المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 187 - بتاريخ: 01 - 02 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٨٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 187

- بتاريخ: 01 - 02 - 1937

ص: -1

‌قرآن الفجر

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القرآن كله حفظاً وجودته بأحكام القراءة؛ ونحن يومئذ في مدينة (دمنهور) عاصمة البحيرة؛ وكان أبي رحمه الله كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم. ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهر رمضان؛ يدخل المسجد فلا يبرحه إلا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد، ويطل على الدنيا إطلال الواقف على الأيام السائرة، ويغير الحياة في عمله وفكره، ويهجر تراب الأرض فلا يمشي عليه، وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له، ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود النفس، ويستقر في المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة لا تتغير؛ ثم لا يرى من الناس إلا هذا النوع المرطب الروح بالوضوء، المدعو إلى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، المنحني في ركوعه ليخضع لغير المعاني الذليلة، الساجد بين يدي ربه ليدرك معنى الجلال الأعظم

وما هي حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعر القلب البشري في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة. .

وذهبت ليلةً فبت عند أبي في المسجد؛ فلما كنا في جوف الليل الأخير أيقظني للسحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته. فلما كان السحر الأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد! أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد، أنت بهاء السماوات والأرض؛ ولك الحمد، أنت زين السماوات والأرض. ولك الحمد، أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن ومن عليهن، أنت الحق ومنك الحق. إلى آخر الدعاء

وأقبل الناس ينتابون المسجد فانحدرنا من تلك العلية التي يسمونها (الدِّكة) وجلسنا ننتظر الصلاة. وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت في كل قنديل ذبالة يرتعش النور فيها خافتاً ضئيلاً يَبِص بصيصاً كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه. فكانت هذه القناديل والظلام يرتج حولها، تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فلا تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ

ص: 1

إليه ولا يبينه، فما تشعر النفس إلا إن العين تمتد في ضوئها من المنظور إلى غير المنظور كأنها سر يشف عن سر

وكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقائه الشُّعَلَ في أطرافه العليا وإلباس الظلام زينته النورانية؛ فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويحس في المكان بقايا أحلام، ويسري حوله ذلك المجهول الذي سيخرج منه الغد. وفي هذا الظلام النوراني تنكشف له أعماقه منسكباً فيها روح المسجد، فتعتريه حالة روحانية يستكين فيها للقدر هادئاً وادعاً راجعاً إلى نفسه، مجتمعاً في حواسه، منفرداً بصفاته منعكساً عيه نور قلبه؛ كأنه خرج من سلطان ما يضيء عليه النهار، أو كأن تلك الظلمة قد طمست فيه على أبواق الأرض.

ثم يشعر بالفجر في ذلك الغَبَش عند اختلاط أخر الظلام بأول الضوء شعوراً نديا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه ليتنضَّرَ من يُبْس، ويرق من غلظة. وكأنما جاءوه مع الفجر ليتناول النهار من أيديهم مبدوءاً بالرحمة مفتتحاً بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقى فيه النور السماوي بالنور الإنساني فإذا هو يتلألأ في روحه تحت الفجر

لا أنسى أبداً تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في مناطها من الفلك، وتلك السرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون، عليهم وقار أرواحهم، ومن حول كل إنسان هدوء قلبه؛ وقد استبهمت الأشياء في نظر العين ليلبسها الإحساس الروحاني في النفس، فيكون لكل شيء معناه الذي هو منه ومعناه الذي هو ليس منه، فيخلق فيه الجمال الشعري كما يخلق للنظر المتخيل

لا أنسى أبداً تلك الساعة وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم، يشق سُدْفةَ الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالي، وهو يرتل الآيات من آخر سورة النحل:

(ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنَةِ وجادلْهم بالتي هِي أحسنُ، إن ربَّك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله وهو أَعلمُ بالمهتدين. وإن عاقبتم فعاقِبوا بمثْل ما عُوقبتم به؛ ولئن صبرتم لهُوَ خيرٌ للصابرين. واصبِرْ وما صبرُكَ إلا بالله، ولا تحْزَنْ عليهم، ولا تكُ في ضيْقٍ مما يَمْكرُون. إنَّ الله مع الذين اتقوْا والذين هم مُحسنون.)

ص: 2

وكان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت المطرب، فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القمري وهو ينوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القادر، حتى لا تفسر اللذة الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد

كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته؛ يجمع بين قوة الرقة وبين رقة القوة، ويضطرب اضطرابا روحانياً كالحزن اعتراه الفرح على فجأة. يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس، وتترد في المكان وفي القلب، ويتحول بها الكلام الإلهي إلى شيء حقيقي، يلمس الروح فيرفض عليها مثل الندى، فإذا هي ترف رفيفا، وإذا هي كالزهرة التي مسحها الطل

وسمعنا القرآن غضاً طرياً كأول ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم. وكان القلب وهو يتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه

واهتز المكان والزمان كأنما تجلى المتكلم سبحانه وتعالى في كلامه، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله إن يضيء من هذا النور.

وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعاً على طبيعته الأرضية

أما الطفل الذي كان فيّ يومئذ فكأنما دعا بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعد. فأنا في كل حالة اخضع لهذا الصوت: ادع إلى سبيل ربك؛ وأنا في كل ضائقة اخشع لهذا الصوت: واصبر وما صبرك إلا بالله.

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 3

‌أنا والأحمر

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

غضبت على ذات دل وحسن. ومن النساء من تدل ولا حسن لها. ومن هن الجميلة التي لا تدرك قيمة ما وهبها الله؛ ولكن هذه عارفة مدركة أصح أدراك وأدقه. وآية ذلك إنها لا تنفك تؤكد خصائص جمالها وتبرزها بألوان الثياب، وأسلوب التفصيل، وبطريقة تسريح الشعر وفرقه، وبحركاتها ومشيتها ولفتة وجهها، والجانب الذي تؤثر إن تمنحكه منه، وابتسامتها وخطرتها ووقفتها، وبالصورة التي تعرضها على عينك وهي متكئة على ظهر كرسي أو حافة شرفة، إلى آخر ذلك إذا كان له آخر

وسر هذا الغضب أنها تؤمن بالدلال - كما لا يسعها إلا إن تفعل - وأني أنا أؤمن بقول المتنبي عليه ألف رحمة:

زودينا من حسن وجهك مادا

م فإن الجمال حال تحول

وصلينا نصلك في هذه الدن

يا فإن المقام فيها قليل

فلها عقلها وطبيعتها، ولي عقلي وطبيعتي؛ ومن أجل ذلك نحن مختلفان متجافيان - تراني فتعرض عني، وأرها فأتجاوزها بعيني، كأنها ليست هناك؛ وتراجع نفسها أحياناً فتصفو وتقول عفا الله عما سلف، وتومئ إلي إيماءة تجعلها خفيفة خفية من الكبر والتردد، فأتجاهل وأتعامى وأتباله، فترجع إلي شر مما كانت به من الغضب والسخط، وتمنحني كتفها أو توليني ظهرها، وتمضي الأيام على هذا التقاطع الشديد - أخرج إلى الشرفة وتكون هي مطلة فتأخذني عينها، فما أسرع ما تتناول مصراعي الشباك وتغلقهما بعنف لا داعي له سوى أنها تريد إن تسمعني صوت الإغلاق لأدرك معناه. وأكون أنا في الشرفة فتظهر في نافذتها أو شرفتها، فلا أكاد أراها حتى اعبس وأمط بوزي. كان من سوء حظي ألا استطع إن اقف في الشرفة دقائق من غير إن تسد الفضاء أمامي، ثم أدور دورة سريعة وارتد إلى الغرفة ملتمساً الوقاية من جدرانها

ولم يكن هذا حالنا من قبل، بل كنت أقبل عليها فتهش لي وتريني وميض أسنانها والتماع عينيها، وكنت ألقاها فتدنو مني حتى لاحس أنفاسها العطرة على وجهي، وتضع راحتها البضة على قلبي وتقول لي:(كيف حال هذا المسكين الذي لا يمل الدق بل الوثب؟)

ص: 4

فأقول (أتريدين إن يمل)

فتقول (أعوذ بالله. . ما هذا الكلام يا شيخ. .)

فأصرف الكلام عن وجهه وأقول (إنه يدق لي ولك، فلا عجب إن كان يتوثب)

فتبتسم لي - في عيني - وتقول: (ألا يمكن إن يفتر ذكرك لي - يفتر قليلا - ليرتاح هذا القلب بعض الراحة. . إنه عنيف الدق وأنا أشفق عليه)

فأقول (لا تخافي عليه ولا تجعلي إليه بالك. . دعيه يدق فإن هذا عمله وواجبه في الحياة)

ثم نمضي معه إلى حيث يروق القعود ويطيب الحديث وتحلو النجوى ويحسن الغزل، ونرجع ضاحكين وتنام ملء عيوننا

وقلت لها مرة (لماذا هذه المساحيق كلها. . ما حاجتك إليها؟ كيف يمكن إن يفتقر إلى زيفها هذا الوجه الخارج من الفردوس؟

فضحكت وقالت (أهو زيف. .؟)

قلت مغالطاً (أنه تأكيد لا حاجة بك إليه)

قالت (يا خبيث. . اعترف أنك تريد إن تقبل فمي وتخشى إن يعلق بشفتيك الأحمر!)

قلت (إلا يكون مجنوناً أو أعمى ذاك الذي لا يشتهي إن يقبل هذا الفم الجميل!)

قالت (لا تغالط. . دع العموم إلى الخصوص)

قلت (أتتعمدين إن تضعي هذا الأحمر إذن؟)

قالت (لا. . هي عادة ليس إلا. .)

