المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 186 - بتاريخ: 25 - 01 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٨٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 186

- بتاريخ: 25 - 01 - 1937

ص: -1

‌محضر جلسة

للأستاذ احمد أمين

تذاكر جماعة - من ذوي الرأي - في الأدب العربي وحاجته إلى الإصلاح، وفيما له من ثروة قديمة تحتاج إلى الإحياء، واقترحوا أن يكونوا جمعية للأخذ بناصر الأدب والنشر ذخائره؛ وكان من بينهم من ينتسب إلى الجامعة الأزهرية، ومن ينتسب إلى الجامعة المصرية، ومن ينتسب إلى المجمع اللغوي، ومن هو عضو في لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومن يتصل بدار الكتب، وغيرهم؛ وصحت عزيمتهم على ذلك، وعهدوا إلى أحدهم بوضع مشروع قانون للجمعية يحدد غرضها، ويوضح نهجها، واختاروا يوم 15 ديسمبر سنة 1936 الساعة الخامسة بعد الظهر لقراءة المشروع.

فلما حان الموعد حضر واحد فقط، وخيل إليه انه اخطأ اليوم، أو اخطأ الساعة، أو اخطأ المكان، فأعاد قراءة الدعوة فإذا كل شيء من الزمان والمكان صحيح. وبعد ربع ساعة حضر آخر، فتبادلا العجب من عدم حضور الأعضاء في الموعد.

واخذ من تأخر يلقي محاضرة قيمة في المحافظة على الزمن، وكيف هي عند الإنجليز والفرنسيس والألمان، وما جرى له من أحداث في هذا الباب أيام كان في أوربا، وحاجة المصريين إلى معرفة قيمة الزمن؛ وقد استغرقت محاضرته القيمة ربع ساعة كان قد حضر في أثنائه عضوان آخران فاشتركوا جميعاً في الحديث عن قيمة الوقت، وكل يروي نادرة في هذا الموضوع طريفة، وقصة ممتعة؛ وتختم النادرة أو القصة بضحكات عالية يدوي بها المكان، وتتخلل الضحكات تعليقات على ما يروى تسلسل الضحك وتتابع الفكاهة.

ولا أطيل عليك، فقد تم اجتماع اغلب الأعضاء في الساعة السادسة والنصف، وقد اعتذر بعضهم بزيارة صديق له عند خروجه، وآخر بتعطيل الترام له، وثالث بان من عادته أن ينام بعد الظهر وقد طال على غير عادته، ورابع بأنه نسي الموعد لولا إنه لقي فلاناً مصادفة فذكره به.

اخذوا يتناقشون في هل يختارون رئيساً للجلسة حتى يتم القانون؟ انحاز إلى هذا الرأي فريق، لأنه لا بد لكل جلسة من رئيس يدير المناقشة ويأخذ الأصوات؛ وعارض فريق بحجة أننا نريد أن نكون ديمقراطيين لا رئيس ولا مرءوس، وانه حتى بعد إن يتم القانون

ص: 1

لا حاجة لنا إلى رئيس، فكلنا سواسية في الرأي، ويكفي أن يكون للجلسة (ناموس) يدون الآراء ويأخذ الأصوات.

ولا أطيل عليك أيضاً فقد وافت الساعة السابعة والجدل على اشده في هذا الموضوع الخطير، وعند تمام الساعة السابعة والنصف انتصر الفريق الأول فكان لا بد من رئيس.

ولكن عرضت مشكلة أخرى اخطر من الأولى: هل يختار الرئيس بالسن أو بالاقتراع السري؟ قال قوم بهذا، وقال قوم بذاك، وكاد يحتدم الجدل على نمط المسألة الأولى لولا إن أحد الحاضرين قال: اختار فلاناً ليدير هذه الجلسة، فخجل الآخرون إن يطعنوا في هذا الاختيار، فسكتوا وكفى الله المؤمنين القتال.

وطلب من المقرر أن يقرأ المادة الأولى فقرأها، ونصها:(أنشئت بمدينة القاهرة جمعية تسمى جمعية إحياء الأدب العربي)

- أ -: هل يقال: (أنشئت) أو (تنشأ)؟ أظن إن الأصح إن يقال: (تنشأ)، لان الجمعية لم تتكون بعد، فكيف يعبر بالماضي فيقال أنشئت؟

- ب: هذا رأي في محله، لان إنشاء الجمعية مستقبل، والذي وضع للدلالة على المستقبل هو الفعل المضارع والأمر لا الفعل الماضي. فإذا قلنا أنشئت دل على أنها تكونت في الزمن الماضي، وليس ذلك بصحيح.

- جـ: الفرض في القانون إن يوضع في شكل يدل على إن الجمعية أقرته، فواضع القانون فرض إن الجمعية اجتمعت وأقرت القانون وألبسته ثوبه النهائي، ولذلك يوضع في صيغة الماضي.

- د: وأمثال ذلك كثيرة، فكاتب العقود يقول:(في تاريخه أدناه قد باع فلان لفلان كذا) ثم يمضي البائع والمشتري العقد؛ وقبل الإمضاء كان البيع مستقبلاً، ومع ذلك عبر عنه بالماضي.

- هـ: ومع هذا فلم تذهبون بعيداً؟ والماضي يستعمل في المستقبل كما قال تعإلى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) فأمر الله هو يوم القيامة وهو لم يأت بعد، وإنما عبر عنه بالماضي للإيذان بأنه أمر محقق، أو للتنبيه على قرب مجيئه، فهنا كذلك، لما كان تكوين الجمعية محققاً إن شاء الله أو قريب الوقوع يعبر عنه بالماضي على سبيل المجاز.

ص: 2

- و: الأمر ابسط من هذا كله، فإذا قلنا (أنشئت) أو (تنشأ) لا يترتب على ذلك ضرر، وهو لا يقدم الجمعية ولا يؤخرها؛ إنما ينهض بالجمعية عملها في تحقيق غرضها، فإذا حققته لا يضرها أنشئت أو تنشأ، وإذا لم تحققه لا ينفعها أنشئت أو تنشأ.

- أ (محتداً): ولكننا نجتمع لإحياء الأدب العربي فاقل ما يجب علينا أن تكون عبارتنا صحيحة لفظاً ومعنى، نحواً وبلاغة، وإلا أعطينا مثلاً سيئاً لإحياء الأدب العربي.

- الرئيس: أظن أن الأمر وضح؛ فلنأخذ الآراء على (أنشئت) أو (تنشأ).

- ز: لكن بقيت مسألة: أليست (تكونت) خيراً من (أنشئت) لان الإنشاء في اللغة هو الخلق، والخلق يكون من العدم، وليست أفراد الجمعية معدومين حتى يقال فيها أنشئت؛ إنما هي موجودة مفرقة، فهي تتجمع وتتكون لا تنشأ.

- أ: ومن قال إن التكوين لا يكون من العدم؟ ففي كتب المتكلمين (إن التكوين إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود) وفي التوراة سفر اسمه سفر التكوين وفيه حكاية خلق العالم، والعالم قد خلقه الله من العدم.

(أراد (ز) أن يرد عليه فقاطعه الرئيس واخذ منه الكلمة)

- الرئيس: (في شيء من الضجر): أرى أن نكتفي بهذه المناقشة في هذا الموضوع ونأخذ الأصوات على ما يأتي: هل نقول أنشئت أو تنشأ، أو تكونت أو تتكون؟

- أ: لا، بل نأخذ الرأي - أولاً - على أن تصاغ الكلمة من مادة الإنشاء أو من مادة التكوين، وبعد ذلك نأخذ الرأي هل نعبر بالماضي أو المضارع.

- الرئيس: وهو كذلك.

(آخذت الآراء - أولاً - فكانت الأغلبية في جانب مادة الإنشاء؛ ثم أخذت - ثانياً - فخرجت الأغلبية في جانب أنشئت.

- الرئيس: إذن ننتقل إلى المادة الثانية.

- أ: التعبير (بإحياء الأدب العربي)، فان هذا التعبير لا اقبله، واحتج عليه بكل قوتي؛ فانه يدل على أن الأدب العربي ميت ونحن نريد إحياءه، فهل كان الأدب العربي ميتاً؟ انه حي، وكان حياً في العصور الماضية وسوف يبقى حياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكيف نقول إن الأدب العربي قد مات وعلى رأسه القرآن الكريم وقد قال الله تعإلى فيه:

ص: 3

(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). إن الأدب العربي حي، وكل ما نريد أن تعمله الجمعية أو تنظمه أو تنشر كتبه القديمة. فأما لفظ الإحياء فلا؛ وأنا أنذركم أنكم إذا أصررتم على لفظ الإحياء انسحبت من الجمعية.

هنا ساد المجلس صمت رهيب.

- جـ تشجع وقال: في الواقع إن المسألة لا تحتاج إلى كل هذا، فلفظ الإحياء لا يدل على سبق الموت؛ ألا ترى يا أستاذ.

- أ: إن الغزالي سمى كتابه الكبير (إحياء علوم الدين) فهل كانت علوم الدين قبله ميتة؟ كلا إنما أصابها نوع من الركود والجمود، فأراد الغزالي أن يزيل عنها ركودها وجمودها، وان يعرضها عرضاً جديداً يتفق وذوق عصره؛ ولم يقل أحد إن الغزالي صبأ أو كفر أو تزندق بتسمية كتابه هذا الاسم. وموقفنا الآن من الأدب العربي هو موقف الغزالي من علوم الدين؛ نريد إن ننهض الأدب ونعرضه في شكل حديث يتفق وأذواق الناس في هذا العصر.

- د: وأيضاً فان الإحياء ترجمة لكلمة (رينسنس) وقد استعملها الفرنج للدلالة على حركة النهضة العقلية في أوربا وبعث المدنية من رقدتها، والمعنى الحرفي لهذه الكلمة:(الولادة من جديد) فاختار الكتاب المحدثون كلمة الإحياء للدلالة على ذلك.

- الرئيس: نأخذ الأصوات على بقاء كلمة (إحياء الأدب العربي) أو تغييرها.

- أ، هـ، ي (في نفس واحد): لا! المناقشة لم تستوف بعد.

- الرئيس: الساعة الآن التاسعة فلنؤجل المناقشة إلى الجلسة المقبلة.

- الجميع: موافقون.

قال صاحبي: ومتى تنتهي قراءة القانون:

قلت: في المشمش. .!

أحمد أمين

ص: 4

‌في النسيان

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أعوذ بالله من قولة (أنا)؛ ولكني مصاب بنفسي وهذا عذري، وشر ما أصبت به منها النسيان؛ وحسبك به بلاء عظيماً. وقد صرت بفضله - أو من جرائه - امرأ له الساعة التي هو فيها، فأعفيت من الهموم كما أعفيت من اللذاذات أو المسرات ومن ذكرياتها الحلوة. ولا آسف على ذلك فقد تكافأ الربح والخسارة. ولو أراحني الناس كما أراحتني نفسي لتمت لي السعادة في هذه الدنيا الدنية. ويبلغ من نسياني إني أكون ذاهباً إلى فراشي في الليل فأراني اقف أمام السرير متردداً حائراً لا ادري ماذا جاء بي إلى هنا. . أهي علبة السجائر، أم أريد المعطف أو العباءة؟ هذا في الشتاء - أم ماذا يا ترى؟ ثم استخير الله وأقول لنفسي:(نم يا شيخ وأرح نفسك من عناء المحاولة فما فيها فائدة).

وارقد على فراشي، فتدور في نفسي معان وتتمثل لذهني صور أتعلق منها بما يروقني فاغمض عيني - وقد قرت - وأقول إن شاء الله في الصباح اكتب الفصل أو ارسم الصورة أو أقص القصة. . واقرأ الفاتحة للموتى وآية الكرسي ليحفظني الله من العين وأنام. . ويطلع الصبح فاستيقظ مع الدجاج فإذا بي قد نسيت كل شيء، وإذا بالصور والمعاني قد مسحت بقدرة ربك من اللوح ولم يبق منها ولا اثر ضئيل يدل عليها ويهدي إليها، ويساعد على رجع ما ولى منها، فأتعزى بان الذي لا أجده لا يزال هناك وانه غاب ولكنه لم يمح، وقد تنتعش الذاكرة فجأة فيطفو ما رسب.

ويتفق أن اقف أمام المرآة لأسرح شعري أو أسوي ربطة الرقبة أو افعل غير ذلك من الشؤون التي تحوج في العادة إلى المرايا - وان كنت أنا أستطيع ذلك كله بغير معونتها - حتى إذا صرت أمامها وقفت متعجباً متسائلاً: (لماذا يا ترى انظر في المرآة؟) وارفع يدي إلى جبيني وافركه وأحاول أن أتذكر، ولكن الأمر يعييني فأهز رأسي وامضي لشأني.

وأقول وأنا ماض إلى عملي اليومي: إني سأكتب كيت وكيت، ويشغلني ذلك طول الطريق، واصعد إلى مكتبي والتقي بإخواني وزملائي ويجر اللقاء إلى التحدث في أمور شتى من عامة وخاصة، حتى إذا خلا المكان وتناولت القلم وأقمت سنه على الورقة رأيتني أتساءل: في أي شيء كنت أنوي أن أكتب يا ترى؟. وكيف أمكن أن أنسى بهذه السرعة العجيبة وقد

ص: 5

كنت مشغولاً به طول الطرق؟. وأحتاج أن أبحث عن موضوع آخر. . ومن يدري. . فقد يكون الموضوع الذي أهتدي إليه بعد العناء هو بعينه الذي نسيته وأنا أحسبه غيره.

ومن كثرة نسياني تحتاج الخادمة أن تحاسبني كلما هممت بالدخول أو الخروج، فأني أفقد مناديلي لأني أنسى أين أتركها، أو القيها ولا أذكر ماذا صنعت بها، وزوجتي تعدها مسئولة عن هذه المناديل التي لا ينتهي الخلاف عليها ولا ينقطع الجدال من جرائها. فأنا أزعم أني تركتها حيث ينبغي أن تترك هذه الأشياء، والخادمة تنفي ذلك وتؤكد أني لم أفعل - بأدب طبعاً - وتقسم أنها عدتها فألفتها ناقصة؛ وزوجتي تحدق في وجهي وتسألني: هل أكون مستريح الضمير إذا صدقوني؟ ومتى وصل الأمر إلى الضمير والذمة فأنه لا يسعني إلا أن أتردد وأقول بالأرجح والمعقول كأنها قضية منطقية.

فتشير زوجتي إلى الخادمة وتقول: (يكفي. . . اذهبي يا بنت) فتذهب البنت ولكنها تواجهني حين أهم بالخروج وتسألني كم منديلاً معي؟ فأصيح (أوووه). . وهل أنا أعرف؟. سبحان الله العظيم! ألا يمكن أن يستريح المرء في هذا البيت؟. ما معنى هذا التعطيل؟. تنحي من فضلك.

فتقول: (أرجو أن تعدها).

فأقول: (وما الفائدة، ما دامت تضيع. . . . هه) وأخرجها من الجيوب وأعدها وأقول: (ثلاثة) مثلاً.

فترجو ألا أنسى أنها ثلاثة، فأقول:(طيب. طيب).

وتفتح لي الباب وأنا عائد وتسألني عن المناديل، فأخرج ما أحمل منها وأرمي به إليها وأمضي عنها، فتدركني وهي تصيح وتقول:(هذه أربعة. . . من أين جاء الرابع؟).

فأتعجب وأقول: (من أين جاء؟. . ماذا تعنين. . ربما كنت اشتريته).

فتقول: (ألا يمكن أن تكون أخذت منديل صديق وأنت. . . وأنت. . .!)

ويمنعها الأدب والحياء أن تنطق باللفظ فأنوب أنا عنها وأقول (ذاهل. . . أليس كذلك. . . كلا لم يبلغ الأمر هذا الحد. .)

فتلح وتقول: (ولكن من أين جاء إذن؟).

فأقول متململاً: (أووووه. . . إن شكواك لا تنقطع من أن المناديل تنقص وأنت الآن

ص: 6

تزعمين أنها زادت واحداً فاحمدي الله إذن وأريحيني)

ولكني لا أرتاح منها ولا من ستها ولا من الأطفال، ولا أزال أرى من يجري ورائي منهم ويخبرني إني نسيت الجورب أو لبست اثنين مختلفين، أو تركت الطربوش ويوشك أن أخرج برأسي عارياً، إلى آخر هذه التوافه التي لا أعرف لها آخراً.

وأحسب أن نسياني إنما يشتد لأن رأسي لا يخلو من شيء يدور عليه تفكيري ويستغرقني ذلك حتى لأذهل عما عداه؛ وقد كانت أمي - عليها رحمة الله - تتعجب لأمري وتقول لي: (يا بني ما الذي يطير عقلك؟)

فلا يعجبني هذا وأقول معترضاً: (إن عقلي لم يطر. . ثم إن هذا غير معقول. . أم تظنينه حمامة)

فتقول غير عابئة بملاحظتي: (لم يكن أبوك هكذا. . ولا أنا مثلك. . إنك لا تتذكر شيئاً أبداً)

فأقول: (إني من صنعكما - أنت وأبي المحترم - فأين ذنبي بالله؟)

فتقول مستاءة: (لماذا لا تتكلم خيراً؟)

فأقبلها وألثم يدها وأسترضيها وأقول معتذراً: (ماذا أصنع إذا كان ربي قد خلقني هكذا. . . واسع خروق الرأس كالغربال القديم)

فتبتسم وتدعو لي الله أن يرد علي ما غرب من عقلي، فأتقبل دعاءها بالشكر وأمري إلى الله.

والأم تحتمل ابنها وتصبر على ما يكون من ذهوله، ولا تسيء به الظن، وليست هكذا الزوجة فإنها تحمل ذلك على غير محمله، وتؤوله بأنه قلة اكتراث وعدم مبالاة، وأن الرجل لا يفكر فيها ولا يفرض لها وجوداً ولا يقيم لها وزناً إلى آخر هذا الهراء؛ وهي سليمة لا تخونها الذاكرة، فليس في وسعها أن تدرك بلاء النسيان وأن تعذر المنكوب به. ومن العبث أن يقول لها المرء إن كثرة المشاغل هي التي تطير من الرأس كل ما عسى أن يكون فيه. إذن لماذا لا يشغل الرجل بها هي ولا ينسى ما عداها هي. . .؟ هذا هو المشكل

وما دخلت البيت مرة إلا شعرت أني لا بد أن أكون قد نسيت شيئاً أوصتني به زوجتي، فأقول لنفسي:(سترك اللهم. . وعونك أيضاً) وقد أكون مخطئاً ولكن الخطأ لا يمنع الشعور

ص: 7

الثقيل. وكثيراً ما يتفق أن يكون ظني في محله، فلا تكاد ترى وجهي الناطق بتوقع اللوم حتى تبتدرني بقولها:(بالطبع نسيت) فأقول وأنا أتكلف الضحك: (أي والله. . صدقت. . الحق أن فراستك قوية)

فتقول: (وما العمل؟)

فأسال متحرزاً: (في أي شيء؟)

فتقول: (في أن تذكر. . كيف نحملك على التذكر؟)

فأقول: (اربطي لعبة في رجلي فأضطر أن أتذكر كلما سمعت كركرتها)

فتقول: (إني جادة)

فأقول: (نكتب الشيء في ورقة وأضعها في جيبي أو مع الساعة)

فتقول: (وتنساها في جيبك. . وتخرج الساعة فترى الورقة فترميها وأنت ذاهل)

فأقول: (ألبسيني الجاكتة مقلوبة. . أزرارها إلى الخلف)

فتهز رأسها وتقول آسفة (كلا. . لا فائدة. . الأمر لله. . لو كان شيئاً يعالج. . ولكنه مستعص. . لا علاج له).

