المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 184 - بتاريخ: 11 - 01 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٨٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 184

- بتاريخ: 11 - 01 - 1937

ص: -1

‌ذكرى ميلاد

في مثل هذا الأسبوع من عام 1932 وأنا في دار السلام، هبط على برق الأثير هبوط الملك البشير على زكريا الواهن اليائس. بشرني بأن أسمي قد اشترك، ووجودي قد ازدوج، وعمري قد امتد، وأصلي قد تفرع! فأخذني شعور لا عهد لي بمثله؛ لا أصفه لأنه اعمق من الإدراك، ولا أنساه لأنه أوسع من الذاكرة. هو شعور خليط مبهم؛ لا هو حماسة، ولا هو نشوة، ولا هو جذل، ولا هو غبطة؛ وإنما هو كل أولئك وشيء آخر لا أدريه، لون مشاهد الطبيعة بألوان الأمل، وعطر نسائم (دجلة) بروائح الجنة، وزين مغاني الكرخ باوشية السحر. فخرجت إلى بساتين (الصالحية) وفي إهابي المشبوب رجل أخر، يحيا لأنه يحب الحياة، ويعمل لأنه يريد العمل، ويزهى لأنه يسعى لآسرة، مررت بالأطفال الذين كنت أراهم كل يوم، فبدت لي في قسماتهم وبسماتهم معان جديدة. لم يعودوا شقاء الوالدين وهم الحياة كما كنت اشعر، وإنما أصبحوا كطفلي بهجة الوجود وراحة المكدود ورجاء المستقبل؛ ثم وجدتني آنس بكل أب، وأسكن إلى كل أم، واشعر كما يشعر كل والد بحمل رخي رضي يثقل رويداً رويداً على البال المطمئن الوادع!!

عدت إلى مصر فرأيتني ارسخ في الوطنية لأني غدوت أصلاً من أصولها، وأعز في القرابة لأني صرت فصلاً من فصولها؛ ثم تجددت الأفراح، وتسابقت التهاني، وتنافست الهدايا، وتعاقبت المآدب، وغرقت الدار الكئيبة في فيض من البهجة، ورقصت الروضة الموحشة على الحان البلبل، ورفرفت السعادة الهشة على مهد الوليد

وكان العش الآمن الغار يعلن في كل رابع عشر من شهر يناير ذكره للنعمة وشكره لله؛ فيرف للأصدقاء بالأنس، ويخف للفقراء بالصدقة. وتتفتح مصاريعه الضاحكة لتهنئات الصحاب ودعوات الأحبة. ويخرج المرموق المعشوق صاحب العيد في زينته وبهجته كالسوسنة الغضة، يقابل مهنئيه، ويتقبل هداياه، ويستعرض لعبه، ويشع على الحفل البهيج من روحه الجذاب، وحسنه الفاتن، وذكائه الباكر، إشعاعاً من وراء المعلوم لا يدركه إلا الأب الحنون وإلا الأعزب الشاعر

حنانيك يا رباه! أكل ذلك اصبح اليوم ذكرى؟ أغاية السعادة في الأرض أن تنقلب وحشة في النفس وظلمة في العين وحسرة في الفؤاد؟ لا يزال صوته الصافي الجميل يرن في شعوري كله: فأنا اسمعه يقول ويده الصغيرة تجذب يدي: (يالله نشترى خروف عيدي يا

ص: 1

بابا. . . عاوز أتومبيل أحمر زي أوتومبيل الملك يا بابا.) فأخرج معه كما يخرج الصديقان الأليفان لأمر مشترك؛ فينتقي ثيابه بذوقه، ويختار لعبه بنفسه، ويقترح على أن نذهب إلى (حديقة الفردوس)، فيمشي بين أفواف الزهر، أو على زخرف الممشى، فلا أدري أجمال الروض زها فيه فنظر حتى فتن، أم جماله هو فاض على الروض فزها حتى بهر! ثم يتفرق بصره المبهور بين التماثيل والتصاوير والورد، فيذهل عن طريقه فيخوض في الماء فجأة؛ فيخلع حذاءه وينزع جوربه ثم يدعهما للشمس ويقعد هو تحت المظلة أو فوق العشب يرسل على أبيه السعيد سيلاً من الأسئلة لا ينقطع، وفيضاً من المسرة لا ينضب؛ ثم يعود إلى بيته المزدان المرح فيستقبل في المساء أعمامه احمد أمين وزكي وخلاف والعبادي وعوض زناتي ويونس وسائر محبيه ومحبي أبيه، فينقلهم بإشراق نفسه وائتلاق طبعه من عالم الناس إلى عالم الملائكة!

ثم دار الفلك، وتجرم العام، وعاد اليوم الرابع عشر من شهر يناير! ولكنه وا حسرتاه يعود هذه المرة على بيت غير البيت، ودنيا غير الدنيا!! فلا العش مرح بفرخه، ولا الروض شاد ببلبله، ولا الأتومبيل حال براكبه!

يعود على ثياب مطوية، ولعب مخفية، وصور مستورة، وعيون مقروحة، وقلوب محطمة، وأمال مهيضة! فلا بساط الأنس ممدود يا رفاق، ولا حفلة العيد ساهرة يا أحبة!

اجل يعود اليوم الرابع عشر من شهر يناير، ولكنه والهفتاه يعود على قبر جني الأزاهير بين حقول القرية البعيدة؛ تسهر عليه الشجرة الصغيرة، وترعاه من قرب عيون الآهل!

فيا من دعوت نفسك الرءوف الرحيم! أين أجد رأفتك فيخف أساي، وأصيب رحمتك فيندمل جرحي؟

ويا شاعر العروبة، وحكيم الدهر، وطريد الغير؛ متى أجد مصداق بيتك المعزي الخالد:

ستألف فِقدانَ الذي قد فقدتَه

كإلفِك وِجدان الذي أنت واجد

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌الشمس

للأستاذ أحمد أمين

أي شيء أحب إلى النفس، من المتعة هذه الأيام بالشمس، والحديث عن الشمس؟

فقد أقرسنا البرد حتى اصطكت منه أسناننا، وانكمش جلدنا، ويبست أطرافنا، وحتى وددنا - إذا رأينا النار - أن نحتضنها، وإذا رأينا الجمرة أن نلتهمها؛ ولوددت في هذه الأيام أن أكون فرانا، أو طباخا، أو سائق قطار، حتى لا أفارق النار

كل شيء في الطبيعة جميل، وأجمل ما فيها شمسها

وهي في شتائنا أجمل منها في صيفنا، ولها في كل جمال

فلها - صيفا - جمال القوة، وجمال القهر، وجمال السفور الدائم، نعظمها ونجلها؛ ونهرب منها ولكن نحبها. تقسو أحيانا، ولكنا نرى الخير في قسوتها؛ فهي كالمربي الحكيم، تقسو وترحم، وتشتد وتلين؛ تلفحنا بنارها، ولكنها نار كنار الحب يكتوي بها قلب العاشق، ثم هو يرجو بقاءها، ويخشى زوالها؛ ترسل علينا شواظاً من نار، فتسفع جلودنا، وتكوي جباهنا، حتى إذا غلا جوفنا، ووغر صدرنا، غابت عنا، وأرسلت رسولها اللطيف الوديع (القمر) فخفف من حدتنا، ولطف من سورتنا، وأصلح ما أفسدت، وضمد ما جرحت؛ فإذا خشيت أن نطمئن إليه، أدركتها الغيرة فغيبته، وطلعت علينا ببهائها، وجمالها وجلالها. وهكذا دواليك

وهي - شتاء - تطلع علينا بوجه آخر، ترينا فيه جمال الحنو، وجمال الدعة، وجمال الرحمة والعطف، وجمال الغادة اللعوب، تشاغلك فتظهر وتختفي، وتسفر وتحتجب، وتخرج من قناعها ثم تتقنع

وتنتقم من رسولها الذي غارت منه صيفاً فتطلعه علينا في جو بارد لا نطيقه، حتى لا نفكر إلا في دفئها ونسمتها، ولا نشتاق لشيء شوقنا لرؤيتها

فما أجملها قاسية وراحمة! وما أجملها واصلة وهاجرة!

تتلون بشتى الألوان فتسحر العقول، وتبهر العيون؛ فهي تارة بيضاء، وتارة صفراء، وتارة حمراء، ثم لا تستطيع أن تحكم هي في آيها أبهى وأجمل، فهي تزين ثيابها بأكثر مما تزينها ثيابها

ص: 3

فتحت النافذة قبل أن اكتب مقالتي فتدفقت في حجرتي أشعتها الفضية اللامعة، وملأتها روحاً وحياة، وملأتني دفئاً، وملأتني معاني، وكانت حياتي في حجرتي قبل زيارتها حياة مظلمة باردة جامدة لا معنى فيها ولا روح

خلعت من جمالك على الزهر، فكان فتنة للناظرين؛ فجماله من جمالك، ولونه قبس من ألوانك، وحياته مدد من حياتك؛ فأبيضه وأحمره، وأصفره وأرزقه، ليس إلا نعمة من نعمك، وأثراً من فيضك

فالوردة الحمراء ليست إلا نقطة من دمك، والياسمين الأبيض ليس إلا لمحة من نورك، والنرجس الأصفر ليس إلا تبراً ذائباً من شعاعك

لقد أبيت على الناس أن يديموا النظر إلى جمالك، فألهيتهم بالنظر إلى بعض آثارك، ولونت الأزهار بألوانك، وأريتهم قدرة إبداعك، فشغل الجاهلون به عنك، وشغف العارفون به على أنه قبس منك، يطالعون جمالك فيه، ويقرأون معانيك في معانيه

ثم شأنك في البحر عجب أي عجب! تضربينه بشعاعك، وتلفحينه بنارك، فيتحول ماءه بخارا، يصعد إليك ليستجير منك، ويمثل بين يديك لتمنحيه عفوك، وتنيليه عطفك، حتى إذا شعر برضاك، وأمن من غضبك، دمع دمعة السرور، ففارقته ملوحته، وعاد إليه صفاؤه وعذوبته، واكتسب منك الحياة فكان ماءً جارياً، بعد أن كان ماءً راكداً، فجرى جداول وانهارا، فأرسلته إلى خدمك في الأرض من أزهار وأشجار يحيي ذابلها، ويستخرج دفينها، وينضج ثمارها

ثم تحركت فملأت الحياة حولك حركة؛ فكم من نجوم لا يعلمها إلا الله تسير حولك وتحذو حذوك؛ ثم تلعبين بالهواء من سخونة وبرودة فيتحرك، ويتعلم منك اللعب فيلعب بالبحار والأنهار والأشجار وبكل شيء يمر به؛ فإذا الدنيا كلها لعبة في يده

ثم أنت أنت حرقت الأشجار والنبات، وطمرتها تحت صفحة الأرض آلافاً من السنين بعد آلاف، حتى إذا تنبه الناس آخر الزمان فطنوا إلى انه مستودع من مستودعاتك، فاستغلوه في كل ما نرى الآن من حركة، فهو سر حركة المصانع والبواخر، وسر حركة القطارات والآلات، فلو قلنا إن كل حركة في الأرض أنت مصدرها لم نبعد

تلعبين بالناس فتنمينهم وتوقظينهم؛ ترسلين أشعتك الجميلة على العالم فينتبه، وتغيبين عنه

ص: 4

فينام؛ ثم تتداولين العام فتنبهين قوماً وتنيمين قوما، ويراك قوماً شروقاً وقوم غروبا، وقوم ليلاً وقوم نهارا، وقوم صيفاً وقوم شتاء، وأنت أنت في عليائك لا تملين الحركة ولا تشعرين بنوم أو يقظة، ولا بليل أو نهار

بل بك يجري الدم في عروقنا، فدمنا من غذائنا، وغذاؤنا من حرارتك، تسلطينها على الأرض فتخرجين منها (حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة أبا)؛ بل ما أفكارنا إلا منك؛ أليست أفكارنا من دمائنا، أو ليست دماؤنا منك؟

بل لقد كنت حيناً من الأحيان آله الناس ومعبودهم، فكنت مصدر وحيهم، ومصدر إلهامهم، ووجهة عبادتهم. رأوك مصدر الحياة فعبدوك، ورأوك مصدر النعم فمجدوك، ورأوك يحيط بك كثير من الغموض على جلائك ووضوحك فألهوك، ورأوك أكبر النجوم فرببوك

ثم أتى الأنبياء، فرأوك تأفلين فسلبوك ألوهيتك، ورأوك تتغيرين فحولوا عبادتهم عنك

ولكن إن سلبوك ألوهيتك فلم يسلبوك عظمتك وجمالك وجلالك وكفاك ذلك فخراً

لست ادري أأصاب العرب إذا أنثوها أم أصاب الإنجليز إذ ذكروها؛ لعل الإنجليز رأوا القمر وادعاً جميلاً هادئاً رقيقاً فأنثوه، ورأوا الشمس قوية قاهرة قاسية فذكروها؛ ولكن لعل واضعي اللغة الإنجليز لو عاشوا في عصرنا، ورأوا ما نرى من قوة المرآة وضعف الرجل، وجبروت المرأة واستكانة الرجل، لرجعوا إلى رأي العرب، وآمنوا ببعد نظرهم، وقلبوا المذكر مؤنثاً والمؤنث مذكرا

ولعل العرب أيضاً رأوا الشمس أم الأرض وأم القمر وأم الزرع فأنثوها، إذ لا تلد إلا المرأة؛ ورأوا القمر طفلاً يدور حول أمه فذكروه، واحتاط العرب أن يدرك الشمس شيء مما يلحق الأنوثة فقال شاعرهم:(وما التأنيث لاسم الشمس عيب)

أما الشمس نفسها فلم تعبأ بتأنيث ولا تذكير، كما لم تعبا بمن أنثها وبمن ذكرها

فهي في سمائها تؤدي رسالتها، وتسير سيرتها، وتبهرنا بجمالها، وتوحي إلينا بأسرارها

فما أعظمك! واعظم منك من خلقك

4 يناير سنة 1937

احمد أمين

ص: 5

‌8 - القلب المسكين

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وأما هو فحدثني بهذا الحديث العجيب من لطائف إلهامه وفنه قال: انصرفت إلى داري وقد عز على أن يكون هذا منها وأن يكون هذا مني، وهي أن غابت أو حضرت فأنها لي كالشمس للدنيا، ولا تظلم الدنيا من ناحية إلا من أنها تضيء في ناحية، فظلمتها من عمل نورها. وكانت ليلتي فارغة من النوم فبت أتململ، وجعل القلب يدق في جنبي كأنه آلة في ساعة لا قلب إنسان؛ وكان في الدنيا من حولي صمت كصمت الذي سكت بعد خطبة طويلة، وفي أنا صمت آخر كصمت الذي سكت بعد سؤال لا جواب عليه؛ وكان الهواء راكداً كالسكران الذي انطرح من ثقلة السكر بعد أن هذى طويلاً وعربد؛ والوجود كله يبدو كالمختنق لان معنى الاختناق في قلبي وأفكاري. ونظرت نظرة في النجوم فإذا هي تتغور نجماً بعد نجم كأن معنى الرحيل انتشر في الأرض والسماء إذ رحلت الحبيبة، وكان كل وجه مضيء يقول لي كلمة: انتظر

فلما عسعس الليل رميت بنفسي فنمت والعقل يقظان، وصنعت الأحلام ما تصنع، فرأيتها هي في تلك الشفوف التي ظهرت فيها عروساً؛ وما اعجب كبرياء المرآة المحبوبة! إنها لتبدو لعيني محبها كالعارية وراء ستر رقيق يشف عنها كالضوء، ثم تدل بنفسها أن ترفع الستر، فان لم يتجرأ هو لم تتجرأ هي؛ وكأنها تقول له: قد رفعته بطريقتي فارفعه أنت بطريقتك. . .

وكانت مصورة في الحلم تصويراً أخراً فلا ينسكب من جسمها معنى الحسن الذي أتأمله وأعقله، ولكن معنى السكر الذي يترك المرء بلا عقل؛ ولم تكن غلائلها عليها كالثياب على المرأة، ولكنها ظهرت لي كاللون على الوردة الزاهية؛ تظهر فتنة وتتم فتنة

أيتها الأحلام ماذا تبدعين إلا مخلوقات الدم الإنساني، ماذا تبدعين؟

قلت: يا صديقي دع الآن هذه الفلسفة وخذ في قص ما رأيت. ثم ماذا بعد الوردة ولون الوردة؟

قال: انه القلب المسكين دائما، انه القلب المسكين. لقد ضحكت أي وقالت: هاأنذا قد جئت، وأقبلت ترائيني بوجهها، وتتغزل بعينيها، وتتنهد بصدرها، وألقت يدها في يدي فأحسست

ص: 7

اليدين تتعانقان ولا تتصافحان؛ ثم تركناهما نائمتين إحداهما على الأخرى، وسكتنا هنيهة وقد خيل إلينا إذا تكلمنا استيقظت يدانا

أما صافحتك امرأة تحبها وتحبك؟ أما أحسست بيدها وقد نامت في يدك ولو لحظة؟ أما رأيت بعينيك نعاس يدها وهو ينتقل إلى عينيه فإذا هما فاترتان ذابلتان، وتحت أجفانهما حلم قصير؟

قلت: يا صديقي دع الفلسفة؛ ثم كان ماذا بعد أن نامت يد على يد؟

قال: ثم كانت سخرية من الشيطان اقبح سخرية قط

قلت: حسبي لكأنك شرحت لي ما بقى. . .

فضحك طويلا وقال: أن الشيطان يسخر الآن منك أيضاً، وكأني به يقول لك: وكان ما كان مما لست اذكره. . . أفتدري ما الذي كان وما بقية الخبر

لقد كنت مولعاً بامتحان قوتي في الضغط بيدي على أعواد منصوبة من الحديد، أو على أيدي الرجال الأقوياء إذا سلمت عليهم؛ فلما صافحني لبثت مدة من الزمن ثم شددت على يدها قليلاً قليلاً، فتنبهت في هذه العادة؛ فمسخت الحلم وانصرف وهمي إلى أقبح صورة وأشنعها وأبعدها مما أنا فيه من الحب ولذات الحب؛ فإذا بازائي وجه، وجه من؟ وجه مصارع ألماني كنت اعرفه من عشرين سنة واضغط على يده. . .

قلت: إنما هذه كبرياؤك أو عفتك تنبهت في تلك الشدة من يدك، ولا يزال أمرك عجيبا؛ فهل معك أنت ملائكة ومع الناس شياطين؟

قال: والذي هو اعجب أني رأيت في أضعاف أحلامي كأن قلبي المسكين يخاصمني وأخاصمه؛ وقد خرج من أحناء الضلوع كأنه مخلوق من الظل يرى ولا يرى إذ لا شكل له؛ وسبني وسببته، وقلت له وقال لي، وتغالطنا كأننا عدوان؛ فهو يرى أني امنعه لذته، وأرى انه هو يمنعني، وانه أشقى بي على ما أشقى؛ قلت له فيما قلت: لا قرار على جنايتك فاذهب عني ولا تتسم باسمي فانه لا فلان لك بعد اليوم؛ ولولا انك مخذول في الحب لعلمت أن لمسة يد الرجل ليد المرأة الجميلة نوع مخفف من التقبيل، فإذا هي تركته يرتفع في الدم انتهى يوماً إلى تقبيل فمه لفمها، ولولا انك مخذول في الحب لعلمت أن هذا الضم بين اليدين نوع مخفف من العناق، فإذا هي تركته يشتد في الدم انتهى يوماً إلى ضم

ص: 8

الصدر للصدر؛ ولكنك مخذول في الحب، ولكنك مخذول

وقال لي فيما قال: وأنت أيها الخائب؟ أما علمت أن أناملها الرخيصة هي أناملها، لا أعوادك من الحديد؟ فكيف شددت عليها ويحك من تلك الشدة التي أخرجت لك وجه المصارع؟ ولكنك خائب في الحب، ولكنك خائب.

قلت: فهذه قضية بيني وبينك أيها القلب العدو؛ لقد تركتني من الهموم كالشجرة المنخرية قد بليت وصارت فيها التخاريب فلا حياتها بالحياة ولا موتها بالموت، وكم علقتني بفاتنة بعد فاتنة لا عنها إقصار ينتهي ولا فيها مطمع يبتدئ؛ ما أنت إلا وحش اكبر لذته لطع الدم

واستدار الحلم فلم البث أن رأيتني في محكمة الجنايات، وكأني شكوت قلبها إليها فهو جالس في القفص الحديدي بين المجرمين ينتظر ما ينتظرون من الفصل في أمرهم؛ وقد ارتفع المستشارون الثلاثة إلى منصة الحكم وجلس النائب العام في مجلسه يتولى إقامة الدعوى وبين يديه أوراقه ينظر فيها، ورأيت منها غلافاً كتب على ظاهره: قضية القلب المسكين.

وتكلم رئيس المحكمة أو من تكلم فقال: ليس في قضية القلب محام، فابغوه من يدافع عنه؛ ثم التفت إليه وقال: من عسى تختار الدفاع عنك؟

قال القلب: أو هنا موضع للاختيار يا حضرة الرئيس؟ ليس تحت هذه - وأومأ إلى السماء - ولا فوق هذه - وأومأ إلى الأرض - إلا. .

فبدر النائب العام وقال: إلا الحبيبة. أكذلك. غير أنها أستاذة في الرقص لا في القانون

- القلب: ولكنني لا اختار غيرها محكوماً لي أو محكوماً علي. أنا أريد أن انظر فيها وانظروا انتم في القضية. . .

- الرئيس: فليكن؛ فهذه جريمة عواطف ائذن لها أيها الآذن

فنادى المحضر: الأستاذة. الأستاذة

وجاءت مبادرة، ودخلت تمشي مشيتها وقد افتر ثغرها عن النور الذي يسطع في النفس؛ وأومضت بوجهها يميناً وشمالاً فصرف الناس جميعاً أبصارهم إليها وقد نظروا إلى فتنة من الفتن، وثارت في كل قلب نزهة، وغلبت الحقيقة البشرية فانتفضت طباع الموجودين في قاعة الجلسة، وابطل قانون جمالها قانون المحكمة، فوقعت الضجة وعلت الأصوات

ص: 9

واختلطت؛ وترددت بين جدران المكان صدى في صدى كان الجدران تتكلم مع المتكلمين

أصوات أصوات: سبحان الله! سبحان الله! تبارك الله، تبارك الله، آه آه؛ آه آه؛ وسمع صوت يقول: اتهموني أنا أيضاً. . . فنفرت الكلمات وأنا وأنا وانا. واختفت المحكمة وانبعث المسرح بدخول فاتنته الراقصة؛ وكان المستشارون والنائب العام في أعين الناس كأنهم صور معلقة على الحائط لا يخشاها أحد أن تنظر إلى ما يصنع

فصاح الرئيس: هنا المحكمة! هنا المحكمة! سبحان الله. . . المحكمة المحكمة

- النائب العام: هذا بدء لا ترضاه النيابة ولا تقبل أن تنسحب عليه. نعم أن هذا الوجه الجميل ابرع محام في هذه القضية، ونعم أن جسمها. . . آه ماذا؟ إنكم تأتون بالشهوة الغالبة القاهرة لتدافع عن المشتهي. . . عن المتهم. هذا وضع كوضع العذر إلى جانب الذنب. وكأنكم يا حضرات المستشارين. .