قلت ملحاً: (أتكرهين إن أقبلك. . أو بعبارة أصرح فإن عفريت الصراحة ركبني اليوم. . إلا تشتهين هذه القبلة التي تقيمين في سبيلها الحواجز وتضعين الأسلاك الشائكة أو الأصباغ العالقة؟)

قالت (مالك اليوم. . ماذا جرى لك؟)

قلت: (إن الذي جرى لي هو هذا. . أنت تعرفين إني احب فمك. . وأنت لا تكرهين إن أضع شقتي على شفتيك. . وتعرفين أيضاً أني شديد الكره لهذا الأحمر السخيف، وتعرفين فوق هذا أن أزالته سهلة إذا هو علق بفمي منه شيء يسير أو كثير، ولكني مع ذلك أكرهه لله. . هكذا أنا. . خلقني الله كذلك ولا حيلة لي. . فلماذا تصبغين به شفتيك على الرغم من

ص: 5

ذلك. . ليس الأحمر في ذاته هو الذي يضايقني ولكن تعمد وضعه. إذا كان الدلال هو الباعث على ذلك فإن الدلال ميسور بغير الأحمر. وعلى أن الدلال حسن وجميل، وهو يشحذ الرغبة ويقوي الحب إذا كان في حدود الاعتدال ولم يجاوز المعقول أو المحتمل. . أي ما يسهل على الرجل احتماله بلا عناء شديد أو مرهق، ولكن المرأة لا تفهم هذا مع الأسف، وهي لا تزال تلح في الدلال وتلح وتلح حتى يسأم الرجل وتنتفخ مساحره ويتعذر عليه الصبر ويضيق صدره فيفتر حبه، لأنه يكلفه فوق ما تطيق أو ما يمكن إن تحتمل طبيعته، فتذهب المرأة تقول غدر الرجال وعدم وفائهم وتقلبهم؛ ولو أنصفت للامت نفسها ولأدركت أنها هي التي أملته وأزهقت روحه

فقطبت وقالت (أهذا تهديد؟)

قلت (وهذا خطأ آخر. . فليس فيما أقول تهديد وإنما هو عجب واستغراب يدعو إليهما اختلاف الطبيعتين. .)

فقاطعتني وقالت (قل إن طبيعتك المتجبرة تريد إن تجعل مني ملهاة لنفسك لا تخالف لك إرادة ولا تعصي لك أمراً. .)

فقاطعتها وقلت: (كلا: ليس هناك تجبر ولا شبهه، إنما أشرح لك ما تغريك به طبيعتك وما تغريني به طبيعتي. .)

ولا أحتاج إن أروي ما قالت وقلت، فإن في مقدور القارئ إن يتصور ذلك، وأكبر الظن إن تجارب مثل هذه مرت به وعاناها، فما تعيش المرأة بغير الرجل ولا رجل بغير المرأة إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة؛ ومتى عاش رجل وامرأة فلا مفر من أن تسوقهما الطبيعتان إلى الشجار والنقار في بعض الأحيان، وأكثر ما يحدث ذلك من جراء توافه لا قيمة لها، ولا يجري في الخاطر إن تجر إلى خلاف.

وقد حاولت يوم ذاك إن ألاعبها وأمازحها بعد فتور الحدة وذهاب السورة، ولكن تعبي ذهب عبثاً، ورجعنا وقد أيقن كلا منا أن هناك سرا أعوص لما أبدى صاحبه من الجفاء وضيق الصدر.

ولقيتها بعد ذلك، فقلت لنفسي إن العتاب يجدد مرارة الخلاف ولم يكن لي ولا لها مفر من الكلام والنفاق، فقد كنا في حفل حاشد من المعارف والأهل، وانفض السامر فناولتها ذراعي

ص: 6

وقلت (تعالي فإن بي حاجة إلى الهواء الطلق، فابتسمت، فتوهمت إنها نسيت ما كان بيننا أو آثرت مثلي إن تطويه. وإذا بها تقول لي أول ما تقول ونحن في السيارة (إنك مستبد) فعجبت وقلت: (كيف.؟ لقد كنت أظن أني من ألين خلق الله وأسلسهم قياداً)(فصاحت بي (أنت. . تقول إنك سلس القياد. . أعوذ بالله. .)

قلت وأنا أحول إن أصرفها عن هذا الموضوع الشائك (طيب. . آمنا وسلمنا. . مستبد مستبد. . كما تشائين. . والآن يا جاحدة. .)

وكنت أنوي إن أمازحها، ولكنها قاطعتني بسرعة وحدة:(جاحدة. . لماذا بالله. . هه)

فقلت لنفسي إن ليلتي لاشك سوداء. . وأنا رجل أكره الجدل العقيم ولا يثقل على نفسي شيء مثله، ولست أعرف لي صبراً عليه؛ غير أني ضبطت نفسي ولم ادع عنانها ينفلت من بين أصابعي فقلت:(معذرة: إني أضحك ولا أعني ما أقول)

قالت (واعترف أنك مستبد)

قلت (إذا الاعتراف بما ليس في يرضيك، فهأنذا اعترف وأمري لله)

قالت (كلا. . إنما أريد اعترافاً صريحاً لا مكابرة ولا تحفظ فيه)

قلت (فليكن؛ ولكن ما خيره؟. ماذا يفيدك إن اقر لك بأني مستبد؟. أما إن هذا لغريب)

قالت (اعترف والسلام. . لست أريد فلسفة)

قلت (اعترفنا يا ستي. . فهل راق مزاجك ورق)

فضحكت وقالت: (نعم) قلت: (إذن امسحي الأحمر الذي صبغتي به شفتيك، أو دعيني امسحه لك بهذا المنديل. . إنه نظيف)

قالت (كلا) وأصرت على الرفض والتأبي فقلت: (إلا تدركين أنك مغرورة؟) فاحمر وجهها كأنما أفرغت على وجنتيها كل ما في الدنيا من الأحمر، فقلت وقد تعمدت إن اثقل عليها:(نعم مغرورة. . ولم أكن أحسب شوقي رحمه الله صدق في قوله: والغواني الخ. . تعرفين الباقي. . وأحسبك تتوهمين أن حياتي رهن بأن تمسحي هذا الأحمر. . أو أن روحي معلقة بِشفتيك وما يكون أو لا يكون عليهما من الأصباغ السخيفة. . ثقي أن الأمر ليس كذلك. . وإنما انصح لك بمسح الأحمر لأنه. . .)

وأمسكت إشفاقا عليها من اللفظ القاسي الذي كان على لساني فسكتت ولم تقل شيئاً

ص: 7

والغريب أنها بعد إن نزلت أمام منزلها وودعتها تعمدت إن تقف هنيهة قبل إن تدخل من الباب وتخرج منديلا صغيراً وتمسح به الأحمر عن شفتيها وفي يدها الأخرى مرآة الحقيبة

وكان هذا أخر عهدي بلقائها وكلامها

ولا تزال المعركة ناشبة، واحسبنا سنمل هذه الحرب الباردة - حرب الشفاه الممطوطة والأكتاف المهزوزة والإشاحة بالوجه والأعراض بالعين وتقطيب الحواجب وتجعيد الجبين، إلى آخر هذه المناظر المضحكة، ولولا أني لا اعدم القدرة على رواية الجانب المضحك لانفلقت، ولكنت حرياً أن ألقي السلاح وأعدل عن الكفاح، ولكنها هي متكبرة. . أوه جداً جداً. . وأنا كما تعرف. . دائم الضحك - هذا أولا - وأما ثانياً فإني لا أنفك أقول لنفسي: لقد عشت قبل عهدها دهراً طويلا لا تحس بالحاجة إليها ولا تعرف إنها موجودة. وإنك الآن لتحيا بغيرها، ولا تعدم نعيما تفيده بدونها ومن غير طريقها، فماذا ينقصك ولماذا تعني نفسك بالتفكير في الأمر كله؟. . دع كل شيء للظروف والمصادفة. . وليكن ما يكون. . . ولكن يخطر لي أحياناً أني قد ألقاها ولا أرى على شفتيها هذا الأحمر، فماذا يكون العمل حينئذ؟. أقول لك. . دع هذا أيضاً للمصادفة وإلهام الساعة، إن التدبير هنا قلما يجدي أو يصح. .

ولكن ضحكي يحنقها، وابتسامي يثير سخطها، وأنا لا أستطيع أن أكره نفسي على التعبيس بلا موجب، وهذا هو البلاء والداء العياء، فإنها تتوهم أني أسخر منها فتزداد لجاجة في الصد والإعراض، واحسبني سأظل هكذا أبداً. . أفسد على نفسي متع الحياة بسوء تصرفي وقلة حكمتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 8

‌في الأدب المقارن

الإنسان

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

إذا ما استقر الإنسان في موطن آمن، وارتقت عقليته، لم يعد يكتفي بتوفير حاجاته الجسدية واتقاء قوارع الطبيعة، بل بدأ يفكر في نفسه ومنشئه وغايته؛ لم يعد يكتفي بقبول الحياة على علاتها ومداراة غوائلها، بل راح يتساءل عن ماهيتها وغايتها وما بعدها، وأجاب عن تساؤله ذاك بما تتيح له عقليته البدائية من تفسيرات فطرية، بعضها صادق وأكثرها وهمي؛ ثم ما يزال كلما ترقى في مدارج الفكر يعاوده الشك من حين إلى حين في تلك التفسيرات، ويثور على عقائده المتوارثة، ويتناولها بالتعديل والتهذيب، فيكون من ذلك الدين والفلسفة

ويشارك الأدب الدين والفلسفة في التعبير عن تأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن نشأته ومصيره، فيحفل الأدب شيئاً فشيئاً بآثار تفكير الإنسان في الحياة والموت، وافتخاره بقوته وسيادته، وجزعه من ضعفه وقصور حيلته، واعتداده بمبتدعاته في مجال العلم والفن والصناعة، وارتياعه من تضاؤل آثاره تلك جميعاً إزاء قوى الطبيعة وأبعاد الكون؛ وتصطبغ تأملاته تلك في عالم الأدب بصبغة البشر والتفاؤل حيناً، وبصبغة التشاؤم والقنوط حينا، حسب ما يسود المجتمع من عوامل الحيوية والثقة بالنفس والإقبال على أسباب المتعة والحبور، أو دواعي الانخذال وسقوط الهمة وفتور العزيمة، وحسب ما يخالج الأديب الفرد من بشر ملازم أو طارئ، وتشاؤم مصاحب أو عارض.

فتأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن مكانه في الكون، واهتمامه الدائب بسبر قواه وامتحان قدرته واستكناه غاياته ومراميه، كل هاتيك من أظهر ميزات المجتمع المتحضر والأدب الحي. وقد كان ذلك الاهتمام الملح بالإنسان: قواه وطباعه ومواطن ضعفه، ومفاخره ومعايبه ومصائره ومطامحه، من أبرز ظواهر الحضارة الإغريقية وخصائص الأدب الإغريقي والفنون الإغريقية، ففيها تنويه بالجمال الإنساني وترنم بالبطولة الإنسانية، وفيها بجانب ذلك عرض لنقائض الإنسان ومغامزه، وفيها إشادة بما تمهد له الحياة من أسباب

ص: 9

المجد والابتداع والتمتع والسرور، وتصوير لما تفرضه عليه من هوان وصغر وقهر وآلام، وما تبسط له من فجاج الحرية وما تكبله به من مشعبات القيود؛ وليست مواضيع الدرامة اليونانية المتعددة في صميمها إلا موضوعاً واحداً: هو اصطدام مطامع الإنسان بصرامة الأقدار

ولحفول الأدب الإغريقي على ذلك النحو بدراسة الإنسان، سميت الآداب الإغريقية أو الكلاسية عامة منذ عهد النهضة الأوربية (بالإنسانيات)، فإن الاطلاع عليها لم يكن كشفاً للعالم القديم فقط، بل كان كشفاً للنفس الإنسانية ذاتها، تلك النفس التي كانت قد أهملت في العصور الوسطى اشد الإهمال، وازدريت شر الازدراء، بتأثير الكنيسة التي ذهبت في تضليل العقول مذهباً بعيداً، فزعمت الإنسان شريراً خاطئاً بالطبع، وعلمت الإنسان أن فيه نزعة من الشيطان، لا يذهب مسها عنهم إلا العصا في الصغر، ودوام التندم والاستغفار في الكبر. وهكذا عكست الكنيسة بجهالتها غاية الدين الذي لم يأت إلا لتوطيد ثقة الإنسان بنفسه وتمكين اعتقاده بحاضره ومستقبله، فلا غرو خمد الأدب في تلك العصور، إذ لا أدب ولا حياة إلا حيث للإنسان ثقة بالإنسان

وقد ورث الأدب الإنجليزي فيما ورث عن الأدب الإغريقي تلك النزعة الإنسانية، وحفل كما حفل أدب اليونان بتمجيد الإنسان من جهة، والأسى لتلاعب الأقدار به من جهة أخرى: فمواضيع روايات شكسبير الكبرى كهملت وعطيل وماكبث هي مواضيع الدرامة اليونانية: فهي تدور حول أبطال أو عظماء نالوا من المجد وشرف المحتد وفضائل الشجاعة والقوة والعقل شأوا عظيماً، ولكن كل مزاياهم تلك تذهب هدراً من جراء مغامز في شخصياتهم تتسلل منها أصابع القدر إلى سعادتهم فتنغصها، وإلى مجدهم فتثله؛ ورواياته بجانب ذلك تعج بشتى الدراسات للطبائع الإنسانية، التي تثير الروعة والإكبار تارة، والشفقة والأسى مرة، والاحتقار والاشمئزاز حيناً، والسخر والضحك طورا.

وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث في الأدب الإنجليزي ألفينا نفس ذلك العراك المستمر بين النفس الإنسانية الجادة في تحقيق مطالبها ومطامحها، وإثبات شأنها وخطرها، وبين القدر الصارم القوانين السادر في جبروته. لم يزد بعد تقدم العلم وتذليل قوى الطبيعة إلا تجسماً واستفحالاً. وقد نقله هاردي من عالم الرواية التمثيلية التي تدور حول الأبطال والملوك،

ص: 10

إلى القصة المقروءة التي تدرس المجتمع العادي، وتتناول أوساط الناس ودهماءهم، وليست (تس) الفقيرة إلا نظيرة (أوفيليا) المنعمة، ولا (يهود المغمور) في طموحه إلى القوة إلا قريع (مكبث) المشهور في تطاوله إلى العرش: مطامح إنسانية، وآمال في المتعة والسعادة، وأقدار ماضية تعترضها وتبطش وهي عمياء بطش جبارين

وقد كان الموت ولن يزال عدو الإنسان اللدود، وبلاءه الأكبر، واللغز الأعظم الذي استغلق على فهمه، ووقف له بالمرصاد كأنما يسخر من كل ما يبني وما يجمع، ويتهكم بكل ما يأتي وما يدع، ويقنعه في ذروة نجاحه ومجده وسعادته بعبث سعيه وإدراكه؛ ومن ثم امتلأت الآداب بذكر الموت وصولته وإزرائه بالحياة والاحياء، واتيانه على الجبابرة، وتسويته بين العلية والسوقة، وبين العالم والجاهل، وتمزيقه شمل الألاف، وتعفيته لآثار السرور والفوز بوصل الأحبة، وعبثه بحور العيون وبياض الأجياد والنحور. وقد تفنن الخيام في رباعياته في صوغ هذه المعاني وتحليتها بالصور الفاتنة المنتزعة من الطبيعة ومن الجمال الإنساني، ومن مجالس الصفو والشراب

وبجانب الموت تمثلت الرهبة لعيني الإنسان في مظاهر الطبيعة الرائعة، وقواها المصطرعة، وفجاجها المترامية، ومخلوقاتها المقتتلة في سبيل الغلب والبقاء، وصممها عن آلامه وأشجانه، وغفلتها عن أفراحه وأتراحه، ومضيها على عاداتها حسنت به الحال أو ساءت، وخلودها على رغم فنائه، وطيها جيلاً من الناس بعد جيل؛ فامتلأ الأدب بذكر ذلك كله. ومن جميل أمثلته مقطوعة هوجو (الطبيعة والإنسان) التي يقابل فيها بين شباب الطبيعة وشيخوخته، ونضارتها وجفاف عوده، وبقائها ووشك ذهابه، ويتنبأ بقيام جنازته بين معالم أعيادها، وبمضيه غير ما سوف عليه منها، ولا محسوس فقدانه.

وقد كان شكسبير معنياً بالموت موكلاً بالتفكير فيما بعده، ينطق بذلك أبطاله كهملت، الذي يتأمل في الموت في خلوته، ويؤم المقابر حيث يرى الحفارين يعبثون بالجماجم وحيث يشهد دفن حبيبته في ريعانها. ولا يمل شكسبير ذكر الموت والبلى، حتى في شعره النسيبي، الذي يتسم لذلك بمسحة الحزن والكآبة. ولشيرلي مقطوعة رائعة في الموت سارت بعض أبياتهم مسير الأمثال، وهي تطابق في شتى المواضع معاني رباعيات الخيام. ومن احسن أشعار التأمل في الموت في الإنجليزية قول كيتس، وقد كان لضعف بنيته ما

ص: 11

يزال متمثلا شبح الموت: (حينما يخامرني الخوف من أن أقضي قبل أن أجني كل ثمار عقلي الوافرة، وقبل أن تحويها الكتب المكدسة كما تحوي البيادر المحصول الناضج؛ وحينما أشاهد على وجه الليل المرصع بالنجوم رموزاً من الغمائم لرواية تجري في علو، وأذكر أني ربما لا أعيش حتى أرسم ظلاً لها بيد الإلهام السحرية؛ وحينما اشعر يا جميلتي الوشيكة المضي إني لن أراك بعد، ولن أنعم بتلك القوة الساحرة: قوة الحب الأعمى، عند ذلك أقف وحيداً على شاطئ الدنيا الرحيبة، وأفكر حتى يصير الحب والمجد هباء)

وتمثلت رهبة الطبيعة لأدباء الإنجليزية في البحر وهياج أواذيه واصطخاب عواصفه، واطراد ثورته وبعد غوره، ومن روائع آثار الشعراء في هذا الصدد أبيات تنيسون التي نظمها وقد قصد البحر مفكراً مهموماً، يبغي العزاء عن فقد صديق له حميم، ومنها قوله:(تكسر أيها البحر على صخورك الباردة الكالحة، وطوبى لابن الصائد إذ يتصايح هو وأخته لاعبين، وتمضي الجواري المنشآت إلى مرافئها بسفح التل. ولكن من لي أنا بمصافحة تلك اليد التي غابت، وذلك الصوت الذي سكت). واستعار شلي رحب البحر وشدة أسره وصرامة صروفه، للتعبير عن صرامة الزمان وبطشه بالإنسان. قال يخاطب الزمان:(أيها البحر الذي لا يسبر غوره، والذي أمواجه السنون، والذي قد غدت أواذيه أجاجاً من ملح دموع الإنسان، والذي يطوي في مده وجزره أطراف الإنسانية، ويبشم من فرائسه وإن يكن ما يزال يعوي طلباً لسواها فيلفظ بقاياها على شطوطه غير الكريمة ولا الوثيرة)

