المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 185 - بتاريخ: 18 - 01 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٨٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 185

- بتاريخ: 18 - 01 - 1937

ص: -1

‌الدفاع المقدس

قانون الحياة مادتان: هجوم على القوت، ودفاع عن الذات. وما كلمات النباهة والمجد والخلود إلا طعوم مغريات في يد الطبيعة، تتذرع بها إلى ضمان الحياة بالوفرة، كما تتذرع بالجمال والشهوة واللذة إلى بقاء النوع بالولادة. فالحي خليق بالبقاء تتوفر فيه ولا ريب قوة السعي لنفسه، وقوة الوقوف لغيره؛ فإذا فقد هاتين القوتين أو إحداهما كان طفيليا على مائدة الحياة، وفضوليا في ملكوت الطبيعة. وليست العزة التي تملك القاصر حين يرشد، أو التابع حين يستقل، إلا يقظة الأنانية في طبعه، وثورة الحيوية في دمه. وهذا الذي نشهده اليوم في مصر المستقلة من التسابق إلى إعداد القوة، والتنافس في إنشاء الدفاع، إنما هو استكمال لإحدى وسيلتي العيش، واستشعار لأرقى طبيعتي الوجود. فقد كانت مصر قبل عهدها الجديد تجري على قدر مجهول في الغيب، وتعيش على خطر معلوم من العدو، ثم لا تجد في واديها ولا في أيديها ما يدفع الغارة ويمنع الحوزة، فهي كالمرأة حمايتها على الزوج، وكالقاصر تبعته على الوصي. لذلك خشعت نفوسها أمام القوى الساطية خشوع الوحش الداجن إذا حطم نابه وقلم ظفره، فلا تدخل في شر، ولا تشارك في مراء، ولا تملك من دون وليها المحتل نفعا ولا ضرا. كان ذلك وأكثر الدول السيدة الأيدة كالبلجيك واليونان والترك لا يطولها أصلا، ولا يكثرها نفراً، ولا يفوقها ثروة. وكان ذلك والقوة هي الدستور النافذ في الأرض؛ فالتسليح خطة السياسة، والحرب عماد السلام، والمنفعة حجة القانون، وعصبة الأمم والمعاهدات (منيكير) لمخلب الأسد؛ ولكن الاحتلال الذي غل اليد وشل الإرادة قد سلبنا فيما سلب الثقة بالقدرة، والاعتماد على النفس، فكنا فقراء مع الغنى، وأذلاء على الكثرة، لا ندري على اليقين قيمة ما نملك ولا مدى ما نطيق

أما اليوم وقد تحطمت حلقات القيود على ضغط الجهاد الملح والزعامة المخلصة، فهاهي ذي مصر طليقة على سجيتها، سافرة عن طويتها، وقد عصفت في رأسها النخوة، وتمرد في نفسها التاريخ، فهي تتأهب لإعلان قوتها وإعزاز كلمتها وتحصين عزتها في الميادين الحرب الثلاثة! وهاهم أولاء أبناؤها الميامين البررة يتدفقون في التبرع السخي لمشروع الدفاع الوطني تدفق الدماء الحية في قلوبهم الحرة! وسيدهش العالم لهبتهم العاصفة، كما دهش من قبل لغفوتهم الثقيلة، فان مصر في كل شيء فريدة عجيبة!

لقد هبوا أول الجهاد فسخوا لها بالأنفس، وهم يهبون اليوم أول النصر

ص: 1

ليسخوا لها بالأموال؛ وعلى قدر الإخلاص والتضحية في الهبة الأولى،

سيكون البذل والإيثار ولا ريب في الهبة الثانية

صحيح أن تلك النهضة بدأت من الشعب وانتهت إلى الحكومة، وأن هذه النهضة ابتدأت من الحكومة وستنتهي إلى الشعب؛ ولكن ذلك لا يقدح في حقيقتها ولا يشكك في نتيجتها، فان حكومة اليوم هي شعب الأمس والذين ألبوا الأنفس على ذل الاحتلال، هم أنفسهم الذين يحمسون الأفئدة لعز الاستقلال؛ وبين عرش الملك، وكرسي الحكم، ومقعد البرلمان، وئام ناشئ من خلوص النية، وانسجام قائم على وحدة الغاية؛ ولن يهلك على خلوص النية رأي، ولن يصل على وحدة الغاية سبيل

افتتح التبرع للدفاع المقدس الوزراء فتبعهم الموظفون؛ فهل يفتتحه من الجانب الآخر الأمراء والأغنياء ليتبعهم الأهلون؟

يريد الوطن الضعيف الأعزل من أولئك الذين ربَّبهم على دلال السرف، وقلبهم في أعطاف النعيم، فحشا أهبهم بخيره، وأفعم خزائنهم بذهبه، وبسط ملكهم على أكثر أرضه، ومد نفوذهم على معظم بنيه، أن يعززوه ليفي عليهم، ويسلحوه ليدافع عنهم، ويبروه ليدوم عليهم بره وظله

ما الذي يحبس هذا الأمير المترف أن ينفق على سلاح وطنه مثل ما ينفق على سلاح صيده، ويبذل في سبيل أمته بعض ما يبذل في سبيل شهوته؟

وما لهذا الباشا البطين صاحب الهيل والهيلمان، وملك الثيران والأطيان، ورب النفوذ والسلطان، يقر أذنه عن نداء وطنه، وإنما عظمته من فضله، وعزته من أهله، وثروته من ثراه! أيتلكأ الباشا ويتباطأ الأمير حتى تنشأ عدة الدفاع مما يرضخ به الفقير والأجير والعامل؟ وهل ترك هذا أو ذاك لأحد من هؤلاء شيئا يعطيه؟ وهل من المروءة أن يدعا الفقير أو الأجير يتبرع من قوته وهو لا يكفيه؟

سادتي أصحاب السمو وأرباب السعادة! أن الفقير يغذيكم طيلة العمر بعرقه، وسيدافع عنكم يوم الفزع بدمه، ولن يكلفكم هذا الصابر المسكين إلا أن تشتروا له الفأس، وتقدموا له السلاح فهل هذا كثير؟

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌في الحب

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

الكلام في الحب يحلو للعاشق والسالي والخلي؛ وأنا والله (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)، وقد كنت أتوهم أني عشقت بضع من المرات في حياتي مذ عرفت أن لي قلباً وأن مكانه في الناحية اليسرى لا اليمنى. ولهذه المعرفة قيمتها عندي، فقد خيل إلي في صدر أيامي أني أحب فتاة وأفضيت إليها يوماً - أو على الأصح ليلة وكان القمر طالعاً والجو سجسجاً - بما يجن صدري، وأردت أن أؤكد لها الحب فأشرت إلى حيث الضلوع في الجانب الأيمن، وكانتأعرف مني بتركيب الجسم الإنساني، فضحكت وقالت:(هل أنت واثق مما تقول؟. .) فلم أفهم معنى لسؤالها وظننتها تريد أن تعاهدني على الحب والحفاظ وما إلى ذلك من الكلام الفارغ - أو الذي صرت أعتقد أنه فارغ - فوضعت كفها الرخصة على حيث أشرت لها إلى موضع قلبي وقالت: (مسكين هذا القلب!. .) فتناولت يدها وقبلتها وقلت على سبيل التأييد: (إي والله. . مسكين. .)

فسألتني: (وما العمل الآن؟. .) فقلت: (في أي شيء؟) قالت: (أليس الواجب أن نبدأ بقلبك فنرده إلى مكانه الذي حوله الحب عنه؟) قلت: (كيف؟. ماذا تعنين؟) قالت: (أن قلوب الناس هنا. . إلى اليسار. . ولكن قلبك قد وثب وثبة نقلته إلى اليمين؛ وهذا - فيما أظن - يجب أن يستعان على إصلاحه بالجراح. . والى أن يتم ذلك. . .)

فلم أدعها تتم كلامها ووليت هارباً. وخطر لي بعد ذلك أنه إذا كان القلب في غير الموضع الذي حسبته فيه فأن ما توهمته من إحساسه - أو بعبارة أدق - من الإحساس في ذلك الموضع لا بد أن يكون تخيلاً لا حقيقة له. وكانت هذه مغالطة، فليس من الضروري أن يعرف الإنسان موضع قلبه ليحب، ولكن المغالطة نفعتني وشفتني من هذا البلاء

وأنا لا اعشق بالمعنى المألوف لأني شديد النسيان سريعه. والنسيان يجعلني أمسى عاشقاً، واصبح سالياً. وكثيراً ما حدث أني عشقت، ولكن الليل يجيء فأجوع - ولا سيما في الشتاء - فأكل فيغلبني النعاس - والامتلاء يساعد عليه - وانهض في الصباح فيخطر لي شيء ساعة افتح عيني على الدنيا فاشغل بذاك عما عداه وافرغ من هذا الأمر الجديد في العصر أو بعد يوم أو اثنين؛ فاقعد أفكر فيما مر بي في يومي، أو في الأيام الأخيرة، وإذا

ص: 4

بي أتذكر فجأة أني عشقت فأقول: (اووووووه. . . . أعوذ بالله! ما هذا النسيان الفظيع؟ إلا شد ما أذهلتني الحياة عن حبيبتي التي لا شك إنها تحسبني الآن أحيي الليل ساهراً أناجيها. . . كلا، ينبغي أن أكتم هذا لئلا تغضب؛ وليس من اللائق على كل حال أن أخبرها أني كنت ناسياً أني عاشق مد نف. . . ولكن من هي الحبيبة؟ لقد ذكرت حبها ولكني والله نسيتها هي. . .) وأحار ماذا أصنع. . . فليس من المعقول أن أسال من أعرف من الفتيات أهي التي أحبها آم سواها. ويعجبني هذا الموقف فأتصور أني أقبلت على واحدة وفركت كفي وقلت لها: (هل تسمحين لي أن القي عليك سؤالاً عني؟ (فتقول) تفضل. . . بالطبع. . لم لا؟.) فأقول: (أن المسالة بسيطة!!. . أعني أنها في الحقيقة دقيقة. . والمفروض أني أعرف بها ولكني كما تعرفين حمار. فتقول: (استغفر الله!. لماذا تطعن على نفسك هكذا؟.) فأقول: (معذرة. . واشكر لك هذا اللطف ولكنها الحقيقة. . على كل حال لقد تبينت من كلامك. . أعني. . أريد أن أقول إن كلامك الذي سمعته أغناني عن السؤال فآلف شكر لك يا روحي ونور عيني وحبة قلبي و. . .)

فتقاطعني وتصيح بي: (ماذا جرى لك؟. . . لماذا تتكلم هكذا. . .؟)

فأقول: (معذرة. . . ولكن ألست أنت روحي ونور عيني وحبة قلبي. . . لقد ضننتك. . .)

فتسال وهي مقطبة: (هل جننت. . .؟)

فأقول: (لا. . . لم أجن. . . . ولكني نسيت. . .)

فتقول وهي كالمذهولة: (نسيت!. . . ماذا نسيت. . .؟)

فأقول: (اسمعي. . . لم يبق بد من الإقرار بالحقيقة. . . إني أحب، ولكني نسيت ولم أعد أعرف من هي التي سرقت قلبي، وقد كانت نيتي حين ربكتني بالمقاطعة أن أسألك أأنت التي أحبها أم أنا قد غلطت؟. . . فلما أظهرت هذا العطف علي وأغضبك أني أطعن على نفسي، قلت إنك لا بد أن تكوني المحبوبة الضائعة - أعني المنسية - فان لم تكونيها فأنت لاشك أولى منها بحبي. . . وهذا هو تأويل قولي: يا روحي يا نور عيني ويا حبة قلبي. . . فما رأيك؟)

أتصور هذا الموقف فلا يسعني إلا أن أضحك. ومتى ضحك المرء فقد سلا وخلا قلبه من الوجع. ولو أن كل عاشق استطاع أن يضحك لكان الأرجح ألا يبقى في الدنيا حب عنيف

ص: 5

طاغ

ولا أحتاج أن أقول إني في الحب كما تشاء ذاكرتي؛ فإذا استيقظت وتنبهت، ووسعها أن ترتب ما فيها، وتبرز ما يستحق الإبراز، وتؤخر ما التأخير أولى به، وتعرض الأمر علي عرضا يساعد على التدبر ولا يغري بالفرار والتماس النجاة. . . إذا فعلت ذاكرتي هذا فأني أستطيع أن أعرف أأنا عاشق أم خلي، ومن هي التي أحببتها، أو من هن اللواتي أحببتهن ثم نسيتهن؟ ولا غرابة إذن أن يكون حبي - حين أفطن إليه - بالجملة. أما إذا عجزت ذاكرتي عن هذا العرض فأني أمشي في الدنيا مستريح القلب من هم الحب وكربه، واثقاً من نعمة الخلو ومزية السلامة والنجاة

ولكن البلاء والداء العياء أن ذاكرتي تفاجئني بومضات التذكر حين تحسن اللجلجة في النسيان. . . وتصور أن تكون جالساً تناجي من تذكرت أنك تحبها. وأن تكون راغباً في ملاطفتها لتعوضها من الإساءة إليها بنسيان أمرها، فتروح تبثها هذا الحب وتناجيها بأعذب ما تستطيع من عبارات الشغف والهيام، وتؤكد لها أنك ما أحببت. . . كلا، ولن تحب سواها، وأن قلبك وقف عليها، وأن حبك لها خالد، وأن الدنيا تستطيع أن تعمر بمن شاءت من النساء الجميلات الفاتنات الساحرات؛ ولكنك أنت لن تكون لك عين ترى سواها، أو قلب يخفق لغيرها. . . وإنك لتسح بهذا الكلام وإذا بذاكرتك تصيح بك:

(حاسب. . . ماذا تقول؟. . . أتزعم أنك لا تحب سواها؟ يوه. . . أتراك نسيت تلك التي كنت تقسم لها مثل هذه الأيمان الغلاظ البارحة. . . البارحة فقط. . . في الساعة التاسعة. . . على شاطئ النيل. . . أو تلك التي دعوتها إلى الذهاب معك إلى الإسكندرية لأنك لا تطيق البعد عنها يوماً واحداً. . . أو الأخرى. . . أو. . . أو. . .)

وأرجو أن يكون القارئ منصفاً، وأن يقول لي كيف بالله يمكن أن يمضي المرء في الكلام الذي بدأه؟. . . أو كيف يستطيع أن يستحلي ما هو فيه؟. . . أو ماذا يبلغ من شعوره بالتنغيص في لحظة جميلة كالتي هو فيها؟. . . ثم أن هذه سماجة من الذاكرة. . . لماذا لا تنتظر حتى تنقضي اللحظة الحلوة، ويفوز المرء بالمتعة - متعة الجلسة والحديث والمناجاة وسرور المحبوبة بأنها محبوبة ثم بعد ذلك - بعد أن تنقضي الساعة التي هو فيها لا يبقى مانع من أن تذكره بما شاءت، وأن تعرض عليه الحقائق الثقيلة في غير أوانها

ص: 6

فماذا أصنع بالله. . . وكيف أستطيع أن أحب ما ينبغي. . . وهل مما يستظرف أن تعابثني ذاكرتي معابثة تحرمني لذة الحب في دنيا تزخر بالجمال؟. . . وماذا عسى أن أقول للغانيات؟. . . والله أن هذه لحيرة وأي حيرة، ثم والله أني لمستريح مسكين

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 7

‌القلب المسكين

تتمة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال صاحب القلب المسكين: ووقفت المحامية وكأنها بين الحراس تزدحم عليها من كل ناحية، وقد ظهرت للموجودين ظهور الجمال للحب، ونقلتهم في الزمن إلى مثل الساعة المصورة التي ينتظر فيه الأطفال سماع القصة العجيبة؛ ساعة فيها كل صور اللذة للقلب

وكانت تدافع بكلامها ووجهها يدافع عن كلامها، فلو نطقت غيا أو رشداً فلهذا صواب ولهذا صواب، لان أحد الصوابين منظور بالأعين

كان صوت النائب العام كلاماً يسمع ويفهم؛ أما صوت المحامية الجميلة فكان يسمع ويفهم ويحس ويذاق، تلقيه هي من ناحية ما يدرك، وتتلقاه النفس من ناحية ما يعشق، فهو متصل بحقيقتين من معناه ومعناها، وهو كله حلاوة لأنه من فمها الحلو

وبدأت فتناولت من أشيائها مرآة صغيرة فنظرت فيها

- النائب العام: ما هذا يا أستاذة؟

- المحامية: إنكم تزعمون أن هذه الجريمة تأليف عيني، فأنا أسأل عيني قبل أن أتكلم

- النائب: نعم يا سيدتي؛ ولكني أرجو إلا تدخلي القضية في سر المرآة وأخواتها. . . أن النيابة تخشى على اتهامها إذا تكحلت لغة الدفاع

فضحكت المحامية ضحكة كانت أول البلاغة المؤثرة. . .

- النائب: من الوقار القانوني أن تكون المحامية الفاتنة غير فتانة ولا جذابة أمام المحكمة

- المحامية: تريد أن تجعلها عجوزاً بأمر النيابة. . .؟ (ضحك)

- النائب: جمال حسناء، في ظرف غانية، في شمائل راقصة، في حماسة عاشقة، في ذكاء محامية، في قدرة حب. هذا كثير

- المحامية: يا حضرات المستشارين. لم تكن المرآة هفوة من طبيعة المرأة، ولكنها الكلمة الأولى في الدفاع. كلمة كان الجواب عنها من النائب العام أنه أقر بتأثير الجمال وخطره، حتى لقد خشي على اتهامه إذا تكحلت له لغتي

- القضاة يتبسمون

ص: 8

- النائب: لم أزد على أن طلبت الوقار القانوني. الوقار. نعم الوقار، فان المحامية أمام المحكمة، هي متكلم لا متكلمة

- المحامية: متكلم بلحية مقدرة منع من ظهورها التعذر. . . (ضحك)

كلا يا حضرة النائب؛ إن لهذه القضية قانوناً آخر تنتزع منه شواهد وأدلة؛ قانون سحر المرأة للرجل، فلو اقتضاني الدفاع أن أرقص لرقصت، أو أغني لغنيت، أو أثبت سحر الجمال لأثبته أول شيء في النائب العام. . .

- الرئيس: يا أستاذة؟

- المحامية: لم أجاوز القانون، فالنائب في جريمتنا هو خصم القضية، وهو أيضاً خصم الطبيعة النسوية

- النائب: لو حدث من هذا شيء لكان إيحاء لعواطف المحكمة. . . فأنا أحتج

- المحامية: احتج ما شئت، ففي قضايا الحب يكون العدل عدلين، إذ كان الاضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك

- النائب: هذه العقدة ليست عقدة في منديل يا سيدتي، بل هي عقدة في القانون

- المحامية: وهذه القضية ليست قضية إخلاء دار يا سيدي، بل هي قضية إخلاء قلب

- الرئيس: الموضوع، الموضوع

- المحامية: يا حضرات المستشارين. إذا انتفى القصد الجنائي وجبت البراءة. هذا مبدأ لا خلاف عليه؛ فما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟

- النائب: أوله حب راقصة؟

- المحامية: آه دائماً هذا الوصف. هبوها في معناها غير جديرة بان يعرفها لأنه رجل تقي، فليست في حسنها جديرة بان يحبها لأنه رجل شاعر؛ احكموا يا حضرات القضاة. هذه راقصة ترتزق وترتفق، ومعنى ذلك إنها رهن بأسبابها، ومعنى هذا إنها خاضعة للكلمة التي تدفع. . . فلماذا لم ينلها وهي متعرضة له، وكلاهما من صاحبه على النهاية، وفي أخر أوصاف الشوق؟ أليس هذا حقيقياً بإعجابكم القانوني كما هو جدير بإعجاب الدين والعقل؟ وأن لم يكن هذا الحب شهوة فكر، فما الذي يحول دونها وما يمنعه أن يتزوجها. . .؟

ص: 9

- القضاة يتبسمون

- النائب: نسيت المحامية إنها محامية وانتقلت إلى شخصيتها الواقفة على النهاية وفي أخر أوصاف الشوق. . . فأرجو أن ترجع إلى الموضوع، موضوع الراقصة

- المحامية: آه دائماً الراقصة. من هي هذه المسكينة الأسيرة في أيدي الجوع والحاجة والاضطرار؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة؟ أليست هي الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة؟ نعم إنها زلت. إنها سقطت. ولكن بماذا؟ بالفقر لا غير؛ فقر الضمير والذمة في رجل فاسد خدعها وتركها؛ وفقر العدل والرحمة في اجتماع فاسد خذلها وأهملها. يا للرحمة لليتيمة من الأهل، وأهلها موجودون! والمنقطعة من الناس، والناس حولها!

تقولون: يجب ولا يجب، ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت فتجعل ما لا ينبغي هو الذي ينبغي، وتقلب ما يجب إلى ما لا يجب. فإذا ضاع من يضيع في هذا الاختلاط، قلتم له: شانك بنفسك ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخرى. ويحكم يا قوم! غيروا اتجاه الأسباب في هذا الاجتماع الفاسد تخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة

تأتي المرأة من أعمال الرجل لا من أعمال نفسها، فهي تابعة وتظهر كأنها متبوعة؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة؛ ومن كونها تظهر كأنها متبوعة، يظلمها الاجتماع ظلماً آخر فيأخذها وحدها بالجريمة، ويقال سافلة وساقطة وما جاءت إلا من سافل وساقط

لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن؟ أهي تريد القتل والتعذيب والمثلة؟ كلا فان القتل ممكن بغير هذا وبأشد من هذا. ولكنها الحكمة السامية العجيبة: أن هذا الفاسق هدم بيتا فهو يرجم بحجارته

ما أجلك وأسماك يا شريعة الطبيعة؛ كل الأحجار يجب أن تنتقم لحجر دار الأسرة إذا انهدم

تستسقطون المسكينة ولو ذكرتم آلامها لوجدتم في ألسنتكم كلمات الإصلاح والرحمة لا كلمات الذم والعار. إنها تسعى برذيلتها إلى الرزق؛ فهل معنى هذا إلا إنها تسعى إلى الرزق بأقوى قوتها. نعم أن ذلك معنى الفجور؛ ولكن أليس هو نفسه معنى القوت أيها الناس؟

- الرئيس وهو يمسح عينيه: الموضوع الموضوع.

ص: 10

- المحامية: ما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟ ما هو الواقع من جريمة يضرب صاحبها المثل بنفسه للشباب في تسامي غريزته عن معناها إلى أطهر وأجمل من معناها؟ لبئس القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل ديني من أعمال الفضيلة

- النائب: ألا يخجل من شعوره بأنه يحب راقصة؟

- المحامية: ومم يخجل؟ أمن جمال شعوره أمن فن شعوره؟ أيخجل من عظمة في سمو في كمال؟ أيخجل البطل من أعمال الحرب وهي نفسها أعمال النصر والمجد؟

أتأذنون يا حضرات المستشارين أن أصف لكم جمال صاحبته وأن أظهر شيئاً من سر فنها الذي هو سر البيان في فنه؟

- النائب: إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشارين، فالذي يحاكم على السكر لا يدخل المحكمة ومعه الزجاجة. . .