- فبدرت المحامية تقول في نغمة دلال وفتور: وكأنكم يا حضرات المستشارين قد نسيتم أن النائب العام له قلب أيضاً. . .

واشتد ذلك على النائب وتبين في وجهه، فقال: يا حضرة الرئيس

- الرئيس مبتسما: واحدة بواحدة، أرجو إلا تكون لها ثانية، ومعنى هذا كما هو ظاهر إلا تكون لها ثالثة. . .

(ضحك)

قال صاحبي المسكين: وكنت بلا قلب. . . فلم التفت للجمال، بل راعني ذكاء المحامية ونفاذها وحسن اهتدائها إلى الحجة في أول ضرباتها، وتعجبت من ذلك اشد التعجب، أيقنت أن النائب العام سيقع في لسانها كما يقع مثله في لسان المحامي القدير، ولكن كما يقع زوج في لسان زوجة معشوقة متدللة تجادله بحجج كثيرة بعضها الكلام. . . وقلت في نفسي:

يا رحمة الله لا تجعلي من النساء الجميلات الفاتنات محاميات في هذه المحاكم، فلو ألبسوهن لحى مستعارة لكان الصوت الرخيم وحده من تلك الأفواه الجميلة العذبة نداءا قانونياً للقبلات. . .

ونهضت المحامية العجيبة فسلطت عينيها الساحرتين على النائب، ثم قالت تخاطب المحكمة: قبل النظر في هذه القضية قضية الحب والجمال، قضية قلبي المسكين. . . أريد

ص: 10

أن أتعرف الرأي القانوني في اعتبار الجريمة. أهي شخصية، فتقصر على صاحبها؛ أو خاصة فتضر غير جانبها؛ أو عامة فيتناولها العموم المحدود لمن تجمعهم جامعة الحب؛ أو هي اعم، فيتناولها العموم المطلق للهيئة الاجتماعية؛ ما هي جريمة قلبي. .؟

- الرئيس: ما رأى النيابة؟

النائب ضاحكا: (غزالتها رايقة) كما يقول الراقصات والممثلات. . . . أرى أنها جريمة آتية من ضرب الخاص في العام. . (ضحك)

المحامية: جواب كجواب القائل: حب أبي بكر. كان ذلك الرجل يحب زوجته الجميلة ويخافها، وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ له الكلام وهو يفرق منها ولا يخافها. فرآها يوما وقد طابت نفسها فأراد أن ينتهز الفرصة ويشكو قسوتها؛ فقال: يا فلانة قد والله أحرق قلبي. . ولم يدعه يتم الكلمة، فحددت نظرها إليه وقطبت وجهها وقال: حب أبي بكر الصديق رضى الله عنه. . (ضحك) ورنت ضحكة المحامية فاضطربت لها القلوب، ووقعت في كل دم، وفي دم النائب أيضاً؛ فانخزل ولم يزد على أن يقول: أحتج من كل قلبي. .

الرئيس: لندخل في الموضوع، ولتكن المرافعة مطلقة فان الحدود في جرائم القلب تسدل وترفع كهذه الستائر في مسرح التمثيل. وعشرون ستارة قد تكون كلها لرواية واحدة

- النائب العام: يا حضرات المستشارين، لا يطول اتهامي فان هذا القلب هو نفسه تهمة متكلمة

المحامية: ولكنه قلب

النائب: وأنا يا سيدتي لم أحرف الكلمة ولم اقل انه كلب. (ضحك) وتضرج وجه المحامية وخجلت

- الرئيس: الموضوع الموضوع

النائب: يا حضرات المستشارين. أن ألم هذه الجريمة آما أن يكون في شخص الجاني أو ماله، أو صفته كان يكون زوجا مثلا، أو صيته الأدبي. فأما الشخص فهذا ظاهر، وأما المال فنعم أن القلب المسكين قرر لنفسه ولصاحبه إلا يبتاع أبدا تذكرة دخول إلى جهنم. . . (ضحك)

ص: 11

- المحامية: أستميح النائب عذرا إذا أنا. . . إذا أنا فهمت من هذا التعبير أن حضرته يعرف على الأقل أين تباع هذه (التذاكر). . . (ضحك) وتفرج وجه النائب العام وخجل.

- الرئيس: كنت رجوت إلا تكون للأولى ثانية، وقلت: أن معنى هذا كما هو ظاهر إلا يكون لها ثالثة؛ فهل أنا محتاج إلى القول بان المعنى المنطقي إلا يكون للثالثة رابعة. . .؟

- النائب: يا حضرات المستشارين. وأما الصفة، فهذا القلب المسكين قلب رجل متزوج؛ ولا تغرنكم صوفية هذا القلب، ولا يخدعنكم تألهه وزعمه السمو. انه على كل حال يعشق راقصة، وهذا اعتداء في ضمنه اعتداء؛ على الزواج وعلى الشرف. وهبوه متصوفاً متألهاً ولم يتصل بالراقصة، فهو على كل حال قد أخذها ولكن بأسلوبه الخاص. . . وبهذا اقترف الجريمة. آه. أن هذه القضية ناقصة؛ وذلك نقص فيها أخشى أن يكون نقصا في الحكم أيضاً، فأتموه انتم. يا حضرات المستشارين أن النقص فيها إنها لا شهود فيها؛ ولكن هذا عمل آلهي لا يظهر إلا يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون

- المحامية: هذا تعبير اكبر من قدرة قائله ومن منزلته ووظيفته، هذا تعبير جسور. يا حضرة النائب؛ من الذي لا يحمل شهودا في لسانه ويديه ورجليه؛ بل ألف شاهد على ليلة واحدة. . . يجب أن يكون مفهوما بيننا يا حضرة النائب أن النون والباء في لفظة (نائب) غير النون والباء في لفظة (نبي)

- النائب: يا حضرات المستشارين. لا أرى مما يحرجني في الاتهام أن أصرح لكم أن مما حيرني في هذه الجريمة أن ليس فيها من أوصاف الجرائم إلا ثلم الكرامة. فلا قذف ولا سب ولا هتك عرض ولا فجور، ولا اصغر من ذلك، ولا كاس خمر للراقصة. . .

- المحامية: لا أرى يا حضرة النائب كاس ماء، وسيجف حلقه في هذه القضية فلعل المحكمة تأمر لي بكاس. . . (ضحك)

- النائب: يا حضرات المستشارين. يعشق راقصة؛ اسم فاعل من رقص يرقص؛ امرأة لا تلبس ثيابا بل عرياً في شكل ثياب. . . امرأة لا كالنساء؛ كذبها هو صدق من شفتيها. لماذا؟ لأنهما حمراوان رقيقتان عذبتان محبوبتان مطلوبتان. . .

المحامية: تضحك. . .

- النائب بعد أن تتمتع: امرأة لا كالنساء، جعلتها الحرفة امرأة في العمل، ورجلاً في

ص: 12

الكسب. . .

- المحامية: ولكنك لا تدري تحت أي حمل سقطت المسكينة. وقد يكون في الرذائل رذائل كبعض أصحاب الألقاب؛ ذات عظمة. . .

- النائب: يحب راقصة، أي يضعها في عقله الباطن ويشتهيها. نعم يشتهيها. فمن عقله الباطن، وبتعبير اللغة، من واعيته - تخرج الجريمة أو على الأقل فكرة الجريمة

والصيت الأدبي يا حضرات المستشارين؟ هل من كرمة لمن يعشق راقصة؟ لا بل هل من كرامة في الحب؟ ألم يقولوا أن كرامة الرجل العاشق تكون تحت قدمي المرأة المعشوقة كالممسحة الخشنة تمسح فيها نعليها

الحب؟ ما هو الحب؟ انه ليس فكرة، بل هو شيطان يتلبس لجسم العاشق ليعمل أعماله بأداة حية، وهذا التركيب الحيواني للإنسان هو الذي يهيئ من الحب مداخل ومخارج للشياطين في جسمه. وهل رضى صاحب القلب المسكين بجناية قلبه عليه، وعظيم ما انتهك من أخلاقه السامية، هل رضى بعشقه راقصة؟ انه لم يرض الرضى الصحيح، أو رضى بقدر ما. فعلى كليهما يقوم في نفسه مانع والمانع من الرضى هو الموجب للعقوبة

- المحامية: ولكن قدراً من الرضى ينزل بالجناية فيردها إلى جنحة كما في القانون الإنجليزي. وقد قرر الشراح انه ما دام الرضي غير مستلب بكله، فالجريمة غير واقعة بكلها

- النائب: جنحة كل قلب هي جناية من هذا القلب بخصوصه، على طريقة:(حسنات الأبرار سيئات المقربين). والعبرة هنا بالواقع لا بالصفة القانونية. وقد قرر الشراح أن الواقع قد يكون أحياناً سبباً في تشديد العقوبة، فلا بد من تشديد العقوبة في هذه القضية. لا اطلب الحكم بالمادة 230 عقوبات بل بالمواد من 230 إلى 241 ضربة واحدة. . .

- المحامية: قد نسيت أن هذا قلب وعقوبته عقوبة لصاحبه البريء

- النائب: إذن اطلب عقابه بحرمانه الجمال؛ وهذا اشق عليه من العقاب باثنتي عشرة مادة وبعشرين وثلاثين

الرئيس: وما هي الطريقة لتنفيذ الحكم بهذا الحرمان؟

النائب: تأمر المحكمة بالمراقص كلها فتغلق، وبالمسارح كلها فتقفل، وبالسما فتبطل إلا ما

ص: 13

لا جمال فيه منها ولا غزل ولا حب، ويحرم السفور على النساء إلا العجائز والدميمات، ويمنع نشر صور الجمال في الصحف والكتب، و. . .

المحامية: قل في كلمة واحدة: يجب إصلاح العالم كله لإصلاح القلب الإنساني

وجلس النائب، فالتفت الرئيس إلى المحامية وقال لها:

وأما هو؟

(لها بقية - طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 14

‌الريف

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أراني كلما فسد الجو، وكثر تقلبه، وعز الاطمئنان إليه، أميل إلى الخروج إلى الصحراء أو الريف، ولا أطيق القعود في البيت؛ ولست اعرف لهذا المزاج - الشاذ فيما اعتقد - تعليلاً يسكن إليه العقل وتستريح إليه النفس. فأما انه مزاج شاذ فاعرفه من صياح أهلي حين يرونني ارتدي ثيابي والمطر منهمر والريح تعصف، وأهم بالخروج؛ ولست أراهم يملون أن يقولوا لي:(يا شيخ، ما هذا الجنون؟ تخرج في هذا المطر!! أما أن هذه لحكاية! اقعد. . . اقعد. . . نضرم لك الفحم، ونشوي (أبا فروة) أو نمص القصب ونحمد الله على وقاية الجدران) فأهز رأسي وأقول: (ما أحلى هذا! ولكني لا أطيق المكث هنا على حبي له بينكم، ولست احب أن أفارقكم لحظة، وانه ليعز على إلا تأخذكم عيني في حيثما أكون، ولكن نفسي أمارة بالسوء، أو بالحماقة، أو بما شئتم غير ذلك. فإذا كنتم تحبونني فتعالوا معي. . . فان الفضاء رحيب، الصحراء واسعة، وهاتوا القصب معكم، وأبا فروة أيضاً. . . نضع هذا كله في السيارة ونمضي بها. . . قوموا)

ولكنهم لا يفعلون، فامضي وحدي وأعود بزكام أو برد، ولكني أعود مستريح النفس هادئ الأعصاب!

وقد كنت أقول لصديق لي منذ بضعة أيام، وهو من أصحاب العقول المثقفة، والنظر البعيد، والغوص الشديد:(يا أخي، لماذا لا يحب المصريون الريف؟)

قال: (وكيف لا يحبونه وهم لا يبرحونه؟)

قلت: (إنما اعني أهل المدن - القاهرة مثلا - قلما يخطر لهم أن يقضوا أيام البطالة والفراغ من العمل في رحلة إلى الريف)

قال: (وأين تريد أن يذهبوا، وليس في الريف لغير أهله مذهب أو مقام؟)

قلت: (هذا هو سؤالي. . . لو كان الناس عندنا يحبون الريف ويطيب لهم أن يقضوا فيه كل ما يسعهم أن يخسروه من الوقت، لتغير حال الريف، وتكيف على مقتضى هذه الرغبة، وصار لغير أهله فيه مذهب ومقام)

قال: (ربما) وانقطع كلامنا في ذلك

ص: 15

ولكني لم اكف عن التفكير فيه، وقد أدرت عيني في شعوب البحر الأبيض فإذا أكثرها كأهل مصر، ليس لهم (غرام) أو (عشق) للريف أو ما يسمى (الطبيعة)، فالروم والطليان والفرنسيون والأسبان، كلهم على شاكلتنا: الحضري منهم يبقى في المدينة ولا ينشد الريف أو يحن إليه؛ والريفي في قريته، يندران تنزع نفسه إلى تركها أو التطواف بعيدا عنها. ولا نكران أن هجرة أبناء هذه البلاد إلى الأقطار الأخرى غير قليلة، وفي مصر وحدها منهم عشرات الألوف، أو مئاتها، ولكن الهجرة تجيء عن اضطرار لا عن رغبة، والباعث عليها الحاجة، فلا دخل لهذا فيما أقول عنهم من ضعف ولوعهم (بالطبيعة)

واكثر الأجانب هنا يتخذون مساكنهم في قلب المدينة ولا يبعدون ببيوتهم عن أماكن عملهم بعدا يكلفهم مشقة أو يجشمهم عناء ونفقة، ما خلا الإنجليز، فان الرجل منهم يكون عمله في شبرا، فيتخذ بيته في أطراف مصر الجديدة أو في الزمالك على النيل، أو في الجيزة على طريق الهرم، ولا يبالي ما يضيع من الوقت في الذهاب والإياب، ولا يحفل ما يكلفه هذا البعد من النفقة. وقلما يقضي يوم بطالة في بيته إلا إذا كان مريضا. وليس بالنادر أن ترى الواحد منهم يحمل في سيارته خيمة وطعاما وشرابا يكفيان أياما، وفراشا أيضاً للنوم والجلوس، وأدوات للعب، ويذهب بذلك كله إلى السويس مثلا؛ ولو شاء لأعفى نفسه من هذا العناء كله، فلن يعدم فندقا يبيت فيه، ولكنه يضرب خيمته على ساحل البحر أو في الصحراء ويقضى أياما ناعما بالعزلة والوحدة وبما حوله من وجوه الأرض أو الماء، ويروح يمشي بضعة فراسخ كل يوم. . . وقد يكون وحده، فلا يشعر بوحدة ولا تخطئه سكينة النفس، وقد يكون معه غيره، فلا تراه - فيما يبدو لك - شاعرا بأنس يفتقده في وحدته، فكأن انسه كله بالمحل ولا بالرفقة. . ومن المتع التي يحرص عليها أن يكون له بيت أو كوخ - سيان عنده - في مكان ريفي بعيد يذهب إليه كلما أوسعه أن يخلو من مشاغل العمل. فهو في هذا نسيج وحده. ولا يمنعه المطر أو الإعصار أن يخرج في ثياب السهرة ليتعشى ويرقص ويحيى الليل على اسعد حال، ولا يقعده البرد في بيته كما يقعدنا - حتى في بلاده التي لا اعرف اسخف منها جوا، ولا ابعد عن الاعتدال، فهو هناك كعهدنا به هنا

وآهل الشام على خلاف آهل مصر، فانهم كثيرو الخروج إلى الرياض والبساتين؛ حتى

ص: 16

(قهواتهم) أو (مقاهيهم). كما يريدوننا أن نسميها - قلما تكون إلا في بستان أو كما يقول ابن الرومي:

(في) ميادين يخترقن بساتي

ن تمس الرؤوس بالأهداب

ولا اعرف كما قلت تعليلا لهذا الاختلاف في الطباع؛ واحسب أن اعتدال جو بلادنا على العموم يحمل على الرضى بالموجود ولا يغري بغشيان غيره. ولماذا يشتاق ساكن المدينة إلى الريف وليس في المدينة ما يزهده فيها ويدفعه إلى الخروج منها والتماس ما هو أخف محملا، واكفل براحة النفس وسكينة الأعصاب؟ ومما يساعد على القناعة ويبعث على القعود أن التنوع مفقود؛ فالذي يترك القاهرة لا يتوقع أن يستفيد متعة يخطئها فيها؛ والمناظر في الريف واحدة أو هي متشابهة، فلا جبال هناك ولا غابات ولا إحراج، ولا غير ذلك مما يحرك الخيال فيحرك النفس، ولا اختلاف هناك يجعل للنقلة لذة ترجى. والريف من مصر قريب، فهو معروف غير مجهول. والصحراء حولها من بعض جهاتها فلا موجب للتخيل، ولكن الإنجليزي شانه غير شاننا، فان جو بلاده دائم التقلب، وهو مع تقلبه السريع سخيف غير مأمون؛ وقد يكون هذا مما يدفع الإنجليزي إلى اشتياق الريف ويغريه بتصور سحره ويبعثه على التماسه ونشدانه حتى ولو تكررت خيبة أمله فيه

وأمم البحر الأبيض شبيهة بنا من حيث المزاج، وجوها اقرب إلى الاعتدال من جو الشمال؛ ومن هنا فيما أظن مشاكلتها لنا في هذه الطبيعة، ولست أرى وجوه الاختلاف تؤثر في هذا

ولا نكران إننا تغيرنا. فكثر بيننا الذين يطلبون الريف أو الصحراء ويؤثرونهما على المدن، ولكننا نفعل ذلك على سبيل التقليد ومن قبيل المحاكاة ويفضل التثقيف الحديث والاتصال الوثيق بالغرب لا بدافع من الفطرة وحافز من الطبيعة. ومثلنا في هذا أمم البحر الأبيض فقد ذهبت تقلد أمم الشمال كالإنجليز والاسكندناويين والألمان، وراحت تتكلف حب الطبيعة حتى لصارت تبدو كأن هذا فيها طباع، وما هو بذاك

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 17

‌الخليفة العزيز بالله وزوجه النصرانية وأصهاره

‌البطاركة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

ليس غريبا أن تقرا في التاريخ الإسلامي أن خليفة من الخلفاء قد ولد من أم نصرانية أو انه قد تزوج من نصرانية وله بين الأمراء النصارى أصهار ولأولاده منهم أقارب؛ ولكن ربما يبدو غريبا أن يقترن خليفة مسلم بنصرانية تنتمي إلى آسرة من الأحبار، وأن يكون له بين أحبار الكنيسة أصهار، ولولده منهم أقارب وخؤولة: تلك هي حالة العزيز بالله ثاني الخلفاء الفاطميين بمصر، ولد المعز لدين الله، ووالد الحاكم بأمر الله

كانت الخلافة الفاطمية منذ قيامها بمصر تتشح بصيغتها المذهبية العميقة؛ بيد إنها رأت أن تتبع نحو الذميين من النصارى واليهود سياسة التسامح الحر؛ وظهر اثر هذا التسامح جليا في علائق الذميين بالدولة، وفي ارتفاعهم إلى أرقى مناصبها؛ بل نرى في خلافة المعز لدين الله وولده العزيز ثبتا حافلا من الوزراء والكتاب النصارى واليهود يحتلون ارفع المناصب في البلاط وفي الحكومة؛ وكان أول وزراء الدولة الفاطمية وأعظمهم يهوديا اعتنق الإسلام، وهو الوزير يعقوب بن كلس؛ وفي عصر العزيز كان مدير الدولة وكبير الوزراء نصراني هو عيسى بن نسطروس؛ وكان متولي أعمال الشام يهوديا يدعى منشا؛ وفي عهد المعز والعزيز أنشئت كنائس وأديار كثيرة؛ وبلغ نفوذ النصارى واليهود ذروته في عصر العزيز حيث استولى الوزراء والكتاب الذميون على معظم أعمال الدولة، واستأثروا بمعظم السلطات والنفوذ، وقد كان لهذه السياسة المتطرفة في التسامح والعطف أثر سيئ في المجتمع المصري؛ وتنقل الرواية إلينا في ذلك قصة خلاصتها أن العزيز بالله رأى ذات يوم في طريق الركب الخلافي امرأة تمد بيدها رقعة كأنها ظلامة. فتناولها، فإذا بالمرأة هيكل من الجريد قد ألبس أزرار، وإذا في الرقعة ما يأتي:(بالذي أعز اليهود بمنشا، والنصارى بعيسى ابن نسطورس، وأذل المسلمين بك إلا ما كشفت ظلامتي. . .) فأدرك العزيز ما انتهت إليه نفسية الشعب من تحكم الأقلية الذمية في مناصب الدولة ومرافق الأمة؛ وسواء صحت هذه الرواية أم كانت فقط أسطورة ذات مغزى، فان العزيز لم يلبث أن أدرك خطر هذه السياسة على سلطان الخلافة وهيبة إمامتها المذهبية، فانقلب

ص: 18

إلى مطاردة الذميين، وقبض على الوزراء والكتاب من النصارى واليهود؛ ولكنه عاد فأفرج عنهم بعد أن اتخذ بعض الضمانات التي تكفل الحد من طغيانهم وإسرافهم في سياسة الاصطفاء

وتجمع الروايات المعاصرة على أن جنوح العزيز إلى هذا الإسراف في التسامح نحو الذميين يرجع من وجوه كثيرة إلى نفوذ زوجه أو سريته النصرانية، وابنته منها الأميرة ست الملك؛ وكانت فتاة عاقلة حازمة يحبها والدها العزيز ويستمع إلى نصحها، في كثير من الأمور؛ وأخيرا إلى نفوذ صهريه أخوي زوجه، وهما حبران كبيران تبوأ في عصر العزيز أرفع المناصب الكنسية