واسترعت تفكير الأدباء أحوال المجتمعات التي رضيها الإنسان لنفسه مقاماً وما يداخلها من نقائص لا يخلو من بعضها مجتمع أو جيل، وما في بعض أنظمتها من تقييد للحريات وهضم لحقوق بعض الأفراد أو الطبقات، فنددوا بتلك المساوئ ونادى بعضهم بإصلاح تلك المفاسد التي تهبط بالإنسان عن رتبته التي هو جدير بها في الكون، وتعترض سيره إلى ما ينشده من كمال؛ فكان منهم رادة حركات النهوض والإصلاح؛ بل نادى بعضهم بفض المجتمع والعودة إلى الطبيعة. وبمثل تلك الكتابات الاجتماعية تحفل كتابات فلتير وروسو. وقد كانت هذه النزعة ضئيلة المظهر في الآداب القديمة؛ أما في الآداب الحديثة فهي تتعاظم وتشتد جيلا فجيلا. فالنقد الاجتماعي والحض على الإصلاح غرض حديث من أغراض

ص: 12

الأدب يضارع غرضه القديم من التعبير عن الجمال والإفصاح عن الشعور الفردي

فالتفكير في شأن الإنسان ماضيه وحاضره ومستقبله من مميزات الإنسان المتحضر المثقف، وهو لا يكف عن هذا التفكير طوال حياته؛ ولا تزال أشباح الماضي والمستقبل والحياة والموت ماثلة أمامه، يكون لنفسه في شأنها فلسفة تختلف عمقاً واتساعاً وإقناعاً، وتختلف في مدى قربها من اليقين والجزم، أو قيامها على الشك والرفض. على إن هذا التفكير الإنساني يفرض نفسه فرضاً شديداً على كل أديب أو كل مثقف أو كل إنسان، في فترة خاصة من فترات حياته، بل أزمة من أزمات وجدانه، يشتد فيها تفكيره في نفسه وبني جنسه، ويحفزه إلى التساؤل والثورة على الحياة الإنسانية حادث نفساني يؤثر فيه أثراً عمقاً: من خيبة أمل أو إخفاق حب أو موت عزيز، فتتسم آثار الأديب في تلك الفترة بالتمرد والتشاؤم والكابة؛ وقد يحاول إصلاح العالم دفعة واحدة ويدعو الناس إلى حياة جديدة تصورها له أحلامه، ثم ما يلبث إن تخلف الحقائق المتحجرة ظنونه وتثبط هياجه وتروض جماحه، فيعدل حياته بما يلائم ظروف الحياة الإنسانية البطيئة التغير الوئيدة الخطى، فتعود آثاره الأدبية مشرقة بالبشر متغنية بمباهج الحياة بدل الإمعان في التفتيش عن معايبها

ولسريان الحياة في دماء الشعب الإنجليزي وغلبة التفاؤل على أمزجة أبنائه، كان أدباؤه إذا راعتهم نقائص الحياة الإنسانية وشرورها، وأحزنهم ضعف الإنسان وشقاؤه، لم يلبثوا إن يتحولوا عن ذلك الجانب الأسود من الصورة إلى جانبها الأبيض، ويطلبوا العزاء بما في الحياة من جمال عما فيها من قبح، فيشيدون بمقدرة الإنسان على الجلاد وبراعته في الابتكار، وبطولته وماضيه الحافل بالعظائم، ويترنمون بمفاتن الطبيعة وما يصيب الإنسان عندها من رخاء بال وراحة نفس، ويطلبون السلوى قبل كل شيء بممارسة فنهم الذي يصور تلك الحياة ويحكيها حكاية تروي من نفوسهم مالا ترويه الحقيقة الواقعة، يصور آلامها تصويراً يخفف تلك الآلام عن نفوسهم، ويحكي مفاتنها ونعمها التي فاتتهم حكاية تشفى صدورهم. فتمثيل الأديب للحياة في فنه يشعره كأنما قد أحاط بتلك الحياة وتمكن من أعنتها، ويكسبه ثقة بنفسه وإيمانا بقدرته على الابتداع والإتيان بجديد من عنده.

فتنيسون حين فقد صديقه الحميم سالف الذكر توفر على إنشاء قصيدة طويلة في ذكراه،

ص: 13

ولكنها لم تقتصر على ذكراه بل امتدت إلى شتى نواحي الحياة وشملت نظرته العامة إليها؛ وشكسبير حين مرت به أزمته النفسية الكبرى بإخفاق آماله في الحب والصداقة، نفس عن صدره بمآسيه الكبرى، وفيها لا نرى الإنسان ألعوبة عاجزة في يد الأقدار، بل نرى في آثار بطولته ما يملؤنا روعة ويبقي أمامنا نور الأمل؛ وورد زورث حين تبددت أحلامه في المجتمع الإنساني الفاضل الذي خال الثورة الفرنسية منجلية عنه، مرت به غيمة قنوط عابسة لم يقشعها عنه إلا تعزيه بمحاسن الطبيعة وقضائه الوقت متفيئا ظلالها مصوراً آثارها في شعره. وفي عبادة الجمال الطبيعي والإنسان كان كيتس يجد مفزع روحه مما يتكنفه من بأساء الحياة وما يمض عيشه من فتكات الداء

ومن أبدع الأشعار التي تعرض جانبي الصورة ناصعهما وحالكهما، وتجسم ضعف الإنسان وفناءه، وتمجد قوته وعبقريته، مقطوعة شلي المسماة (أوزيماندياس المصري) وفيها يقول:(قابلت مسافراً من أرض قديمة قال: تقوم في الصحراء ساقان من الحجر ضخمتان عديمتا الجذع، وقد ارتمى بجانبهما وجه مهشم يكاد يغور في الرمال، تنطق تقطيبته وشفته المعوجة كبرياء وعظمة هادئة، بأن المثال قد أجاد قراءة تلك الصفات التي ما تزال حية مطبوعة على ذلك الحطام الجامد، وقد فنيت اليد التي صورتها والقلب الذي غذاها، وقد لاحت على القاعدة هذه الكلمات: اسمي أوزيماندياس، ملك الملوك. انظروا إلى آثاري أيها الجبابرة وأقروا يائسين، وليس بجانب ذلك شيء باق، قد أحاطت بذلك الحطام الهائل المهدم رمال موحشة منبسطة جرداء تمتد إلى مالا نهاية)؛ فهنا وصف شائق أخاذ لعظمة الملك وبراعة الفنان، وتصوير رائع لسطوة الموت وبطشة الفناء

وفي الأدب العربي نرى تزايد هذا الاهتمام بالإنسان نشأته وأحواله ومصيره، بتزايد حظ العرب من الحضارة والثقافة: ففي الأدب الجاهلي وفي صدر الإسلام لا نعثر إلا بالأبيات المتفرقة يتأمل فيها الشاعر في ضعف الإنسان وقصر حياته، وتلاحق همومه، واتصال آماله برغم ذلك، وشدة إقباله على الحياة وتغاضيه عما وراءها. وفي ما عدا تلك النظرات الخاطفة والمواعظ العارضة، لا يكرث الشعراء أنفسهم كثيراً بالتساؤل فبما كان وما سوف يكون، بل لكل منهم شأن يعنيه من حاضره، فمتغزل عاكف على هواه مترنم بليلاه، ومفتخر يشيد بمجد نفسه ومكان قبيلته، ومداح مجتهد في استدرار صلات الأمراء، وهجاء

ص: 14

ممعن في إثخان غريمه. ومما أثر عن متقدمي الشعراء في التأمل في حال الإنسان وقول القائل:

مَنَعَ البقاَء تقلبُ الشمس

وطلوعها من حيث لا تمسي

وقول الآخر:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول؟

أنحب فيُقضى؟ أم ضلال وباطل؟

ويتزايد التفكير في خلق الإنسان وغايته كلما أنتشر العلم والفلسفة: فنرى في شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام من آثار ذلك فوق ما نجد في شعر الأخطل والشماخ جميل، حتى يبلغ ذلك التفكير مداه بنضج العلوم والفلسفة في القرنين الثالث والرابع، ويبدو ذلك واضحاً في آثار شعراء العربية الكبار: أبن الرومي والمتنبي والشريف والمعري: لكل من هؤلاء فلسفة إنسانية منثورة في إنحاء شعره، ونظرة إلى الحياة تلائم طبعه ومذهبه: فابن الرومي يرى الحياة فرصة من الجمال الطبيعي والإنساني يجب إن تغتنم، ومتعة للحس والروح يجب أن تباكر. والمعري يرى حياة الناس شقاء وشراً متصلا. والشريف يرى مثله الأعلى في الفضيلة والمعاني. والمتنبي يرى الناس سواما يحر فيهم القتل ويحق لمثله إن يسود فيهم ويعتلي، فلسان حاله قوله:

ومن عرف الأيام معرفتي بها

وبالناس روَّى رمحه غير راحم

كما إن جُماع فلسفة المعري قوله:

فأف لعصريهم: نهار وحندس

وجنسي رجال منهم ونساء

والحق إن المعري كان أشمل هؤلاء جميعاً نظرة، وأنفذ شعراء العربية جميعاً فكرة، وأشدهم شغلا بالحياة، وعناء بأمر الإنسان والأحياء، وتفكيراً في ماضي الإنسان ومستقبله، وتبصراً في أحوال مجتمعاته ودياناته، وله في كل ذلك من مستنير الأفكار المصبوبة في جزل الألفاظ والأساليب ما ينزله أرفع مكانة بين الشعراء المفكرين، على ما يشوب تفكيره في أكثر مواضعه من مسحة التشاؤم القاتم المغرق الذي هو وليد عصره المضطرب، وحياته الكئيبة، وبنيته السقيمة، وأعصابه المرهفة.