- الرئيس: لا حاجة إلى هذا النوع من ترجمة الكلام إلى أعمال يا حضرة الأستاذة

- المحامية: كثيراً ما تكون الألفاظ مترجمة خطأ بنيات المتكلمين بها أو المصغين إليها؛ فكلمة الحب مثلاً قد تنتهي إلى فكر من الأفكار حاملة معنى الفجور، وهي بعينها تبلغ إلى فكر آخر حاملة إلى سموه من سموها. وعلى نحو من هذا يختلف معنى كلمة الحجاب عند الشرقيين والأوربيين؛ فالأصل في مدنية هؤلاء إباحة المعاني الخفيفة من العفة. . وإكرام المرأة إكرام مغازلة. . . يقولون أن رقم الواحد غير رقم العشرة فيضعونه في حياة المرأة، فما أسرع ما يجيء (الصفر) فإذا هو العشرة بعينها. . .

أما الشرقيون فالأصل في مدنيتهم التزام العفة وإقرار المرأة في حقيقتها. لا جرم كان الحجاب هنا وهناك بالمعنيين المتناقضين: الاستبداد والعدل، والقسوة والرحمة، و. . .

- النائب: وامرأة البيت وامرأة الشارع. . .

- المحامية: وبصر القانون وعمي القانون

- الرئيس: وحسن الأدب وسوء الأدب. . . . الموضوع الموضوع

- المحامية: لا والذي شرفكم بشرف الحكم يا حضرات المستشارين ما يرى القلب المسكين إلا في حبيبته إلا تعبير الجمال، فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن. وما بينه

ص: 11

وبينها إلا أن حقيقة الجمال تعرفت إليه فيها. أئن أحس الشاعر سراً من أسرار الطبيعة، في منظر من مناظرها، قلتم أجرم وأثم؟

هذا قلب ذو أفكار، وسبيله أن يعان على ما يتحقق به من هذا الفن. قد تقولون: أن في الطبيعة جمالاً غير جمال المرأة فليأخذ من الطبيعة وليعط منها. ولكن ما الذي يحي الطبيعة إلا أخذها من القلب؟ وما هي طريقة أخذها من القلب إلا بالحب؟ وقد تقولون: إنه يتألم ويتعذب، ولكن سلوه. أهو يتألم بإدراكه الألم في الحب؛ أو بإدراكه قسوة الحقيقة، وأسرار التعقيد في الخير والشر؟

إن شعراء القلوب لا يكونون دائماً إلا في أحد الطرفين: هم أكبر من الهم، وفرح أكثر من الفرح. فإذا عشقوا تجاوزوا موضع الوسط الذي لا يكون الحب المعتدل إلا فيه؛ ومن هذا فليس لهم آلام معتدلة ولا أفراح معتدلة

هذا قلب مختار من القدرة الموحية إليه، فالتي يحبها لا تكون إلا مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي. وهما بهذا قوتان في يد الجمال لإبداع أثر عظيم ملء قدرتين كلتاهما عظيمة

فان قلتم إن حب هذا القلب جريمة على نفسه، قالت الحقيقة الفنية: بل امتناع هذه الجريمة جريمة

إن خمسين وخمسين تأتي منهما مائة؛ فهذا بديهي؛ ولكنه ليس أبين ولا أظهر ولا أوضح من قولنا: إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يأتي منهما فن

قال صاحب القلب المسكين: وانصرف القضاة إلى غرفتهم ليتداولوا الرأي فيما يحكمون به، وأومأت لي المحامية الجميلة تدعوني إليها، فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 12

‌في التاريخ السياسي

تفاقم المشكلة الأسبانية

ألمانيا تكرر محاولة أغادير

بقلم باحث دبلوماسي كبير

يظهر أن أخطار المشكلة الأسبانية لن تقف حد؛ فقد بدأت الثورة الأسبانية في أواخر يوليه الماضي حرباً أهلية، ولكن عوامل التدخل الدولية التي صحبتها منذ قيامها لم تلبث أن غلبت على صفتها المحلية الداخلية، فهي اليوم حرب دولية في الأراضي الأسبانية، يستتر فيها فريق الدول الفاشستية وراء الجنرال فرانكو زعيم الثورة، وتستتر الدول الديمقراطية وراء حكومة مدريد؛ وقد كان هذا الاستتار شفافاً في البداية ينم على حركات الدول المختلفة؛ ولكنه يفصح اليوم عن كل شيء بجلاء؛ وتبدو الدول المتدخلة ولا سيما ألمانيا وإيطاليا والسوفييت في الميدان بكل جرأة؛ وتتقاطر الأسلحة والذخائر والنجدات الأجنبية إلى الفريقين المتحاربين بلا انقطاع

فهذه الصورة الدولية التي أسبغها التدخل الأجنبي على الحرب الأهلية الأسبانية تغدو اليوم بالنسبة لأوربا بركاناً يضطرم بمختلف المفاجآت والأخطار؛ وقد كان آخر طور من أطوارها الخطرة تفاقم التدخل الألماني وظهور ألمانيا في سياستها الأسبانية بمظهر يزعج الدول الغربية ويثير كل مخاوفها. ذلك أنها لم تكتف بإرسال السلاح والذخيرة والمتطوعين إلى جبهة الثورة، ولكنها بعثت بقسم من أسطولها إلى المياه الأسبانية الشمالية، وأخذت سفنها الحربية تعتدي تباعاً على السفن الأسبانية الجمهورية بحجة الانتقام لحادث الباخرة (بالوس)؛ وفي الأنباء الأخيرة أن قوة عسكرية ألمانية نزلت في مراكش الأسبانية، وأنه شرع في بناء الثكنات اللازمة لإيوائها مما يدل على أنها ستمكث هناك طويلاً؛ وأن قوات أخرى نزلت في قادس لنجدة الجبهة الثورية

وقد كان تدخل إيطاليا وألمانيا في الحرب الأسبانية على هذا النحو يزعج الدول الغربية منذ البداية؛ بيد أنه يلوح لنا أن السياسة الإيطالية أخذت على أثر تفاهمها مع إنكلترا تخفف نوعاً من هذا التدخل، وأن الاتفاق الإنكليزي الإيطالي (اتفاق الجنتلمان) على الاعتراف

ص: 13

بالحقوق والمصالح المتبادلة في البحر الأبيض المتوسط، وعلى احترام الحالة الراهنة فيه كان ذا أثر كبير في تعديل سياسة إيطاليا الأسبانية، وقد ظهر هذا التحول واضحاً في سحب إيطاليا لقواتها من جزيرة ميورقة، وفي وقف النجدات التي كانت ترسلها تباعاً إلى جبهة الثوار؛ هذا بينما يشتد التدخل الألماني ويتفاقم، ويمتد من أسبانيا نفسها إلى مراكش الأسبانية؛ وكان من المنتظر أن المجهود الذي تقوم به السياستان البريطانية والفرنسية لحصر الحوادث الأسبانية في نطاقها المحلي ودرء أخطارها الدولية يسفر عن بعض النتائج المرضية؛ ولكن الدولتان الفاشستيان وهما إيطاليا وألمانيا لجأتا إلى المطل والتسويف في الرد على هذا المسعى. وكانت المذكرة البريطانية الفرنسية تقترح على الدول ذات الشان أن تبذل مجهوداً مشتركا لوقف التدخل الدولي في شؤون أسبانيا الداخلية، ومنع المعاونات العسكرية عن الفريقين المتحاربين، وترك المسألة الأسبانية يحلها الأسبان فيما بينهم؛ وقد أجابت روسيا وهي التي تؤازر حكومة مدريد على هذا الاقتراح بالقبول؛ ولكن إيطاليا وألمانيا وهما اللتان تؤازران فريق الثوار تمهلتا في الرد حتى تطورت الحوادث الأسبانية على هذا النحو الخطر، واستطاعت ألمانيا أن تمد الثوار بنجدات عسكرية كبيرة؛ وأخيراً قدمت إيطاليا وألمانيا رديهما وهما متحدان في اللهجة والموضوع، وخلاصة رد الدولتين الفاشستيتين هو أنه لا محل لإجراء المفاوضات الدبلوماسية للبحث في هذا المشكل في حين أن هنالك لجنة خاصة للبحث في مسالة عدم التدخل، وأن منع المتطوعين الآن معناه معاونة حكومة مدريد التي تؤازرها قوات بلشفية كبيرة، وأن التبعة في تفاقم التدخل الأجنبي في أسبانيا ترجع إلى إنكلترا وفرنسا لأنهما هما اللتان اعترضتا منذ البداية على اقتراحات ألمانيا في وجوب منع المتطوعين الأجانب؛ وتزيد ألمانيا على ذلك إنها ترى بحث المشكلة كلها لا بحث بعض نواحيها فقط، وإنها تحتفظ بحرية العمل إذا لم تقبل وجهة نظرها

ومن الغريب أن ألمانيا تقرن ردها بإرسال نجدات جديدة إلى أسبانيا، وبإنزال بعض قواتها في مراكش الأسبانية، وإذا كان ظهور الجنود الألمانية في أسبانيا وفي صفوف الجنرال فرانكو قد أثار مخاوف إنكلترا وفرنسا، فان ظهورها في مراكش الأسبانية يضاعف هذه المخاوف ويذكيها، وقد رأينا الوزارة البريطانية تسارع بالاجتماع لبحث المشكلة الأسبانية،

ص: 14

ورأينا السياسة الفرنسية، تضطرب لهذا التطور المزعج في الشؤون الإسبانية. ولكي نقدر خطورة هذا الظرف يجب أن نرتد بالذاكرة إلى حاث مماثل وقع في ظروف مماثلة، ذلك هو حادث أغادير الشهير الذي كاد يثير ضرام الحرب بين فرنسا وألمانيا؛ ففي أغسطس سنة 1911 ظهر في مياه أغادير المراكشية (وأغادير واقعة على المحيط الاطلنطي) طراد ألماني، وطلب القيصر في نفس الوقت (مركزا لألمانيا تحت الشمس) واضطربت فرنسا لهذا الحادث واعتبرته انتهاكا لحقوقها التي كفلتها معاهدة الجزيرة والتي عقدت بين الدول العظمى ومنها ألمانيا، ونصت على أن حفظ النظام في مراكش هو من شان فرنسا وأسبانيا وحدهما؛ واشتد توتر العلائق بين الدولتين ويومئذ لاح شبح الحرب بينهما في الأفق؛ ولم تسحب ألمانيا طلباتها ووعيدها إلا بعد مفاوضات طويلة شاقة، وبعد أن تنازلت لها فرنسا عن بعض أراضيها في الكونغو؛ والآن وقد بسطت فرنسا حمايتها على مراكش، ووطدت في مركزها وسلطانها، وأضحت جزءاً من إمبراطوريتها الضخمة في شمال أفريقية، فإنها ترتجف لأقل بادرة تهدد مراكش أو أي جزء آخر من أجزاء هذه الإمبراطورية الغنية؛ وقد كانت فرنسا تتوجس جزعاً مذ قامت الثورة الأسبانية، واضطربت شؤون مراكش الأسبانية التي تحد أملاكها من الشمال، وأضحت منطقة عسكرية خطرة؛ فالآن يزيد جزعها وتتضاعف مخاوفها إذ ترى الجنود الألمان ينزلون في هذه المنطقة ويعسكرون في مليله على مقربة من الحماية المراكشية

وهنالك ما يدل على أن هذا الحادث يشبه حادث أغادير من كل الوجوه. ذلك أن ألمانيا أثارت حادث أغادير لأطماع استعمارية، واستغلته لإرضاء هذه المطامع، وهي الآن تعيد الكرة، وتجيش بنفس الأطماع. وليس من المصادفات أن تنزل الجنود الألمانية في مراكش الأسبانية في نفس الوقت الذي تتقدم فيه ألمانيا بمطالبها الاستعمارية إلى فرنسا وإنكلترا بصورة رسمية. وقد كانت ألمانيا تروج لمطامعها الاستعمارية منذ اشهر وينادي بها زعماء ألمانيا المسؤولون في شدة وصراحة؛ وقد أجابت فرنسا وإنكلترا غير مرة على لسان ساستها وصحفها انهما لا تفكران في النزول عن شبر من الأرض لألمانيا، ولكن ألمانيا لم تنثن عن ندائها ومطالبها؛ ومنذ أسابيع قلائل كان وزير الاقتصاد الألماني الدكتور شاخت يكرر هذه المطالبة بعنف وبشدة ويصرح بأن استعادة ألمانيا لمستعمراتها لم يبق مسألة

ص: 15

كرامة فقط، وإنما أضحى ضرورة اقتصادية ترزح ألمانيا تحت عواملها المرهقة، وينذر أوربا بالانفجار إذا لم تعط ألمانيا حقها من المستعمرات والمواد الخام؛ ثم اتخذت ألمانيا بعد ذلك خطواتها الرسمية الأخيرة، بتقديم مطالبه الخاصة بالمستعمرات إلى فرنسا وإنكلترا، مقرونة بمناورتها البحرية في المياه الأسبانية الشمالية، وبمناورتها العسكرية في شمال مراكش

فهل تزمع ألمانيا أن تستغل هذه المظاهرات العسكرية لتحقيق مطامعها الاستعمارية؟ هذا ما نعتقد؛ ولقد جرت ألمانيا النازية في العهد الأخير على سياسة المجازفة والوعيد والتظاهر، وجنت ثمار هذه السياسة في نقض ميثاق لوكارنو، وفي تسليح منطقة الرين الحرام، وفي غيرهما، واستطاعت أن توقع بسياستها الخلاف في صفوف الحلفاء السابقين، واضطرت فرنسا أن تسلم بالأمر الواقع في هذه المسائل مع إنها مما يمس سلامتها؛ فهل تني فرنسا أمام الوعيد والتظاهر مرة أخرى؟ هذا ما لا نعتقد؛ ففرنسا تنظر إلى أعمال ألمانيا ومشاريعها في أسبانيا وشمال إفريقية بمنتهى التوجس؛ وألمانيا تصيب هنا نقطة حساسة جداً في السياسة الفرنسية، وقد ظهر اهتمام فرنسا واضحاً في ذهاب وزير حربيتها إلى شمال أفريقية ليتفقد أعمال الدفاع، وفي حركات أسطولها حيث تجتمع وحدات كبيرة منه على مقربة من المياه الأسبانية؛ وقد بادرت فرنسا بالاحتجاج لدى حكومة بورجوس على السماح للجنود الألمانية بالنزول في مراكش طبقا لما تنص عليه معاهدة الجزيرة من تحريم مثل هذا الأجراء؛ ومن المحقق أن فرنسا لن تتساهل على الإطلاق في مشاريع ألمانية في هذه الناحية خصوصا أن مراكش الأسبانية تقع وسط إمبراطوريتها الأفريقية كما إنها تشرف من جهة البحر على طريق فرنسا الإمبراطوري؛ وإنكلترا لا تستطيع مثل فرنسا أن تتسامح في وجود الجنود الألمان في هذه المنطقة على مقربة من ثغر سبتة المواجه لجبل طارق والذي يعتبر أهم من جبل طارق ذاته بالنسبة للأشراف على مدخل البحر الأبيض المتوسط، وقد بدأت إنجلترا مثل فرنسا في حشد جانب كبير من أسطولها على مقربة من المياه الأسبانية؛ فالسياستان البريطانية والفرنسية تجمعهما هنا سياسة موحدة، وتحدوهما إلى العمل المشترك بواعث مشتركة لا شك في خطورتها

والمعروف أن ألمانيا منذ قيام الحرب الأهلية ترنو إلى استغلال هذه الأزمة الأوربية

ص: 16

الجديدة لمصالحها الخاصة، وأنها تحوم حول مراكش الأسبانية وجزر الكناري، كما أن إيطاليا كانت تحوم حول جزر البليار، ولكن إيطاليا انتهت إلى إدراك الحقائق الواقعة وآثرت أن تتفاهم مع إنكلترا، وأخذت في الواقع تخفف من تدخلها في المسالة الأسبانية وإن كانت في الظاهر تبدو مؤيدة لخطة ألمانيا. أما ألمانيا فقد اندفعت في خطتها إلى هذا المدى الذي يثير اليوم أزمة في منتهى الدقة والخطورة. وفرنسا لا تجهل البواعث التي تدفع ألمانيا إلى مثل هذه المغامرة، وهي تدرك تمام الإدراك أن من ورائها المسألة الاستعمارية برمتها؛ ولكنها على ما يفهم من تعليقات صحفها لا تنوي أن تنزل في هذا الموطن على وعيد ألمانيا ورغباتها؛ وكل ما هنالك أنها لا تأبى أن تبحث المسألة الاستعمارية على ضوء جديد، وأنها لا ترى مانعاً من تحقيق بعض رغبات ألمانيا في هذا السبيل إذا كانت ألمانيا تتعهد من جانبها بان تقف عند هذا الحد من تحقيق مطامعها، وأن تعود إلى حظيرة الدول الغربية لتعمل معها على تأييد السلام الأوربي؛ ويقتضي ذلك أن تخفف ألمانيا من حدتها العسكرية، وأن تعمل مع الدول الأخرى على تخفيض سلاحها؛ أما إذا كان قصد ألمانيا من الاستيلاء على المستعمرات هو بالعكس استثمارها لتوسيع مشاريعها العسكرية، فأن فرنسا تعارض كل المعارضة في استيلاء ألمانيا على شبر من الأرض يعاونها على تحقيق هذه الغاية. هذه النظرية الفرنسية كما تعرضها الصحف الفرنسية؛ أما إنكلترا فلم يتضح موقفها بعد في هذه المسألة تماماً، وإن كان ساستها المسؤولون قد أكدوا غير مرة إنها لن تنزل عن شيء من مستعمراتها

ومن المحقق أن تطور هذه الأزمة الجديدة يتوقف إلى حد كبير على تطور الحوادث الأسبانية ذاتها، وعلى نتائج المعارك التي تضطرم حول مدريد؛ فإذا كتب الفوز للثوار، فأن ألمانيا تزداد إصرار في سياستها ومشاريعها؛ وإذا كان الأمر بالعكس، فمن المحقق أن هذه المغامرة ألمانية تنهار في مهدها

وسنرى من جهة أخرى ماذا تستطيع الجهود السياسية أن تحقق في هذا السبيل

(* * *)

ص: 17

‌نظرية النبوة عند الفارابي

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

تتمة

وبصرف النظر عن هذه الحملة الباطلة التي أثارتها عوامل الحقد والحسد والتي لم يكن لها أساس من الواقع والحقيقة في شيء، فأن الذي نحب أن نستخلصه من الأفكار السابقة هو أن السيد يلتقي مع الفارابي في نقطتين هامتين؛ فهو يوضح أولاً مهمة النبي الاجتماعية والسياسية، وهذه مسألة يعد الفارابي من أول من صوروها في الإسلام بصورة علمية نظرية، وربما تلخص كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) في إدعاء فكرة النبوة على أساس من (جمهورية) أفلاطون وعلم النفس عند أرسطو. والسيد وهو مصلح ديني وسياسي لا بد له أن يحتذي هذه الخطى ويسير على هذا النهج. ومن جهة أخرى لا يفوتنا أن نشير إلى أن النبي والحكيم يقتربان عند هذين المفكرين إلى حد كبير، فهما روح الجمعية ومبعث الحياة والإصلاح. نعم إن السيد يفرق بينهما من ناحية الكسب والعصمة، في حين أن الفارابي لم يوضح القول في الأول وأغفل الثانية بتاتاً، وبدا كأنه يسوى بين النبي والفيلسوف من جميع الوجوه. ولكن يجدر بنا ألا ننسى أن الفارابي كان يصعد بالحكيم إلى مستوى هو العصمة بعينها ولا يمكن أن يتصور فيه الزلل، ولهذا لم يفرق بينه وبين النبي في هذه النقطة. وفوق هذا فأن السيد إذا كان قد جهر بهذه التفرقة فهو متأثر بعصره وبيئته والحملات التي وجهت من قبل إلى البحث العقلي، لأنه يعود إلى موضوع الحكمة بعد سبعة قرون قضاها المسلمون في مطاردة الفلسفة والفلاسفة. فلم يكن في مقدوره أن يدعو للفلسفة دعوة صريحة ولا أن يثبت لها حقاً في الحياة مكتملاً من كل نواحيه. وكيفما كانت الفوارق بينه وبين الفارابي فمما لا شك فيه أنه قرب المسافة بين النبي والحكيم، وعدهما معا مصدر تقويم وإصلاح؛ وهاتان الفكرتان فارابيتان في أصلهما سواء أكان السيد قد استمدهما مباشرة من كتب الفارابي أم بالواسطة من مصدر آخر. وقد ساهم السيد في نصرة الفلسفة والأخذ بيدها وساعد على إحياء دراستها في الشرق بعد أن كان الناس قد

ص: 18

انصرفوا عنها زمناً

ولم يكن الأستاذ في تأثره بالفارابي أقل وضوحاً من شيخه وصديقه السيد جمال الدين، فقد قرأ ابن سينا واشترك بنفسه في إحياء الدراسات الفلسفية القديمة المهجورة. وفي نشره لكتاب (البصائر النصيرية) ما يشهد بذلك. هذا إلى إنه وإن اشترك مع السيد في فكرة التجديد والإصلاح يخالفه في الوسائل الموصلة إلى ذلك. فبينما السيد مجدد طموح يريد الوصول سريعا وعن طريق السياسة، إذا بالأستاذ الأمام يعتقد أن طبيعة الأشياء تأبى الطفرة وأن الإصلاح يستلزم خطوات رزينة، وتدرجا معقولا، ودعائم مثبتة من الأخلاق والدين. لهذا اتجه أولاً وبالذات نحو التعاليم الدينية محاولا أن يصوغها في القالب الذي يتفق وروح العصر، وأن يصعد بها إلى ما كان عليه السلف الأول. فقد كان على يقين مما لحق الإسلام من أفكار فاسدة صورته بصورة معيبة شنيعة، ووضعت حجر عثرة في سبيل النهوض والتقدم. ولم ير بداً من محاربة هذه الأباطيل والترهات والقضاء على البدع والخرافات، والأخذ بيد التفكير الحر الطليق تحت راية الدين الصحيح؛ وأثره في هذه الناحية أوضح من أن ينوه عنه. وفي رأيه أن العلم والدين لا يختلفان مطلقاً، بل يجب أن يتضافرا على غاية واحدة هي تهذيب الإنسانية وترفيهها وإسعادها. فالدين يحول دون الإنسان والزيغ الذي يقود إليه عقل جامح؛ والعلم يوضح الأصول الدينية ويبين إنها لا تتنافى مع المبادئ العقلية. ولن نستطيع الإدلاء هنا بكل أفكار الأستاذ الأمام الدينية، وسنكتفي بأن نلخص رأيه في النبوة كي تتبين وجوه الشبه بينه وبين النظرية الفارابية

يقف الأستاذ الأمام على هذا الموضوع ثلث (رسالة التوحيد) المشهورة أو يزيد، وفيها يتحدث عن الرسالة العامة وحاجة البشر إلى الرسل وإمكان الوحي ووقوعه ووظيفة الرسل ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ويصرح بأن الإنسان مدني بطبعه محتاج إلى المخالطة والمعاشرة، وعلى كل فرد من أفراد الجمعية واجب يؤديه وحق يطالب به. بيد أن الأفراد قد يخلطون الحقوق بالواجبات، ويتهاونون فيما كلفوا به مسرفين كل الإسراف فيما يدعونه لأنفسهم من حقوق؛ فتعم الفوضى وينتشر الفساد، وتصبح الجمعية في حاجة ماسة إلى قيام بعض أفرادها هداة ومرشدين، يبينون للناس النافع والضار، ويميزون لهم الخير من الشر، ويعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يقفهم عليه من شؤون

