين الأدب العربي بشيء من هذا لغيره من الآداب، ولو فعل لجاء أرحب آفاقا وأوضح مناهج وأبرز أشكالا
استقل الأدب العربي بنفسه وأعتزل غيره، ولم يكن من داخله حافز إلى التجديد والابتكار: فأن نفس السبب الذي صده عن آداب الأمم الأخرى صدف به عن تجديد نفسه، ذلك السبب هو إكبار المتقدمين وإجلال آثارهم إجلالاً لا مطمع معه إلى تنكب طرائقهم أو الحيدة عن أساليبهم، وغير هذه النزعة المحافظة كانت تسود الأدب الإنجليزي: كانت روح التجديد متمكنة من سائر فحوله، لا يمنعهم إعجابهم بمتقدميهم من الأعلام عن اختطاط غير طرقهم، وبفضل هذه الروح المجددة كان الأثر المنقول عن الآداب الأجنبية لا ينشب أن تتمثله الإنجليزية ويونع فيها، ويؤتى ثمرا جديدا لم تحظ به الآداب المنقول عنها؛ فالسونيت أصبحت في الإنجليزية ضربين: الشكسبيري والملتوني؛ والمقالة هذُّبت واستخدمت في مقاصد لم تخطر لمونتين على بال، وكانت أداة إصلاح اجتماعي نادر المثال، وخرجت من غضونها القصة الاجتماعية
وولوع أدباء العربية بالألفاظ استغرق كل تفكيرهم واجتهادهم: ألهاهم احتيال الحيل في تنسيق الألفاظ وإظهار البراعة في استخدامها عن التفكير في المعنى أو الشكل الأدبي الذي يصاغ فيه، فابتكروا كثيراً في البديع الذي يتعلق باللفظ ولم يبتكروا فيما يتعلق بالشكل الأدبي. ولما أراد شاعر مجيد كالمعري أن يأتي بجديد في القوافي لم يتجه إلى تحرير الشعر من بعض قيودها أو تذليلها لإبراز المعنى على أحسن صورة، بل زادها قيوداً فضاعف حروف الروي في لزومياته، لأنه كان يحس أنه يفعل ذلك دون أن يَخْرِمَ التقاليد الأدبية المتخلفة عن الأقدمين، ودون أن يتهمه متهم من النقاد كابن رشيق (بعجزه وقلة قوافيه وضيق عطنه)
واعتماد أدباء العربية على نوال الأدباء، وترددهم على أبوابهم، ومشاركتهم إياهم في لذاتهم وترفهم أحياناً، أو دوام طموحهم إلى تلك اللذات والمتعات، وذهاب أيامهم بين مرارة الحرمان ونشوة اللذاذة ووخامة البشم والخمار، كل ذلك لم يدع لهم وقتاً للتوفر على الأدب الصحيح والانصراف إلى الفن الرفيع، ولم تقم أمامهم حاجة إلى الابتكار والتجديد، إذ كان
الأمراء قانعين أن يقال فيهم مثل ما قيل فيمن قبلهم من الملوك الفخام وكما قيل في أولئك الملوك، فكان حسب الشاعر أن يقتفي أثر من قبله ويحذق وسائله في اقتناص معاني المديح
أما فحول الإنجليزية فكان معظمهم بمنجى من هذه الحاجة الملحَّة، ومعتصم من حياة الفلاكة واللذاذة التي كان يحياها كثير من أدباء العربية، وكان لهم بفضل كدِّهم في سبيل الحياة أو بفضل ما ورثوه من ثروة غنى عن سؤال الأمراء، ومتَّسع من الوقت للاعتزال في صومعة الفن الخالص من شوائب المادة، بل كان منهم أفراد كوردزورث وشلي وتنيسون عاشوا في رغد دون أن يعملوا في حياتهم عملاً سوى أن يقرءوا يكتبوا ما يسر نفوسهم ويرضي الفن وحده. ولا ريب أن أمثال هؤلاء أشد رغبة في التجديد والاختراع، وأقدر على القيام بالتجاريب الأدبية في الأشكال والصيغ والمواضيع، ممن يقضون العمر نظماً للمدح والسؤال وترقُّباً للرضى والأنعام. وقد فطن ابن رشيق في عبارته السالفة إلى ضرورة اتساع الفراغ للتفنّن في ضروب القول، وإن يكن قد قرن ذلك بذكر الرخص وأضافه إلى البطالة والعبث
فالأدب الإنجليزي ظل دائماً على صلة بالحياة وحقائقها، يعينه على ذلك ما به من روح التجديد، وما اخذ نفسه به من التزود من الآداب الأخرى، وما تمتع به أقطابه من وقت قصروه على فنهم والحياة دائبة التحول والتجدد، فلا ندحة للأدب إذا توثقت صلته بها عن تحول أشكاله وتجدد صورة
وأزيائه. أما الأدب العربي فباعد بينه وبينها تلك العوامل السالفة الذكر؛ فلا غرو أن جمد فلم تتجدد أشكاله مع مرور الزمن، وتحول الأدب الإنجليزي في قرنين من أدب ناشئ مختلط الأوضاع إلى أدب راق متجدد الصور متعدد الأشكال
فخري أبو السعود
البيان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدودٍ ويديرها على طريقة، مصيباً بألفاظه مواقع الشعور، مثيراً بها مكامن الخيال، آخذاً بوزن تاركاً بوزن لتأخذ النفس وتترك
ونقل عن حقائق الدنيا نقلاً صحيحاً إلى الكتابة أو الشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدَّق واجمل، لوضعه كلَّ شيء في خاصِّ معناه وكشفه حقائق الدنيا كشفةً تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة: تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيَّد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحدُّه، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجةً في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلاً يعيش به
فالكاتب الحقُّ لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصوِّرة لهذا الوجود، تصوّر به شيئاً من أعمالها نوعا جميلاً من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة؛ والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب؛
والفوضى المائجة تسألها الإقرار، إقرار التناسب؛ وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياة؛ والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسيةً لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يخلق الملهم أبداً إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع للاحتراق تنفذ إليها الأشعة الروحانية وتتساقط منها
وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها إسناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به؛ فيكون إنساناً لأعماله وأعمالها جميعاً، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر؛ ومن ثمَّ يصبح عالماً بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه؛ ويلقي فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يرى سهلاً كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أيُّ صعب حين يبدأ
هذه القوة هي التي تجعل اللفظة الواحدة في ذهنه معنى تاماً، وتحول الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنقلب باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليحكم
عليها، وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي التي تميز لغته وأسلوبه لأنها تلتقط بمعانيها ألفاظها، وما تعطيه هو إلا لتعطي الناس منه، وكما خلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه
ولابد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرّف، إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها. فلو حدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبَّس الملائكة هذا اللحم والدم لبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة للحقيقة الجميلة، هي كل ما يمكن من طريقة تعريفها للإنسانية
وأيُّ بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من أكل العشب إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد بعدد أزهاره ويكاد الندى ينظرها كما ينظره
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى: كالإيمان والجمال والحب والخير والحق - ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة
وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنّاً عقلياً غايته صحة الأداء وسلامة النَّسق، ويندر البيان في كلامهم فيكون كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا؛ ولكن الفنَّ البياني يرتفع على ذلك بان غايته قوة ألداء مع الصحة، وسموَّ التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائداً جمال الصورة؛ أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويدفُّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري، ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ. والإلهام في الأسلوب الآخر يقول: آنا هنا في جلال وجمال وصورة وألوان
ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ اكبر مما هي كأنها شبَّت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنما كسبت من روحه قوة، وأدلَّ مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلميَّ تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع تخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير انك مع ذوي الحاسة البيانية لا
تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والتأثر
وللكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خلق الناس: ففي كل الوجوه تركيب تامٌّ تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجه المنفرد يجمع إلى تمام الخلق جمال الخلق، ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة؛ وهو لذلك يرى ويؤثر ويعشق
وربما عابوا السموَّ الأدبيَّ بأنه قليل، ولكن الخير كذلك؛ وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك؛ وبأنه محيّر، ولكن الحسن كذلك؛ وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك
إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وان لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
حب الشاعر
للأستاذ السيد محمد زيادة
يا حبها: أأنا مخلوق بك ومخلوق لك؟. . كيف أتَّقيها ولجمالها في كل مشرق من مشارقه صورة، وفي كل صورة معنى، وفي كل معنى خلابة وفتنة؟. .
كنا على موعد أنا وهي، وكان موعدنا بين الأصيل والغروب في حديقة سميناها حديقة الحب؛ تترامى أطرافها، وترى في مكانها من بعيد كأنها عاشق برح به هواء فذهب إلى الخلاء يتفرج بالوحدة، وترى من داخلها في جوها الشعري الغزلي كأنها جنة هيئت لعاشقين
وتقوم بين أفنانها ربوة صاحية نائمة. . . صاحية بنسيمها الرفاف الممطر، ونائمة بمنظرها السكران الحالم، وتظل هذه الربوة شجرة لقاء وارفة تعانقت أغصانها فكان لها مواقف الحب والشوق. . . وهناك على هذه الربوة تحت هذه الشجرة كان الموعد. . . والتقينا
وقبل أن يحين الملتقى بساعة كنت جالساً في حجر الشجرة أترقب من خلال أوراقها احمرار الشمس بعد تمايل الأصيل، وكان كل ما في الحديقة من أشجارها وزهرها يترجرج، كأنما كان للحديقة قلب ينتظر انتظار قلبي. . .
وسرب خيالي بين أنحاء الطبيعة في أنحاء الفكر؛ أما قلبي فكان معي ولم يكن معي!!. كنت أحس انه معي يدق ويرتعش وهو مطمئن خائف، وكنت أحس أنه بعيد عني بعد حبيبتي وأنه قادم معها بعد فترة
ومرت عليَّ الدقائق ثقيلة محببة، فكانت كل دقيقة تأتي بعد دقيقة كأنها اجل يمتد إلى اجل. . .
وإني لفي غرةٍ وذهول فكر إذ رأيت الحديقة تهتز فجأة كأنما راعها رائع. . . فتبينت فإذا بنسمة وردية تنفلق في جو الحديقة نصفين وينفذ من بينهما صوت ملاك. . . وتسمَّعت فإذا بها أغنية هي فن وسحر فن، وسمعت صوت الملاك يردد:
يا حبيب القلب مالي
…
شغلت نجواك بالي
وأنصتُّ فإذا الصوت يقترب شيئاً فشيئاً، وإذا الحديقة تبتسم شيئاً فشيئاً، وإذا القلب يذوب شيئاً فشيئاً. . .
لقد جاءت الحسناء. . .
جاءت تترنم بهذه الترنيمة!! ومادت بي الربوة فلم اسمع إلا رعد فؤادي، ولم أر إلا برق خيالي؛ ثم انقشعت من فوق رأسي سحابة فنظرت فرأيت الحديقة ترقص، ورأيت الحسناء قد وافت باسمة مغنية متثنية. وخيل إليَّ أن الأشجار كلها قد تجمعت وسارت جحفلاً لتحيي جمالها وتزف إلى الطبيعة في قوامها غصناً خلقه الله ليحيا، وأحياه ليظل سراً وتظل الطبيعة عاجزة عن معرفة هذا السر
ومدت إليَّ يدها وهي ضاحكة وقالت: كأنك تناديني من بعيد، فهل أنت بعيد؟
قلت: كانت روحي بعيدة شاردة، وها قد رجعت لما سمعت صوتك. . . وأنا ألان أناديك منها
قالت: لعل روحك طويلة، ولعلك تناديني من أولها. . .
قلت: بل أناديك من آخرها، ولولا انك أدركتني فأدركت آخرها لضاع مني في الانتظار كما ضاع أولها
ثم ضحكت وافتنَّ مبسمها في الضحك فقلت: كأني بالحديقة كلها تضحك في وردة إذ تضحكين
قالت: هذا رأي خيالك
قلت: ورأي عينيَّ ورأى قلبي ورأى الحقيقة. . .
قالت: إذا كانت الحديقة تضحك فلم لا أراها كما تراها؟
قلت: لأنك لا ترين ثغرك الضاحك كما أراه
فضحك وجهها كله، ويا للجمال في ضحكة الوجه الجميل!!
لقد رايته يومض وميض قبلة دانية تمتنع، ويشع شعاع قبلة ممنوعة تدنو، فقلت: وهاهي الدنيا كلها تضحك
قالت: لقد كبرت الحديقة فصارت في خيالك دنيا. . .
قلت: لا. . . بل تبسمت الدنيا من حول الحديقة لان وجهك تبسم من حول ثغرك
فأطرقت إطراقة حنين وحب، وترقرقت في مفاتن حسنها معاني هواها فكانت فلسفة الجمال بين فلسفة العواطف؛ ثم رفعت رأسها ونظرت إلى السماء فسبحت عيناها في الشفق، ثم
عادت إليَّ من غيبتها وقالت: ما ارق قلب الطبيعة، إنها الآن حانية. . . ألا توحي إليك؟. .
قلت: لقد أوحي إليّ بهذه الأبيات وأنت قادمة
قالت: ما أشوق نفسي ألان إلى الشعر
قلت: هذا هو شعر الحديقة:
صدْح البلابل فنٌّ من تغنيها
…
يا سكرة اللحن لما مرَّ من فيها
البدر تفسير معنى من تلألئها
…
والغصن تفسير معنى من تثنيها
كأنها آية قد أُلبست جسداً
…
يحار في حسنها الرفاف رائيها
في صوتها رنة لم يعطها ملك
…
تضنى قلوب الورى من حيث تشفيها
غنت فقال الهوى هذي مخلدتي
…
هذي التي قدستني في أغانيها
فأسبلت أجفانها على نظرة صارخة ثم زفرت وقالت: آه منكم آيها الشعراء!! إنكم إذ تغوون لا ترشدون
قلت: وأين ألغي هنا؟
قالت: في لسانك من وراء شيطانك، من وراء قلبك. . . لقد جعلت الشعر مصيدة. . . إنك محتال شريف!!
قلت: إذا فما لشعري لم يصد؟
فسكتت هي وقالت عيناها وقالت: يا منكر الخير. . .
ثم سكتت عيناها وقالت هي:. . . ويحك
قلت: لو انك رأيت كيف كان اللحن بين شفتيك وأنت مقبلة عليَّ إقبال الدنيا على طريدها، وكيف كانت شفتاك في وجهك وكيف كان وجهك فوق قوامك، وكيف كان ميد قوامك بين ميد الغصون. . . لو انك ما رأيتِ هذا لكنتِ ألان شاعرة ولما قلت في وصف نفسك غير ما قلته؛. والله لكأن الفتنة ما خلقت إلا للمغنيات. . .
ونظرت إليها خلسة فرأيت وجهها ساكناً يحتج على أني أخطأت وعددت فتنته من فتنة غيره، ثم رفعت بصري لأخلس نظرة أخرى، فصدمتني منها نظرة حزينة وقالت: أكل المغنيات جميلات لديك؟. . .