وفيما عدا المعري نرى أدباء العربية عامة أقل عناء بشؤون الإنسان وشغلا بالحياة وغايتها من أدباء الإنجليزية؛ وهم أكثر منهم قبولا للحياة على علاتها، ورغبة في اغتنام متعاتها

ص: 15

والتغاضي عن سوآتها، وأقل تمرداً ولجاجاً في الأزمات النفسية. والأديب العربي أكثر تحدثاً عن نفسه وعاداته وآدابه ولباناته منه عن الإنسان عامة؛ وهذه النزعة السمحة الراضية ترجع إلى العوامل أهمها طيب المناخ الذي يبعث البشر والثقة، والإيمان الديني الذي بعثه الإسلام في نفوس أبنائه وبثه في مجتمعهم، والإسلام اكثر تغلغلا في حياة معتنقيه وتسرباً في أرواحهم وتجسما في مظاهر مجتمعهم من غيره من الأديان. هذا إلى أن الحكم المطلق لم يكن يسمح للأدباء بنقد المجتمع والنظم نقداً جريئاً، وإنما كان يروضهم على الاندماج في ظروف الحياة المحيطة بهم، والتعود على اجتناء خيرها واتقاء شرها، كما قال الشاعر:

وإن امرأً أمسى وأصبح سالما

من الناس إلا ما جنى لسعيد

فلم يكن أدباء العربية يطيلون الوقوف بمهامه الشكوك ومضايق الأزمات النفسية، بل سرعان ما كانوا يشيحون عما يطوف بهم من خيالاتها علماً بأن من أطال الفكر في الحياة وغايتها، والإنسان ومصيره، أقامه الفكر بين العجز والنصب، كما قال المتنبي، وحين كانت تطيف بهم تلك الحالات النفسية العابسة، ويثير شجنهم وجزعهم ما يلاحظون في حياة الإنسان ومجتمعه من نقص وشر، لم يكونوا يتأسون كما يتأسى شعراء الإنجليزية بمحاسن الطبيعة، فقلما أعاروا محاسنها التفاتاً، كما أنهم قلما اكترثوا لفجائعها وأهوالها، ولو كانوا يتعزون بذكر البطولة الإنسانية، فما يكاد يكون لها في آدابهم أثر؛ أو بتاريخ الأمم العظيمة، فما كانوا يذكرون من آمرها إلا غرور مشيديها وتقويض الزمان لأركانها، ولا بالتأمل في مخلفات فنون تلك الأمم، فما كانت توحي إليهم إلا بضعف الإنسان وبطلان مساعيه وقد التفت المتنبي إلى شرقي الإمبراطورية الإسلامية المترامية فقال:

أين الأكاسرة الجبابرة الأولى

كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا؟

من كل من ضاق الفضاء بجيشه

حتى ثوى فحواه لحد ضيق

والتفت إلى غربيها فقال:

أين الذي الهرمان من بنيانه؟

ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟

تتخلف الآثار عن أصحابها

حيناً ويدركها الفناء فتتبع

إنما كان أدباء العربية إذا جزعوا لضعف الإنسان وقصر مدته وشرور مجتمعه، يجدون

ص: 16

مفزعهم من الحزن والقنوط في (الفضيلة الاجتماعية): في الأخلاق القويمة التي تكسب الإنسان حسن الأحدوثة الموروث حبها عن العرب الأقدمين، وتنجيه من شرور المجتمع الذي لا يد له بإصلاحه، والذي لا تنال شروره عادة إلا من يستهدف لها بسوء فعله، وتكسبه رضى ربه وتضمن له عقبى الدار. ومن ثم زخر الأدب العربي بروائع الحكم ونبيل التمدح بمكارم الأخلاق، وهذا باب من أشرف أبواب الأدب العربي وبه يمتاز على غيره، ومن محاسن ما فيه من ذلك قول إياس بن القائف:

إذا زرت أرضاً بعد اجتنابها

فقدت صديقي والبلاد كما هيا

فاكرم أخاك الدهر ما دمتما معا

كفى بالممات فرقة وتنائيا

وقول الشريف:

لغير العلا مني القلى والتجنب

ولولا العلا ما كنت في العيش أرغب

غرائب آداب حباني بحفظها

زماني، وصرف الدهر نعم المؤدب

فالعرب كانوا منذ جاهليتهم أمة اجتماعية ذات ميل غريب إلى الاجتماع، وفضيلة اجتماعية أصيلة، واستعداد متمكن للتحضر والتعاون، وأن يكونوا أمة مصلحة، يأنسون بالاجتماع ويتفاخرون بحسن الجوار وسيادة العشيرة وخدمتها معاً، ويشتغلون بمتعات تلك الحياة الاجتماعية عن طول الندب لنقائص الحياة وشوائبها، وطول التشكك والتحير في منشأ الكون ومنتهاه، وميلهم الطبيعي ذاك واضح الأثر في شعر شعرائهم، وفضيلتهم الاجتماعية تلك هي مرجع ازدهار العمران في كل بلد وطئوه، حالما وطئوه، على حين نشر الإغريق الخراب في شرقي البحر الأبيض حين هبطوه، واستغرقوا قروناً طويلة في الاستقرار وتشرب الحضارة.

فخري أبو السعود

ص: 17

‌ضوء جديد على مأساة شهيرة

2 -

هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟

نظرية الاختفاء كما يشرحها الدعاة السريون

للأستاذ محمد عبد الله عنان

وقد رأينا فيما تقدم إن الدعاة الملاحدة، أعني حمزة بن علي وصحبه، ألفوا في اختفاء الحاكم فرصة لاذكاء الدعوة وتغذيتها واتخذوا من هذه الاختفاء وظروفه الغامضة، مستقى جديداً للزعم والإرجاف؛ فزعموا إن الحاكم لم يقتل ولم يمت، ولكنه اختفى أو ارتفع إلى السماء، وسيعود عندما تحل الساعة فيملأ الأرض عدلاً، وأضحى هذا الزعم أصلا مقرراً من أصول مذهبهم. وقد انتهت إلينا في هذا الزعم - أي زعم الغيبة والرجعة، وثيقة هامة بقلم كبير الدعاة حمزة بن علي ذاته، وفيها يشرح لنا ظروف هذا الاختفاء وبواعثه على ضوء دعوته وأصول مذهبه، واليك ما جاء في تلك الوثيقة الهامة التي تقدم رغم غرابة شروحها ومزاعمها إلى المؤرخ مادة للتأمل:

يقدم إلينا حمزة رسالته بهذا العنوان: (نسخة السجل الذي وجد معلقاً على المشاهد في غيبة مولانا الإمام الحاكم) وهي التي يفتتح بها رسائله في متن الدعوة وأصولها حسبما أشرنا فيما تقدم

ويؤرخ الداعي هذه الرسالة بشهر ذي العقدة سنة 411هـ أعني عقب اختفاء الحاكم أو بعده بأيام قلائل، ويفتتحها بدعوة الناس إلى المبادرة (بالتوبة إلى الله تعالى وإلى وليه وحجته على العالمين وخليفته في أرضه وأمينه على خلقه أمير المؤمنين) وأنه قد سبق إليكم، اعني إلى الناس (من الوعد والوعظ والوعيد من ولي آمركم وإمام عصركم، وخلف أنبيائكم، وحجة باريكم وخليفته الشاهد عليكم بموبقاتكم، وجميع ما اقترفتم فيه من الأعذار والإنذار، ما فيه بلاغ لمن سمع وأطاع واهتدى وجاهد نفسه عن الهوى وآثر الآخرة عن الدنيا، وأنتم في وادي الجهالة تسبحون، وفي تيه الضلال تخوضون وتلعبون، حتى تلاقوا يومكم الذي كنتم به توعدون)

وإن أمير المؤمنين قد أسبغ على الناس نعمه ولم يفر عليهم شيئاً منها، ولم يبخل عليهم

ص: 18

بجزيل عطائه، ولم يشاركهم في شيء من أحوال هذه الدنيا (نزاهة عنها، ورفضاً منه لها على مقداره ومكنته لأمر سبق في حكمته، وهو سلام الله عليه اعلم به، فأصبحتم وقد حزتم من فضله وجزيل عطائه ما لم ينل مثله بشر من الماضين من أسلافكم. . . ولم تنالوا ذلك من ولي الله باستحقاق ولا بعمل عامل منكم من ذكر وأنثى؛ بل منة منه عليكم ولطفا بكم ورأفة ورحمة واختباراً ليبلوكم أيكم احسن عملاً، ولتعرفوا قدر ما خصكم به في عصره من نعمته وحسن مننه وجميل لطفه وإحسانه، وعظيم فضله دون من قد سلف من قبلكم)

وأنه قد أجرى عليهم الأرزاق والنعم من الذهب والفضة والخيل المسومة والأقطاع والضياع، ورفعهم إلى ذرى المراتب وشرفهم بأرفع الألقاب، حتى غدوا سادة يحكمون ويطاعون، وعاشوا في نعماء ورغد، فاقبلوا على الدنيا واعتزوا بها، وظنوا إنها سبيل الفوز في الآخرة، وتظاهروا بالطاعة في حين أنهم متمسكون بالمعصية؛ ثم يقول الداعي:

(ثم من نعمة الباطنة عليكم إحياؤه لسنن الإسلام والإيمان، التي هي الدين عند الله وبه شرفتم وطهرتهم في عصره على جميع المذاهب والأديان، ومزيتم من عبده الأوثان وابانهم عنكم بالذلة والحرمان وهدم كنائسهم ومعالم أديانهم. . . وانقادت الذمة إليكم طوعاً وكرهاً فدخلوا في دين الله أفواجاً: وبنى الجوامع وشيدها وعمر المساجد وزخرفها، وأقام الصلاة في أوقاتها والزكاة في حقها وواجباتها، وأقام الحج والجهاد وعمر بيت الله الحرام، وأقام دعائم الإسلام، وفتح بيوت أمواله، وأنفق في سبيله، وخفر الحاج بعساكره، وحفر الآبار، وآمن السبيل والأقطار، وعمر السقايات، واخرج على الكافة السدقات، وستر العورات، وترك الظلمات، ورفع عن خاصتكم وعامتكم الرسوم والواجبات، وقسم الأرض على الكافة شبراً شبراً، وفتح لكم أبواب دعوته، وأيدكم بما خصه الله من حكمته ليحثكم على طاعته وطاعة رسوله وأوليائه عليهم السلام، فشينتم العلم والحكمة وكفرتم الفضل والنعمة، وآثرتم الدنيا كما آثروها قبلكم بنو إسرائيل في قصة موسى عليه السلام، فلم يجبركم ولي الله عليه السلام، وغلق باب دعوته واظهر لكم الحكمة وفتح لكم خارج قصره دار علم حوت من جميع علوم الدين وآدابه وفقه الكتاب في الحلال والحرام والقضايا والأحكام. . . وأمدكم بالأوراق والدواة والحبر والأقلام، لتدركوا بذلك ما تمضون به وتستبصرون. . .)

ثم يقول حمزة بعد إن يستعرض أعمال الحاكم على هذا النحو - إنهم - أي الناس، لم

ص: 19

يزدادوا إلا ضلالاً وإثما، وتمادوا في غيهم وفجورهم؛ وينعى على الناس هذه النازلة الأليمة ويحذرهم من عواقبها، ثم يقول مشيراً إلى اختفاء الحاكم:(فقد غضب الله تعالى ووليه أمير المؤمنين سلام الله عليه من عظم إسراف الكافة أجمعين، ولذلك خرج من أوساطكم، قال الله ذو الجلالة والإكرام: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، وعلامة سخط ولي الله تعالى تدل على سخط الرب تبارك وتعالى. فمن دلائل غضب الإمام غلق باب دعوته ورفع مجالس حكمته، ونقل جميع دواوين أوليائه وعبيده من قصره ومنعه عن الكافة سلامه، وقد كان يخرج إليهم من حضرته ومنعهم لهم عن الجلوس على مصاطب سقائف حرمه، وامتناعه عن الصلاة بهم في الأعياد وفي شهر رمضان، ومنعه المؤذنين أن يسلموا عليه وقت الآذان ولا يذكرونه، ومنعه جميع الناس أن يقولوا مولانا ولا يقبلوا له التراب، وإنهاؤه جميعهم من الترجل عن ظهور الدواب، ثم لباسه الصوف على أصناف ألوانه، وركوبه الأتان، ومنعه أولياءه وعبيده الركوب معه حسب العادة في موكبه، وامتناعه عن إقامة الحدود على أهل عصره، وأشياء كثيرة خفيت عن العالم، وهم عن جميع ذلك في غمره ساهون. . .

ومن ثم (فقد ترك ولي الله أمير المؤمنين سلام الله عليه الخلق أجمعين سدى، يخوضون ويلعبون في التيه والعمى الذي آثروه على الهدى)

ويختتم الداعي رسالته الغريبة بتكرار الدعوة إلى التوبة والاستغفار، وأن يتجه المؤمنون بأبصارهم إلى الطريق التي سلكها أمير المؤمنين (وقت أن استتر) وأن يجتمعوا فيها بأنفسهم وأولادهم، وأن يطهروا قلوبهم، ويخلصوا نياتهم لله رب العالمين، وأن يتوسلوا إليه بالصفح والمغفرة وأن يرحمهم بعودة وليه إليهم. . . (والحذار الحذار أن يقفوا أحد منكم لأمير المؤمنين أثراً ولا تكشفوا له خبراً، ولا تبرحوا في طريق يتوسل جميعكم. . . فإذا أطلت عليكم الرحمة خرج ولي الله أمامكم باختياره راضياً عنكم، حاضراً في أوساطكم، فواظبوا على ذلك ليل نهار قبل أن تحق الحاقة ويغلق باب الرحمة وتحل بأهل الخلاف والعناد النقمة، وقد أعذر من أنذر. . . . الخ).

ويؤرخ الداعي رسالته بذي القعدة سنة إحدى عشر وأربعمائة، وينعت نفسه فيها بمولى دولة أمير المؤمنين، ويذيلها بالحث على نسخها وقراءتها والعمل بما فيها.

ص: 20

وهذا السجل يعتبر وثيقة مدهشة، وربما كان بروحه وأسلوبه أقوى رسائل الدعاة وأهمها، ومما يلفت النظر بنوع خاص ما يطبعه من حرارة وأسى، وإذا كنا لا نستطيع أن نؤمن بأن الداعي يصدر فيه عن إيمان حقيقي، فإنه ينم على الأقل عن براعة الداعي في عرض ما يريد أن يعتبره الناس أساساً لعقيدة مدهشة، هذا إلى أن هذا (السجل) يعتبر وثيقة تاريخية هامة بما يقدمه إلينا عن أعمال الحاكم وتصرفاته المختلفة في بادئ عهده ثم في خاتمته.

على أنه ما يلفت النظر أيضاً أن الروايات الإسلامية والنصرانية، المعاصرة والمتأخرة، لا تشير أية إشارة إلى هذا (السجل) الذي يقول لنا الداعي إنه وجد معلقاً على المشاهد، ولو وقعت مثل هذه العلانية في إذاعة السجل بمساجد مصر لما أغفلت الرواية الإشارة إليها، ولعل الدعاة حاولوا إذاعته فلم يفلحوا، وقد اشتدت عليهم وطأة المطاردة عقب مصرع الحاكم كما رأينا فلاذوا بالاختفاء والاستتار. واصدر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله ولد الحاكم سجله الشهير الذي يتبرأ فيه من هذه المزاعم الخارقة التي قيلت في أبيه وفي أسلافه، وفيه يعلن اعترافه إلى الله (بأنه وأسلافه الماضين وأخلافه الباقين مخلوقون اقتداراً ومربوبون اقتساراً، لا يمكلون لأنفسهم موتا ولا حياة، ولا يخرجون عن قبضة الله تعالى) وأن جميع من خرج منهم عن حد الأمانة والعبودية لله عز وجل، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ وأنه قدم إنذاره لهم بالتوبة إلى الله من كفرهم، فمن أصر فسيف الحق يستأصله

وإلى جانب هذه الوثيقة التي كتبها حمزة بن علي عقب اختفاء الحاكم. والتي يحاول فيها أن يعلل هذا الاختفاء وان يشرح بواعثه، وأن يطمئن المؤمنين على رجعة سيده ومولاه، توجد بين رسائل الدعاة وثيقة أخرى عنوانها (الغيبة) تمس نفس الموضوع من ناحية اخرى، وقد كتبت بعد اختفاء الحاكم بثلاثة اشهر عن لسان قائم الزمان (أي الحاكم بأمر الله) بقلم داع مجهول، والظاهر إن كاتبها هو المقتني أحد أكابر الدعاة واحد (الحدود الخمسة): وقد وجهت إلى أهل الشام خاصة، وفيها يذكرهم قائم الزمان بالعهد الذي قطعوه، ويحذرهم من الدجال الذي يزعم أن الألوهية انتقلت إليه، والذي عاند الموحدين وحاصرهم، ويقول إن الدين لا يصح إلا عند الامتحان، ثم يخاطب الموحدين بقوله:

ص: 21

(معشر الموحدين، إذا كنتم تتحققون أن مولاكم لا تخلوا الدار منه وقد عدمته أبصاركم. . . وإذا فسدت المعدة ضرت البصر؛ فهكذا إذا كانت المادة واصلة إلى النفوس الصحيحة، فينظروا صورة الناسوت نظراً صحيحاً، وإذا كانت المادة من فعل الأبالسة ومادة النطقاء والأنس وشرائعهم فيفسد النظر وما ينظر إلا بشر)

(واعلموا معاشر الموحدين لمولانا الحاكم المعبود سبحانه وتنزه عن الحد والمحدود أن قائم زمانكم يطالبكم، وقد شهدتم في مواثيقكم بعضكم على بعض بما شرطتموه على نفوسكم. . .)

ثم يشير إلى أن كثيراً من الموحدين ارتدوا عما كانوا أقروا به وهو الاعتراف بألوهيته، ويحذرهم من سلوك هذا الطريق؛ ويشير إلى (الدجال) ويقول إنه قتل الكثيرين بسبب عبادة الحاكم؛ وأن المولى غني عن عبادتهم، وإنما هي أعمالهم ترد عليهم.

ثم يقول: (ألم تعلموا أن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه. . معشر الأخوان أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم)

ويلوح لنا أن هذا (الدجال) المشار إليه في هذه الرسالة إنما هو عبد الرحيم بن الياس ولي العهد، ووالي الشام؛ فقد اشتد في مطاردة الدعاة، حينما ظهرت دعوتهم بالشام، وفتك بكثير من أتباعهم وأنصارهم، وهو ما تشير إليه الرسالة.