ص: 19

ذاته وكمال صفاته؛ وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم. فبعثتهم من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع الإنساني منزلة العقل من الشخص؛ منحة أتمها الله لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وليس غريباً أن يختص الله بعض خلقه بالوحي والالهام، فقد سمت نفوسهم وأصبحوا أهلاً للفيض الإلهي والكشف الرباني؛ وبديهي أن درجات العقول متفاوتة يعلو بعضها بعضاً، ولا يدرك الأدنى منها الأعلى إلا على وجه الأجمال. وليس هذا التفاوت نتيجة الاختلاف في التعليم فحسب، بل كثيراً ما كان أثراً من آثار الاختلاف في الفطرة التي لا تخضع لقوانين الكسب والاختبار؛ ولا يزال المرء يرقي في الكمال حتى يبدو البعيد له قريباً، وتتفتح أمامه حجب الغيب. يقول الأستاذ الأمام:(فإذا سلم ولا محيص من التسليم بما أسلفنا من المقدمات فمن ضعف العقل والنكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها ألا يسلم بان من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا، وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعاليم)

لا نظننا في حاجة أن نشير إلى أن كثيراً من هذه المعاني التي يرددها الأستاذ الأمام قال بها السيد جمال الدين. فمهمة النبي في رأيهما أخلاقية واجتماعية، ووظيفته تنحصر في تربية الشعوب والسير بها نحو الطريق القويم. وإذا كان السيد قد اعتبر النبي روح الجمعية الإنسانية فالأستاذ الأمام عده عقلها. ولا نظننا مغالين إذا قلنا إن الأمام يعود بنا إلى عصر الفارابي وبن سينا اللذين كانا يفسران النبوة تفسيراً علمياً سيكولوجياً. وهو يميل دائماً كما قدمنا، إلى أن يرجع التعاليم الإسلامية إلى الحال الزاهرة التي كان عليها السلف الأول؛ وفي كثير من آرائه ما يقربه من هذين الفيلسوفين وما يدفعنا لأن ندرس العلاقة بينه وبينهما في شكل أكمل وعلى صورة أوضح. فهو يقرر مثلهما أن التعاليم والأوامر الدينية يراد بها الشعوب وعامة الناس في حين أن الفلسفة إن صلحت غذاء لطائفة معينة فليس في مقدور الجميع استساغتها. ويقول بالأسباب الطبيعية التي أنكرها أهل السنة ملاحظاً، كما لاحظ فلاسفة الإسلام من قبل، إنها لا تتنافى مع قدرة الله واختياره في شيء. وفي اختصار

ص: 20

يتفق الأستاذ الأمام مع الفارابي في محاولته التوفيق بين العقل والنقل، بين العلم والدين. وهذه المحاولة تدور عادة حول نقط تكاد تكون محدودة، ولعل هذا هو السبب الذي قرب المسافة في بعض المسائل بين هذين المفكرين

تتبعنا في كل ما سبق نظرية النبوة الفارابية منذ نشأتها، أعني في القرن العاشر الميلادي، إلى أن وصلنا بها إلى أوائل القرن العشرين؛ ونأمل أن نكون قد وفقنا لبيان أثرها في الشرق والغرب، في التاريخ المتوسط والحديث؛ ونعتقد أن في هذا ما يحفزنا إلى إخباء الدراسات الفلسفية الإسلامية، فقد ثبت أن هناك صلة بين أفكار اليوم والأمس، وفي أبحاث القرون الوسطى، كما لاحظ ليبنتز، درر نفيسة لا يصح إغفالها. على أن نهضتنا العقلية والفكرية لا يمكن أن تؤسس على أساس صالح إلا إن ربط فيها الحاضر بالماضي واتصلت سلسلة التفكير الإسلامي الصحيح؛ ولنا في الأستاذ الأمام والسيد جمال الدين أسوة حسنة

إبراهيم بيومي مدكور

ص: 21

‌في الأدب المقارن

النسيب في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

الجمال هو مادة الفن، والتأثر به هو وحي الأديب، والتعبير عنه هو رسالة الأدب، سيان جمال الطبيعة والجمال الإنساني؛ وأصدق مقياس لرقي الأدب وحيويته حسن تعبيره عن الفتنة بهذين الضربين من الجمال، وأدق برهان على رقي المجتمع وصحة بنيته حفول أدبه بالتعبير الصادق عن الشعور الحار بفتنة الجمال في مظهريه. والأديب الموهوب لا مندوحة له عن الإتيان بشيء جليل في بابي الوصف الطبيعي والنسيب، مهما كان حظه من سائر ضروب القول؛ فالجمال الطبيعي والجمال الإنساني هما لباب الفن وصميمه، وما عدا ذلك نوافل وفضول

والنسيب لا يزدهر إلا في مجتمع توفرت له شروط خاصة: في مجتمع على جانب من الثروة لا هو إلى الترف ولا هو إلى الفاقة، على جانب من الخلق العظيم لا هو إلى النعومة والضعف ولا هو إلى الجلافة أو التزمت، على حظ من حب المغامرة لا فانٍ في حروب متواصلة ولا خانع قابع، في منزلة من الحضارة والرقي العقلي بين الهمجية والتوحش، وبين الإغراق في التقاليد المملوءة بالنفاق: ففي المجتمع الفقير يشتغل الأفراد بكسب القوت عن الترنم بعواطف النفوس، وفي المجتمع المترف ترذل الأخلاق وتدنس العلاقات، والتزمت أو التشدد الديني يخفت صوت العواطف، وكذلك تخفته التقاليد الحمقاء الشديدة الوطأة، كما أن عصور المغامرة هي شباب الأمم التي تحس فيه بكل نوازع الشباب، من حب الجمال والشغف بالعظائم

وقد تحققت هذه الشروط إلى مدى بعيد في العربية في العصر الأموي: ففيه كانت الأمة العربية على جانب من الثروة والرقي العقلي والسمو الخلقي وحب المغامرة: قد ورثت أخلاق البادية المتينة وصقلتها الحضارة ولم تفسدها بعد، وأصابوا من ثروة الأمم التي أدانوها، وما زالوا مجاهدين متأهبين للجلاد، فلا غرو ارتقى النسيب في هذا العصر؛ وكان قد بلغ في الجاهلية درجة عالية من الرقي، فأصاب في العصر الأموي غاية رقيه؛ وكان ذلك العصر عهده الذهبي في العربية، ففيه نبغ من شعراء النسيب جميل وكثير وقيس،

ص: 22

وجم غفير منهم عروة بن حزام وبن الدمينة وأبو صخر الهذلي وبن الطثرية

امتاز نسيب هذا العصر بخير ما يمتاز به النسيب: صدق شعور، وحرارة عاطفة، وجزالة نسج، وعفة مقال، وحسن بيان لمظاهر الحب وخفاياه وأحواله، وحسن وصف لجمال المحبوبة الجسمي دون إغفال لجمالها النفسي. ومن عجب أن جيلاً نبغ فيه من ذكر كان يصغي في نفس الوقت إلى الأخطل والفرزدق وجرير وهم يتشاتمون؛ ونبه شأن هؤلاء حتى كادوا أن يخملوا الأولين، مع أن جميلا وعروة وأمثالهما كانوا يترنمون بعواطف إنسانية نبيلة، والآخرين كانوا يتقاذفون بالأوضار! ومن بديع النسيب المتخلف عن هذا العصر قول قيس بن ذريح:

نهاري نهار الناس، حتى إذا دجا

لي الليل هزتني إليك المضاجع

أفضّي نهاري بالأحاديث والمنى

ويجمعني بالليل والهم جامع

وقول ابن الدمينة:

لك الله إني واصل ما وصلتني

ومثن بما أوليتني ومثيب

وأخُذُ ما أعطيتِ عفواً وإنني

لأزورُّ عما تكرهين هيوب

وإني لأستحييك حتى كأنما

عليَّ بظهر الغيب منك رقيب

تصرم ذلك العصر تدريجياً، ودخل عصر الترف والمجون والملكية المطلقة ذات الأبهة، فلم يعد المجتمع يصلح للحب الصادق، ولا الأدب يتسع للتعبير الصادق عن الحب: فقد ضعفت الأخلاق وانتشرت المفاسد، واشتد تأثير الجواري في المجتمع. وتقلصت مكانة الحرائر وضرب عليهن حجاب الجهل. وفي ذلك الجو الخليع تفشو الغواية والشهوة، ولا يفشو الحب العذري الحار؛ فالحب الصادق لا يكون، والنسيب الرائع لا يزدهر، إلا حيث جمال وحيث عفة، كما قال العذري؛ أما حيث تقع الجارية من نفس الرجل فيشتريها بماله ويصيرها في عداد ممتلكاته، فلا يكون ذلك

وذهب عهد المغامرة والجلاد وتلاه عهد الشيخوخة والوهن وكفت الأمة العربية عن الحرب، وأقيم عليها المرتزقة من الترك والعجم، وخمدت العزائم، واستخذت النفوس تحت جبروت الملكية المطلقة وعمالها الغاشمين الذين أفقروا الأهلين بمفارمهم، فأنصرف الناس إلى طلب القوت وحرصوا على المادة؛ ولم يعد الحب إلا اسماً يذكر، وطيفاً يتوهم، وأنيناً

ص: 23

موصولاً وعويلا، وتصابياً كتصابي الشيوخ؛ أما صدق الشعور بالحب والتقلب في أحواله وأطواره، فقد انقضى بانقضاء شباب الأمة

أما الأدب فسرعان ما داخله التكلف في ظل الملكية ذات الصلات، وتوفر الشعراء على المديح؛ وبدل أن يبتكروا جديداً انصرفوا إلى معارضة معاني الأقدمين في المدح والنسيب. ومن ثم انقسم شعراء العصر العباسي فريقين: فريقاً انغمس في تيار الشهوات وملأ شعره بوصفها، كبشار وأبى نؤاس اللذين أوغلا في الباب الذي كان فتحه ابن أبي ربيعة في العصر السابق؛ وفريقاً كان أنقى صفحة وأعف طبعاً فلم يجر إلى ذلك المدى، ولكنه لم يودع شعره وصفاً صحيحا صادقاً لعواطفه وغرامه كذلك الذي توفر عليه جميل ومعاصروه، بل اكتفى بالنسيب الاستهلالي التقليدي الذي تتكلف فيه البراعة وتتوخى المحسنات البديعية؛ ومن ثم لا نرى في أشعار البحتري والطائي والشريف ومهيار وصفاً صادقاً حاراً لغرامهم. ومن الخطأ الشديد حين الكلام على النسيب في العربية أن نخلط نسيب هذا العصر الاستهلالي التقليدي بنسيب العصر الماضي الصادق الحي.

وقد شهد النسيب في الإنجليزية عصوراً مشابهة لهذه وإن جاء ترتيبها مختلفاً: فأما العصر الذهبي للنسيب في الإنجليزية فهو العصر الاليزابيثي الذي توفرت فيه الشروط السالفة الذكر، فكان عهد شباب وطموح ومغامرة، فيه ثروة ونهضة وعقلية وخلق متين؛ ومن ثم حفل مجتمع ذلك العصر بأحاديث الحب؛ وكانت قدوة الشعب ملكته التي كانت على جانب عظيم من الجمال والثقافة، يحيط بها طائفة من الفرسان البواسل، يتقربون إليها بتدويخ أعدائها ومد سلطانها براً وبحراً؛ ومن ثم ازدهر النسيب في أشعار شكسبير وسبنسر وبن جونسون وغيرهم

وفي العصر التالي خمد النسيب حيناً بتغلب طائفة المطهرين المتشددين الذين حولوا المملكة إلى صومعة يسودها الوقار والكآبة، وحرموا شتى المتعات والمسرات، حتى قيل إن سبب تحريمهم قتال الديكة - وكانت تلك تسلية معروفة إذ ذاك - لم يكن رغبتهم في الرفق بتلك الطيور، بل حرصهم على حرمان الناس السرور والتمتع. وقد ركد النسيب كذلك ركوداً طبيعياً لم يفرضه عليه أحد، في صدر الإسلام حين امتلأت النفوس برهبة الدين وانصرفت الهمم إلى جهاد أعدائه

ص: 24

وتلا عصر المطهرين في إنجلترا عصر ترف وفساد، جاء رد فعل للعصر السابق، فرانت الشهوات في المجتمع، وشاع الفجور في الأدب، كالذي كان في العصر العباسي، ثم زايلت المجتمع والأدب تلك اللوثة رويداً رويداً خلال القرن الثامن عشر. على أن النسيب لم يزدهر ثانية خلال ذلك القرن لأقفاره من روح المغامرة والطموح، وتقاعد رجاله في المدن وتزاحمهم في المنتديات التي شاعت إذ ذاك. ومن أهم ما يعاب على شعراء ذلك العصر أمثال بوب وأديسون وجونسون خلو شعرهم من آثار الفتنة بالجمال في مظهريه الطبيعي والإنساني

وإنما ازدهر النسيب وحفل الأدب بوصف فتنة الجمال بانبعاث النهضة الرومانسية، التي انصرف رجالها إلى الطبيعة والتفتوا إلى الماضي الحافل بحوادث البطولة، فكان جميع رجالها كوردزورث وكولردج وكيتس وشلي مغرمين غراماً شديداً بمحاسن الطبيعة ومفاتن الجمال الإنساني. ولكيتس في ذلك أقوال جرت مجرى الأمثال، كقوله:(الشيء الجميل هو حبور لا ينقضي) وقوله: (الجمال هو الحق والحق هو الجمال؛ هذا كل ما هنالك، وهذا كل ما يعنيك أن تعلمه)

والحق أن النسيب في الإنجليزية مقرون غالباً بالوصف الطبيعي، لشعور الأدباء البدهي بما بين الأمرين من صلة وثيقة؛ فالطبيعة غالباً هي المنظر الخلفي للصورة التي يرسمها الشاعر لموقف الحب الذي يريد رسمه، كما يتخذ المصورون مظاهر الطبيعة من بحر أو غاب أو أفق مناظر خلفية لما يصورون من وجوه أو أشخاص آدميين. والطبيعة هي التي تمد الشاعر الإنجليزي بالأوصاف والتشبيهات التي يمثل بها حبيبته وعاطفته؛ وظواهر الطبيعة هي الرسل الأمينة بينه وبين محبوبته، وهي أيضاً الوحي الذي يوحي إليه فلسفة الحب التي ينسجها لنفسه

فشلي مثلاً يقول: (النافورات تمازج النهر، والنهر يمازج المحيط، ورياح الفضاء تمازجها دائماً روح عذبة، ولا شيء في العالم يمضي وحيداً، بل كل الأشياء مطيعة لقانون إلَهي يمازج أحدها الآخر، فلم يشذ كلانا؟) ومارلو يقول: تعالي سويا وكوني لي، كي نستوعب كل المتعات التي يحبونها بها التلاع والسهول والوديان والحقول والجبال الوعرة) وتنيسون يقول: (ما بالها تتباطأ في إسباغ الحب على قلبها تباطؤ الوريقة على الغصن في اكتساء

ص: 25

الخضرة وقد اخضر جميع الغابة؟) ووولر يقول: (اذهبي أيتها الوردة الجميلة إليها، إلى تلك التي تضيع وقتها ووقتي، والتي تعلم حين أشبهك بها كم هي تبدو لي جميلة جذابة. أخبريها - تلك الصغيرة التي يأبى لها الخفر أن يطلع إنسان على مفاتنها - أنك لو نبت في القفار الموحشة لذويت دون أن يطري جمالك إنسان؛ ثم موتي أيتها الوردة كي تقرأ فيك النهاية المحتومة لكل غال عزيز، وتعلم قصر المدة التي يحظى بها كل جميل جذاب)

ولولوع أدباء الإنجليزية بالفنون الجميلة، وشمول نظريتهم إلى شتى مظاهر الجمال وأحواله ووسائل التعبير عنه، كانوا كثيراً ما يمزجون جميع ذلك في مقطوعة واحدة من شعر النسيب. فشلي يقول مثلاً:(إن رجع الألحان بعد خفوت الصوت يبقى مردداً في الأفئدة، ولنشر البنفسج بعد موته طيب في الأنوف، وأوراق الورد بعد ذبولها تنثر على فراش الحبيب، وكذلك ذكرياتك تظل بعد ذهابك ماثلة)، وكولردج في قصيدته (الحب) يصور موقفه مع حبيبته حيال تمثال فارس مدجج تستند إليه محبوبة الشاعر، ثم يمضي يقص حكاية غرام ذلك الفارس في سالف الدهر في أسلوب خيالي عذب، مازجا وصف عواطف الفارس بوصف عواطفه هو نفسه

وفي النسيب في العربية شيء من ذكر الطبيعة ولكنه ضئيل. وقد كانت الطبيعة على العموم مهضومة الجانب في الأدب العربي، كما مر ذكره في كلمة سابقة؛ ولم يخفق الأدب العربي في عصر من عصوره بمثل ذلك الحب الحار الذي خفق به للجمال الإنساني، في معالجته للوصف الطبيعي؛ إنما جرت عادة شعراء العربية على تحميل الرياح سلامهم، ودعاء الغيث إلى سقي منازل أحبابهم، ومناجاة الحمائم والتشاؤم بالغراب، وتشبيه لواعجهم بلواعج الإبل أو القطا لفقد صغارها وأُلافها، كما كانوا يغبطون الوحش الآمن في سربه المهنأ بألفه كما قال أبو صخر الهذلي:

لقد تركتْني أغبط الوحش أنْ أرى

اليقين منها لا يروعهما الذعر

أما مناظر الطبيعة: أشجارها وأزهارها، والامتزاج الروحي بكل ذلك، فقليلة الأثر في الشعر العربي عامة وفي النسيب خاصة؛ فبينا نجد الشاعر الإنجليزي حين يتأنق في تصوير أقصى مناه يتصور نفسه ومحبو بته يجوسان بين الخمائل والغدران، نجد الشاعر العربي الذي تعود حياة المدينة واستمرأ معيشة الحضارة، لا يتصور اللقاء إلا في الدار،

ص: 26

ولا يقابل حبيبته إلا في المجالس والمحافل والمآتم والحج، كما قال أبو حية النميري:

رمَتْه أنآه منَ ربيعة عامر

نؤومُ الضحى في مأتم أي مأتم

وكما قال كثير:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسَّح بالأركان من هو ماسح

نقعنا قلوبا لأحاديث واشتقت

بذاك نفوس منضجات قرائح

وكما قال ابن الرومي:

يا ليت شعري هل يبيت معانقي

ويداي من دون الوشاح وشاحه؟

وقد يتفق النسيب العربي والنسيب الإنجليزي من بعض الوجوه: ففي كليهما استعار الشعراء أحياناً أسماء خيالية تكتماً وتعمية عند التحدث عن حبائبهم: ففي العربية فشت أسماء هند وليلى وسعاد مأخوذة عن العرب المتقدمين، وفي الإنجليزية استعملت أسماء جوليا وإلكترا وثيرزا منقولة عن الأدب الكلاسي؛ وفي كلا الأدبين اشتهر نفر من رجال الدين برقة النسيب والبصر بملابسات الحب: ففي الإنجليزية كتب دن وهربرت وسويفت وغيرهم قطعا من أصفى وأنقى ما كتب في النسيب، وفي العربية أثر عن عروة ابن أذينة الفقيه نسيب رائع اشهره أبياته التي مطلعها (إن التي زعمْت فؤادَك ملَّها)، وألف ابن حزم وهو فقيه من بيت فقهاء كتاب (طوق الحمامة) يفصل فيه أطوار الحب ونوازعه، ويبرهن على نظرياته بتجاريبه الخاصة

وقد تناول الأدبان شتى أغراض النسيب بين فارحها وحزينها، وبين الذكريات والآمال، وبين طرب اللقاء ولوعة الفراق، وبين التوجع لغدر الحبيب ولتفجع لوفاته؛ بل تتماثل في الأدبين معان كثيرة جدا من معاني النسيب: فقول الشاعر العربي: (أسرب القطا هل من يعير جناحه؟) له نظير في مقطوعة تنيسون (إلى الخطاف)، وقول كراشو:(وجه لم يصنع من دكان غير ذلك الذي تفتحه يد الطبيعة البيضاء على مصراعيه) شبيه بقول جميل: (إذا ابتدلت لم يزرها ترك زينة)، وقول تنيسون من قصيدته (مود):(لو كنت فانياً منذ قرن لسمع قلبي خطاها على رقتها، ودق وخفق تحت قدميها، وارتد زهراً احمر قانياً) يشبه قول توبة الحميري:

ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت

عليَّ ودوني جندل وصفائح

ص: 27

لسلمتُ تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

واختص الأدب العربي بمواضيع احتفى بها وأدمن طرقها، وكان أكثرها وليد خصائص بيئته، وقلما التفت إليها الشاعر الإنجليزي: كالوقوف بالأطلال، ومناجاة الأطياف، ووصف نحول الجسم وذم المشيب الذي يقعد عن المتعات ويروع الغانيات، والشكوى من الواشي والرقيب والعذول؛ وهذا الأخير راجع إلى انتشار الحجاب وحظر الاختلاط بين الجنسين إلى حد بعد أو قرب في مختلف عصور العربية. وهو أمر جعل مسحة الحزن ولتفجع اظهر في النسيب العربي منها في الإنجليزي، إذ لا مانع في المجتمع الإنجليزي من الاختلاط، ولا رقيب سوى الخلق القوي؛ وكان الشريف الرضي عني هذه الحال في المجتمع الإنجليزي بقوله:

عفافيَ من دون التَّقيَّةِ زاجرُ

وصَونكِ مِن دون الرقيب رقيب

يختلف النسيبان من هذه الوجوه، ويختلف أدباء كلا الأدبين بعض الاختلاف في النظر إلى الجمال، لاختلاف البيئتين وأثر ذلك في تكوين الجسم: فالأديب العربي في بيئته الحارة يشبب بالعيون الدعجاء والحوراء، والشعور السوداء الاثيثة، والجفون المريضة، والجسم الممتلئ ونؤوم الضحى، على حين يهم الشاعر الإنجليزي بالشعور الشقراء يشبهها بالثلج نقاءً، ويهوى زرق العيون وينفر من الحدق النجل؛ والأديب العربي يشبب بكاعب (بنت عشر وثلاث) كما قال بشار، ولا تكون مثل هذه في الجو الإنجليزي إلا طفلة غريرة؛ والشاعر الإنجليزي آخر من يعجب بصاحبة الشاعر العربي التي يصفها بقوله:

أبتِ الروادف والثديُّ لقمصها

مسَّ البطون وأن تمس ظهورا

وإذا الرياح مع العشيَِ تناوحت

نبهن حاسدة وهِجنَ غيورا

يختلف النسيبان من وجه آخر أهم كثيراً: ذلك أن النسيب كسائر فنون القول في الأدب العربي التزم طريقة التعبير المباشر، يعبر الشاعر عن إحساسه الفردي تعبيراً صريحاً ثم لا شان له بسواه، كما عبر جميل عن حبه لبثينة، وتوبة عن حبه لليلى؛ أما في الإنجليزية فيقوم بجانب هذا الضرب المباشر من التعبير ضرب غير مباشر، فيه يتحدث الشاعر عن شعور سواه بالجمال، ويصف جمال غير محبوبته، ومجال ذلك الروايات التمثيلية كروايات أنطوني وكليوباترا لشكسبير، والقصص كقصص وسكس لهاردي، ففي هذه وتلك يصور