وهذه القصة: أعنى قصة زواج العزيز من سيدة نصرانية، قصة يمازجها شيء من الغموض والاضطراب، وتنفرد بتفاصيلها الرواية النصرانية، ولا تكاد تشير إليها الرواية الإسلامية؛ وتقول لنا الرواية أن هذه السيدة زوج العزيز أو سريته، كانت جارية رومية نصرانية من طائفة الملكية، وكان لها أيام العزيز نفوذ كبير في الدولة؛ وكان لها أخوان هما ارسانيوس أو (أرساني) وأريسطيس، رفعهما العزيز بتدخله ونفوذه إلى ذرى المناصب الكنسية، فعين أريسطيس بطريركا للملكية ببيت المقدس (سنة 375هـ) وعين أرسانيوس في نفس العام مطرانا للقاهرة، ثم عين بعد ذلك بطريركا للملكية بالإسكندرية (سنة 390هـ) وكان لهذين الحبرين بلا ريب نفوذهما في بلاط يرتبط معها بأواصر المصاهرة، وفيه أختهما (زوج الخليفة) وابنته منها الأميرة العاقلة المحبوبة ست الملك؛ وكانت عند وفاة والدها العزيز في نحو السادسة والعشرين من عمرها؛ وقد حملت رسالته في التسامح بعد ذلك في فرص كثيرة، ولاسيما بعد مصرع أخيها الحاكم بأمر الله سنة 411هـ

وتذهب الرواية الكنيسة إلى أبعد من ذلك، فتقول لنا أن هذه السيدة النصرانية هي أم الخليفة الحاكم بأمر الله ولد العزيز، وتنفرد بهذا القول الرواية القبطية المعاصرة، وتقول لنا بالنص ما يأتي:(وكان الملك العزيز بالله بن المعز لدين الله قد رزق ولدا من سرية له رومية وجلس في الملك من بعده، ولقب بالحاكم بأمر الله؛ وكان للسرية المذكورة التي هي أم الحاكم أخ اسمه أرساني فجعلتها بعنايتها بطرك الملكية. . .) ولكن الرواية النصرانية تنقل إلينا في غير موطن أن هذه السيدة هي أم ست الملك ابنة العزيز دون الإشارة إلى

ص: 19

أنها أم الحاكم؛ فيقول لنا يحيى الانطاكي مثلا، وهو مؤرخ معاصر تقريبا:(وفي شهر رمضان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة صير اريستس خال السيدة ابنة العزيز بالله بطريركا على بيت المقدس، أقام عشرين سنة ومات بالقسطنطينية، وصُير أخوه ارسانيوس أيضاً مطرانا على القاهرة ومصر). ويقول لنا المكين بن العميد في صراحة ووضوح: (أن العزيز بالله صاحب مصر تزوج امرأة نصرانية ملكية ورزق منها بنتا؛ وكان للمرأة أخوان أحدهما اسمه ارميس (اريستس) صيره بطركا على بيت المقدس، والآخر أرسانيس صيره بطركا للملكية على القاهرة ومصر؛ وكان لهما من العزيز جانب لأنهما أخولة ابنته)، وهذا بينما تلزم الرواية الإسلامية الصمت إزاء هذه المسالة كلها، ولا تشير إلى أم الحاكم إلا بأنها (الست العزيزية). بل نرى المقريزي يشير إلى ارسانيوس وولايته لمنصب البطريركية دون الإشارة إلى أنه صهر العزيز أو خال ست الملك. ومما يبعث إلى التأمل انه إذا كانت السيدة النصرانية هي أم ست الملك، فأن العزيز يكون قد تزوجها أو تسراها وهو ولي عهد بالمغرب قبل سنة 359هـ - وهو تاريخ مولد ابنته - ففي أي ظروف حصل هذا الزواج أو التسري؟ وفي أي ظروف وقعت هذه الجارية الرومية المصرية في يد البلاط الفاطمي بالمغرب؟ هذا ما لا توضحه لنا الرواية، ومن جهة أخرى فان الرواية الكنسية (القبطية) المعاصرة هي التي تنفرد بالقول بان هذه السيدة هي أيضاً أم الحاكم، هذا بينما تكرر الرواية النصرانية المعاصرة والمتأخرة إنها هي أم ست الملك فقط؛ ولو كانت نفس الأم هي أم الحاكم، وهو الخليفة وشخصيته أهم من شخصية أخته، لما ترددت الرواية في ذكر هذه الحقيقة. وقد ولد الحاكم بعد مولد أخته بستة عشر عاماً (سنة 375 هـ) ولم يرزق العزيز خلال هذه الفترة إلا بابن يدعى محمداً وقد توفى طفلاً؛ وفي ذلك أيضاً ما يبعث إلى التأمل

أفلا نستطيع على ضوء هذه الملاحظات أن نرتاب في هذا القول الذي تنفرد به الرواية الكنسية، وأن نعتقد أن هذه السيدة النصرانية هي أماً لست الملك فقط، وأن (السيدة العزيزية) التي تشير إليها الرواية الإسلامية بأنها أم الحاكم هي سيدة أخرى، وإنها هي الزوجة الشرعية؟ هذا ما نميل إلى الأخذ به، خصوصاً إذا ذكرنا موقف ست الملك من النصارى، وهو موقف عطف دائماً وموقف أخيها الحاكم وهو موقف اضطهاد وقسوة لا

ص: 20

مثيل لهما، وصمت الرواية الإسلامية في هذا الموطن لا يمكن أن يحمل على انه صمت تحفظ وإغضاء، لان الرواية الإسلامية تقدم إلينا ثبتاً حافلا من الخلفاء الذين ولدوا من أمهات من النصارى، وفي مقدمتهم عبد الرحمن الناصر اعظم خلفاء الأندلس

وتقدم إلينا الرواية النصرانية بعض تفاصيل عن حياة هذين الحبرين الكبيرين اريسطيس وارسانيوس صهري الخليفة العزيز بالله؛ فتقول لنا أن الطائفة الملكية اشتد ساعدها في عصر العزيز من جراء هذه المصاهرة الملوكية، ووضعت يدها على بعض كنائس اليعاقبة؛ وأن البلاط الفاطمي في أوائل عهد الحاكم بأمر الله، وفي عهد مدبر دولته برجوان الصقلبي، انتدب اريسطيس بطريرك بيت المقدس ليكون سفير الحاكم إلى قيصر قسطنطينية باسيل الثاني في سنة 390هـ (سنة 1000م)، ولكي يعمل على عقد الهدنة والصداقة بين مصر والدولة البيزنطية بعد أن استطالت الحرب بينهما في الشام منذ عهد المعز لدين الله؛ فسار اريسطيس إلى قسطنطينية مع رسل القيصر، وقام بالمهمة، وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين، وأقام اريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفى في سنة 394 هـ

أما ارسانيوس فانه لبث بطريركا للملكية زهاء عشر سنين؛ وكان في أواخر أيامه قد اعتزل الحياة، في دير القصير الذي شيد في بعض ربى المقطم، وعكف على النسك والتعبد؛ وفي سنة 400هـ (1010م) حينما اشتدت موجة الاضطهاد الديني التي أثارها الحاكم بقوانينه الصارمة ضد النصارى واليهود، أمر الحاكم بهدم هذا الدير الشهير ضمن ما أمر بهدمه من البيع والأديار الأخرى، فهاجمته الغوغاء، وقوضت أبنيته، ونهبت مقتنياته وآنيته، واخرج منه ارسانيوس مع باقي الرهبان الساكنين فيه؛ وقضى ارسانيوس اشهرا أخرى في بعض البيع حزيناً على ما أصاب قومه من الخطوب؛ وفي ذات ليلة من شهر ذي القعدة سنة 400هـ نفذ بعضهم إلى مكانه المتواضع وقتلوه سراً، واحتوت ابنة أخته ست الملك على ما كان له من المال والثياب والذخائر المقدسة. ولم تحدثنا الرواية عمن قتله أو من أمر بقتله، بيد أن في هذا الحادث نفسه ما يبعث إلى الريب في قرابة الحاكم بأمر الله بالحبر المقتول

تلك هي قصة زوج العزيز أو سريته النصرانية وقصة أخويها الحبرين البطركين؛ وهي

ص: 21

مصاهرة طريفة فريدة في نوعها، ولا تذكر لنا الرواية مثلاً أخر يرتبط فيه خليفة مسلم مع بعض خلفاء النصرانية برباط المصاهرة، وإذا استبعدنا من الرواية ما يتعلق بالحاكم ونسبته لهذه الأم النصرانية، فانه ليس ثمة ما يحمل على الشك في جوهرها وتفاصيلها. بيد أن الرواية لا تحدثنا عن اسم هذه السيدة الرومية النصرانية التي سطعت في قصر من أعظم القصور الإسلامية، وفي ظل خلافة تطبعها الصبغة المذهبية بأعمق طابع، ولا تحدثنا عن مصيرها

محمد عبد الله عنان

ص: 22

‌صفحة من طفولتي ترتبط بصفحة من حاضري

للأستاذ خليل هنداوي

(كان لي أخت فقدتها صغيرة أيام نكبة الحرب العظمى

بالكوليرا. ومازال اسمها يطوي أيامي حتى استقر على

صغيرة لي حلت مكان الأولى؛ فكانت الأخت والبنت؛ وكان

لها اسمها ومقامها)

يا لشد ابتهاجي حين أراها تخطر أمامي ووجهها يتدفق نوراً بالصفاء، وشعرها الأشقر يتموج كالشعلة!

تملأ وحدها مكاناً ويملأ أخواها مكاناً،

وتفعم وحدتي أنساً وقلبي محبة؛

فلا ألمحها إلا ضاحكة، ولا أسمعها إلا مهلهلة!. . .

كأنها ضحكة انطلقت بها الحياة،

أو بسمة انجلت عن معنى الرضا.

أناديها باسمها، فيهزني اسمها لأنه وليد ذكرى أليمة ترتبط بها ذكريات. أراها فأرى فيها صاحبة هذا الاسم أيام كانت تحيا بجانبي وتصل طفولتي بطفولتها، أيام كانت تتعانق أحلامنا وتتلاقى آمالنا

أرى فيها صاحبة هذا الاسم طفلة كما كانت بالملامح التي كانت. ولكن العين التي أرى بها قد اختلفت وزالت عنها معاني الطفولة! ولكني أراها وألمسها وأعانقها فأرى أن سلسلة هذا الزمان الطويل لم تكن خلال ذلك منقطعة، لأنها استطاعت أن تثبت لي اتصال الموت بالحياة، واستطاعت أن تعيد لي الميت باسمه وروحه!

أراها تخطر أمامي واثبة أو متهادية، ويراها من معي بعينه كما أراها، ولكن عين الذكرى تمتد إلى أبعد من هذا الحد، فتراها متصلة بذكريات بعيدة الأمد، تحملها كما تحمل عيناها نور غدها. تراها تحمل إلي شيئاً من طفولتي المطوية، أناديها باسمها فأرى (يسرى) الأولى التي كانت تخاف كثيرا من الدخان كأنما صفاء روحها لا يحتمل أن يرى السواد

ص: 23

يغشى السماء الزرقاء والتي كانت لا تجد وسيلة إلى إهداء سلامها إلى أبينا الجندي إلا القمر!

كانت في الخامس من ربيعها يوم زحف الهواء الأصفر بجنوده وويلاته، يغشى المدينة فيأخذ منها جنوداً، ويدخل البيت فلا يرضى إلا بكبشين أو ثلاثة! أو بكل ما تنفس بحياة. كنا نسمع بصفته فنخشى ريحه، ونرتاع من صوته ونحذر أن نلقاه في مكان؛ ولكنه كان يمشي ولا يرى، يدخل ولا يحسه أحد. فأنشب مخالبه في أخي الصغير. فكانت (يسرى) تخشى الدنو منه، ولكنها كانت تسمع من الجارات يقلن لأمه: إنه سليم لأن يديه لم يزرقا. . خافي من زرقة اليدين فهي علامة الموت) وما مر على الصغير ساعات معدودة حتى سقطت (يسرى) التي كانت تحذر وتبالغ في الحذر على صغرها، لأنها تفهم الموت شيئا مروعا. وكانت أمنا تجاهد فينا لا تخشى أن ينشب المرض مخالبه فيها، وما غلبته إلا بقوة اعتقادها وإيمانها. فحنت على سرير (يسرى) وقد رأت أخاها نجا بمعجزة. . . ولكن يسرى تتأمل في يديها فترى أن الزرقة أحاطت بهما فتقول لأمها:(ها إنني أموت، لأن يداي مزرقتان. .) فتواري الأم وجهها لتذرف دمعتها بعيدة عن عينيها! (إنني لن أشفى يا أماه لأنني لا أرى في جسدي إلا الزرقة.) هاتي لي ثياب العيد - وكان العيد بعد أسبوع - من خزانتي، أريد أن ألبسها كلها. هاتي ردائي الأحمر الذي أرسله إلى والدي من القدس.) لبست ثيابها واغتبطت برغم الألم، ثم أخذها ذهول عميق عقبه سكرة الموت، ولبثت حتى حان وقت وقوعها في الداء، فأسلمت روحها ولما يتنفس الفجر! فبكت أمنا بهدوء يشقه بعض شهقات، تحاول ألا نسمع وكنا نياما، وهي تخشى على أخي النكسة، حتى طلع النهار - وأوصت حفار القبور

تتراءى لي هذه الصفحة الأليمة فأراها واضحة السطور على رغم القدم، وأذكر أنني نهضت فوجدتها كتلة زرقاء هامدة لا تنبض بالحياة، فروعني ذلك ولكني لا أذكر كيف بكيت! فمشينا إلى المقبرة وهي على يدي الحفار لا يمشي خلفها إلا ثلاثة: أمها وجدتها وأنا، أعدو خلفهما حافي القدمين، ولكني أرى من وراء ظهر الحفار رأسها الملتف وقدميها الملتفتين. وكيف يمشي أحد معنا والناس لاهون بموتاهم. فوجدنا على باب المقبرة ولداً لا أهل له يوارونه التراب وكان اللحد ضيقاً، فطووا قدميه بالعنف حتى يتسع اللحد له! فمشينا

ص: 24

حتى أدركنا لحدها وكان واسعاً، فقالت أمها:

انه كثير السعة وهي صغيرة.

وسدوها اللحد وهالوا على وجهها التراب. وكنت أظن أن وجهها توارى إلى الأبد. فعدنا وأخذ النسوة يعزين والدتي قائلات:

- اشكري الله على نجاة الصبي بهذه الفدية

ولعل هذه التعزية كانت مما تخفف عن الأم لوعتها ولكن مكان الولد لا يسد

(لكلِّ مكانُ لا يسد اختلاله)

بلى ضننت أن وجه يسرى قد توارى إلى الأبد

ولكن هاهي ذي الحياة تتمخض مرة جديدة عن (يسراي) تعيدها إلي ابنة لا أختا؛ تعيدها قطعة من كبدي

لا أحفظ للأولى صورة، ولا أذكر من ملامحها شيئاً، ولكن جدتك - يا يسراي - تقول لي: إنها عادت بملامحها ونضرة وجهها وكأنها هي. وإنها لا ترى فيك إلا ابنتها. . .

فأهلاً بك أختاً وبنتاً!

وأهلاً بك يا شعلة حياتي!

خليل هنداوي

في الأدب المقارن

ص: 25

‌الأدب العامي في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

بداوة الأمة هي عهد طفولتها؛ فيها يكون أدبها ساذجاً على صدق عاطفته، ضئيل الحظ من الفكر المستقيم على قوة شعوره؛ ويشبه دخول الأمة طور الحضارة والثقافة بلوغ الناشئ الحلم؛ إذ تنضج أفكارها ويتنبه وعيها بما يحيط بها من مظاهر الكون ويزداد تأملها فيها واتصالها بها؛ ومن ثم يزداد اثر الفكر السليم والنظر الثاقب في آدابها بجانب الشعور الحار والعاطفة المتدفقة؛ على انه لما كانت العاطفة عادة تقتصر على فريق من أبناء الأمة دون فريق، فأنه يصير للامة المتحضرة أدبان: أدب راق للخاصة وأدب عامي للدهماء؛ ولا ريب انه كلما ازداد انتشار التعليم في الأمة كان ذلك كسباً للأدب الراقي؛ ولم توجد بعد الأمة التي يتوحد فيها الأدبان

وتزداد الهوة بين الأدبين تدريجيا بارتقاء الحضارة وازدهار الثقافة وترفه المجتمع: فتدخل الأدب الراقي النزعة العلمية، وترتقي لغته وتتسع جوانبها، وتتهذب لهجته وترق حاشيته، ويزداد تراثه من جيل إلى جيل لاستعانته بالكتابة؛ أما الأدب العامي فيتداول بالرواية، ولذا يظل في تجدد وتحول وزيادة ونقص؛ تلونه المجتمعات المتعاقبة بألوانها، وتترك فيه العصور المتوالية مياسمها، ويظل ساذجاً كأدب البداوة الأولى: يهتف بالغرائز والعواطف البسيطة، ويتحدث بأحلام النفس الإنسانية في السعادة المطلقة وميلها الدائب إلى الجمال والقوة والحق والفضيلة، ويظل على ما يشوبه من خرافة وغرارة هو الثقافة الوحيدة التي تتمتع بها الطبقة العاملة

وقد كان للعرب على عهد حضاراتهم أدبان كذلك: ساعد على قيام الأدب الراقي اعتداد أشراف العرب بأدبهم القديم، وتمسكهم بلغتهم، وانتشار الثقافة والعلوم التي ورد مناهلها فريق من الأمة دون فريق؛ ساعد على ظهور الأدب العامي اختلاط العرب بالأمم وفساد لغة الكلام. وصار للإنجليز كذلك أدبان منذ تحضروا وتثقفوا وامتزجت اللغة الانجلوسكسونية باللاتينية، واستخدمت في العلوم والآداب، وتوطدت قواعدها واتسعت جوانبها وأصبحت لغة مجتمع راق. فانفصال الأدبين الخاص والعامي أحدهما عن الأخر جاء مختلف الكيفية في الأمتين: ظهر الأدب العامي في العربية بفساد اللغة الفصحى

ص: 26

وانحطاطها، وظهر الأدب الفصيح في الإنجليزية بارتقاء اللغة العامية وارتفاعها

تختلف الأمتان في هذا، وتختلفان أيضاً في علاقة الأدبين الفصيح والعامي في الأزمنة التالية لانفصالهما: ففي العربية كانت الهوة بينهما سحيقة والاتصال يكاد يكون معدوما، لشدة ترفع الأدب الفصيح عن صاحبه، بل تجاهله لوجوده؛ أما في الإنجليزية فكانت المسافة بينهما اقرب، والاتصال أوثق؛ وظل للأدب العامي دائماً للمثقفين اعتبار، ورحب به الأدب الفصيح مرارا وخلطه بنفسه، واقتبس أساليبه وصوره، واصطنع مواضيعه ونغماته، فأفاد بذلك فائدة كبرى

فالأدبان الفصيح والعامي وإن اختلفا تهذب لغة واستقامة تفكير وعمق نظرة وتنوع أشكال، يستقيان من معين واحد، هو النفس الإنسانية، بميولها وأحلامها وآمالها. وإذا امتاز أولهما بصفات هي وليدة الحضارة العالية والمجتمع الراقي والعلم المنظم، فان الثاني يمتاز بصفات الصدق والبساطة والقرب من الطبيعة التي هي مرجع كل فن؛ والأدب الفصيح عرضة من آن إلى آن لغلبه اللفظ فيه على المعنى ورجاحة الزخرف على الجوهر، وظهور التأنق والتحذلق على الشعور الصحيح والطبع المرسل، فهو بحاجة دائما إلى العودة إلى الطبيعة، وخير سبيل له إليها الأدب العامي، إذا نقاه من أو شابه واستخلص أجود عناصره

ظل للأدب العامي في إنجلترا دائما اعتبار، وظل كبار الأدباء مهما سمت ثقافتهم واتسعت نظرتهم إلى الحياة على علم به: فشكسبير وسبنسر وملتون طالما استقوا من معينه قصصا سائغا ضمنوه آثارهم، والتقطوا من كنوزه ألفاظا معبرة ألحقوها باللغة الشعرية الراقية فصارت من بنيتها؛ وأتيح للاغاني الشعبية من حين إلى حين أفراد من خاصة المثقفين عنوا بجمع ما وصل إلى عهودهم منها، فكانت تلك المجموعات نصب أعين الشعراء، يتخذون منها مواضيع لأشعارهم أو يحاكونها في الأسلوب والنظم

وكان لتلك الأغاني فضل عظيم في بعث النهضة الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، بعد أن اختنق الشعر في جو المدينة وأثقلته قيود الألفاظ والتقاليد؛ فقد انصرف جمهور المتأدبين عن ذلك الضرب المتكلف من النظم إلى مجموعات الأشعار الشعبية التي توفر على جمعها ونشرها إذ ذاك نفر من الأدباء، وضمنوها ما وصل إليهم من مقطوعات منذ

ص: 27

عهد القرون الوسطى فنازلا، بعضها يدور حول السحر والطلاسم، وبعضها من نسج الخرافة، وبعضها مزيج من الخرافة والتاريخ، وكلها مملؤة بحب الطبيعة ووصف مناظرها؛ وكان لاسكتلندا وأدبائها فضل كبير في تلك الحركة؛ فقد اخذ الكثير من الأغاني من أدبها العامي، وقام أدباؤها بالجانب الأكبر من ذلك الجمع والنشر، وقاموا بالرحلات بين أريافها وحزونها ينقلون عن الزراع والرعاة أغانيهم وأسمارهم

ومن الاسكتلنديين أيضاً كان الرعيل الأول من الشعراء الذين نظموا أشعارهم في التغني بالطبيعة وحياة البسطاء من الفلاحين والرعاة وحياة الفروسية الغابرة؛ ومن أولئك ألان رمزي وروبرت برنز ووالتر سكوت. وقد كان ثاني هؤلاء فلاحا قحا، فعبر في شعره عن حياة فلاحي اسكتلندا وتقاليدهم وأفراحهم وأتراحهم؛ اما الثالث فقد كان على نقيض ذلك أرستقراطيا سليل أسرة تمت إلى الفرسان العصور الوسطى، فاحتفى شديد الاحتفاء بالأغاني الراجعة إلى تلك العصور، وازداد شغفا بالأغاني الشعبية حين اطلع على ما ترجم منها عن الألمانية، فطاف في اسكتلندا طلبا للاستزادة، وجعل محصوله من كل ذلك مادة لأشعاره وقصصه التي رفعته في زمنه وبعده إلى مصاف كبار الأدباء، وأكسبته شهرة عظيمة في القارة الأوروبية