قلت: ومن غيرك جمعت بين جمال الجسم وجمال الصوت في جمال ثالث هو انفرادها
بالجمع بينهما؟؟. . فإذا كنت لم أحسن التعبير فليكن عذري أنني أحسنت القصد
ولكنها غضبت وطال منها الغضب، وتراءت لي كأنها تجادل قلبها في صوابه لترده إلى صوابها، ثم كأنها انتصرت وأمسكت قلبها بالحجة؛. . ثم تبسمت فتهكمت ثم قالت: يخيل إلى انك خلقت وفي قلبك أذن مرهفة للغناء فعشت لتهوى المغنيات، وتجعل من كل منهن قصة حب، وتفيد من كل منهن تجربة حب، وتحسب كلا منهن إنها نهاية فلا تلبث حتى تراها بداية؛ وجاء دوري عندك. . . ولكن أي حب؟!
قلت: حب الشاعر الجاعل روحه نسمة في جوك، الباذل لك من قلبه كل البذل
وقالت: كفى أن تقول حب الشاعر ليفهم سامعك أنه حب أيام أو أسابيع أو شهور، وأنه كالزهرة لا تكاد تينع حتى تجتني
قلت: لقد عكست الوضع يا آنستي؛ فحب الشاعر غير حب الناس، لا يكون له آخر كما يكون له أول؛ وإنما هو الحب الذي يبدأ ليظل حيث يبدأ فيرتبط بأجل الشاعر ما طال أجله ثم يبقى بعده ما بقى ذكره. . . أفلا تعلمين أن الشعراء هم اشد أهل الوفاء تمسكا بالوفاء، وأكثر أهل الحب صدقاً في الحب؟. .
قالت: هذا من وهم الشعر والشعراء
قلت: أفلا تعرفين أنهم يشقون ليسعدوا غيرهم؟. .
قالت: وهذا من أكاذيب الشعر والشعراء
قلت: أفلا تعتقدين أنهم مخلدون؟. .
قالت: وهذا من أحلام الشعر والشعراء
قلت: إذن فماذا تقولين فيهم؟
قالت: أقول إنهم شواذ الناس، أما خلالهم فهي الخير والشر، كلاهما يشق طريقه في جوف الأخر، وأما كلامهم فأجمل ما فيه أكذب ما فيه، وأما حياتهم فما منها غير تناقضها واضطرابها، وليس لها أن تركن إلى حال مهما تكن الحال. . .
قلت: وحبهم إذا كان من قلوبهم؟
قالت: أليس الشاعر كالطائر لا يطيب له عيشه إلا في تنقله بين الأفنان والادواح؟ ثم أليس من طبيعة الشاعر أنه طماح لا تقنع نفسه إلا بسعيه وراء الجديد حيث يكون؟ فهل مع هذا
نصدق أن في طوقه أن يحب فتنفرد لديه حبيبته، ويحبس عليها قلبه؟
قلت: وهذه الحرق التي في كبدي منك، ما هي وما مصيرها
قالت: هي الهوى الغاوي ومصيرها إلى غيرها من غيري
ثم اضطجعت إلى ظهر المقعد تبتسم وتخفي ابتسامتها كأنها شاعرة بغيظ فؤادي فقلت: وهذه الألفة التي بين روحي وروحك من أين جاءت إذا لم تكن بنت الحب؟
فقطَّبت بعض جبينها الوضاح، وظهرت لي كأنها تنكرني وتتنكر لي، ففلقت بهذا كبدي ثم قالت: هذه الألفة؟. . سل عنها قلبك. . .
أواه منها!! أواه منها!! ما كان أقساها
وسكتنا فترة وكلانا في حاله. . . هي في دلالها تتأود وتهز ساقاً موضوعة فوق ساق، وأنا في حنقي أتلوَّى واضغط يداً مضمومة إلى يد، ثم نظرتُ إليها ونظرتْ إليَّ فقلت: هل تعلمين كيف أنت ألان في قلبي؟
قالت: لا إخالني إلا ممقوتة مقت الحقيقة عندما تكون مرة
قلت: بل محبوبة حب الدلال في الجمال. . . إني أراك ألان فاتنة أخرى ممثلاً في فتنتها عناد الفتنة؛ فأنت في عيني برق يثور على برق؛ أما أنا فلست أنا. انظري. . . هل تَرينني كما كنت قبل دقائق إنساناً بحالة إنسان؟
فسرّحتْ طرفها في هيكلي، فاقتحمتْ نظراتها إلى قلبي فذابت في دمي وجرت في عروقي، وكانت النظرات شيئاً حلواً في شيء مر. . . كانت رضا في غضب، وإغراء في صد، وليناً في صلابة
ثم كفتَّ الغادة بصرها وقالت: لو لم يكن غرام الشعراء غرام برهة من الدهر قد تطول وقد تقصر لما كان مزعزعاً مُخلّى، ولكان فيه أظهر ما في الغرام؛ ولكن من حكمة الله أنه يخلق في كل شيئا كامل شيئاً ناقصاً ليجعل الكمال في الدنيا غاية لا تدرك
قلت: الشاعر يخلق موعوداً بحبيبة يتناهى إليها الجمال في رأيه، فيعيش ما يعيش هائماً على وجهه بين مراتع الغيد يفتش عن تلك الحبيبة المجهولة، فتجنح به عيناه إلى كثيرات يتخايلن له بتلك التي في غيبه. . . حتى إذا صادفها وعرضت له جمعته على حبها وأخرجته من طور الفكرة المشعثة إلى طور الفكرة الملمومة. . . وهانت التي كانت في
غيبتي فأصبحتْ في حياتي
قالت: لا أكاد أصدِّق هذا إلا لأكذِّبه، فما يثبت عندي أنني أول من توافي وأخر من تحب
قلت: كيف لا وأنت قد أصبحت لي في كل مالي، فأنا لا أرى الجمال إلا في جمالك أو في خلال جمالك؟. . إن خيالي ليقف عند نهايتك فليس فيه ما بعدك إلا أنت أو ما يجيء عنك. . .
يا رب سبحانك!! يا فاتح الروح للروح. . . يا هازم القلب بالقلب. . . يا فاعل ما تريد. . . يا رب سبحانك. . .
ماذا أقول؟. . . يا حبها أجب، فأنت السائل وأنت المجيب
آني رايتها تبكي ولكن بغير دموع، وسمعتها تضجُّ ولكن بغير صوت، ثم بدت في عينيها فترة كأنها سنة، ورأيتها في جلستها رخيّة رخيّة كأنها نائمة، وكانت حقاً نائمة نوم أحلام في يقظة فكر
قلت: آه ما أجملك!. . .
قالت: وما اجمل شيطانك. . .
ثم هزت رأسها هزة ضعف، ثم سكتت فتركتها تسكت لأرى ما في سكوتها من كلام حسنها. . . فماذا رأيت؟ رأيت وجهها يحمرُ ويحمر حتى يكاد يلتهب، ثم رايته يميل عني ليخفي ما سفر عليه مما احتجب خلفه، وأدركت ما بها فاستحييت أن أطيل النظر إلى شعاع السحر في احمرار الخفر على محيياها، فأغمضت جفوني على حلم سكران فلم أراها. . .
وسمعتها تتنهد، وجاوبها قلبي فتنهد، وفتحت عيني مخمورتين لأراها فإذا بجمالها ثائر فزع. . . عينان مهمومتان ووجه مرتبك
ثم رايتها وخزت شفتها بسنها، وقرصت إصبعاً بإصبعين، ودقت برجلها على الأرض دقة وقالت: ما أضعف الإنسان!!.
ثم تفتَّرت وتندَّى جبينها وهدأت هدوء الفكر المستسلم فقلت: وما أقوى الحب!!
(طنطا)
السيد محمد زياده
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
عزرائيل يقبض بيد صفراء
وصل الفائت
ذهب البكباشي ريد رئيس بعثة الحمى الصفراء في جزيرة كوبا إلى الولايات المتحدة بدعوة من السلطات. وبقى مساعداه كارول ولازار في كوبا. أما كارول فطلب إلى لازار أن يسلط عليه بعوضة سبق أن شربت من دم مريض بالحمى، ففعل، ومرض كارول بالحمى ثم أشتفى. ثم وقعت بعوضة وبيئة اتفاقاً على ذراع لازار وهو يدور في عنابر المرضى فمرض بالحمى ومات
- 4 -
وعاد ريد من الولايات إلى كوبا، فرحب به كارول ترحيباً حاراً. وحزن ريد للازار وفرح للتجربتين اللتين نجحتا في إعطاء الحمى إلى كارول والى س. ص. وجفف مدامعه على لازار ورأى في القدر الذي وقع به يد الله التي لا غالب لها، ولم يفته أن يرى فيه ظاهرة للعلم أيضاً. كتب ريد:(أن لازار قرصته بعوضة وهو في عنابر الحمى الصفراء بالمستشفى، فلا أقل من الإقرار بجواز أن هذه البعوضة تلوثت بالحمى الصفراء من مريض، وإذن فحادث لازار وقع اعتباطاً ولكنه لم يضع سدى. . .)
قال ريد: (والآن جاء دوري أنا لأذوق البعوض دمي). ولكنه كان بلغ الخمسين من عمره فأرادوا تخزيله فقال لهم: (ولكن لابد من البرهان). وتُنصتُ إلى صوته الموسيقي فتجده لطيفاً خافتاً. وتنظر إلى وجهه فلا تجد لذقنه هذا البروز الذي يكون للفتوة والرجولة القوية. وتجمع هذا وهذا فتكاد تحسب أن ريد كان في الذي قال متردداً هيابا. ووالله لو حسبت ذلك ما شأنه، وكيف يشينه وهو وأحد من ثلاثة مات أولهم من غير شك وَوُرى التراب يقيناً
قال ذلك الصوت اللطيف الناعم: (ولكن لابد من برهان). وقام ريد صاحب هذا الصوت
اللطيف الناعم إلى الجنرال ليونارد وود وحمل إليه الأخبار كلها وما تضمنته من أحداث مؤثرة. وكان وود أقل الرجال تخنثاً. فما سمع ما سمع حتى أذن لريد أن يفعل ما يشاء وأن يذهب إلى أي حد شاء. وأعطاه مالاً ليقيم معسكراً من سبع خيام وبيتين صغيرين، حتى قناة العلم أعطاه ثمنها. وأحسن من هذا كله أنه أعطاه مالاً يشتري به رجالا يقامرون في تلك التجارب بأرواحهم فيسلكون بها سبيلاً تهلك فيها على الأقل نفس من كل خمس فلا تعود إلى الوجود لتستمتع بالثمن الذي دفع فيها. فشكر ريد الجنرال، وخرج عن كيمادوس حتى إذا بعد عنها ميلاً نصب على الأرض سبع خيام، ونشر العلم الأمريكي فوقها، وأسمى المعسكر معسكر لازار - ولنهتف ثلاثاً لذكرى لازار. وستعرف بعد قليل أي أعمال مجيدة وقعت في هذا المكان
ليس آكد في الحقائق من الحقيقة الآتية: كل صائد من كبار صياد المكروب يختلف اختلافاً بيناً عن كل صائد آخر منهم، ولكنهم جميعاً تجمعهم صفة واحدة: أنهم جميعاً مبتكرون، إلا ريد. ولكنه لا يستأهل الشنق لأنه لم يبتكر، لأن عذره حاضر، فأمر البعوض والقراد وغيره من ناقلات المكروب كان حديثا شائعا على ألسن البحاث في عشر السنوات الأخيرة من القرن الماضي، فلم يكن لريد مندوحة عن سماعه واقتباسه. وإن فاته الابتكار في هذا، فوالله ما فاته أن يسود البحاث جميعا بقوة خلقه. وإلى جانب هذا كان مجربا متقناً محسنا. ووسوس إليه خلقه الصلب القويم:(لا بد من قتل الناس لخلاص الناس)، فقام يرسم سلسلة من اختبارات محكمة هي أسوأ ما ابتدعه رجل خير من الجرائم
وكان ريد رجلاً يحب الإتقان والإحسان في الأعمال، فقضى بأن كل رجل يراد قرصه ببعوضة يصير حبسه قبل قرصه أياماً وأسابيع في هذا المعسكر تحت شمسه المحرقة حتى يكون بمعزل عن أي عدوى بالحمى الصفراء تأتى من غير هذه البعوضة، فلا بد أن تكون التجارب مسدودة الثقوب محكمة لا يخر الماء منها. وأعلن ريد في الجند الأمريكي أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، وأن حرباً جديدة أُعلنت لخلاص الإنسان. وسأل هل فيكم متطوعون؟ ولم يكد يجف مداد الإعلان حتى دخل إليه في مكتبه جندي يدعى كيسنجر من ودخل معه رجل آخر يدعى جون موران وحتى هذا لم يكن جندياً بل كاتباً ملكياً يعمل في مكتب الجنرال فتز هيولي دخلا عليه مكتبه فقالا:(جئنا أيها السيد لتجرب فينا).
وكان ريد رجلاً طاهر الذمة حي الضمير، فسألهما هل أدركا كل الإدراك ما اقدما عليه من المخاطر، وأخبرهما خبر الصداع الذي يجيئهما، والتهوع الذي يأتيهما، والقيء الأسود الذي يقيأن. وذكر لهما ما كان من وافدات جائحة لم تبق من الرجال على رجل واحد ليعود فيحكي خبرها ويدل على فظائعها
فأجاب الرجلان: (نعلم ذلك، وإنما جئنا تطوعاً واختياراً في سبيل العلم والإنسانية وحدهما). عندئذ اخبرهما ريد بما كان من كرم الجنرال ود، وذكر لهما أن من تعضه البعوضة سيكون له مائتا ريال قد تزاد إلى ثلاثمائة. فقال الرجلان:(نحن إنما تطوعنا على ألا نأخذ عن تطوعنا أجراً)، فانتفض ريد على قدميه ورفع يده بالسلام إلى قبعته، وهو البكباشى، وقال لهما:(أيها السيدان الكريمان، لكما تحيتي!)