ص: 28

الأديب عواطف غيره ومواقفهم، مازجا ذلك بلا ريب بعواطفه ومواقفه، مسبغاً على إنشائه ثوباً رائعاً من الخيال

وفي العربية شيء من القصص أولع بتأليفه بعض المتأخرين من الكتاب كابي الفرج الببغاء؛ غير أنه بدائي سطحي مشوب بلوثة الترف والشهوة. وأحسن ما في العربية من وصف للحب وأطواره هو النسيب الشعري؛ فالشعر لموسيقاه واختيار ألفاظه وأخيلته خير معبر عن الشعور الفردي المباشر؛ فالشعر في العربية دون النثر هو المستأثر بالتعبير عن الحب؛ أما في الإنجليزية فللنثر نصيب من ذلك تزايد بانتشار الرواية التمثيلية وذيوع القصة، حتى ليكاد بفضل الأخيرة يغلب الشعر على مكانته من نفوس القراء، لما يستطيعه دون الشعر من التحليل المسهب الدقيق، والحركة المستمرة، والوصف المستوعب لدخائل النفوس وأطوار الحب. مواقف الغزل، حتى ليستطيع القصصي البارع أن يبكي قراءه ويمزج نفوسهم بنفوس أشخاص قصته، ويجعلهم يتمثلونهم أحياء ويذكرونهم مدى حياتهم كأنهم أصدقاء قدماء قد فقدوهم

ومن ثم نرى أن أعلام الغرام المذكورين في الأدب العربي، والذين تتخذ أسمائهم رموزاً للحب، وتضرب أمثالاً في الهيام، هم الأشخاص الحقيقيون الذين عاشوا وسجلوا قصة غرامهم بأنفسهم في أشعارهم وحدثتنا عنهم كتب الأدب؛ كعنترة وعبلة، وجميل وبثينة، وتوبة والأخيلية، وبن زيدون وولادة، على حين نرى في الإنجليزية أن أعلام الغرام الذين تضرب بهم الأمثال ويجري ذكرهم على الألسنة هم الأشخاص الخياليون الذين اخترعتهم مخيلة الأدباء، مثل روميو وجوليت، وعطيل وديدمونة، وأوفيليا وهملت، نعرف كل أولئك وهم من ابتداع شكسبير، ولا نعرف إلا الشيء القليل الغير المستيقن عن محبوبته (الحسناء السمراء) ولم ينفرد القصصيون بذلك الابتداع وذلك التعبير المباشر عن مظاهر الحب، بل جاراهم الشعراء: فمعظم شعراء الإنجليزية الذين تناولوا الحب في شعرهم تغنوا بالجمال الإنساني على إطلاقه، ولجئوا إلى الخرافات اليونانية أو أساطير عهد الفروسية، ينتخبون منها من وقائع الغرام بين بواسل الأبطال وفاتنات ربات الحجال ما يصوغونه شعراً سلساً، يضفون عليه ثوبا رقيقاً من الخيال، ويودعونه شغفهم المطلق بالجمال غير مقصور على امرأة واحدة، ولا على الوجه الإنساني، بل شاملاً لمحاسن الطبيعة أيضاً

ص: 29

ولهذا الضرب من الشعر النسيبي مزايا جمة: ففيه إمتاع للخيال وإثارة للطرب، وإشباع لحب الجمال على إطلاقه؛ وهو منزه عن الغرض الشخصي وعن ريبة الشهوات تنزيهاً تاما؛ وهو يجعل من الحب والجمال والبطولة والمرأة مثلا عليا تهفو إليها النفوس، ويمنح المؤلف والقارئ معاً جواً من النقاء والسمو كثيراً ما يعوزنا في الحياة الواقعة، وفي ذلك عزاء للنفس عن نقائص الواقع المجرد وأوشاب الحياة التي قلما تتعلق بالكمال

فالأدبان العربي والإنكليزي فرسا رهان في مضمار النسيب، قد وعيا من آثاره سجلاً حافلاً يصور فتنة النفس الإنسانية بالجمال الإنساني؛ يتمثل ذلك في العربية في بعض شعر الجاهلية، وبالأخص في شعر العصر الاموي، وبذلك النسيب الأموي يعتز الأدب العربي ويفاخر أول ما يفاخر، لصدق ما فيه من شعور يعوز شعر العصور التالية، ونبل ما فيه من غرض يباين غرض أشعار المديح والهجاء، وجزالة ماله من أسلوب يزدري أسلوب الصناعة والمحسنات التي داخلت الشعر بعده، وذلك الأدب النسيبي لم ينل حقه من التقدير والاهتمام بعد، وأولئك الشعراء الناسبون لم يتبوءوا مكانهم الجدير بهم في الأدب العربي

فخري أبو السعود

ص: 30

‌جي دي موباسان

1850 -

1893

بقلم محمد سليمان علي

حياته:

ربما ظل جي دي موباسان كاتباً خامل الذكر في القسم المدني الفرنسي طيلة حياته لولا إيحاء جوستاف فلوبير. فقد اكتشف الروائي العظيم مخايل النبوغ في الطالب الذي كانت غايته من الحياة الدنيا على حد اعترافه أن يكون (حيواناً كامل الصحة) والذي أطلق وهو في الثالثة عشرة على الدين أسم (اللاشيء الأبدي)

وكانت أمه تعتزم أن تجعل منه مؤلفاً نابهاً. وربما كان فلوبير باعث هذا الأمل، فقد كان يعرف لورا موباسان قبل زواجها من جستاف دي موباسان الفتى المتأنق الذي هجرها بعد أن جردها من كل شيء. وكان فلوبير ولورا يتراسلان بلا انقطاع، فكان يسدي النصح إليها فيما يختص بتربية ابنيها هرفيه وجي. ولقد كان لهما بمثابة الأب الناصح على نقيض أبيهما الذي كان يتجنب المسؤولية ويحب اللهو، حتى حرم بإسرافه ابنيه من فرصتهما في الحياة. ولقد كان (جي) وهو صبي (كجواد طليق في أحد الحقول)، وفي (اللبسيه امبريال نابليون) برع في الرياضة والسباحة، والنكات العملية الأنيقة؛ وفي الثالثة عشرة كان فلوبير يقرأ المحاولات الأولى في الشعر لمتبناه

وبعد أن غادر موباسان المدرسة بدأ يدرس القانون، غير أن المال أعوزه فلم يتم الدرس، واضطر أن يلجأ إلى حمى الوظيفة التي كانت غاية الوقار والأمان عند أسر الطبقة الوسطى. وكان موظفاً قديراً. وظل سنين عدة في منصب مغمور، يتناول مرتباً ضئيلاً لا يكفي رغباته المسرفة. ولكنه لم يتعجل لتعزيز وسائله بالكتابة، أللهم إلا بضع مقالات لجرائد ومجلات أدبية. فقد كانت يد حكيمة، قائدة، تسدد مستقبله الأدبي. وكان يرد على إلحاح أمه إذ تطلب منه قطعاً رائعة:(لم يحن الوقت بعد. إنني أتعلم صناعتي) وكان يكتب بعزم دون كلل، ويعرض كل سطر على فلوبير ليصححه أو يكتبه له من جديد، وما اشتكى موباسان قط ولا كد نفسه

ص: 31

واستمرت تلمذته ثلاث عشرة سنة تلاها عشر من الغنى والمجد. ولما تخلص من خمول الوظيفة، وأصبح سمير الأبهاء الفرنسية، تعطش للنجاح، بيد أنه على أثر سقوطه النسبي كمؤلف مسرحي اعتراه ذلك الأسى الذي ألقى ظلاً قاتماً على الجزء الأخير من حياته. (فالتكرار) وهي المسرحية التي كان بها جد فخور، لم تمثل إلا بعد إحدى عشرة سنة من وفاته

وقد انتصر الكاتب على حساب (الحيوان كامل الصحة)؛ فقد كان من مغامراته أن يلقى بنفسه في السين وهو في لباسه ليدهش مواطنيه الباريسيين المتكلفي الاحترام، وأن يصطاد في الهواء والماء، وان يلاكم ويبارز بالسيف، وأن يجوب البلاد والأمصار. إلا أن حياة الحيوان في دي موباسان لم تكن في واقع الأمر في حدود الصحة، فقد فرط في قواه الجسمانية، وعبث بالصحة التي كان يقدرها فوق كل شيء. ولقد قدر (لثور بريتاني) كما كانوا يدعونه لضخامة جسمه أن يجلس في تراخ في الأبهاء بحكم عمله؛ ومع حبه للأدب كان نظره الضعيف يعوقه عن القراءة. وفي شبابه كان في سن تؤهله للاشتراك في الحرب الفرنسية الألمانية عام 1870، ولكن نفوذ من يهمهم مستقبله الأدبي كان سبباً في تعيينه في قسم المؤونة بعيداً عن معمعة القتال. وكان كبسترندبرج يحتقر النساء، ولكنه لم يكن يستطيع العيش دونهن

وكان في أسرته جنون وراثي؛ فبعد أن أصيب أخوه في قواه العقلية ثم موته، علم موباسان أنه محكوم عليه بتلك النهاية، وكانت حالته معقدة، وأغلب الظن إنها لو فحصت في البداية لكان في الإمكان إنقاذه. ولن يعادل ما وضع من السخريات في قصصه تلك السخرية التي إصابته في السنين القلائل الأخيرة من سني حياته، حينما انحطت قواه العقلية بسرعة. وحقاً لقد كان استمراره في الكتابة نتيجة لأرادته الحديدية وقوته الشديدة!

وفي ذات يوم وهو يغادر مكتبه التفت فابصر نفسه مازال جالساً إلى مكتبه هذا، وزادت أخيلته سوءا وأخذت أشكالاً مخيفة؛ ولم يكن هناك أمل بعد؛ غير أن الساخر الذي لم يكن يعتقد في فضيلة من الفضائل ظل يغالب الأمل، وفي الدرجات الأخيرة من مرضه كتب إلى أمه يخبرها أنه في تحسن ظاهر: فالعقل في داخليته مازال يستطيب الحياة ويقدر الشمس والسباحة والرياضة

ص: 32

وحاول بمعونة فرانسوا خادمه الأمين الذي ظل سنوات عدة صديقه المخلص أن يفر من النساء المعجبات به اللاتي لم يتحققن أنه هالك، ولاسيما إحداهن وهي امرأة غامضة؛ وقد حاول بعد زيارة فجائية منها أن يطلق الرصاص على نفسه، لكن فرانسوا اليقظ كان قد اتخذ الحيطة فأخرج الرصاص من الغدارة. وبعد محاولة أخرى للقضاء على حياته نقل إلى مستشفى المجانين حيث ظل في راحة لا يذكر شيئاً ولا يحس شيئاً سوى تلك التأملات المبهمة التي يراها من فقد قواه العقلية بلا أمل

فنه:

لو طلع إنسان على نخبة من قصصه دون إلمام بالتواريخ والأحوال والنظريات، لاستطاع دون عناء أن يستنتج أنه كتب حين كانت مرارة الهزيمة في حرب السبعين ما زالت تلقى على فرنسا ظلاً عبوساً، وأنه كان رجلا مكنته وسائله وأخلاقه من الاختلاط بالأوساط الخاصة إلا أن النصيب الأعظم من عطفه الغريزي كان للفلاحين والفقراء، وأنه كان مشغولا بمعضلة البغاء، وأنه مع كل عظمته كفنان كان في استثماره تلك المعضلة لمؤثرات عاطفية ظاهرة يهبط أحياناً إلى درجة الإسفاف

وقصص موباسان جيدة. فالموضوع جذاب مشوق حتى ليجذب الانتباه لو حكي على مائدة الأكل، وهذه ميزة يعتد بها، فمهما كانت كلماتك متقطعة، وسردك فاتراً ضعيفاً، فلن تخفق في إثارة اهتمام سامعيك إذا قصصت عليهم القصة العارية في (بول دي سويف) أو (الميراث) أو (القلادة) فهذه القصص لها بداية ولها وسط ولها نهاية. فليست تهيم في خط متردد لا تستطيع أن تعرف أين تنقاد، ولكنها تتبع من المقدمة إلى النهاية منحنيا قويا جريئا

وربما خلت قصته من المعنى الروحي. ولم يرم موباسان إلى ذلك، فلقد كان ينظر إلى نفسه كرجل عادي. ولم يدع الفلسفة وحسنا فعل، لأنه حين يندفع في التأمل يصبح سطحياً. ولكنه مبدع في حدوده. وحقاً لقد كانت له مقدرة عجيبة في خلق أشخاص يزخرون بالحياة؛ وقد يضيق بالإيجاز، ولكنه يستطيع في صفحات قلائل أن يعرض أمامك ستة من الرجال في صورة واضحة حتى إنك لتعرف كل ما تحتاج عنهم فضلاً عن أن حدودهم ظاهرة، ومزاياهم واضحة، وأنهم يتنسمون أنفاس الحياة، وقد خلوا من التعقيد ومن التردد ومن المفاجآت ومن الغموض الذي نراه في الآدميين

ص: 33

فصور أشخاصه بسيطة إلا أن هذه البساطة غير متعمدة، فعيناه الحادتان كانتا تريان بوضوح وإن كان على عمق غير بعيد. ولقد كانتا فرصة سعيدة أن تريا ما هو ضروري للفكرة التي يرمي إليها. فهو حقاً يضع عينه على المرمى الذي نصبه أمامه، ولكنه ما كان يستطيع أن يرى أكثر من مرمى واحد في وقت واحد. فالمنظر الواحد، والجو المفاجئ، والباعث القاهر، كانت قوام مادته. وهذا هو السبب في أنه لم ينجح في القصة الطويلة كما نجح في القصيرة. ويقول موباسان:(الفنان يحاول أن ينجح أو يخيب، والناقد لا يحق له أن يقدر النتيجة دون أن يتتبع طبيعة المجهود، وليس له الحق في أن يشغل بالمؤثرات.) ولما كان يفرق بين الخيالي والواقعي، كان يصر على أن الواقعي يجب أن يكون (أكثر كمالاً، وأشد تأثيراً، وأتم انطباقاً، مثل الحقيقة نفسها.) وهو كمن سبقه من الكتاب النابهين لم يكن خيالياً فحسب ولا واقعياً فحسب، ولكن كان الاثنين معاً؛ وكانت عبقريته في أن يرى ما في الحقيقة من ابتداع

وتمتاز كتابته أيضاً بصحة وطلاوة وبساطة من الصعب تحليلها ولكن من السهل فهمها. وليس معنى ذلك أن سهولة فهمها للأجنبي تجعلها سهلة الترجمة. فالواقع إننا نجد أن أسهل الأعمال في كل لغة أصعبها في النقل، فقراءة هوميروس أسهل من قراءة (مآسي أثينا) إلا أنه لم ينجح في نقل هومير الشاعر الساحر إلى الآن أحد. وموباسان يعالج المحيط بنفس البساطة، فهو يضع منظره بدقة واختصار وتأثير، فإذا كان يصف طبيعة نورمانديا الفاتنة، أو أبهاء القرن الثامن عشر، فهو في الحالين سواء

وكان من أتباع المذهب الطبيعي يرمي دواماً إلى الحق، غير أن الحق الذي كان يتوصل إليه به قليل من الزيف. فلم يكن يحلل شخصياته، ولا يهتم بالأسباب الدافعة. فهم يتصرفون ولكنه لا يعرف إلى أي نهاية. وفيما يلي تعليله على حد قوله:(في رأيي أن التحليل النفسي في قصة طويلة أو قصيرة معناه هذا: أن أظهر الرجل الداخلي من حياته) حقاً هذا جميل، بل هو ما يفعله القصصيون أجمعون، ولكن الحركة لا تدل دواماً على الباعث. والنتيجة عند موباسان كانت تبسيطاً للشخصية، وهذا له أثره في القصة القصيرة، ولكنه عند إعمال الفكر يتركك غير مقتنع. وإذ ذاك تقول إن في الرجال من يفوق ذلك، هذا وقد كانت تتملكه الفكرة المنتشرة بين مواطنيه إذ ذاك، وهي أن الواجب على المرء لنفسه

ص: 34

أن يتصل بأي امرأة دون الأربعين تصادفه. فأشخاصه تساير رغباتها الجنسية لكي ترضي احترامها لنفسها. فهم كمن يأكل لوناً من الطعام دون إحساس بالجوع ولكن لأنه غالي الثمن

قلنا إنه كان تلميذاً وصديقاً لفلوبير. وكان التلميذ يتقبل آراء أستاذه في مواضيع عدة؛ وكان يعتقد أنه يحاكيه في مجهوداته الجبارة في الإنشاء. إلا أنه من الصعب أن يتفق ذلك وسهولة أسلوب موباسان؛ على أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الإنشاء الفني كان عند فلوبير نصباً وعناء. ولما كان موباسان قد مات في شرخ الشباب، فمن المحتمل أن ننسى أحياناً أنه لم يكن تلميذ فلوبير فحسب، إنما كان تلميذا لدوديه وزولا وأناتول فرانس أيضاً. ومن العبث القول بأن هؤلاء الكتاب الكبار كانت لهم طريقة مشتركة، سواء من الوجهة النظرية أو العملية، ولكن إذا تكلمنا على وجه العموم دون تقييد فقد نستطيع القول أنهم يمثلون الحركة المتجهة نحو الدقة والواقعية. فالتنقيب عن الكلمة الملائمة أكثر من سواها، والقول بان الفنان ينبغي أن يسدد نظره إلى الموضوع، وألا يقبل المقاييس العامة لتنظيم تقديرات الشخصية كانت ميول المدرسة والوقت. والدقة الجميلة في عمل فلوبير تدين لمبدئه وطريقته، على حين أن أدب زولا الواقعي كان في الحقيقة منتخبات من أجزاء من الطبيعة أثارت اهتمامه أكثر من سواها. وبعد، أليست ماهية الفنان وعمله مهما حاول أن يوضحه، أننا في النهاية نجده لم يصور الحقيقة وإنما غيرها؟ فإذا سما بهذا التغير نحو الجمال فقد نجح، وإذا انحط به إلى القبح فقد أخفق. وكان موباسان فناناً مجيداً لدرجة تسمو به عن الإسفاف المطلق، فأن أرخص قصصه له ميزة الابتكار، ولكنا نرى النقاد في بعض الأحيان قد بالغوا في مدحه، مع محاولته أن يكون طبيعياً نجده أحياناً يهبط إلى القيود البيانية، ويسمح أحياناً بالعواطف الزائفة

ولقد كان غالباً ما يبدأ قصصه بمقدمة يقصد بها أن يهيئ القارئ لحالة عقلية خاصة، وهي طريقة خطيرة إن لم تنجح فقد تكون مملة، وقد تحمل القارئ بعيداً عن الأثر. ولقد كان يختار أشخاصاً عاديين، ويحاول أن يظهر ما في أعمالهم العادية وحياتهم من الفواجع، وكان يختار الحادث الذي لا أهمية له ويخرج منه كل ما يستطاع من المواقف المؤثرة، وهي طريقة تساعد على خلق الانتباه للقصة. وكان يكتب ويفرط في الكتابة، وكان أيضاً يتخذ موضوعاً متشابهاً حتى (بول دي سويف) التي سببت شهرته تعطينا مقارنة سهلة

ص: 35

عادية بين الرحلة التي قام بها بعض المبجلين هرباً من غضب البروسيين وقد أحسوا بقرص الجوع العنيف فسرهم أن يشاركوا البغي المسكينة زادها، وبين الرحلة الأخرى بعد أن أغروها بشتى الوسائل من حيلة ورجاء على ارتكاب الخطيئة مع الضابط الألماني تلبية لطلبه، حتى إذا قبلت التضحية على مضض شديد، أبدوا لها ازدراءهم وترفعوا عن دعوتها لمشاركتهم الزاد في الطريق بعد أن نالوا الأذن باستئناف المسير

ولقد وجد قادة النقاد أن قصص موباسان وإن لاءمت نبوغه لا تصلح على الرغم من مظهرها الخادع لأن تكون أنموذجاً مثالياً للغير. وقد كان مع حيوانيته وشهوته يعرف رقة الحب النقي. انظر على سبيل المثال قصته (ضوء القمر) ففيها نرى الكاهن الذي يكره النساء وهو ذاهب لكي يفاجئ ابنة أخيه وعشيقها ويجازيها شر الجزاء، يذهب إلى ضوء القمر الشاحب، ويذهل بين الغمام والبلابل، وحين يرى الحبيبين يخطران في تلك الجنة الفيحاء، يقول في نفسه (ربما خلق الإله القادر، هذه الليالي السواحر، لكي يلقى غلالته القدسية على الحب البشري)

محمد سليمان علي

ص: 36

‌من ذكريات المجد!

وحي دار ابن لقمان

بقلم الأديب محمد فهمي

نحن الآن في 22 صفر سنة 647 هجرية، والقصر الملكي بجزيرة الروضة يموج بالأمراء والعظماء والحاشية؛ الكل يغدون ويروحون في ردهاته الفخمة في قلق شديد يكاد لا يستقر أحدهم في مكان، وصاحب الجلالة الملك الصالح نجم الدين أيوب جالس على العرش تضطرب الدماء في شرايينه؛ أعصابه ثائرة، وقلبه يخفق خفقاناً شديداً. إنهم جميعاً ينتظرون النبأ الخطير: نبأ المعركة الدائرة رحاها حول أسوار دمياط. دمياط الواقفة كالسد المنيع أمام الجيوش الأوربية الصليبية وهي تتدفق كالسيل وتحاصرهم بقيادة ملك فرنسا (لويس التاسع). إنها ليست حرب المسيحية والإسلام، وإن سموها كذلك، وإنما هي نضال الشرق والغرب الذي لم يخمد أواره منذ أن كان هناك شرق وغرب؛ هي الحرب بين مصر العظيمة زعيمة الشرق والإسلام، وأوربا بأجمعها؛ هي حرب بين الغرب الطامع والشرق المدافع!

نعم إن أول من دعا إليها هم رجال الكنيسة باسم الدين، ولكن الدين من دمائها براء! فلم يخضها إلا ملك طامع في توسيع ملكه، أو أمير يمني نفسه بالذهب الوفير، أو فقير يطلب المال والغنى من بلاد النفائس والكنوز. . .

وبينما القصر الملكي على تلك الحال من الاضطراب والغليان إذا بفارس قد أنهكته وعثاء السفر أشعث أغبر يلهث من الإعياء ويتصبب عرقاً يقتحم ردهات القصر وطرقاته متخذاً سمته قدماً نحو قاعة العرش. وطلب الإذن بالمثول بين يدي صاحب الجلالة. فدخل الحاجب يعلن قدوم الرسول المنتظر! انتفض الملك في مكانه وحبس أنفاسه كأنما يتهيأ للنبأ الهائل. . . دخل الفارس وألقى بالنبأ الخطير في صوت أجش. فيه شجاعة وفيه ألم. . . مولاي! سقطت دمياط بعد معركة تشيب لهولها الولدان، ودفاع يشرف شهداءنا الإبطال! سقطت دمياط!! كانت هذه العبارة خنجراً مسموماً نفذ إلى صميم قلب الملك. . .