وفي هذا الجو المملؤ بحب الطبيعة والبساطة والشعور الصادق، نشا وردزورث وكولردج ثم شلي وكيتس، وهذه الروح الخافقة المأخوذة عن الأغاني الشعبية هي التي أوحت إليهم أشعارهم البديعة وجعلتهم ينهجون بالشعر نهجهم الطريف. وكان وردزورث احرص الجميع على اختيار المواضيع البسيطة لقصيده، واختيار أشخاصه من بين الريفيين والدهماء، واستعمال ألفاظهم بذاتها في شعره؛ وقد جمع باكورة ما نظمه على ذلك النمط في كتابه (الأغاني الشعرية) الذي أخرجه بالاشتراك مع كولردج، وصدراه بمقدمة شرحا فيها المذهب الجديد المستمدة روحه من روح الأغاني والأقاصيص العامية

ووجد الأدب لعامي لنفسه مسلكا جديدا إلى الأدب الفصيح، حين تقدمت القصة وتناولت الحياة الاجتماعية بالوصف الدقيق، وأولعت بتصوير شتى الشخصيات من الطبقات الفقيرة والأوساط الريفية، وتناولت معاملات تلك الطبقات والأوساط ومحاوراتها وعقلياتها بالعرض والتحليل، وتوخت الأمانة للواقع بنقل ألفاظ القوم ومحاكاة أساليبهم في الخطاب؛

ص: 28

وفي روايات هاردي تصوير لكل ذلك دقيق لا يباري دقة ونفاذ بصيرة؛ وهكذا كسب الأدب الفصيح كسبا جديدا من الأدب العامي

أما في العربية فكان نصيب الأدب العامي دائما الزراية والتجاهل؛ وكان أول ما يأخذ به المتأدب نفسه التخلص من شوائب العامية لفظا ومعنى وأسلوبا، وشر ما يوسم به لفظ انه عامي، أو معنى انه سوقي؛ وابعد ما يفكر فيه الأديب أن يخالط العامة أو الزراع ليأخذ عنهم ما يتحدثون فيه وما يتأدبون به، من قصص ممزوج بالخرافة، وغناء متسم بالسذاجة، أو يطوف في الأرض طلبا لذلك كما طاف سكوت وأمثاله في شعاب اسكتلندا؛ إنما كان أدباء العربية يشدون الرحال إلى البادية طلبا للفصيح من الكلام والأصيل من الأساليب، والمأثور من أقوال العرب يتخذ حجة في المناظرة، وأنموذجا في الإنشاء وقد عيب على بشار قوله في جارية:

ربابة ربة البيت

تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات

وديك حسن الصوت

لأنه تناول موضوعا بسيطا عاميا وتحدث في سذاجة لا تليق بالشعر الفصيح. وإنما كان الأدب العربي فيما ارتضى له أصحابه، واستن له نقاده، أدب بلاط يحفل بذكر الملوك لا السوقة، ونديم أرستقراط يشارك في حياة العلية ويشمخ عمن دونهم، ولا يرى في حياء الدهماء وحياً لقول، ولا موضوعا لتفكير، فلم يكن من شعراء العربية من يحتفي بوصف أشخاص قريته كما فعل جولد سميث في (القرية المهجورة) وصفاً كله حب وحرارة، ولا من يرثى أبناء القرية في مراقدهم الأخيرة، وهم الذين افنوا العمر كدا دون أن تسمع الدنيا بأسمائهم أو يصعدوا إلى المجد على أكتاف غيرهم أو دمائهم، كما فعل جراي في مرثيته

وقد اثر عن بعض شعراء العربية كابي نؤاس وأبى تمام، انهم كانوا يتلقفون أحيانا أقوال العامة فيصوغونها شعرا، كالذي رواه ابن الأثير من أن أبا تمام وصل من بعض قصيده إلى قوله:(وأحسنُ من نور يفتِّقه الصَّبا) وارتج عليه، حتى مر بالباب سائل يقول:(من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا)، فاكمل أبو تمام البيت:(بياض العطايا في سواد المطالب)، على أن ذلك كان نادرا ضئيل الأثر. أما الاحتفال للأدب العامي، ومحاولة الانتفاع به، والرغبة في جمعه، والعمل على تلقيح الأدب الفصيح بعناصر الحياة فيه، فذلك

ص: 29

كان بعيدا جدا عن أذهان أدباء العربية

لم يستفد الأدب العربي الفصيح من شقيقه العامي شيئا، مع انه كان أحوج كثيرا من الأدب الإنجليزي إلى تلك الاستفادة، بل لعل رفضه الاستفادة من أدب العامة كان من أسباب اضمحلاله وسقوطه: فقد أبى الأدب العربي إلا اعتزال أدب العامة بنفس الإصرار والشموخ الذين اعتزل بهما آداب الأمم الأخرى، وتعالى عليه تعاليه عليها؛ ورأى المسعودى وابن النديم نسخا من قصص ألف ليلة وليلة، التي بدأت تتجمع حولها آداب العامة فاستخفا بها وحقراها، ولم يخطر لهما أن بها مادة لعبقرية الأديب أو لقاحا للأدب. سخرا من الأقاصيص الشعبية في القرن الرابع الذي كانت الصنعة اللفظية فيه قد ركبت الأدب، والتقاليد قد كبلت المنظوم والمنثور، ولو التفت الأدباء إلى ذلك الأدب الشعبي الناشئ واستوحوه جديدا من القول، لربما شهد الأدب العربي نهضة جديدة وإحياء كالذي شهده الأدب الإنجليزي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن الذي يليه

والحق أن الأدب العربي العامي قد احتوى من المواضيع الأدبية والأشكال الفنية ما أعوز الأدب الفصيح، بل انه احتوى من ذلك على ما هو أشبه بالأدب وانهض بوظيفته واقرب إلى التعبير عن الشعور. والحق أن الأدب الفصيح ليس بالترجمان الصادق المستقل للمجتمع العربي، ولا هو بالسجل الكامل لنتاج الذهن العربي وخلاصة النفس العربية في تعاقب العصور، والأدب العامي اصدق وأوفى منه في كل ذلك

فالأدب العامي حافل بآثار الخيال؛ مملوء برائع القصص، وهو ما يعوز الأدب العربي الفصيح منثوره ومنظومه؛ فالقصة الاجتماعية ضرب من الأدب لم يألفه أدباء العربية، والخيال الذي أولع به الشعراء واشتهر به البحتري خيال كاذب، إنما هو وهم ومغالطات صبيانية: من توهم أطياف أحبة لا وجود لهم، واختراع مواقف للوداع لا طائل تحتها؛ ولو فطن الأدباء لأخذوا بيد القصة فرفعوها من عاميتها إلى لغة الفكر المثقف والوضع المهذب، فأضافوا بذلك إلى الأدب فنا يجد فيه متحولا عن فنونه العتيقة

والأدب العامي حافل بضروب الأوزان والقوافي الشعرية المتداخلة، وهي الأشكال التي رفضها الأدب الفصيح وظل متمسكا دونها بالقصيدة الموحدة القافية، وأبعدها عن حظيرته فلجأت إلى حظيرة الأدب العامي؛ على أن تلك الموشحات التي راجت في الزجل دون

ص: 30

الشعر أدل على الرقي الأدبي واقدر على التعبير عن شتى المقاصد من القافية الموحدة، فتلك فائدة أخرى ما كان أحرى الأدب الفصيح أن يستفيدها من الأدب العامي، ولكن الأرجح أن ذيوع تلك التوشيحات في أدب العامة زاد الأدباء صدودا عنها فيما يحتفون به من أغراض القول

وأسباب هذا الجفاء الذي استحكم بين الأدبين الفصيح والعامي في العربية هي: روح المحافظة التي سادت الأدب الفصيح والتبجيل العظيم لآثار الأقدمين، والاعتداد الشديد بلغة الضاد التي هي لغة الكتاب المنزل والدولة؛ وهي عوامل نماها وقواها اعتزاز العرب في صدر الإسلام بقوميتهم وتعاليهم عمن عداهم من الشعوب، وحرص أبناء تلك الشعوب على التشبه بهم بحذق لغتهم وتقليد أساليبهم؛ كل ذلك جعل للفظ عند الأدباء التقديم على المعنى، فكل قول عدم اللفظ الفصيح هو عامي سوقي حقير لا قيمة له، وجعل لأساليب العرب الأقدمين مكانة رفيعة، فكل قول شذ عنها ناب مستهجن، وكل احتذاء لها مهما أرهقه التكلف وخرج به التقليد عن طور المعقول والمحسوس، فهو مقبول معدود في الأدب؛ هذا إلى ما تقدمت الإشارة إليه من تعلق الأدباء بأهداب الملكية والعلية ابتغاء النوال، مما نأى بجانبهم عن جانب العامة

فالأدب الفصيح استحال في حيز تلك التقاليد والمراسيم إلى قوالب متحجرة، وأوضاع متصلبة، غير حر الحركة ولا سهل التجديد ولا قابل لتأثير من الخارج، لا يتأثر إلا بماضيه، بتراث العرب الأفحاح الذين قصدوا القصائد ونسبوا وفخروا وهجوا وارتجلوا الخطب؛ وتلك حال إذا صار إليه الفن جمد وبعد عن الأمانة للحياة والتصوير لحقائقها. وشبيه بذلك ما صار إليه فن النحت وفن التصوير عند قدماء المصريين من جمود وزيغ عن الحقيقة، حين كبلتها الأوضاع والرموز الدينية

وقد اصبح لزاما على الأدب الفصيح وقد كبلته التقاليد بالقيود، وأحاطته الصناعة بالسدود، أن يترك التعبير الصحيح عن شعور المجتمع للأدب العامي، وذلك هو الذي تم دون أن يشعر رجاله، ودون أن يقلعوا عن كبريائهم وترفعهم عن الشعب. فظلوا في تقاليدهم الجامدة وبراعاتهم اللفظية سادرين، وقد نما الأدب الشعبي واتسع، وحوى من صادق المشاعر والعواطف، وجميل المحاورات والمناظر، ما أعوز الأدب الفصيح، وما قربه إلى نفوس

ص: 31

الشعب وإلى نفوس الأمم الأخرى معا:

فقد فطن الأوربيون من عهد الحروب الصليبية إلى ما في الأدب العربي من جمال وعبقرية ومتعة، فتداولوا أقاصيصه وأغانيه وحاكوها في آدابهم الشعبية وخلطوها بها، وترجموا مجموعات منها إلى لغاتهم في شتى الأزمنة، ولم يالوها حفاوة وامتداحا، وعرفوا فضلها في إدخال العنصر الرومانسي في آدابهم العالية، وهي نفس الوظيفة التي أداها أدبهم الشعبي؛ أما موقفهم من الأدب العربي الفصيح فكان خلاف ذلك: فانهم كلما حاولوا دراسته والانتفاع به في آدابهم صدهم عنه ما فيه من غرابة معان متكلفة لا تمت إلى الحياة الصحيحة، ومن زخارف ألفاظ يحتفي بها أدباء العربية كأنها حقائق مجسمة، فإذا ترجمت لم تعد شيئا مذكورا، فرجعوا خائبين وعزوا تلك الغرابة إلى اختلاف عقليتي الشرق والغرب، وما هو كذلك وإنما مرجعها ما خالط الأدب الفصيح من تقاليد جامدة شبيهة بالرموز الدينية، بعدت به عن التعبير عن شعور النفس الإنسانية، شرقية كانت أو غربية

فالأدب العربي العامي قد احتوى من عناصر الصدق في الشعور، وتصوير المجتمع، ووثبات الخيال ما أعوز الأدب الفصيح كثيرا، وهو مع ذلك قد لقي الإهمال والازدراء من المثقفين وخسر الأدب الفصيح معونته في العصور الماضية، وهو أن لم يكن أحرى من الأدب الفصيح بالدرس، واكثر منه فائدة لمؤرخ الأدب والمجتمع فليس دونه تلك الوجوه، وهو خليق بان يدرس معه جنبا إلى جنب، وتجمع أثاره المتخلفة من شتى العصور، ففيها هي ذاتها متعة جليلة، وفيها بجانب ذلك للشاعر والقصصي ما يبعث الإلهام، ويبسط منادح التفكير والقول، ويدني من الطبيعة والصدق

فخري أبو السعود

ص: 32

‌نظرية النبوة عند الفارابي

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

- 8 -

انتهى بنا الحديث في المقال السابق إلى بيان اثر نظرية النبوة الفارابية في القرون الوسطى. ويظهر أنها لم تقف عند هذا الحد بل جاوزته إلى التاريخ الحديث. ونرى واجبا علينا لإتمام هذا البحث أن نشير إلى بعض المفكرين المحدثين في الغرب والشرق الذين حاولوا تفسير النبوة تفسيرا يمت بصلة إلى النظرية الفارابية؛ ولن نتحدث من بين فلاسفة الغرب إلا عن اسبينوزا الذي أشرنا في بحث سابق إلى انه يلتقي مع الفارابي في نقط كثيرة. وأما مفكرو الشرق ومصلحوه فسنذكر من بينهم شخصيتين جليلتين كانت لهما اليد الطولى في نهضة الأمم الإسلامية الأخيرة وتقدمها العلمي والأدبي، وهما السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام. ولا نظن أحدا إلى الآن حاول أن يربط آراء هذين المصلحين ربطا وثيقا بنظريات علماء الإسلام الأول ومفكريه، اللهم إلا محاولات ضئيلة ترمي إلى أيجاد علاقة بينهما، أو بين الأستاذ الأمام بوجه خاص من جانب وابن قيم الجوزيه وابن تيميه والغزالي من جانب آخر. وإذا صح أن آراءهما الدينية قد ربطت بأقوال بعض أئمة السلف فأبحاثهما العقلية لا تزال حتى الساعة غير واضحة الصلة بنظريات فلاسفة الإسلام. وخطأ أن يظن أن هذه الصلة مقطوعة أو معدومة، فان السيد والأمام إنما تم تكوينهما أولا وبالذات على حساب المصادر العربية؛ وفي مجلة العروة الوثقى ما يشهد بأنهما كانا يدعوان إلى دراسة فلاسفة الإسلام وتفهم أفكارهم. وسنرى بعد قليل كيف يلتقيان في مشكلة من أهم مشاكل الإسلامية

كلنا يعلم أن الصلة بين العقل والنقل بين الفلسفة والدين شغلت الفلاسفة المحدثين كما كانت حجر الزاوي في فلسفة القرون الوسطى. وقد وقف اسبينوزا على هذا الموضوع كتابا مستقلا غير معروف من جمهور القراء، لان نفوذ كتابه الآخر المشهور (الأخلاق) غطى عليه، ونعنى به (رسالته الدينية السياسية) التي تتمم في رأينا مذهبه الفلسفي. ذلك لأنه إذا

ص: 33

كان (كتاب الأخلاق) يوضح الحقائق العقلية، فأن هذه (الرسالة) تشرح الحقائق النقلية. وهذان الضربان من الحقائق متميزان عند اسبينوزا ومستقلان تمام الاستقلال ويقابلان علمين منفصلين: الحقيقة العقلية وموضوع الفلسفة، والحقيقة النقلية في موضوع علم الإلهيات، واسبينوزا فيلسوف وعالم في الإلهيات في أن واحد، فلا يستطيع أن يلغي إحدى هاتين الحقيقتين ولا أن يدمجها في الأخرى، بل يقرر أن كل واحدة منهما ضرورية ومطلقة النفوذ في مضمارها؛ والدين أن لم يكن الحقيقة كلها حقيقي في ذاته ولا غنى للجمعية عنه. غير أن الحقيقة الدينية تعتمد رأسا على الوحي والإلهام، فكيف يتم هذا الوحي وبأنه وسيلة يستطيع الأنبياء الوصول إليه؟ هذا هو السؤال الذي حاول اسبينوزا أن يجيب عليه. وفي رأيه أنا إذا تتبعنا الكتب المقدسة جميعها وجدنا إن الإلهامات النبوية المختلفة سواء أكانت عبارات صحيحة آم صورا رمزية إنما تتم بواسطة مخيلة قوية. وعلى هذا لا تتطلب النبوة شرطا آخر سوى أن يكون الأنبياء ذوي خيالة نشيطة متنبهة

لا يمكننا أن نمر بهذه الآراء دون أن نفكر على الفور في الفارابي وفي الدراسات الفلسفية اليهودية في القرون الوسطى. حقا أن المعرفة الناتجة عن الوحي والإلهام لا تساوي في نظر اسبينوزا المعرفة العقلية، مع انهما عند الفارابي متساويتان متكافئتان؛ ولعل هذا راجع إلى أن اسبينوزا فيلسوف قبل أن يكون لاهوتيا، وديكارتي قبل أن يكون فارابيا؛ ولا شك أن الأفكار الواضحة النيرة هي وحدها عند ديكارت سبيل المعرفة اليقينية غير انه بالرغم من هذا الخلاف فمن المسلم أن الفيلسوف العربي والفيلسوف اليهودي متفقان على أن قوة الخيالة شرط أساسي في النبوة. وهنا نتساءل: هل هذا الاتفاق مجرد مصادفة أو اخذ اسبينوزا عن الفارابي بعض آرائه في النبوة؟ إذا ما لاحظنا أن الأول درس في عناية مؤلفات ابن ميمون أمكننا أن ندرك الصلة بين الأفكار الاسبينوزية ونظرية النبوة الفارابية. ونحن نلحظ من جهة أخرى أن مذهب السببية عند الفيلسوفين متحد، وانهما يقبلان فكرة التنبؤ بالغيب دون أن يكون لها أي اثر في مجرى القوانين الطبيعية. ففي مقدور ذوي النفوس الممتازة أن يقفوا أثناء اليقظة أو في حالة النوم على الأمور المستقبلة ويتكهنوا ببعض الحوادث التي ستحصل غدا أو بعد غد لا محالة. وعلى كل حال فنحن لا نذهب مطلقا إلى أن اسبينوزا اخذ عن الفارابي مباشرة، لأنه ما كان يعرف العربية؛ وبعيد أن

ص: 34

يكون قد وقع في يده شيء مما ترجم من كتب الفارابي إلى اللاتينية. وكل الذي نعتقده انه استقى بعض الأفكار العربية من مصدر ثابت هو كتاب (دلالة الحائرين) لابن ميمون، وفي هذا الكتاب، كما قدمنا قسط وافر عن نظرية النبوة

ولنعد الآن مرة أخرى إلى الشرق وإلى السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام بوجه خاص. فأما السيد فلم يخلف لنا مؤلفات كثيرة نستطيع أن نقرا فيها كل أبحاثه ونظرياته، وفيما وراء (رسالته في الرد على الدهريين) و (تاريخه للأفغان) لا نكاد نجد له إلا مقالات متفرقة في (العروة الوثقى) وفي بعض الصحف والمجلات الموجودة في ذلك العهد. وكأنه اكتفى بان يلقن اتباعه وتلاميذه تعاليمه دون أن يودعها بطون الكتب شان سقراط وطائفة من المصلحين. هذا إلى أن حياة الاضطراب والرحلة والانتقال التي قضاها ما كانت تسمح له بالهدوء الكافي للجمع والتأليف. ومهما يكن فقد أدلى في موضوع النبوة بآراء جديرة بان تسرد هنا. وذلك انه أثناء مقامه الأول في القسطنطينية سنة 1870 دعي إلى إلقاء محاضرة في دار الفنون. ويظهر انه شاء أن يكون موضوع المحاضرة متناسبا مع المكان الذي ألقيت فيه، ولهذا تحدث عن فائدة الفنون. وفي خلال هذا الحديث شبه الجمعية بجسم مرتبط الأجزاء والأعضاء، ولكل عضو من أعضائه خاصة. ثم انتقل من هذا إلى انه لا حياة للجسم إلا بالروح، وروح هذا الجسم هي النبوة أو الحكمة. فالنبي والحكيم من الجمعية الإنسانية بمنزلة الروح من البدن. وكل ما بينهما من فارق: هو أن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب يختص الله بها من يشاء من عباده (والله اعلم حيث يجعل رسالته) في حين أن الحكمة تنال بالبحث والنظر. وفوق ذلك فالنبي معصوم من الخطأ والزلل، بينما الحكيم يجوز عليه ذلك ويقع فيه وأول شيء يستخرج من التشبيه السابق أن النبي عضو وعضو هام من أعضاء الجمعية الإنسانية، وأن النبوة مهمة ووظيفة من الوظائف الضرورية للمجتمع. وفي هذا ما هيأ السبيل لشيخ الإسلام حسن فهمي أن يثيرها شعواء على السيد متهما إياه بأنه يزعم أن النبوة فن، وأن النبي صانع. وقد أحدثت هذه التهمة ضجة عنيفة في صحف الشرق المختلفة، وترتب عليها أن أرغم السيد على مفارقة استامبول سنة 1871

التتمة في العدد القادم

ص: 35

إبراهيم بيومي مدكور

ص: 36

‌قصة الميكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي

مدير مصلحة الكيمياء

عزرائيل يقبض بيد صفراء

وصل الفائت: بنى ريد رئيس بعثة الحمى الصفراء ومساعده كارول بيتا صغيرا وأناما فيه ثلاثة رجال، الطبيب كوك والجنديين فوك وجرنجان، أناماهم في اقمصة الموتى بالحمى وفي دمائهم، فلم تصب الحمى أحدا منهم. إذن فالحمى لا تنتقل من ثياب المرضى ولا من قذرهم، وأنما من البعوض. وخشية أن تكون الحمى لم تصبهم لأنهم بطبيعتهم حصينون، حقنا أحدهم بدم مريض، وسلطا على الآخر بعوضة وبيئة، فجاءت الحمى كليهما

- 5 -

وبينا هذه التجارب تجري كان رجل غير جندي من أهيو كاسف البال حزينا. هذا جون موران الذي أنتصب له ريد قائما ورفع له يده بالسلام. تذكر انه تطوع (في سبيل العلم والإنسانية) ورفض بتاتا أن يأخذ أجرا، وقرصته بعوضة الحمى ذات الأقلام الفضية البيضاء، وبعد ذلك قرصته مرارا بعوضات مختارات تحمل السم نقيعا في بطنها، ولكنه صمد وا أسفاه لكل هذا وظل صحيحا سليما. فحار ريد ماذا يصنع به