وفي نفس هذا اليوم دخل الاثنان المحجر العسكري ليتجهزا فيه ليصيرا بمثابة خنزيرين غينين للتجريب على أحسن ما تكون الخنازير، فلا تدخل إليهما لوثةً ولا تتطرق إليهما ريبة. وفي الخامس من ديسمبر استضاف كيسنجر خمس بعوضات شربت من دمه حتى تروت، وكانت اثنتان منها قد شربتا منذ خمسة عشر يوماً وتسعة عشر يوماً من دم مرضى هلكوا بالحمى. ولم تمض عليه غير خمسة أيام حتى جاءه صداع يكاد يصدع رأسه، ومضى يومان آخران فاخذ يصفر لونه، وتعاقبت عليه أعراض المرض كما يجب أن تكون. ثم تعافى فحمد الله ريد على هذا الشفاء
ثم جاء المجد يسعى إلى ريد وصاحبيه كارول وأجرمنتي. وإن يكن الدهر لم يسعفهم، بمعنى أن الشبان الأمريكيين لم يزدحموا عليهم للتطوع ازدحاماً ويدوسوهم في سبيله دوساً ويرموا بحياتهم رمياً في سبيل العلم والإنسانية، فقد بعث الدهر إليهم رجالاً أسبانيين جاءوا من كوبا حديثا من أسبانيا، وكانوا غاية في الجهالة، وكان لهم مأرب في المائتي ريال؛ فتقدم خمسة من هؤلاء طمعاً في المال. ولنسمهم المهاجرين الأسبان، أو لعل الأوفق أن أسميهم بالأرقام 1، 2، 3، 4، 5 كما يسمى صيادو المكروب حيواناتهم التجريبية فيقولون الأرنب رقم 1 والأرنب رقم 2 وهلم جرا. وعلى كل حال تقدم هؤلاء الخمسة، فلما تهيئوا للقاء البعوض عضهم عضات هي أخطر في المتوسط من الرصاص البنادق، واستحقوا المال الذي أخذوه، فأن أربعة منهم جاءتهم الحمى الصفراء على أبين ما تجيء وبأظهر ما
تكون من الأعراض، أو كما يقول بعض الأطباء إذا هم لبسوا جلد العلماء:(بأجمل ما تكون الأعراض) وهذا نصر مبين! نصر لا يأتيه الشك من أي جهاته؛ فأن أحداً من هؤلاء الرجال لم يقترب يوماً من حيث يكون الوباء، وأخذوا فعوملوا معاملة الخنازير الغينية والفئران والأرانب التجريبية فحبسوا طويلاً في كيمادوس في خيمات مستورة لا يصنعون شيئاً ولا يرون أحداً، ولم تحدث لهم أحداث إلا شكات في أجسادهم شكتهم إياها إناث البعوض المقلمة ظهورها بالفضة. وكان الضجر لاشك قاتلهم لولا أنهم كانوا جهالا مغرقين فلم يكن بينهم وبين الحيوان فارق مبين
كتب ريد إلى زوجته يقول: (افرحي معي يا حبيبتي، فإنك لو استثنيت لقاح الدفتريا وبشلة السل التي اكتشفها كوخ، فهذا الكشف العلمي الذي وجدناه سيروى للأحفاد بأنه أكبر كشف حدث في القرن التاسع عشر. . .)
لم يكن ريد في السبيل التي اتخذها مبتكراً، ولكن دقته هذه بلغت حداً تنهض به إلى طبقة المبتكرين، فهو لا شك مبتكر في دقته، وقد كان في مقدوره أن يقف من بحثه عند هذا الحد، بل لعلك مقسم أن قد سولت له نفسه الوقوف عند هذا الحد، ولِمَ لا وهؤلاء ثمانية جاءتهم الحمى من قرصات البعوض؟ ألا أي حظ هذا الذي صحب ريد فلم يمت من رجاله الثمانية غير واحد؟
على أن ريد لم يقف عند هذا الحد، وأخذ يتسأل:(. . . ولكن أيجوز أن تنقل الحمى عن طريق غير البعوض؟)
واعتقد الناس أجمع أن ملابس الموتى من الحمى وأفرشتهم وكل ما يمتلكون يحمل الموت في طياته، فأحرقوا من أجل ذلك من الأفرشة والملابس ما بلغت قيمته ملايين الدولارات. وارتأى هذا الرأي رئيس الأطباء، وأرتآه كل طبيب له اسم في أمريكا شماليها وجنوبيها وأوسطها إلا الشيخ المخبول فنلى. وتشكك فيه ريد. وبينا هو في سرور من نجاحه في عدوى كيسنجر والأسبانيين المهاجرين جاء النجارون فنصبوا بيتين صغيرين دميمين في معسكر لازار. وكان البيت الأول أقبح البيتين، طوله أربع عشرة قدما في عشرين عرضا. وكان له بابان في مدخله، نصب أحدهما في حذقٍ خلف الآخر حتى لا يفلت منه البعوض. وكان له نافذتان تطلان على الجنوب فتحا والباب في حائط واحد حتى لا يجري في هواء
البيت تيار. ووضع في البيت موقد لطيف ليرفع حرارته بعيداً فوق الدرجة الثانية والثلاثين المئوية، ووضع فيه براميل مليئة بالماء ليتشبع منه الهواء فيصبح بحره ومائه خانقاً كبطن سفينة ببعض مناطق الاستواء. وكان في هذا كفاية لهذا البيت من كرب وضيق، ولكن جاء الثالث عشر من نوفمبر عام 1900 فحمل جند إليه وهم يتصببون عرقاً عدداً من صناديق محكمة التسمير متهمة المنظر جاءت من عنابر الحمى الصفراء لتجعل من هذا البيت مثلاً يضرب في اللعنة والشؤم. . .
فلما أدبر نهار هذا اليوم وخيم ليله شهد ريد وكارول مشهدا من خير مشاهد الشجاعة والتضحية، ففي هذا البيت اللعين الأول دخل دكتور أمريكي شاب يدعى كوك، ودخل معه جنديان أمريكيان (ليت شعري ماذا عوق الناس فلم تنصب لهؤلاء الأبطال تماثيل الأبطال) يدعى أحدهم فوك ويدعى الآخر جرنجان
وفتح هؤلاء الرجال الثلاثة هذه الصناديق المحكمة المريبة داخل هذا البيت في جو رطب متلزج تضيق فيه الأنفاس
أُف لها من رائحة كريهة! ولعنوا وسبوا وسدوا أنوفهم واستمروا يفتحون الصناديق. فأخرجوا منها وسائد عليها القيء الأسود لقوم ماتوا بالحمى. وأخرجوا منها ملاءات أسرةٍ وألحفةٍ تلوثت بما يخرج من المريض إذا غاب حسه وهمدت قوته وضاع تحكمه في جسمه. وأخذوا يضربون الوسائد وينفضون الملاءات والألحفة، فقد كان ريد قال لهم:(لابد أن تعفروا جو هذه الحجرة بالوباء وتنشروه جيداً بين أرجائها). وقاموا يهيئون لأنفسهم من هذا المتاع فراشا على آسرة صغيرة من آسرة الجيش. وخلعوا ملابسهم ورقدوا على هذه الفرش القذرة وحاولوا النوم في تلك الحجرة الملعونة. . . وأقام ريد وكارول على هذه الحجرة يحوطانها بالرعاية ويحاذران خشية أن تدخلها بعوضة تائهة. أما طعام فوك وكوك وجرنجان فلا تسل عنه فقد كان لا شك أطيب طعام
وتوالت الليالي وثلاثتهم في هذا البيت راقدون، ولعلهم كانوا يفكرون فيما صنع الله بأرواح من سبقوهم إلى هذه الملاءات وهذه الألحفة، أو لعلكم كانوا يفكرون هل من سبيل غير البعوض تنتقل به الحمى. . . ثم جاء ريد، وهو رجل يجمع إلى طهارة ذمته شدة دقته؛ وجاء كارول، وهو رجل كالح عبوس؛ جاء كلاهما يزيدان تجربتهما إحكاماً على إحكام.
فحملا معهما صناديق أخرى وردت من عنابر الحمى الصفراء، فلما فضها فوك وكوك وجرنجان فزعوا إلى خارج عجزاً عن احتمالها ولكنهم عادوا ورقدوا وناموا. . .
وقضوا على هذا عشرين ليلة! فأين ذكراهم لا تُخلَّد، ولِمَ صنيعهم لم يُمجّد! ثم نقلوا وعزلوا وحدهم في خيمة طلقة الهواء وانتظروا أن تأتيهم الحمى: ولكنها لم تأتهم، وزادوا وزناً وصحوا أجساماً وقرقعوا بالنكات على البيت القذر الذي شرفوه، وعلى ألحفته وملاءاته التي تلفعوا بها فيه. ولما جاءتهم الأخبار بان كيسنجر والأسبانيين أصابتهم الحمى ضحكوا ملء أشداقهم كتلاميذ المدارس أن تكون الحمى جاءت هذه الأجسام الكبيرة من عضة بعوضة صغيرة
قد يعجبك هذا البرهان إعجابا شديدا، ولكن أي تجربة فظيعة تلك التي ساقت إليه، على أنه لم يكف ريد فلم يرضه علمه ولم تقتنع به لوثته
فأعاد الكرة، فأدخل إلى تلك الحجرة ثلاثة آخرين من شباب أمريكا، وجاءهم بملاءات وألحفة جديدة القذر جديدة البشع وعلى هذا أنامهم عشرين ليلة؛ وأراد أن يزيد في رفاهيتهم فأنامهم في نفس الأقمصة التي مات فيها المصابون
ثم عاد بعد ذلك فأدخل ثلاثة شبان امريكيين آخرين في نفس هذا البيت، وأرقدهم فيه عشرين ليلة على نفس الأسلوب مع فرق بسيط زاد التجربة دقة: ذلك أن غطى ووسائدهم بفوط أُشربت قبل ذلك من دماء رجال ماتوا بالحمى
وبرغم كل هذا بقي كل هؤلاء الرجال التسعة أصحاء فلم تنلهم مسة ولو خفيفة من الحمى. قال ريد: (ما اعجب العلم؟).
وكتب: (إن الأسطورة الكاذبة التي تقول بأن الملابس تنقل الحمى الصفراء قد انفقأت كما تنفقئ فقاعة تخزها بدبوس). ولقد صدق ريد، فما أعجب العلم حقا! ولكن كذلك ما أقساه! وما أقسى صيادة المكروب! فهي قد تنزع من الباحث قلبه. وأخذ شيطان ريد الباحث يوسوس إليه:(ولكن أصادقة حقاً تلك النتائج التي أدت إليها تجاربك)؟ نعم إن الحمى لم تأت أيا من هؤلاء الرجال الذين ناموا في هذا البيت، ولكن ما أدرانا أنهم بطبيعتهم حصينون من الحمى، فهي لا تأتيهم أبداً؟ وكان ريد وكارول سألا فوك وجرنجان أمرا هو أقصى ما سأله ضابطا جنديا فأجاباهما إليه، ومع هذا فقد قام الاثنان من جديد فحقنا
جرنجان بدم وبئ أشد الوباء جاءا به من دم مريض، وقرصوا فوك ببعوض كان قرص مرضى ماتوا من الداء. فأصيب جرنجان وفوك بآلام جسام. واحتقن وجهاهما، واحمرت بالدم عيونهما، ونزلا وادي الموت ولكنهما عبراه سالمين. فحمد ريد ربه؛ حمده لخلاصهما، ولكنه حمده على الأكثر لما تبين له أنهما لم يكونا حصينين من الحمى لما باتا في بيت الكرب عشرين ليلة
ووهبوا كلا من فوك وجرنجان عن صنيعهما ثلاثمائة ريال، وهو مبلغ لم يكن صغيراً في تلك الأيام
(يتبع)
احمد زكي
بين عامين
أنا ونفسي. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . كنت نائماً ولكن قلبي لم ينم، بل كان يقظان يهزني لأفيق، ويغريني بشتى الألاعيب يلوح لي بها، ملفوفة بثياب الأحلام زاهية وكابية، سارة ومحزنة. . . فلا أحفل بها، فلما ضاق بي ذرعا، وضعني على حافة الهاوية، ودفعني. . . فأفقت فزعاً. . .
فإذا العام على وشك الرحيل!
نظرت من النافذة فإذا كل شيء أراه نائم؛ هذه النخلة التي تقوم حيال شباكي، وقبة الأعظمية التي تبدو من ورائها في عظمة وجلال، ودجلة التي تجري صامتة مهيبة، والقمر الذي يغسل ماءها بشعاعه. . .
وإذا على الطريق شبح يسير منهوكا!
على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل، ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء، ولا يخترق البساتين. . . ولكنه يلف السهل والوعر، والجبل والبحر، والصحراء والبساتين وكل ما تحتويه، ومن يكون فيها. .
على الطريق الطويل الذي يلوح كخط أبيض، يغيب أوله في ظلام الأزل، ويختفي آخره في ضباب الأبد. .
رأيت شبحاً يسير على. . طريق (الزمان)!
وسمعت صائحاً يصيح بالطبيعة: أن تيقظي، إن العام يرحل الآن!
ففتحت النخلة عينيها ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت عشرات مثله تأتي وتذهب، فلم تبدل شيئاً. . الفأس لا تزال باقية، وهذا الوحش البشري لا يزال ينتظر ثمري ليسلبنيه؛ ثم إذا قنط مني كافأني بالفأس والنار. . . فمالي وللعام الراحل؟
وأغمضت عينيها فنامت، ولم تكترث!
ونظرت القبة، فلما أبصرته قالت: قد رأيت مئات مثله تجيء وتروح، لم تبدل شيئاً؛ فهذا النخيل قائم حولي كما كان، والشمس تطلع عليّ كل يوم وتغيب، والنجوم تسطع فوقي كل ليلة، والأرض تنتظرني، تريد أن أهرم فتجذب أحجاري إليها وتأكلني. . وكل شيء على
حاله لم يتبدل إلا الإنسان: كان الخليفة يمشي تحتي، ويخطر بين أساطيني في حلل المجد وأردية الجلال؛ إن أمر أطاعت الدنيا، وإن نادى لبى الدهر، وإن مال مالت الأرض؛ وكان الناس يطيفون بي أجلة أمجاداً، عباداً أذلاء لله، وملوكا أعزة على الناس. . فأصبحت وحيدة منعزلة، لا أرى إلا هذه الفئات من العامة المساكين الذين تعروا من كل جاه إلا جاه العبادة، ومجد إلا مجد الآخرة. . فمالي وللعام الراحل؟ وأغمضت عينيها، وعادت تحلم، ولم تكترث!
وتنبهت دجلة ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت ألوفا مثله تمر في هذه الطريق فلم تعمل في الكون شيئاً، ولم تغير إلا الإنسان؛ كانت تقوم على شاطئ القصور الفخمة، تتوج هامها العظمة، ويحل أرجاءها الجلال، ويمثل في أبهائها المجد، ويقف على بابها التاريخ، يصدر عنها، ويكتب حديثها، وتبثق منها أشعة الحضارة والفن، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتومض في شرفاتها وأروقتها العمائم التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم. . . فلم يبق من هذا كله إلا أطلال، يريدون أن يطمسوا اليوم آثارها ويغطوا عليها بقبعة. . . ولكن ذلك لن يدوم؛ إن طريق الزمن لا يزال مسلوكا. . . ثم صمتت وعادت تجري كما كانت تجري ولم تكترث!
وأنصت القمر وأطل ينظر، فلما رأى العام الراحل قال: لقد رأيت ملايين مثله، وقد مللت مر السنين وكر العصور، فمالي وله؟ وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث!
وبقيت وحدي!