سقطت دمياط! وفي عهدي أنا؟ أبعد أن كان جدي البطل صلاح الدين يدوخ جيوشهم في ربوع سوريا وفلسطين، ويذيقهم مرارة الهزيمة المرة بعد المرة، يجرءون اليوم على الدنو

ص: 37

من العرين الذي طالما رجفوا لذكره؟! هكذا ناجى الملك نفسه في حسرة ما بعدها حسرة. . . ثم أمر الجيش بالتجهز وسار على رأسه لملاقاة العدو المغير، وعسكر في مدينة المنصورة، وقد اتخذها قاعدة لحركات الجيش

ولكن قلبه كان دائماً يئن في حشرجة المذبوح من أثر الطعنة التي أصابته عند ما ألقي إليه نبا سقوط دمياط!! فما هي إلا فترة حتى اشتد عليه المرض، فحمل إلى قصره بجزيرة الروضة؛ وهناك وبين يدي المرأة التي أحبها وأخلص لها (شجرة الدر) أم ولده وولي عهده غياث الدين توران شاه فاضت روحه إلى ربها

وفي هذه اللحظة الرهيبة وقد نظرت شجرة الدر فإذا بمليك مصر وزوجها الأثير عليها مسجى على سرير الموت بين يديها، فتملكها الأسى على الفقيد العظيم، ولكنها سرعان ما أفاقت على صوت يهتف في أعماق نفسها. . . الوطن. . . الأعداء. . .! فولي العهد كان في تلك الأثناء ببلاد الشام ولم يبلغه بعد نبأ الرزء الفادح. وها هوذا العدو قد اقتحم أبواب البلاد متجهاً نحو العاصمة. فساءلت نفسها كيف يستطيع الجيش الثبات ومقاومة العدو إذا علم بموت الملك وفقدان الرأس المدبر؟ وهل تقاوم البلاد بغير رأس؟ إن الوطن في خطر فلابد من الحكمة والتبصر. . . وهنا لمعت في خاطرها فكرة جريئة. . . لا. . . يجب ألا يعلم الجيش بموت الملك. . . ثم خرجت من الحجرة وأشاعت أن الملك مريض ويرغب ألا يدخل عليه أحد؛ وأرسلت إلى قواد الجيش وأمرائه أن الملك يأمرهم بالتأهب للقاء العدو المغير في طريقه، بينما طيرت النبأ إلى ولي العهد ببلاد الشام بالقدوم على جناح السرعة. . .

أخذت الجيوش الفرنسية تخوض في أحشاء البلاد قاصدة المنصورة، والفزع يزداد يوماً بعد يوم، والاستعداد قائم على قدم وساق؛ في هذه الساعة العصيبة حضر ولي العهد توران شاه فأطلعته شجرة الدر على كل شيء وتسلم زمام الملك. فجمع الملك الشاب كل عزمه وأصدر أوامره للقواد، وعبأ الجيوش وتأهب لليوم العظيم. . . هذا هو يوم الفصل، فإما نصر لأوربا والجيوش الصليبية يملكها مصر وبيت المقدس، بل وقلاع الشرق جميعاً ويقضي على الإسلام في دياره قضاء مبرماً، وإما نصر لمصر يرد هذه الموجة الهائلة ويحمي ذمار الوطن والدين. وكم كانت مصر كالصخرة الهائلة تتكسر عليها أمواج الحملات الصليبية

ص: 38

المتتابعة!. هاهي ذي أوربا بعظمتها وجيوشها الجرارة كاملة العدة هائلة العدد (كان جيش الصليبيين حوالي تسعين ألفاً) وعلى رأسها ملك من أعظم ملوك أوربا: لويس التاسع ملك فرنسا. . .

التحم الجيشان وبدأ الصراع الهائل: التقى صراع بين عدو مغير وبين أبطال يدفعون عن حمى الدين والوطن. وقد نفذ فيهم المليك الشاب من روح الشباب وعزيمته، فاندفعوا كالليوث يفتكون بالأعداء؛ ولما اشتد الضغط على العدو والتفت حوله ليكشف مكاناً للهرب، فما هاله إلا الماء قد حاصره من الخلف، إذ كانت الأوامر قد صدرت بفتح جسور النيل فتدفقت مياه الفيضان من وراء الأعداء كالسيول الجارفة. . نظر العدو فإذا البحر قد حصره من الخلف والجيش الباسل قد أطبق عليه يرمي عن قلوب تشتعل حمية وحماسة للوطن والدين، وينظر الملك لويس والحسرة تنهش قلبه فيرى أشلاء جيشه تتطاير تحت مطارق الأذرع الحديدية من جنود مصر. هاهم أولاء جنوده يتساقطون في الميدان حوله جماعات كالفراش. ومن طلب الفرار من شفرات السيوف ابتلعه اليم. . .

وإذا بفرقة من الجيش المنتصر تتقدم نحو الملك (لويس). . . هاهم أولاء بعض الأمراء والفرسان المحيطين به يناجزونها مناجزة اليائس المستميت مدافعين عن مليكهم. ولكن ماذا تجدي شجاعة بضعة أفراد أمام جيش كله أبطال؟! فما هي إلا جولة أو بضع جولات حتى كان الملك ومن بقي معه من الأمراء جميعاً في الأسر!! وإذا بالجيش العرمرم قد انهار كما ينهار البناء الشامخ!!. . .

انجلت المعركة عن فناء العدو وقد بلغ عدد قتلاه ثلاثين ألفاً خلاف الاسرى، وكتبت آيات النصر بمداد غزير من الدماء. هاهو ذا الملك المعظم توران شاه يعود إلى المدينة تجلله أكاليل النصر والفخار، ويسوق وراءه في السلاسل والأغلال ملك فرنسا وأمراءها. الكونت دنجواي، والكونت داراتوار، والكونت دوبواتييه!؟ والكونت دوبواتييه!؟ يا لروعة الذكرى التي يعيدها إلى الأذهان أسم هذا الكونت!! ويا لسخرية القدر الذي ساقه ليشهد بعيني رأسه كيف تثأر مصر لشهداء بواتييه (بلاط الشهداء سنة 732م) بعد خمسة قرون في معركة تكسو فرنسا عارا يطغى على بريق بواتييه ويسجل في تاريخ فرنسا بل في تاريخ أوربا كلها جبروت مصر وعظمة الشرق. . .

ص: 39

خيم الليل على دار ابن لقمان في مدينة المنصورة حيث أودع الملك الأسير وأمراء بلاده؛ وكان ليلاً رهيباً. وفي جوف الليل تذكر الملك الأسير بلاده وجيشه ومجده وآماله المحطمة والذل الذي يعانيه، فانحدرت الدموع غزيرة من عينيه. فخاطبه أحد أمرائه الذين يشاركونه الأمر قائلاً:(لقد نصحتك يا مولاي وقلت لك إن مصر عرين الشرق، وإن روح صلاح الدين العظيم لازالت تغذي أشبالها، فأبيت إلا محاولة ما أعجز قبلك إمبراطور ألمانيا وريكاردوس قلب الأسد)!؟ وهنا جلجل في حنايا القاعة صوت الحارس الطوشي (صبيح) الذي وكل إليه حراسة الملك الاسير، قائلاً:(نعم، صدقت أيها الأمير! أن أشبال الحمى وأبطال الوطن لتعد هذه الخاتمة لكل من رام مرام هذا الملك الأسير)

إن دار ابن لقمان لا تزال قائمة تنتظر الجيل الذي يعيد إليها حياة أبطالها. وإن من السواح الأوربيين والفرنسيين على الأخص من يقصدون هذه الدار ليشهدوا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم عظة من أبلغ العظات ودرساً من أقسى الدروس تلقنهم إياه مصر؛ وإن الفرنسي الذي يتيه عجباً وخيلاء في رحاب دمشق وربوع ميسلون ليحنى الرأس إذلالاً أمام دار ابن لقمان. ولكن كيف يحتفظ المصريون بهذا الهيكل من هياكل المجد والفخار! إنهم ويا للعار قد أهملوه شر إهمال وتركوه نهب البلى والأقذار. وهاهي ذي أحجاره وجدرانه تصارع البلى في أنفة وكبرياء! فأية كرامة لامة لا ترعى هياكل المجد!؟ وكأني بزوار الدار من الأوربيين يقولون في أنفسهم وقد نظروا إلى حالتها المزرية هذه: (لو كانت لنا هذه الدار لجعلناها كعبة يحج إليها الشباب والفتيان ليستمعوا أبلغ أناشيد المجد والبطولة ترددها جوانب هذه الدار، وجعلنا منها رمزاً خالداً على الدهر، نمجد في رحابه أرواح أسلافنا الأبطال وهي ترفرف محومة بين جدرانه! ولكنها ويا للأسف المرير لشعب لا يرعى مجد آبائه!!)

إيه أيتها الدار!! لقد خط المجد على جدرانك أروع آيات البطولة؛ وفي رحابك سجن ملك من أعظم ملوك أوربا حاول اقتحام الوطن بجيشه العرمرم فتلقفته سيوف الأبطال والأشبال، فإذا الجيش أشلاء تتطاير على شفرات السيوف وأسنة الرماح، وإذا بالملك العظيم. . سجين جدرانك. .!!

ألا خبرينا أيتها الدار، كيف شهدت أوربا المتجبرة العاتية التي خرجت بجيوشها الجرارة

ص: 40

لإذلال مصر؟ كيف شهدتها تذرف دموع الحسرة والتفجع، وأنات الأسى والحزن، وهي ترسف في قيود الأسر وذل الهزيمة. في شخص (لويس التاسع) ملك فرنسا. .!!

ألا تكلمي أيتها الدار، فكلمة منك توقظ الأسماع وتهز القلوب. لأنك تتحدثين بلسان من قد رأى وقد سمع!!

ألا تكلمي، فكلمة منك تقشع عناكب النسيان والجهل التي خيمت على صفحات المجد والبطولة من سفر تاريخنا الحافل!. .

أيها المصريون! ألا إن بقاء هذه الدار بحالتها الحاضرة المزرية لطعنة في صميم الكرامة المصرية والوطنية المصرية والشعور الحي لأمة تعرف مالها من كرامة ومجد وتاريخ. . .

(المنصورة)

محمد فهمي

ص: 41

‌بناء العلم

للسير جيمس جنز

ترجمة إبراهيم البرسي

إذا ما تجمع لدى الباحثين قدر مناسب من الحقائق في ناحية من نواحي العلمية، فالخطوة التالية تكون محاولة إيجاد قاعدة عامة تربط هذه الحقائق جميعها؛ وقد تتفق هذه القاعدة أولا تتفق مع الاعتبارات المقررة. ولا يكفي أن تفسر هذه القاعدة الحقائق المعروفة، بل لا بد أن تتفق مع كل ما يكشف منها؛ فهي على ذلك لا تكون إلا بمثابة افتراض؛ ويبدأ العالم بأن يقول:(إن التجارب أثبتت هذه الحقائق، وأرى أن افتراضاً معيناً يتفق معها جميعها) ثم يستمر هو وأمثاله في العمر للحصول على بيانات أدق وأوفى مرتبطة بالحقائق الأولى؛ وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى الوصول إلى حقائق جديدة. ويمتحن الافتراض الأول بمطابقته للمعلومات الجديدة

أما إذا وجد افتراضان متناقضان، فقد يكون ممكناً أن نتبين الصحيح منهما؛ فإذا أمكننا مثلاً أن نبين أن ظاهرة (س) تحدث إذا كان الفرض الأول صحيحاً، ولا تحدث إذا كان الفرض الثاني صحيحاً، فبأجراء تجربة لمشاهدة ظاهرة (س) يثبت أحد الافتراضين

هذه التجربة كغيرها: هي في الواقع توجيه سؤال للطبيعة وهو: (هل يستقيم الفرض الأول؟. .) وهي تجيب بان ترينا إما ظاهرة مناقضة للفرض أو متفقة معه. ولكنها لا تستطيع مطلقاً أن ترينا ظاهرة تثبت صحة هذا الفرض، لان ظاهرة واحدة تكفي لتهدم فرضاً معيناً بينما لا تكفي ملايين الظواهر لإثباته. ولهذا السبب لا يستطيع العالم أن يجزم بمعرفته أي شيء على وجه التأكيد؛ اللهم إلا الحقائق المباشرة للمشاهدات. وإذا تعدى هذا فلا يستطيع التقدم إلا بافتراضات متعاقبة تحظى الواحدة منها باتفاقها مع حقائق اكثر من سابقتها وتتخلى كل منها لمن تتبعها؛ وفي الواقع لن يأتي وقت لانتقال من الافتراضات إلى التأكيدات

الآن وقد ناقشنا أبسط مثل لاستفسار الطبيعة يجدر بنا أن نشير إلى بعض الصعوبات، فليس من الممكن دائماً أن تضع سؤالاً يكون جوابه (الإيجاب) أو (النفي) فقط، فكثيراً ما تنشأ مسائل أكثر صعوبة عند ما يخدع فرض وهمي من يقوم بتجربة، أو يحاول الحصول

ص: 42

على جواب لسؤال غير معقول؛ فإذا أمكنه بطريقة ما أن يجري تجربته فان نتيجتها تكون غير مفهومة كما كان السؤال بالنسبة للطبيعة

ولنضرب لذلك مثلاً، فنتصور عدداً من الرجال مجهزين بأدق الأجهزة، ولكن ينقصهم الإدراك العلمي، فإذا رأوا مثلا (قوس قزح) في السماء ورغبوا في معرفة بعده عنهم، وبدءوا يعتبرونه كمنظر عادي بسيط فكونوا فرقة من المساحين لتعيين بعده، فمن القياسات المأخوذة بأدق الأجهزة تظهر نتيجة واحدة لا خلاف فيها، وهي أن المسافة (ناقص 93 مليون ميل)

وظاهر أن من السخف بمكان أن تقاس مسافة بالسالب، وأسخف منه هذا التقدير الكبير لها، إذ أن القوس قد يظهر بيننا وبين جبل معين مثلا وبعده لا يداني هذه المسافة بحال. أما إذا غير وضع السؤال بان قلنا (ما المسافة التي يبعدها مصدر الضوء الذي نراه في القوس أمامنا؟) رأينا الجواب (ناقص 93 مليون ميل) محملا بالمعاني. فالعلامة السالبة تدلنا على أن مصدر الضوء لا يقع أمامنا بل خلفنا، ومن بعده نستنتج أن هذا المصدر ليس إلا الشمس بعينها

وفي الواقع أن وضع سؤال معقول أصعب كثيراً من الحصول على جواب لسؤال غير معقول، ولنضرب مثلا ينقلنا من هذا التعميم وصعوبته بالفلك والنظرية النسبية:

جمع الإغريق والمصريون عدداً كبيرا من الحقائق المتعلقة بالحركة الظاهرية للشمس والقمر والكواكب. وحوالي عام 150 من الميلاد حاول (بطليموس) عالم الإسكندرية وضع فرض يفسر هذه الحركات جميعها؛ وقد تصور الأرض مركزا لهذه المجموعة تدور الشمس والقمر والكواكب حولها، مخالفا بذلك ارسطاطاليس وأتباع فيثاغورس، فالشمس والقمر يتحرك كل منهما في دائرة، بينما الكواكب تتحرك في مسارات معقدة. ولم تكشف حقائق جديدة لاختبار هذا الفرض حتى وضع (كوبرنيكس) في سنة 1543 فرضا آخر اتضح أنه يفسر الحقائق السالفة الذكر بطريقة أبسط، فاعتبر الشمس - لا الأرض - مركزا للمجموعة الشمسية بينما الأرض والقمر والكواكب تسير في دوائر حولها، ولكن لازالت حركة الكواكب معقدة بعض الشيء بالحركة في دوائر ثانوية

وعلى ذلك ظهر افتراضان في المحيط العلمي؛ وقد حاول (كوبرنيكس) الفصل بينهما. فإذا

ص: 43

كان فرض (بطليموس) صحيحا فان كوكب (الزهرة) لا يرى أقل من نصف دائرة ضوئية. ومن الناحية الأخرى إذا دار هذا الكوكب حول الشمس وجب أن نرى له أوجها كأوجه القمر. وقد مكننا التلسكوب الذي استكشف في سنة 1609 من توجيه سؤالنا إلى الطبيعة لتفصل بين الفرضين. وبمجرد أن رأى (جاليلو) كوكب الزهرة يظهر على شكل قوس دقيق تأكد أن فرض بطليموس لا يستقيم

ولم يثبت هذا بالطبع فرض (كوبرنيكس) ولكن تجمعت حقائق جديدة على جانب كبير من الدقة جعلت الشك يحوم حول هذا الفرض. ونخص بالذكر من بين هذه الحقائق ما لاحظه (كبلر) من أن حركة المريخ التي درسها في شيء من التفصيل لا تتفق مع فرض (كوبرنيكس). وقد جعله هذا يعرض فرضا جديدا، وهو أن الكواكب لا تدور حول الشمس في دوائر ودوائر صغيرة حول محيطها، ولكن في إقطاع ناقصة تكون الشمس بؤرتها المشتركة وقد ظل هذا الفرض متفقاً مع كل الحقائق الفلكية لمدة طويلة

وقد حاول (نيوتن) بعد هذا بنصف قرن أن يجمع هذه الحقائق وغيرها تحت فرض أوسع، فتصور أن كل جسم في الكون يجذب غيره بقوة الجاذبية، وهذه تتغير عكسيا مع مربع المسافة بين الجسمين؛ وفرض أن الكواكب تتحرك تحت تأثير هذه القوى فقط، ثم بين أن هذا الفرض يفسر سير الكواكب في إقطاع ناقصة، وكذلك يفسر كمية كبيرة من الحقائق والظواهر منها حركة القمر حول الأرض وحركة كرة الكريكيت في قطع مكافئ عند قذفها. حتى المد والجزر فسره هذا الفرض وأخيراً وجد أنه يفسر حركة المذنبات هذه التي كانت تعتبر دلائل مخيفة ومجهولة تخشى لأنها علامة الشر أو الغضب السماوي أصبحت لا ترى إلا ككتل جامدة ترسم مسارها حول الشمس تحت تأثير نفس القوى التي تعمل في الكواكب

ثم استمرت بعد ذلك الحقائق والبيانات تترى وكلها متفقة مع نظرية نيوتن حتى منتصف القرن التاسع عشر حيث وجد الفلكي (لفرييه) شذوذاً في حركة عطارد، فان فرض نيوتن يتطلب أن يعيد الكوكب مساره دائماً حول الشمس في نفس القطع الناقص كما تدور لعب الأطفال الآلية في نفس المسار مرات مستمرة، بينما وجد (لفرييه) أن كوكب عطارد يتحرك في قطع ناقص ولكن هذا القطع نفسه متحرك في الفراغ ويتم دورته في نحو ثلاثة ملايين من السنين، فكأنما المسار الذي تجري فيه هذه اللعبة موضوع على مائدة متحركة

ص: 44

تدور حول محورها ببطء بينما تجري هي بسرعة في مسارها

وبمضي الزمن عرض (أينشتين) فرضاً جديداً هو النظرية النسبية، وهذه لم تفسر الظواهر التي فسرتها نظرية الجاذبية لنيوتن فحسب، بل وضحت حركة (عطارد) توضيحاً دقيقاً وفسرت كذلك عدداً كبيراً من الحقائق العلمية الأخرى

وقد أمكن عمل تجارب ومشاهدات فاصلة بين النظريتين: النظرية الحديثة (لأنشتين) والنظرية القديمة لنيوتن، وفي كل هذه التجارب والمشاهدات قضت الطبيعة على نظرية الجاذبية وعززت النظرية النسبية؛ وقد أجريت تجارب أخرى لتفصل في النظريات السائدة في هذا العصر كالنظرية القائلة بان الضوء ينتقل كموجات في الأثير الذي يملأ كل شيء، وأن القوى الكهربائية والمغناطيسية تنتقل كضغط وشد في هذا الأثير، وفي هذه أيضاً انحازت الطبيعة للنظرة النسبية. وقد أصبحت النظرية النسبية الآن تفسر مجموعة هائلة من الظواهر الطبيعية ولم تظهر بعد حقيقة واحدة لا تتفق معها.

إن الغرض العام للعلم هو أن يسير إلى مثل هذه النظريات ويصل إليها. ولا نستطيع مطلقا أن نعتبر نظرية ما نهائية أو حقيقة مطلقة، إذ من المحتمل أن تظهر حقيقة جديدة في وقت ما ترغمنا على هذه النظرية؛ وقد يحدث ذلك للنظرية النسبية ولو أنه بعيد الاحتمال. وإذا ما حدث ذلك برغم استبعاده فان الوقت الذي أنفق في تكوينها لم يضع سدى، بل سيكون تدرجا إلى نظرية أوسع وأكمل تتفق مع عدد أكبر من الظواهر الطبيعية. من ذلك يظهر العلم للرجل العادي متغيرا دائم التغير دائراً حول نفسه مخالفا لنظرياته الأولى، ولكن العالم يراه دائم التقدم ويرقى من نظرية إلى أخرى، تحظى كل نظرية منها باتفاقها مع حقائق تزيد على التي أزاحتها، ورائده الوصول إلى هدفه الأسمى وهو النظرية التي تفسر ظواهر الطبيعة كاملة

إبراهيم البرلسي

ص: 45

‌11 - تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

ترجمة حسن محمد حبشي

الفصل الثاني

وأمضى عدي فترة من الزمن في سورية وخاصة في دمشق حيث يقال إنه نظم فيها أول قصيدة. ولما مات أبوه حينئذ هجر مقامه في الحيرة واهتم بالصيد والقنص وسائر فنون اللهو والتسلية. وكان يزور (المدائن) بين فترة وأخرى ليشرف على أعمال التحرير، وفي فترة زيارته للحيرة علق فؤاده هند ابنة النعمان التي كانت تبلغ من العمر وقتئذ إحدى عشر سنة. وإن القصة التي يرويها الأغاني لفي غاية الغرابة حتى لا يمكن التجاوز عنها؛ وتتلخص في أن هنداً كانت أجمل نساء أهلها وزمانها، خرجت في خميس الفصح تتقرب في البيعة في أيام المنذر، ودخلها عدي يتقرب، وكانت عبلة الجسم فرآها عدي وهي غافلة وتأملها ولم يقل لها جواريها ذلك، وإنما قبلن هذا من أجل أمة لهند يقال لها مارية، كانت قد أحبت عدياً فلم تدر كيف تجيء له، فلما رأت هند عدياً ينظر إليها شق عليها ذلك وسبت جواريها، ولكنها وقعت في نفس عدي، فلبث حولاً لا يخبر بذلك أحداً حتى أخبرت مارية هنداً ببيعة دومة وما فيها من الرواهب وحسن بنائها، فسالت أمها الإذن فأذنت لها، وبادرت مارية إلى عدي فأخبرته الخبر فاخذ معه جماعة من فتيان الحيرة ودخلوا البيعة، فلما رأته ماريا قالت لهند:(انظري إلى هذا الفتى فهو أحسن من كل ما ترين من السرج وغيرها) فقالت هند: (ومن هو؟) فقالت: هو عدى ابن زيد، ثم حرضتها على الاقتراب منه وسألتها أن تكلمه، ثم انصرفتا وقد تبعته هند بنفسها وانصرف بمثل حالها، ثم عرضت له في الغد فقال لها:(لا تسأليني شيئاً إلا أعطيتك إياه) فعرفته إنها تهواه وحاجتها الخلوة به على أن تحتال له في هند وعاهدته على ذلك، وبادرت إلى النعمان فأخبرته خبرها وذكرت إنها شغفت به، وأنه إن لم يزوجها إياه افتضحت في أمره أو ماتت. فقال لها:(ويلك وكيف أبدأه بذلك؟). فقالت: (هو أرغب في ذلك من أن تبدأه)، وأتت عديا فأخبرته الخبر وقالت (أدعه فإذا أخذ الشراب منه فاخطب إليه فأنه غير رادك) قال:(أخشى أن يغضبه ذلك) قالت: (ما