(النقل ممنوع - للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان

ص: 22

‌إلى رجال التعليم:

نقد نظام التعليم في مصر

للأستاذ ساطع الحصري بك

مدير دار الآثار العربية بالعراق

يذكر القراء أن المربي الكبير الأستاذ ساطع بك الحصري كان قد وفد إلى القاهرة في العام الماضي ليطلع على الأنظمة التعليمية المصرية فزار المدارس وقرأ المناهج ثم لاحظ على نظام التعليم عندنا ملاحظات قيمة لم يرد أن ينشرها يومئذ لصفته الرسمية في وزارة المعارف العراقية. فلما أنتقل منها إلى دار الآثار رأى أن يذيع هذه الملاحظات في مصر عن طريق الرسالة ليطلع عليها القائمون على شئون التعليم فيها ثم يناقشونها. وهذه فرصة حسنة يتيحها الأستاذ لرجال التعليم ليبادلوه الرأي فيما يجب أن يكون عليه نظم التعليم في عهد مصر الحديث.

(الرسالة)

- 1 -

لعل ابرز المآخذ التي تستلفت أنظار الباحث المحايد عندما يلقي نظرة انتقادية عامة على نظام التعليم في مصر هو (حرمان المدارس الابتدائية من أساس متجانس متين) فإن الدراسة في هذه المدارس لا تبتدئ ببداءة (الأعمال المدرسية) كما هو شأن المدارس الابتدائية في سائر أنحاء العالم، بل تبتدئ بعد ذلك بسنة أو سنتين، لأن المدرسة الابتدائية لا تقبل إلا من (يعرف القراءة والكتابة). وهذه (المعرفة) لا تتيسر بطبيعة الحال إلا بالتخرج في رياض الأطفال، أو بالدراسة في الصفوف الأولى من المدارس الأولية مدة سنتين أو اكثر، أو بالدراسة في المنزل مدة غير محدودة وإذا تركنا الدراسة المنزلية جانباً، ولاحظنا الفروق العظيمة الموجودة بين أساليب التعليم والتربية المتبعة في رياض الأطفال من جهة، وفي المدارس الأولية من جهة أخرى، اضطررنا إلى القول بأن (أسس المدارس الابتدائية) في مصر بعيدة عن (التجانس) بعداً كبيراً. وإذا شبهنا تلك المدارس بالمباني، نستطيع أن نقول: إنها ليست مشيدة على الأرض المتينة، بل قائمة على دعائم غير

ص: 23

متجانسة، يختلف بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً من حيث الطول والعرض والعمق والمتانة.

لهذا السبب، تشاهد بين طلاب الصفوف الأولى من المدارس الابتدائية فروق عظيمة، من حيث العمر والمعلومات والقابلية العقلية

ومن المعلوم أن (عدم التجانس بين الطلاب) من أخطر الآفات التي تعتري (نظام التعليم الجمعي)، ومن أكبر المشاكل التي تعقد مهمة المعلمين الذين يقومون بتعليم عدد غير قليل من الطلاب في فصل واحد ووقت واحد. ولذلك تجد رجال التربية في البلاد الغربية يبحثون عن ألف طريقة وطريقة لزيادة التجانس في الصفوف ويسعون دائما للتأليف بين ضرورات التعليم الجمعي وبين مطالب الفروق الفردية.

وأما نظام التعليم الابتدائي المرعي في مصر - فبعكس ذلك - يزيد هذه المشكلة زيادة هائلة. لأنه يضيف إلى الفروق الطبيعية فروقاً اصطناعية ناشئة عن اختلاف نتائج الدراسة السابقة.

إن التخلص من مضار هذه المشكلة ليس من الصعوبة بمكان. إذ يكفي لذلك تغيير النظام الحالي على أساس (إتمام بناية المدرسة الابتدائية بإيصال أسسها إلى الأرض القوية)؛ وجعلها مؤسسة تعليمية قائمة بنفسها، تتعهد بتعليم وتربية الأطفال منذ بدء أعمارهم المدرسية، دون أن تتكل على مؤسسات أخرى في تعليم القراءة والكتابة.

- 2 -

ومن المآخذ البارزة التي تستلفت الأنظار في نظام التعليم في مصر هي (اصطباغ رياض الأطفال بصبغة مدرسية)، واضحة.

ومن المعلوم أن رياض الأطفال تعتبر - عادة - بمثابة معاهد (تربية قبمدرسية) تتعهد بتربية الأطفال - (حتى وصولهم إلى الأسنان المدرسية) - بالأساليب الملائمة للأعمار التي تتقدم تلك الأسنان بوجه عام.

وأما نظام التعليم المتبع في مصر فينظر إلى (رياض الأطفال) نظره إلى (المدارس) تماما. فإن التعليمات الرسمية المتعلقة بها تحمل عنوان (منهج الدراسة) و (مدارس رياض الأطفال) وتوصل عدد (الدروس) في الأسبوع إلى الأربعة والثلاثين، وتكرر كلمات

ص: 24

(الدرس) و (الدراسة) و (أوقات الدروس) و (خارج أوقات الدروس) على الدوام، حتى إنها تنظر إلى (التهذيب) أيضا كدرس من الدروس، وتعين (الغرض من تدريس التهذيب للأطفال، وتبين كيف يجب أن (تلقي عليهم دروس التهذيب)، وكيف يجب إن يجري (تدريس التأمل في مشاهد الطبيعة).

إن حركة التطور والتقدم السريعة التي حصلت في ساحة رياض الأطفال منذ بداءة القرن الحالي - ولاسيما ما كان منها بسبب آراء وأعمال دكرولي ومونتسوري - اتجهت على الدوام نحو (تخليص رياض الأطفال من الصبغة المدرسية). واعتقد أن أسباب بقاء رياض الأطفال في مصر بعيدة عن هذا الاتجاه، بهذه الصورة، تعود أولا وبالذات إلى كيفية (تكوين المدرسة الابتدائية). إذ من الطبيعي أنه عندما يطلب من رياض الأطفال إن تهيئ الطلاب إلى المدارس الابتدائية القائمة على الطراز الذي ذكرناه آنفا، ويحتم عليها تعليم القراءة والكتابة والحساب بالقدر الذي تتطلبه المدارس الابتدائية الحالية - يتعسر جعلها (دور تربية) أكثر من جعلها (بيوت تدريس)، بل يصبح من الضروري جعلها (مدارس من نوع خاص).

إن التعديل الذي يدخل على أسس المدارس الابتدائية، - وفقا للاقتراح الذي أدرجناه في الفقرة السابقة - يفسح في الوقت نفسه مجالا واسعاً لإصلاح رياض الأطفال وفقا للنزعات التربوية الحديثة، ولجعلها بمثابة (معاهد تربية قبمدرسية) - كما تقتضيها النزعات المذكورة - اكثر من (مدارس إعدادية للمدارس الابتدائية) كما هي الحال الآن

- 3 -

غير أن أهم المآخذ التي تؤخذ على نظام التعليم في مصر، هو (الاختلاف العظيم الموجود بين الدراسة الابتدائية وبين الدراسة الأولية) إذ أن مناهج هذين النوعين من المدارس المصرية يختلف بعضها عن بعض اختلافا كلياً، ولا توجد بينهما رابطة منظمة تسهل انتقال الأطفال من الواحدة للأخرى؛ حتى ولا يوجد تماثل نسبي يساعد على تقريب تأثيراتهما على نفوس الأطفال على الأقل.

لنفرض أننا أخذنا جدولين يبين كل واحد منهما خطة الدراسة المتبعة في كل واحد من هذين النوعين من المدارس؛ واستبدلنا فيهما تعبير (اللغة العربية) بتعبير (اللغة البيتية) أو

ص: 25

(لغة الأم)؛ وعرضنا الجدولين على أحد المربين دون أن نخبره بماهيتها، فلا شك عندنا في أنه عندما يقارن هذين الجدولين بعضهما ببعض، سيظن أن كل واحد منهما يعود إلى مملكة، وسيجزم بأن هاتين المملكتين تختلفان اختلافاً كلياً من حيث الحاجات والتقاليد والنزعات. وإذا أخبرناه بأن هذين الجدولين يعودان إلى مملكة واحدة، فسيقول بدون تردد (إذن يجب أن يكونا عائدين إلى دورين مختلفين من الأدوار التي مرت عليها حياة تلك المملكة)، وسيظن أن هذين الدورين ينفصل بعضها عن بعض بتطورات خطيرة وانقلابات عظيمة؛ وعلى كل حال سوف لا يتصور قط أن هذين الجدولين يمثلان مناهج الدراسة المتبعة في نوعين من المدارس التي تربي أبناء جيل واحد في مملكة واحدة بل في مدينة واحدة.

وفي الواقع تصوروا جارين يسكنان في محلة واحدة، وافرضوا أن لكل منهما طفلاً في التاسعة من العمر، غير أن الأول قد أرسل ابنه إلى مدرسة ابتدائية في حين أن الثاني أرسل ابنه إلى مدرسة أولية أو إلى مكتب عام؛ ثم قارنوا بين الدروس التي سيتلقاها كل واحد منهما، تجدوا أن الأول سيخصص ستة في المائة من أوقات دراسته لتعليم الدين والقرآن، في حين أن الثاني سيخصص ثمانية وعشرين في المائة من مجموع أوقات دراسته لنفس الموضوع، كما أن هذه الأوقات ستصل إلى أربعين في المائة إذا ذهب الطفل إلى أحد المكاتب العامة؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأول سيخصص خمس مجموع أوقات دراسته لتعليم اللغة الإنكليزية، وسيبدأ بدراسة تلك اللغة قبل أن يبدأ بتعلم قواعد اللغة العربية نفسها؛ في حين أن الثاني سوف لا يتعلم شيئاً منها طول مدة دراسته المقبلة. وعلاوة على كل ذلك، فإن الأول سيخصص اكثر من ربع أوقات دراسته للرسم والأشغال اليدوية والتربية البدنية، في حين أن حظ الثاني من هذه التمارين والأعمال سيكون شبيهاً بالعدم.