بقيت وحيداً. . فنظرت في نفسي:
لقد صحبت سبعاً وعشرين قافلة من قوافل الزمان. . . فهل اقتربت من آمالي؟ هل دنوت من الغاية التي أسعى إليها في سفري؟
ثم سألت نفسي: ما هي الغاية التي تسعين إليها؟ أتسيرين إلى غير ما نهاية، كلما مر عام تعلقت به فسرت معه حتى يضيق بك عام من الأعوام فيقذف بك إلى وادي الموت؟ ألا تعلمين إلى أين المسير؟
ولم تكن النفس ترقب مثل هذا السؤال، فاضطربت اضطراباً شديداً، وكثرت فيها الآراء، واشتد بين أعضائها الخلاف، ثم انشقت انشقاقا، وانقسمت أحزاباً، وانتثرت نفوساً
قالت النفس الأولى: الغاية يا صاحبي واضحة؛ إننا نسعى لخدمة هذا الجسم الذي نحمله، نحيا لنسد حاجاته، وإجابة رغباته، وإمتاعه بملذاته
قالت الثانية: خسئت أيتها (النفس الفاجرة!) إننا لم نسخر من أجل هذا العنصر الأجنبي؛ إن الجسم ليس منا
قالت الأولى: أفهو إذن من غيرنا؟ وقهقهت ضاحكة
قالت: اسخري من نفسك، إنه لو كان منا، لما عشنا إلا فيه ولم نعش بعده؛ إنه ثوب نلبسه ونخلعه، أفيكون الثوب جزءا من اللابس؟
قالت الأولى: إنني لم أفهم فلسفتك، أتزعمين أن يدي ورجلي ليستا مني؟
قالت: نعم إن المرء لو قطعت يده أو رجله، أو ذهب سمعه أو بصره، لا تنقص نفسه شيئا، بل لقد يكون الأعمى الأصم أكمل نفساً، وأقوى عقلا، وأسمى روحا، من السميع البصير؛ وإنك لتعلمين هذا، ولكنك (نفس سوء) تريدين الاستمتاع بشهواتك، ونحن لا نحيا لنيل الشهوات!
قالت الأولى: فلم إذن نحيا يا أيتها (النفس المفكرة؟)
قالت: نحيا لنكشف خبايا الوجود، لنستطلع طلع الكائنات، لنعرف نواميس الكون وأسرار الطبيعة. . . من أجل هذا نحيا
فانبرت لها نفسي الثالثة. . . فقالت:
- كنت أظنك عاقلة تفهمين وتعرفين، فإذا أنت جاهلة. ويحك! ما نحن والوجود؟ مالنا وللطبيعة؟ ماذا يعنينا أكانت المجرة نهراً في السماء، أم كانت مجموعة من الكواكب؟ وماذا ينفعنا أن يكون في المريخ ناس، أو يكون مقفراً لا ناس فيه؟. . . مالنا ولهذا الفضول؟
قالت الثانية: إنك (نفس شاعرة) تنكرين قيمة العلم
قالت: إن هذا العلم خسران لك يا حمقاء! إنك كنت ترين في الكسوف حادثاً غريباً مليئاً بالأسرار يبعث فيك عالماً من العواطف، فلما علمت انه حادث طبيعي: كوكب يقوم بحذاء كوكب، ضاع معناه، وانتفت أسراره، ولم يعد يثير فيك عاطفة، أو يهيج فيك حسا
قالت الثانية: وما قيمة العاطفة؟ أتريدين أن ندع العلم من اجل عاطفة؟
قالت الثالثة: لا. بل تعلمي، ولكن تعلمي ما تحتاجين إليه؛ العلم دواء يؤخذ بمقدار الحاجة،
ولكن الشعور غذاء لا يستغنى عنه، فنحن نحيا لنرى الجمال ونستمتع به، ونتذوقه في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفن. . . من أجل هذا نحيا
فوثبت النفس الرابعة (النفس المؤمنة المطمئنة) فقالت: يا للسخف!
قالت الثالثة وقد غاظها ما قالت: أي سخف ترين من فضلك؟ إذا كنا لا نرى الجمال فلم نحيا؟
قالت الرابعة متهكمة: كأنك تحيين الآن! إنك يا سيدتي سجينة فاسعي لتتخلصي من قيود السجن، ثم انطلق في فضاء الحرية، فعيشي في الحياة الأخرى: حياة الانطلاق
ورأيت المناقشة قد طالت وغدت مملة، وتشعبت فيها الآراء فأسكتهن ورجعت أفكر وحدي
قلت: إنني لا أدري لماذا أحيا؟ ولا أعرف ما هي صلتي بالكون!
كنت أنظر إلى الدنيا من خلال الكتب، وأشرف عليها من نافذة المدرسة، فأراها صغيرة كقبضة الكف، فحسبت أني إذا خرجت من المدرسة وحزت الشهادة قبضت عليها بيدي
وعشت بهذا الأمل، فلم أعرف حقيقة الحياة، ولم أعد لها العدة، ولم أجد من يخبرني خبرها إلا هؤلاء الأساتذة، وهم قوم مخادعون، لا يبصرون التلميذ بالدنيا كما هي في ذاتها، بل كما يريدون هم أن تكون. . .
وخرجت من المدرسة، وهبطت من سماء الخيال إلى ارض الحقيقة، فإذا الطريق مزروع بالشوك؛ فانطلقت امشي وأجاهد بهمة الشاب القوي الطموح، فما قطعت من الطريق إلا قليلاً حتى وجدت هذه (الطفيليات البشرية) تتعلق بكتفي وتستمسك بي، حتى إذا دنوت من أول منزل وهممت أن أستريح فيه وثبت فسبقتني إليه، فسرت أجاهد وأتقدم أؤم منزلاً آخر، حتى هدني التعب، ونال مني النصب، ولم أصل إلى شيء
ولاح لي فجأة قصر عظيم على جانب الطريق، تلمع قبابه المغشاة بالذهب، وتشرق جدرانه المغطاة بالفضة، وتضيء نقوشه وزخارفه في شعاع الشمس، ويقرأ على بابه بأحرف من النور:(هذا قصر اليأس) فراعني مظهره، وهممت أن أحيد عن الطريق فأدخله، ولكني نظرت إليه أولاً، فإذا هو موحش مظلم في وسطه قبر مفتوح مملوء بالأساود والأفاعي. . . وإذا هو خال من البشر، ليس فيه إلا جماعة الشعراء البائسين، يعدون قصائدهم لتدفن معهم في هذا القبر الأسود فلا يدري بها أحد. . .
فوليت هاربا، وآثرت العودة إلى مقارعة الشوك، وجهاد الحياة
عدت فقارعت وجاهدت، فلم أصل إلى شيء. . . فسألت نفسي: هل أيأس؟
سألتها وحدثتها، ولكني جهرت بالحديث، فأيقضت النائمين. . .
أطلت علي النخلة؛ فقالت: إلامَ تجاهد وتناضل؟ ماذا تريد أيها الرجل؟ ألا تقنع مثلي بأن تقف في مكانك حتى يأتيك الموت؟
قلت: لا. إن لي غاية واحدة، هي أن أبقى دائما أجاهد وأناضل!
فضحكت وقهقهت أوراقها، وعادت إلى منامها
ومدت القبة رأسها فقالت: ألا تنام مثلي أيها الفتى وتحلم؟ لماذا تعدو في طريق القبر؟ قلت: إني أحب أن اصل إلى القبر لأني سأخرج منه إلى الفضاء الواسع؛ سأخلع فيه ثوبي الجثماني ثم أنطلق صُعُدا
فذهبت وهي تحدث نفسها: ينطلق صعداً؟ أنا هنا منذ ألف ومائة سنة ولم انطلق صعداً، ثم رجعت إلى المنام
وقالت دجلة وقد صفق لي ماؤها سروراً:
- امض أيها الغلام امض؛ إن طريقك طويل، ولكنك قوي؛ إنك لا تمشي إلى القبر لتفنى، ولكن تدخل من باب القبر إلى عالم الخلود، هأنا قد بلغت من العمر سبعمائة وخمسين ألف سنة، ولكنك قد ولدت بعقلك قبلي، وستعيش بروحك من بعدي. . . انطلق. . . انطلق إلى حياة الخلود؛ إنك ستبقى بعد أن تموت الجبال، وتغرق البحار، ويختنق الهواء. . . وتدفن الصحراء!
وأمن القمر على كلامها، وأطلَّ عليّ من النافذة فصافحني بشعاعه وقال!
لقد صدقت! إنك تعيش ألان لتعد العدة للحياة. . . إنك ستحيا حقاً حين تنطلق من قيود الجسم
ثم صمت. . . وصمت!
وكان العام يقطع اللحظة الأخيرة. . . فصحت به:
أنا الذي يهتم بك أيها العام. . . أنا الذي يودعك ويستقبل غيرك، لا النخلة ولا القبة ولا دجلة ولا القمر. . . تلك للفناء، وأنا للبقاء. . . تلك تنتظر الموت، وأنا انتظر الحياة. . .
أنا امشي على هام السنين إلى الحياة الأخرى!
(بغداد)
على الطنطاوي
بَنانٌ على بيان (البيانو)
للشاعر العالم الراوية الأستاذ أحمد الزين
ضَربتْ على وَتَر الحنانِ
…
نفسي فداؤك من بنان
وشدَت بعاجٍ من أنا
…
مِلِها على عاجِ (البيانِ)
مرّت عليه مثلما
…
مرّت على القلب الأماني
أو مثلما مرَّ الخيا
…
لُ يعيدُ لي ذكرى المغاني
وأفتن في سحر النُّهى
…
شدُو الأنامل وَاللِّسان
وهفاَ بلُبِّكَ في أفا
…
نين الصبابة ساحران
رنّات ساحرةِ الغِنا
…
ء تجيبُ رنات المثاني
بثت إلى الأوتار من
…
حرَ الصبابة ما تعاني
كم أودعت ألحانَها
…
في الشوق من سحر المعاني
فتحِسُّ أوتار (البيا
…
ن) وَقلبها يتشاكيان
لم يعرف الحبَّ المبَّر (م)
…
ح مثلُ أفئدة الغواني
فلُرب حابسةِ الدُّمو
…
ع وَدمعها في الصدر قاني
حبس الحياءُ بكاءها
…
فبكت بترجيع الأغاني
نشرت صحيفة لحنها
…
رمزاً يدق على البيان
رمزوا إلى ألحانهم
…
صوناً لها عن الامتهان
وَاللحن من سرِّ الملا
…
ئك غير مبتذل الصيان
وحي تنزَّل من سما
…
ءِ قريحة ذات أفتنان
تنسي الوقورَ وقاره
…
طرباً وَتمضي بالجبان
وتخالُ بالأوتار نا
…
رَ الشوق تُضرمها اليدان
لاقت أنامِلها (البيا
…
نَ) كما تلاقى عاشقان
يتضاحكان من السرو
…
رِ وَفي الأسى يتباكيان
في نفْحة أْحسَسْت من
…
طرب بها طَرب المكان
وَتجاذَبَا ذِكر الهوى
…
وحديث أيامٍ حِسانِ
وَليالياً طابت وَأث
…
مارُ المنى فيها دواني
ومجالساً هبطت إلى الد
…
نيا بها عُليا الجنان
زَمن تولى صفوه
…
أيعود صفوك يا زماني
آناءُ لهوٍ خلّفت
…
حزناً عليها كل آن
لم أنسها يا صاحبْي
…
وُدي ولكن ذكِّراني
إني لُيطربني الحدي
…
ث وَإن ملأت بها جناني
زيدا فؤادي لوْعة
…
لا تطعما أن تسلياني
من لم يذق ألم الحيا
…
ة قضى سِنِيها وَهو فاني
(احمد الزين)
هدى النفس
بقلم العوضي الوكيل
يا هُدَى النفس بعد طول ضَلال
…
لا تزالين لمْعَةً في خيالي
أتملاكِ في خياليَ طيفاً
…
بالغ السحرِ، عبقريَّ الجمالِ
وٍكأني أراك باسمةَ الثغ
…
ر تجيبين لوعتي وَاشتغالي
نحن روحان عاشتا قبل هذا الكو
…
ن، في عالم رفيع الجلال
ينكر الناس منهُ صورةَ ما تش
…
هدُ عين الهوى، وَلسنا نُبالي!