ص: 46

قلت لك هذا حتى فرغت منه معه) فصنع عدي طعاماً، ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام فلما أخذا منه الشراب خطبها إلى النعمان، فأجابه وزوجه وضمها إليه بعد ثلاثة أيام

وعند موت المنذر الرابع أيد عدي حق النعمان الذي كان من قبل تلميذه ثم غدا حماه، في عرش الحيرة، ولقد تكللت الخدعة التي مثلها في هذا الحادث بالنجاح التام، ولكنها كلفته حياته

فعزم على الأخذ بالثأر أتباع (أسود ابن المنذر) إذ فشل صاحبهم في نيل العرش، ولكن مكائدهم أثارت شكوك النعمان ضد صانع العرش له. فألقى عديا في غياهب السجن حيث ظل يرسف في القيد ردحاً طويلاً حتى قتله النعمان حينما توسط كسرى ابرويز في إطلاق سراحه

وترك عدي غلاماً يدعى زيداً أشار كسرى ابرويز بان يخلف أباه في إدارة التحرير العربي في الديوان الملكي بالمدائن، ولما تصالح مع النعمان لم ينس ثأره القديم ولكنه أخذ يتحين الفرصة ويتأهب لها؛ وكان ملوك الفرس ذوي دراية بمحاسن النساء فإذا أرادوا امرأة بعثوا من يذيع طلبتهم وما يتوفر فيها من محاسن جثمانية وخلقية، ولكنهم لم يكونوا قد فكروا حتى ذلك الحين في نساء بلاد العرب ظناً منهم بأنها خالية من أية امرأة جميلة حوت من الصفات ما طلبوه، فوجد زيد إذ ذاك الفرصة سانحة، فجاء كسرى وقال له:(رأيت أيها الملك أنككتبت في نسوة، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله كثير فأبعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية) فبعث معه رجلا جليداً، ثم دخلا الحيرة ثم وصف للنعمان طلبة الملك، فقال لزيد والرسول يسمع:(أما في عين السواد ما تبلغون به حاجتكم؟) فقال الرسول لزيد: (ما العين؟) قال: (البقر) ثم رجعا إلى كسرى فقال لهما: (أين الذي كنت خبرتني به؟) فقال له الرسول: (قال النعمان أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟) فعرف الغضب في وجهه، ثم بعث إليه كسرى فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن، ثم أمر بقتله فقتل ووطأته الفيلة

وإن الشواهد المنقولة إلينا لتظهر النعمان الثالث حاكما مستبداً زير نساء مولعاً بالخمر والغناء، كما كان مشجعاً لكثير من الشعراء وخاصة النابغة الذبياني الذي فر هاربا من الحيرة لفرية كاذبة. وإن هذه القصة وأخرى اتهم فيها الشاعر المنخل لتلقيان شعاعا

ص: 47

نستطيع على هديه أن نتعرف حياة النعمان الخاصة، فلقد تزوج امرأة أبيه المتجردة أجمل نساء عصرها، وبينما كان هو يوليها كل حبه كانت هي تحب غيره. وقد اتهم فيها النابغة لنظمه قصيدة يصف فيها محاسن الملكة ويذكر فيها نواحي خاصة دقيقة، ولكن الحقيقة هي إنها كانت والمنخل اليشكري يتبادلان الحب ويجرعان كؤوس الهوى، وقد فاجأهما النعمان ذات يوم على غير ما يهوى؛ ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد يرى المنخل. ومن هنا نشأ المثل القائل (حتى يعود المنخل) وبالرغم مما يقال من أن كثيراً من ملوك الحيرة كانوا مسيحيين فان الشك يحتك في الصدور عما إذا كان أحدهم - سوى النعمان الثالث - يستحق هذا اللقب؛ وكان اللخميون بعكس غالبية رعيتهم عريقين في الوثنية. أما تعاليم النعمان فقد هيأته للنصرانية، كما أن هدايته - كما تؤكد القصة - كانت على يد رائده عدي ابن زيد

يذكر النسابة المسلمون أن الغساسنة - سواء المقيمون منهم في المدينة أو من جرى العرف بتسميتهم بغساسنة الشام - من ولد عمرو ابن عامر المزيقيا الذي كان قد باع أملاكه في اليمن وهاجر على رأس جمع غفير من سكانه قبيل انفجار سد مأرب؛ ويعتبر ابنه جفنة عادة مؤسس الأسرة، أما عن تاريخهم البدائي فالثابت منه ضئيل جداً لا يبل ظمأ الباحث. ومما يذكر عنهم أنهم دفعوا الجزية للضجاعمة وهي أسرة من نسل صليح الذي كان حاكما على حدود سورية تحت رعاية الروم. وتبع ذلك صراع عنيف خرج منه الغساسنة ولواء النصر يرفرف فوق رؤسهم. ومنذ ذلك الحين نراهم قد استقروا في هذه الأقاليم كممثلي السلطة الرومانية ذوي ألقاب رسمية كأشراف وقواد، تلك الألقاب التي أبدلوها هم والعرب الذين حولهم بكلمة (ملك) كما هي العادة الشرقية. (وأول من ملك الشام من آل جفنة الحرث ابن عمرو بن محرق، وسمي محرقا لأنه أول من حرق العرب في ديارهم ويكنى أبا شمر؛ ثم ملك بعده الحرث بن أبي شمر وهو الحرث الأعرج وأمه ماريه ذات القرطين، وكان خير ملوكهم وأيمنهم طائراً وأبعدهم مغاراً، وأشدهم مكيدة وكان قد غزا خيبر فسبى من أهلها ثم أعتقهم، وكان قد سار إليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف فوجه إليهم مائة رجل فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته فأحاطوا برواقه فقتلوه وقتلوا من معه في الرواق وركبوا خيلهم فنجا بعضهم وقتل بعض، وحملت الخيل الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم وكانت له بنت يقال لها حليمة كانت تطيب أولئك

ص: 48

الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع، وفيها جرى المثل (ما يوم حليمة بسر)

(يتبع)

حسن حبشي

ص: 49

‌9 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

أفيحلو لكم، أيها الاخوة، أن يخنقكم ما يتبخر من أشواق هؤلاء المسوخ؟ حطموا النوافذ واقفزوا منها لتنجوا بأنفسكم

حاذروا هذه الأبخرة الخانقة وابتعدوا عن عبادة الأصنام فإنها دين الدخلاء على الحياة. حاذروا هذه الأبخرة واعرضوا عن هذه الضحايا البشرية

لم يزل حتى الآن مجال تسعى في رحبه النفوس الكبيرة نحو الحرية في الحياة، ولم تخل الأرض من أماكن يلجا إليها المنعزل منفرداً أو مزدوجاً حيث تهب نسمات البحر الهادئة. فان الحياة الحرة لم تزل تفتح أبوابها لكبار النفوس؛ والحق أن من يملك القليل لا يناله إلا اليسير من تحكم المتسلطين. فطوبى لصغار الفقراء!

لا يظهر الإنسان الأصيل في الحياة إلا حيث تنتهي حدود الحكومات، فهنالك يتعالى نشيد الضرورة بنغماته المحررة من كل مطاوعة وتقييد

هنالك عند آخر حدود الحكومات، قفوا وتطلعوا، يا إخوتي، أفما ترون تحت قوس قزح المعبر الذي يجتازه الإنسان الكامل؟

هكذا تكلم زارا

حشرات المجتمع

سارع إلى عزلتك، يا صديقي، فقد أورثك الصداع صخب عظماء الرجال، وآلمتك وخزات صغارهم. إن جلال الصمت يسود الغاب والصخور أمامك، فعد كما كنت شبيها بالدوحة التي تحب، الدوحة الوارفة الظل المشرفة على البحر مصغية في صمتها إلى هديره

على أطراف حقول العزلة تبدأ حدود الميادين حيث يصخب كبار الممثلين ويطن الذباب المسموم. لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها من يمثلها، والشعب يدعو ممثليه رجالاً عظاماً. فالشعب يسيء فهم العظمة المبدعة، فيبتدع من نفسه المعاني التي يجمل بها ممثليه والقائمين بالأدوار الكبرى على مسرح الحياة

ص: 50

إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة. وحول لاعبي الأدوار على مسرح الحياة يدور الشعب وتدور الأمجاد، وعلى هذه الوتيرة يسير العالم

إن للاعب الأدوار ذكاءه، ولكنه لا يدرك حقيقة هذا الذكاء لانصباب عقيدته إلى كل طريقة توصله لخير النتائج والى كل أمر يدفع بالناس إلى وضع ثقتهم به

غداً سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة، وبعد غد سيستبدل بها أجد منها. ففكرته تشبه الشعب تذبذباً وتوقداً وتقلباً

إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه، وبإيقاد النار حجته، وبإراقة الدماء افضل حجة وأقوى دليل. إنه ليعتبر هباء كل حقيقة لا تسمها إلا الآذان المرهفة، فهو عبد الآلهة الصاخبة في الحياة

إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين، والشعب يفاخر بعظماء رجاله فهم أسياد الساعة في نظره. ولكن الساعة تتطلب الإسراع من هؤلاء الأسياد، فلذلك يزحمونك، ياأخي، طالبين منك إعلان رفضك أو قبولك، والويل لك إذا وقفت حائراً (بين)(نعم) وبين (لا)

وإذا كنت عاشقاً للحقيقة فلا يغرنك أصحاب العقول الرعناء المتصلبة، وما كانت الحقيقة لتستند يوماً إلى ذراع أحد هؤلاء المتصلبين

دع المشاغبين وارجع إلى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع (نعم) وتمرد (لا). إن تجمع المياه في الينابيع لا يتم إلا ببطء، وقد تمر أزمان قبل أن تدرك المجاري ما استقر في أغوارها

لا تقوم عظمة إلا بعيداً عن ميدان الجماهير وبعيداً عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصية عنها من أبدعوا السنن الجديدة في كل زمان

اهرب، يا صديقي، إلى عزلتك. لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك والأدنياء، لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدساس وقد اصبح كل همهم أن ينتقموا منك. لا ترفع يدك عليهم فان عددهم لا يحصى، وما قدر عليك أن تكون صياد للحشرات. انهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة. ولكم أسقطت قطرات المطر وطفيليات الأعشاب من صروح شامخات. ما أنت بالصخرة الصلدة، ولشد ما فعلت بك القطرات، ولسوف يتوالى ارتشاقها عليك فتصدعك

ص: 51

وتحطمك تحطيما

لقد أرهقتك هذه الحشرات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء، وأنت تتحصن بكبرك لتكظم غيظك، وهي تود لو إنها تمتص كل دمك معتبرة أن من حقها أن تفعل لان دمها الضعيف يطلب دماً ليتقوى، فهي لا ترى جناحاً عليها إذ تنشب حمتها في جلدك. إن هذه الجروح الصغيرة لتذهب بالألم إلى مدى بعيد في حسك المرهف، فتتدفق صديداً يرتعيه الدود. أراك تتعالى عن أن تمد يدك لقتل هذه الحشرات الجائعة، فحاذر أن يجول سم استبدادها في دمك

إن هؤلاء المشاغبين يدورون حولك بطنين الذباب، فهم يرفعون أناشيدهم تزلفا إليك ليتحكموا في جلدك ودمك. انهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون الآلهة والشياطين، فيحتالون عليك بالملاطفة والثناء، وما يحتال غير الجبناء

انهم يفكرون بك كثيراً في سرهم فيلقون الشكوك عليك، وكل من يفكر الناس به كثيراً تحوم حوله الشبهات

انهم يعاقبونك على كل فضيلة فيك ولا يغتفرون لك من صميم فؤاد هم إلا ما ترتكب من أخطاء. انك لكريم وعادل، لذلك تقول في قلبك:(إن هؤلاء الناس أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة) ولكن نفوسهم الضيقة تقول في نجواها: (إن كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة) ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات. انك لتصدعهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غروراً. إن الناس يطمحون بالطبع إلى الهاب كل عاطفة تبدو لهم، فأحذر الصعاليك لأنهم يحسون بصغارهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرها وانتقاماً

أفما شعرت انهم يخرسون عندما تطلع عليهم، فتبارحهم قواهم كما يبرح الدخان النار إذا همدت

اجل ياصديقي، ما انت إلا تبكيت في ضمائر أبناء جلدتك لأنهم ليسوا أهلا لك، فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك

إن أبناء جلدتك لن يبرحوا كالحشرات المسمومة لان العظمة فيك ستزيد أبداً في كرههم لك

إلى عزلتك، يا صديقي، إلى الأعالي حيث تهب رصينات الرياح، فانك لم تخلق لتكون

ص: 52

صياداً للحشرات

هكذا تكلم زارا. . .

العفة

احب الغاب، فما تسهل حياة المدن علي وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات

لخير أن يقع الرجل بين براثن سفاح من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة ملتهبة

إنك إذا ما تفرست في رجال المدن، لتشهد لك نظراتهم بأنهم لا يرون في الأرض شيئاً يفضل مضاجعة امرأة. . .

في أغوار أرواحهم ترسب الأقذار، وأشقاهم من تمرغ عقله بأقذاره

ليتك حيوان اكتملت حيوانيته على الاقل، ولكن أين منك طهارة الحيوان؟ ما أنا بالمشير عليك بقتل حواسك؛ إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس

ما أنا بالمشير عليك بالعفة، لأنها إذا كانت فضيلة في البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة في الآخرين. ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم

إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الممسكين حتى إلى ذرى فضيلتهم فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه في سكينته؛ ولكلاب الشهوة من مرونة الزلفى ما تتوسل به إلى نيل قطعة من الدماغ المفكر إذا منعت قطعة اللحم عنها

إنكم تحبون المآسي وكل ما يفطر القلوب، أما أنا فلا أثق بكلاب شهواتكم لأن نظراتكم الرصينة تمتلئ شهوات عندما تقع على المتألمين؛ وقد تنكر الشبق فيكم فدعوتموه إشفاقاً وأني لأضرب لكم مثلا على هذا: حالة العدد الوفير ممن أرادوا طرد الشياطين فدخلوا هم في الخنازير بدلاً منها

إذا ما ثقلت العفة على أحد منكم فعليه أن يعرض عنها كيلا تنبسط أمامه سبيلاً إلى الجحيم، جحيم أقذار النفس ونيرانها

لعلكم ترون بذاءة في كلامي، أما أنا فأرى البذاءة حيث لا ترونها انتم

ليست البذاءة في قذارة الحقيقة، بل هي في تدنيها وإسفافها، وطالب المعرفة يأنف من الانحدار إلى مهاويها

ص: 53

إن من الناس من دخلت العفة قلوبهم فلانت هذه القلوب لها. أولئك هم الضاحكون وفي ابتسامهم ما ليس في ابتسامكم من إخلاص. انهم يهزءون بالعفة ويتساءلون عما يمكن أن تكون أفليست العفة غروراً؟ أفليست هي التي جاءت إلينا ولم نذهب نحن إليها؟ لقد فتحنا قلبنا لها فاستقرت ضيفاً ثقيلاً فيه، فليبق هذا الضيف نازلاً فينا ما طاب له المقيل

هكذا تكلم زارا. . .

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 54

‌إلى شباب الوادي

للأستاذ محمود الخفيف

تنفّس صُبحكمو المنتظر

فلله هذا الصباحُ الأغرْ

تهَلَّلَ في المهد سمحَ الجبين

رفيف الحواشي بِهيَّ الغُرر

على جانبيه يفيضُ اليقينُ

ويلمعُ في مُقلتيهِ الظّفرْ

وتضحك بين يديه المنى

وتبدو البشائرُ ملَء البصر

ثقيفَ العزيمة في مهده

يريك نبوغَ صِباهُ الصِّغر

جريء الوثوب إلى مبتغاه

ذكي الفؤاد وثيق الحذَر

يفيضُ على الأرض من ذَوبه

نُضارٌ يكلِّلُ هام الشجر

وتحنو عليه بناتُ الهديل

وتنثر في المهرجان الزَّهَرْ

ويزُهي الوجودُ بهذا الوليد

وينسى لديه وضئ البُكَرْ

ويستقبلُ الشرق من وَمضه

معاني تبعث حُلو الذِّكَرْ

أناشيد جاشت بهن النفوس

يقصِّرُ عنهن لحن الوتر

تُرنُّ بأيامه الحافلات

وتومي إلى سرِّه المدَّخر

وتوحي إلى مصر من مجدها

ومُعجز آياتها ما غبر

تدبُّ بواديه روحُ الرَّجاء

ويُحصي القرونَ إليه النهر

وقد طال بالنيل عهد الهوان

وبالأمس كان عزيز النفر

وما عرف النيل معنى الخلاص

ولا لَمَحَ النصر حتى سفر

فيالك صبحاً جرى نورُه

فبدَّد من ليلنا ما اعتكر

نرى حُمْرَةَ الورد في أفقه

بشير السلام جلاه السَّحَرْ

وما كان يقطر إلا النجيع

وما كان يلبس إلا العَفَرْ

تلقته مصرُ لقاَء الرؤوم

ألح عليها الضنى والسهر

وطال المخاضُ وطافت بها

صنوف الرزايا وشتَّى الغِير

عبرنا إلى شطَّه الحالكاتِ

وخضنا الحتوف إليه زُمرْ

دعاَ الأعْزَلُ الشيخ أشْبَالَهُ

فضج له الغاب لما زأر

ص: 55

وراحت تُعربدُ ريح المنون

وترمي صواعقها بالشرَر

تقدَّم يزجي صفوف الجهاد

وليس من الموت فيه وَزر

عنيد الخصومة صعب الأباء

شديد المراس جليل الخطر

على رأسه من جلال المشيب

هدًى ومن الحق نورٌ بهر

وليس بيمناه غيرُ اليقين

إذا غيره بالسنان افتخر

فتىَّ الفؤاد له عزمةٌ

تذيب الحديد وتفري الصخَر

سل الموت كيف طغى موجه

وكيف صبرنا له فانحسر

سل المجد كيف ارتخصنا النفوس

وكيف ارتضينا ظلامَ الحُفر

وكيف انثنت دوننا الحادثاتُ

وكيف انجلت جائحات الغمر

سل الحرب من خاضها قبلنا

بغير القنا والظبا فأنتصر؟!

بني مصر وافاكمو يوُمكُمْ

وثاب الزمان ولان القدر

جعلتم من الروح مهر الخلاص

فسال بها من دمكم وانتشر

وَما ضنَّ حُرٌّ غداة النضال

وَلا مَنَّ يوماً بها من مَهَرْ

فلله موقفكم في الفداء

ولله سيرتكم في السِّير!

ومصر لكم في غدٍ أمرها

أعدوا لها من جليل الأثر

بني مصرَ لا يُكتفَي بالصباح

فقد يعقب الصَّفْوَ فيه الكدر

هلموا فما دون رأْدِ الضحى

وما دون جذوته من وطر

هلموا إلى صهوات العلى

فما ضلَّ ساع لها أو عثر

وكونوا لها في ظلال السلام

كما كنتمو في غواشي الخطر

فليس السلام ركوناً وعجزاً

وَلكنه همة تُعتصر

شبولَ الحمى لن يِذِلَّ الشبولُ

وَلن يعرف الليث معنى الخور

زمانكمو للجريء النطاح الد

ؤوب الجلادِ القويِّ الظفُر

لكل كميِّ يخوض الوغى

إذا شب جانِبُها وَاستعر

وَلن تتناعس أظفارُه

إذا زحمته ذئاب البشر

فروضوا على البأس أخلاقكم

ير العَصْرُ من روحكم ما استتر

ص: 56

وَيرهب أحلافُكُمْ وُدَّكُمْ

ودادُ الأعزَّة لا يحتقر

ألستم طلائع هذا الوجود

أصول الحضارة فيمن عَمَر؟

أفيضوا على مصر من روحكم

شباباً يرد لها ما اندثر

خذوا الوحي من أمسها العبقريِّ

وَمن يومها بالغات العبر

أشيروا إلى غدها في الكفاح

وَغنوا بحاضرها في السَّمَرْ

شبول الحمى قد تولى الشتاء

وَوَافى ربيع المنى وَازدهر

وَليس الربيع جمالاً فحسب

يهز القلوب وَيَسْبي النَّظر

وَلكنه قوة لا تني

وَبَعْثٌ تراه شتيت الصُّور

نماءٌ وَخَلْقٌ وَحُرِّيةٌ

إلى سرها جو مصر افتقر

وَانتم لعمري رياحينُه

وَزينته وَشذاه العَطِر

أعيذكمو أن تشينوا الربيعَ

وَأن تذروا غرسه يهُتصر

فصونوا عن اللهو إكليلكم

وَإلا ذوَى عِقدُه وَانتثر

غدا نبتني صرحنا عالياً

وَنجني من الغرس أحلى الثمر

الخفيف

ص: 57

‌تأملات.

. .

المصباح الناعس

للأديب احمد فتحي مرسي

خافقٌ في الظلام كالأملِ البا

سم قد فاض في القلوب وَرَفّا

هامسٌ كالشفاه تهمسُ في رف

قٍ بما نمَّ عن أساها وَشفّا

ناعس كالجفون أدركها الأي

نُ فَلبَّى الكرى نداها وَخَفّا

باسمٌ كالطيوف في حُلُم الصبِّ (م)

توالت عليه طيفاً فطيفا

راقصٌ كالظلال في نغم الروْ

ض إذا الروضُ فاض شدواً وَعزفا

وَكأن الظلامَ جْمعٌ من الخل

ق غفيرٌ يلوح صفًّا فصفّا

وَكأن المصباح في وِقفْةِ الوا

عظ شيخٌ ينوءُ وَهْنَا وَضعفا

أُرتِجَ القولُ وَالخطابُ عليه

فبدا في الظلام يرجف رَجفا

فاغراً فاهُ، فَاتحاً شفتيه

دون أن يَلفِظَ - العَشيَّة - حرْفا

نشر الليلُ بردتيه وَأَرخى

فوق هامِ الربى مُسوحاً وَسُجفا

وَالنجومُ اُلوضاءُ تخفق في الأُف

ق وَريحُ المساءِ تعصفُ عصفا

وَكأن الظلام بحر خضمٌّ

يَفرَقُ القلب منه رُعباً وَخوْفا

وَكأن المصباحَ فيه غريقٌ

بين لجاته يلوح وَيخفى

يغلب الموج ساعديه فينأى

كلما قارب النجاة وَأوْفى

أيُّهذا السجينُ في ظلماتِ اللي

ل كيف الخلاص مِنْهن كيفا؟

أنت في قبضة الظلامِ أسير

في صِفادِ السهادِ ترسف رسفا

ساهرُ الجفن قيدتك يد اللي

ل فلهفاً عليك في القيد لهفا

وَالفراش الوديع يرقصُ حولي

ك وَيروي صداه لثماً وَرشفا

أي شيءٍ أحبُّ من رشفةِ الضو

ءِ وَأحلى من السناءِ وَأشفى

أي شيء ارق من لمحة النو

رِ وَأبهى من الضياء وَأصفى

عَشِقَ الحرق في سناكِ قريراً

وَتمنّى لوْ مدَّ للموت كفا. . .