ثم أسعده الخيال فقام فبنى له بيتا صغيرا ثانيا إلى جانب ذلك البيت الكريه الأول، وكان هذا البيت الجديد على نقيض جاره القديم. فكانت له نوافذ في قبالة الباب حتى يجري فيه الهواء، وكان باردا، وكان به سرير لطيف نظيف عقم فراشه بالبخار. وعلى الجملة كان منزلا ترضاه الصحة غاية الرضاء، فكأنما بني خصيصا لمسلول يعيش فيه ليطيب؛ وأقام في وسط البيت سترا من ثوب شف دقيق ضاقت فروج نسجه فلا تأذن لأصغر بعوضة أن تنفذ منها. ونال الستر من البيت عدا الحائطين سقفه وأرضه

وفي اليوم الحادي عشر من ديسمبر عام 1900 في الساعة الثانية عشر ظهرا دخل البيت موران بعد استحمام، وليس عليه من الثياب غير قميص فضفاض للنوم؛ ومضت خمس دقائق، فجاء ريد وكارول بوعاء من زجاج فتحاه في البيت فخرج منه خمس عشرة من

ص: 37

بعوضات أنثيات عطشى تطن حنينا إلى شربة من دم. وكانت كل واحدة من هذه الخمس عشرة شربت في أيام مختلفات قبل هذا من دم صبية صفر الوجوه في مستشفى لاس انيماس

دخل موران إلى هذه الحجرة النظيفة الصغيرة بعد استحمامه في قميص واحد ورقد على سريرها النظيف وانتظر القدر الذي يكون. هذا موران، فهل يسمع به أحد من الناس الان؛ وبعد دقيقة طن البعوض حول رأسه. وبعد دقيقتين قرصه البعوض. وفي ثلاثين دقيقة كنت تراه راقدا سطيحا وفي جلده عدة وخزات وخزها إياه البعوض وهو صاغر مستسلم لا يؤذن له حتى شفاء غليله بدق هذا البعوض

وعاد للقرص في منتصف الساعة الخامسة من نفس اليوم، وعاد إليه مرة ثالثة في غد اليوم ليعطيني الفرصة لإناث البعوض التي لم تعثر عليه فتعضه، لتعثر عليه وتعضه حتى تشتفي منه. وكان إلى جانب موران في النصف الآخر من البيت شابان يعيشان فيه لا يفصلهما عن موران وعن بعوضه غير الستر الشفاف، وعاشا في هذا النصف ثمانية عشر شهرا في سلام

آما موران ففي صبيحة عيد الميلاد من عام 1900 استقبله العيد بالهدايا آلاتية: وجع ينبض في رأسه، وحمرة في عينيه يزيدها نور الشمس ألما، وهمود بلغ منه حتى عظامه؛ لقد هده البعوض شر هدة، وأطاح به حتى كان من الموت على قيد شعره؛ ثم آخذت الأقدار بيده فحمد الله ريد على انه اشتفى، ولكنه اشتفى ليعيش في خمول ذكر ما استحقه أبدا، وعلى كل حال فقد نال أمنيته - في سبيل العلم والإنسانية؛ والنتيجة انه هو وفوك وجرنجان وكوك وكل من تطوع معهم أو أوجر، كل هؤلاء اثبتوا أن البيت الأول بيت الكرب والهول خلا من البعوض فخلا من كل خطر برغم قذره، وأن البيت الجميل النظيف الثاني دخل إليه كل خطر برغم أناقته ونظافته. ووقع ريد أخيرا على جواب كل سؤال في معضلته الكبرى، وكتب في أسلوبه العتيق يقول:(إن أول شرط يجب توفره في بناء ليكون وبيئا بالحمى الصفراء أن يحل فيه بعوض عض من قبل مرضى بالحمى الصفراء)

كلمة ما ابسطها. وكلمة ما اصدقها. وانتهى الأمر وكان ما كان. وكتب ريد إلى زوجه: (أن الدعاء الذي بت أدعو الله إياه عشرين عاما: أن يكون من نصيبي بطريقة ما وفي وقت ما

ص: 38

أن اخفف عن الإنسان شيئا من شقاء الإنسان، هذا الدعاء قد استجابه الله! وهذا العام الجديد يطل علينا، فآلف عام وآنت بخير يا عزيزتي. . . أنصتي! أنصتي! هؤلاء عشرون بواقا ينفخون أبواقهم معا يسترقدون العام القديم)

أم هم ينفخون أبواقهم تحية لازار! أم هم ينفخون أبواقهم احتفالا بالحمى الصفراء أن أمكن محوها من على ظهر الأرض! آم ينفخ هؤلاء الموسيقيون أبواقهم إنذارا بالقدر الخبيء الذي لن يلبث أن يجيء أفراد هذه البعثة الصغيرة بعيد ساعة نصرها بقليل. . .

- 6 -

وجاءت الدنيا إلى هبانا، وهتف هناك لريد. وجاء العلماء إلى هبانا واشتركوا في نقاشهم العابس وفي التساؤل والتشكك المعهود. ثم جاء وليم كروفورد جرجاس وكان رجلا مثل ريد لا يعاب، جاء إلى هبانا يتدرب استعدادا لصنيعه الأكبر الاخلد في بنما فدخل إلى ميازيب هبانا وإلى مجمعات مراحيضها والى أحواض مائها وشن فيها الغارة على البعوضة الاستيجيوميويه، وفي تسعين يوما خلصت المدينة من الوباء لأول مرة بعد قرنين فلم تقع فيها إصابة واحدة من الحمى الصفراء. انقلاب كأنه السحر، ولكن مع هذا بقي الشك يساور الأطباء والعلماء والنطاسيين ذوي اللحى العبوسة، في أوربا وأمريكا، فظلوا يسألون عن هذا، ويعيدون الكرة على هذا، فعل الذي لم يطمئن قلبه. . . وذات صباح دخل خمسون من هؤلاء الشكاكين بيت البعوض المذكور واخذوا يقولون:(أن هذه التجارب بارعة جميلة، ولكن نتائجها يجب أن تمحص وتوزن من غير عوج أو ميل. . .). وبينا هم فيما هم انكشف غطاء وعاء به بعض انثيات البعوض، انكشف بالطبع اتفاقا، فخرجت البعوضات منه وذهبت قدما إلى وجوه هؤلاء العلماء تطن طنينا وفي عيونها بسمة الخبيث ولهفة الجوعان. فوا حسرتاه على العلماء الإجلاء! طار الشك من قلوبهم، كما طارت أرجلهم بهم - إلى الباب. وارتد الستار بينهم وبين البعوض بقوة صاخبة تحكي عن قوة اقتناعهم بالذي قال ريد. ثم اتضح الأمر فإذا بالبعوض لم يكن لوث بالحمى

بعدئذ جاء جرجاس، وقد سبق ذكره، وجاء معه جون جتراس وكان كوبيا عمدة في الحمى الصفراء، وكانا كلاهما اقتنعا في الذين اقتنعوا بالتجارب التي أجريت في معسكر لازار، فاختطا الخطط لتطبيق نتائج هذه التجارب. وكانت خططا جميلة، ولكنها كانت مع

ص: 39

الآسف سريعة نزقة. قالا: (أن من الغريب أن تلك الإصابات التي حدثت في معسكر لازار لم يمت أصحابها. إنها كانت إصابات ذات أعراض نموذجية من الحمى الصفراء، ولكن أصحابها اشتفوا منها وصحوا من بعدها. أفيكون سبب ذلك أن ريد لم يمهلهم على أرجلهم طويلا وبعث بهم إلى الفراش ليستريحوا سريعا). وبدا يلعبان بالنار. قالا: (سنأتي بنفر من المهاجرين الأسبانيين الذين وردوا حديثا، فهم غير حصينين، ثم نصيبهم بالحمى إصابة شديدة، ولكن على أسلوب ريد لتكون العاقبة مأمونة). هكذا فكرا وهكذا اختطا، وما كان ايسر محو الوباء بإبادة البعوض وهو من البعوض الأنيس الذي يسكن منازل الناس ويتناسل في أماكن بين ظهرانيهم غير خافية ولكنهما قالا:(وبهذا نكون أيضاً قد أعدنا تجارب ريد وخرجنا على نفس نتائجه فزدناها ثبوتا)

وجاءا بالمهاجرين، وكانوا قوما جهلاء لا يفقهون، أنصتوا للذي قالاه لهم واطمأنوا إلى أن الإصابة ستكون مأمونة العاقبة. ثم عض البعوض سبعة منهم، وعض ممرضة أمريكية شابة جسورة. فخرج من المستشفى من هؤلاء الثمانية مهاجران والممرضة، وقد أمن الثلاثة عواقب للمرض جديدة، وأمنوا عواقب الأمراض اجمع، وكل هم من هموم الدنيا. خرجوا محمولين على الأعناق والطبول تدق دقا بطيئا خافتا حزينا. . .

ألا ما كان ابرع ريد في بحثه. ألا ما كان أسعده حظا في بحثه - في تلك التجارب التي خلت من الموت في معسكر لازار. . .

واستولى الذعر على هبانا، وأخذت الجماهير تتجمع وتتحدث بالغضب اصطخابا، ومن ذا الذي يلومهم والحياة الإنسانية عند كل الناس غالية مقدسة

كان كارول قد عاد إلى هبانا ليقضي في بعض مسائل علمية صغيرة، وكان رجلا كالحنوطي ذهبت العاطفة من قلبه، وكان فوق ذلك جنديا. قال:(نحن الآن نستطيع أن نستأصل الحمى الصفراء فلا تكون، ونحن الآن نعلم بأي وسيلة تنتقل من رجل لرجل، ولكن الذي لا نعلمه هو الشيء الذي بسببها). هذا ما قاله كارول لريد، وهذا ما قاله ريد لكارول، ولابد من اعترافنا، واعتراف كل أحد معنا، بان الشيء الذي لم يعلماه بعد، والذي ظلا يعتزمان طلبه، إنما كان أمرا علميا محضا لا يهم إلا ممن يطلبون المعرفة للمعرفة. وأني أسألك أكان هذا أمرا من الخطورة بحيث يستحق ضياع الأرواح، ولو أرواح

ص: 40

مهاجرين أسبانيين؟ أما أنا فلن أستطيع جواب هذا السؤال. وأما ريد وكارول فقد أجاباه بنعم. ولا عجب. فهما بدآ هذا الأمر جنديين يطيعان أمرا، وبدأه إنسانيين يخاطران بروحيهما في سبيل الإنسان، وآذنا للبعوض أن يصب سمة في جلديهما في سبيل المعرفة القاسية الباردة، ثم زهاهما المجد الذي يكون من كشف الغطاء عن كل مجهول. . .

وتأكد لديهما أن الوباء ليس بشلة ترى، أو أية مكروبة أخرى تريها اكبر المجاهر ، لقد نظرا في أكبدة الناس وأحشاء البعوض طلبا لهذا المكروب عبثا. ولكن أمعنى هذا انه لا يوجد؟ كلا. فهناك احتمالات خفية أخرى. فهناك احتمال وجود نوع اصغر من المكروب دق حتى عن اكبر مكرسكوب لا يحسن وجوده إلا بقتل الرجال ونفث سمه الخفي فيهم، قد تكون هذه طبيعة مكروب هذه الحمى الصفراء. يؤيد هذا أن فريدريك لفلار، الرجل القديم ذا الشوارب الكبيرة، كشف عن وجود مثل هذه الأحياء في داء (الفم والقدم) الذي يصيب العجول. وود ريد وكارول أن يكشفا في الحمى الصفراء عن وجود مثل هذا المكروب الذي اخرج عن طوق المجاهر فلم تكتشفه

وكان ريد في شغل شاغل، فبعث كارول إلى هبانا يستطلع الامر، فلما جاءها غضب اشد الغضب لموت من مات في تجارب جتراس، وكان جتراس في هلع هالع ومن ذا الذي يلومه، فمنع كارول أن يستخرج دما من مرضى الحمى الصفراء. لا، لا. لا يمكن أن يستخرج دما ابدا. بل ولن يؤذن لكارول أن يعضهم ببعوضه. وزاد جتراس في سخفه ففضل إلا يفحص كارول حتى الجثث التي تموت خشية أن يثير هذا ثائرة السكان. فكتب كارول إلى ريد يقول:(. . . فتصور خيبتي في وسط هذا) وزاد فاستنكر مخاوف قوم جهال يتسخفون. على أن هذا لم يورثه الخيبة، فما مثل كارول يخيب

ولسنا ندري أي حيلة اعمل، وأي سحر استنجد حتى جاء بدم وبئ من مريض بالحمى، ورشحه في مرشح خزفي دقت مسامه حتى لا ينفذ منه المكروبات التي تريها المجاهر، واخذ السائل الراشح الذي نفذ من الخزف وحقنه تحت جلد ثلاثة رجال غير حصينين من الحمى - ولا يذكر التاريخ كيف أغراهم بالرضاء. فأصيب اثنان منهم. فصرخ صاحبنا صرخة الفرح: أن الحمى الصفراء مثل مرض (الفم والقدم) كلاهما ينشا عن أحياء بالغة الصغر تستطيع الإفلات من مرشح خزفي دقيق المسام

ص: 41

وكتب ريد إلى كارول يقول: (كف عن قتل الناس فقد غلونا فيه)، ولكن أين الكف من كارول، فلابد له من الحصول على بعوض وبئ، وحصل عليه ببعض طرائقه الجريئة الشيطانية، وانتزع الرحمة من قلبه وقام بأخيرة تجاربه

وقال في صدد ما جرى: (لقد عضني البعوض ومرضت، وكنت انتظر الخاتمة تأتي في بحر سبعة أيام. ولكنها لم تأت، فاقتنعت كل الاقتناع بان قوة الإصابة تتوقف على قابلية المصاب اكثر منها على عدد القرصات. ففي التاسع من أكتوبر علم 1901 جمعت كل البعوض الوبيء الذي عندي، وكانت ثمان منها أتاها الوباء قبل ذلك بثمانية عشر يوما، وسلطتها عامدا على رجل غير حصين، فكانت الإصابة التي جاءته إصابة معتدلة). وختم مقاله ختام الفاخر المنتصر. ولك ماذا كان الحال لو أن هذا المريض مات، والله يعلم أن احتمال هذا كان كبيرا؟

هذه قصة هذه العصابة العجيبة، غريبة ما وسعت الغرابة. وإني لأعود بالذكر إلى الذي كان من هذا الباحث كارول، وأتصوره وقد عرت من الشعر رأسه، واحتجبت عيناه وراء منظاره، ثم اذكر انه كان حطابا قبل أن يكون بحاثا، ثم اذكر ما كان من جرأته الخارقة وقلة مبالاته بالعاقبة في أمر نفسه، فلا أتمالك أن ارفع قبعتي احتراما وإعجابا به بالرغم من اغرامه الشديد وإلحاحه في أن يتجسس عن أسرار الطبيعة في اخطر مخابئها. إن كارول كان أول رجل أصيب في هذا السبيل، وهو الذي سن السنة الأولى فاقتدى به الجنود الأمريكيون، وقفى على آثره الكاتب الملكي، وتشجع به المهاجرون الأسبانيون رقم 1، 2، 3، 4، 5، وحذا على حذوه البقية الباقية من هذا النفر الكريم الذي عرفنا أعمالهم وجهلنا أسماءهم - كل هذا في سبيل العلم وسبيل الإنسانية! ولعلك تذكر انه لما أصيب وقف قلبه أو كاد في سبيل العلم وفي سبيل الإنسانية. فهذا القلب الذي وقف أو كاد في عام 1900، ثم تشبث بعد ذلك بالحياة، عاد في عام 1907 فوقف وقفة لا حركة من بعدها. . .

- 7 -

وقبل ذلك بخمسة أعوام، أي في عام 1902، مات ريد وهو في عنفوان شبابه، وكان متعباً اشد التعب برغم صباه. مات وهتاف الأمم له يزداد اصطخابا. وهل تدري بأي علة مات؟ بالزائدة الدودية. ومات فقيرا. تمتم لصديقه كين وهو على سرير العمليات قبيل أن يهبط

ص: 42

المخروط بالأثير على وجهه: (إني لم اترك لزوجتي ولابنتي من متاع الدنيا إلا القليل. . . القليل. . . القليل)، واسكت الأثير لسانه، وهبط به إلى الأخير من أحلامه

لنا الفخار في امتنا وفي مجلس امتنا، فنهم منحوا مدام املي لورانس ريد، زوجة الرجل الذي اقتصد للعالم ملايين الدولارات، دع ذكر الأنفس، منحوها منحة طبية، خمسمائة وألف دولار معاشا سنويا، ومنحوا مثلها لأرملة لازار، ومثلها لأرملة كارول، ولاشك أن هذا كانت فيه الكفاية لهن، بدليل أن لجنة من شيوخ المجلس قالت في غرابة وإبهام:(إن الأرامل لا يزال باب الرزق في وجوههن مفتوحا)

ولكن ما الذي جرى لكيسنجر، جندي اهيو، الذي غامر في التجربة وصمد فيها صمودا في سبيل العلم والإنسانية وحدهما؟ أن الحمى الصفراء لم تقتله. وانه رفض أن يأخذ أجرا عن آلامه وتخاطره. ولكنهم أخيرا وبعد الجهد أغروه بقبول خمس عشرة ومائة دولار وساعة من ذهب، أهديت أليه في حفل جنود معسكر كولومبيا وضباطه. انه لم يمت بالحمى، ولكن خرج سم الحمى من جسده ليدخل فيه ما هو شر منه: شلل زحف في جثمانه بطيئا. واليوم هو مقعد يعد الزمن مصابرة على عقارب ساعته، وهي من ذهب! وساعده الحظ أخيرا فجاءته زوجة طيبة تعوله من غسل الثياب للناس

وماذا جرى للقوم الآخرين؟ أن الوقت يضيق بي عن تناولهم. وفوق هذا فأنا لا ادري ماذا جرى لهم. لقد لقي كل واحد من هذا النفر قسمة مختلفة خصته بها المقادير. أي والله لقد كانوا زمرة من اغرب الزمر، قامت في تلك السنوات العشر بأعجب ما قام به صياد المكروب، وتوجت هذه الصيادة بأفخرها وأفخمها، وعملت بيد واحدة وقلب واحد في بحث وباء الحمى الصفراء حتى لم يبق من سمه وأنا اكتب هذا ما يغطي راس دبوس

قال دافيد بروس وهو محارب الموت القدير: (ليس بمستطاع في الوقت الحاضر أن نتخذ من أجسام الناس أداة للتجريب). فاليوم ماذا يقول بعد الذي كان!

احمد زكي

ص: 43

‌8 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فيلكس فارس

الحرب والمحاربون

لا نريد أن يراعينا خيرة أعدائنا، كما لا نريد أيضاً أن يراعينا من نحبهم من صميم الفؤاد

دعوني أعلن لكم الحقيقة

أنني احبكم من صميم الفؤاد، أيها الرفاق في المعارك، فما أنا الآن إلا، كما كنت في الأمس، جندي مثلكم، فأنا إذن من خيار أعدائكم. دعوني أعلن الحقيقة لكم

إنني عارف ما في قلوبكم من حقد وحسد، فانتم من العظمة بحيث لا يمكنكم أن تتجاهلوا الحقد والحسد؛ فلتكن عظمتكم رادعة لكم عن الخجل بما في قلوبكم. وإذا امتنع عليكم أن تكونوا أولياء في معرفة الحق فكونوا على الأقل جنودا يكافحون من اجل هذه المعرفة؛ وما المكافحون إلا طليعة الأولياء

لقد كثر عدد الجنود فليتني أرى مثل هذا العدد من المحاربين، وعسى إلا تكون سرائرهم على طراز واحد كالألبسة التي يرتدونها

لتكن أنظاركم منطلقة تفتش على عدو لكم، وقد لاحت في لمعانها بوادر البغضاء. عليكن أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربا تناضلون فيها من اجل أفكاركم، حتى إذا سقطت هذه الأفكار في المعترك، ينتصب إخلاصكم هاتفا بالظفر

احبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب، وخير السلام ما قصرت مدته. أنني لا أشير عليك بالعمل، بل أشير بالكفاح؛ لا أشير عليكم بالسلم، بل بالظفر. فليكن عملكم كفاحا وليكن سلمكم ظفرا

لا اطمئنان في الراحة إذا لم تكن السهام مسددة على أقواسها. وما راحة الأعزل إلا مدعاة للثرثرة والجدال. فليكن سلمكم ظفرا. . .

تقولون أن الغاية المثلى تبرر الحرب؛ أما أنا فأقول لكم أن الحرب المثلى تبرر كل غاية، فقد أتت الحروب والأقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس، وما أنقذ الضحايا حتى الآن

ص: 44

إلا إقدامكم لا إشفاقكم

أنكم تتساءلون عن الخير، وما الخير إلا الاتصاف بالشجاعة، فدعوا صغيرات الأطفال يقلن:(أن الخير في اللطف والجمال)

يقولون أن لا قلوب لكم، ذلك لان قلوبكم تنبض بالإخلاص، وأن احب تواضعكم في إخلاصكم. أنكم تستحون لان أمواجكم تندفع في مدها، وسواكم يخجل من تراجعها في جزرها

أن قبحكم مريع، فتدثروا به أيها الاخوة، لان في دثار القبح ما ليس في سواه من الروعة والبهاء

أن النفس لتقف صاخبة عندما تعتلي، والقسوة كامنة في اعتلائكم، فما خفيت حالكم عني. ففي ميدان القسوة الشديد العزم بمنهوك القوى فلا يمكنهما أن يتفاهما - إنني اعرف من انتم

إذا ظفرتم بعدو فصبوا عليه بغضكم؛ وحاذروا أن تصبوا عليه احتقاركم، فما عدوكم إلا مدعاة مباهاتكم، فإذا عملتم بوصيتي يصبح انتصاره انتصارا لكم أيضاً

أن الثورة مفخرة للعبيد، فليكن افتخاركم انتم قائما على طاعتكم. وليكن أمر الآمر فيكم جزءا من هذه الطاعة نفسها. أن المحارب الصادق يفضل ما يجب عليه ما يريده. فعليكم أن توجهوا ما تؤمرون به إلى هدف رغباتكم. وليكن حبكم للحياة تعبيرا عن أسمى أمانيكم؛ ولتكن هذه الأماني عبارة عن ارفع فكرة في الحياة. وما ارفع فكرة لكم، وأنا أستمحيكم إبداءها لكم كأمر، إلا هذه القاعدة:(ما الإنسان إلا كائن يجب أن نتفوق عليه)

على هذا الوجه تمر حياتكم بالطاعة والجهاد، فما يهمكم أطالت الحياة أم قصرت. فليس من محارب يطلب أن يعامل بالمراعاة

لقد قلت لكم الحق بلا محاباة لأنني احبكم من صميم الفؤاد، أيها الاخوة في السلاح

هكذا تكلم زارا. . .