فأقول متشهداً: (صدقت يا امرأة. . أما والله إنك لمنصفة. . جزاك الله خيراً وقواك على احتمالي)

وأعترف أني كثيراً ما أنتفع بالمعروف المشهور من نسياني، فإذا سألتني عما لا أريد أن أبوح لها به أو أذكر الحقيقة فيه تظاهرت بالبلاهة وقلت:(وهل أنا أعرف؟. وأين العقل الذي يتذكر؟. .)

وما قرأت كتاباً إلا نسيت ما فيه - نسيته جملة وتفصيلاً؛ حتى اسمه واسم كاتبه؛ وقد أعود إليه كأني ما قرأته ولا سمعت به، فهو في كل مرة أعود فيها إليه جديد ولو كنت قرأته عشر مرات؛ وهذا نافع لان فيه اقتصاداً. وكم من كتاب اشتريته ثم نسيت أين وضعته ثم يتفق أن أعثر عليه فأقف مستغرباً متسائلاً: أتراني قرأت هذا الكتاب من قبل. . أم لم أفتحه. . على كل حال. . الأمران سيان. . توكلنا على الله)

وأحسب هذا يجعل العلم والجهل سيين. ولولا أني أعرف أن ما أقرأ لا يضيع وإنما يختفي لأغراني ذلك بالانقطاع عن القراءة لقلة ما يبدو لي من فائدتها المحسوسة.

ص: 8

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 9

‌انتصار الحب

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

كل ما يكتب عن حبيبين، لا يفهم منه بعض ما يفهم من رؤية وجه أحدهما ينظر إلى وجه الآخر.

وما تعرفه العين من العين لا تعرفه بألفاظ، ولكن بأسرار والغليل المتسعّر في دم العاشق، كجنون المجنون يختص برأسه وحده.

وضمة المحب لحبيبه إحساس لا يستعار من صدر آخر، كما لا يستعار المولود لبطن لم يحمله.

وكلمة القبلة التي معناها وضع الفم، لن ينتقل إليها ما تذوقه الشفتان.

ويوم الحب يوم ممدود؛ لا ينتهي في الزمن إلا إذا بدأ يوم السلو في الزمن.

فهل يستطيع الخلق أن يصنعوا حداً يفصل بين وقتين لينتهي أحدهما؟

وهبهم صنعوا السلوان من مادة النصيحة والمنفعة، ومن ألف برهان وبرهان فكيف لهم بالمستحيل، وكيف لهم بوضع السلوان في القلب العاشق؟

وإذا سألت النفس من رقة الحب، فبأي مادة تصنع فيها صلابة الحجر؟

وما هو الحب إلا إظهار الجسم الجميل حاملاً للجسم الآخر كل أسراره، يفهمها وحده فيه وحده؟

وما هو الحب إلا تعلق النفس بالنفس التي لا يملأها غيرها بالإحساس؟

وما هو الحب إلا إشراق النور الذي فيه قوة الحياة كنور الشمس من الشمس وحدها؟

وهل في ذهب الدنيا وملك الدنيا ما يشتري الأسرار، والإحساس، وذلك النور الحي؟

فما هو الحب إلا انه هو الحب؟

ما هو هذا السر في الجمال المعشوق، إلا أن عاشقه يدركه كأنه عقل للعقل؟

وما هو هذا الإدراك إلا انحصار الشعور في جمال متسلط كأنه قلب للقلب؟

وما هو الجمال المتسلط بإنسان على إنسان، إلا ظهور المحبوب كأنه روح للروح؟

ولكن ما هو السر في حب المحبوب دون سواه؟ هنا تقف المسألة وينقطع الجواب.

هنا سر خفي كسر الوحدانية، لأنها وحدانية (أنا وأنت).

ص: 10

ناقشوا الحب؛ فقالوا أصبحت الدنيا دنيا المادة، والروحانية اليوم كالعظام الهرمة لا تكتسي اللحم العاشق.

وقال الحب: لا بل المادة لا قيمة لها في الروح؛ وهذا القلب لن يتحول إلى يد ولا إلى رجل.

ناقشوا الحب؛ فقالوا إن العصر عصر الآلات، والعمل الروحي لا وجود له في الآلة ولا مع الآلة.

قال الحب: لا، يصنع الإنسان ما يشاء، ويبقى القلب دائماً كما صنعه الخالق.

وقالوا: الضعيفان: الحب والدين، والقويان: المال والجاه، فبماذا رد الحب؟

جاء بلؤلؤة روحانية في (مسز سمبسون)؛ ووضع إليها في ميزان المال والجاه اعظم تاج في العالم: تاج إدوارد الثامن (ملك بريطانيا العظمى وإرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وملك - إمبراطور الهند).

وتنافست الروحانية والمادية، فرجع التاج، وما فيه إلا ضعف المعنيين من القلب.

وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في الإعلان، فهز العالم كله هزة صحافية:

الحب. الحب. الحب.

(مسز سمبسون)، تلك الجميلة بنصف جمال، المطلقة مرتين. هذا هو اختيار الحب.

ولكنها المعشوقة؛ وكل معشوقة هي عذراء لحبيبها ولو تزوجت مرتين؛ هذا هو سحر الحب.

ولكنها الفاتنة كل الفتنة، والظريفة كل الظرف، والمرأة كل المرأة؛ هذا هو فعل الحب.

ولكنها العقل للأعصاب المجنونة، والأنس للقلب المستوحش، والنور في ظلمة الكآبة؛ هذا هو حكم الحب.

ومن اجلها يقول ملك إنجلترا للعالم: (لا أستطيع أن أعيش بدون المرأة التي احبها)؛ فهذا هو إعلان الحب. . . . .

إذا أخذوها عنه أخذوها من دمه، فذلك معنى من الذبح.

وإذا انتزعوها انتزعوها من نفسه، فذلك معنى من القتل.

وهل في غيرها هي روح اللهفة التي في قلبه، فيكون المذهب إلى غيرها؟

ص: 11

لكأنهم يسألونه أن يموت موتاً فيه حياة.

وكأنهم يريدون منه إن يجن جنوناً بعقل. . . هذا هو جبروت الحب.

وللسياسة حجج، وعند (مسز سمبسون) حجج، وعند الهوى. .

التاج، الملكية، امرأة مطلقة، امرأة من الشعب، فهذا ما تقوله السياسة.

ولكنها امرأة قلبه، تزوجت مرتين ليكون له فيها إمتاع ثلاث زوجات؛ وهذا ما يقوله الحب.

واللحظة الناعسة، والابتسامة النائمة، والإشارة الحالمة، وكلمة (سيدي). هذا ما يقوله الجمال.

وانتصر الحب على السياسة، وأبى الملك أن يكون كالأم الأرملة في ملك أولادها الكبار. . .

العرش يقبل رجلاً خلفاً من رجل؛ فيكون الثاني كالأول.

والحب لا يقبل امرأة خلفاً من امرأة، فان تكون الثانية كالأولى.

وطارت في العالم هذه الرسالة: (أنا إدوارد الثامن. . أتخلى عن العرش وذريتي من بعدي).

(وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في الإعلان؛ فهز العالم كله هزة صحافية.)

الحب. الحب. الحب.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 12

‌ضوء جديد على مأساة شهيرة

هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟

معترك من الروايات والأساطير المدهشة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في ليلة السابع والعشرين من شوال سنة 411 من الهجرة (13 فبراير سنة 1021م) خرج الحاكم بأمر الله يطوف كعادته في شعب المقطم حيث اعتاد أن يرصد النجوم، ثم لم يعد من جولته قط، ولم يعرف إنسان خبره أو مصيره قط؛ وكل ما عثر عليه بعد ذلك من آثاره، حماره الأشهب وقد وجد معرقباً في طريق حلوان، ثم ثيابه مزررة وبها آثار الطعان في بركة قريبة من حلوان.

بيد إن اختفاء الحاكم تلك الليلة الشهيرة، واجتماع مختلف القرائن والآثار على مصرعه بيد الجناة، لم يكن خاتمة حاسمة لعهده وسيرته وذكراه. اجل أعلنت وفاة الحاكم، وأقيم ولده أبو الحسن على مكانه في كرسي الخلافة، وذلك يوم النحر (10 ذي الحجة سنة 411هـ) لأسابيع قلائل من اختفائه، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله؛ وبدأت الخلافة الفاطمية عهداً جديداً؛ ولكن ذكرى الخليفة الذاهب لبثت تغمر الأفق مدى حين، وتثير في المجتمع مختلف الفروض والأساطير. ذلك أن أدلة الجناية لم تكن واضحة، ولم يقم دليل قاطع على القتل أو الوفاة، ومن جهة أخرى فان الحاكم بأمر الله لم يكن فيما زعموا شخصية عادية يغمرها العدم كما يغمر سائر البشر، وتطوى آثارها من ذلك العالم لتغيض في العالم الآخر بتلك البساطة التي أحاطت باختفائه. ألم يكن الحاكم شخصية خارقة تهيم في الخفاء، وتزعم الاتصال بعوالم الغيب، وترنو إلى مدارك السمو فوق البشر؟ ألم يقدمه الدعاة السريون إلى الناس بأنه (ناطق الزمان) وانه آلة وروح حل في صورة البشر؟ وهل من كانت هذه خواصه ومزاعمه يسري عليه قانون الفناء كما يسري على جميع الناس؟

لقد اجمع معظم الروايات المعاصرة والمتأخرة على إن الحاكم ذهب ضحية المؤامرة والجريمة على اختلاف بينها في مدبري المؤامرة ومرتكبي الجريمة. ومعظمها على إن الذي دبر المؤامرة أخته الأميرة ست الملك، وذلك لما بدا من إسرافه في قتل الزعماء

ص: 13

ورجال الدولة، وما ارتكب من التصرفات العنيفة المتناقضة التي هزت أسس المجتمع وقلبت أوضاعه؛ وأخيراً لما جنح إليه من حماية الدعاة الملاحدة الذين نادوا بألوهيته؛ فهذه الأسباب حسبما تقول الرواية هي التي حملت أخته على تدبير مصرعه اتقاء لنشوب ثورة تودي بالعرش وبتراث الدولة الفاطمية كله؛ أما شريك ست الملك ومنفذ الجريمة، فهو الحسين بن دواس زعيم قبيلة كتامة، وكان يخشى سطوة الحاكم وفتكه؛ وأما القتلة فهم عبيده أو هم جماعة من البدو اعترضوا الحاكم في طريقه ليلة اختفائه بحجة التماس الإحسان والصلة، ورتبهم المتآمرون لقتله؛ أما جثته فقد حملها الجناة إلى أخته فدفنتها في نفس مجلسها: هذا ملخص ما تقوله الرواية في شأن المؤامرة والجريمة.

وهذه الروايات ليست موضوعنا في هذا البحث؛ وهي ليست كل شيء في تلك المأساة العجيبة؛ وإنما نعني في هذا البحث بطائفة أخرى من روايات ذات نوع خاص ودلالة خاصة، لا تأخذ بنظرية المؤامرة أو الجريمة، ولكنها تؤيد فكرة الاختفاء العمد والهجرة الأبدية، وتسبغ بذلك على ذهاب الحاكم لونا من الخفاه الغامض، كذلك الذي يغمر شخصيته وحياته كلها؛ وإذا كانت هذه الروايات تجنح في مجموعها إلى نوع من الأسطورة، فإنها مع ذلك تدخل في عداد التاريخ وتستحق الدرس بهذه الصفة، خصوصاً، وان ما تقدمه إلينا من التفاصيل والوقائع ليس في ذاته مستحيلاً ولا خارقاً.

وأول رواية من هذا النوع رواية كنسية كتبت في عصر الحاكم ذاته، ووردت ضمن سير البطاركة، أو سير البيعة المقدسة في ترجمة الأنبا زخاريا البطرك القبطي المعاصر للحاكم؛ وخلاصتها، إن الحاكم خرج إلى الجبل ذات ليلة، وسار في الجبل ومعه ركابي واحد إلى أن بلغ حلوان، ثم نزل عن حماره؛ وأمر الركابي أن يعرقبه ففعل، ثم أمره بالانصراف إلى القصر وتركه بمفرده، فعاد الركابي كما أمر؛ فلما لم يعد إلى القصر في اليوم التالي سأل رجال القصر هذا الركابي عن سيده، فأجابهم بأنه تركه في حلوان، وعاد وحده نزولاً على رغبته، فمضوا في طلبه، فوجدوا الحمار معرقباً، وبحثوا عن الحاكم في كل موضع، فلم يجدوه ولم يقفوا له على خبر أو اثر.

ووردت في تأريخ الكنائس المنسوب لأبي صالح الأرمني، والذي كتب في أواخر القرن السادس الهجري رواية مماثلة نصها:(وبهذه الناحية (أي حلوان) نزل الإمام الحاكم بأمر

ص: 14

الله عن الحمار الذي كان راكبه، وتقدم إلى الركابي الذي كان بصحبه إلى حيث يذهب بأن يعرقب الحمار، وذهب هو وحده إلى داخل البرية، ولم يرجع يعود، ولا عرف أين توجه إلى يومنا هذا، وكان ذلك في شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة).

ويشير مؤرخ نصراني آخر، هو إن ابن العبري الذي كتب تأريخه في أواخر، القرن السابع الهجري إلى مثل هذا الرأي، فيقول في حوادث سنة 411هـ:(وفيها فقد الحاكم بن العزيز ابن المعز العلوي صاحب مصر، ولم يعرف له خبر)، ثم ينقل قصة طوافه ومصرعه حسبما رواها القضاعي، وذلك على سبيل الرواية والترديد فقط.

وتقول الرواية الكنسية أيضاً، (ولم تزل الناس مدة غيبة الحاكم وإلى إن انقضى مدة ولده يقولون إنه بالحياة. كثير كانوا يتزيون بزيه ويقول كل واحد منهم أنا الحاكم، يتراؤوا للناس في الجبال حتى يأخذوا منهم الدنانير) ثم تروى لنا قصة رجل يسمى (شروط) كان نصرانياً واسلم ثم تعلم السحر والشعوذة، وكان يشبه الحاكم شبهاً عجيباً، ولو انه أطول منه بقليل؛ فلمّى اختفى الحاكم ظهر في الناس باسم (أبي العرب)، وادعى انه الحاكم، والتف حوله بعض الناس، وكان يطالب الأغنياء بالمال، ويقول لهم انه سيعيده إليهم عند رجعته إلى مملكته؛ ثم استتر طيلة عهد الظاهر وهو مستمر على دعواه حتى اعتقد كثير من الناس انه الحاكم، وانه يخفي نفسه لأمر مكتوم لا يعرفه سواه؛ وفي أوائل عهد المستنصر، نزح إلى البحيرة ونزل عند بعض البدو وتظاهر بالنبوة ومعرفة الغيب واستمر في دعواه انه الحاكم وانه يعتزل الحياة العامة حتى ينتهي قطع طالعه الذي يخشاه؛ ولما ذاع أمره، واهتمت السلطات بمطاردته توارى عن الأنظار ولبث مختفيا حتى عرف بأمره سانونيوس البطرك، وانفذ إليه مالاً وتعهده بعونه ورعايته، وأول ما يلفت النظر في هذه الرواية الكنسية هو أنها لا تشير أية إشارة إلى فكرة المؤامرة أو الجريمة، بل لا تشير مطلقا إلى فكرة الوفاة، ولكنها تميل في مجموعها إلى تأييد فكرة الغيبة والاختفاء، وتستأنس في ذلك بالإشاعات والأساطير التي ذاعت في ذلك الشان منذ اختفاء الحاكم، واستمرت ذائعة أيام ولده الظاهر

على إن الرواية الكنسية لا تقف عند ذلك الحد؛ ذلك إن ابن العبري يحدثنا عن مصير الحاكم بعد اختفاءه، ويقول لنا إن كثيراً من الناس اعتقدوا حين اختفاءه انه لجأ إلى مكان

ص: 15

في الصحراء واعتنق النصرانية، ثم ترهب وقضى أيامه هنالك؛ ثم يقول انه، أي المؤرخ، حين ما كان بدمشق سمع بعض كتاب الأقباط يقولون إن الحاكم حينما اشتد في مطاردة النصارى ظهر له يسوع المسيح كما ظهر لبولس الرسول، فآمن به، وتوارى سراً في الصحراء حتى توفي

ومما يجدر ذكره إن هذه الأسطورة - أي أسطورة تنصر الحاكم وترهبه ليست هي الأولى من نوعها، فقد نسب جده المعز لدين الله إلى مثل ما نسب إليه، وزعمت الرواية الكنسية إن المعز تأثر بما شهده من معجزة نصرانية هي تحرك جبل المقطم لدى صلوات الأحبار النصارى وتضرعاتهم، فنزل عن الخلافة لولده العزيز وتنصر وترهب، ودفن في إحدى الكنائس

ويجب لكي نقدر مغزى هذه الروايات الكنسية إن نذكر الظروف التي نشأت فيها، وان نكر موقف الكنيسة القبطية ونفسية المجتمع النصراني في عصر الحاكم بأمر الله: فقد عانت الكنيسة وعانى النصارى في هذا العصر ضروبا مرهقة من الاضطهاد المادي والمعنوي، وجازت الكنيسة شر محنة نزلت بها منذ عصر الاضطهاد الروماني، فهدمت بيعها وأديارها، ونبهت أموالها، وبدد تراثها المقدس، وثل الأحبار كل هيبة ونفوذ، وامتحن الكثير منهم، وعانى المجتمع النصراني من القوانين والفروض الجديدة شر ما تعانيه اقليه مضطهدة من ضروب العسف والذلة والإرهاق؛ ومن ثم فان الروايات الكنسية المعاصرة تصور لنا هذا العصر، عصر استشهاد للكنيسة ورعاياها، وتحدثنا في مواطن عديدة عن مختلف المعجزات النصرانية التي ظهرت في هذا العصر والتي كانت الكنيسة تستمد منها العزاء والصبر على مغالبة المحنة؛ ومنها قصة فتى مسلم يسمى ابن رجاء تأثر بمعجزات المسيح فتنصر وترهب، ورسموه قديساً باسم بولس ولقبوه بالواضح؛ ومنها قصة أبي نجاح النصراني، وكان من أعيانهم وأكابرهم فأراد الحاكم إن يرغمه على الإسلام فأبى فأمر بجلده حتى توفى، وزعمت الأسطورة إن الماء كان يقطر من لحيته أثناء ضربه، وان المسيح ظهر له وتولى سقايته أثناء تعذيبه؛ وقصة الرئيس الفهد الوزير، فقد قتله الحاكم لأنه أبى الإسلام وأمر بإحراق جثته، ولكن النار لم تؤثر فيها؛ وقصة البطرك زخاريا فقد اعتقله الحاكم وطرحه للسباع لتأكله ولكنها نفرت منه ولم تمسه بأذى؛ وغير ذلك من

ص: 16

الخوارق المزعومة التي تدل على روح الكنيسة وعقليتها في هذا الظرف العصيب، وعلى جنوحها إلى الاستعانة بسيل من الأساطير والمعجزات الجديدة لتأييد هيبتها المقوضة، وتقوية نفوس رعاياها والمؤمنين بقدرتها وسلطانها

فهل نعجب إذا كانت الرواية الكنسية تحدثنا عن مصير الحاكم بأمر الله بهذا الروح ذاته فتحيط هذا المصير بأسطورة من أساطيرها، وتضيف بذلك معجزة إلى معجزاتها؟ إن في تقديم الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي، في ثوب النادم المستنيب، يبدو له المسيح، فيرتد عن دينه ويعتنق النصرانية، ثم يترهب، ويقظي بقية حياته في بعض الأديار النصرانية، لأعظم معجزة تقدمها الكنيسة إلى المؤمنين، واعظم ظفر تستطيع إن تصوره لرعاياها في هداية ذلك الذي انزل بهم شر البلايا والمحن أعواما مديدة، ثم انتهى به المطاف إلى إن غدا جندياً من جند المسيح. إن في هذه الخاتمة لأعظم عقاب للآثم، واعظم ترضية للكنيسة والمؤمنين، وابلغ انتقام يمكن إن تنزله الكنيسة بخصيمها