رُب نفس هفت إلى النور وَالحس

ن وَلو كان ثَّم موتا وَحتفا

ص: 58

هكذا هذه الحياةُ شُعاعٌ

في ظلام الوجود يخَطَفُ خطفا

يغِلبُ الليل وَالظلامَ فيحيا

أو يغير الدجى عليه فيُطفْاَ

أحمد فتحي مرسي

ص: 59

‌الفنون

رمبراندت

للدكتور أحمد موسى

أراد الله أن يكون خلود الشخصية وقفاً على الغنى أو الجاه، كما شاء ولا راد لمشيئته أن يمنح الإنسان عقلاً يميز به موضع الجمال في خلقه، فيقدسه ويستلهم منه وحياً لحياته التي لا تعتبر حياة بمعناها الكامل إلا إذا رجعت في جوهرها إلى التمييز

وكأن الشخصية التي نحللها اليوم من تلك الشخصيات التي لم يكن للغنى يد في تخليدها، ولا للجاه أي اثر في تكوينها، بل رجع الفضل فيها إلى الفن الذي عبر عنه رمبراندت تعبيراً استلهمه من الواقع الملموس طامحاً به إلى الكمال المنشود

ولد رمبراندت فان راين في منتصف يوليو سنة 1606 بليدن لأبوين فقيرين، اشتغل الوالد طحاناً محدود الرزق؛ أما أمه فكانت الزوجة المخلصة البريئة

شب الولد بسيط النشأة والمعيشة لم ير أحد على ملامحه أي اثر للنزعة الفنية، كما انه هو نفسه لم يكن يدري ماذا يكون من أمره في مستقبل الأيام

والشخصية في نظر التاريخ لا يتحتم أن تكون فذة في العلم أو الأدب، ولا في السياسة أو الحرب؛ لان الحضارة في اكمل معناها تقوم على أركان لا يقل الفن فيها قيمة عن أي ركن آخر، بل إن شيلر شاعر ألمانيا الأعظم يقول:(إن الحضارة الحق يجب أن تمهد سبيل الحرية للإنسان، وأن تعينه على الوصول إليها، كما يجب أن تشغل فراغ عقله حتى يصبح بها قادراً على الشعور بوجدانه مادام انه مخلوق ذو إرادة)

وهكذا كان إنتاج رمبراندت ممهداً السبيل للشعور بالحرية في تراثه المجيد، الذي إذا تأملناه شعرنا بالوجود، وانتعشت فينا الإرادة إلى العمل والانتاج، بل والى الاستمتاع إلى حد بعيد، اعني انه ترك وراءه ركناً هاماً من أركان الحضارة الإنسانية!

ونبوغ التلميذ لا يتوقف دائماً على قدرة أستاذه؛ وهذا ما يلاحظ على رمبراندت؛ فعندما التحق بالعمل عند سواننبرج في ليدن سنة 1621 لم يكن معلمه هذا من الدرجة الأولى؛ ومع انه استمر يتلقى مبادئ الفن عليه ثلاث سنوات؛ فقد سافر إلى أمستردام لزيادة المعرفة؛ فتلقى الدرس على لاستمان نصف سنة عاد بعدها إلى بلدته ليدن، وبدأ حياته

ص: 60

العملية مستقلاً في آخر سنة 1631، اعني عندما بلغ الخامسة والعشرين؛ إلا انه ظل - ولو أن أول لوحة له مؤرخة سنة 1627 - يواصل الليل بالنهار في المران والمشاهدة، حتى إذا ما بلغ الثلاثين كان أستاذاً معترفاً به

تزوج رمبراندت في أواخر يوليو سنة 1634 من زاسكيا فان اولنبرج، فأتمت عليه نعمة الحياة؛ ولم يكن اختياره لها لمجرد الهدوء إلى جانب زوجة، بل لأنه وجد فيها خير معين؛ وكان القدر قاسياً، فلم تمض ثماني سنوات حتى فرق الموت بينهما

كانت وفاة زاسكيا فاتحة مصائب كثيرة، تراكم دينه، وساءت حاله؛ بعد أن كان من عشاق جمع الصور النادرة والتحف الثمينة، اصبح والمحكمة تحدد موعداً لبيع بيته وما فيه

وكانت هندريكا ياجرز مدبرة بيته عاشقة له معجبة به، فتقدمت بمالها الخاص وأنقذت الموقف ولم يتم البيع

أثرت هذه الصدمات تأثيراً فعالاً في اتجاه الفنان، نتبينه في لوحات كثيرة له، فنرى بعضها تشمله روح اكتئاب وحزن ظاهرين

توفي رمبراندت في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1669 بعد حياة مليئة بالإنتاج الفني الهائل، الذي تخلله هدوء العيش حيناً، وآلام النفس أحياناً أخرى، معتبراً في التاريخ العام وتاريخ الفن إماماً لفناني المدرسة الهولاندية إطلاقاً

وتاريخ الفن لا يعنى بإنتاج الفنان من حيث الكثرة؛ وإنما يعني أول ما يعني بقدرته على الابتكار، ولمس النواحي التي لم يسبق لغيره معالجتها، ولذا يقول كارل بوليوس فيبر بان الفنان الجدير بالتسمية هو ذلك الذي ينتج ما لا يستطيع غيره انتاجه؛ لاننا نقول أن إنتاجاً ما بعيد عن الفن إذا استطاعت الكثرة عمل نظيره

ترك رمبراندت حوالي الخمسمائة لوحة، صورها خلال ثلاثين سنة، مثلت المناظر التاريخية الدينية، والشخصية، والطبيعية بروح لا يمكن لغيره تصويرها

حفظت المتاحف والكنائس كثيراً منها، وتتباهى الممالك بكثرة ما بمتاحفها وكنائسها من عمله، وتوجد أربعون لوحة منها بمتحف بطرسبرج ومثلها بباريس وكاسل وامستردام، واثنتا عشرة ببرلين واقل من ذلك بفينا ومدريد

هذا عدا ما هو في حيازة الأفراد؛ فلدى ملك إنجلترا ودوق وستمنستر والليدي والاس،

ص: 61

واللورد البسماير بلندن، وهافمير بنيويورك، ورودولف كان بباريس، وكارستانجن ببرلين والليدي سيكس بامستردام قطع من تصويره

أما الدارس للوحاته فنه يرى ما يفيض عليها من صدق التمثيل للحقيقة متمشياً في ذلك مع مذهب الواقع فضلا عن انه من ناحية مذهب الكمال لا يقل بحال عن كبار الفنانين، كما يلمس فيها روح القوة العنيفة المتغلغلة في إخراجها وسحر الألوان المشتملة عليها، والقدرة التي أصبحت مضرب الأمثال في تكوين الظل والنور، اللذين لا يزالان مثلاً أعلى يحتذي به إلى هذا العصر

بهذا الظل والنور ابرز رمبراندت الجمال التكويني والمجموعي إبرازاً يعتبر أدق ما أمكن الوصول إليه، مكونا طرازاً خاصاً انطبعت عليه نفسه، وعرف باسمه على مر القرون

ويعتبر إنتاج رمبراندت إجمالاً المقياس الصادق لقوة الفن الجرماني؛ إذ بشخصيته الممثلة في طرازه يتم التوازن بين عظمة الفن الروماني في كفه، والفن الجرماني في الكفة الأخرى

فسر رمبراندت الكتاب المقدس على لوحاته تفسيراً سهلاً من الناحية الوضعية، ولكنه قوي من الناحية الفنية، متخذاً مادته من الطبيعة المحيطة به، أما الأشخاص فقد كانوا من مجاوريه، حتى أشخاص أقاصيص كتاب العهد القديم كانوا من يهود هولاندا المعاصرين. ومن كل هذالا نرى فيه فناناً عبقرياً فحسب؛ بل مسجلاً ومؤرخاً صادقاً في كل ما صور، لأنه لم يعتمد الخيال كل الاعتماد، بل على الموجود الملموس

أخرج اللوحات الشخصية إخراجاً فذاً، فصور أبرز رجال عصره تصويراً دقيقاً، كما صور حوالي الأربعين لوحة لنفسه حينما كان يخلو مستلهماً بين حين وآخر؛ ولذلك ترى في هذه الأربعين لوحة صفحة كاملة لتكوينه النفسي والفني، وتطوره في تفكيره وفهمه لحقيقة الوجود

ومن أهم هذه الصور لوحته المحفوظة بمتحف برلين والمؤرخة سنة 1634، ولوحته المحفوظة بالهاي 1634 أيضاً، وبفينا سنة 1635، وباللوفر سنة 1637، وفي لندن بالناشونال جاليري سنة 1640، وبيكنجهام بالاس في لندن سنة 1642

ومن أحسن صوره لنفسه من الناحيتين الإنشائية والفنية تلك اللوحة التي مثلته جالساً على

ص: 62

مقعد وثير، وهي في حيازة اللورد الشستر بلندن ومؤرخة بسنة 1658، وكذلك واحدة أخرى في باريس مؤرخة بسنة 1660 وثالثة في لندن بالناشونال جاليري سنة 1664

أما آخر صورة من هذه المجموعة فهي مؤرخة بسنة 1669 أعني قبيل وفاته، وهي في حيازة السير ريلد بلندن

وصورته لنفسه لا تنم عن عظمة مصطنعة ولا تجميل مرغوب فيه، ولا تكلف لضعف في الإخراج. تراه وقد أسدل الشعر على كتفيه متفنناً بدقة وانسجام، مكوناً للوجه من حوله مكاناً ملاصقاً لسواد الشعر؛ فأبرزه خير إبراز؛ كون فيه شخصيته دون جفاف؛ فترى نظرة العينين وما ينطوي فيهما اقرب إلى الآلام منه إلى مسرة الحياة، ولكن هذا ليس غريباً على رجل كامل الحس، فنان بنفسه ولحمه ودمه، صادف آلاما مبرحة فضلا عن نظرته الخاصة إلى الحياة

وله لوحة (بمتحف درسدن) خالدة، تنبض بالحياة، تمثله وزوجته زاسكيا في مرح وسعادة، والمشاهد لها يدهش للقدرة العظيمة التي استطاع بها أن يجعلها فذة مودية للغاية التي صورها من اجلها، فجاءت ملامح وجهيهما ناطقة بالهناء والتوفيق. انظر إلى يده اليمنى رافعة كأساً امتلأت لنصفها، والى صفاء لون الخمر فيها، ثم المس جمال الإنشاء العام ولاحظ قوة الظل والنور التي جعلتها مجسمة

ولوحته لمدبرة بيته هندريكا، وهي مؤرخة سنة 1663 ومحفوظة بمتحف برلين، والمجموعة المحفوظة بقلعة وندسور ومنها لوحة لأمة، وصورة أخيه أدريان لابساً خوذة ذهبية ومؤرخة 1650، ومحفوظة بمتحف برلين، وصورة ابنه تيتوس المحفوظة بمتحف فينا، عدا الكثير لأبيه وأخته، كل هذه تكون لك ناحية جلية لقوته

أما اللوحات التي صورها للشخصيات البارزة في عصره فهي أيضاً مجموعة جديرة بالتسجيل هنا. من أهم ما فيها صورة الخطاط كوبينول مؤرخة 1631 ومحفوظة ببطرسبرج، وصورة اليزابيت باس، وصورة حرم الأدميرال سوار تنهوت في امستردام، وصورة العمدة بانكراس وحرمه مؤرخة سنة 1645 في قصر بكنجهام بلندن، وصورة الطاهية مؤرخة 1651 بمتحف ستوكهلم، وصورة جان سيكس مؤرخة 1654، ومحفوظة بسيكس جاليري في امستردام

ص: 63

واهم لوحاته العامة صورة الصيرفي وهي مؤرخة 1627، ترى أن ابرز ما عليها شخصية الصراف الجالس إلى منضدة، ملتفتاً إلى محدثه في شيء من التردد، واضعاً يديه عليها، قابضاً باليسرى على كيس نقوده، واليمنى في حالة استعداد لأخذ قطعة النقود من محدثه. وترى على يمينه كاتب الحسابات جالساً مصغياً، شاخصاً بعينيه إلى المتكلم، وقد امسك ريشة الكتابة بيمينه، ووضع اليسرى على الكتاب وضعاً في غاية الدقة لا يوفق إليه غير رمبراندت والوجوه خلف الصورة لا تقل روعة عما في مقدمتها، إلا أن مهارة الفنان جعلت المشاهد يدرك تماماً ابرز وضع للوحة واهم ما يقصد منها بمجرد النظر إليها، لما خيم عليها من ضالة النور المتعمدة. أما الظل والنور فهما واضحان بالنظر إلى الظل الواضح على صفحة الكتاب تحت يد الكاتب، وكذلك ظل الكتاب فوق المنضدة، فضلا عما تراه من الظل على الجانب الأيسر لوجه الصيرفي؛ على حين جعل الجانب الأيمن منيراً. وظهر الشعر المجعد ظهوراً غاية في الدقة. وتدل ملامح وجه المتكلم على الرجاء والالتماس بكل قوة.

وله لوحة اسماها (دانيا) وهي صورة لامرأة عارية بالحجم الطبيعي مؤرخة سنة 1636، محفوظة ببطرسبرج، وصورة المراكبي وامرأته وهي في حيازة ملك إنجلترا، وصورة كوينتابل في سان ريمو؛ وصورة امرأة تستحم مؤرخة سنة 1654 بلندن؛ وصورة العروس اليهودية مؤرخة سنة 1665 بامستردام؛ وكذلك صورة رجال الكنيس اليهودي في جنازة دوق دوفنشير. هذا عدا صوره لرجال ونساء عجائز تعد من آيات الفن، معظمها محفوظ بلندن وبطرسبرج وبروكسل ودرسدن

(لها بقية)

أحمد موسى

ص: 64

‌البريد الأدبي

الأدب العربي الحديث

جاء في جريدة (النوفيل ليترير) الفرنسية ما يأتي:

كثيراً ما يقال ومازال يقال: إن تلك الصلة الوثيقة التي تجمع الشرق والغرب لا يجب إنقاذها مما هي سائرة إليه فحسب، بل يجيب تمكين أواصرها، وتوثيق عراها؛ وهذا بالطبع لا يتأنى إلا تبادل الأفكار وتناقل الآراء. . . فما الذي يعرفه الغربيون عن الأدب العربي الحديث؟. وما الذي يعرفه الغربيون عن تلك النهضة الأدبية الحديثة التي يحمل لواءها شباب مصر، وتلك الباكورة الأدبية الطيبة التي تتزايد في ربوع النيل يوماً بعد يوم؟

ويسرنا أن نشكر جهود هؤلاء الكتاب الذين بذلوا ما في طاقاتهم في سبيل نشر هذه الآداب في ربوع الغرب، وفي طليعتهم الكاتب الفرنسي القدير موريك برن. . . فهو لا ينفك يعمل منذ اثني عشر عاماً على أحكام الرابطة بين الفكرين الشرقي والغربي. ولم يقتصر على ما بذله في سبيل ذلك من الجهود التي ترمي إلى تبادل الآداب والفنون، بل نرى له اليوم جولة أخرى في ميدان الترجمة اعتزم فيها أن ينقل أفكار أعلام الأدب العربي الحديث إلى اللغة الفرنسية، وقد بدأ جولته - بالاشتراك مع الأستاذ. م. خضري - بترجمة رواية توفيق الحكيم الرائعة (شهرزاد)

وقد سئل موريك برن لماذا آثر تقديم توفيق الحكيم على غيره من كتاب العربية، فأجاب:

- إن توفيق الحكيم - دون منازع - هو اقدر كتاب العربية في التأليف القصصي (الدرامي) وهو الكاتب المسرحي الأول في مصر. ومن روائع مسرحياته رواية (أهل الكهف) التي قامت دار الأوبرا الملكية المصرية بتمثيلها في الشتاء الماضي ولا تقل (شهرزاد) عنها قوة ولا روعة

فسئل: ألا يكتب توفيق الحكيم غير المسرحيات؟ فأجاب:

- كلا. . . إن له أيضاً باعاً طويلا في غير المسرحيات. . . فهو اقدر كتاب العربية على تصوير الحياة المصرية خير تصوير. . ولست مبالغاً في ذلك؛ فعندما تقرءون روايته القادمة (عودة الروح) التي أوشكت على الفراغ من ترجمتها ستتثبتون من ذلك. وهذه

ص: 65

القصة تصور حال أسرة مصرية ثرية تصويراً يبعث على الإعجاب في نفس القارئ؛ وسترون في شخص بطلها (محسن) الشاب المصري الذي يمتلئ حماسة ويفيض قوة وفتوة، مما يجعلني اكرر لكم أن توفيق الحكيم اقدر كاتب مفتن في تصوير الحياة المصرية اصدق تصوير

فسئل: ولكن لماذا اختار لها اسم (عودة الروح)؟ فأجاب:

- لأن القصة تصور كيف انبعثت من جوانح مصر روح جديدة جعلتها تحطم أصفادها، وتكسر أغلالها. فقصة (عودة الروح) هي قصة جهاد مصر ونضالها في سبيل استقلالها. . .

وأقول أخيراً إنه لن يمضي طويل من الزمن حتى نرى أدباء مصر الناهضة يتبوءون مكانهم اللائق من أدباء الغرب، فمن بواعث السرور أن نرى بينهم تلك النهضة الأدبية الموفقة التي تنتظم ربوع النيل

محمد عاكف بك

نعت الرسالة في عددها الأخير الشاعر الكبير محمد عاكف بك، ولما كنت من الذين عرفوا الفقيد شاعراً، واعجبوا به، وترجموا بعض آثاره إلى العربية، فأني اكتب هذه الكلمة الصغيرة للتعريف بالنواحي التي عرفتها من أدبه، تاركا للدكتور عزام صديقه ما وراء ذلك من تعمق واستقصاء

سمعت بالفقيد بعد أن اصدر ديوانه (الظلال) وقد كان يترجم لي إلى النثر العربي، كان يترجمه صديقي الأستاذ محمد محمد توفيق

وأول ما قرأت له مقدمة ديوانه الظلال، وهي قصيدة تشرف على العشرين بيتاً، عنوانها خسران، وفي نهايتها يقول:

(وذلك نظمي بالعربية)

وصدى تألميَ العميق يضيع في

تجويف هذى القبة الزرقاءِ

وكذاك خسراني الذي أودعته

في شعري المتأجج الوضاء

لهفي عليه يئن أنا خافتاً

وكأنه ما خط من لأوائي!

ولست اذكر هذه القصيدة بتمامها، ولم أعثر عليها في أوراقي، ووددت ووجدتها فنشرتها

ص: 66

على الناس فإنها تفيض بإسلامية الرجل، وحبه للجامعة الإسلامية التي يتمناها، وفي ذلك يقول:

. . . . . . وغايتي

أن يستعيد نفوذه الإسلامُ

والصوفية العميقة هي الطابع الذي يغلب في شعره، قرأت منها قصيدة عنوانها (الوحدة) اشتغل الآن بنقلها نظماً إلى العربية، وقد بلغ الذروة العليا في تصوير الإحساس، وقد استهلها بقوله:

من منذ آبادً وآباد وإي

ماني لنورك ظامئ لم ينهل!

وله منها قصيدة نظمها وهو منحدر إلى الحجاز حاجاً، وأبدع فيها أيما ابداع، ولعلها خير ما قيل في هذا على الإطلاق

وفي شعره موسيقى تتملك عليك مشاعرك، وقد أعجبتني قصيدة له سمعتها بالتركية فافتتنتبها وترجمتها إلى العربية نظماً وعنوانها على قبر شهيد؛ وهاهي ذي:

خليليَّ إن الأولى يبذلو

ن نفوسهمُ فدية للوطن

مسجّون تحت سجوف السما

ء، يحيط بهم دمهم كالكفن

ومثل أولئك عاشوا وماتوا

وهانوا. . . وأوطانهم لم تهن. . .

ولا يسكنون الثرى بل لهم

غوادً برحمته رائحه

ولا يطلبون إلى عابر

قراءة شيء سوى الفاتحه

وقد اعجب رحمه الله بالترجمة لما رآها وشكر لي الدقة التي راعيتها فيها. رحم الله الفقيد، وعوض الأدب عنه خيراً ووفق إخوانه وأصدقاءه أن يترجموا لنا عربياً حتى نستمتع بأدبه وقوته

العوضي الوكيل

وحي القلم للرافعي

أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر في هذا الأسبوع الجزء الأول والثاني من كتاب (وحي القلم). والأستاذ الرافعي من أفذاذ الألسنة البيانية في الأدب العربي كله قديمه وحديثه، وقد استقام قلمه على طريقة من البيان انفرد بها فعرفت به وعرف بها. وهذا

ص: 67

الكتاب قد اجتمعت فيه روح الرافعي الفلسفية وروحه البيانية، وتعاونا على بناء الفن العربي بناءً جديداً فيه من الروعة والمتانة والتسامي والجمال كل بديع. وكل أديب عربي يحتفل بهذا الكتاب احتفالاً خاصاً لأنه قطعة من النفس العربية المتصلة بالماضي والحاضر والمستقبل، ويهتز له لأنه تعبير فني دقيق عن المعاني الغامضة التي لبثت قروناً لا تجد من يبن عنها إبانة الرافعي

محاضرة عن حاجتنا إلى الفن

يلقي الأستاذ محمود تيمور برابطة موظفي الحكومة شارع عماد الدين رقم 187 بعمارات الخديوي حرف (أ) محاضرة عن حاجتنا إلى الفن. وذلك في يوم الخميس 21 يناير سنة 1937 في تمام الساعة السادسة مساء. وتطلب التذاكر من دار الرابطة أو من المحاضر بشارع الأمير حسين رقم 6 بالزمالك بالقاهرة

ص: 68

‌النقد

سلسلة الموسوعات العربية

معجم الأدباء

للدكتور عبد الوهاب عزام

كان للأستاذ محمود مصطفى أرباً في أن يصدني عن نقد معجم الأدباء، أو مصلحة في أن يحسب من المجادلين عن ناشري الكتاب. فهو لا يألو جهداً في أن يشغلني بمناقشة غير سديدة

نشرت (الرسالة) للأستاذ رده في سبعة مآخذ مما أخذته على المعجم في مقالي الأول، ثم طلع على الناس في جريدة المصري بمقال قال فيه:

(فقد كانت المآخذ عشرة فما زال بي (يعني صاحب الرسالة) حتى نزلت له عن اثنين فيها. فلما حاول أن انزل له عن ثالث لم اقبل فتظاهر بالرضى عن نشره، ولكنه حين خلا بنفسه حذف ذلك المأخذ، وما كنت احب أن يكون منه ذلك. والأعجب من هذا انه حين ناقشته بعد ظهور المجلة في أمر هذا الحذف كان جوابه أن الدكتور عزاما لم يرض عن نشره)

وأنا اعرف أن الزيات نصح الأستاذ أن يحذف جداله في بعض الكلمات تنزيها له وللرسالةعن اللغو لا إشفاقاً من حججه الدامغة. وقد أبى الأستاذ إلا أن ينشر على الناس المآخذ الثلاثة التي نصحه الزيات بحذفها؛ وليس أدل على نصح صاحب الرسالة، ولا ادمغ لحجة الأستاذ محمود من نشر هذه الكلمات

1 -

قال الأستاذ إن مرو الشاهجان ينبغي أن تكون بكسر الهاء. وهذه حجته: (إن التركيب إضافي في اللغة الفارسية، ومعنى مفرداته هكذا. المرو=المرج. الشاه=الملك. جان=نفس أو روح فالمعنى على ذلك: مرج نفس الملك. والقاعدة في اللغة الفارسية أن جميع كلماتها مهملة الإعراب ملازمة السكون إلا في موضعين: الموصوف وأول المتضايفين فهما يكسران، وذلك يعرفه من ألم اقل إلمام بهذه اللغة، فمن اجل ذلك كان كسر كلمة الشاه واجبا. . . ويظهر أن لهذا المآخذ شاناً خاصاً إذ كان هجوما فانتصارا من اعزل مثلي (لم يجلس إلى معلم الفارسية إلا شهراً أو شهرين) على عالم جليل يفوق أهل اللغة علما

ص: 69

بأسرارها. فهذا ما حدا بصديقه الأستاذ الزيات إلى تخطيه التقليد الواجب في مثل هذا المقام) اهـ

وأقول إن للكتاب محنا، واشدها على أنفسهم أن يضطروا إلى الجدل في الصغائر وان يرجعوا القهقرى إلى عهد الكتاب

إن تفسير مرو الشاهجان بما فسره الأستاذ منقول من معجم البلدان، وقد قرأته منذ أمد بعيد وعددته من هذيان ياقوت في تفسير أسماء البلدان. كالذي يقوله عامة مصر في تفسير الفيوم بألف يوم، والبدرشين بقول يوسف الصديق حين رأى زليخا عجوزاً: اصبح البدر شينا الخ

والصواب: أن مرو الشاهجان تعريب مرو شاهكان، أي مرو الشاهية. وتفسير هذا لا يفهمه من درس الفارسية شهراً أو شهرين

ولو سلمت للأستاذ هذه الخرافة ما بلغت به غايته، فمن (ألم اقل إلمام) بالفارسية يعلم أن القاعدة التي ذكرها الأستاذ غلط. ولو انه (جلس إلى معلم الفارسية شهراً أو شهرين) لعرف أن المضاف إذا تقدم يكسر، فإذا عكست الإضافة وتقدم المضاف إليه لم يكسر، مثل عالمشاه وجهانشاه وخوانسلار وهلم جرا.