أنا هذا الفتى المثالِيُّ في التسع
…
ر، وأنت - الحياةَ - أسمى مِثال
العوضي الوكيل
الفنون
بيتر باول روبنز
الفنان الخالد
للدكتور أحمد موسى
إذا قيس قدر الفنان بعمله، وفنه بحسن اختياره، ومجده بتراثه، فأنك تجد روبنز في عصره إمام الفنانين، وحجة العارفين، لأنه الفنان الذي عاش لفنه، وشعر بالجمال فيما حوله، وبحث وراء المثل الأعلى في كل ما صادفه. صور الجمال فأبدع، والطبيعة فأحسن، والحياة فأجاد. صور القصص التاريخية والدينية فأوضح، والشخصية فعرف؛ لا تجد فيما ترك مجالاً للنقد، ولا بين ما أختار موضعاً للزلل
هذا هو روبنز الذي ولد في مدينة سيجين سنة 1577، وانتقل في صحبة والديه وأخوته إلى كولونيا سنة 1578 وبقى فيها إلى سن العاشرة ثم تركها إلى انتفرب سنة 1588. تمتع بقسط وافر من التربية الراقية التي لم تكن دائماً متوفرة لغيره من الفنانين، ودان بكثير من درايته بالتاريخ العام والتاريخ الديني إلى المدرسة الكاثوليكية بانتفرب
شب روبنز مولعاً بمشاهد الطبيعة، موهوبا حدة النظر ودقة الملاحظة، له نظر سجل كل ما رآه؛ انجذب نحو الجمال، وتعطش إلى الخلود، وهام بالكمال المطلق
لم ير روبنز المثل الأعلى بين الموجودات، ولكنه ظل في خياله السامي، فعبر عنه جهد طاقته في تراثه المجيد
استمد من الطبيعة مادة التعبير والتصوير، فاستطاع إظهار ما انطوت عليه عبقريته وما جال بخاطره. كان من هذه الناحية عبداً للطبيعة، ولكنه فاز في النهاية بدرجة الوصول فكان سيدها، لأنه استمد منها مادته، ووصل بها إلى ما لم تصل هي إليه من تسام، إن قدر لنا أن نتأمله ونفهمه ونتأثر به، وصلنا نحن أيضاً بمشاعرنا إلى كمال الاستمتاع
كان أول معلميه للمناظر الطبيعية توبياس فيرهجت الذي وصل صيته إلى إيطاليا، كما كان أدم فان نورت معلمه لتصوير الأجسام والمناظر الشخصية؛ أما معلمه للفن والألوان فكان اوتوفان فين
لاحظ فيه معلموه نبوغا ظاهراً، فكانت دروسهم له أشبه بتعاريف أولية لأصول سير العمل، أما هو فقد نهج في اقصر وقت منهجا سار عليه وعرفت روحه فيه، وظل بعد مائة عام يؤثر في الفن الفلامنكي تأثيراً عميقاً إلى أقصى حد
شاءت المقادير لروبنز أن يسافر إلى إيطاليا سنة 1600، وشاءت المقادير أن يلحق بخدمة أحد أمرائها الذي كان من كبار عشاق الفنون الجميلة في مدينة مانتوا، فشاهد روبنز لدى الأمير حيناً وبوساطته حيناً أخر أحسن ما أخرجته قرائح الفنانين الإيطاليين وغير الإيطاليين
لم يكن لروبنز إلا الانتقاد والتأمل، فكان في حالة من البؤس النفسي شبيهة بحال الفيلسوف المتصوف؛ لم يقنع بما رآه، ولم ير شيئاً عده كاملاً؛ ولذا فقد عمل مكملاً، وصل إلى ما صبت إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت من نفوس المجموع بدقة التأمل وبالدرس. وبقوة الملاحظة وبالتغلغل في كنه المرئيات، وأخيراً بالقدرة اللانهائية على تفهم الجمال
وبقدر تفانيه في التصوير كان عاشقاً لسماع الموسيقى ولعزفها، كأنه يقول إن مصدر الفنون واحد، وإن الفنان الكامل لابد له من دراية بالفنون الأخرى لزيادة الاستمتاع بما في الحياة من مكنونات لا يصل إليها إلا العارف
تراه أيضاً ألمّ بأصول الكيمياء لرغبته في الوقوف على سر صناعة الألوان
سافر كثيرا، وتأمل كثيرا؛ لم يترك لحظة تمر دون النظر والدرس، باحثاً عن الجمال أياً كان نوعه، وحيثما كان وجوده. كان لرحلته إلى أسبانيا تأثير في نفسه لم يقل من اثر رحلته إلى إيطاليا التي استطاع أن يعرف الفن القديم والفن المعاصر أثناء إقامته بها
وتدل كراسات روبنز ومذكراته الخاصة على أنه كان كثير التدوين والتسجيل والنقل والاقتباس، لا للتقليد بل للإلمام، شأن العالم الجهبذ؛ فتراه ينقل قدماً لتمثال استماله، ووعيناً من صورة استهوته، وذراعا ورأساً من أخرى، فكان جباراً في اختياره عنيفاً في نقده
خلق روبنز فنا قائما بذاته ومدرسة عرفت باسمه، بعد أن شاهد الكثير من أعمال فناني إيطاليا، وتأثر إلى حد بعيد بميشيل أنجلو وروفائيل وتيتسيان وكراتسي، كما أن بعض لوحاته تمت بصلة إلى جيليو رومانو الذي شاهد صوره عندما أقام في مانتوا
أشبع نفسه الفنية، فعرج بعد عودته من إيطاليا على دراسة الألوان ودرسها درساً وافياً،
فكان له في صوره لون اسمر قوي، وظلٌ ازرق رمادي عُرفا بعده باسمه
أقام في بروكسل حيث تزوج من ايزابيلا برانت سنة 1609 وبنى بيتاً خاصاً لأقامته كان متحفا لآيات الفن ومدرسة لتلامذته، أمثال فان دايك، وفان تولدن، وكورن، وارسموس كويللينيوس، وجان فاندن هوك، وتوماس فان ايبرن، وساللارت، وفوتز، ودل مونت، وولفوت
وكل هؤلاء كانوا خير معين له على إتمام أعماله، فكان غالباً يضع التصميم والرسم التخطيطي ويترك لهم القيام بالتنفيذ تحت إشرافه، كما أنه كان المخرج الأخير لكل صورة
على أن فان سيندر وباول دي فوس كانا قديرين إلى حد أن سمح لهما بتصوير بعض الحيوانات في مصوراته
أما لوكاس فان آدن وجان وبلدنز فكانا يصوران أجزاء على لوحاته الشاملة للمناظر الطبيعية، كما كان جان بروجل يصور الزهور
ولا يعد هذا نقصا في مقدرة روبنز ولا تقصيرا منه، لأنه كان في ذلك أشبه بأستاذ يدير معهداً للأبحاث يساعده فيه تلامذته
والمجال لا يسمح هنا بوصف كل تراثه الخالد الذي بلغ ألفي قطعة من روائع الفن موزعة على متاحف العالم، ولكنا نقتصر فقط على وصف ما جاء من صوره بهذا المقال
فالصورة الأولى (الخاطئون أمام المسيح) تمثل يسوع واقفا وحول رأسه هالة من نور، أمامه امرأة خاطئة تقف منحنية بخشوع والدمع منهمر من عينيها تلتمس المغفرة عن الخطيئة، وحولها ثلاث رجال ظهرت على وجوههم علائم الندم والألم لما فرط منهم، لأنهم أمام رسول الله الذي ينظر إليهم نظرة العطف والسمو
والصورة الثانية (إنزال الجسد من الصلب إلى الأرض) تراها مجموعة رائعة من تسعة أشخاص لا تجد بينها واحدا خرج عن دائرة الاندماج وتكميل الشخصية الكاملة للصورة. انظر إلى طريقة ووقوف القديسات واشتراكهن في حمله، ولاحظ ما ارتسم على وجوههن من علائم الألم والحزن. أليس هذا الإنشاء الكامل دليلا على قوة المعرفة بالقصص الدينية والعبقرية الفنية في الإخراج؟
وصورة مادونا القديس إلديفونسو تمثل العذراء جالسة على عرش وفوق رأسها ملائكة
ثلاثة في هيئة أطفال بأجنحة يحملون الأزهار، وحولها وقفت أربع قديسات ينظرن إلى القديس الدفونسو وهو راكع أمامها، وهي في مجموعها تبين إلى حدٍ بعيد نبل الإخراج وقوة التعبير. وإذا تأملنا وجوه هذه القديسات وملابسهن نراها تعطينا فكرة صحيحة عن ناحية القوة البنائية في إنشاء روبنز
أما الصورة الرابعة (حكم الراعي باريس) فهي توضح لنا إلى أي حد وصل علم روبنز بالتاريخ القديم وبالقصص الإغريقي؛ فباريس هذا كان شاباً وديعاً يرعى الغنم، صادفه في طريقه ثلاثة آلهة هن هيرا واثينا وافروديت في هيئة نسوة غاية في الجمال، وسألنه أن يعطي التفاحة التي بيده إلى أجملهن منظراً. فأجاب باريس سائلاً ماذا يكون جزاؤه؟
وعدته هيرا بأن تمنحه الملك والغنى - وأثينا بمنحه الحكمة والشهرة - وأفروديت بأجمل النساء على الأرض إطلاقاً! تريث باريس وأخيراً أعطى تفاحته إلى أفروديت (راجع إلياذة هومير 28: 24)
أنظر إلى باريس وهو يمثل التريث والحيرة في الاختيار؛ ثم انظر إلى كل واحدة منهن ثم إليهن جميعاً، فكل واحدة أبرع من الأخرى جمالاً، ثم لا تلبث أن يستلفت نظرك ما فيها من قوة لا تزال إلى اليوم مطمح الفنانين
فكر قليلاً في العصر الذي مثل فيه روبنز هذه القصة الإغريقية الخرافية! أليس عجيباً أن يوفق روبنز إلى هذا الحد الذي يدعو إلى الدهشة والاستغراب؟ ألا تراه وفق كل التوفيق في تصوير هذه القصة الرائعة؟ أعطى تفاصيل الجسم كل عنايته، فكانت أية في جمال التناسب وعظمة الانسجام. لا ترى للتكرار فيها أثراً. إن متحف مدريد يحسد حقاً على احتوائه هذه التحفة الفنية، ولعل الحرب الداخلية لا تكون سبباً في أن يتسرب التلف إليها كما تسرب إلى غيرها في هذه الأيام بأسبانيا
وتعد لوحته الممثلة لأحد مواقف رواية اشيللوس تاتيوس في القرن الخامس قبل المسيح والمسماة لوسيبوس وكليتوفون من أروع وأبدع اللوحات
أنعم النظر إلى مظهر المرأتين المخطوفتين وإلى ما ظهر عليهما من علائم الوجل والتوسل، وكيف استطاع روبنز أن ينفث فيها من روحه وعبقريته، وتأمل كيف ينظر الحصانان إلى هذا الموقف الخطير كما لو كانا يتحفزان للهرب، ثم إلى قوة عضلات
الرجلين الخاطفين
إن مجلداً ضخماً لا يكفي للكتابة عن روبنز الخالد، ولكنا مع هذا استطعنا أن نعرف بعض ما سجله تاريخ الفن له
دكتور أحمد موسى
القصص
البنتُ سرُّ أمها
(لشولتو دوجلاس) و (فوجان بيسكو)
ترجمة محمد عبد الفتاح محمد
مالت السيدة (بولا بار فيلد) في مقعدها الوثير إلى الوراء فبان جيدها العاجي الأبيض ينم عن أنوثة ناضجة وفتنة ساحرة
وأخذت ترنو إلى سقف الغرفة بعينين ساجيتين وقد غربت عن بالها لفافة التبغ التي استوت بين أصابع يدها البضة الجميلة المستندة على ذراع المقعد
كانت تحلق في أجواء الخيال تبحث عن حيلة تحوك خيوطها وهي التي قد بلغت السابعة والثلاثين من عمرها - ولم تجنح إلى تدبير الحيل واستنباط الوسائل. لأن وسامة محيياها كانت أحبولة كافية لجر المغنم ونيل المقصد. . إلا أن توالي الأعوام لم يدع من فتنة وجهها شركا يقوى على اصطياد الفرائس. . بل رأت أن شحذ الفكر وتدبير الحيل خير عون لها ألان على نيل ما تصبو إليه النفس وما يتمناه الفؤاد. . بعد أن الفت أن نجاحها عن طريق لحاظها الفتاكة قد تعثر في كثير من المواقف
كانت تقنع إبان حياتها المدرسية بالبنسات لشراء الحلوى راضية بعطف معلميها ومعلماتها. غير أن الثناء الذي كان ينصب على جمالها انصباباً والمديح الذي كان ينهال على فتنتها انهيالاً. حولا وجهها إلى أصدقائها الشبان فأنصتت لهم وهم يترنمون بهزج الهوى في أذنيها ويرتلون أية الحب على مسمعيها. . مالت إليهم بكليتها. وتقبلت منهم الهدايا على اختلاف صنوفها
ولتلك الخطة الزرية عثراتها وأخطاؤها. فما بلغت الثامنة عشرة من سنيها حتى تزوجت من رجل فقير أهاب بها قلبها القُلَّبُ أنها تحبه وتهواه
وكان زوجها هذا رجلاً هادئ الطبع، وديعاً جميلاً، خاملاً مغموراً، لا يهمه من دنياه سوى أن يملأ بطنه ليعيش. لذلك أخذت هي تدبر أمور الحياة لها وله ولابنتهما التي خرجت مبكرة إلى عالم الوجود بعد الزيجة بتسعة أَهِلة
ولم تحس بأي إحساس من الحزن عندما قضى بعلها نحبه بعد ثلاث سنين من زواجهما. بل انبسطت أساريرها، وسرت لزوال تلك العقبة الكؤود التي كانت تقف حائلاً بينها وبين أمالها وأمانيها
كذلك لم تكن بالمرأة التي ترى أن الشرف في الحياة هو العمل على تحصيل القوت من سبله المشروعة، بل كانت من النساء اللواتي يسلكن أي سبيل للوصول إلى الحياة الرغدة الهانئة؛ ولا غضاضة في أن تهب جسدها متعة لمن يشاء مادام يجر عليها ذلك ما ترغب من أطايب العيش ولذائذه. ولذا عهدت بطفلتها إلى مرضع، ثم إلى مربية، ومن ثم إلى مدرسة داخلية، واتبعت أهواءها وما تمليه عليها رغباتها ومطامعها. راحت تخبط في ذلك العالم العابث الصاخب مع من يقع في يدها من الرجال
ولما أتمت ابنتها الثانية عشرة ألحقتها بمدرسة خارجية، ثم بأخرى، ومضت لا تعنى بتتبع أخبارها، ولا تهتم لترسم خطواتها؛ فكان لهذا ابلغ الأثر في إفساد الفتاة وإتلافها إلى أن بلغت الثامنة عشرة فبدت جميلة فاتنة. . . ففكرت أن تسلخها من دور العلم وأن تبقيها في المنزل، إلا إنها الفتها منافساً خطراً وأليفاً ينقص من قيمتها في سوق الجمال
ولا ننكر إنها كانت تنظر إلى ابنتها كمجرد طفلة، ولكن عندما تكون المرأة في السابعة والثلاثين، وترى نفسها تبدو كأنها في السابعة والعشرين، لا ترضى بأية حال أن تكون لها ابنة حسناء فاتنة في الثامنة عشرة
وكانت الابنة حقاً فاتنة، ولم تكن تلك الحقيقة لتغيب عن المرأة. . . غير إنها كانت تبدو دائماً دمثة الأخلاق مهذبة. . . ولم تبدر منها طوال حياتها أية بادرة تؤخذ عليها، بل كانت تعامل أمها بما كانت تتلقنه من ضروب الأدب وحسن الأخلاق
وفتح الباب آنئذ ودخلت الفتاة تقول لامها في صوت ثابت رزين مشوب باحترام شديد:
- لقد أفرغت حقيبتي يا أماه. . . هل آخذ (بوجو) إلى الحديقة لنتنزه قليلا؟
يا للجمال الرائع! ويا للحسن الخلاب! كانت طويلة القامة في مهابة وجلال، ناضجة الأنوثة، مستكملة لكل معاني الجاذبية
وجابهت المرأة الحقيقة المرة، وصدمتها الرؤيا الحقيقية القاسية. . . روعتها تلك المنافسة الخطرة. . . رأت من غير جهد جاذبية قوية وجمالاً باهراً، فأحست بنيران الغيرة تضطرم
بين ضلوعها، وكرهت فيها. . . في ابنتها ذلك الجمال المغري الذي اكسبه رداؤها المدرسي البسيط روعة وجلالا
ورنت إليها وأخذت تحدث نفسها قائلة: (إنها ساحرة. . . تانك العينان الزرقاوان الصافيتان، وتلك الأهداب الوطف الناعسة. لقد كنت وأنا في مثل سنها أبدو كما تبدو، مغرية فاتنة، بذلك الشعر الذهبي المتهدل في إهمال حبيب على جبينها الأبيض المشرق، وبهاتين الشفتين الحمراوين اللتين تغريان بالقبل. إنها بهذا الحسن الفتاك، وبهذا الجمال الغلاب، تبدو كإحدى ربات الجمال القديمات)
وأخذت كل من الأم وبنتها تنظر إلى الأخرى في صمت وسكون. . . في حين كانت تنتاب المرأة شتى العوامل والأفكار وهي تتفرس في ابنتها البريئة. . الطاهرة. . والفاتنة أيضاً
وكانت الفتاة مازالت في وقفتها تنتظر رد أمها على سؤالها ولكن تجاهلت المرآة ذلك وقالت كأنها تنتزع الكلام من حلقها انتزاعا
- سوف لا تذهبين إلى المدرسة بعد ألان يا عزيزتي. فماذا اعتزمت أن تفعلي بنفسك بعد ذلك؟
- لست. . . لست ادري بالضبط. . . وأظن انه يجدر بي أن. . أن أبقى هنا بجوارك. . أني احب ذلك من قرارة نفسي. وعلى كل. سأتبع ما تشيرين به عليّ
- أضنك سئمت المدرسة؟ إذ قد تركتك فيها زمنا طويلاً
- لقد كانت جد سعيدة والله يا أماه. . . وقد ارتبطت بأواصر الصداقة مع كثيرات
ودق جرس التليفون، فرفعت المرأة السماعة، ثم قالت تحدث مخاطبها:
- أهذا آنت يا (فريدي؟) لقد ضننت أنك لن تعود إلا في الغد. . . ماذا؟. . . اجل. . . ساكون على أهبة الاستعداد في تمام السابعة لتناول العشاء معا. . . إلى اللقاء يا حبيبي. . .