الصنم الجديد

لم يزل في بعض الأماكن من الأرض شعوب وجامعات، أما نحن فليس عندنا سوى حكومات وما أدراكم ما هي الحكومات، وما أدراكم ما هي الحكومات

ص: 45

أعيروني أسماعكم لأخاطبكم عن موت الشعوب: - ليست الحكومة إلا ابرد مسخ بين المسوخ الباردة، فهي تكذب بكل رصانة إذا تقول:(أنا الحكومة، أنا الشعب)

إياكم وتصديق ما تقول؛ فما كون الشعوب إلا المبدعون الذين نشروا الأيمان والمحبة؛ فأتوا بأجل خدمة للحياة. وما الناصبون الإشراك للجموع الغفيرة ألا من يهدمون كيانها ليشيدوا الحكومات على أنقاضها، ويعلقوا نصلا قاطعا فوق راس الشعب، وينصبوا مئات الشهوات أمام عينه

إن الشعب، حيث بقى له مرتع على الأرض، لا يفهم ما هي الحكومة، بل هو ينفر منها كما ينفر من العين الساحرة، ويراها شذوذا هادما للشرائع والتقاليد. وإليكم هذا الدليل: أن لكل شعب بيانه عن الخير والشر؛ وجيرة هذا الشعب لا تفهم هذا البيان الذي أوجده لنفسه محددا به شرائعه وتقاليده، على حين أن الحكومة تكذب في جميع تعابيرها عن الخير والشر، فليس ما تقوله إلا كذبا، وليس ما تملكه إلا نتاج سرقتها واختلاسها

أن كل ما للحكومة مزيف، فهي تنهش بأسنان مستعارة، وأحشاؤها مختلقة اختلاقا؛ وما شعارها إلا (البيان المبهم المشوش عن الخير والشر) فهي تتجه به نحو الفناء، وتقوم بنشره بدعوة صريحة للمنذرين بالموت

أن عدد من يدخلون الدنيا قد تجاوز الحد، وما أوجدت الحكومة إلا لخدمة الفضوليين الدخلاء على الحياة. انظروا إلى هذه الحكومة كيف تجتذب إليها فتضمهم إلى صدرها وتشبعهم عناقا وتقبيلا. اسمعوها تهدر قائلة:

- ليس اعظم مني على وجه الغبراء، فأنا يد الألوهية المنظمة

وعندما تهتف هذا الهتاف، تتهاوى الركاب جاثية، وبين الراكعين كثير من غير طوال الآذان وقصار النظر

أن هذه الأكاذيب تجد مصدقين لها وا أسفاه حتى بينكم انتم، يا من تجول فيكم النفوس الأبية، لان الحكومة تعرف أن تدغدغ قلوبكم الطافحة بالمكارم، الطامحة إلى الجود، إنها لتخترق سرائركم، انتم أيضاً، يا من تغلبتم على الألوهية القديمة، فهي تعرف إنكم تعبتم من الكفاح فتستخدم ملالكم لعبادة الصنم الجديد

انه لصنم يتمنى أن يحيط به الأبطال وفضلاء الرجال؛ انه لمسخ بارد يريد أن يدفأ بشمس

ص: 46

الضمائر المشعة المشرقة

انه ليمنحكم كل شيء إذا أنتم سجدتم له. فهذا الصنم الجديد يشتري لمعان فضائلكم وما في لفتاتكم من عزة وكرامة. انه في حاجة إليكم ليجتذب إليه العدد الفائض من الدخلاء على الحياة، فهنالك البرج الجهنمي، وهنالك جياد الموت تقرقع بعددها حاملة شارات المراتب والأمجاد؛ اجل ذلك هو اختراع الموت أتى به للجموع ليحصدها حصدا وهو يباهي بأنه هو الحياة، والمنذرون بالموت يرون بفعلته خير لمبادئهم

حيث يكرع الجميع السموم ويضيع كل إنسان نفسه صالحا كان أو طالحا، فهنالك تقوم الحكومة لأنها تسود كل مكان يوصف فيه الانتحار البطيء بالحياة

انظروا إلى هؤلاء الدخلاء. انهم يختلسون ثمرة جهود المخترعين وكنوز الحكماء ويدعون هذا الاختلاس تمدنا؛ غير أن كل شيء يصبح أدواء ومصائب تحت سلطانهم. انظروا إلى هؤلاء الدخلاء وليس فيهم إلا الإعلاء ينفثون غسلين مرائرهم، وينتحلون صفة الصحافيين. . . انهم يتناهشون ويلتهم بعضهم البعض الآخر وليس لهم القوة على هضم ما يلتهمون

انظروا إلى هؤلاء الدخلاء، انهم يحشدون الأموال، وكلما ازدادت ذخائرهم زاد فقرهم، فانهم يطمحون إلى الاستيلاء على القوة فيبدءون بالقبض على محركها الأول: على الأموال الطائلة، وما هم إلا الدخلاء العاجزون

انظروا إليهم! انظروا إلى هؤلاء القرود يتسلق بعضهم البعض الآخر فيتدافعون متمرغين في الأوحال على الشفير. أن كلا منهم يطمح إلى التقرب من العرش، وقد عراهم جنون التوصل إليه، فكان لا سعادة إلا على مقربة منه، وقد يرتفع رشاش الأوحال إلى العرش كما ينزلق نفسه إلى الأوحال

إنني أراهم وقد جن جنونهم، قرودا لا تكن لهم حركة وهم يتسلقون قاعدة صنمهم البارود وقد انبعثت منه ومنهم اكره الروائح وأخبثها

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 47

‌تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

ترجمة حسن محمد حبشي

الفصل الثاني

وخلف النعمان ولده المنذر وكان أميرا عاقلا شجاعا. ويستدل على سطوة اللخميين إذ ذاك من الحادثة التي حدثت عقب موت يزدجرد الأول، وذلك ذلك أن المنذر تدخل في النزاع القائم حول انتخاب خليفته، وأيد اختيار بهرام جور الذي عارض توليته رجال الدين في فارس. وفي الحرب التي أندلع لهيبها بعد قليل بين الفرس والروم برهن المنذر على أنه تابع مخلص، ولكن الروم كبدوه خسائر فادحة عام 421م. وفي أوائل القرن السادس الميلادي اعتلى العرش أمير يسمى المنذر الثالث الذي دعاه العرب أبن ماء السماء، وطالت مدة حكمه وازدهرت، وان كانت قد تلبدت سماؤها بغيوم حادثة يستحيل فهمها دون الرجوع إلى التاريخ العام لهذه الفترة؛ ذلك أنه حوالي 480م امتد نفوذ قبيلته كندة التي يظهر أمراءها كانوا خاضعين لتبابعة اليمن خضوع اللخميين لملوك فارس، وشمل نفوذها جزءا كبيرا من وسط بلاد العرب وشمالها. وكان اليد العاملة في بسط هذا النفوذ حجر (آكل المرار) أحد أجداد امرئ القيس، ولكن ما لبث أن تفكك هذا عندما مات حجر، ولكن عاد الشمل فالتم مرة ثانية لمدة وجيزة حوالي سنة 500م على يد حفيده الحارث بن عمرو، وصار منافسا خطيرا لإمارتي الحيرة وغسان؛ على حين كانت تعاليم مزدك الاشتراكية قد اتسع نطاق دعوته وتغلغلت بين العامة في فارس حتى انتهى الأمر بان أعتنقها الملك قباذ نفسه. ومن المؤكد انه قد حدث بين عامي 505 و 529م أن اجتاح الحارث بن عمرو الكندي العراق وأقصى المنذر عن مملكته. وليس من البعيد أن يكون سقوط الأخير - كما يؤكد كثير من المؤرخين - راجعا إلى عدائه للتعليم المزدكية التي أثارت سخط مولاه. وعلى كل حال - وأيا كانت الأسباب - فان الحارث قد أقصى المنذر وقتاما؛ وبالرغم من انه عاد إلى عرشه بعد فترة قصيرة قبل تولية انوشروان الذي قتل كثيرين من اتباع مزدك (528م) فان النسيان لم يسحب ذيوله على ما لحقه من إهانة وقسوة، وإن حياة امرئ القيس

ص: 49

وقصائده لتحمل طابع الكراهية الموروثة التي تأصلت جذورها بين لخم وكندة. ولقد أدت أعمال المنذر ضد الروم إلى نشاط كبير، فقد دخل سورية ووصل إلى إنطاكية، وراى جستنيان نفسه مضطرا لان يكل أمر الدفاع والذب عن هذه الأقاليم إلى الحارث بن جبلة الغساني (الحارث الأعرج) الذي وجد فيه المنذر قوة تفوق قوته. ومنذ ذلك الحين اخذ كل من ملوك الحيرة وغسان في الإغارة على إقليم الآخر وتخريبه؛ وفي إحدى الغزوات اسر المنذر ابن الحارث، وسرعان ما ضحى به لأفروديت الإلهة العربية العزى، ولما استرد الإقليم ثانية سنة 554م فوجئ في معمعان القتال وذبح في موقعة تدعى (يوم حليمة). ومجمل القول أن اللخميين كانوا وثنيين ليس لهم حظ من الرقي والحضارة، تلك التي يستحقها تماما النذر الثالث. وقد روى الأغاني أنه كان له نديمان من بني أسد هما خالد بن المضلل وعمرو بن مسعد، فأغضباه في بعض المنطق، فأمر بحفر حفرتين وأن يجعلا في تابوتين ويدفنا فيهما ففعلوا ذلك بهما، حتى إذا اصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما فندم على ذلك وأغتم؛ ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما فبنيا وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عندهما يسمى أحدهما يوم نعيم يعطي فيه أول طالع عليه مائة من الإبل سودا، والأخر يوم بؤس يعطي فيه أول طالع عليه راس ظربان اسود، ثم يأمر به فيذبح ويطلى بدمه الغريان، ويقال أن عبيد بن الأبرص كان أول من اشرف عليه يوم بؤسه فقتله؛ وظل على هذا الحال حتى مر به رجل من طي يقال له حنظلة، فلما رأى نفسه مقتولا قال له:(أجلني سنة ارجع فيها إلى أهلي، ثم أصير إليك فانفذ في حكمك) فقال: (من يكفلك حتى تعود) فنظر في وجوه جلسائه فعرف فيهم شريك بن عمرو الذي قام وقال للملك: (أبيت اللعن يدي بيده ودمي بدمه إن لم يعد إلى اجله) فلما كان العام القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة أن يأتيه فإبطا عليه، فأمر الملك بشريك ليقتله، فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم فتأملوه فإذا هو حنظلة متكفنا متحنطا معه نادبته تندبه، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما وابطل تلك السنة

وقد خلفه على العرش ابنه عمرو الذي يعرفه شعراء العربية المعاصرون والمؤرخون باسم عمرو بن هند؛ وفي عهده أصبحت الحيرة مركزا أدبيا زاهرا، وقد وفد على بابه كثيرون من شعراء عصره، وسترى في الفصل التالي علاقاته مع طرفة وعمرو بن كلثوم والحارث

ص: 50

بن حلزة. ولقد كان عمرو هذا رجلا شرس الطباع مستبدا طاغية ضاق به العرب ذرعا كما نرى ذلك من قول الدهان العجلي:

أبا القلبُ أن يهْوي السدير وأهله

وإن قيل عيشٌ بالسدير غريرُ

فما انذروا الحيّ الذي نزلوا به

وإني لِمَن لم يأتهِ لنذيرُ

به البقّ والحمىًّ وأسْد خفيةَّ

وعمرو بن هند يعتدي ويجور

ولقي عمرو مصرعه على يد كبير التغالبة عمرو بن كلثوم، ثأرا لكرامة أمه ليلى التي خدشت عنده

ونكتفي بالإشارة إلى اسمي قابوس والمنذر الرابع ابني هند اللذين ولي كل منهما العرش فترة قصيرة، ونكون بذلك قد وصلنا إلى أخر ملك لخمي للحيرة ألا وهو النعمان الثالث ابن المنذر الرابع ويكنى بأبي قابوس وقد حكم من سنة 585 إلى 607م؛ كما نشا في أحضان أسرة مسيحية شريفة في الحيرة قامت بتربيته وتعليمه، وكان كبيرها زيد بن حماد أبا الشاعر عدي ابن زيد، وعدي هذا ذو شخصية جذابة كما كانت وقائعه قوية الصلة بحوادث النعمان؛ وكان كل من جده وأبيه ذا ثقافة ليست بالقليلة، وشغلا مراكز سامية أيام المنذر الثالث وخلفائه، وقد استطاع زيد بواسطة دهقان يدعى (فاروخ ماهان) من اجتذاب عطف كسرى انوشروان بان صار كاتب ديوانه، وذلك منصب لا يرقاه إلا أبناء الأشراف. وحينما اشتد ساعد عدي أرسله أبوه ليتلقى المعارف مع ابن الدهقان فأجاد الفارسية كتابة وقراءة، كما أتقن العربية اتقانا تاما، وقرض الشعر، وتعلم ركوب الخيل، ولعب الكرة، كما أن جماله الشخصي وذكاءه وذلاقة لسانه وحضور بديهته كل أولئك حببه إلى انوشروان فقربه أليه واتخذه كاتبا له ومترجما في ديوانه؛ ولم يكن قد كتب بالعربية قط من قبل في الديوان الملكي، وحباه الملك عطفه، وبعث به إلى القسطنطينية في سفارة خاصة حيث استقبل اجل استقبال؛ وعند أوبته أوحى القيصر - جريا على سنة متبعة - إلى جميع الموظفين القائمين بحراسة الطريق بمد الخيل في محطات البريد بما يلزمها حتى يرى المبعوث الفارس عظمة واتساع الإمبراطورية البيزنطية

(يتبع)

(حسن حبشي)

ص: 51

‌من ديوان البغضاء:

الست التي. .؟؟

للأستاذ محمود محمد شاكر

بَلَى! كنتِ في قلبي سِرَاجا يضيئه

فيفترُّ عن أنوارِه كلٌّ جانبِ

وكنتِ حياة للحياةِ تمدٌّها

بأفراحها في عابسات المصائب

وكنت ليَ البرَّ الوديع إذا غلت

بأمواجها وادَّافعت بالمناكب

وكنتِ نسيما واللَّظى ينشِفُ اللَّظى

ويتركُ ظِل الدّوْح ظلَّ اللّواهب

وكنتِ ملاذي والشؤون كأنّها

من الدّمع ينبوعٌ يجيش بغارب

وكنتِ إذا ما العينُ مدّت هيامها

إليكِ تلّقتها احنُّ الترائب

وكنتِ كأنفاسِ الرياضِ، عبيرُها

على الفاقِدِ المحزون فَرْحة آيب

َبلَى! كنتِ. . . كنت السحرَ تبدو صدورُه

من الخير تخفى منه شَّر العواقب

ارى الحَّية الرقطاَء اجملَ منظراً

وألينَ مسّاً من ثِديّ الكواعب

إذا ما تراَءتها العيونُ بريئةً

من الخوف خالتَها دُعابةَ لاعب

تدانىَ إلى اللاّهي دُنوَّ مقاربٍ

فيدنو ويُدْنِي كفّه كالمُداعب

إلا ارْفَعْ يداً، واذهب بنفسك رهبةً

فمن حُسنها نابٌ شديد المعَاطب

بَلَى! كنتِ. . . إذ عيني عليها غِشاوةٌ

وإذْ أتردَّى من سوادِ الغياهب

وأُخرى على عينِ البصيرة خيَّلت

لنفسي هداها بالأماني الكواذب

أُرى من تكاذيب الخيالِ كأنني

إلى جنة الفردوس أحدو ركائبي

أُغني لآمالي لأبلغ غايتي

وأُدرك لذّاتي، واجني مطالبي

وما ذاك إلاّ راحةُ القلب بالهوى

وبالوُدِّ في عيشٍ شديد المتاعب

وأَن أَرِدَ الماء الزلالَ. . . ولم أَرِد

وقد عشت دهرا - غيرَ رنْق المشارب

ألا فاعلمي أني ظَمِئت، وأنّني

تجنبت جُهِدي الماَء جمَّ الشوائب

فجئتُك ضمآنا يموتُ بِغُلةٍ

فأغريت بي الغُلاتِ من كل جانب

لقد كنتُ خِلواً انْتحي حيث اشتهي

وأرْضَى وآبى مُقدِما غير هائبِ

تسهِّلُ لي الصعب الأبي عزيمتي

ويكفُلُ لي صدقي قضاءُ مآربي

ص: 53

وارمي بنفسي في المهالك باسماً

لأنفُذَ منها باسماً غيرَ خائب

فوا حزنَا. . .! أضْللت عزمي وهِمتي

وأيْتَمت أفكاري وَضيعت وَاجبي

تخشَّعت تحت الحُبِّ وَالوجد وَالجوى

وطول اضطرابي في الهموم الغوالب

أذَلَّ شبابي الحبُّ حتى رأيتُني

أمُّر بأترابي مرور المُجانِبِ

وَأحسدُهم ِمما لقيت. . . وَإنّني

لأخشى عليهم، مِحنتي وَتجاربي

ألاوَيحها!! كم بت ارُقبُ طيفها!

وكم سهرت عيني نجيَّ الكواكب!

وَكم طُفت بالبيداء أطلب خلوة!

وَأُرسل طَرْفي في ضلال المذاهب!

أُمَّثلها حتى أكادَ امسها!

وَأُلقي إليها ما تضمُّ جوانبي!

وَأشتاقُها وَالبحر بيني وَبينها

وَبيدٌ تعاَوت بالرِّياح الغواضب!

فلما التقينا ضمنا الشوق وَالهوى

وَكان حديث الوصل صمت الرغائب

وَلكن. . . رمت بيني وَبينك بعدهُ

ضريبة أُنثى. . . وَهي شرُّ الضرائب

فأطلقت في إثري الضواري مُجِدة

تعان على أنيابها بالمخالب

تمزّقُني ألحاظها وَعيونُها

كأني أُرْمى بالسهام الصوائب

يفزِّعُني ظِلِّي إذا ما لمحتُه

وَقد غالني رُعبي وسُدَّت مهاربي

فما كدْت أنجو بالحشاشة بعدما

تلقيت من حُبيك شرّ النواكب

ألا لا تقولي كيف كنت!!. . . فإِنني

أرى كلَّ أُنثى شرُّها غيرُ غائب

ترومينَ مني الوُدَّ بُقيا عَلَى الذي

مضى. .!! خاب فألي أن أُرى غير ثائب

ترومين منّي الودّ!. . تلك عجيبة

وَأسعى لذبحي! تلك أُمُّ العجائب

تشهَّيت لحماً. .! فَات ما تشتهينه

فلم يبق من لحمي طعامٌ لساغب

تمليت هذا البغض حتى رأيتني

أُريب حيَّاتي وَأغذو عقاربي

فإن يكُ بغضي كلَّ ذنب جنيته

إليك. .! فإني لست منه بتائب

وَكيف!. . وقد أنهكتني وَعرقتني

وَقدت عَلَى قلبي جيوش النوائب!

ذريني. . . ولكن الحياة مليئة

بكن. . . فما في الأرض منجى لهارب

محمود محمد شاكر

ص: 54

‌الفنون

فرانسسكو جويا

للدكتور أحمد موسى

يعد جويا من أغرب شخصيات القرن التاسع عشر وأبعدها أثرا في الفن. ظل يصور حتى تجاوز الثمانين من عمره، وقضى حياة حافلة بمختلف الحوادث والعبر، وبوفاته انتهى دور من أهم أدوار الفن الأسباني

ولد فرانسسكو جويا في 30 مارس سنة 1746 في فونديتورس إحدى القرى الصغيرة في مديرية اراجون لوالدين فقيرين اشتغلا بالفلاحة في قطعة صغيرة من الأرض كانت مصدر حياتهم؛ فكانت طفولته مليئة بالعمل والتعب والملل.

وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره رسم شكلا تخطيطيا لخنزير على حائط مسكنه الريفي، وشاهد أحد الرهبان هذا الرسم مصادفة فوجد فيه ما يدل على استعداد راسمه؛ فتقدم إلى والده ناصحا بان يذهب بابنه إلى فنان يقيم في سرقوسة وهي اقرب البلدان إلى قريتهم

كان أول معلميه جوزي لوزان مارتنز، فعرف منه كيفية تحضير الألوان وشد قماش اللوحات في الإطار، وما إلى ذلك من وسائل العمل نظير خدمته لمعلمه

وفي مدة وجيزة استطاع جويا أن يفهم الأسرار العملية لمهنته التي ولد لها، وأمكنه أن يصور بعض تفاصيل مهمة على لوحات معلمه، ولم تنقض ثلاث سنوات حتى رخص له مارتنز برسم لوحات بأجمعها

جمع جويا بين ظاهرة العبقرية الفنية وبين قوة العضلات؛ فكان يمضي أوقات فراغه في الرياضة البدنية والمصارعة والجري وحمل الأثقال

وكان محبوبا من بنات البلدة اللواتي كن يحضرن لمشاهدة مصارعته مع أمثاله الذين تغلب عليهم دائما. وكان كثير التردد على القهوات والحانات فكان روادها يخشون بأسه.

بدأ جويا حياته الفنية بتصوير العذراء، فأخرجها إخراجا أنيقا في ثوب رقيق وقوام رشيق. ومع هذا السمو كنت تراه أحيانا يغني أغاني شعبية عامية لا تنسجم مطلقا مع مصوراته في ذلك الحين، كما كان عصبي المزاج سريع الغضب سريع البطش

عاد في آخر الليل مرة مع أصدقاء له إلى المدينة فصادفه في حارة قذرة من حاراتها نفر

ص: 55

من قطاع الطرق الذين أرادوا به وبأصدقائه شرا، ولكن جويا بمساعدة رفاقه استطاع مطاردتهم وقتل ثلاثة منهم!