- 2 -

ولا ريب إن التاريخ لا يمكن يحفل بمثل هذه الأسطورة التي لم يؤيدها أي دليل أو أية قرينة سوى الرواية الكنسية التي تنفرد بترديدها، والتي تنم في الحال عما وراءها من الغايات والبواعث؛ بيد إن هنالك في الرواية الكنسية الأولى شيئا واحداً يمكن الوقوف به، وهو ما تنوه به من اختفاء الحاكم أو غيبته دون الإشارة إلى مصرعه بصورة من الصور. ذلك أن هذه النظرية - نظرية الاختفاء - لم تكن دون صدى في حوادث العصر ووثائقه. وإذا استبعدنا فكرة المؤامرة والجريمة مدى لحظة، واستبعدنا ما ينسب إلى الأميرة ست الملك من أنها هي التي دبرت مصرع أخيها على الوجه الذي بسطنا، فان الحوادث والقرائن الأولى التي عقبت ليلة السابع والعشرين من شوال تسبغ على فكرة الاختفاء مسحة من الاحتمال. ذلك إن مصرع الحاكم أو وفاته لم تكن أول ما خطر لرجال القصر والدولة، بل كان أول ما خطر لهم فكرة الغيبة، فخرجوا في اثر الحاكم عدة مرات يبحثون عنه ويستقصون أثره قبل إن يؤمنوا بمصرعه؛ ولبث الكرسي الخلافي شاغراً مدى ستة أسابيع حتى يوم عيد النحر (العاشر من ذي الحجة)، ولم ينادى بالخليفة الجديد حتى استقر لدى رجال الدولة إن الحاكم قد لقي حتفه بصورة من الصور أو على الأقل قد ذهب إلى

ص: 17

غير ما عودة: بيد أن فكرة مصرعه، مهما كانت الصورة التي صورت بها ومهما كانت الجناة التي نسب تدبيرها أو تنفيذها إليهم، لم تكن فيما يبدو من روايات العصر وأحاديثه، حقيقة مقررة، ولم تكن رأي السواد الأعظم من الناس. بل لقد أشارت بعض الروايات التي سلمت بمصرع الحاكم إلى صدى هذا الشك في مقتله، فنرى ابن خلكان مثلاً يقول في ترجمة الظاهر ولد الحاكم ما يأتي:(وكانت ولايته بعد أبيه بمدة، لان أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة إحدى عشر وأربعمائة؛ وكان الناس يرجون ظهوره، ويتبعون آثاره إلى إن تحققوا عدمه، فأقاموا ولده المذكور في يوم النحر)

(النقل ممنوع - للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان

ص: 18

‌في الأدب المقارن

التأثير في الآداب الأخرى

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

من أقوى الدلائل على حيوية أدب أمة وصدق ترجمته عن المشاعر الإنسانية احتفاء الأمم الأخرى به، وعنايتها بدرسه، وتأثرها بنتاجه، واصطناعها وسائله، واشتهار فحوله بينها؛ فإن الأدب إذا كان حياً صادق التعبير عن النفس الإنسانية، عميق النظرة في مشاهد الكون، تخطى حدود أمته واجتاز حوائل اللغة والتقاليد والجنسية والبيئة؛ تخطى ذلك إلى ساحة الإنسانية التي تمحى عندها فوارق الزمان والمكان، ويلتقي لديها أبناء الأمم المختلفة والأزمان المتباعدة، وتمجد العبقرية الفنية حيثما نبتت

فحيوية الأدب وصدقه شرط أساسي لذيوعه وتأثر الآداب الأخرى به. وقد تجتمع إلى قوة الأدب الفنية الخاصة قوة أصحابه الحربية وسلطانهم السياسي، فيكون ذلك عاملا كبيرا مؤديا إلى انتشار الأدب؛ على انه عامل إضافي لا يضير انعدامه.

فالأدب واللغة هنا على طرفي نقيض: فلغة الأمة لا تذيع في الأمم الأخرى إلا تبعاً لارتفاع سلطانها السياسي، مهما كان رقي اللغة ذاتها وصلاحيتها وتفوقها على اللغات الأخرى، أو تخلفها عنها؛ فلغات الرومان والعرب، ثم الفرنسيين والإنجليز، لم تذع وتتخذ صبغة عالية إلا مصاحبة لامتداد نفوذ تلك الأمم؛ أما الأدب فلا يذيع إلا لرقيه وصلاحيته وتفوقه في بعض النواحي، سواء أساعده النفوذ السياسي أم أعوزه؛ ذلك لان اللغة وسيلة ضرورية من وسائل التعامل، فلا بد من الإلمام بلغة الأمة ذات الشان العظيم في الحياة الدولية والاقتصادية؛ أما الأدب فهو متعة وجدانية كمالية، تقبل النفس منه ما وافق طبعها وترفض ما لا تستسيغه، ولو كان يمت إلى أوسع الأمم سلطانا وأضخمها جيشاً.

والأدب الإغريقي نسيج وحده في هذا الباب، وهو مصداق كل ما تقدم ذكره، ولم يؤثر أدب تأثيره في آداب الأمم، ولا نال مثل ما نال من احتفالها: فهو أدب حي راق صادق، ذاع في عهد سطوة أصحابه وفي عهد اضمحلالهم، بل أثر في غالبيهم في ميدان الحرب والسياسة

ص: 19

- الرومان - ابعد تأثير ثم عاد فبعث مكمنه فأثر فيه نشأت الآداب الأوربية الحديثة، بل على يديه درجت، وفي حجره شبت؛ ومازالت دراسته أحد فروع الثقافة العالية في الجامعات الأوربية؛ ومن اجل دراسته والاستفادة من كنوزه تدرس اللغة الإغريقية على بعد ما بينهما وبين اللغات الحديثة. أما اللغة ذاتها فتقلص ظلها منذ تقلص ظل السيادة اليونانية التي أظلت حوض البحر الأبيض الشرقي على عهد أثينا والإسكندر والبطالسة، ودرست اللغة وبطل التخاطب بها حتى في بلاد اليونان ذاتها

وتترواح درجة تأثير أدب آمة في آداب غيرها تبعا لحالة المؤثر والمتأثر: فيكون الأثر شاملاً غامراً إذا كانت الهوة بينها بعيدة، بأن كان الأول عظيم الرقي والآخر بدائياً ساذجاً، كما كان تأثير الأدب اليوناني في الأدب الروماني والآداب الأوربية الحديثة، وكما كانت منزلة الأدب الفرنسي من الأدب الألماني في أوائل القرن الثامن عشر؛ وقد يكون أثر أدب في غيره قاصراً على ناحية يتفوق فيها أو يمتاز بها، كما كان تأثير قصة المغامرات الإسبانية في الأدب الإنجليزي، أو تأثير القصة الروسية في الآداب الأوربية العصرية؛ وقد تحتفي أمة بدراسة أدب أمة أخرى إعجاباً به وتقديراً له، دون أن يتأثر به أدبها تأثراً كبيراً؛ واغلب ما يكون ذلك إذا تماثل الأدبان في الرقي، كما هي الحال بين كثير من الآداب الأوربية الحديثة التي قطعت مراحل متماثلة، ووصلت إلى درجات من الرقي مقاربة؛ وقد يتناكر أدبان ويتنابذان فلا يتأثر أحدهما بالآخر، لشدة ما بينهما من تفاوت، أو لاعتداد كل منهما بنفسه، كما كان من ازورار الأدب العربي عن الأدب اليوناني؛ وقد يدرس الأدب في المعاهد وعلى أيدي العلماء والأدباء لمجرد البحث العلمي والتاريخ، دون إن يكون له كبير اثر في آداب الأمم، آو يكون لجمهور المتأدبين بصر به، كما يدرس الأدب العربي في بعض الجامعات الأوربية اليوم

وكلا الأدبين العربي والإنجليزي أثر في آداب الأمم الأجنبية، وبلغ في الرقي والخطر ما جعله جديراً باحتفائها، واشتهر فحوله وأعلامه بينها، وساهم بنصيب في الأدب الإنساني العالمي. على أن الأدب العربي أعطى اكثر مما أخذ، وأثر في آداب الأمم الأجنبية أكثر مما تأثر بها، بينما الأدب الإنجليزي قد اخذ اكثر مما أعطى إلى اليوم، وغنم من كنوز الأمم الأخرى أكثر جداً مما أودع تلك الكنوز؛ وهذه في الحقيقة ظاهرة مطردة في تاريخي

ص: 20

الأمتين لا في أدبيهما فقط. كانت الأمة العربية منذ ظهورها أمة إعطاء، أعطت العالم ديناً وقوانين ولغة وأدباً، ولم تأخذ إلا ما يتضاءل أمام ذلك كله من حضارة الفرس المادية، ونظريات اليونان الفلسفية. وكانت الأمة الإنجليزية أمة أخذ، أخذت عن غيرها دينها، والفت من لغاتهم لغتها، واشتقت من آدابهم أساليب أدبها وأشكاله، وأغنت جزيرتها بخيرات الأقطار، ولم تهد إلى العالم من مبتكراتها إلا نظامها النيابي. وعلى حين انزوت جزيرة العرب قابعة في عزلتها بعد أداء رسالتها، آثرت إنجلترا بما قطفت من أطياب العالم المادية والأدبية التي اجتنتها على مدى العصور اجتناء مميز بصير خبير بما ينفع، نابذ لما يذهب جفاء

أثر الأدب العربي في آداب كثير من الأمم الشرقية، كالهنود والفرس والترك واليهود؛ وما يزال ذلك التأثير ماثلاً في الألفاظ والأساليب التي اقتبستها منه تلك الآداب؛ وقد أدى إلى اتصال تلك الآداب بالأدب العربي اتصال العرب بتلك الأمم بالحرب والتجارة، وبسط العرب سيادتهم عليهم حيناً، ونشرهم دينهم بينهم، فكانت سيادة العرب سبب انتشار اللغة العربية التي ظلت تدرس في تلك الأقطار عصوراً طوالاً، ولم تزل تدرس في بعضها؛ وكان انتشار الدين الإسلامي عاملاً آخر أطول بقاء؛ فلما انتقلت السيادة إلى الفرس فالترك ضعفت مكانة اللغة العربية، بينما ظل التفوق والتأثير للأدب العربي حيناً طويلاً لرقيه وتأخر الآداب الأخرى

ولم يسم من تلك الآداب الشرقية إلى مضاهاة الأدب العربي إلا أدب الفرس. وقد كان بين هذين الأدبين وفحولهما تمازج واتصال وتعارض وتبادل عديم النظير بين أدبين آخرين: بدأ ذلك بانتصار العرب الحربي والديني، وكان أدبهم على جانب عظيم من التقدم، بينما أدب الفرس بدائي لم يتعد بعد طور الطفولة، ولم يستقل تماماً عن الدين، لأنه - كأدب قدماء المصريين - ترعرع تحت ملكية شديدة الجبروت والأنانية، وكهنوتية شديدة الغيرة والأثرة، فلم يكن يعدو الأقاصيص الساذجة والمواعظ ونوادر الملوك والآلهة: أما الأدب العربي فكان قد ترعرع في حرية البادية

فلما اتصل الفرس بالأدب العربي واعجبوا به، لم ينقلوا ما راعهم منه إلى أدبهم بل انتقلوا هم إليه، فنثروا ونظموا في لغة الدولة والدين والقران، وكان منهم جملة من فحول الأدب

ص: 21

العربي، على حين كان أدبهم هم خالياً من الفحول على الإطلاق؛ ثم نشأت طبقة منهم تؤلف باللغتين وتساهم في الأدبين، وبذلك بدأ الأدب الفارسي في الظهور وكان الشعر اسبق من النثر؛ فلما استقلت فارس واستعادت سيادتها القومية في ظل السامانيين والبويهيين ومن بعدهم، نبغ فيهم رهط كبير من الشعراء والكتاب عكفوا على إحياء أدبهم وإثرائه، متأثرين خطى الأدب العربي في المواضيع والأشكال الأدبية والأوزان الشعرية والألفاظ، واخذوا عن العربية ما كان قد داخلها إذ ذاك من محسنات وصنعة؛ وبينما دخل الأدب العربي في طور ركوده افتتح الأدب الفارسي عصر رقي رائع طويل، ضارع فيه الأدب العربي وفاقه في كثير من الأبواب، كشعر الملاحم ووصف محاسن الطبيعة، ونال بعض فحوله كالفردوسي والخيام من الشهرة العالمية ما قصر عنه فحولة العربية

وكان للأدب العربي اثر كبير في آداب الأمم الغربية؛ ولكن بينما تأثرت الآداب الشرقية بالأدب العربي الفصيح، كان الأدب العربي العامي هو الذي اثر في الآداب الغربية: فالأقاصيص الشعبية وضروب الأزجال التي فشت في الأندلس كانت نواة الأدب الإسباني الحديث الذي تمثل في عهد النهضة الأوربية في قصص سرفانتيس، والذي أثر في الأدبين الفرنسي والإنجليزي أثراً مذكوراً فيما بعد؛ وتلك الأقاصيص والأزجال انتقلت من إسبانيا إلى جنوب فرنسا، حيث نشأ شعراء التروبادور الذين وضعوا اللبنة الأولى في أساس الشعر الفرنسي الحديث. أضف إلى ذلك ما نقل من تلك الأشياء إلى الأدب الإيطالي وأثر في كتابات بوكاشيو وبترارك ودانتي، وما تسرب إلى الأمم الأوربية في عهد الحروب الصليبية. هذا إلى قصص ألف ليلة وليلة التي انتقلت إلى أوربا من عهد بعيد وترجمت إلى لغاتها، وكانت موضع إعجاب الأدباء واقتباسهم

وللأدب العربي أثر ثالث عظيم الخطر عديم النظر، لم يتأت حتى للأدب اليوناني أن يأتي بمثله: ذلك هو حلوله محل غيره في الشام والعراق وشمال أفريقية، حتى نسي أهل كل قطر من هاتيك ما كان له من أدب قبل ذلك، واصبح تاريخ الأدب في كل إقليم منها يبدأ بعهد الجاهلية في جزيرة العرب. والواقع أن الأدب العربي لم يسد تلك البقاع لمجرد قوته وحيويته، وإنما تمكن من الإتيان بتلك المعجزة بفضل ما صاحبه من ظروف وعوامل، كقوة اللغة العربية ذاتها وكونها لغة الدين الجديد والدولة، ثم السياسة الحكيمة التي سلكها

ص: 22

العرب في حكم الأقطار: فقد تركوا لها حرية العبادة والمعيشة، وأشعروها مع ذلك بالنقص وانحطاط منزلتها عن منزلة الفاتحين أصحاب الدين والدولة؛ فتسامحهم الديني لم يستفز تلك الأمم إلى مقاومة الدين الجديد ومعاندته، كما قد كان يستفزها القهر والإرغام على اتباعه؛ وشعورها الباطن بالنقص والانحطاط دفعها إلى التشبه بالقائمين بالأمر عليها والانغمار في جملتهم؛ ومن ثم انتشر الدين واللغة وحلا محل غيرهما، وانتشر بانتشارهما الأدب العربي

فالأحوال كانت مهيأة في الشرق مساعدة لانتشار الأدب العربي: لتفوقه وتفوق لغته على ما كان هناك من آداب ولغات، وانتشار دين قومه وسيادتهم، ومشابهة الأمم الشرقية للعرب في الطباع إلى مدى، وامتزاجها بهم في أطراف الإمبراطورية العربية. أما في الغرب فلم يكن الأدب العربي الفصيح ليلاقي مثل هذا النجاح، بل هو لم يلاقي نجاحاً ما، ولم يصب إعجاباً قط؛ وقد هرع إليه متأدبو الإفرنج غير مرة يريدون الانتهال من مورده، وارتدوا خائبين قانطين؛ وبينما وجدوا في الأدب الفارسي ما يترجمونه ويظنون به ظنهم بآثار آدابهم، لم يجدوا في مدائح المتنبي لسيف الدولة وأهاجيه لكافور، وتفنن بديع الزمان في صوغ الأسجاع والنكات على لسان أبي الفتح، ما يستحق عناء الدرس والترجمة، أو يحث على الإعجاب والظن. إنما تنقل الأمم من آداب غيرها ما يمت إلى الإنسانية في شتى بقاعها وعصورها بأوثق الأسباب؛ أما المدح والذم والزخارف اللفظية التي إذا ترجمت تبخرت فلا تنفق في غير لغتها وعصرها

ولقد كانت الآداب الغربية قبل عهد النهضة ناشئة تتلفت باحثة عن الأستاذ المرشد، فلم تره في الأدب العربي الفصيح، لأنه لم يكن أدب شعب ومجتمع وحياة متجددة بل اختار لنفسه إن يكون أدب بلاط، ونديم علية، ورهين تقاليد لا تتغير، واستبعد من حظيرته منادح كثيرة من منادح القول، ومواضيع شتى من صميم الحياة والفن؛ وإنما استفادت تلك الآداب بما وجدته في الأدب العربي العامي من آثار الخيال الرائع، والتصوير الصادق، والتعبير المتعدد الأشكال عن الحياة الإنسانية المتدفعة المتجددة، فضلاً عما ينسم منه من روائح الشرق وبذخه وكنوزه وغرائبه، تلك التي ما زالت من قديم تستهوي نفوس الغربيين وتثير أخيلتهم، فأوسع الأوربيون ذلك الأدب العامي دراسة وترجمة ومحاكاة، ثم لم يلبثوا إن

ص: 23

اهتدوا إلى ضالتهم المنشودة في الأدب اليوناني، فعلوا من معينه ونهلوا

وقد قيل إن كوميدية دانتي الإلهية متأثرة برسالة الغفران، وقصة ربنسون كروزو أوحت بها قصة حي بن يقضان، وذلك بعيد: فلو أن الآداب الأوربية كانت تتأثر بالأدب العربي الفصيح لما اقتصر تأثرها على هذين المثالين الشاردين - على كون قصة حي بن يقضان أثراً فلسفياً لا أدبياً - وليس بين الكوميدية الإلهية وبين رسالة الغفران شبه سوى أن الجنة والنار مشاهد وقائعهما، ولا بين روبنسون كروزو وحي بن يقضان تماثل إلا انعزالهما في جزيرة، وتوفيرهما حاجاتهما بأنفسهما؛ وكلتا الفكرتين بديهيتان يلوح انهما تطرآن على الفكر الإنساني في شتى العصور والأصقاع. وهل شيء اكثر بداهة واقرب إلى الطبيعة من أن دانتي المتعصب الديني في عصر التعصب الديني وفي وطن البابوية يلتفت إلى العالم الآخر ويجري فيه حوادث مهزلته؟ أو إن ديفو المغامر الأفاق في عصر المغامرات البحرية، وفي إنجلترا البلد البحري يتخذ بطلاً لقصته مخاطراً بحاراً؟

أما الأدب الإنجليزي فكان - كما تقدم - أقل من الأدب العربي تأثيراً في الآداب الأجنبية، وأكثر منه تأثراً بها: تأثر من عهد النهضة بالأدب اليوناني والروماني والفرنسي والإيطالي والأسباني ثم الألماني، وأخذ خير ما تلك الآداب من الأشكال الأدبية والمواضيع والأساليب، وصاغها على النحو الملائم لطبائع أهله وعبقرياتهم الخاصة، ومثل كل ما اخذ ونقاه، حتى جاء الأدب الإنجليزي مضاهياً لأحسن ما في تلك الآداب إن لم يفقهها جميعاً عمق فكرة وشمول نظرة وحرارة شعور وصدق عاطفة وبساطة بيان، ونبغ فيه من الأعلام أمثال شكسبير وملتون وبيرون وسكوت من كان لهم مكان رفيع في القارة، وعنى بدراستهم، والإشادة بفضلهم أقطاب الآداب الأوربية، أمثال هوجو وتين وسنت بيف، وحوكيت قصائد بيرون وقصص سكوت، ومثلت روايات شكسبير في مسارح العواصم الأوربية، وساهمت إنجلترا بنصيبها في النهضة الرومانسية التي كانت حركة أدبية دولية ساهمت فيها سائر الآداب الأوربية والأمريكية

على إن كل ذلك لا يكاد يتخطى حدود التقدير والإعجاب بذلك الأدب، ولم يتعدى ذلك إلى إحداث ثورة شاملة أو تطور خطير في تلك الآداب، ولم يؤثر الأدب الإنجليزي فيها بعض ما أثرت هي فيه، فهو قد جاء متأخراً عنها قليلاً ولحق بها فتشابه الجميع اليوم رقياً، فهي

ص: 24

في غنى عن الأخذ عنه، وهو لا يفاجئها بعناصر ليست فيها، وهو وهي سواء في الأخذ من الأدب اليوناني والبناء على أساسه واعتناق مبادئه التي دان بها في تصوير الحياة وتحليل النفوس وعبادة الجمال.