ثم وضعت السماعة مكانها وعادت إلى مقعدها تفكر، وغرقت فيه وهي لا تزال في تفكيرها؛ غير أنها بعد لحظة ضربت بيدها فجأة على ذراع المقعد، ثم رنت إلى ابنتها وهي تقول:
- تعالي واجلسي يا عزيزتي. . . إن لي حديثاً معك
فجلست الفتاة قبالتها وتفرست فيها أمها فترة طويلة وهي صامتة؛ ثم خرجت من صمتها أخيراً وآخذت تسرد عليها تاريخ حياتها في شي من الإسهاب. . . مالت إلى الخلف في مقعدها وقصت عليها تلك الأسباب التي دفعت به إلى هذه الطريق الوعرة التي تنساب فيها، وتلك الحياة الشائكة التي تحياها
وعندما انتهت من قصتها خيم على الغرفة صمت رهيب أطرقت أثناءه الابنة وأخذت تنظر إلى الفرش الثمينة التي ازدانت بها أرض الغرفة
غير أن الأم استأنفت تقول:
- وها أنت ترينني وقد بلغت السابعة والثلاثين من عمري، فإذا كنت ترغبين في حياة رغدة هانئة فدعيني اشق لنفسي الطريق التي أراها أجدى لنا وانفع
فرفعت الفتاة رأسها في سرعة وقد شع من عينيها الزرقاوين بريق غريب لم تستطع الأم أن تدرك معناه
فترددت المرأة طويلاً قبل أن تتابع الحديث. وساءلت نفسها. . ترى هل أدركت ابنتها معنى ما قصته عليها. . إنها تجلس أمامها هادئة رزينة، في تأدب واحترام كطالبة صغيرة ساذجة واستطردت قائلة:
- والآن، هل فهمت ما أرمي إليه؟ وهل تفقهين ما أبغي إذا قلت لك إنه يتحتم عليك الخروج من الميدان ردحاً من الزمن؟ فهناك رجل جديد. رجل غني واسع الثراء. . . وإني أحوك حوله شباكي هذه المرة. لا لشيء سوى أن اقترن به. إني أعمل يا ابنتي كي أوفر لك، ولي أيضاً أسباب السعادة والهناءة. وسوف يأتي هنا هذا المساء. فيجب ألا تظهري أمامه. . . وليس ذلك لأنك تظهرين حقيقة عمري فحسب، بل لأني أيضاً لا أستطيع الثبات بجمالي أمام سحرك؛ وليس هناك من الرجال من يقوى على رؤيتنا معاً - أنا وأنت - في غرفة واحدة دون أن يفتنه حسنك
فهبت الفتاة واقفة بغتة وهي تقول صارخة:
- أمي!!
واختفت دلائل الطهارة والبراءة والأدب الجم والحياء الشديد، اختفت كل تلك الدلائل وحل محلها بريق غريب في العينين الزرقاوين. تبدلت بضحكة ثائرة صاخبة تحشرجت في
حنجرتها المتهدجة الحنون
ألقت بنفسها على حجر أمها ثم طوقت عنقها بذراعيها واستطردت تقول:
- أمي. . . أمي العزيزة. . كم. . كم أنا سعيدة! كم أنا فرحة هانئة؛ إنك طيبة القلب جداً؛ لطالما أعجبت بك إعجاباً شديداً؛ إنك حياتي يا أمي؛ إني احبك حباً هائلاً؛ وساكون لك أكبر عون على نجاح خطتك. . . هيا أعطيني (شلنين) لأذهب إلى (السينما) وسأبقى خارج الدار حتى يرحل عنها رَجُلُكِ. . ومن ثم ننظر في باقي الأمر عندما يسفر الصبح. . ويا حبذا لو أمكنك بسلاح جمالك وقوة سحرك أن تجعليه يهبني سيارة صغيرة ذات مقعدين. . . سيارة سباق زرقاء بجوانب حمراء. . يا لسعادتنا! يا لطالعنا المجدود!
فلهثت الأم وهي تقول:
- ابنتي!!
فقالت الفتاة العصرية الساحرة:
- ماذا علينا لو فعلنا ذلك ما دمنا نود رغد العيش؟. يا ترى هل سنشرب (الجن) و (الفيرموت) الإيطالي!؟
محمد عبد الفتاح محمد
بالمساحة والمناجم
البريد الأدبي
العيد المئوي لمعهد مصري جليل
كان الاحتفال بالعيد المئوي للمدرسة الخديوية حادثا فريداً في تاريخ مصر الثقافي والاجتماعي، فقد انقضت مائة عام كاملة مذ قام هذا المعهد الجليل ليعنى بالثقافة الإعدادية أو الثانوية؛ وكان قيامه في سنة 1836 في أبي زعبل مكان مدرسة الطب القديمة، ثم الحق بعد ذلك بمدرسة الألسن الشهيرة التي كان مقرها مكان فندق شبرد الحالي، والتي كان مديرها العلامة الشهير رفاعة رافع بك الطهطاوي؛ ثم اعيد بعد ذلك إلى أبي زعبل، ثم إلى بولاق، ثم إلى العباسية، واستقر أخيراً في بنائه الحالي بسراي فاضل باشا بدرب الجماميز منذ سنة 1888، اعني منذ ثمانية وأربعين عاما، وأطلق على المعهد اسم (المدرسة التجهيزية) إشارة إلى مهمتها في أعداد الطلبة للالتحاق بالمدارس العالية أو الخصوصية كما كانت تسمى في ذلك الوقت؛ ثم أطلق عليها اسم المدرسة الخديوية أيام إسماعيل باشا، وكان التعليم فيها داخليا مجانياً حتى أواخر القرن الماضي
وقد أنجبت المدرسة الخديوية خلال عمرها الطويل الحافل ثبتاً باهراً من العلماء والعظماء والزعماء في كل ضرب وفن، وزودت مصر الحديثة بمئات من أبنائها البررة الذين عملوا على تقدمها، وشادوا نهضتها الحديثة، وقادوها في مختلف نواحي حياتها العامة، وسهروا على مصايرها وتسديد خطاها طوال هذه الحقبة المليئة بالحوادث والخطوب من تاريخها. والمقام أضيق من أن يتسع لتعداد هذا الثبت الباهر؛ ويكفي أن نذكر أن صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا زعيم مصر المستقلة هو من خريجي هذا المعهد الجليل، وان أكابر رجال الدولة الآخرين الذين شهدوا الاحتفال بصفة رسمية كرئيس مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس النواب، ووزير المعارف كلهم من خريجيه، وان منهم أعلاما ساطعة كأميري الشعر الحديث صبري باشا وشوقي بك، وإمام الوطنية المصرية الشاب مصطفى باشا كامل
وكان الاحتفال بالغ الروعة والجلال؛ وقد بدئ في اليوم الأول، وهو يوم الاثنين الماضي بإقامة حفلة رياضية شائقة في النادي الأهلي اشترك في مباراتها كبار الرياضيين القدماء من خريجي الخديوية؛ وكان منظراً شائقاً مؤثراً أن ترى أولئك الكهول الذين شابت
نواصيهم وصلعت رؤوسهم يرتدون ثياب اللعب القديمة فرحين جذلين، ويلعبون متأثرين متحمسين؛ ثم أقيمت في المساء بدار الأوبرا الملكية حفلة تمثيلية موسيقية؛ وفي اليوم التالي أقيم الاحتفال الرسمي الكبير في سرادق فخم رحيب نصب في فناء المعهد القديم، واحتشد فيه آلاف من خريجي الخديوية؛ وانتظموا جماعات يجمع بينها عهد التخرج؛ وكان لقاء الخريجين بعد هذا البعاد الطويل مؤثراً، وكان بعضهم يعانق بعضا في مظاهر من الحنان المشجي، ألقيت في الاحتفال خطب رنانة، اشترك في إلقائها وزير المعارف، رئيس الوزراء، ورئيس مجلس الشيوخ، وناظر المدرسة الحالي وبعض الخريجين
وبعد أن قام مندوب جلالة الملك بوضع الحجر الأساسي بفناء المعهد الجديد اختتم الاحتفال بمنظر بالغ في الطرافة والروعة، إذ هرع المدعوون جميعا وفي مقدمتهم مندوب جلالة الملك والوزراء والعظماء والخريجين على اختلاف أعمارهم ومراتبهم إلى قاعات طعام معهدهم القديم، وجلسوا جميعا يتناولون الشاي والفطائر على موائدهم الخشبية القديمة عارية كما عرفوها أيام الدرس، فكان لذلك منظر مرح ومؤثر معاً
بول بورجيه بالعربية
ظهرت أخيراً ترجمة عربية لأثر من الآثار الغربية الخالدة هو قصة (التلميذ بقلم بول بورجيه الكاتب الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمية الفرنسية؛ أخرجها بالعربية الأستاذ عبد المجيد نافع المحامي. وقد ظهرت القصة لأول مرة في سنة 1892، وبورجيه يومئذ في عنفوان شبابه، فنالت نجاحاً عظيما، وحملته إلى الطليعة بين كتاب العصر، ومهدت لدخوله بعد ذلك بعامين في الأكاديمية الفرنسية وانتظامه في سلك الخالدين. ويعتبرها البعض أعظم قصصه، وأمتنها أسلوباً، أوفرها امتناناً. أما الترجمة العربية فهي متينة بليغة تشهد لمترجمها بما بذل في سبيلها من جهد شاق يقدره على الأخص أولئك الذين يقرءون لبورجيه بالفرنسية ويعرفون روعة أسلوبه، ودقة بيانه، وقوة تعبيره
وقد توفى بورجيه منذ نحو عام في الثانية والثمانين من عمره بعد أن غمر الأدب الفرنسي بفيض رائع من شعره وقصصه ومسرحياته وآثاره النقدية
وظهور مثل هذه الآثار الخالدة من الأدب الغربي مترجمة بأقلام رصينة بارعة كقلم الأستاذ نافع مما يبعث إلى الغبطة، ويدفع بالترجمة إلى غايتها المقصودة، ويرتفع بالتراث المترجم
إلى المستوى الرفيع الذي نرجوه غذاء للعقلية المصرية الفتية في عصر النهضة والاستقلال
معهد ألماني جديد للتمثيل
يفتتح في يناير الحالي معهد جديد للتمثيل في مدينة ميونيخ (منشن) عاصمة بافاريا (بألمانيا)، وسيكون برنامجه شاملا لدراسة فن التمثيل ذاته، وفن الزخرفة والإخراج، وتنظيم الأزياء والمناظر، وتاريخ المسرح، ومدة الدراسة فيه سنتان. والجديد في هذا المسرح أن أساتذته سيختارون جميعاً من بين الشباب. ولميونيخ شهرة خاصة بفنها المسرحي، وبها مسرح تاريخي قديم تمثل فيه أرقى الروايات الألمانية يقع إلى جانب القصر الملكي القديم؛ وفي كل عام ينظم فيها مسرح عظيم في العراء يشهده الألوف
مجموعة شعرية عن الريف المصري
صدرت أخيراً بالفرنسية مجموعة شعرية عن الريف المصري بعنوان (في الجنوب تحت السماء الحارة) ، بقلم السيدة نيللي فوشيه زنانيري؛ والسيدة نيللي مصرية المولد والنشأة والوطن، ومن الشخصيات المعروفة في الأوساط الاجتماعية المصرية الأوربية؛ وهي كاتبة وشاعرة قديرة تعبر عن خواطرها باللغة الفرنسية، وعضو في نادي القلم المصري. وقد أصدرت من قبل مجموعتين شعريتين أخريين؛ ومجموعتها الجديدة تحتوي خمس وعشرين قصيدة كلها وصف وتصوير للمناظر الطبيعية المصرية والريف المصري بشمسه الوضاءة وفلواته الشاسعة، ورماله وضبابه ورذاذه المنعش؛ وهذه القطع الشعرية تفيض قوة ورقة، كما أنها تفيض موسيقى. ذلك أن الخيال الذي أخرجها قد صاغته الطبيعة المصرية، ونما وترعرع في ظلها، فهو يحسن لذلك التعبير عنها وعن مؤثراتها. وقد زينت هذه المجموعة الشعرية بعدة صور فنية بديعة
المدينة الخالدة ومجتمع المستقبل
منذ نصف قرن اصدر الكاتب الأمريكي إدوارد بلامي كتابه أو قصته عن الحروب الجوية، وعنوانها (نظرة إلى الوراء من سنة 2000 إلى سنة 1887) فيها تخيل أن الحرب قد انتقلت من الأرض إلى الجو، وأن معارك جوية ستنشب في السماء كما تنشب المعارك بين
الجيوش البرية؛ وقد أيدت الحوادث خيال الكاتب، فلم تجيء الحرب الكبرى حتى كانت أساطيل من الطيارات تملأ الجو، وحتى كانت المعارك الحامية تنشب في الهواء
وقد صدرت أخيراً بالألمانية قصة جديدة من هذا النوع في تصور المستقبل، وهي ليست قصة عسكرية كقصة بلامي، بل قصة اجتماعية عنوانها (المدينة الخالدة) بقلم الكاتب النمسوي الكبير البارون فون ليفنتال؛ والمدينة الخالدة هي مدينة فيينا عاصمة النمسا؛ ويصور لنا الكاتب في قصته ماذا سيكون عليه المجتمع النمسوي سنة 2000، وهو يتوقع أن يكون النظام السائد يومئذ هو نظام النقابات؛ ويتوقع أن ينعم المجتمع بكثير من الرخاء والرفاهة، وأن يحتفظ المجتمع النمسوي خلال هذه الحقبة دائماً بميوله المرحة، وتفاؤله رغم كل الظروف والمحن؛ وقصة البارون ليفنتال تفيض وطنية وحماسة وقد استقبلت في النمسا استقبالاً عظيما، وذاعت ذيوعاً كبيراً، وهي اليوم كتاب الموسم في العاصمة النمسوية؛ وتعتبر في نظر النقدة أصدق صورة للروح النمسوية والعواطف الفينية التي تجنح في مجموعها إلى المرح والدعابة والترويح عن النفس، واستقبال الحياة دائماً بالابتسام والرضى
النقد
سلسلة الموسوعات العربية
معجم الأدباء - الجزء الثاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
أفتتح هذا المقال بكلمتين: الأولى أن الدكتور الفاضل احمد فريد الرفاعي مشكور على ما يبذل من جهد في نشر الآداب العربية، معترف له بالهمة العالية. وليس يذهب بجهده، ولا يحط من همته، أن تقع في الكتب التي ينشرها أغلاط، ولكن يشين الأدباء جميعاً إلا يبين له الغلط ليبتغي الوسيلة إلى تجنبه
والكلمة الثانية أوجهها إلى أستاذي الجليل الشيخ عبد الخالق عمر الذي اعترف كل حين بفضله، وانطوي ما حييت على حبه؛ فقد شرعت أنقد الكتاب وليس أمامي إلا الناشر ومن ورائه وزارة المعارف. ولما تبينت أن لأستاذي الفاضل شركة في العمل لم اعد هذا النقد موجهاً إليه، ولا حسبت هذه الأغلاط مأخوذة عليه، لأن هذا العمل على اضطرابه لا يمكن أستاذنا من الأشراف على التصحيح، والتصرف في الآمر على قدر علمه الواسع وبحثه الدقيق. ولو وكل الآمر إليه ما وقعت في الكتاب هذه المأخذ.