ومقتضى خرافة ياقوت التي تبعه فيها الأستاذ أن شاهجان معناه روح الملك فالمضاف إليه مقدم، فيجب أن يقال: شاهجان باسكان الهاء، وهذا الضبط مروي أيضاً.

هذا جدال الأستاذ في الفارسية، فلننظر أكان أقوم رأياً فيما يرجع إلى العربية وآدابها والإسلام وتاريخه

2 -

في ص29 ج2 من المعجم: (لأن المهلبي مات بعمان) وفي الحاشية: عمان بلد في أطراف الشام. قلت الصواب: عُمان، لأني اعرف من تاريخ المهلبي انه مات بعُمان لا بعَمان. فانظر كيف يجادل الأستاذ. يقول: يفهم من كلامي أني لا اعرف أن في الشام بلدا اسمه عُمان. كأن اشتغالي بأمور المسلمين والعرب التاريخية والحاضرة، وذهابي إلى الشام ثماني مرات لم يعرفاني أن في الشام بلداً اسمه عمان. . . الخ. والحمد لله على أن أحداً غيره لم يفهم هذا من كلامي. ثم يقول:(فيثبت بواسع علمه أن المهلبي إنما مات بالتي على الخليج الفارسي (عُمان) ولم يمت بالتي في الشام، فإما مجرد التخطئة في الضبط فليس فيها

ص: 70

إقناع مادام للبلدين وجود في العالم العربي الذي كان المهلبي يتولى الوزارة فيه) اهـ

يا أستاذ! المهلبي مات بعُمان، ولا يحتاج إدراك هذا إلى علم واسع فأقرا ترجمة المهلبي في معجم الأدباء نفسه لتعرف أين مات الرجل. كيف وأمامنا النص القاطع نقول أن المهلبي كان وزيراً في البلاد العربية فجائز أن يكون مات في كل بلد عربي؟ ولو لم نعرف بالنص أن الرجل مات بعُمان أو عمان لرجحنا الأولى، لأنا نعلم أن المهلبي كان وزيراً لمعز الدولة بن بويه، وبنو بويه لم يمتد سلطانهم على عمان قط. أرايت أيها الأستاذ أن الزيات نصحك ولم يغشك حين أشار عليك بالعدول عن الجدال في هذا؟

3 -

جاء في الكتاب: (وأنفذت لشكرستان صاحبي الخ) فقلت الصواب لشكرستان، فوقف الأستاذ موقف الحكم يخطئ الناشر والناقد في ناحية ويصوب رأيهما في أخرى - ولو عرف أن الشكرستان هنا اسم رجل لا مكان لأراح نفسه من هذا العناء. فليخطئ نفسه ويسترح

4 -

ورد في الكتاب السري الرفاء - فقلت الصواب تشديد الفاء. فقال الأستاذ إن المؤاخذة بهذه الشدة: (شدة متناهية) وان الذنب في هذا على المطبعة - وأنا أقول لولا أن الناشرين التزموا الشكل في كل حرف لما أخذتهم بهذا، وقد شكلوا حروف الرفاء كلها فشددوا الراء وفتحوا الفاء عبثاً. فلم يكن بد من أن أظن أن تخفيف الفاء مقصود. لأن من يشكل ما لا يحتاج إلى شكل لا يترك ما يحتاج إليه إلا عمداً

5 -

وجاء في الكتاب من رسالة الخوارزمي إلى البديع: (ففيهم لعمري فوق ما وصف حسن عشرة وسداد طريقة وجمال تفصيل وجملة) فقلت الصواب أن ينصب حسن وما عطف عليه على إنها تمييز - فقال الأستاذ ما قال: ورماني بأني لم أدرك ما تقضي به بدائة النحو

والأستاذ في هذا مليم ومعذور؛ مليم بما حسبني قرأت الجملة كما قرأها فلم اهتد إلى أن (فيهم) خبر مقدم و (جمال) مبتدأ مؤخر. وكان عليه أن يفرض أن لي وراء هذه البدائة النحوية نظراً دقيقاً في الجملة عدل بي عن رفع الكلمات إلى نصبها، وكان عليه إذ لم يبن له قصدي أن يستوضحني ثم يجادل. وأما انه معذور فلأني لم اكتب الجملة كلها مصححة وكان يلزمني أن أعيدها كلها على هذه الشاكلة:(فهم فوق ما وصف حسن عشرة الخ) ولكن

ص: 71

حرصي عل الإيجاز في نقدي كله أفاتني هذا البيان

وانظر ما الذي دعاني إلى تخطئة الجملة كما ضبطت في الكتاب: لو أني اكتفيت بقراءة الجملة وحدها أو قراءة رسالة الخوارزمي كلها لما أدركت السقم في هذه العبارة، ولكن قرأت رسالة البديع التي أجاب عنها الخوارزمي فأدركت الخطأ والصواب. وبيان هذا أن البديع كتب إلى الخوارزمي ينقم عليه سوء لقائه ويصف قومه في همذان بأوصاف هي في مضمونها حسن العشرة وسداد الطريقة الخ. وأجابه الخوارزمي معترفا بان قوم البديع أو أهل همذان فيهم هذه الأوصاف: حسن عشرة الخ فلا يمكن أن يكون معنى جملة الخوارزمي: إن قومك فيهم فوق ما وصفت: حسن عشرة الخ لان هذه الأوصاف ليست زائدة على ما وصف البديع، بل هي خلاصة وصفه، ويجب أن يكون مراد الخوارزمي أن القوم فيهم من حسن العشرة الخ فوق ما وصف البديع، وهذا لا يستقيم مع الجملة التي في الكتاب فالصواب ما رأيت. ويؤيد هذا رواية رسائل البديع المطبوعة في بيروت: فإما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف حسن عشرة وسداد طريق الخ)

فهل يرى الأستاذ بعد هذا إنها غفلة عن بدائه النحو أو نظر دقيق وراء النحو والصرف لا يدركه إلا الموفقون لإدراك دقائق البيان؟

6 -

جاء في الكتاب (وكان مفتياً في علوم شتى) قلت: الصواب متفنناً. وقال الأستاذ مفتنا. فقد وافقني على خطأ الكتاب. وأنا افرض أن مفتنا أصح من متفنن. ولكنا نبحث عن عبارة ياقوت، وهو قد استعمل (متفننا) في مواضع منها ما في ص238 ج2: وهو شاب فاضل بارع متفنن) وقد استعملها الناشرون أنفسهم فقالوا: (كان غزير الفضل متفننا في العلوم (ص107) فان ادعى إنها حيث وجدت في الكتاب محرفة عن مفتن فليؤاخذ بها الناشرين حيثما وجدها

وبعد فإني احمد للأستاذ غيرته في المجادلة عما يظنه صواباً، ولكني أود أن يتثبت ويتهم ظنه كثيراً وأن يجادل للحق لا طلباً للزلفى عند الناس. ثم أقول له خاتماً: أن أربأ بالأستاذ وبنفسي وبالقراء عن مثل ما جادل به في مرو الشاهجان، وعّمان، ولشكرستان الخ، فان عاد إلى المجادلة في أمثالها فليعذرني إذا لم يظفر مني بجواب وحسبي ما أضعت من وقتي في جداله

ص: 72

ثم أعود إلى المعجم، منجزاً ما وعدت به من نقد تعليق الناشرين على الجزء الثاني:

سأتجاوز عن شرح البديهيات مثل السخط: ضد الرضا. والعواقب: جمع عاقبة آخر كل شيء. وسأترك شرح الفصول فان الناشرين يقولون إنا نريد أن نوضح الواضح وان نستطرد لإفادة القارئ كما يستطرد صاحبا الكامل والأمالي ولكل وجهة

ثم أعدد المآخذ الآتية:

ص30 - قول الصابي:

قُلّدتُ ديوان الرسائل فانظروا

أعدلت في لفظي عن التسديد

أعلىّ رفع حسابَ ما أنشأُته

فأقيم فيه أدلتي وشهودي

وفي الحاشية: (في هذا البيت لبس. ولعل حساب منونة منعت من الصرف للضرورة وتكون ما نافية والمعنى حساب ما أنشأته أو أن الأصل ما أنشيه) وليس في البيت لبس ولا ضرورة. وحساب مضاف إلى ما أي حساب الذي أنشأته. والمعنى أيلزمني أن أرفع إليكم حساب منشآتي كما يرفع صاحب الخراج حسابه الخ

ص38 - الكنف: الظل. وهذا تفسير مضلل للقارئ الذي فرضنا انه في حاجة إلى إيضاح الواضح. والتجوز لا يسوغ هذا الشرح، بل الكنف الجانب والناحية الخ

ص40 - (فتبعني بعض حجابه وعدل بي إلى البيت من داره) وفي الحاشية: عدل إلى الشيء رجع. وهذا تفسير إن صح في بعض الاستعمال لا يصح لتفسير الكلمة هنا. فهي هنا بمعنى مال وحاد

ص69 - العذار الشعر المتدلي بجانب الأذن؛ وهذا غلط. فالشعر المتدلي لا يسمى عذارا، وإنما هو الشعر النابت على جانبي الوجه

ص73 - الحائن: الأحمق. والذي نعرفه أن الحائن اسم فاعل من الحين أي الهلاك

ص74 - قول الصابي في وصف البق:

أحاط بي عسكر للبق ذو لجب

ما فيه إلا شجاع فاتك بطل

في الحاشية: اللجب الصوت والجلبة. ما عهدنا للبق لجبا، وإنما ذلك للبعوض اهـ. أقول البق هو البعوض. ولا يعرف البعوض في العراق اليوم إلا بهذا الاسم

ص89 - الشريحة كل قطعة من اللحم - والصواب القطعة المرفقة من اللحم

ص: 73

ص90 - الجمار الجزء الأبيض من طلع النخل - والجمار ليس من الطلع وإنما هو قلب النخلة أو شحمها كما يقول اللغويون وأسال أي عامي في مصر عن الجمار

ص107 - ذكر اسم الصابي في المتن. فأثبت الشارح في الحاشية ترجمته في خمسة اسطر. وقد مضت قبل عشر صفحات ترجمة الصابي في أربع وستين صفحة - كأن الشارح لا علم له بما مضى في الكتاب - وفي الحاشية نفسها ترجمة للصاحب بن عباد في ثمانية اسطر وستأتي ترجمته في خمس وأربعين ومائة صفحة

وفي حاشية ص161 ترجمة لبديع الزمان مختصرة من بن خلكان. وفي الصفحة نفسها تبتدئ ترجمة البديع في متن الكتاب وتستغرق إحدى وأربعين صفحة

فليت شعري لم هذا العبث؟ أما كان يمكن إحالة القارئ على التراجم المطولة في أماكنها؟

ص184 - (وإنما يشتغل بالجل من لا يعرف قيمة الخيل) وفي الحاشية الجل: السرج. وهذا غلط واضح إنما الجل ما تلبسه الدابة ليصونها من برد أو حر

ص185 - البارح الريح الحارة في الصيف تأتي من قبل اليمين، ولست ادري ما معنى اليمين هنا؟ هل المراد أن هذه الريح تدور مع الشخص كيفما دار فتأتيه عن يمينه؟ أظن في هذا لبساً بين البارح من الرياح والبارح من الحيوان

ص205 - (تكريت: بلدة مشهورة. . . ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة غربيها) وهذا وصف تكريت في الزمن القديم وكان ينبغي أن توصف تكريت الحاضرة أو يقال: كانت الخ ولا يجوز أن توصف بلاد قائمة بأوصاف زالت عنها، وليس في تكريت اليوم قلعة حصينة في طرفها الأعلى

ص277 - في الكلام عن بعض الوزراء: (فكانت له أفعال منكرة منها انه استدعى العيارين وضمنهم ما يسرقونه من أموال الناس). وفي الحاشية: ضمنه الشيء كفله به والزمه إياه اهـ وهذا تفسير لا يصلح هنا. فلو أن هذا الوزير الزم العيارين ما يسرقونه ما كان هذا فعلا منكراً بل التضمين هنا معناه أن الوزير اتفق مع العيارين على أن يؤدوا ما لا معينا مقابل ما يكسبون بالسرقة. كما يؤدي العامل مالاً عن ارض أو غيرها. وهذا من الوزير إقرار للعيارين على أعمالهم. ومن اجل هذا كان عملاً منكراً

وبعد فلست أستطيع إحصاء أغلاط الكتاب وتحريفاته، ولا تبيين مساوئ الترتيب في

ص: 74

التراجم، والتهاون في تنسيق المتن، وحسبي أن دللت على العيب، ودعوت إلى تداركه. وقد رأيت في الأجزاء 3، 4، 5، 6 مثل ما في الأول والثاني من الأغلاط. فسأنتظر حتى تظهر الأجزاء التي طبعت بعد هذا النقد، فان ألفيتها كما أود فذلك مقصدي. وإن كانت كأخواتها أديت حقها من النقد حتى يقوم الأود. والخير أريد، وما توفيقي إلا بالله

عبد الوهاب عزام

ص: 75

‌العالم المسرحي والسينمائي

على ستار سينما رويال

نشيد الأمل

إنتاج شركة أفلام الشرق وإخراج أحمد بدرخان

ظهرت كلمة (النهاية) على شاشة سينما رويال فكانت إيذاناً بانتهاء عرض فيلم نشيد الأمل، فضج الناس بالتصفيق وتطلعوا إلى الشرفة حيث تجلس الآنسة أم كلثوم بطلة الفلم وجعلوا يهتفون بحرارة فلقد أخذتهم بتمثيلها، وسحرتهم بصوتها العذب البارع، ولم أغادر مقعدي وجلست قليلاً في مكاني فمر بي خاطر عجيب وقلت لنفسي:(ترى هل كان يظهر الفلم على هذه الصورة وينال هذا النجاح لو لم تنشئ شركة مصر للتمثيل والسينما أستوديو مصر العظيم؟)

الحق أن هذا الفلم الهائل إذا كان يدين ببعض النجاح لمواهب بطلته، فهو يدين أولاً إلى رجل مصر العظيم طلعت حرب باشا الذي أنشأ شركة مصر للتمثيل والسينما وأقام ذلك الاستديو الكامل المعدات الذي عرض لنا الفلم بعض معداته

ولقد كان لرجل الاستديو النصيب الأكبر من إعداد الفلم حتى المدير الفني (أو المخرج كما يسمى في مصر خطأ) كان مبعوث شركة مصر إلى فرنسا لدراسة السينما، فهو معدود من رجال الأستوديو وإن كان قد بعد عنه لظروف خاصة. فلولا الأستوديو لما ظهر الفلم في هذه الصورة، ولولا طلعت حرب لما أقيم الاستديو

نجح الفلم نجاحاً كبيراً، ما في هذا شك، وهذه باكورة مباركة لشركة أفلام الشرق في أول أعماله، وجزاء طيب للجهود الجبارة التي بذلها الأساتذة عبد الله فكري أباظة ومحمد شتا وعبد الحليم محمود كما هو توفيق عظيم يستقبل به صديقنا الأستاذ احمد بدرخان أول أعماله الفنية التي نرجو لها الاتصال ودوام التوفيق

ملخص السيناريو

قبل أن أتحدث عن نواحي الفلم المتعددة أرى من الخير أن أبدأ بتلخيص القصة أو السيناريو حتى يتفهم قولي من لم يسعدهم الحظ بشهود الفلم بعد

ص: 76

فآمال فتاة منكودة الحظ كان من قسوة الحياة عليها أن تزوجت من رجل غوي يدعى إسماعيل كان بين عصابة تعمل لترويج المخدرات. وأهمل الزوج امرأته وابنته سلوى وتركهما يعانيان الآم الفاقة، حتى انتاب الصغيرة المسكينة المرض ولم تجد ما تقتات به. ولم يكن الزوج يكتفي بهذا بل كان ينتهز الفرص ليقتنص بعض المال مما ينال زوجه من نصيب لها في وقف

ظلت هذه الحال تلازم (آمال) وازدادت حالة الصغيرة سلوى سوءاً لولا عناية الله إذا أرسل الدكتور عاصم وهو طبيب كريم الخلق طيب القلب، فتولى معالجة ابنتها وكان يغمر الأم بحنانه وكرمه

وجاء الدكتور يوماً لزيارتها فسمعها تنشد لطفلتها نشيداً عذباً تحتال به على انامتها، فأعجب برخام صوتها. وطلبت آمال من الدكتور أن يعاونها في الحياة بان يجد لها عملاً شريفاً يساعدها على كسب قوتها كممرضة مثلاً، ولكن عاصما يشير عليها باستغلال ما وهبها الله من صوت ملائكي فتتردد أولاً ثم تقبل أخيراً. ويتعهدها الدكتور بأكبر أساتذة يلقنونها فن الموسيقى والغناء كما يمهد لها الطريق للظهور أمام الجماهير ويقوم للدعاية لها بين أصدقائه ومعارفه

وكانت الحفلة الأولى لها فنجحت نجاحاً هائلاً وحالفها الحظ، فخطت خطوات واسعة وارتقت درجات الشهرة، وصارت قبلة عشاق الموسيقى والطرب، وكان بين المرضى الذين يعالجهم الدكتور عاصم مخرج سينمائي يشكو اضطراب الأعصاب، فأخذه عاصم ليسمع (آمال) في حفلة طلبة الجامعة، فيعجب المخرج بها، ويختارها بطلة لفلم التضحية الذي يتولى إخراجه

وعاد الدهر يناوئ (آمال) فبعث لها زوجها السابق يرهقها بطلب المال، فأمرته ألا يتردد على بيتها وأن يلازم داره وهي تمر عليه لتناوله ما تجود به نفسها

وتوثقت عرى الصداقة بين عاصم وآمال، وأخيراً كتب لها يكاشفها بحبه، ويعرض عليها الزواج فتسر وتقبل، وينتظر الاثنان حتى ينتهي عملها في الفيلم ويحتفلا بالزواج. ويحدث أن الممثل الأول في الفلم يتودد إلى آمال فتصده، ويتابعها يوماً فيراها تدخل البيت الحقير الذي يقطنه إسماعيل، فيسرع بالكتابة إلى عاصم يقول له إن آمال تخونه

ص: 77

وتحل الوقيعة بين الحبيبين بعد أن يتهمها بالخيانة، ولا يحتمل عاصم الصدمة فيرحل إلى أوربا، ويخرج إسماعيل لها يرهقها بطلباته، فلما رأى إنها لا تهتم له كثيرا يعمل على كيدها بانتزاع فلذة كبدها (سلوى) فيستصدر حكما شرعياً بحضانة ابنته بحجة أن أمها تحترف الغناء. وهكذا تفقد حبيبها وتنتزع طفلتها المسكينة من أحضانها

ولم ينقطع إسماعيل بعد هذا عن إرهاقها، فذهب إليها في الاستديو فأمهلته قليلاً، وأشارت إلى أحد موظفي الاستديو باستدعاء رجال الشرطة، ويعرف إسماعيل بهذا فيثور ويقرر الانتقام منها، ويستمر العمل في التقاط صور الفلم، ويكون من نصيب ممثل الدور الأول أن يطلق مسدسه على آمال، فينتهز إسماعيل الفرصة ويطلق في نفس الوقت رصاصة حقيقية من مسدسه فتسقط مضرجة بالدماء

ويصل رجال الشرطة، وتقوم معركة بينهم وبين إسماعيل تنتهي بموته كما يقع بقية زملائه المهربين في أيدي الشرطة وتسعف آمال بالعلاج، ويتولى العناية بها الدكتور محبوب صديق عاصم، فيعرف الحقيقة كلها ويكتب بها إلى عاصم

وتشفى آمال، وتحضر حفلة العرض الأول لفلم التضحية الذي ينال اكبر النجاح، ويتوافد الناس على بيتها يهتفون لها، ويجيء لتهنئتها المخرج والدكتور محبوب ومعهما الدكتور عاصم، ويلتقي الحبيبان ثانية

إن أول ما يذكر لرجال شركة أفلام الشرق انهم لم يسيروا وراء غيرهم من الشركات الأخرى فيختارون قصصاً مضطربة ضنا على المؤلف الأديب ببعض المال وإنما اختاروا قصة من تأليف شاب مثقف هو صديقنا ادمون تويما واقتبسوا منها قصة سينمائية، ولهذا فان الوقائع كانت تسير سيراً منتظماً وتتتابع تتابعاً طبيعياً من غير تعسف ولا شطط

وقد يرى القارئ أن القصة لا ترمي إلى غرض سام أو فكرة نبيلة ولكن ليس من الضروري أن يقوم الفلم على فكرة من هذا النوع؛ ولقد شاهدنا الكثير من الأفلام الأمريكية والأوربية تنال اكبر النجاح وهي لا تقوم إلا على فكرة بسيطة، أو قل إن في بعضها ما تنعدم فيه الفكرة؛ وإنما يكفي الفلم انه يصور ناحية مصرية وينقد ناحية خاصة في أخلاقنا وأحكامنا، ويسير في طريق طبيعي دون أن يشعر المشاهد أن هنالك ثغرة في الوقائع أو قطيعة في التسلسل تجعل المشاهد يصحو إلى نفسه من سحر المنظر، فيفسد خياله وينحى

ص: 78

باللوم على الشركة والممثلين والمدير الفني

اكتفي الآن بهذا القدر وسأتم الحديث في العدد القادم

يوسف

ص: 79