فالآداب الأوربية اليوم، بما فيها الأدب الإنجليزي، فرسا حلبة واحدة، متشابهة في النشأة والتاريخ والمنهج، وهي وان كانت على اتصال وامتزاج دائبين، لن ينتظر أن يكون تأثير واحد منها في غيره تأثيراً بعيد المدى شاملاً غامراً، كما كان تأثير الأدب اليوناني في الأدب الروماني، أو تأثير الأدب العربي في الأدب الفارسي، فمثل هذا التأثير الشامل لا يكون إلا بين أدبين قد انفرجت بينهما مسافة الخلف، وضرب حجاب العزلة بينهما دهراً، كما هو الشأن اليوم بين الآداب الغربية في مجموعها - ومن بينها الأدب الإنجليزي - والآداب الشرقية في مجموعها - ومن بينها الأدب العربي - فقد كان التدرابر والتناكر سائدين بينهما عصوراً طويلة، والأولى في رقي مطرد، والثانية في تدهور مستمر، فلما تلاقتا ورفع من بينهما حجاب العزلة أثرت الأولى في الثانية؛ وما تزال تؤثر تأثيراً هو أدنى إلى الثورة المطلقة أو الخلق من جديد.

فالأدب الإنجليزي قد بلغ من الرقي وصدق الرسالة واتساع الجوانب ما يبذ به الأدب العربي، ونال من المكانة بين آداب الأمم أسماها، وحاز من أدباء تلك الأمم اعظم التقدير والحفاوة، وهو مكانة ستظل له دائماً كما ظلت مكانة الأدب اليوناني بعد زوال دولته، وهو خليق أن يؤثر في آداب الأمم التالية أثراً بعيداً، أما إذا ووزن بين تأثيره في الآداب الأخرى إلى اليوم وبين تأثير الأدب العربي في الآداب المعاصرة له، فان الأدب العربي يرجحه كثيراً. بيد إن الأدب العربي قد أدى رسالته في ذلك الصدد ولم يعد صالحاً لان يؤثر في آداب الأمم الأخرى حتى يتجدد ويتأثر هو ذاته بغيره من الآداب، ويفتتح في تاريخه فصلاً جديداً غير الفصل السالف.

فخري أبو السعود

ص: 25

‌على أطلال الماضي

وقفة على (إيوان كسرى)

للأستاذ علي الطنطاوي

خرجنا من بغداد فسلكنا على (حي البتاويين) ظاهر (الباب الشرقي)، وجزنا على قصوره الشم التي تتكئ فيها الأرستقراطية الناعمة على الأرائك سكرى بخمرة الذهب، وسرنا إلى (الهنيدي) في الطريق التي تنام على بسط الحقول السندسية، يحرسها صفان من النخيل، حتى انتهينا إلى (المعسكر البريطاني) صرح أكاسرة اليوم، فتركناه وأممنا صرح أكاسرة الأمس لنقف عليه ذاكرين معتبرين.

عبرنا نهر (ديإلى) وخلفنا القرية جاثمة على كتف النهر، قد دلت رجليها في مائه، واستقبلنا الفلاة الواسعة، فما عدنا نرى إلا الفضاء؛ حتى إذا سرنا فيها ساعتين طلعت علينا قرية (سلمان) تلوح على حاشية الأفق، تضح وتغيب، ثم تبيناها ورأينا قبة مسجدها واضحة، ورأينا بجنبها بناء ضخماً كأنه جبل. . . قلت: ما هذا؟ قال صحبي: هذه قبة سلمان الفارسي، وهذا ايوان كسرى. فقلت: يا للعجب! أطاف سلمان حتى استقر قبره بجانب الإيوان، فغدوا متلاصقين، وبدوا متعانقين؟ وحثثنا (الدراجات) إلى القرية فبلغناها بعد ساعة.

كانت قرية صغيرة، نشأت على تربة سليمان رضي الله عنه، ليس فيها - إلا مسجده - شيء يذكر؛ أما الإيوان فهو في ظاهر البلد، متربع على ظهر الفلاة وحيد معتزل، مطرق حزين!

وقفنا عليه فإذا هو طاق عال مهدم، وجدار شامخ متصدع، وإذا هو ضخم فخم، ولكنه عار موحش، ليس فيه صورة ولا نقش: لا صورة إنطاكية التي تروع بين روم وفرس، ولا انوشروان الذي يزجي الصفوف تحت الدرفس، ولا عراك الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض جرس، ومن مشيح يهوي بعامل رمح، ويليح من السنان بترس. . .

لقد محا الدهر الصورة، كما محا أهلها، ودار الزمان دورة أخرى، فأصبح حاضر البحتري ماضياً وعيانه أثراً. . . ذلك لأن الماضي نقطة واحدة، تتلاقى فيها الأبعاد، وتضيع المسافات، وتفنى الدهور. . . نقرأ قصيدة البحتري، ونرى الإيوان، فنحس أنهما قد التقيا

ص: 26

في عالم الماضي وضاع ما كان بينهما من عصور، كما التقت آثار (سر من رأى) بأطلال بابل، فكان حكمها في الخيال واحداً وأثرها في النفس واحداً، وكما التقت في أبصارنا ونحن قادمون على القرية قبة سلمان بالإيوان. . . ومن لعمري يدرك الزمن الذي كان بين آدم ونوح، وإبراهيم وموسى، وبلقيس والزباء، وهوميروس وأفلاطون، وحروب طروادة وفتوح اسكندر؟ إن الحوادث كلما أمعنت في المضى، ضاعت من بينها الأزمنة وامّحت الأبعاد

وليس يهيج النفس ويثيرها كرؤية أطلال الماضي والوقوف بآثار الغابرين؛ ففيها روعة البقاء، وهول الفناء، وعبرة الدهر؛ وهي نوافذ تطل منها النفس على عالم المجهول الذي تحن إليه أبدا ولا تنى تقرع بابه، فتتحرر فيها ساعة من قيود المادة، وتطير في مسارب الأحلام

ولقد وقفت على الأهرام، ومررت على الحديبية، وجلست في العقيق، وعرجت على حطين، وزرت بعلبك، فكان شعوري في ذلك كله كشعور اليوم وأنا في المدائن أمام إيوان كسرى. . . استعظم الأثر واعجب بجلاله، واكبر القدرة التي أنشأته، ثم أعود بفكري إلى الماضي فأحسن بأن صفحته تفتح أمامي فأرى حقيقة شاهده كل ما قد قرأت في الكتب، وأتخيل أنى مع الغابرين أسمع وأرى، فأراني قد عشت دهوراً؛ ثم أقابل وأعتبر، ثم أذهل عن نفسي، وأجول بفكري وخيالي في آفاق كثيرة لم أرها من قبل في الآثار الباقية للأمم الماضية يلتقي أعظم شيئين وأجلهما: الزمان والمكان؛ فتلمس القرون تنحدر على صخر الهرم، أو أعمدة بعلبك، أو آجر الإيوان، هذا الآجر الذي حمل أعباء القرون السبعة عشر. يا لروعته وجلاله! انى لأحتقر نفسي وأنا قائم بقامتي القصيرة الهزيلة حيال هذا الكائن الجبار الهائل، ثم أعود فأرى كل شي دوني حقيرا، أنا الحي، وأنا الباني، وما هذه كلها إلا أثر من آثاري، ليس لها لولا فكري وجود ولا لوجودها معنى. . .

أطفت بالإيوان في خشوع واكبار، ووقفت على بابه في هيبة وإجلال، ثم دخلت من الصحراء فإذا. . . فإذا أنا خرجت إلى الصحراء، الصحراء الصامتة صمت الموت، الموحشة وحشة المقبرة، الممتدة امتداد الزمان. . . وقفت أستنشق عبير المجد، وأتسمع نشيد العظمة؛ فما سمعت إلا صفير الرياح، ولانشقت إلا رطوبة الفناء. لمست الجدار فما

ص: 27

أحسست إلا برودة الحجر؛ تسلقت الجدار حتى كلت رجلاي ولم أبلغ نصفه، فجلست على لبنة بارزة لاستريح، وتلفت. . . فإذا الأفق الواسع الرحيب وإذا الناس كالنمل، وإذا القرية كأنها كومة من الحجارة، مكومة في أعماق الوادي، وإذا دجلة تجرى بعيدا تلبس حلة من نور الشمس فتبدو لامعة تزيغ منها الأبصار، وإذا أنا وحدي معلق بين السماء والأرض، فغثت نفسي، وأخذني الدوار، وهممت بالسقوط، فأغمضت عيني كيلا أرى شيئاً

أغمضت عينى، وفتحت قلبي، فرأت البصيرة مالا يراه البصر: رأيت إني قد ذهبت أتخطى أعناق القرون وأطوي سجل الزمان، وأدير بفكري دولاب الفلك، فيكر راجعا. . ازّخرفت هذه الجدران العارية وأخذت زينتها، وعادت هذه الأبواب، فأسدلت عليها ستر الوشى والديباج، وتحلت هذه السقوف بالصور والنقوش وتدلت منها سلاسل الذهب، تحمل الثريات المرصعة باللؤلؤ. . . عاش الإيوان، وقام في صدره سرير انو شروان، ورجع المجد وعاد السلطان

وحلت الحياة في هذه الصحراء، فنبعت المدائن والقصور من الأرض نبعاً، ونبتت منها نباتا، فنمت في لحظة وأورقت، وعلت واستطالت، ولونت الحياة هذه البرية الكالحة بألوان الزهر، فعادت حدائق وبساتين، كانت لهذه المدائن كالإطار، فرايتها أعظم المدن، وقصورها أفخم القصور، والإيوان أجل صروحها وأعلى ذراها، ورأيت هذه الأبواب التي كانت منذ ساعة تفضي من الصحراء إلى الصحراء، مفتحة للرياح والذئاب. . . قد قامت عليها الحجاب، ووقفت دونها الملوك، وحل على أعتابها المجد، والجدران التي كانت عارية مصدعة، قد شمخت وبذت وعزت، حتى غدت والطير تخشى إن تطير فوقها، أو تحوم في سمائها، ورأيت دجلة التي كانت منذ ساعة تجرى في البادية بعيدة عن الإيوان، معرضة عنه، لا تلتفت اليه، ولا تأبه له، قد غدت ساقية. . . تمشي خاضعة وسط المدائن، وتنحني لتعقد على كتفيها القناطر والجسور، وتفتح صدرها لتضم ظلال هذه القصور، وهى تستنقع فيها في أمسيات الصيف الحارة!

ورنوت بعيني إلى هناك، إلى الحيرة، فإذا الخورنق السامق يعنو للإيوان كما يعنو صاحبه لربه؛ ورميت ببصري إلى بعيد. إلى الجزيرة، فإذا فيها أشباح تجيء وتروح خلال الضباب، تموج كأنها في بحر واسع، وكأن خيامها سفائن يحملها الموج، ويمشي بها مد

ص: 28

وجزر، ولكن هذه الأمواج تتكسر على صخرة الإيوان ثم ترقد ضعيفة وانية، والإيوان مشمخر عات، لا ملك اعظم من ملكه، ولا سلطان اعظم من سلطانه، ولا إنسان اعز من ربه؛ وامتد ببصري إلى المشرق والمغرب فلا أرى كالإيوان ثروة وجاهاً وعظمة ومجداً.

ولكن. . . مه! إن في البادية لشيئاً جديداً؛ إنها تضطرب وتهتز؛ إن فيافيها تتمخض بالحياة، ها هوذا النور يشق الضباب الكثيف، حتى يلمع كالبرق الخاطف، بين قصور المدائن وتحت أقبية الإيوان. . . لقد ضرب محمد صلى الله عليه وسلم صخرة الخندق، فأضاءت المعجزة الإيوان، فوعده اتباعه وقال لهم: هذا الطريق.

يا للعجب العجاب! إن هذه القرية الملتفة في ألحفة الرمل، النائمة على صخور الحرة، المتوسدة سفح أحد، وجوانب سلع، تريد أن تأكل المدائن!. . بلغ كسرى الخبر، فضحك حتى استلقى. . . ثم جاء كسرى الكتاب، فعبس وبسر، واعرض واستكبر، ومزق كسرى كتاب سيد العالم. . .

لقد نطق سيد العالم بالحكم النافذ: ليمزقن الله ملك كسرى.

وفتحت عيني فإذا الحلم قد تصرم، فغاضت المدائن في الأرض ونزعت الجدران ثيابها، وابتلعت الصحراء زهرها ووردها، وعادت قاحلة ليس فيها إلا هذه الأنقاض جاثمة على ظهرها، قد حطمها الكبر، وثقلت عليها السنون، فانحنت حتى تسلق صبية القرية سطحها يلعبون عليه. . .

الصبية يعلبون على سطح الإيوان! أين كسرى يرى ما صار إليه إيوانه؟ أبناء العرب يتلهون بمجلسك يا شاهنشاه! لقد قوض المجلس، وثل العرش، وهوى التاج، فما أنجدك الجند، ولا أغنى عنك الغنى، ولا حمتك الحمية، ولا آواك الإيوان!

لقد مزق البدو ملكك يا كسرى؛ وما هذا عجيباً، فالتمزيق اسهل من الترقيع، والهدم اهون من البناء؛ ولقد هدم البرابرة من قبل عرش الرومان. . . غير أن هؤلاء البدو - يا ملك - قد أسسوا حضارة خيراً من حضارتك، وبناء اجل من بناءك، وحكموا اعدل من حكمك. وقد أثمرت حضارتهم حضارة القرن العشرين، وحضارتك لم تثمر شيئاً.

لقد بنت ديمقراطية عمر الذي كان ينام على التراب، ويلتحف بالبرنس، ويؤدب بالدرة، ويعين الفقير، ويخدم العجوز، وينصف من نفسه، لقد بنت ديموقراطيته دولة. أما جبروتك،

ص: 29

وعظمتك الجوفاء، واستبعداك الناس، فلقد هدم دولة!

هذه بغداد الإسلام؛ فيها أربعمائة وخمسون ألفاً؛ وهذا إيوانك تصفر فيه الرياح الباردة صفير الفناء المرعب، وتنشد فيها الطبيعة نشيد الموت!

من الذي كان يفكر أيام عز الإيوان أن صبية العرب ستلعب في أنقاضه؟ من الذي يفكر اليوم بان أطفال الحبشة ستقفز على أطلال روما؟ لا تتعجبوا من شيء، إن الليالي يلدن كل عجيبة. . .

وليعتبر الطغاة، فلقد كان كسرى - يوم كان كسرى - اضخم سلطاناً، واعظم بنياناً، واكثر أعواناً، فأباد الزمان السلطان، ودك البنيان، واهلك الأعوان. . .

اعتبروا. . . فهذا صرح كسرى خال موحش. وهذا قبر سلمان عامر مأنوس. . . قد مات القصر، وعاش القبر! قصر كسرى شاهنشاه، الذي كانت تقوم على بابه الملوك.

. . . ضاحين حسرى من وقوف خلف الزحام وخنس قد مات، وغدا قبراً في الفلاة؛ وهذا القبر، قبر فارسي من عامة الناس، يصبح مثوى الحياة، تلتف به البيوت، ويؤمه الزائرون، يقفون حياله خاشعين، ثم يعودون ولا يلتفتون إلى الإيوان وبينهما ثلثمائة متر. . .

اين كان سلمان من كسرى انوشروان؟ أين كان من وزراءه واتباعه؟ أين كان من خدامه وحشمه؟ صه. . لقد خلد سلمان بالإسلام، فكان اعظم من كسرى!

أما بعد، فقد تكون الأهرام اضخم أفخم، وأعمدة بعلبك اجل واجمل، ولكن للإيوان معنى آخر. . .

هنا كان يستقر جلال الماضي كله؛ هنا كانت عظمة الملك وجبروت السلطان؛ هنا كان الذي يستعبد الناس، فيؤلهه الناس. . . لم يبق من ذلك كله شئ. . .

وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب، فنزلت ووقفت أودع الإيوان، فاقترب مني سائل اعمى، وجعل ينفخ في ناي معه نغمة حزينة مؤثرة. . . فكان لها - في تلك الساعة، في صمت الصحراء، ووحشة الإيوان، وغروب الشمس - اثر في نفسي لا يوصف، فقلت: آه. . . ليتني كنت شاعراً.

علي الطنطاوي

مدرس الأدب في الثانوية المركزية ببغداد

ص: 30

‌إلى الأستاذ الزيات

(ذكرى ميلاد) حركت قلمي!

للمربية الفاضلة الآنسة زينب الحكيم

أحييك من قلب فواجع الحدثان للتتابعها، ويئن من المصائب لتواليها، حتى اصبح قلباً كسيراً ملتاعاً. وأشكرك على كلمتك (ذكرى ميلاد) بقدر ما أشاركك عواطفك النبيلة نحو ذلك (الرجاء) الضائع والأمل المنهار.

لقد هز نفسي هذا المقال هزة عنيفة، وحرك قلمي بعد أن سكن طويلاً ليكتب عن الأطفال، والطفولة الهنيئة. وكنت قد دفنت هذه الذكرى لا تعمداً ولكن قهراً، مع إن أمنيتي في الحياة كانت العمل على إسعاد الأطفال واستمتاعهم بطفولتهم، ولا سيما ونحن في بلد لا يعرف للطفل حقه، ولا يدرك للطفولة كرامتها.

وكم نحن في حاجة إلى آباء مثلك يعنون بدراسة أبناءهم، ويشاركونهم الحياة ليعيشوا وإياهم سعداء.

غالب الظن، أن الأستاذ الزيات لم يدخل مدرسة علم النفس الحديثة، أو هو إذا كان قد فعل لا يطنطن بدراساته المتعددة وجهوده المتكررة كما يفعل بعضهم. إن كلمتك يا أستاذ تعد بمثابة رؤوس لعدة دروس تربيوية جامعة في عالم الأطفال، يجب أن توضح وتدرس للآباء والأمهات جميعا.

فان (فرحك الصادق، واستبشار نفسك بذلك المولود الذي هبطت عليك بشراه هبوط الملك على زكريا، والذي جعل نفسك تطمئن إلى إن اسمك قد اشترك، ووجودك قد ازدوج، وعمرك قد امتد في الحياة)، كل ذلك ما ينبغي أن يحسه ويشعر به جميع الآباء والامهات، قبل وبعد أن يرزقهم الله أطفالاً، وذلك من أهم العوامل التي تؤثر في حياتهم.

إن ذلك (الرجاء) الذي غير من نظرتك إلى الاطفال، فجعلها نظرة عملية جادة، بعد إن كانت خيالية نظرية، تلك النظرة التي جعلتك تتقرب إلى كل أب، وتسكن إلى كل أم، هي التي جعلتك في هذه الناحية في صف المكلفين المسؤولين. ولعمري إن الرجل المكلف المسئول هو الرجل الحر الذي يعتمد عليه. فلله ما اجمل ما اختصك الله به من فطنة للوجود الحق، وما أقوى ما امتازت به طبيعتك من تكوين الأسرة السعيدة التي هي اللبنة

ص: 32

الأولى في بناء الوطن العزيز.