ثم أمضي في نقد الجزء الثاني (أو القسم الثاني من الجزء الأول، في تجزئة ياقوت) متجاوزاً عن بقية مآخذ الجزء الأول، بادئاً بأغلاط المتن فمثنياً بمآخذ التعليق. وأُذكر القارئ بما قلته في مقالي الأول أن هذا النقد نقد تمثيل لا استقصاء، وأني لا اثبت إلا الغلط الذي أدركه بالنظرة الأولى، تاركاً إلى حين الجمل التي يحتاج تصويبها إلى مراجعة وبحث
ص 10 أبيات أولها
فإن تسأليني كيف أنت فأنني
…
تنكرت دهري والمعاهد والصَّبِرَا
وسائر الأبيات على روي الباء المطلقة، مثل عزبا، الدربا. فلست ادري كيف سها الناشر عن اختلاف القافية في الأبيات؟ وكيف يتفق هذا السهو مع عنايته بشكل الصبرا، وهوغلط آخر، فالصبر هو المادة المرة المعروفة، وما أظن الناشر أراده، والوزن لا يحتمله فهذه كلمة واحدة تنوء بثلاثة أغلاط
ومثل هذا في ص 244 أبيات أولها:
إذا كانت صِلاتكم رقاعا
…
تخطط بالأنامل والأكف
وبعده بيت عكس شطراه فصار:
فها خطي خذوه بألف ألف
…
ولم تكن الرقاع تجر نفعا
ولم ينبه اختلاف القافية الناشر إلى هذا الغلط
وهذا الغلط مما استدركه الناشرون، ولكني أبقيته في المقال لأنني لم ادع أن هذا يدق على إفهامهم، ولكنه دليل على مقدار العناية بالتصحيح، وليس يذهب بالمؤاخذة إنهم استدركوه؛ فإن وقوعه في الكتاب يدل على الإسراع والتساهل
ص16 (وكان من رستاق جِي) وفي الحاشية تروى: رستاق الحيَّ، ولعلها رستاق حي على الإضافة. . . الخ. والصواب جيّ بالجيم المفتوحة وللياء المشددة، وهو موضع بأصفهان
ص29 (لأن المهلبي مات بعَمّان) والصواب عُمان
ص31 (ولقد قرَرْتَ عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه إلى مكانك بعد وفاته). والصواب قرَّت عينُ أبيك، لأن قرّ لازم، ولو لجاز أن يتعدى ما جازت التعدية في هذه الجملة رعاية لسياق الكلام
ص37 (كتابي - أيدك الله - من المعسكر بجَيْل) والصواب جيل بالكسر، وكانت بلدة قرب بغداد، أو جَبُّل وكانت بين بغداد وواسط
ص41 ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك، وعلينا المحافظة فيك على حفيظتك. وفي الحاشية على بمعنى مع. والصواب غلّبنا المحافظة. . . الخ
48 (فخرجت مبادراً وأنفذتِ لِشُكْرَسْتان صاحبي، وانفذ ابن سعدان محمدا لأواتيه، وانتظرت عودهما بما فعلا). والصواب لَشكَرِستان. والظاهر: محمدا ابنه كما يفهم من سياق الكلام
ص53 (لولا الثقة بأنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويَجُمُّها ولا يَقذِيها). والصواب يُجمّها لا يُقذيها، من أجم أقذى
ص57: أيارب كلُّ الناس أبناءِ علة=أما تعثر الدنيا لنا بصديق
والأصح أبناء عَلّة؛ وأبناء العلات من أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة. والمراد أن الناس على
اختلافهم متشابهون ينزعون إلى أصل واحد. وفي الحديث: (الأنبياء أبناء علات) وقال المعري:
ألا إنما الأيام أبناء عَلّة
…
وهذي الليالي كلها أخوات
ص81 حتى ترى في وجهك الميمون غاية سُؤلها
والصواب تسهيل الهمز لتلائم القوافي الأخرى: رَسولهِا، وُصولِها الخ
ص86 ثلاثة عشر بيتا في الغزل، والخطاب فيها لمؤنث. غيّره الناشر إلى مذكر، مع أن الشاعر سمى من يخاطبه ظبية، وجعل لها فرعاً من الشعر؛ ومن هذه الأبيات:
والصابئون يرون انك فردة
…
في الحسن إقراراً لرب ماجد
كالزهرة الزهراء أنت لديهم
…
مسعودة بالمشتري وعطارد
قال الشارح: فردة بمعنى مفرد، ليستقيم له خطاب المذكر على رغم الشاعر واللغة
ص90 السري بن احمد الشاعر الرّفاء. والصواب تشديد الفاء
ص91 (وارتقوا كيف شِئتمْ في المعالي - والصواب شئتمُ بضم الميم ومدها
ص122 (ومات فرأته السيدة فاُّتهِمَ أنه سقاه السم)
- والصواب فمات ابن أخي السيدة الخ والدليل في ص 110
ص123 الُمحْسن بن علي التنوخي. والصواب المحسِّن
قال المعري في القصيدة التي كتبها إلى ابنه على بن المحسن:
يا ابن المَحسِّن ما أُنسيت مكرمة
…
فاذكر مودتنا إن كنت أنسيتا
ص126 منديل الغُمْر. والصواب منديل الغَمَر
ص128 لها فخِذٌ بُختيّةٌ تُعلف النوى - والصواب فخذا بختيّة بالتثنية والإضافة
ص 133:
إن بان شخصي عن مجالس غيره
…
فالنفس في ألطافه تتقلب
والصواب مجالس عِزّء، لأن الأبيات شكوى من احتجاب الممدوح وأولها:
ومحجب بحجاب عز شامخ
…
وشعاع نور جبينه لا يحجب
ص135 وجدت في آخر نسخة المعتضد لعبد القاهر الجرجاني - والصواب المقتصد
ص139 (وكان ورعا متخشناً في الحكم) وفي الحاشية (هكذا رواه ابن الانباري وفي
الأصل متلينا. ورواية ابن الانباري أظهر.) أقول: واظهر من هذا وذاك (متثبتاً في الحكم)
ص178 قول بديع الزمان:
أخامقة حتى يقال سجية
…
ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وفي الحاشية: المقة المحبة - والصواب أُحامقُه حتى يقال سجية. أي يجاريه في الحمق
ص182 من مطبوخ ومسلوخ الخ - والصواب بين مطبوخ الخ
ص188 في رسالة الخوارزمي إلى البديع (أما ما شكاه سيدي من مضايقتي إياه رَغْيمٍ في القيام). والصواب مضايقتي إياه - زَعَم - في القيام. يعني ما زعمه من مضايقتي الخ
ص189 من رسالة الخوارزمي أيضاً: (ففيهم لعمري فوق ما وصف حسنُ عشرة، وسدادُ طريقة وجمالُ تفصيل وجملة.)
والصواب الفتح في الكلمات الثلاث: حسنَ عشرة الخ على التمييز، يشهد بهذا سياق الرسالة
ص 194 من رسالة الخوارزمي أيضاً: ولو أراد سيدي أن اصدّق دعواه في شوقه إليّ، ليَغُضَّ من حجم عتبه عليّ، فإنما اللفظ زائد، واللحظ وارد) وهذه جمل لا معنى لها. والصواب لنَقَص من حجم عتبه الخ فإنما اللفظ رائد بالراء
ص 114 أبو العباس أحمد بن محمد البارودي - والصواب الباوردي
ص 138 أبا لهب محمد ابن أبي العلاء - والصواب أبو كريب، وليس في المسلمين من يسمى أبا لهب
ص 139 وكان مفتياً في علوم شتى. والصواب متفنناً
147 في نسخة مرجليوث: قال ابن أبا جعفر؛ فصححت في هذه الطبعة: قال ابن أبي جعفر. والصواب قال ابن الفرات: أبا جعفر الخ كما يفهم من سياق القصة؛ فابن الفرات يخاطب أبا جعفر
ص151 ابن عمر - والصواب أبي عمر
وسأبين في المقال الأتي أن شاء الله ما أخذته على تعليق الناشرين في هذا الجزء. ثم أبين سوء النسق في تراجم الكتاب وفي متنه. والله ولي التوفيق
عبد الوهاب عزام
معجم الأدباء أيضاً
رد على نقد
للأستاذ محمود مصطفى
الأستاذ بكلية اللغة العربية
قرأت كلمة للعالم الجليل الدكتور عبد الوهاب عزام يتناول فيها ذلك العمل العظيم الذي اضطلع به الدكتور احمد فريد الرفاعي من إظهار هذه الكنوز الأدبية العظيمة في ثياب قشيبة معبدة الطريق للقراء
واشهد أن الدكتور عزام قد دل بكلمته على غيرة على العربية لم يقر له معها قرار حتى يغير ما رآه غير مساوق للصواب في نظره، وهي غيرة يشكر قدر شكر الدكتور الرفاعي على غيرته التي حملته بذل المصونين الجهد والمال في سبيل خدمة العربية
وما دفعني أن ادخل بين الناقد والمنقود إلا حبي لإحقاق الحق وإقرار الأمور في نصبها
اكتب هذه الكلمة ولم اسعد بعد باقتناء الكتاب، فأنا اكتفي بالرد على ما لمست عدوله عن الجادة في كلام الدكتور عزام
(1)
(إذ كلٌّ هَمَّه تحصيل المأكول والمشروب)، يقول الدكتور عزام الصواب همُّه بضم الميم والمراد هنا الاسم إذ الفعل أهمه لا همه. وتقول عبارة القاموس المحيط: وهمه الأمر أحزنه كأهمه. ولا يعزب عن البال أن استعمال هذا الفعل بمعنى شغله واستبد بمشاعره مجاز قريب لا تكلف فيه
(2)
(ومعاوية بفارسٍ) قال الصواب بفارسَ فأنها ممنوعة من الصرف. وأقول ورد في القاموس وفارس الفرس أو بلادهم. وإذا اتبعنا القاعدة القائلة إن كل اسم قبيلة أو موضع لا علامة للتأنيث فيه يصح تذكيره على معنى القوم أو الرهط والموضع، وتأنيثه على معنى القبيلة أو البلدة، فعلى هذا لا يكون لتخطئة الدكتور التنوين وجه مقبول
(3)
(ولم نعوضّ من ذاك ميُسرة) قال الدكتور عزام: الصواب فتح السين؛ وأقول في القاموس المحيط الميسرة مثلثة السين. وفي كتاب (نيل الأرب في مثلثات العرب) للشيخ قويدر الخليلي:
سهولة الأمر تسمى ميسره
…
ومصدر إلى قدرت مقدره
يريد أن ميسرة مثلثة السين، وكذلك كلمة مقدرة مثلثة الدال. وغيرهما مما هو على هذا الوزن كثير
(4)
(لغويا نبيها ثَبَتاً) قال الدكتور عزام والصواب ثَبْتاً يقال رجل ثَبْت لا ثَبَتٌ والثَبَت بالفتح (يريد بالتحريك) البرهان اسم لا يوصف. وأقول: في القاموس الإثبات الثقات، وفي شرحه وهو ثبت من الإثبات إذا كان حجة لثقته في روايته، وهو جمع ثَبَت بالتحريك وهو الأقيس وقد يسكن وسطه. الخ
ولعل التفرقة التي جاء بها الدكتور عزام وهي أن الثبت (بالتحريك) البرهان اسم لا وصف، إنما عقدها بنظرة خاطفة من قول الشارح (وقيل للحجة ثبت بفتحتين إذا كان عدلا ضابطا) فذهب باله إلى أن الحجة هنا الدليل والبرهان
(5)
(أُضِقتُ إضاقة شديدة) قال الدكتور عزام (والصواب بالبناء للفاعل أي إصابه ضيق) وأقول لو إنه فسرها بقوله أصابه عسر لقلنا إنه تابع صاحب القاموس في قوله: أضاق ذهب ماله وأعسر، فإما وقد فسرها بقوله أصابه ضيق فهو تفسير عام ينطبق عليه قول القاموس: ضاق ضد اتسع وأضاقه وضيقه) فمعنى كل ذلك جعله ضيقاً. والمراد هنا ضيق الصدر
(6)
(المُصَيْصة اسم بلد) قال الدكتور عزام والصواب الَمصِّيصة. وأقول: ورد في كتابي (إعجام الأعلام): (الَمصِيصة - المِصِّيصة مدينة على ساحل البحر الرومي. . . قال في القاموس (والمصيصة كسفينة بلد بالشام ولا تشدّد) وقد ضبطها صاحب تقويم البلدان عن مزيل الارتياب فقال: بكسر الميم وتشديد الصاد وسكون الياء وفتح الصاد)
فمن ذلك يعلم أن الناقد والمنقود وقعا في الخطأ وإن كان اللوم في نظري على الناقد اشد، لأنه يأخذ على غيره في مسالة بعينها فيجب أن يكون تحريه للصواب أدق
(7)
(غُمار الناس) قال الدكتور عزام والصواب كسر الغين، وأقول يفهم من مراجعة القاموس المحيط لمن وقف على سر اختصاره وراعى مراده في عطفه واستئنافه أن الغمار جمع لغَمْر وهو الماء الكثير كما أن الغَمْر يكون بمعنى الكريم الواسع الخلق أو الجواد من الخيل أو السابغ من الثياب أو اللفيف من الناس ويشاركه في هذا المعنى الأخير (اللفيف
من الناس) مفردات أخرى وهي الغَمَر (بالتحريك) والغَمْرة بالفتح فالسكون مع تاء التأنيث والغُمارة بالضم مع التاء والغَمار بالفتح أو الضم. وعلى هذا يكون مصيباً من قال غمار الناس (بالضم) بمعنى جماعتهم ولفيفهم. كما أنه ليس في القاموس ما يدل على أن غِماراً يكون جمعاً لغَمْر بهذا المعنى الأخير وإلا لأتى به قبل ذكر الجمع كما هي عادته
وليس معنى كل هذا أن استعمال غِمار بالكسر في معنى جماعات الناس خطأ بل نقول إنه خلاف الأولى لأن استعماله يكون مع التجوز بتشبيه جماعة الناس باللجة وإطلاق لفظ غمر عليها ثم جمعه على غمار. أما المفرد وهو غمار (بالضم) فكاف في الدلالة على الجماعة دلالة حقيقية لا تجوز فيها. فظهر من هذا أن المنقود استعمل الضبط الجائز القريب في الاستعمال