ولم يترك الفرصة تسنح للقبض عليه ففر هاربا إلى مدريد. ظهر في العاصمة كفنان بسيط، ولم ير سبيلا إلى العيش لأنه لم يكن يعرف أحداً فيها. كان دائب البحث عن أي عمل ولكنه كان يعود مساء كل يوم كسير القلب إلى الملجأ الذي أقام فيه

وفي صباح يوم وجد المسكين في إحدى الأزقة الضيقة وقد اعتدي عليه بالسكاكين فأخذه أولئك الذين كان يقيم معهم وعنوا به حتى شفي من جراحه

علم البوليس انه من العاطلين المدمنين على الخمر فطارده إلى خارج العاصمة، فذهب إلى حلبة مصارعة الثيران واستطاع أن يجد عملا حقيرا نظير اجر بسيط ادخر معظمه حتى تمكن به من الوصول إلى إحدى موانئ أسبانيا الجنوبية حيث أبحر إلى شاطئ إيطاليا الغربي. وصل إلى روما وهناك أمكنه العمل عند فنان شعبي راجت حاله

وعند هذا الفنان تعرف إلى أناس لا يميلون بطبعهم إلى العلم ولا إلى المتعلمين وإنما هم من أولئك الذين تجتذبهم حياة الشوارع وما فيها من وسائل لقتل الوقت

ومال بطبيعته وبحسب استعداده وبعامل البيئة التي عاش فيها إلى تصوير مناظر الأزقة والحارات والقهوات على نقيض الفنانين الآخرين الذين كانوا كثيرا ما يتحاشون إظهار هذه المواقف على لوحاتهم

وهذه نزعة لم يسبق أحد إليها خصوصا وانه اكثر من تصوير الوجوه الثائرة والمناظر الشاذة المتصلة بحياة الجمهور والغوغاء مباشرة، حتى لترى هذه المسحة على معظم لوحاته التي تعد بحق خير مسجل لشخصية مصور من انبغ فناني القرن التاسع عشر

صعد يوما إلى قبة كنيسة بطرس ليحفر الأحرف الأولى من إسمه، ولا تزال محفورة إلى اليوم. وهكذا كانت أقامته في روما غريبة الأطوار. وقد تعرف فيها بسفير روسيا الذي طلب إليه السفر إلى بطرسبرج ليكون مصورا للقصر. وفي أثناء المفاوضة في هذا الشأن قبض عليه بتهمة تحريض إحدى الراهبات على عمل غير شريف. ولولا اتصاله الوثيق بسفير روسيا لما استطاع الإفلات من يد العدالة

كان جويا تعسا في غربته، وكان دائم الحنين إلى بلدته، ورأى في إقامته الطويلة بروما

ص: 56

تكفيرا كافيا لسابق جرائمه، فعاد إلى مدريد سنة 1775 وتزوج من يوزيفينا بايو شقيقة الفنان فرانسسكو بايو الذي كان مصورا في قصر مدريد والذي بوساطته استطاع جويا أن يقوم بعمل تصميمات لمناظر وزخارف الأقمشة التي كانت تغطى بها حوائط القصر. وأول تصميم له نسج على قماش لهذه الغاية سنة 1776، واستمر حاله هكذا حتى سنة 1791، وتدرج في التقرب من سادة القصر وتقدم في فنه تقدما عظيما حتى اصبح ابرز فناني عصره في أسبانيا، وعمل لوحات مثلت الحياة على الصورة التي تغلغلت في نفسه كما صور اكبر الشخصيات

كان جويا فنانا بكل معاني الكلمة، كما كان بوهيميا في علاقته الزوجية، ولم يخل تاريخ حياته من فضائح أهمها اتصاله بأميرة ألبا التي عشقها عشقا تملك عليه مشاعره فصورها على لوحات تجل عن الحصر في مواقف مختلفة، وكان يعيش في جناح من قصرها. أما هي فكانت تتوجه من حين لأخر إلى زوجته وأولاده وتقدم إليهم العطايا والهدايا

ولم تكن الملكة راضية عن هذه العلاقة؛ فعملت ترتيبا أخرجت به الأميرة من القصر إلى جهة نائية. سافر جويا بصحبة معشوقته في عربة خاصة كسرت عجلتها في الطريق الوعر، فقام بعمل الإصلاح اللازم كما لو كان حدادا ماهرا، وأمكن السير بالعربة إلى اقرب قرية لتغيير العجلة. تعرض جويا بعد هذا المجهود للهواء البارد فأصيب بصمم في إحدى أذنيه لازمه حتى أخر حياته

مضت الأعوام وعادت الأميرة إلى مدريد وماتت بعد وصولها. وعاد هو لتصوير مناظر دلت على منتهى الحنق والحقد على النساء، كما دلت على كثير مما خالج نفسه من البؤس والشقاء

زحف الفرنسيون على مدريد فقابلهم جويا بكل ترحيب وانضم إليهم بقلب مطمئن، وبعد خروجهم منها وجهت إليه تهمة الانضمام للعدو؛ إلا انه تمتع بالعفو لكبر سنه

بدأ الهدوء يدب إلى نفسه، واستمر يصور لوحاته، واكمل مجموعته بالقلم الرصاص حتى بلغ السابعة والسبعين، ثم رحل إلى بوردو عملا بمشورة طبيبه، ولم يترك التصوير مع ضعف بصره، بل كان يستعين بالمجهر. وآخر لوحة له صورها في سن الحادية والثمانين، ومات بعدئذ بسنة واحدة سنة 1828

ص: 57

هذه هي ترجمة فنان لم يكن له نظير في مجرى حياته ولا في قوته الإنشائية لمجموع لوحاته التي من اشهرها صورة (البقرة العمياء) تمثل مجموع من بنات وشبان تتوسطهم بنت مغمضة العينين تبحث عمن يناديها (محفوظة بمدريد)، وصورة (الغداء في الغيط) وفيها مثل الطبيعة تمثيلا رائعا (محفوظة بلندن) وصورة (النزهة في الأندلس) وكانت مرسومة خصيصا للنسج (محفوظة بمدريد) وصورة الولد النطاط وهي من أدق الصور التي تدل على منتهى قوة الملاحظة والإخراج: وقفت أربع بنات يحملن ملاءة كبيرة وفوقها صبي واقف على ساق واحدة استعداد للقفز إلى أعلى عندما يشددن الملاءة

وصورة (المشاجرة في الملجأ) وهي من احسن صوره، تذكرنا بوقت بؤسه عندما كان بعيدا عن بيته يبحث عن عمل ولم يجد إلا ملجأ حقيرا يأوي إليه. والناظر فيها يأخذه العجب عندما يرى أنها تمثل حياة الملاجئ تمثيلا صادقا؛ صور عليها بعض الحيوانات وبعض الأشجار وعربة قديمة في ركن من اللوحة؛ أما بوسطها فقد وقف المتشاجرون موقفا عنيفا لا يستطيع غير جويا أن يخرجه في هذه القوة

وله لوحة خالدة (محفوظة بمدريد) اسماها (الرمي بالرصاص) على يمينها وقف الجنود شاهرين بنادقهم، وعلى اليسار اصطف المنبوذون مستسلمين للإعدام، وقد أعطى الصورة ظلا ونورا قويين قلما تراهما لغيره من الفنانين

هذا غير لوحاته العظيمة للشخصيات البارزة في عصره، كصورة ماري لويس، وصورة فرديناند السابع وصورة أمير الكاديا وغير ذلك مما يجل عن الحصر

وله لوحات تعد من اغرب ما تركه فنان، منها صورة (شجرة الربيع) وهي تمثل صبية التفوا حول رجل يحمل ساقا طويلة ثبت في أعلاها شجرة صغيرة وولدان صغيران يتسلقان الساق

أما لوحته (بالقلم الرصاص) الممثلة لحلبة مصارعة الثيران فهذه تعد في مجموعها من اعظم ما أخرجه؛ فقدرته على تصوير الثور الثائر والمصارع الماهر لا سبيل إلى وصفهما

احمد موسى

ص: 58

‌البريد الأدبي

توحيد الثقافة العربية

بحث أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية منذ أسابيع في امثل الطرق إلى توحيد الثقافة في البلاد العربية، ثم رأوا أن يذاكروا ذلك إخوانهم القائمين على أمور الثقافة في لبنان وسورية وفلسطين، فدعوهم إلى القاهرة في عطلة عيد الفطر، فلبى الدعوة بعض أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت والأستاذ اسحق الحسيني عن فلسطين، ولم يستطع الأساتذة الدمشقيون الحضور لأسباب طارئة؛ ثم قضوا في القاهرة أسبوعا حافلا بالزيارات والمشاهدات على برنامج معين؛ واجتمعوا مرارا في دار (لجنة التأليف والترجمة والنشر) وتناقشوا في موضوع الدعوة ومنهاجها ووسائلها، فأسفرت المناقشة عن اتفاقهم على هذه الأسس آلاتية:

1 -

أن تؤلف جمعية لتوحيد الثقافة العربية وتركيزها وتقويتها تتكونه من 24 عضواً هم الداعون والمؤسسون

2 -

أن تسعى الجمعية في أن تضم أليها أعضاء من البلدان العربية الأخرى، وهي العراق وشرق الأردن وتونس والجزائر ومراكش

3 -

أن يراعى في اختيار الأعضاء الجدد أن يمثلوا فروع الثقافة المختلفة

4 -

أن تؤلف لجنة فنية لدرس النهضات الفكرية والبرامج التعليمية في البلاد العربية لتوحد غاية التعليم وتقرب مناحي الفكر بقد ما تسمح بذل طبيعة الإقليم

5 -

أن تتلافى تعارض الجهود الادبية، فلا ينشر مثلا كتاب قديم في بلد يكون بلد آخر قد اخذ ينشره على صورة مرضية

6 -

أن تعمل الجمعية لإصدار مجلة خاصة بها يعالج فيها أعضاؤها الأغراض التي أنشئت لها

7 -

أن تعقد الجمعية مؤتمرات ثقافية في العواصم العربية على التتابع يحضرها الأعضاء ومن يدعون من الأدباء والعلماء فيوثقون الروابط ويرصدون التطور ويوجهون الجهود إلى الغرض المشترك. وسننشر أسماء الأعضاء وتفاصيل المشروع في فرصة أخرى

لجنة تفسير القران تحدد الفرص وتضع قواعد العمل

ص: 59

حددت الجنة التي ألفت لتفسير القرآن الكريم تمهيداً لترجمة معانيه غرضها بأنه: (وضع تفسير يقصد به إلى فهم معاني القران الكريم كما يدل عليه نظمه العربي المبين، ومعرفة ما فيه من أنواع الهداية، ويكون في متناول جمهرة المتعلمين فهمه والاهتداء به إلى معاني القران في سهولة ويسر)

ولتحقيق ذلك نتبع القواعد الآتية في التفسير:

1 -

أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية

2 -

ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية فلا يذكر مثلا التفسير العلمي للرعد والبرق عند آية فيها رعد وبرق، ولا رأي الفلكيين في السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم؛ إنما تفسر الآية بما يدل عليه اللفظ العربي، وتوضح مواضع العبرة والهداية فيها

3 -

إذا مست الحاجة إلى التوسع في تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة في حاشية التفسير

4 -

ألا تخضع اللجنة إلا لما تدل عليه الآية الكريمة، فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية، ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها. ولا تتعسف في تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك

5 -

أن يفسر القران بقراءة حفص، ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة أليها

6 -

أن يجتنب التكلف في ربط الآيات والسور بعضها ببعض

7 -

أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث، وأعان فهم الآية

8 -

عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت كلها مرتبطة بموضوع واحد ثم تحرر معاني الآية أو الآيات مسلسلة في عبارة واضحة قوية، ويوضع سبب النزول والربط وما يؤخذ من الآيات في الموضع المناسب

9 -

إلا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات

10 -

يوضع في أول كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها في السورة، أمكية هي أم مدنية، وماذا في السورة المكية من آيات مدنية والعكس

ص: 60

11 -

توضع للتفسير مقدمة في التعريف بالقران وبيان مسلكه في كل فن من فنونه كالدعوة إلى الله وكالتشريع والقصص والجدل ونحو ذلك، كما يذكر فيها منهج اللجنة

طريقة التفسير

1 -

تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور، فتفحص مروياتها وتنقد، ويفرد الصحيح منها بالتدوين، مع بيان وجه قوة القوي وضعف الضعيف من ذلك

2 -

تبحث مفردات القران بحثا لغوياً، وخصائص التراكيب القرآنية بحثاً بلاغياً وتدون

3 -

تبحث آراء المفسرين بالرأي والتفسير المأثور، ويختار ما تفسر الآية به مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول ويفند ذلك كله

4 -

يصاغ التفسير المختار مستوفياً ما نص على استيفائه في الفقرة الثانية من القواعد السابقة؛ وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لإفهام جمهرة المتعلمين خال من الأغراب والصنعة

التوزيع

نظرا لظروف أعضاء اللجنة وتحقيقاً للتعاون رئي أن تقوم لهذه الأعمال الأربعة جماعتان فقط: أولاهما تقوم ببحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور وبحث آراء المفسرين بالرأي وما يستنبط من الآية. الخ. وتتآلف من فضيلة رئيس اللجنة وحضرات الأساتذة جاد المولى بك، واحمد أمين، وأمين الخولي، والشيخ علي الزنكلوني، والشيخ محمود شلتوت

وثانيتهما تقوم ببحث المفردات اللغوية والأوجه البلاغية كما تقوم بالصياغة الأخيرة للتفسير الذي يختار؛ وتتألف هذه الجماعة من حضرات الأساتذة علي الجارم بك، ومصطفى عبد الرازق، والشيخ إبراهيم حمروش

على أن تقدم الجماعة الثانية بحثها أولاً في المفردات اللغوية والأوجه البلاغية للجماعة الأولى التي تتقاسم بينها أعمالها وتقدم تقارير بها، وما يستقر عليه الرأي في اختيار المعنى يعرض على اللجنة العامة مجتمعة فتنتهي فيه إلى قرار يقدم بعده إلى الصياغة فتنجزها الجماعة الثانية وتعرضها على اللجنة العامة مجتمعة ليقر إقرارا نهائيا مع ملاحظة أن كل خطوة يتم حثها يطبع ما تم فيها ويوزع على أعضاء اللجنة جميعها ليدرسوه قبل مناقشته

ص: 61

في اللجنة العامة

التفسير المختصر

تقرر كذلك أن تضع اللجنة بعد الفراغ من تفسير كل آية أو آيات موجزاً يختصر من التفسير الأول اختصاراً دقيقاً يختصر التفسير الأول اختصاراً دقيقا في جلاء ووضوح يفرد وحده ويكتب في كتاب خاص

وفاة شاعر تركيا محمد عاكف بك:

في 29 ديسمبر الماضي استعز الله بالشاعر الكبير محمد عاكف بك أستاذ اللغتين التركية والفارسية في كلية الآداب بالجامعة المصرية، وكانت علته الفادحة قد اضطرته إلى اعتزال هذا المنصب في يونيو سنة 1936 والسفر إلى الآستانة حيث قضى نحبه بين قومه. كان الفقيد أستاذاً في جامعات تركيا قبل الانقلاب، وزاول الصحافة زهاء ثمانية عشر عاماً اصدر في خلالها مجلتي (صراط مستقيم) و (سبيل الرشاد)؛ وكان إلى ذلك عضواً في المجلس الوطني أثناء حرب الأناضول

ولا تزال قصائده الوطنية وأناشيده الحماسية التي نظمها في ذلك الحين تعلق بالقلوب وتجري على الألسن. ومن روائعه الخالدة في الأدب التركي قصيدة (جناق قلعة) التي وصف فيها موقعة الدردنيل وصفا بليغ المعرض شديد الروعة؛ وقصيدته في رحلته من نجد إلى المدينة؛ ثم نشيده الوطني الذي يردده ملايين الأتراك. وقد اشتمل ديوانه على خمسة أجزاء نشرها جميعا تحت عنوان (صفحات)

وفد إلى مصر منذ أربعة عشر عاما لازم فيها المغفور له الأمير محمد عباس حليم؛ وقد نظم في مصر والمصريين قصائد رائعة، منها قصيدته (مع فرعون). وعسى أن تتهيأ الفرصة لصديقه الحميم الوفي الدكتور عبد الوهاب عزام فيجلو لقراء (الرسالة) نواحي أدبه بعد مماته، كما أمتعهم بروائع شعره في حياته

كتاب الأشباح

صدر أخيرا في إنكلترا كتاب طريف مدهش معاً عنوانه (قصص حقيقية مع الأشباح) بقلم المركيزة تونز هند أوف رينهام والسيدة مود فولكس؛ وطرافة هذا الكتاب في أن

ص: 62

القصص التي يحتويها ليست قصصاً خيالية من مبتكرات مؤلفتها، إنما هي قصص حقيقية واقعية تؤيدها المركيزة تونز هند بكثير من الشواهد والادلة؛ وهي في مجموعها تدور عن العلاقة بين الأحياء والأموات، وعلى الاتصال بأرواح الذاهبين ومثولها في كثير من الأحيان. والمركيزة تونز هند مؤلفة هذه المجموعة من اشهر المشتغلات بمسائل الأرواح والغيب، ولها في ذلك تجارب شهيرة؛ وهي تقيم منذ أعوام في دار اشتهرت منذ بعيد بما يسكنها من الأشباح والأرواح، وهي دار رينهام وتعرف في مقاطعة نور فولك (البيت الأعظم)، وقد كانت هذه الدار مسرحاً لأكثر من مأساة دموية، ولها شهرة مرعبة في جميع الأنحاء المجاورة

وإذا كانت تلاوة قصص الأشباح المختلفة تثير الدهشة والجزع أحيانا، فان تلاوة هذه القصص الحقيقية تثير الروعة والرعب في الأذهان المؤمنة

وفاة الشاعر والفيلسوف الأسباني أومانومو

من أنباء أسبانيا الأخيرة أن الفيلسوف الكاتب الشاعر الأسباني الكبير ميجويل دل اومانومو مدير جامعة شلمنقة (سلامانكا) قد توفي في الثاني من يناير. وكان موله بثغر بلباءو في سنة 1864؛ ودرس دراسة جامعية حسنة، وبدأ أستاذاً للغة اليونانية في جامعة شلمنقة سنة 1891؛ واشتغل منذ حداثته بالشعر والأدب، ودرس الفلسفة دراسة مستفيضة. واخرج في سنة 1907 ديوانه، فلقي تقديراً عظيماً، وتبوأ اومانومو مكانته في الطليعة بين شعراء أسبانيا المعاصرين. وعالج اومانومو كتابة القصة أيضاً؛ واخرج منذ سنة 1897 قصته الشهيرة:(السلام في الحرب) وفيها يصف مسقط رأسه، ومشاهد صباه؛ ثم اتبعها بقصة عنوانها (من بلادي)، ثم بقصة (المركيز دي لومبريا)

بيد انه اشتهر على الأخص بمباحثه الفلسفية. فاخرج في سنة 1913 كتابه (الشعور المؤسى بالحياة)؛ وفي سنة 1925 اخرج كتابه الشهير: (احتضار النصرانية)، واخرج أيضاً عدة كتب أخرى فلسفية ولغوية

ومنذ سنة 1914 يشغل لومانومو منصب مدير جامعة شلمنقة. وقد عزل عن كرسيه لمطاعنه اللاذعة في نظام الطغيان العسكري الذي أنشأه الجنرال دي ريفيرا؛ ثم نفي مدى حين إلى جزر الكناري، ثم رحل إلى فرنسا. وكتب في منفاه عدة رسائل وكتباً شائقة منها:

ص: 63

(كيف تكتب القصة)، ومنها كتابه المؤثر:(رومانشيرو في المنفى)، ولما انهارت دعائم الطغيان في أسبانيا عاد اومانومو إلى شلمنقة وأعيد إلى منصبه الجامعي

وقد كان اومانومو من اعظم الشخصيات الأدبية التي طبعت الأدب الأسباني المعاصر بطابعها العميق

ص: 64

‌النقد

سلسلة الموسوعات العربية

معجم الأدباء

للدكتور عبد الوهاب عزام

أخي صاحب الرسالة:

أود أن تفسح لي قليلاً في صفحات رسالتك فإني مضطر إلى التوسع قليلا في الكتابة. وسأضن كما ضننت من قبل بصفحات الرسالة القيمة فاقتصر على سرد أغلاط المعجم سرداً واثقا بفهم القارئ، مكتفياً باللمحة الدالة والإشارة الموحية، ولو استوعبت الأغلاط وأسهبت في بيان الأدلة لكان لنا معجم أخر

ابدأ مقال اليوم بكلمة في نقد الأستاذ الفاضل محمود مصطفى وأخرى في نقد الأديب الكريم عبد العظيم قناوي وثالثة في مقالات الأستاذ عبد الخالق عمر

وأود أن يتنبه الكاتبون إلى أمرين؛ الأول: أننا في شان كتاب قديم ينشر. فكل همنا أن يكون الكتاب كما راده مؤلفه. فإذا أثبت الناشر أو المصحح كلمة تدل القرائن على أن المؤلف لم يكتبها فهي غلط على المؤلف ولو كان لها محمل في اللغة

والثاني: أن مقياسنا في النقد هو اللغة التي نتعلمها ونعلمها ونكتب بها، ونعرف أن المؤلف كتب بها، فالأوجه الشاذة والمحامل الضعيفة ليس لها مساغ هنا

أقول بعد للأستاذ محمود مصطفى:

1 -

جاء في مقدمة ياقوت: (إذ كل همه تحصيل المأكول والمشروب.) والقارئ بين أن يقرا هَمُّه فيخرج الكلام على وجه قوي، وبين أن يقرأ (هَمَّه) فيحمل الكلام علة وجه ضعيف، لان هَمَّ لازمة أصالة عرض لها التعدي توسعاً، واهمَّ متعديه وضعاً، وهي لغة القران. وليس من حقنا أن نعدل عن الراجح إلى غيره دون ضرورة. على أن المصححين أنفسهم اعترفوا بان عبارة المؤلف (هَمُّه) بالضم وأستدركوها في أخر الجزء الرابع فلا موضع للجدال