ثم إن خطة تعاقب المآدب، وتقديم الهدايا، وبهجة الدار المتوالية، وإعطاء الصغير فرصة الرياضة في الحديقة، والعناية بنظام حياته كلها، في غير إسراف أو تقتير يتفق تماماً وروح التربية الصحيحة. كذلك إقامة حفلات الميلاد والتعارف بين الأطفال، وما إلى ذلك، لمما يزيد في بهجة الأسر، ويدرب النشء على الآداب العامة من نعومة أظفارهم، ويشعرهم بالواجب، ويعد شخصيتهم للنضوج التدريجي، ويشجعهم أيضاً على قبول كل شيء حولهم وفحصه، من أشياء وأفكار ومبادئ، فيخضعون للصالح منها في غير تأفف، ويأنفون من الطالح في صراحة ويقين.

لقد كنت مثال الأب الصالح بالنسبة لطفلك العزيز، فان مصاحبة الآباء لأبنائهم أثناء شراء لعبهم ولوازمهم، وإعطاءهم فرصة الانتقاء والاختيار مع التوجيه الصحيح والإرشاد الحكيم، يمكنهم من دراسة غرائز أطفالهم وتعرف ميولهم، فيعملون على تربية كل وفق طبيعته.

وكم كنت أباً رحب الصدر، بارعاً في فن تربية الأطفال وهم رجال المستقبل وعدة الوطن حينما كنت تجيب (رجاء) على أسئلته بقدر ما يحتمل عقله، ولا ترد له سؤالاً أو تعنفه عليه، ولو كنت فعلت لما لحظت مخائل نجابته المبكرة، ولا حدة ذهنه وشخصيته القوية المرنة كما وصفت

إلى هنا، يأتي دور العتب على الأستاذ الزيات، في هلع نفسه، وتطيره من الحياة، لان الله اختار ذلك الكم العبق لجواره الكريم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أيدري أحدنا لماذا خلق على النمط الذي اختصه الله به؟! أو لماذا يرجعنا الله إليه إن عاجلاً أو آجلاً؟! له فيما يريد ابلغ حكمة

وعهدنا بالأستاذ كبير النفس قوي الإيمان، صقلته غير الدهر وصروف الزمن، فلا ينبغي أن يجزع إلا على قدر

ولست ادري لم تطوى ثياب (رجاء) تعبث بها الهوام وتوارى في الحقائب، وقد لامست جسمه النضر، وتضوع فيها شذى أنفاسه العطر!! ولماذا تخفى لعب (رجاء)، وهو الذي لمسها بيديه الطاهرتين؟! وأتساءل في دهشة: لماذا تستر صور (رجاء) وجميع آثاره؟!!

ص: 33

إن هذا ينافي بقاء ذكراه الكريمة، ويمحو صورته الجميلة من المخيلة، ويذهب بصوته الرائق من الأذن

أيها الأب الكريم! سهل على النفس غرامها، وعلى القلب حنينه، وعلى العقل حيرته. انشر صور (رجاء) في كل مكان جميل في المنزل، وضع لعبه في اكرم مكان وأليقه، وانفض عن ثيابه المطوية الغبار، حتى تتلمسه في كل شئ حولك؛ وضع أثراً من آثاره كمنديل، أو قفاز، أو لعبة صغيرة في مكان يحتمل أن تطرقه على حين فجأة، وانس انك وضعت ذلك الأثر في هذا المكان، فإذا صادفك بعد حين، فاختبر انفعال نفسك بالعثور على ذلك الأثر المنسي، وجدد الذكرى؛ ثم حدث أصدقاءك ومحبيك كلما زاروك عن صور (رجاء) على اختلاف مواضعها ومناسباتها. واشد بذكائه وجمال نفسه، وما كنت تعقد على وجوده من أمل، وبهذا تستطيع إن تبقى (رجاء) حيا في عقلك وفؤادك، وبهذا تستطيع أن تجد رجاء أقوى في (خليفة رجاء). وحذار من تضليل الطفل بعاطفة مصطنعة، فإنها لن تخفى عليه مهما صغر سنه، وان هو عجز عن أن يثأر لنفسه منك صغيراً، فلن فلت منه وهو كبير. واعمل بالمبدأ القائل: احي ويسر للآخرين الحياة

وإني بهذه المناسبة، يحضرني حوار شعري طريف، كنت قد حفظته وأنا طفلة بالمدرسة لشاعر الطبيعة الإنجليزي (وردذورث ألخص معناه فيما يلي:

تخيل الشاعر انه قابل مرة طفلة ريفية راقه حسنها، فاستأذن في محادثتها، وسألها:(ألك اخوة وأخوات أيتها الصغيرة؟ قالت: نعم، نحن سبعة من ذكور وإناث، مات منا اثنان. فقال لها: إذن انتم خمسة الآن لا سبعة؟! فقالت: لا، نحن سبعة. فقال إذا كان قد مات منكم اثنان فالأحياء خمسة فقط!! فأجابته الريفية الساذجة بدهشة ردت الشاعر العظيم إلى صوابه قائلة: ولكنهما حيان عند الله وسنتقابل جميعا في الجنة. .)

هذا يا سيدي الأستاذ تحليل طفلة غربية ساذجة، فهل يجوز أن يكون جواب الشرق في مثل هذه الأحوال كذلك؟!!

الجواب منك وإليك، وأنت صاحب النفس الكبيرة، والإيمان العامر. أطال الله بقاءك، وأجمل عزاءك

زينب الحكيم

ص: 34

‌من الشعر المنثور

أحبك أيها الشتاء!

للأستاذ خليل هنداوي

(ألف أدباؤنا أن يكرهوا الشتاء لأنه فصل قاتم الأحشاء، يفرون

من جوه الثقيل ولا يدعون شعره بنفذ إلى قلوبهم، ولكني

أراني تدفعني إلى لقاء الشتاء دوافع لا أستطيع لها دفعاً، وقد

اترك القطر الذي لا تظهر فيه آثار الشتاء كثيراً إلى قطري

الذي تتجلى فيه)

(خ. هـ)

احبك أيها الشتاء!

احب غيومك المتناطحة في الأعالي، تغشى السماء فتحجب زرقتها عن العيون، وتسطو على النور فتتركه قاتم الأحشاء

احب خيوطك المتواصلة التي لا تنقطع، كأنها أغنية السماء للغبراء

احب طيورك السوداء النازحة، هائمة بين الأشجار الجرداء، أو محلقة في الأجواء

احب أشجارك العارية لأنها خلعت ثياباً قديمة وطرحت أوراقاً ذاوية، تاركة لغيرها حق النماء

احب عصافيرك التي تتوارى في الغيوم المدلهمة وقد صرفها التأمل عن الغناء

احب هامات الجبال المكتسية بالثلوج، وبطونها التي في كل منحدر منها ساقية تغني، وفي كل منبطح جدول له خرير

احب رائحة الأرض التي تنم عن كنوز تنطوي عليها فأفعم نفسي بشذاها، وأملأ قلبي من طيب ثراها

احبك حيثما كنت أيها الشتاء!

ص: 36

احبك وأنت تزجي إلى مدينتي الغيوم السوداء

تطرح على غامرها وعامرها شباكاً من خيوطك المتواصلة

فما يبالي العاملون بك، ولا يفر الساعون منك؛ يمشون سراعاً تحت شباكك إلى العمل الذي يناديهم!

احب هذه الحجب القاتمة التي يطرحونها على أبدانهم يتقون بها برد الشتاء

انهم يريدون إن يصافحوك تحت هذه السرابيل ولا يريدون منك فراراً

احبك وأنت تغشى مدينتي لأنني أرى قلبها ينبض ويخفق بهؤلاء المتزاحمين صفوفا متراصة في كل شارع؛ تدوي أصواتهم في قلبك وقد كانت هامدة، وتعلو حركتهم في جوك وقد كانت خامدة

احب أنفاسك المتراكمة على المدينة حابسة أنفاسها فيها. . . أتروح هذه الأنفاس فلا أجد إلا نفساً واحداً، وأنت لو ميزت هذا النفس لرأيت انه خليط من أنفاس متباينة؛

أنفاس زفرت من صدور عاملين بائسين؛ وأنفاس خرجت من رجال ونسوة مرحين

كلها صدتها أنفاسك تحت غيومك، فردتها إلى المدينة نفساً واحداً، أكاد - إذا تروحته - أن أقول: هذا نفس عاشقة تترنح! وهذه زفرة بائس يتروح!

ولكني لا أجدها إلا نفساً واحداً متمازجاً! يعبق في جو المدينة، وينسل إلى دور المدينة

فنهارك الحائل متحرك، وليلك الحالك متحرك

هذه الحركة هي أبرز مظاهرك وخير ظواهرك، تشأ وتنمو في حضنك أيها الشتاء!

احب حركتك التي تدل على ثورة الأرض والسماء فيك، فكل شئ فيهما وبينهما ثائر يتحرك!

توحي غيومك المتناطحة معنى الحركة، وتهدي عواصفك الثائرة ورياحك الجائرة إلى الحركة، وتعلن في كل مكان نزلت فيه الحركة. . .

أقم ما شئت يا شتاء!

ولتدلهم - ما شاءت - غيومك!

فإنني أحببت كل اضطرابك، وأنست باصطخابك يا علامة النفس الحية الثائرة!

خليل هنداوي

ص: 37

‌من مرآتي لامرتين لحبيبته إلفير

إلى إلفير

(. . . أما الشاعر فانه لقادر على أن يترك لمن يحب ويهوى

حياة لا يهرمها العفاء!)

لامرتين

ترجمة الأستاذ معروف الأرناءوط

بلى إن نهر (آنيو) ليمور وقد استفاضت أثباجه، ورجع صداها اسم (سنتي) البهي، وكذلك نهر (الفوكلوز) ألا تراه هادراً دافقاً يحمل إلى صخور (تيبور) اسم (لور) المستحبّ، وان لنهر (فه رار) مثل هذا الشأن، إذ ألقى في سمع العصور الآتية اسم (الينور)

يا لهناءة الجمال وقد عكف الشاعر على عبادته واصطفاه حرماً ومقاماً! بل يا لهناءة الاسم الذي يسكن في أغانيه وأناشيده!

أيتها الحبيبة! انك لتستطيعين أن تبعثي أنفاسك الأخيرة، أما الشاعر فانه لقادر على أن يترك لمن يحب ويهوى حياة لا يهرمها العفاء. ألا ترينه وقد سدر في سدفة، يحلق في الفضاء بجناحين من عبقرية وذكاء؟ إنه ليصعد حتى يلتقي مع الخلود في مصاف واحد

لئن كان زورقي، وقد استخذى للرياح البوارح، غبر يمشي قدماً إلى شاطئٍ وادعٍ ساكنٍ، فذلك لان ريحاٍ لينة سجواء تهافتت عليه ومشت به إلى نور دافق

إذا كانت هنالك شموس ابهر للألَاءً استفاضت فوق هامتي، إذا كانت دموع الحبيبة غسلت حوبات قدري العاثر ورفهت عن جبيني وقد غشيته ظلال الفناء، فربما كان ذلك - عفوك يا صاحب النغم الثائر - حادياً بي إلى أمر يتساوى معه تمردي بالحب الذي يستهويني فأصوغ أناشيد الرثاء والنزع واترك في معبد الحب القديم نصباً قائماً وأثراً خالداً

ألا نرى الرجل الجوَّابة وقد اعتسف السير وارتاد حمى الوادي كيف اطمأن إلى الشجرة الفرعاء، ينعم بوارف ظلها ثم استفزته نوازع النفس إلى نقش اسمه على جذعها فترك بذلك أثراً بيناً

أرأيت كيف تنكر كل شئ واستبهم، وكيف غشيت ظلمة الموت حواشي الطبيعة فتعرت

ص: 39

الأرض من روائها، ونصل زبرج الغابات وذوى، واستفاقت أمواج النهر في أعماق الزاخرة الهزج، وهبت على المروج ريح صرصر عاتية صوحت زهرها وأقاحها ومشت عربة الخريف في مزالق السنين تدفعها إلى المجهول يد الشتاء العابثة

إن الزمن والموت حليفان سلاحهما سيف مرهف الحد عظيم الصليل، انهما ليطويان العالم الخامد ويجددانه كر الغداة ومر العشي

ينثال الحصاد في حضيض النسيان الابدي، وكالصيف الذي يتساقط عشبه وينهار، وكالكرمة الذابلة المصفرة إذ ترى الخريف المخصوصب يلقي بأزهارها إلى القطاف، هكذا ستسقطين وتذبلين يا زهرات العمر القصيرة وما تمثل فيك غير الشباب، والحب والسرور والجمال الزائل

انظر بعين رأفة وحب إلى ذلك الشباب الهادر! انه يتألق ويفيض جمالاً ثم يمتصه السرور والفرح، وحينما تنصب كأسه المترعة لن يبقى منها إلا ذكرى ضئيلة، فإن القبر الذي ينتظره يبتلعه بأسره، ثم يسود هذا الحب سكون أبدي

ولكن العصور الآتية ستمر فوق رغامك يا (إلفير) وستعيشين إلى الأبد

(دمشق)

معروف الأرناءوط

ص: 40

‌إلى نينون.

. .

لألفريد دي موسيه

ترجمة الدكتور احمد ضيف

أستاذ الأدب العربي بدار العلوم

ترى. . . ماذا تقولين لي - يا ذات الشعر الأسود والعيون الزرقاء - إذا بحت لك بحبي. . . الحب كما تعلمين ينبوع أسقام مضنية، بل هو سقم لا يعرف الشفقة. . وانك لتتجرعين آلامه. مع هذا فقد تتوعدينني بالعقاب

نينون! انك لبارعة. . فقد خفي علي انصرافك عني فلم أتنبأ به؛ فإذا قلت لك إن ستة اشهر قد انصرمت في صمت وسكون خفيت فيها آلامي المبرحة وآمالي السانحة. . ربما تقولين انك تعلمين ذلك. . .

فإذا قلت لك إن جنوناً حلواً لذيذاً صيرني ظلاً من ظلالك، وحملني على ألا أفارق خطواتك، وان شيئا من الشك والوجد، كما تعلمين، جعلك اجمل ما تكونين، قد تقولين لا أظن ذلك. وإذا قلت لك إني احفظ في سويداء قلبي كل صغيرة وكبيرة من مسامراتك، وان نظرة ارتياب منك - كما تعلمين - تجعل تلك العيون الزرقاء لهيبا مشتعلاً. . . إذن لتحرمين علي رؤيتك؛ وإذا قلت لك إن السهاد ينتابني كل ليلة، وان البكاء يتملكني كل يوم، وإني أدعو الله جاثياً. . نينون! ألا تعلمين انك عندما تضحكين تظن النحلة أن فمك زهرة قرمزية. . إذا قلت لك ذلك ربما تضحكين مني!

سيخفى عليك أمري فسأجيء إليك صامتا. . اجلس في ضوء مصباحك وأتحدث معك فاسمع صوتك واستنشق عبيرك، ولك أن ترتابي في حبي وان تظني بي الظنون وان تضحكي مني، ولكن لن يتسنى لعينيك إن تعرفا لماذا تنظران إلي شزراً؟

ساجني في الخفاء زهرات حافلة بالأسرار ، وفي المساء اجلس خلفك واسمع عزف يديك على البيانو، واشعر بقدك الرشيق يلتوي بين ذراعي كغصن يميد، وأنت غارقة في لجة الأنغام المرقصة!

فإذا جننا الليل، وبدد النوى شملنا، ودخلت حجرتي، وأرخيت سدولها، تناوبتني ذكريات

ص: 41

أيقضت في نفسي الغيرة؛ فهناك وأنا وحدي أمام الله أهيم فرحاً وسروراً. . . افتح قلبي، وكأنه خزانة من ذهب، فأجده مملوءاً بحبك. . . إني احب وأعرف أن اكتم حبي. . . احب ولا ينبئ عن حبي شئ. . . احب ومثلي لا يذاع له سر! فما اعز سري، وما اعز سقمي وحبي!

لقد أقسمت أن احب في غير أمل ولا رجاء، ولكن في سعادة وهناء. . . إني أراك وكفى! كلا. . . لم اخلق لهذه السعادة الجلى كي أموت بين ذراعيك أو أعيش تحت قدميك! وا أسفاه! كل شئ ينبئ بذلك. . . حتى آلامي. .

مع هذا، ترى ماذا تقولين لي - يا ذات الشعر الأسود والعيون الزرقاء إذا بحت لك بحبي؟

احمد ضيف

ص: 42

‌10 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

الصديق

يقول المنفرد في نفسه (لا أطيق وجود أحد بقربي) ولكثرة ما يقف محدقا في ذاته تظهر التثنية فيه، ويقوم الجدال بين شخصيته وبين ذاته فيشعر بالحاجة إلى صديق. وما الصديق للمنفرد إلا شخص ثالث يحول دون سقوط المتجادلين إلى الأغوار كما تمنع المنطقة المفرغة غرق العائمين

إن أغوار المنفردة بعيدة القرار، فهو بحاجة إلى صديق له أنجاده العالية؛ فثقة الإنسان في غيره تقوده إلى ثقته بنفسه، وتشوقه إلى الصديق ينهض أفكاره من كبواتها.

كثيراً ما يقود الحب إلى التغلب على الحسد، وكثيراً ما يطلب الإنسان الأعداء ليستر ضعفه ويتأكد إمكانه مهاجمة الآخرين.

من يطمح إلى اكتساب الصديق وجب عليه إن يستعد للكفاح من اجله، ولا يصلح للكفاح إلى من يمكنه أن يكون عدواً. يجب على المرء أن يحترم عداءه في صديقه، إذ لا يمكن لك أن تقترب من قلب صديقك إلا حين تهاجمه وتحارب شخصيته.

أنت تريد الظهور أمام صديقك على ما أنت عليه هاتكاً كل ستر عن خفايا نفسك، فلا تعجب إذا رأيت صديقك يعرض عنك ويقذف بك إلى بعيد.

من لا يعرف المصانعة يدفع بالناس للثورة عليه، فاحذر العرى، يا هذا، لأنك لست إلهاً، والآلهة دون سواهم يخجلون من الاستتار.

عليك بارتداء خير لباس أمام صديقك، لتهيب به إلى طلب المثل الأعلى: الإنسان الكامل.

أفما تفرست يوماً في وجه صديقك وهو نائم لترى حقيقته؟ أفما رأيت ملامحه إذ ذاك كأنها ملامحك أنت منعكسة على مرآة مبرقعة معيبة؟ أفما ذعرت لمنظر صديقك وهو مستسلم للكرى؟

ما الإنسان، أيها الرفيق، إلا كائن وجب عليه أن يتفوق على ذاته، وعلى الصديق أن يكون

ص: 43

كشافاً صامتاً، فامسك عن النظر علناً إلى كل شيء ما دمت قادراً في غفلتك على كشف كل ما يفعله صديقك في انتباهه. عليك أن تحل الرموز قبل أن تعلن إشفاقك، فقد ينفر صديقك من الإشفاق ويفضل أن يراك مقنعاً بالحديد وفي عينيك لمعان الخلود.

ليكن عطفك على صديقك متشحاً بالقسوة وفيه شيء من الحقد، فيبدو هذا العطف مليئاً بالرقة والظرف.

كن لصديقيك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء، فان من الناس من يعجز عن التحرر من قيوده ولكنه قادر على تحرير أصدقائه.