هذا قول أعجلتنا عن الإفاضة في نواحيه وتتبع مظانه، مشاغل لم نستطع أن نزيحها عن كاهلنا إلا بهذا القدر والسلام
محمود مصطفى
معجم الأدباء أيضا
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
يعرف أولو البصر بالأدب والأستاذ الباقعة الدكتور عبد الوهاب عزام، عالماً ثقة، وعلماً حجة؛ فيصلاً إذا قال، وثبتاً إذا جال؛ لا يقف نبوغه عند ناحية من نواحي الأدب، بل يفيض علمه عليها جميعاً؛ فهو من أدبائنا القلائل الذين برزوا في كل أفق، وربطوا بآصرة الأدب بين الغرب والشرق، وقد اختص ببحوثه الرائعة وآرائه الشائقة مجلة (الرسالة)، لأنها رسول الثقافة، وآخر ما أمتع به قراءها ذلك النقد الجامع لكتاب (معجم الأدباء) الذي ينشره الدكتور الرفاعي. فنقد القسم الأول منه نقداً عميقاً، وفحص عن وجه الحق فحصاً دقيقاً، وأبى له تواضعه إلا أن يقول:(هذا ما أخذته وأنا اعبر القسم الأول وهو جزء من عشرين، ووراء هذا معضلات من التحريف تحتاج إلى بحث وتنقيب ليتبين صوابها) واقرر مؤكداً أن هذا النقد الممتع سيحمل الناشر على الإمعان في التحري، وسيدفعه إلى التريث والتأني حتى يخرج الكتاب كما يريده الأدباء والمؤرخون
على أن لي رأياً في قليل من كثير مما أورده من المآخذ الأستاذ القدير ولعليّ قد وفقت إلى الصواب
ص64 (إذ كلٌّ همَّه تحصيل المأكول والمشروب). (والصواب همه بضم الميم، والمراد هنا الاسم، لأن الفعل أهم لا هَمَّ) هذا ما أرتآه الدكتور. واللغة تخالفه. نص القاموس (مادة هم) قال: (وهمه الأمر هماً ومهمة حزنه كأهمه) وإن الأبلغ ما رآه الأستاذ، وليس في الكتاب شبهة من خطأ
ص82:
أمغط مني على بصري بالحبب
…
أم أنت اكمل الناس حسنا
وقد شرحه الناشر في الحاشية وقال: (ويروى أمغطى على صيغة المفعول). (والصواب أمغطى لا يحتمل البيت غيرها وكان الصواب تصحيح البيت لا إثبات الغلط وشرحه) وأرى أن كلا اللفظين جائز والمعنى معهما مستقيم، فالأول يثبت أن حبيبه قد غطى على بصره بالحب أو أنه أكمل الناس جمالاً في صورة الاستفهام عن الشقين، ولا أنكر أن الوجه الثاني أفضل وأفصح
ص93 (ولا أبدأ نفعا، ولا أحمد أخلاقا، ولا أدوم سرورا). (وقال في الحاشية في الأصل أبد نفعا؛ فقد اصلح غلط الأصل بغلط آخر. والصواب أبدى، وليس ما صححه الناشر غلطا، ولعله الأوفق حتى يتفق ونظم الكلام ووزن الأفعال الذي يبدو أنه مراعى في العبارة
ص99 (ولم تعوض من ذلك ميسرة)(والصواب فتح السين) والفتح والكسر والضم كلها صحيح إذ السين مثلثة، واحسب الأستاذ اختار الفتح لأنه به قرء قوله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) وكان أيسر للناشر أن يتركها دون ضبط أو يثلث ضبطها
ص133 (فلا أزال أماكسهم ويزيدوني)(والصواب يزيدونني) ولا أدري كيف ساغ للدكتور تخطئة الصواب فكتب النحو تنص على جواز تزيدوني بالتخفيف والتثقيل، وبالتخفيف قرأنا نافع وتأمروني وتحاجوني
ص221
(يخال بأن العرض غير موفر
…
عن الذم إلا أن يدال له الوفر)
(والصواب يذال بالذال المعجمة من الإذالة أي الامتهان)
ويدال ليست خطأ بل لعلها أوقع في المعنى لإن الغرض من الادالة الدوران والتحول والزوال، وكل هذه المعاني انسب من الامتهان في البيت. هذا ما عنَّ لي التعليق به على نقد أستاذنا النابغة وأرجو أن يلاحقنا بالحكمة والرأي الرشيد
(المعادي)
عبد العظيم علي قناوي
العالم المسرحي والسينمائي
المعجزة
لناقد الرسالة الفني
النقاد عادة من أدق الناس في مسائل الذوق الفني، فهم بطبيعة عملهم كقضاة، قاسون لا يرضيهم من الأعمال إلا كل عظيم جليل، ولهذا فإن اختيارهم يكون بلا ريب ممتعاً، وقد أيد زميلنا وصديقنا الناقد المسرحي الأستاذ محمد على حماد هذا الرأي باختياره هذه القصة وقيامه بترجمتها للمسرح المصري ترجمة سلسلة الأسلوب سهلة اللفظ تلائم رواد المسرح
والرواية قطعة فنية رائعة من تأليف الكاتب الإنجليزي (رودولف بيزير) نالت في إنجلترا نجاحاً كبيراً دعا الكتاب الفرنسيين إلى نقلها لمسرحهم ودفع بأكبر شركة سينمائية في العام إلى اقتباسها. وقد أتيح لرواد السينما أن يروا شارلس لانتون ونورما شيرر وفريدريك مارش يقومون بالأدوار الرئيسية في هذا الفلم الذي نال الجائزة الأولى للعام الذي اخرج فيه. واللذين شاهدوا الفلم ثم رأوا القصة تمثل على مسرح الأوبرا لابد أحسوا بأن المسرح قد ابرز عوامل الجمال فيها في حين أن الفلم قصر عن أداء هذه المهمة كاملة
لست في حاجة إلى ذكر ملخص الرواية فموضوعها معروف لان أشخاصها ظهروا على مسرح الحياة في العهد الفكتوري، فالبطل روبرت بروننج شاعر إنجليزي كبير له دواوينه وأعماله الأدبية، والبطلة اليزابيث باريت شاعرة رقيقة العاطفة تزوجت من بروننج؛ وقد نشرت مجموعة الرسائل التي تبادلها البطل والبطلة والتي استمد منها المؤلف مادة قصته
لست أوافق من قام بالتلخيص المنشور في البرنامج الذي توزعه الفرقة القومية من أن القصة تدور في أساسها حول ذلك النزاع القديم المتجدد بين جيل وجيل، وبين فكرة وفكرة، وبين الآباء المحافظين الذين يريدون أن يفرضوا آراء أجيالهم الغابرة على أبنائهم الخ، فلو أن القصة تقوم على هذا الأساس وحده لما استحقت أن توصف بأنها عمل فني؛ فقد سبق المؤلف كثيرون إلى طرق هذا الموضوع. والواقع أن في القصة تحليلا نفسيا عظيما لشخصية الأب وشخصية الفتاة؛ ومن يتتبع القصة بانتباه تبرز أمامه الحقيقة الواضحة التي يعنيها المؤلف ويصورها بدقة، وهي أن الأب يحب ابنته - دون أن يدري - حبا جنسياً
فالعاطفة الجنسية هي سر حبه لابنته، ولكنه لا يدري هذه الحقيقة؛ فابنته ثمرة الحب ولدتها
أمها أيام كانت الحياة هانئة بين الزوجين، فهو إنما يحب أمها فيها في حين أنه يكره أولاده الآخرين لأنهم ليسوا ثمرة الحب، بل أنجبتهم أمهم في أيام الجفوة والشقاء بين الزوجين، وهذا هو السر في قسوته عليهم وفي أنه لا يفهمهم ولا يفهمونه
الإخراج والتمثيل
تصرف المخرج تصرفا له من السوابق ما يبرره وهو إخراج الروايات التاريخية في ثوب عصري، إلا أنه كان من الخير أن تظهر القصة في ثوبها التاريخي، فإنما تمثل واقعة تاريخية هي قصة زواج روبرت بروننج من اليزابيث باريت. أما رسم المناظر فبديع ولا سيما المنظر الثاني، ولكن اختيار الورق الأزرق الداكن لكساء حوائط غرفة نوم اليزابيث مما لا يلتئم والحوادث التي تجري فيه. فالرواية كما نعلم تحوي المواقف المحزنة والمواقف المضحكة، والأزرق الداكن لا يصلح إلا للمواقف المحزنة، ولأنه يبعث آثراً قابضاً في نفوس النظارة، فكان من الواجب أن يتنبه المخرج لهذه الحقيقة
أما الإضاءة فمهملة إلى أبعد حدود الإهمال: فهي واحدة لا تتغير سواء في المواقف المحزنة والمفرحة؛ ومن بديهيات الإضاءة أن الضوء القوي الصارخ من ضروريات المواقف الفكهة، كما أن الضوء الخافت من ضروريات المواقف المحزنة؛ ولكن الأستاذ عزيز يتجاهل هذا كله ويجعل الضوء قوياً صارخاً طوال مواقف الرواية
وفي المنظر الأول نجد الشبان يصعدون إلى غرفة نوم شقيقتهم بعد تناول العشاء وهم في ملابس السهرة في حين أن الشقيقتين كانتا تلبسان الملابس العادية. والأدهى أننا لم نحس أثناء التمثيل أننا في جو إنجليزي، فقد كان الممثلون في أحاديثهم وحركاتهم مصريين أكثر منهم إنجليزا. فالأستاذ منسي فهمي قام بدور الأب وبذل مجهوداً كبيراً ووفق إلى حد بعيد في تأدية الدور، ولكن كان يثور من حين لحين مما لا يتلاءم مع الشخصية ومع الخلق الإنجليزي؛ فالشخصية ليست في حاجة إلى الثورة لتؤثر الأب في نفوس أولاده، فان الرهبة التي في نفوسهم منذ الطفولة كفيلة بأن تعنى عن هذه الثورة، ولكن الذنب ليس ذنب الممثل بل هو ذنب المخرج. والآنسة نجمة إبراهيم كانت مجيدة في دور هنريتا، ولكنها كانت في ثورتها مصرية وفي سخريتها كانت بعيدة عن تصوير الخلق الإنجليزي. ومن المؤلم أن يسمح المخرج لعباس فارس أن يظهر الكابتن بهذه الصورة المزرية، فإن من
الإسفاف أن نلجأ إلى الحركات لإضحاك النظارة ونيل رضاهم، والفرقة القومية قامت للسمو بالفن، والشخصية سهلة واضحة هي أن الكابتن خجول يرتبك في حضرة السيدات، وكان من الواجب أن يبرز الشخصية على حقيقتها دون الالتجاء إلى الافتعال
قام حسين رياض بدور الشاعر فأداه أداء طيباً، ولكن إبرازه له على انه شاب رزين مما لا يرضيني ومما يتعارض مع ما هو معروف عن نزوات الشعراء وخفتهم، وهذا الشاعر تقدم للزواج من فتاة شبه مقعدة!! وفي الموقف الذي يطلب فيه يد اليزابيث اهتم بتجويد إلقائه اكثر من اهتمامه بإبراز عاطفته
أما السيدة زينب صدقي فقد كانت بديعة إلى ابعد حد. والحق أن هذا الدور من احسن أدوارها، وفيه أثبتت أنها مقلدة ماهرة لنورما شيرر ولا سيما في المنظر الأول عند حدوث المعجزة وقيامها من فراشها وسيرها إلى النافذة، وفي الفصل الأخير عندما قبلها والدها القبلة التي كادت تفضح عاطفته
يوسف تادرس
سافو على المسرح الأوبرا الملكي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
تحدثنا في العدد الماضي عن دولت ابيض في (سافو) ثم عن علي رشدي في دور جان، وقبل أن انتقل إلى غيره من الممثلين أرى أنصافا لهذا الشاب المجتهد أن أقول انه ظلم ظلما كبيرا في إسناد دور لا يليق به ولا يتفق مع طبيعته، وإنه على رغم هذا قد بذل جهداً مشكوراً يستحق الثناء
ولابد لي أن اذكر عباس فارس في دور (ديشليت) ومنسي فهمي في دور (كودال) وفؤاد شفيق في دور (سيزير) فهؤلاء الثلاثة بلغوا درجة كبيرة من النجاح، وإليهم الفضل في النهوض بالرواية والوصول بها إلى درجة تجعل الجمهور يتقبلها ويستسيغها
وأما المناظر فمنقولة عن المناظر التي أخرجت بها الرواية في فرنسا، وقد استطاع الأستاذ أدمون تويما مدير المسرح أن يقنع الأستاذ عزيز بإخراجها في ثوب عصري ولكنه فيما أرى اخفق في إقناعه بالاستغناء عن المصباح البترولي في الفصل الأول، فقد كان مضحكا أن ترى الشاب الفقير الذي يسكن الطابق الخامس يضيء غرفته بثريا كهربائية كبيرة! وبرغم ذلك نراه يضيء مكتبه بمصباح بترولي! إن التقيد بالأصل دون استعمال العقل يبعث السخرية، وكان أولى بالمخرج أن يضع بدلاً من المصباح البترولي مصباحاً كهربائياً للمكتب
أما الإضاءة فعادية، وبودي لو يعنى المخرج بتوزيع الضوء ومساقطه حتى لا تتعارض ظلال الممثلين وحتى لا يقع ظل ممثل على زميله وأن يختار من ألوان الضوء ما يلتئم مع جو المواقف
الترجمة
نقل القصة إلى العربية الأستاذ محمود كامل المحامي، وقد لاحظت الفرقة بعد أن نقدت المترجم الأجر أن الترجمة غير دقيقة، فعهدت إلى لجنة مؤلفة من الأساتذة أدمون تويما وإبراهيم الجزار وسراج منير بمراجعتها فاستغرق عملها 27 يوماً. وقد اطلعنا على صفحات عديدة فشاهدنا الكثير من التصحيح والتبديل، فكان أثر هذا أن أصبحت القصة تحوي اكثر من أسلوب واحد، وكنا نفضل لو أن المترجم اشترك مع أعضاء هذه اللجنة
لتجنب هذا الخلط