2 -

وجاء في الكتاب: (ومعاوية بفارسٍ) فقلت إنها ممنوعة من الصرف. فنقل الأستاذ عن

ص: 65

القاموس أن فارسَ الفرسُ أو بلادهم. وقال إن التذكير والتأنيث في أسماء القبائل والمواضع جائز فيجوز فيه الصرف والمنع. وأنا أقول: إن فارس في عبارة ياقوت ليست الفرس أو بلادهم، ولكنها ولاية في الجنوب الشرقي من بلاد الفرس. فليرجع إلى الكتاب. وأما الصرف ومنعه بنية التذكير أو التأنيث فهو من مماحكات بعض النحويين. وقد جرت اللغة على تأنيث ألفاظ وتذكير أخرى، وإجازة الوجهين في غيرها. فلا ينبغي أن ننوي التذكير في لفظ جرت اللغة على تأنيثه. فذلك ضرب من التأول لا حاجة إليه. وقد جرى العرب على تأنيث فارس. جاء في الحديث:(خدمتهم فارس والروم) وشواهد هذا كثيرة. وهؤلاء مؤرخو المسلمين هل تجد من يقول (فُتِحَ فارس) أو هم جميعاً يقولون: فتحت بالتأنيث؟ وما أرى الأستاذ في هذا النص: قال ياقوت نفسه في معجم البلدان: (قال أبو علي: فارس اسم البلد وليس باسم الرجل؛ ولا ينصرف لأنه غلب عليه التأنيث. . . وليس بأصله بعربي بل هو فارسي معرب بارْس)

3 -

وأما ميسرة فقال الأستاذ فيها إنها مثلثة. ولا أضنه يجادل أن المختار فيها الفتح وبه جاء القران. فضبط كلمة مثلثة على غير الوجه المختار فيها غلط. وكان على المصحح أن يتركها لاختيار القارئ أو يعين الوجه المختار فيها. على أن المصحح اعترف في مقاله له بالمقطم أن (ميسُرة) غلط مطبعي. فان أراد الأستاذ من بعد أن يجادل فيها فليجادل المصحح نفسه

4 -

جاء في ياقوت (لغوياً نابهاً ثبتاً) فقلت الصواب: (ثبتاً) بالسكون. والثبت بالفتح البرهان اسم لا وصف. فقال الأستاذ: إن القاموس أجاز فيها الفتح، وظن أني وهمت حين قرأت قول شارح القاموس:(وقيل للحجة ثبَتَ بفتحتين إذا كان عدلا ضابطا) فذهب بالي (كما يقول) إلى أن الحجة هنا الدليل والبرهان. أقول: هل يظن الأستاذ حقاً أني إذا قرأت هذه العبارة والشارح يقول فيها: (إذا كان عدلاً ضابطاً) يذهب بالي إلى أن الحجة هنا البرهان؟ ثم أقول له: لا ريب أن الوصف ثبْت بالسكون، وأن الثبَتَ مصدر. قال صاحب اللسان:(ورجل له ثبت عند الحملة بالتحريك أي ثبات). ويقال للبرهان ثبت. قال في اللسان: (لا احكم بكذا إلا بثبت أي بحجة. وفي حديث صوم يوم الشك: ثم جاء الثبت أنه من رمضان. الثبت بالتحريك الحجة والبينة). فإذا قيل للرجل المتثبت ثبت، فذلك كما يقال

ص: 66

له حجة، وكما يقال رجل عدل. كل هذا وصف بالمصدر للمبالغة. فأما الوصف الأصيل الدائر على السنة المحدثين فهو ثبت بسكون الباء، وهو الذي تحمل عليه عبارة ياقوت. فضبط الباء بالفتح أن لم يكن غلطا فهو عبث

5 -

جاء في ص 115 ج1: أُضقْت أضاقة شديدة الخ. قلت الصواب أَضَقت. ويريد الأستاذ محمود أن يصوبها مبنية للمفعول. كأن الرجل يقول: أضاقني الزمن فأضقت أي صرت ضيقا. وهذا تعسف لنصر الغلط على الصواب. والوجه أن يقال: أضاق الرجل كأعسر. قال صاحب اللسان: (أضاق الرجل فهو مضيق إذا ضاق عليه معاشه. وأضاق أي ذهب ماله) فما بالنا نعدل عن النهج الواضح إلى بنيات الطريق؟

6 -

وجاء في ص 209: نزل ثغر المُصَيْصَة. قلت الصواب: المَصيصَه، وقال الأستاذ إنها المِصيِّصة، واحتج بكتابه إعجام الأعلام. وأيد حجته بقولين متناقضين: قول صاحب القاموس بأنها كسفينة؛ وقول صاحب التقويم إنها مِصيّصة. ثم خطأ الناقد والمنقود وجعلني أوفر نصيباً من اللوم؛ وأنا أحتج عليه بقول ياقوت نفسه، قال في معجم البلدان:(المَصيِّصة بالفتح ثم الكسر ثم التشديد وياء ساكنة وصاد أخرى. كذا ضبطه الأزهري وغيره من اللغويين بتشديد الصاد الأولى الخ) ومثل هذا في اللسان. ثم أقول للأستاذ إن كان الناقد حين يخطئ اجدر باللوم من المنقود، فما تقول في خطأ ناقد الناقد؟

7 -

جاء في الكتاب ص 240: أنه من غُمار الناس وصغارهم. قلت الصواب غِمار بالكسر. وصوب الأستاذ الوجهين، واعترف المصحح أن الكسر أولى، وأن الضم غلط المطبعة؛ وأنا أقول مع الأستاذ محمود انه لم يخطئ في هذا ولم تخطيء المطبعة

وبعد فأسال الأستاذ الفاضل: ما رأيه في بقية الغلطات التي أخذت على الجزء الأول؟ لماذا لم يتعرض لها في مقاله؟ وإن كان راضيا بها فلماذا لم يصرح بهذا؟

وأما الأستاذ عبد العظيم قناوي فقد شارك الأستاذ مصطفى في كلمتي (هَمَّه وميسُرة). وقد تقدم الكلام فيهما. وبقي من رده قوله في البيت

أمغط مني على بصري بالحب

(م) أم أنت أكمل الناس حسناً

أن هذا الضبط جائز - وهذا غلط بين، فالشطر الثاني خطاب لامرأة. وهو لا يستقيم مع هذا الضبط. ثم المسالة ليست مجالاً للرأي بل هي رواية يجب أن تتبع، والبيت في كتب

ص: 67

الثقات كما رويته. وقد اعترف المصححون أنفسهم بالوجه الصحيح الذي نبهت أليه

وقوله انه يجوز في (أماكنهم ويزيدونني) حذف النون. وذلك حمل للكلام على الأوجه الشاذة. وقد تقدم القول فيه

وجاء في الكتاب ص 212

يخال بأن العرض غير موفر

عن الذم أنه يدال له الوفر

فقلت الصواب يذال - وقال الأستاذ (ويدال ليست خطأ بل لعلها أوقع في المعنى الخ) وأنا أقول إنها خطأ لأن البيت في مدح رجل. ومعناه أن هذا الممدوح يظن أن عرضه لا يبرأ من الذم إلا إذا بذل ماله وأذيل أي امتهن - وإذا قرأت (يدال) كان البيت ذما. ويكون معناه انه يظن أن عرضه لا يسلم إلا إذا أديل له المال أي صار غنيا. وهذا ليس من المدح في شيء

واختم بشكر الأستاذ على حس ظنه، ولومه على مبالغته في الثناء علي. والله يهدينا جميعا للتي هي أقوم

وأما أستاذنا عبد الخالق عمر فقد وجهت إليه كلمة بارة في المقال السابق، ثم اطلعت على مقالات له في المقطم. وأنا أسال الله أن يعينني على تناسي هذه المقالات. وارى أن من الخير لي وله ألا أناقشه فيما قال. فسأستمر في نقدي فارضاً أنني لم أقرا ما كتب متمنياً انه لم يكتب

ثم أعود إلى الموضوع متمماً نقد الجزء الثاني من الكتاب، وقد وعدت في المقال السابق أن أبين ما أخذته على تعليق الناشرين، ولكني أتقدم بتبيين أغلاط كتبتها ثم سهوت عن إلحاقها بأخواتها في ذلك المقال

ص 199: قول البديع يرد على الخوارزمي هجاء الصحابة

هلا نهتك الوجنة الموشومة

عن مشترَى الخلد ببئر رومه

والصواب مشترِي بالكسر. ومشتري الخلد الخ هو عثمان بن عفان، وقصة شرائه بئر رومة في المدينة ووقفها على المسلمين معروفة. ثم هذا البيت لم يستحق تفسيراً من الناشرين الذين يكلفون في مواضع أخرى بان يفسروا الماء بالماء

ص 237: فقال هذا زِنبيل الحوائج الخ - وفي الحاشية! وفي الأصل زبيل الحوائج

ص: 68

تحريفا - أقول التحريف ما فعله المصححون، فأما الزبيل فهو افصح من الزنبيل أو هو معربه، وقد اقتصر عليه صاحب القاموس ولم يذكر الزنبيل، وذكره صاحب اللسان بعد الزبيل ثم قال: وقيل الزنبيل خطأ وإنما هو زبيل أهـ. وقال المعري:

أيها الجامع الكنوز أزر

أم هي زِبال من نملة في زبيل

وأما الحوالج فالظاهر إنها جمع حالجة المرأة تحلج القطن، وزبيل الحوالج يجمع فيه ندافة القطن، وقد جعل في الكتاب مثلا فليرجع أليه

ص 242: في أخبار جحظة البرمكي انه كان يلقب خَنْياكِر وفي الحاشية: (كلمة فارسية معناها المغني). وهذا التفسير صحيح، ولكن كيف ضبطت الكلمة هذا الضبط؟ هل أجراها المصححون مجرى الأعلام الأعجمية وجروا فيها على المذهب الذي نشر في المقطم فأجازوا فيها كل تحريف؟ والصواب خُنَياكَر

ص 258

ماذا ترى في جَدْيِ

وفي عقار بوارد

وقهوة ذات لون

يحكي خدود الخرائد

والوزن لا يستقيم في الشطر الأول فينبغي أن يكون: ماذا ترى في جُدَيً - تصغير جدي. ولا يضره الصغر إذا كان لحمه لذيذاً

ص 272: قول جحظة البرمكي في قصة رجل أعطاه ثياباً وعتيدة وهي وعاء للطيب: (فخرجت كأني لص قد خرج من بيت قوم، على قفا غلامي الثياب والعتيدة كارة) والكارة حمل الثياب. فرأى المصحح أن يحذف كلمة (كارة) كرها ويضع مكانها كلمة (كلها) وكتب في الحاشية: كانت رواية الأصل كارة، ولا معنى له) وقد عرف القارئ أن له معنى وأن المصحح غير متن الكتاب غلطاً، وقدمت لهذا نظائر وسيأتي:

ص 279: قول جحظة:

يا من دعاني وفر مني

أخلفت والله حسن ظني

قد كنت أرضى بخبز رزّ

ومالح أو قليل بُنّ

وأرى من الصواب في القافية الثانية بُنيِّ بالياء. وهو ضرب من السمك لا يزال معروفا بهذا الاسم في مصر والعراق. وفي بعض الأغاني العامية المصرية بني يا سمك بني.

ص: 69

وليت الناشرين فسروا كلمة بن هنا فهي في حاجة إلى التفسير

ص 280 يقول بعض الشعراء إلغازاً عن الدواة والأقلام:

أحاجيك. ما قبر عديم ترابه

به معشر موتى وأن لم يكفنوا

سلوت عن التبيان مدة قبرهم

فان نبشوا يوما من الدهر بينوا

وهو إلغاز عن الأقلام في الدوى القديمة

والتحريف في كلمة سلوت، والصواب سكوت الخ

ص 283 في الكلام عن أبي نصر الباهلي الذي يقال انه ابن أخت الأصمعي: (وكان اثبت من عبد الرحمن يعني ابن أخت الأصمعي وأسن). والمعروف أن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي لا ابن أخته. وصاحب الأمالي يكثر الرواية عن عبد الرحمن عن عمه (الأصمعي)

ص 285 وكان يسكن باب الأزَجِّ. والصواب الأزَج بغير تشديد. وهو اسم محلة كبيرة كانت في الجانب الشرقي من بغداد

ويضيق مقال اليوم عن الكلام في مآخذ التعليق على هذا الجزء فموعدنا العدد الآتي أن شاء الله. والله ولي الهداية إلى الصواب

عبد الوهاب عزام

ص: 70

‌العالم المسرحي والسينمائي

شركة أفلام الشرق وجهودها في إخراج (نشيد الأمل)

تقرر أن يعرض فيلم نشيد الأمل في يوم الاثنين 11 يناير سنة 1937 بسينما رويال، والمعروف أن هذا الفلم لم يستغرق أعداده اكثر من 80 يوما، وهذه المدة القصيرة تشهد بالجهود الكبيرة التي بذلها رجال الشركة في إخراج هذا الفلم العظيم. ويقول رجال الشركة إن الفضل في هذا التوفيق يرجع إلى معاونة العناصر الفنية في مصر وتضافرها على نجاح هذا الفلم؛ فأولاً استديو مصر - ذلك البناء الشامخ الذي يعتبر الدعامة الأولى في نهضتنا السينمائية والذي خطا بصناعة الأفلام خطوة جريئة واسعة - وضع تحت تصرف الشركة كامل معداته الحديثة وجهد فنانيه، فقاموا بأحسن ما في وسعهم من جهد فني

فالتصوير قام به سامي بريل المصور الأول للاستديو فجاء متقناً بديعاً، وتسجيل الصوت قام به مصطفى والي يعاونه عزيز فاضل فجاء واضحاً جلياً، وبناء المناظر (الديكور) قام به ولي الدين سامح يعاونه يوسف بهجت فكان شاهداً على حسن الذوق والدقة، والتنكر (الماكياج) قام به سترانج الروسي يعاونه حلمي رفله المصري الذي اشترك في اكثر الأفلام المصرية نجاحاً

أما الإخراج فكان من نصيب الأستاذ احمد بدرخان وهو شاب وديع هادئ مفكر يشع الذكاء من عينيه، وقد كان من بين أوائل المصريين اهتماماً بفن السينما؛ وهو مبعوث شركة مصر إلى فرنسا لدراسة هذا الفن. ونشيد الأمل هو أول عمل فني يقوم بإدارته؛ وطبيعي انه ركز كل قواه ومعلوماته في هذا الفيلم حتى جاء تحفة رائعة. وقد عاونه في عمله صديقه الشاب جمال مدكور

هذا والفيلم يحوي عدا الآنسة أم كلثوم مجموعة من خيرة الممثلين في مصر وعلى رأسهم الأساتذة زكي طليمات مبعوث الحكومة المصرية لدراسة التمثيل في أوروبا وعباس فارس وفؤاد شفيق وغيرهم من كبار ممثلي الفرقة القومية وممثلاتها

ص: 71

‌الفاكهة المحرمة

للأستاذ احمد عبد الرحمن المحامي والأستاذ محمد السوادي

وأخيراً وبعد صراع عنيف بين لجنة قراءة الروايات في الفرقة القومية، وبين المؤلفين قدر لهذه المسرحية أن تظهر على مسرح الاوبرا، وأن يستمتع الجمهور بمؤلفة مصرية ممتازة نالت رضا رواد المسرح واستحسانهم، لأن الرواية تمس جانباً من حياتهم. ولعل في النجاح الذي تعاون عليه المؤلفان وممثل الدور الأول الأستاذ احمد علام ما يجعل الفرقة القومية ورجال اللجنة تعطي الأفضلية للروايات المصرية، فليس من شك أن الفاكهة المحرمة نالت من الإقبال ما لم تنله الروايات الأخرى في هذا الموسم

لئن عيب على المسرحية المصرية أنها ما برحت تفتقر إلى الطابع الأصيل الذي يميزها عن الروايات الغربية لخلو أدبنا القديم من هذه الصورة من الأدب، فان هذه الرواية تختلف عن هذا النوع، إذ تتميز بهذا الطابع تميزاً ظاهراً، فهي قطعة من صميم الحياة والبيئة المصرية، تتصل بحياتنا وتقاليدنا وروحنا أوثق اتصال؛ وهي تقوم على الصراع بين الشباب الذي يأبى لنفسه أن يهن أمام الشيخوخة التي لا تعرف من الدنيا إلا الاعتزاز بالثروة، وعلى الصراع بين المنطق المستمد من الحكمة وجموح الرغبة، ولكن. . . في ظل التقاليد!!!

ليس من شك في أن أدبنا يفتقر إلى الوراثة المهذبة في فن صياغة المسرحية، فليست لنا تقاليد ولا آثار سابقة كما قلنا؛ ولهذا فان كتابنا الذين يعالجون المسرحية ما برحوا يأخذون بتقاليد المسرح الغربي وينحون نحوه. فالمؤلف في مصر يقف بين ثقافتين الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية؛ فالأولى تهتم بالمفاجئات والحركات المسرحية المتصلة والشخصيات المشتبكة المعقدة؛ والثانية تعنى بخلق الجو الهادئ والشخصيات الواضحة البسيطة

فضل مؤلفا هذه المسرحية الثقافة اللاتينية، بل قل المدرسة الفرنسية فجعلا الحوادث تتجدد، وجاءا بشخصيات تعاون على إبراز الشخصيات الرئيسية في المسرحية، وبهذا كثرت الحركة المسرحية والنشاط؛ ولكن في رأييأنهما لو سلكا الطريق الآخر وأعطيا هذه العناية للشخصيات الرئيسية لكان توفيقهما أتم. فهذه شخصية (فاضل) ذلك الصديق الذي يحب (درية) وشخصية (زوزو) ابنة صاحب الجريدة التي تحب (حسن) لو فكر المؤلفان في

ص: 72

الاستغناء عنهما أو الاستغناء عن الشخصية الثانية وتصحيح موقف الشخصية الأولى منذ بدء الفصل الثاني، فأنا زعيم بان ختام المناظر يكون اهدأ وافعل في النفس أثراً، ولرأينا صورة بارزة من المسرح المتزن الذي يجعلنا نلتذ للتكشف الهادئ للحادثة ويصدم أذهاننا فيبعثنا على التأمل والاعتبار بالحوار ومناقشة الرأي. ولو أن لي أن أشير بنصيحة لطالبتهما بهذا الإصلاح

على أن هذا الرأي قد يكون متأثراً بعض الشيء بثقافتي السكسونية وحبي للمسرح الإنجليزي، ولكني القي به مع اعتقادي بان المسرحية قطعة أدبية ممتازة بشخصياتها الرئيسية الكاملة التصوير، والجو المصري الخالص الذي تعيش فيه هذه الشخصيات، والأسلوب الرائع الملموس في نواحي المسرحية

اشترك في تأليف المسرحية الأستاذان احمد عبد الرحمن قراعة المحامي المعروف ومحمد السوادي الصحفي؛ وقد يصعب على الناقد أن يفرق بين عمل مؤلفين أتما رواية واحدة معا، ولكن المسرحية من حيث الأسلوب وطريق التفكير والشخصيات تنم عن قراعة اكثر مما تنم عن زميله

يقول (بيفون) الكاتب الفرنسي الكبير: إن الأسلوب هو الرجل. وليس من شك في أن أسلوب قراعة القوي قد نم عليه، وليس الأسلوب وحده، بل كذلك الشخصيات وطريق التفكير؛ والمأساة تدل على أن له النصيب الأوفر في هذا العمل

فنحن نرى الشخصيات تنحني أمام قوة التقاليد، وحتى حسن ودرية، وهما من أصحاب الثقافة العالية، لا يفكران في الثورة على التقاليد والنظم بل يخضعان ويقبلان التضحية من اجل والديهما؛ ثم النهاية القاسية التي تفرق بين حسن ودرية، لان الشرع يحول دون زواجهما - تنم عن روح قراعة ربيب بيت التقاليد وبيت الإفتاء

الإخراج والتمثيل

ظهرت هذه المسرحية من غير مخرج، فقد كانت من نصيب الأستاذ زكي طليمات، وقد بدأ فعلاً في تدريب الممثلين، فلما ترك الفرقة وقامت العقبات في سبيل ظهور هذه المسرحية أهملت، وأبى الأستاذ عزيز عيد أن يتم إخراجها، فقام الممثلون أنفسهم بهذا العمل وعاونهم الأستاذ أدمون تويما منظم المسرح

ص: 73

وافلح الممثلون في مجهودهم، كما وفق الأستاذ أدمون تويما في اختيار المناظر واختيار ألوان الضوء وتوزيعه كما يتناسب وجو المسرحية. وأقرر أن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها مسرحية مصرية اكتمل فيها الضوء وكان عونا للممثلين؛ وأرجو أن تهتم الفرقة بهذه الناحية، وتسند إلى الأستاذ نويما الإضاءة دائما

قام الممثل الأستاذ احمد علام بالدور الأول، فكان لظهوره رنة فرح بين جمهور المعجبين به الذين احتجب عنهم زمناً غير قصير. ولقد اظهر براعة فائقة في دور حسن بك وإني بهذه لأذكر له موقفه البديع في الفصل الأول وهو يكاشف درية بحبه، وفي الفصل الثالث بعد عودته إلى البيت وحديثه مع درية زوجة ابيه، ذلك الحديث الهادئ الذي يدل على ما يضطرم في نفسه من شتى الاحساسات الألم والحب المكبوت وما إليها

وكذلك في الفصل الرابع وهو يتحدث مع شقيقته، وبعدها وهو يتحدث إلى درية، ويعرف أنها تضمر له الحب، يسمو في هذه المواقف ويصل إلى قلوب النظارة فيحركها بالألم

ويأتي بعد علام في النجاح السيدة ثريا فخري التي مثلت دور الدادة، فقد وفقت فيه توفيقاً كبيراً وأدته أداء طيباً يعجز ممثلات الفرقة عن إدراكها فيه. وكان سراج منير موفقاً في إبراز شخصية والد درية، وكانت (روحية خالد) بديعة في تأدية دور شقيقة حسن، وكانت حسنة الإلقاء خفيفة الظل، كما كان محمود رضا عذب الروح في دور نسيم أفندي مضحك الأسرة

وقامت الآنسة فردوس حسن بدور درية، وهو الدور الأول في هذه الرواية؛ فبذلت مجهوداً لا باس به، إلا إنها لم تعن العناية الكافية بإبراز عاطفتها واحساساتها في شتى المواقف، وأن تكون اقل سرعة في إلقاء كلماتها. والأستاذ منسي فهمي قام بدور محيي بك، ويخيل إلى انه لم يهتم به اهتمامه بأدواره السابقة ولم يعره جانب عنايته، ولكنه في الفصل الرابع أبدى بعض العناية فأنقذ الشخصية في النهاية

يوسف تادرس الناقد الفني

ص: 74