دع الصداقة إذا كنت عبداً، وإذا كنت عاتياً فلا تطمح إلى اكتساب الأصدقاء

لقد مرت أحقاب طويلة على المرأة كانت فيها مستبدة أو مستعبدة فهي لم تزل غير أهل للصداقة، فالمرأة لا تعرف غير الحب.

إن حب المرأة ينطوي على تعسف وعماية تجاه من لا تحب، وإذا ما اشتعل بالحب قلبها فان أنواره معرضة أبداً لخطف البروق في الظلام. . .

لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة؛ فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفوراً، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة. . .

ليست المرأة أهلاً للصداقة، ولكن ليقل لي الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إن فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيها الرجال، لان ما تبذلونه لأصدقائكم يمكنني أن ابذله لأعدائي دون أن ازداد فقراً.

إنكم لا تتخذون إلا الأصحاب، فإلى متى تسود الصداقة بينكم؟

ألف هدف وهدف

لقد شاهد زارا كثيراً من البلدان وكثيراً من الشعوب، فنفذ إلى حقيقة الخير والشر، وعرف أن لا قوة في العالم تفوق قوتهما.

تحقق أن ليس على الأرض من شعب تحلو له الحياة دون أن يخضع النظم والسنن لتقديره، وان كل شعب يرى من واجبه، إذا أراد الحياة، أن يجيء بتقدير يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب. وهكذا كان ما يراه أحدها خيراً يراه الآخر دناءة وعاراً.

ذلك ما عرفته، فكم من عمل اتشح بالعيب في بلد، رأيته مجللاً بالشرف والفخر في بلد

ص: 44

آخر.

لم أر جاراً تمكن من إدراك حقيقة جاره، بل رأيت كلاً منهما يعجب لجنون الآخر وقسوته.

لقد علق كل شعب في رأسه لوح شريعته، وسطر عليه ما اجتاز من عقبات وما تضمر إرادته من عزم، فما تراءى له صعب المنال فهو موضوع تمجيده، وما خيره إلا حاجة ملحة عز مطلبها، فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه الحاجة.

إن كل ما يوطد الحكم لهذا الشعب، وكل ما ينيله النصر والمجد ويلقي الرعب في روع جاره مثيراً حسده إنما هو في نظره ذو المكانة الأولى، وما احتل المقام الأول في اعتباره يصبح مقياساً لجميع أموره ومعنىً لجميع ما يحيط به؛ فإذا ما تمكنت من الاطلاع على حاجات أي شعب وخبرت أرضه وجوه وحالة جاره، فانك لتدرك النواميس التي تتحكم فيه وتحفزه إلى المجالدة للغلبة على اهوائه، ولتعرف السبب في اختياره مراقيه الخاصة يتدرج عليها لبلوغ أمانيه.

(عليك أن تكون سباقاً مجلياً في كل مضمار، فلتتلفع نفسك بغيرتها كيلا تبذل الولاء إلا للصديق)

إنها لكلمات إذا وقعت في أذن يوناني، ترتعش نفسه لها فيندفع إلى اقتحام الصعاب طلباً للمجد.

(قل الحق، وكن ماهراً في تفويق سهامك من قوسك)

إنها لوصية صعبت وعزت على الشعب الذي اقتبست اسمي منه، وفي هذا الاسم من المصاعب قدر ما فيه من أمجاد.

(اكرم أباك وامك، ولتكن باراً بهما من صميم قلبك)

وهذه الوصية القائمة على إرغام النفس، قد عمل بها شعب آخر فبلغ القوة واصبح خالداً.

(كن أميناً وابذل للأمانة دمك وشرفك حتى ولو كان جهادك في سبيل ما يضير وما يورد المهالك).

وهذه أيضاً وصية عمل بها شعب آخر، فتغلب على ذاته واصبح عظيماً تثقله الأماني الجسام.

لقد أقام الناس الخير والشر، فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أنزلا عليهم بهاتف من

ص: 45

السماء.

لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذي أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.

ما التقدير إلا الإيجاد بعينه، فأصغوا إلي أيها الموجدون.

ما الكنوز والجواهر إلا أشياء أرادها تقديركم جواهر وكنوزاً، فما القيمة إلا اعتبار، ولولا التقدير لما كان الوجود إلا فتوراً لا نواة فيها. اسمعوا أيها الموجدون: إن قيمة الأشياء تتغير تبعاً لتحول اعتبار الموجد، ولا بد لهذا الموجد من أن يهدم في كل حين.

لقد كانت الشعوب تتولى الإيجاد في البدء حتى ظهر الأفراد الموجدون، فما الفرد في الواقع إلا احدث هيئات الوجود.

لقد أقامت الشعوب لنفسها قدماً شريعة خيرها، وما نشأت هذه الشريعة إلا باتفاق المحبة التي طمحت إلى السيادة، والمحبة التي رضيت بالامتثال.

إن هوى المجموع اقدم من أهواء الفرد، وإذا كان خير الضمائر ما يكمن في المجموع، فان شرها ما يتجلى في الفرد المعلن شخصيته.

والحق أن الشخصية المراوغة التي لا محبة فيها، الشخصية التي ترمي إلى الاستفادة من خير الأكثرية، إنما هي عنوان انحطاط المجموع لا مبدأ كيانه.

ما خلق الخير والشر في كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل جمعاء!

لقد شاهد زارا كثيراً من الشعوب والبلدان فيما رأى قوة على الأرض تفوق قوة المتهوسين، والقوة معنى لكلمتي الخير والشر.

ما أشبه ما يستدعى التمجيد ويستوجب العقاب بالمسخ الهائل، فمن له بسحق هذا المسخ، أيها الاخوة؟ من سيشد بالأغلال على ما يتلع هذا الحيوان من آلاف الأعناق؟

لقد بلغت الأهداف الألف عداً إذ بلغ عدد الشعوب الفاً، فنحن بحاجة إلى قيد واحد لألف عنق، لأننا بحاجة إلى هدف واحد، فالبشرية لم تعرف حتى اليوم لها هدفاً، ولكن إذا كانت الإنسانية تسير ولا غاية لها، أفليس ذلك لقصورها وضلالها؟

هكذا تكلم زارا

ص: 46

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 47

‌12 - تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ ينولد نيكلسون

ترجمة حسن محمد حبشي

الفصل الثاني

ثم ملك بعده الحرث الأصغر بن الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر؛ ومن ولد الحرث الأعرج أيضاً عمرو بن الحرث الذي كان النابغة سار إليه فارق النعمان بن المنذر؛ وكان يقال لعمرو أبو شمر الأصغر ومن ولده المنذر بن الحرث والأيهم ابن الحرث، والأيهم هذا أبو جبلة بن الايهم؛ وجبلة آخر ملوك غسان، وكان طوله اثني عشر شبراً، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض، وأدرك الإسلام فأسلم في خلافة عمر بن الخطاب ثم تنصر بعد فلك ولحق بالروم. وكان سبب تنصره انه مر في سوق دمشق فأوطأ رجلاً فرشه فوثب الرجل فلطمه فأخذه الغسانيون فادخلوه على أبى عبيدة الجراح فقالوا هذا لطم سيدنا. فقال أبو عبيدة:(البينة بان هذا لطمك؟) قال وما تصنع بالبينة؟ قال إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال ولا يقتل؟ قال لا. قال تقطع يده؟ قال لا، إنما أمر الله بالقصاص فهي لطمة بلطمة، فخرج جبلة ولحق بأرض الروم وتنصر ولم يزل هناك إلى أن هلك). وإن الأخبار العربية الخاصة بدولة الغساسنة لمحيرة موئسة، وقل أن تمد الباحث بأي مادة حتى يستطيع أن يؤلف من شتاتها هيكلاً تاريخياً تقريبياً بإضافتها إلى النتف المبعثرة في كتب المؤلفين البيزنطيين. ويظهر أن أول أمير مستقل من الغساسنة هو الحرث بن جبلة الذي اختاره جستنيانوس حوالي 529م ليكون في جانبه ضد المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، وقد قضى الجانب الأعظم من حكمه الطويل (529 - 569) في حروب طاحنة مع منافسة الخطير الذي ذكر شيء عن دفاعه وموته في الواقعة الفاصلة واقعة حليمة التي أشرنا إليها آنفاً، وكان الحرث مسيحياً يعقوبياً، وقد دافع عن هذا المذهب دفاعاً شديداً في حماسة منقطعة النظير في وقت كان التعلق بأهدابه إبانه مجازفة خطيرة. وان القصة التالية لتصور خلقه الخشن المخيف: ذلك انه في أخريات أيامه زار القسطنطينية ليتفق مع السلطة الحاكمة هناك عمن يخلفه من أبنائه، واستطاع أن يجتذب إليه عطف الكثيرين،

ص: 48

وترك أثراً عظيماً في نفوس أهلها وخاصة ابن أخي الإمبراطور جستنيانوس؛ وبعد عدة أعوام حينما تقدم بجستنيانوس عمره وأصابه الجنون، خافه حجابه إذا اخذ يهذي بقوله:(هش سيأتي ارثاس ويأخذكم).

وخلف الحارث ابنه المنذر الذي ظهر على ملك الحيرة الجديد قابوس بن هند عام 570م في الموقعة التي ربما كانت هي المعروفة عند العرب بعين أباغ، وربما يكون رفض الإمبراطور جستنيانوس إمداده بالمال مانعاً إياه (المنذر) من الاهتمام برعاية مصالحه؛ وكان ذلك فاتحة عداء بينهما، ولذلك تلبدت سماء صداقتهما بغيوم عداء ظل مستحكم الحلقات إحدى عشرة سنة؛ ومنذ ذلك الوقت حتى استيلاء الفرس على فلسطين سنة 612م ضربت الفوضى بجرانها، وعمت أرجاء مملكة الغساسنة، فأخذت القبائل المختلفة تختار رؤسائها الذين كانوا بطبيعة الحال، وفي كثير من الأحيان، من جفنة؛ ولكن الأسرة نفسها تحطمت تماماً؛ وغير بعيد إن تكون قد استعادت قواها الداثرة وسطوتها الغابرة، حينما طرد هرقل الفرس من ارض سورية سنة 629م إذ نجد الغساسنة مراراً يحاربون المسلمين بجانب رومة، ويتفق المؤرخون العرب جميعاً على إن جبلة بن الأهيم الجفني - الذي كان له ضلع كبير في النزاع - هو آخر ملك غساني، وقد حكم حوالي سنة 635م؛ وان الشاعر حسان بن ثابت الذي كانت تربطه رابطة القربى بالغساسنة قد زار في شبابه بلاطهم فصور لنا تصويراً شاملاً دقيقاً ما يموج به من صور النعيم والترف والعظمة في قوله (لقد رأيت عشر قيان: خمساً روميات يغنين بالرومية، وخمساً يغنين غناء أهل الحيرة أهداهن إليه إياس بن قبيصة، وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها، وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف من الفضة وأوقد له العود المندى إن كان شاتياً، وان كان صائفاً بطن بالثلج واتى هو وأصحابه بكساء صيفية يتفضل بها هو وأصحابه في الصيف، وفي الشتاء الفراء والفنك وما أشبهه؛ ولا والله ما جلست معه يوماً قط إلا خلع على ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه. هذا مع حلم عمن جهل، وضحك من غير مسألة، مع حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خناً قط ولا عربدة)

ولم تكن إقامة الغساسنة ثابتة بعكس منافسيهم في الفرات، فقد حكموا الإقليم الذي حول

ص: 49

دمشق وتدمر، ولكن هذه الأماكن لم تكن في حوزتهم أبداً، وكانت عاصمة ملكهم البدوية (الحيرة) التي ظلت تنتقل معهم هنا وهناك، ولكنها كانت توجد عادة في الجولان جنوب دمشق، وقد استطاع الغساسنة إن ينشئوا حضارة اعظم من حضارة اللخميين لتأثر الأولين تأثراً شديداً بالثقافة الإغريقية، وللطبيعة البدوية التي كان عليها الآخرون الذين كانوا أوثق اتصالاً بالعرب الوثنيين الذين استطاعوا أن يسموهم بميسهم. وان بعض مظاهر هذه الحضارة لتتضح لنا من خلال الوصف الشائق لبلاط جبلة بن الأيهم، ذلك وصف الذي ينسب إلى الشاعر حسان. ولما صب النعمان الثالث ملك الحيرة جام غضبه على الشاعر الألمعي النابغة هرب إلى سورية حيث نظم قصيدة رائعة امتدح فيها الغساسنة في شخص مليكهم الحرث بن الأعرج، وبعد إن امتدح بسالتهم وشجاعتهم في ركوب متن الأهوال التي صورها في بيت واحد قوي يقوله فيه:

ولا عيب فيهم غير إن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

اخذ يقول:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم

من الجود والأحلام غير عوازب

محلتهم ذات الأله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

رقاق النعال طيب حجزاتهم

يحيون بالريحان يوم السباسب

تحييهم بيض الولائد بينهم

وأكيسة الإضريج فوق المشاجب

يصونون أجساداً قديماً نعيمها

بخالصة الأردان خضر المناكب

وتاريخ البدو أيام الجاهلية لا يخرج من كونه سجلاً لحروبهم، أو بالأحرى عن ذكر عصابات كانت تغير على القوافل بين آن وآخر للسلب والنهب، ولم تكن ثمة حاجة إلى الاستغاثة، بل كان كل فريق منهم يفخر بنسبه، ويرمي الآخر بوابل هطال من الأهاجي المقذعة وتؤسر الإبل والنساء، كما كانت المناوشات العدة تقوم بينهم، ولكن القليل منها يؤدي إلى نشوب حرب، وكان ذلك نوعاً من الحروب الهوميرية أتاح فرصة طيبة للقيام بأعمال تنطوي على البطولة. ويقول ثوريك في ذلك: (وإذا شئنا أن نكتب التاريخ الواقعي لمثل هذه المنازعات البدوية وجدنا ذلك اقرب إلى المستحيل. أما عن المصادر المعاصرة لها التي تستأهل عناية الباحث، فليس لدينا سوى القصائد والمقطعات الشعرية التي ظلت

ص: 50

محفوظة، وطبقاً لما يذكره السيوطي كان العرب يطلبون من أي بدوي يقص حادثة تاريخية إن يقرنها ببعض أشعار تتعلق بها. وفي الحقيقة أن هذه الأقاصيص وأشباهها التي حفظت على مر العصور حتى وصلت إلينا قد تبلورت حول القصائد. ومما يؤسف له أنها قلما كانت صحيحة، وكثيراً ما يتضح أن الأقاصيص قد اخترعت اختراعاً حتى توافق موضوع الأشعار).

حسن حبشي

ص: 51

‌الفنون

رمبراندت

للدكتور احمد موسى

بقية ما نشر في العدد الماضي

أما صور الجماعات، فمنها ما هو في منتهى الروعة والقوة. وصورة التشريح تمثل عدداً من فطاحل أطباء أمستردام متلفتين حول جثة منبسطة على منضدة التشريح، والدكتور تلب يلقي عليهم شيئاً عن حالة تشريحية معينة أتم الفنان تصويرها سنة 1632، وكانت في دار جماعة الأطباء بأمستردام إلى أن أخذتها الجليري الملوكية في الهاي. وهي صورة تمثل ثمانية اشخاص، سبعة منهم يستمعون لثامنهم وهو الدكتور تلب، وتظهر على الوجوه إجمالاً ملامح الوقار العلمي والشوق إلى معرفة الجديد. أما الدكتور تلب فقد مثل الثبات والهدوء اللازمين للعالم، ماسكاً (جفتاً) بيمينه رافعاً به الشرايين، ناظراً إلى زملائه، متحفزاً للشرح، مشيراً بيسراه إشارة العالم الواثق الذي تنبعث من عينيه نظرة محيطة بالدرس والفحص؛ وتبدو على وجوه المستمعين ظاهرة الرغبة الأكيدة والاستغراب، انظر للواقف إلى جانب الدكتور تلب، ممسكاً صفحة ورق بيسراه، ألا ترى وجهه ناطقاً بالحياة؟ ثم انظر إلى التكوين المجموعي للرؤوس وقد بدت اللحى نامية تحت الذقن، سنة العلماء ذلك الحين. لقد جمع رمبراندت بين بساطة مظهر العالم وبين جلالة العلم والوقار، أما الجثة فلا يمكن إخراجها بأحسن مما أخرجه رمبراندت، فهي مسلوبة الإرادة تماماً، ترى اليد مرتمية ارتماءً متراخياً على المنضدة، فضلاً عما ظهر على الوجه من علائم فقدان الحياة؛ فالفم مفتوح والعينان مغمضتان، والجسم عار، والذراع الأيسر مشرح ظهرت منه الشرايين ممسوك بعضها بالجفت، وهي في مجموعها لا تدل فقط على القوة في الإخراج، بل تدل أيضاً على النزعة العظيمة التي نزع إليها رمبراندت، فهو ميال إلى الجديد، مدفوع بعامل الفن إلى خدمة النواحي البعيدة التي لولا تفكيره فيها واتجاهه إليها لما شرع في عمل شبيهاتها غيره من بعده

وتكاد تكون أهم لوحاته عموماً صورة الحراسة الليلية وهي أكبرها مساحة، إذ بلغ طولها

ص: 52

أربعة أمتار ونصف متر وعرضها ثلاثة أمتار ونصف أو يزيد قليلاً. وبالرغم من إن الصورة تظهر كما لو كانت تمثل فرقة من الجنود الأمسترداميين خارجين من مركزهم نهاراً، فنظر لما وقع من أشعة النور على جانب من وجوههم؛ إلا إن الظل والنور في الصورة يعطي فكرة صحيحة عن قوة هذا العبقري ولمسه جمال التصوير في ظلام حالك يخترقه شعاع من النور، فيزيد في جلال التصوير بجوار الظلام الحالك. تمثل هذه اللوحة عشرين شخصاً لا ترى وجهاً يشابه الآخر، ولكنه مع هذا جعل الجزء منسجم في الكل ومندمج في المجموع؛ فهو بتصويره على هذه الصفة أشبه بملحن موسيقي يوزع قطعته على آلات موسيقية عديدة، جاعلاً الانسجام الكلي متوافراً بينهما ليتم بذلك الخلق الفني المنشود.

صورها رمبراندت في فترة طويلة وأتمها سنة 1642، وهي مع اتساع مساحتها مليئة بالإنشاء، لا ترى فيها فراغ إصبع دون معنى أو دون عناية، جعل الظل شديداً والنور شديداً فظهرت بألوانها الساحرة معجزة عصره.

ومجموعته للصور الدينية كبيرة عظيمة من أهمها صورة (بولص في السجن) مؤرخة سنة 1627 ومحفوظة باستوتجارت، وسمسون ودليلة سنة 1628 ببرلين، والعائلة المقدسة سنة 1631 بميونيخ وتجهيز الصليب 1633 بميونيخ ايضاً، وانزال المسيح من الصلب 1633، وضحية إسحاق 1635 ببطرسبرج، وسيمون ينذر حماه، وصعود المسيح 1636، وعائلة توبياس 1637 باللوفر، وبعث المسيح 1639 بميونيخ، وبحث العذراء عن المأوى 1640 في جروسفنور هاوس بلندن، والعائلة المقدسة باللوفر، وتضحية مانو مؤرخة 1641 بدرسدن؛ وهي أيضاً تكمل تعريفنا بفنان لا يمضي يوم دون ذكر اسمه في عالم الثقافة والفن. انظر إلى وجهي القديسة والقديس وما بدا عليهما من فرط الخشوع والاستسلام. أما الملابس بثناياها وتفاصيلها، والدار والمدخل والسلم، فكلها بجانب ما ظهر على تكوين الملاك الصاعد شيء ثانوي؛ صوره كما لو كان مسحوباً من أعلى بإرادة خارقة، وتراه وقد تجرد عن الإرادة الذاتية صاعداً دون مقاومة.

وصورة الزوجة الزانية أمام المسيح 1644، والعائلة المقدسة 1645 ببطرسبرج، وإبراهيم مضيفاً لملاك 1645 ببطرسبرج أيضاً، وسوزانا في الحمام 1647 ببرلين، وداود وشارل

ص: 53

يعزفان الهارب بامستردام، وأولاد يعقوب يحضرون لأبيهم بدم أخيهم يوسف ببطرسبرج، وعودة الابن المفقود (وهذه أيضاً من احسن لوحاته) ببطرسبرج.

أما الصورة الطبيعية، والتي تظهر أنها لم تتجاوز الاثنتي عشرة، فمن أهمها صورة الطاحونة وهي في حيازة اللورد لانسدون، وصورة الرعد في متحف براونشيوايج، وصورة منظر جبلي على سفحه بعض خرائب وهي مؤرخة 1560 بجاليري كاسل، وصورة جبال وقع عليها ضوء القمر فجعلها تؤثر على الناظر تأثيراً شعرياً غريباً. ومجموعته بالقلم الرصاص والريشة معظمها باللوفر وفينا، وبمتحف الصور اليدوية بميونيخ وبرلين ودرسدن، وبالمتحف البريطاني، وبمتحف هارلم وأمستردام غير ما لدى الأثرياء؛ وهي كلها تبلغ حوالي المائتين وستين صورة تصلح لان تكون وحدها رسالة علمية فنية لحلقة في سلسة تاريخ الفن العام.

ولا يحضرني الآن ما أقوله عن رمبراندت الخالد سوى قول شيللر:

(إن الإنتاج الفني الحق لا ينبغي أن يحيط بما هو خارق للعادة من الناحية الإشتمالية البحت، ولكنه ينبغي أن يشمل ما هو خارق لها من الناحية التكوينية، التي بها يتأثر الإنسان بكليته؛ على حين لا يتأثر إلى هذا الحد بالناحية الإنشائية التي لا تهم غالباً إلا الأخصاء ذوي الحاجة المحدودة).

احمد موسى

ص: 54

‌من هنا وهناك

غاندي والفيران

انتهى سلطان غاندي في الهند وظهرت حقيقة الزعيم الذي كان بريق شهرته يخطف الأبصار. وفي الحق لقد كان الناس معذورين في إعجابهم بغاندي، لا سيما أيام إعلانه العصيان المدني وصبره الجميل لبطش نائب الملك وغطرسة الحكام الإنجليز؛ فلما فشل العصيان المدني ورأى الهنود أن غاندي كان يسخرهم في تيه لا طائل وراءه، هب الشباب في أنحاء الهند يسخطون على المهاتما ولم يبالوا أن يلتفوا حول جوهر لال نهرو. وزهدهم في غاندي انغماسه الشديد في الهندوكية، ودفاعه الحار عن تعاليمها التي هي سبب نكبة الهندوكيين. وغاندي برهمي سخيف العقيدة، فهو مؤمن سني يقدس البقرة ويتبرك بروثها بل يتطهر به، وهو لذلك لا يرى مانعا من أن تترك 70 مليون بقرة سائمة، لا يستطيع أحد أن يطردها من حقله إذا عاثت فيه أو نفشت في زرعه. ويدعي غاندي أنه انصرف عن الميدان السياسي إلى نصرة المنبوذين وتخليصهم، وكان ادعاؤه ذلك جميلاً لو أنه عمل به، ولكن غاندي، بدلاً من أن يوصي بالمنبوذين خيراً ويكف عنهم أذى البراهمة أوصاهم بالصبر على هذا الأذى. . . لأن الدين يأمر بذلك. . . وهو يقول أن الدين يأمر بذلك، ويعلم أن الفيدا - كتاب البراهمة المقدس - لم يرد فيه سطر واحد يهون فيه من شأن هذه الطبقة البائسة. وبذلك كان غاندي ضغثا على المنبوذين، وكان موقفه الموئس سبباً في ثورة الدكتور امبيدكار - زعيم المنبوزين - عليه وتصميمه على الانحياز بإخوانه، وهم سبعون مليوناً - إما إلى المسلمين وإما إلى السيخ.

ولكن المضحك من أمر غاندي هو انهيار ماضيه العظيم وتربيته العالية تلقاء خرافات الصوفية البرهمية التي لا تطاق. فقد حدث أن زلزلت الأرض زلزالها في الهند وانخسف جانب عظيم من الأرض، فما كان من غاندي إلا أن عزا الزلزال إلى غضب الآلهة؟! واحنق بذلك أديب الهند الكبير طاغور. وحدث مرة ثانية أن اجتاح الهند طاعون قتال، فأوصت الحكومة بوجوب محاربة الفيران لأنها اكبر الوسائل في نقل ميكروب هذا المرض. . . فما كان من غاندي إلا أن هب يحمي الفيران ويناضل عنها (لأنها مخلوقات ضعيفة لا حول لها وهي لا تستحق التعذيب والقتل لكي يسعد الناس، والطاعون قضاء من

ص: 55

السماء إن شاءت رفعته!!).

بين يوريبيدز وأرسطوفان

كان يوريبيدز عدواً للمرأة، وهو في كل دراماته كان يبشر بالحد من سلطانها وجعل الرجل سيدها المطلق. ولم يكن يؤمن بها مطلقاً، وكان يبني مآسيه دائماً على المصائب التي تنبع من مكرها والتي كان يعزوها إلى الشيطان الثاوي في أعماقها؛ وعلة ذلك انه كان بائساً في زواجه؛ فقد دخل الجحيم عندما تزوج زوجته الأولى، فلما خرج منها تزوج زوجته الثانية استقر في سقر، ولم يسعه إلا أن يطلقها كذلك، وقد طلق زوجتيه لأنهما كلتيهما خانتاه وصبتا إلى غيره. . .

هذا ويوريبيدز أقوى رجال المسرح اليوناني، ودراماته تدل على تفكير عميق وخيال خصب، ولكنه هاج الرأي العام اليوناني بأفكاره المتطرفة وآرائه التي كان لا يتورع أن يسخر فيها بالآلهة، بله الناس.

وقد سلطت المقادير أرسطوفان - الدرامي الكوميدي - على يوريبيدز يوسعه سخرية، ويتخذ من أدبه هزواً؛ وأرسطوفان اكبر أديب مهرج عرفه التاريخ، وهو لا يستحي أن يظهر على المسرح بطل الدرامة راكباً حماراً اعرج، أو يلبس الرجل زي امرأة وما يلبث أن ينكشف آخر الأمر؛ وقد يحشو الرواية بنكات مكشوفة تتصل بالعرض وتنهش الشرف ويحمر لها وجه الفضيلة.

وسنلخص كوميديات أرسطو فان في هذه النبذ في الأعداد التالية، غير أن الذي يروعنا منه في هذه المناسبة هو جراءته الكريهة على سيد أدباء اليونان والتعريض المزري بأمه؛ وكان يبالغ في إيذائه فيتهمها بالدعارة والفجور، وأنها كانت في صدر حياتها تبيع الفجل والخيار والطماطم في (مشنة) تحملها على رأسها وتنادي في شوارع أثينا!! وكان اليونانيون يسمعون هذا البذاء ويغضون. وقد أدى رضاءهم عن أرسطوفان إلى سقوطهم وظهور رومة عليهم.

سرفانتس

هاج ضرب الثوار الإسبانيين للطراد سرفانتس ذكريات سرفانتس الكاتب الروائي الإسباني

ص: 56

العظيم صاحب (دون كوبكسوت) والذي يباهي به الإسبانيون الإنجليز كما يباهي الإنجليز كل العالم بشاكسبير. والذي يقرأ سرفانتس لا يلبث أن يتملكه الإعجاب الشديد بذكائه الخارق، ونشاط روحه التي يطبعها المرح، وتسبح في لجة من المزاح البريء والدعابة الخلابة والنكتة الحلوة المضحكة. ولقد كتب سرفانتس مقدمة كتابه (دون كوبكسوت) وهو نزيل السجن، وقد صدرت تلك المقدمة عام 1605 فما لبثت أن ترجمت إلى الإنجليزية ثم الفرنسية بعد صدورها بعام واحد. هذا وقد صدر الجزء الثاني سنة 1615، وقد استطاع سرفانتس أن يتناول في كتابه هذا الخالد حياة طبقات الناس في إسبانيا كما لو كان عائشاً بينهم - ولم تفته طبقة من تلك الطبقات على كثرتها إلا وتغلغل فيها واندمج في معائشها. فهو يصف المحامين والحلاقين، والأطباء والسماسرة، والمعلمين واللصوص، والكهنة وعذارى الأندلسيات من العرب والطباخين وأميرات قشتالة والجزائر. وشخصية دون كوبكسوت شخصية عجيبة اخترعها سرفانتس فجعلها تحب وتكره، وتسخط وترضى، وتنشد المثل الأعلى للحياة والقدوة الصالحة للفروسية، ودون كوبكسوت رجل غريب الاطوار، وهو في الحقيقة يمثل سرفانتس نفسه، لأنه شقي كما شقي صاحبه، وتعذب كما تعذب، وجال في الآفاق كما سجن سرفانتس وحي عبداً رقيقاً في قيود البيئات المختلفة كما حي سرفانتس عبداً رقيقاً عند أحد أمراء الجزائر ببلاد المغرب. ولقد عاش سرفانتس في العصر الذهبي لإسبانيا المسيحية في القرن السادس عشر بعد جلاء العرب والقضاء على صولة ملوك الطوائف، ومات في نفس اليوم الذي مات فيه شاكسبير من عام 1616.

يوريبيدز والسوفسطائيون

يصغر يوريبيدز الشاعر الدرامي اليوناني الكبير مواطنه سوفوكلس بخمسة عشر عاماً، ولهذه الخمسة عشر عاماً أثر كبير جداً في المسرح اليوناني الذي بدله يوريبيدز وغير معالمه إن لم يكن قد هدمه وأقامه على أسس جديدة متينة. ففي هذه الفترة كان السوفسطائيون قد عظم سلطانهم، واتسع مدى تعليمهم، وتأثر الناس بفلسفتهم، لأنهم علموا اليونانيين قواعد النقد، وبذروا في نفوسهم الشك، وجعلوهم يستريبون في كل قديم حتى آلهتهم، لأنهم كانوا يجيدون الجدل ويتقنون المنطق، فوسعهم أن يصبحوا المعلمين الفنيين لجميع الشعب اليوناني المثقف. ولقد تأثر بهم يوريبيدز، وانتهل من مورد فلسفاتهم، ومن

ص: 57

هنا ثورته على التقاليد القديمة للمسرح، واستهزاؤه الشديد بآلهتهم، ونظرته إلى هذه الآلهة نظرة السخرية المرة التي تقع في اعتبارها موقع المردة والشياطين الجبارين، لا موقع الأرباب الرحماء.

حقيقة لقد أسخط يوريبيدز قومه، ولكنه فتح عيونهم على حقيقة الحياة، وبدلاً من أن يقدم لهم روايات أبطالها الأرباب وأنصاف الارباب؛ قدم لهم روايات أبطالها هؤلاء الناس، وحوادثها تلك الحوادث التي تزدحم بها الحياة كل يوم. . . الحب والبغضاء، والحقد، والطمع، والأنانية، و. . . المرأة!.

ولا نغالي إذا قلنا إن يوريبيدز هو الذي أنار الذهن اليوناني واعد الأفكار لثورة الفلاسفة (سقراط وأفلاطون وأرسطو. . .) وبالتالي فهو الذي أنار أذهاننا منذ اكثر من أربعة وعشرين قرناً.

هل برنردشو كافر؟

لا تستطيع أن تدعو برنردشو فيلسوفاً؛ مع انه احسن الفلاسفة الذين يعيشون في العصر الحديث، وليس في هذا الكلام تناقض، إذ لا تستطيع أن تحدد فلسفة شو كما تحدد فلسفة نيتشه أو كانت أو ديكارت أو برجسون، وكل من هؤلاء قد ترك أثراً كبيراً أو طفيفاً في عصره وبيئته، ولكن شو قد ترك آثاراً جليلة في الدنيا برمتها، وسيعيش أدب شو، ولكن أدباً كأدب ولز سيموت. ذلك أن أدب شو كتب لهذا الجيل وللأجيال القادمة، أو قل انه كتب للنفس البشرية في كل العصور، ولكن ولز يكتب لهذا العصر الذي نعيش فيه فقط، وقد ماتت كل كتبه التي دعا فيها إلى الإخاء الأممي. وها هي ذي الدكتاتوريات تبتلع آراءه وتغيبها في أعماق الظلام. ولذلك كتبنا مرة أن ولز قد مات وكان ذلك يوم الاحتفال ببلوغه السبعين، وكنا نقصد انه مات بأفكاره وكتبه وقصصه لولا أن سها الصفاف فاغفل هذه العبارة. وفلسفة شو هي باقات يانعة من الآراء الاجتماعية منتثرة في قصصه ودراماته، وليست له نظرية محدودة كما للفلاسفة، ولكن الذي يبرز بروزاً واضحاً منها هو كفره الصريح وإيمانه بان الله هو الحياة نفسها، وليس شيئاً آخر. ومع أن هذا الرجل متأثر إلى حد بعيد بالطهريين، وهو إلى الآن ينحو نحوهم في امتناعه عن إيذاء الحيوان والاكتفاء بالأغذية النباتية فانه يكفر بأفكارهم ويثور على تقاليدهم الاجتماعية بكل ما فيه من قوة

ص: 58

وجلد. وقلما ألف شو في الحب، وهو يستهزئ بالمحبين، ولذلك لم ترج دراماته في مصر خاصة، وفي ممالك البحر الأبيض عامة، ذلك لان شعوب هذا البحر شعوب وجدانيون مولعون بالموسيقى والرقص والغناء والفنون، وهذه كلها من آلات الحب، ويدلنا ذلك أيضاً على رجحان العقل في رأس شو على القلب في صدره، ولذلك لم ندهش يوم زار مصر وتفرج على آثار توت عنخ واحتقرها، وقال انه جدير بمصر أن تبيعها للأمريكان وتبني بثمنها سدودا على النيل أو تسدد بها ديونها. حقا إن شو لكافر!.

د. خ

ص: 59

‌البريد الأدبي

ذخائر أسبانيا الفنية

أثارت أهوال الحرب الأهلية الإسبانية جزع الكثيرين على مصير ذخائر إسبانيا الفنية والأدبية، ولكن السنيور كارلوس مونيثلو رئيس الجنة التي الفت للمحافظة على هذه الذخائر يؤكد لنا أن تراث إسبانيا الفني قد نجا من السلب والتخريب، وانه اليوم حيثما يصان من كل عبث، ولم تفت هذه المشكلة الخطيرة حكومة مدريد حينما اشتدت وطأة الحرب الأهلية، فقد الفت لجنة من العلماء والفنيين لتعنى بالمحافظة على تراث إسبانيا الفني؛ وبادرت اللجنة بنقل ذخائر الاسكوريال (ومنها المكتبة العربية الأندلسية) إلى مكان امين؛ ولما اشتد هجوم الثوار على مدريد وتقاطرت قنابلهم على المدينة المحصورة نقلت اللجنة معظم الذخائر الفنية إلى بلنسية حيث تقوم الآن حكومة الجمهورية. ويقول السنيور مونيثلو انه قد فقدت بعض الذخائر أو أتلفت خلال الحرب، ولكن من جهة أخرى وجدت ذخائر كثيرة كانت مدفونة في أعماق الأديار أو مخبأة في المجموعات الخاصة، وهذه وحدها تعدل كل ما فقد أو أتلف أو تزيد عنه. وقد وجدت أيضاً عدة صور ومخطوطات ثمينة في المنازل والمكاتب الخاصة التي تركها أصحابها حينما اقترب الثوار من مدريد، ومنها مخطوطات كانت قد سرقت من الكتبة الوطنية وقد سجلت هذه الذخائر كلها في قوائم سرية حيث لا يعرف بوجودها أحد، وحتى يبت في مصيرها متى وضعت الحرب أوزارها، ومما عثرت عليه اللجنة من الذخائر المجهولة مخطوط بأغاني برثيو أقدم شاعر إسباني، ومخطوط من كتب لوبي دي فيجا اعظم شعراء إسبانيا. وقد زعم الثوار أن الجمهوريين أتلفوا ذخائر كنيسة طليطلة ومنها صورة الجريكو الشهير، ولكن السنيور مونيثلو يؤكد أن الجمهوريين غادروا الكنيسة سليمة بكل ذخائرها وحافظوا عليها حتى اللحظة الاخيرة، وحاولت اللجنة الجمهورية أولاً أن تحمي المتاحف العامة بوضع أكياس الرمل وحظائر السمنت، ولكن إلقاء القنابل المحرقة كان يهددها بالدمار، فعند إذ قررت نقلها من مدريد، ونقلت معظم الذخائر الشهيرة مثل صور موريليو، وفيلاسكيز، ونقوش جويا، وصور رافائيل كلها إلى بلنسية، ولما شبت النار في قصر دوقات ألبه من جراء قنابل الثوار، بذل الجمهوريون جهداً عنيفاً لإنقاذ معظم ما فيه من الذخائر الفنية، وهكذا

ص: 60

استطاعت الحكومة الجمهورية خلال الأهوال والخطوب أن تنقذ معظم تراث إسبانيا الفني ليبقى ذخراً لإسبانيا وللحضارة كلها.

حول تنظيم المسرح المصري

نشرت مجلة (الكوميديا) الفرنسية في أحد أعدادها الأخيرة مقالاً عن تنظيم المسرح المصري، ذكرت فيه أن المسيو جورج ريمون مراقب الفنون الجميلة بوزارة المعارف العمومية قد اقترح على الوزارة أن تنتدب الفنان الفرنسي الكبير المسيو اميل فابر المدير السابق لمسرح (الكوميدي فرانسيز) ليقوم بمهمة تنظيم المسرح المصري. والأستاذ فابر من اعظم الأخصائيين في فن التنظيم المسرحي، ومن أعظمهم مقدرة وافتتاناً؛ وقد اشرف مدى أعوام طويلة على تنظيم مسرح الكوميدي فرانسيز وهو مسرح الدولة، وأحرز على يديه تقدماً باهراً. ولكن الذي يدعو إلى التأمل أن ينتدب المسيو فابر لتنظيم مسرح شرقي ذي تقاليد خاصة تمتزج بعادات الشعب وعقائده الدينية، ذلك أنه إذا كانت روح المسرح ومقاصده واحدة في مختلف المجتمعات، فانه يختلف في توجيهه وفي مظاهره وفي وسائله لتحقيق غاياته الثقافية، باختلاف الأمم والشعوب، وهذا ما نرجو أن تفطن إليه وزارة المعارف.

وقد صرح مسيو فابر لمكاتب الصحيفة المذكورة انه قد خوطب فعلاً في قبول هذه المهمة وانه قد يسافر قريباً إلى مصر.

مجموعة شعرية فرنسية عن مصر

أصدرت السيدة إيمي خير الكاتبة الشاعرة المعروفة وعضو نادي القلم المصري مجموعة شعرية جديدة بالفرنسية عنوانها (تعاريج النهر) وتحتوي هذه المجموعة على عشرات من القصائد والمقطوعات الساحرة في وصف أيام مصر ولياليها، ومروجها وضفاف نيلها؛ وعدة أخرى في سعادة الأمومة ومتاعبها. ويمتاز نظم السيدة إيمي خير بالدقة والبساطة المؤثرة؛ وهي فوق كونها شاعرة أديبة ممتازة، عالجت القصة وأخرجت منذ بضعة أعوام بالفرنسية قصتها المعروفة (سلمى وقريتها).

بعض أوراق البردي المصرية

ص: 61

كانت مكتبة ريلاند الشهيرة بمنشستر قد اقتنت في سنة 1917 على يد الدكتور رندل هاريس مجموعة من أوراق البردي المصرية، وبينما كان العلامة الأثري الأستاذ روبرتس يعنى أخيراً بفحص هذه المجموعة إذ استوقف نظره قطعة سميكة من الورق المقوى كانت قد وجدت في تابوت مومياء، وظهر بفحصها أنها مجموعة من عدة أوراق البردي ألصقت معاً، فتولى الأستاذ علاجها ووصل أوراقها، ولجأ في ذلك إلى عدة عمليات صعبة دقيقة، وكلل مجهوده بالنجاح إذ أخرجت كل ورقة منها على حدة، ووجد أنها عبارة عن مجموعة أدبية شعرية ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد؛ ومن بينها عدة مقطوعات من كتاب (الدوترونوم)، وعدة أخرى من الكتاب الأول من (الإلياذة)، وقطعتان من مأساة يونانية قديمة، وقطعة من كتاب تاريخي، وبعض قصائد متفرقة؛ فعولجت الأوراق جميعها، وألقيت عليها طبقة من الصمغ تمسك أجزائها.

عصير البرتقال والدم الإنساني

هل يحل عصير البرتقال مكان الدم الإنساني؟ إن عملية نقل الدم الإنساني من شخص سليم قوي البنية إلى شخص عليل يحتاج إلى الغذاء الدموي ليست حديثة، فقد ظهر من النقوش والصور المصرية القديمة أنها لم تغب عن تفكير الطب المصري القديم. ولكن هذه العملية تغدو اليوم من أهم الظواهر والوسائل الطبية في عصرنا؛ وفي برلين وحدها مائة شخص من الأقوياء يعطون دمهم للمرضى؛ واشتهر من بينهم بالأخص شخص يدعى إدموند أكارث تبرع منذ سنة 1933 إلى نحو خمسين مريضاً بدمه وخص كل منهم نحو نصف لتر، والمدهش في أمر هذا الرجل انه يعيش طبقاً لنظام خاص، ويشرب كميات كبيرة من عصير البرتقال والليمون، ويؤكد أن هذا العصير من اعظم المقويات الغذائية والدموية وهو يتناول منه نحو ثلاثين قدحاً في اليوم. وقد أثارت حالة هذا الشخص دهشة الأطباء، ويتولى بعضهم فحصه ليرى مبلغ ما يمكن أن يؤديه عصير البرتقال في تقوية الدم وغزارته.

التدريم بمناسبة ما جاء في افتتاحية العدد الماضي

أهم شيء في (المنيكير) هو تسوية الأظفار بعد القص، فإذا وضعت لها لفظة (التدريم)

ص: 62

مشت الحال.

جاء في القاموس المحيط: (درم أظفاره تدريماً سواها بعد القص).

والاصطلاح والاستعمال سيشملان سائر تلك العناية باليد، وهل اللغات اصلها إلا تواضع واصطلاح، فيقال:

فن التدريم، تدريم اليد، درمت يدي، الآنسة المدرمة، الأوانس المدرمات، ما اجمل هذا التدريم.

(وفوق كل ذي علم عليم)

أحد القراء

النشيد القومي

نشرت جريدة الأهرام هذا الخبر:

تلقى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف كتاباً من لفيف من حضرات أصحاب الفضيلة أعضاء هيئات التدريس بكليات اللغة العربية وأصول الدين والشريعة الإسلامية والمعهد الأزهري يرفعون فيه باسم اللغة والدين إلى معاليه اجمل عبارات الشكر والتقدير لإقراره النشيد القومي، حامدين لأعضاء لجنة التحكيم يدها البيضاء على البلاد وعلى رأسهم سعادة رئيس مجلس النواب.

وقد طلبوا إلى معالي العرابي باشا تعميم النشيد بين جميع أبناء البلاد طلاباً وشعباً؛ ثم رجوا في آخر كتابهم أن تساير النهضة الوطنية الحاضرة نهضة دينية لتصبح البلاد مثلاً أعلى في الفكر والدين والخلق.

وهذا الخبر العجيب في صورته العجيبة، هو إجماع من لفيف من حضرات علماء الأزهر الشريف على أن النشيد لا غلط فيه ولا إلحاد ولا ضعف ولا ركاكة، ثم هو إعلان للناس جميعاً ليقولوا سمعنا واطعنا. . .

ومعنى هذا أن لفيفاً من حضرات علماء الأزهر يردون على ما نشر في (الرسالة) من غلطات هذا النشيد رداً لا برهان فيه إلا كلمة (العلماء).

وهل يكفي في مثل هذا القرار أن ينسب إلى لفيف من علماء الأزهر ليقول للناس: (إنه

ص: 63

لقول فصل وما هو بالهزل)؟ ونحن في زمن العلم الذي قاعدته (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)؟. . .

لقد نزل حضرات العلماء إلى المعركة، فلنا أن نطلب منهم الرد على ما جاء في (الرسالة) من غلطات النشيد واحدة واحدة. . فان لم يتفضلوا بذلك قلنا لهم الكلمة المشهورة: ولو أفتاك المُفْتون. . . نعم ولو:. .

السيد زيادة

الاجتهاد في الأصول

قال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي (الرسالة 179): وان الرسول صلى الله عليه وسلم جعل للمجتهد إذا اخطأ أجراً واحداً وإذا أصاب فله أجران، ولم يفرق في ذلك بين أصول وفروع، بل أطلق الأمر إطلاقاً، وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً فأنكرت هذا القول أشد الإنكار، وعجبت منه أشد العجب لان الاجتهاد (في تعريفه الأصولي) هو بذل الجهد في طلب العلم بأحكام الشريعة، وهو عبارة عن استنباط الفروع من الأصول، ولأنهم ينصون في كتب الأصول (راجع كتاب الخضري، وهو اقرب المراجع ص 457) ينصون على أن المجتهد فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع، يخرج من ذلك ما لا مجال للاجتهاد فيه مما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع، أما المسائل الكلامية، أي الأصول (راجع الخضري ص 462) فالحق فيها واحد ومن أخطأ فهو آثم، فان كان الخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فالمخطئ كافر.

وقد ألحق الأصول بالفروع الجاحظ وأشباهه، ممن لا يعتد بهم، ويتضح بطلان مذهبهم لكل من كان واقفاً على شيء من علم الأصول.

علي الطنطاوي

هومير لابلاند

نعت إلينا أنباء السويد الأخيرة كاتباً من طراز خاص هو صائد الذئب والكاتب اللابي الشهير يوهان توري توفي ببلدته يوكاسيرفي في قاصية لابلاند (شمال السويد) في الثانية والثمانين من عمره؛ وكان توري في شبابه من أشهر صائدي الذئب في تلك الأنحاء

ص: 64

الثلجية، وكان كاتباً وشاعراً ملهماً بالفطرة حتى انه سمي (هومير لابلاند)، وعرف توري لأول مرة حينما اصدر كتابه الشهير عن الشعب اللابي بلغته الأصيلة التي يجيد الكتابة بها، ويرجع الفضل في حثه على تأليفه وإخراجه إلى آنسة دانماركية تدعى إميلي ديمانتهات عرفته في رحلة لها إلى لابلاند حيث أقامت حيناً بين القبائل اللابية ودرست أحوال معيشتهم، وعندئذ فاتحها توري برغبته في وضع كتابه عن حياة هذا الشعب القطبي المدهش، ولم يكن معتاداً على الكتابة ولا على الجلوس إلى المكتب، فشجعته وعاونته حتى أتم الكتاب؛ ثم ترجمته إلى اللغة الدنماركية، فنال نجاحاً عظيما وذاعت شهرة مؤلفه في الأمم الشمالية كلها

وكتب توري بعد ذلك عدة كتب باللغة اللابية أيضاً وترجمت جميعها إلى السويدية والنرويجية والدنماركية؛ وأنعم عليه بوسام شرف لما أداه من مجهود في التعريف بجنسه وأمته؛ وكان فوق مواهبه الأدبية يشغف بالرسم، وله عدة لوحات قطبية بديعة نالت تقديراً وإعجاباً

وكان توري صياداً بارعاً ويقال انه قتل من الذئاب ما لم يقتله أي صائد آخر في عصره، وكان في أعوامه الأخيرة يعيش من راتب صغير أجرته عليه الحكومة، ويغذي نفسه بالأسماك التي يصيدها بنفسه، وقد احتفل مواطنوه منذ عامين ببلوغه الثمانين في حفلة قطبية رائعة أفاضت في وصف طرافتها وبهائها الصحف السويدية

ص: 65

‌الكتب

وحي القلم

تأليف الأستاذ مصطفى صادق الرافعي

اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم

للدكتور عبد الوهاب عزام

أنا معجب بالرافعي منذ قرأت له. وأحذر أن يغطي الإعجاب على بصري، وتكل عين الرضا عن العيوب، وقد اتهمت نفسي، ولتكافئ التهمة الإعجاب، ويعادل الحب الارتياب.

الرافعي نسيج وحده؛ تقرأ له فتشعر أنك في اختراعه وتصويره، وبيانه وتفكيره، لا يذكرك بأحد، ولا يذكرك به أحد. وحسب الكاتب أن يكون كوناً مستقلاً يستملي الضمير، ويبدع في التصوير، وكثير من الكتاب قوالب تختلف أحجامها وأشكالها ولكنها صور مستعارة لا تفتأ تستعير مادة عملها.

بين شعراء الفرس شاعر تسمى (خلاق المعاني)؛ والرافعي في وحي القلم جدير بهذا اللقب. وما اعسر الخلق هنا وما اصعب الإبداع. يعمد إلى الحدث الصغير ذي المعنى المحدود فيحطم حدوده ويصله بالبشرية كلها، أو يشيعه في العالم كله، ويصوره صوراً تلقى القارئ بجدتها وروعتها: والكاتب الملهم يرى الخليقة أسباباً متصلة، ومعاني متجاوبة، وصوراً متجاذبة، فما يبصر ذرة إلا رأى وراءها الفلك، ولا يمسك شعاعاً إلا جذبه إلى الشمس، وكأن كل شيء في الوجود عين تطل على العالم غير المحدود. تنثال عليه الفكر وتتزاحم أمامه الصور، فيكون همه أن يشق طريقه بين المعاني المتزاحمة ويحد سبيله بين الطرق المتشعبة، وان يطرد المعاني التي لا يريدها عن المعاني التي يقصدها. فهو من الخصب في نصب - نصب الكاتب المقلد من الأجداب والأجيال.

العالم أمام الرافعي كتاب مفتوح، يدرك فيه جمال الحروف، وحسن السطور، ثم ينفذ إلى ما لا ينتهي من المعاني. وما يزال يعرض المعنى الواحد في صور رائعة حتى يدع القارئ معجباً حيران، قد اجتمعت على القراءة خفقات قلبه، ونظرات عينه، وأسارير وجهه. فلو أن الرافعي صور هذه الخفقات وبين هذه النظرات والقسمات لاسترد البيان الذي أفاضه

ص: 66

على قارئه

والرافعي يغرب أحياناً، أو يدق فينبهم معناه. وفي هذا ثورة بعض الأدباء عليه، ولكن الذي آمن بقدرته فيما وضح واستبان من كلامه يؤمن انه حين يغمض يتحيل لمعنى دقيق خفي لم ترضه الألفاظ، ولم يذللُه الكتاب، أو يتلطف لفكر نفور آبد ليختله. وكثيراً ما يخيل إلي وأنا اقرأ آبدات الرافعي إني اتبع بصري طائراً يرتفع في اللوح ثم يرتفع حتى تضمره السحب؛ فلا تراه العين ولكنها تعرف انه في جو السماء. فان قيل أن هذا حكم الإعجاب والرضى، قلت فإني اتهم نفسي فلا ادفع عن هذه الأوابد. ولكن وحي القلم بريء من الغموض والانبهام، وإنما اكتب اليوم عن وحي القلم.

وهذا الكاتب النابغة نزاع إلى الجمال، طماح إلى الفضيلة، مولع بكل خلق كريم، فلا يعالج أمراً إلا حلق به إلى الجمال والرأفة والرحمة والإحسان والحرية والإقدام وهلم جراً.

وقلبه فياض بالإيمان والطهر، فإذا كتب في الدين وما يتصل به ارتقى إلى حيث تنقطع المطامع. اقرأ مقاله:(سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم). إنها تملأ القارئ إعجاباً، وتسمو به حتى يحسب نفسه ملكاً محلقاً يرى مآتم الناس ومصائبهم من حيث لا تتعلق به ولا تستهويه؛ ولا يوفق لهذا البيان إلا مسلم ملهم كالرافعي، يكتب في حقيقة علوية كالنفس المحمدية. ثم اقرأ في مقاله:(الله اكبر) وصف المسجد ونشيد الملائكة؛ لقد قرأت فكانت تنبعث التكبيرة من قرارة نفسي، فامسكها مؤثراً الاستماع إلى هذا التكبير الذي يدوي به المسجد؛ فلما انتهى المقال لم املك إن رفعت صوتي بآخر كلمته منه (الله اكبر)

هذه النزعات العلوية، والسمو الروحي يتجلى في مقالاته: الإشراق الإلهي، فلسفة الإسلام، حقيقة المسلم، وحي الهجرة، فوق الآدمية، درس من النبوة، شهر للثورة، ثبات الأخلاق.

الرافعي كاتب الإسلام والعربية، يتناول الحديث الصغير في تاريخ الإسلام ومآثر العرب فيجعله عنوان فصل بليغ من الحكمة والموعظة، يسايره فيه القارئ متعجباً: كيف ولدت الواقعة الصغيرة هذه المعاني التي تحاول أن تكون تاريخ جيل؟. اقرأ (زوجة إمام) و (السمكة). واقرأ (يا شباب العرب) و (يأيها المسلمون).

وهذا الكاتب السماوي ابرع الناس تحليقاً بالحب الطاهر، وأعظمهم ترفعاً به، وأبصرهم بالمهاوي والمهالك التي يحلق عنها هذا الحب العلي الأبي. نظرة إلى السماء تصف العلاء

ص: 67

والمضاء والطهر والسمو الروحي الذي لا يحد، ونظرة إلى الأرض تصف السقوط الحيواني، والهوى الشيطاني؛ فترى القارئ مدعواً إلى السماء، مطروداً عن الأرض، طائراً إلى الخير، نافراً عن الشر.

وإذا وصف صاحبنا الجمال، بث في العالم معانيه، ونقض عليه ألوانه، فكأنما خلق العالم خلقاً جديداً. يخلق من الشعاع شمساً، ومن القطرة نهراً، ومن الوردة حديقة؛ ثم يغرد فلا يدري أهذا التغريد تفسير هذا الجمال، أم هذا الجمال تصوير هذا التغريد. . ولا يدري القارئ أهو في ربيع باهر، أم في بيان ساحر؟. وما أشبه قلمه وهو يشقق المنظر الغفل عن سرائر الجمال بإبرة الحاكية، تسلط على الصفحة الجامدة السوداء فتردها كلاماً وأنغاماً وألحاناً؛ واقرأ (عرش الورد) ترى كيف جعل ابنته على عرشها مركزاً يحيط بها الجمال فلكاً دائراً.

ولله مصطفى حين يتغلغل في الجماعات، فيحس آلامها، ويصف أسقامها، ويعرب عما في ضمائر البائسين، وعما في رءوس المتكبرين؛ ولا يزال بالمعنى الذي يراه الناس جماداً، يقدحه حتى يخرج منه النار والنور. ويأخذ الحادثة الصغيرة ينطقها بما وراءها، ويكشفها عما انطوت عليه حتى يقيم بها للإنسانية عرساً أو مأتماً. اقرأ (أحلام الشارع) تسمع أنات البشرية وتر عبراتها وتلمس مصائبها مصورة ملونة بدم المهج وماء العيون ونار الزفرات وحز الحسرات وسواد الفاقة والذلة؛ ثم تسع لعنة الإنسانية على لسان ما خلقت الإنسانية من قوانين. والعجب انك كلما أسال الحزن عبراتك طبع البيان الساحر على شفتيك بسمة إعجاب لا تملك نفيها. واقرأ (عربة اللقطاء) تر انه صاغ من أساريرهم حروفاً للهجاء تسع كل معنى، وتتمثل الآثام التي ولدت هؤلاء، والمصائب التي يحملها هؤلاء، والمفاسد التي سيلدها هؤلاء. وتقرأ (لحوم البحر) فتستمع إلى الشيطان والملك، كل ينشد أناشيده. ويستخرج الرافعي منها دعوة إلى الفضيلة ولعنة للرذيلة، وهو قادر تسخير الشيطان لبيانه. فقد أعطي في البيان ملك سليمان.

وإذا وعظ مصطفى الصادق نفذ إلى السرائر، وصور للإنسان فضائله ورذائله تصويراً لا يدع له إن يختار إلا الأولى وان يهجر إلا الثانية. وهو لا يعمد إلى النذر يصبها على النفس صب السياط، يألم لها الجسم، ويموت القلب، بل يعمد إلى الحياة يصورها هنا على

ص: 68

حقائقها نافياً عنها تلبيس إبليس، وإلى القلب ينفخ فيه العظمة، ويبث فيه الفضيلة والطهارة والطموح إلى كل خير، والنفور من كل شر. واقرأ له (وحي القبور).

وهذه المقاصد الجليلة والنزعات السامية تخالطها دعابة دقيقة، وسخرية نافذة؛ ترى الكاتب يرتفع فوق العالم ثم يسخر مما عبد الناس من أباطيل وأهواء، فإذا التماثيل التي يسجدون لها تهاويل، وإذا الهول الذي يفزعون منه تهويل، وإذا العظمة والكبرياء والسلطان والجاه والغنى وكل ما عده الاجتماع عظمة لقوم وحقارة لآخرين، أضاحيك يخلقها الجهل، ويهدمها العقل، ويقدسها الإنسان حيوانا، ويحطمها الإنسان إنساناً. . وأعوذ بالله من الرافعي إذا انطلق ساخراً يرسل بيانه طعنات دراكاً وهو يضحك ضحك البرق في السحاب الراعد، أو لمع السيف في يد الضارب.

وبعد، فهذا وصف الروض في كلمات لو كانت أزهاراً ما مثلته، ونعت البحر في سطور لو كانت أمواجاً ما صورته. فأما الروض في بهجة جماله، والبحر في روعة جلاله، فهما ما خطه الرافعي. فإن شئت فقل جنات في صفحات، وعباب في كتاب؛ وان شئت فقل انه العالم في سطور قد انتظم، ووحي الهي سماه الرافعي (وحي القلم).

(ذلك الفضل من الله)

عبد الوهاب عزام

ص: 69

‌نشيد الأمل

إنتاج شركة أفلام الشرق

لناقد لرسالة الفني

السيناريو والإدارة الفنية (الإخراج)

تحدثنا في العدد الماضي عن قصة الفلم التي اخذ عنها السيناريو، ولكن القارئ فيما أعتقد يرى أن هناك بعض نواح كان من الخير اهمالها، مثل مناظر عصابة تجار المخدرات.

إن سر نجاح الأفلام الفنية التي تؤدي رسالة واحدة وتشبع فيها ناحية واحدة هي ناحية الفن الخالص، ولكن الأستاذ بدر خان عندما كتب سيناريو (نشيد الأمل) وأدار الفلم أعطى بعض المناظر أهمية لا تستحقها، واخذ لها صوراً كثيرة؛ فتصويره للاستوديو وشركة الطيران والباخرة النيل جعل من الفلم أداة دعاية، ونحن يسرنا بالطبع هذه الدعاية لمؤسسات مصرية وطنية ناجحة نؤيدها ونعتز بها، ولكن يؤسفنا أن نقلل من القيمة الفنية لأفلامنا بمثل هذا التصرف.

وهو كذلك لم ينصف شخصياته، فتراه في دور الدكتور عاصم - وهو الشخصية الرئيسية الأولى في القصة - قد اختزله وجعله ثانوياً في حين جعل دور المخرج دوراً رئيسياً وجارى غيره

ص: 70