وإذا لاحظنا مدى تأثير هذه الفروق العظيمة على عقلية الأطفال ونفسياتهم، وجب علينا أن نقول: إن نظام التعليم المتبع في مصر لا يساعد على تكوين (جيل موحد الشعور).

كان يوجد في البلاد الغربية أيضا بعض الفروق بين مناهج الفصول الابتدائية التابعة للمدارس الثانوية وبين مناهج المدارس الابتدائية المستقلة عنها، غير أن تلك الفروق كانت

ص: 26

(طفيفة جداً) بالنسبة إلى الفروق الهائلة التي تشاهد بين مناهج المدارس الابتدائية والأولية في مصر. مع هذا، قام علماء التربية ورجال السياسة في تلك البلاد بحملات عنيفة ضد تلك الحالة، وأثاروا حولها أبحاثاً دقيقة ومناقشات شديدة، انتهت في معظم البلاد بتوحيد أسس الدراسة الابتدائية وفقا لمبدأ (المدرسة الموحدة) ذلك المبدأ الذي يلخص في عبارة (شعب واحد، مدرسة واحدة).

أفليس من الغريب جداً ألا تبدأ في مصر إلى الآن أية حركة ضد هذا النظام؟.

إنني لا اجهل بأنه نشأت في مصر - منذ مدة - حركة مباركة تطالب بتوحيد التربية والتعليم، وتعمل في سبيل ذلك بنشاط وقوة. غير أني ألاحظ في الوقت نفسه أن أغراض تلك الحركة المباركة وخططها لم تتعد حدود (التوحيد بين المدارس الأميرية والمدارس الحرة؛ في حين أنني اعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه الحركة لا يمكن أن تثمر الثمرة الكافية، إذا لم تسع لتوسيع نطاق عملها فتشمل في الوقت نفسه (توحيد أسس الدراسة في المدارس الأميرية نفسها).

إن الفرق العظيم الموجود بين مناهج المدارس الابتدائية والأولية كان من أول النقائص التي استوقفت نظري في نظام التعليم في مصر عندما زرت مدارسها للمرة الأولى سنة 1921 قبل مجيئي إلى العراق؛ واستمرار هذه الفروق بدون معارضة أو انتقاد كان من أهم ما استقلت نظري عن زيارتي الثانية لها سنة 1936

لقد عرضت ملاحظتي هذه - عند زيارتي الأولى على وشك المعارف بكتاب خاص. وعندما قدمت العراق، وجدت أن السلطة الإنكليزية كانت قد نقلت هذا النظام إلى هذه البلاد أيضاً، وكانت قد أحدثت مدارس أولية تختلف بمناهجها عن المدارس الابتدائية. وأول الأعمال التي أقدمت عليها - عندما توليت إدارة المعارف العامة هنا - كان القضاء على ذلك النظام؛ فقد وحدت برامج الدراسة في السنين الأربع الأولى توحيدا تاما، وجعلت الدراسة الأولية منطبقة على دراسة السنين الأربع الأولى من المدارس الابتدائية كل الانطباق.

أقدمت على ذلك - حينئذ - تحت تأثير عقيدة تربيوية اجتماعية، قبل أن أرى مفعولها في كثير من البلاد بصورة فعلية. فإن مبدأ (المدرسة الموحدة) كان قد دخل حديثاً في صلب

ص: 27

دستور (وايمار) في ألمانيا؛ غير أن معظم البلاد الأوربية كانت قد ظلت بعيدة عن الأخذ به، كما أن جميع البلاد الشرقية - بما فيها تركيا - كانت معرضة عنه. غير أن التطورات التي حدثت في نظم التعليم العام في تلك البلاد وغيرها - منذ ذلك التاريخ - أثبتت تماماً أنني كنت مصيباً في ذلك العمل كل الإصابة.

أفلا يجب على مصر أيضا أن تقوم بعملية مماثلة لتلك، وتعيد النظر في أسس نظامها التعليمي على مبدأ (توحيد أسس الدراسة)؟

- 4 -

من الأمور التي يجب أن تلاحظ بوجه خاص، أن الفروق العظيمة التي أشرنا إلى وجودها بين مناهج المدارس الابتدائية ومناهج المدارس الأولية كانت تتماشى بفروق مماثلة بين معاهد المعلمين الذين يتولون شؤون التربية والتعليم في كل نوع من نوعي هذه المدارس،

فإن معلمي المدارس الأولية يتخرجون في دور المعلمين الأولية في حين أن معلمي المدارس الابتدائية يتخرجون في معهد التربية. غير أن الفروق الموجودة بين دور المعلمين ومعهد التربية في مصر، لم تكن من نوع الفروق الاعتيادية التي تنتج من اختلاف (درجة التحصيل العام) أو (أسلوب الاستعداد المهني) فحسب، بل هي من نوع الفروق العظيمة التي تنتج من اختلاف (نوع الدراسة ونزعتها). و (نوع الثقافة التي تتولد منها). وذلك لان دور المعلمين الأولية تستند على المدارس الأولية، فالمدارس الأولية الراقية، وتستمر على خططها ونزعاتها، في حين أن معهد التربية يستند على المدارس الابتدائية، والثانوية، ويستمر على خططها ونزعاتها.

إنني لا أود في هذا المقام أن أتطرق إلى خطط كل من معهد التربية ودور المعلمين الأولية ومناهجها وأبدي رأيي في هذا الخطط والمناهج نفسها، بل أود أن الفت الأنظار إلى الفرق العظيم الموجود بين نوع الثقافة واتجاه العقلية التي يستند عليها ويصل إليها كل واحد منهما. وأقول: إن الفروق العظيمة التي شرحنا وجودها بين مناهج الدراسة الابتدائية والأولية تشتد وتقوى بصورة هائلة خلال تطبيق تلك المناهج، من جراء الهوة العميقة الموجودة بين معاهد معلمي المدارس الابتدائية والأولية.

ولهذا السبب تصل (ثنائية التربية والتعليم في مصر) إلى أقصى الدرجات التي يمكن أن

ص: 28

يتصور الإنسان وجودها في مملكة واحدة

إنني كثيراً ما تصفحت التقارير التي قدمها الخبراء الفنيون الذين استقدمتهم الحكومة المصرية للاسترشاد بآرائهم في إصلاح معارفها، وأوردت أن اطلع على رأيهم في هذه الثنائية، ولو من خلال التقارير التي قدموها؛ وعلمت أنهم لاحظوا هذه الثنائية؛ غير أنهم لم يبدوا أي اعتراض عليها. ويغلب على ظني أن السبب في ذلك كان اعتقادهم بأن هذه الأمور تتعلق بتقاليد مصر ونزعاتها التي لا يجوز المناقشة حولها. لأنهم قسموا النظام التعليمي في مصر إلى قسمين، عنونوا أحدهما بعنوان (المدارس التي على النمط الأوربي) واكتفوا بإبداء بعض الملاحظات لإصلاح كل واحد من هذين النظامين على حدة: غير أني أرى من الضروري أن نتساءل قبل كل شيء: هل يجوز أن يكون في مملكة واحدة نظامان من المدارس، أحدهما على (نمط أوربي) وثانيهما على (نمط محلي أو غير أوربي؟)

أنا أعتقد أن ذلك مما لا يجوز بوجه من الوجوه. فعلى مصر أن تأخذ من الأنماط الأوربية ما يلائم حالاتها وحاجاتها، ثم توجد نمطاً قومياً خاصاً بها. فلا يجوز لها مطلقاً أن تؤسس صنفا من المدارس (على النمط الأوربي) بجانب صنف آخر يبقى على نمط غير أوربي. وإذا كان لوجود هذين النمطين بعض المستوجبات والمبررات في بدء تأسيس المعارف، فلا يمكن أن يكون لبقائهما الآن أي موجب بعد أن وصلت مصر إلى هذه المرحلة من مراحل نهوضها، وبعد أن صارت تحكم نفسها بنفسها. . .

يظهر أن مصر الفت هذا النظام المزدوج منذ مدة طويلة. ولعل هذه الألفة الطويلة كانت من أهم الأسباب التي حالت دون انتباه مفكري مصر إلى أضرار هذا النظام.

غير أنني أعتقد أن إعادة النظر في أسس النظام التعليمي في مصر على مبدأ (توحيد أسس الدراسة) أصبحت من أهم الإصلاحات الضرورية لمصر في بدء عهد نهضتها السياسية والاجتماعية الحديثة. فإن بقاء نظام التعليم على ما هو عليه من الثنائية يكون خطراً على وحدة الشعور التي يجب أن تسود البلاد.

قد يقول قائل: لا خوف على وحدة الشعور في مصر أبدا لان هذه الوحدة تجلت بأجلى مظاهرها خلال كفاح المصريين الطويل ضد الحماية والاستعمار؛ غير أنني أقول بأن (وحدة الشعور) التي عملت عملها خلال ذلك الكفاح كانت (وحدة) من نوع خاص، تكونت

ص: 29

تجاه عدو مادي وخارجي، استمر في إرهاق نفوس الجميع منذ مدة تنيف على نصف قرن. أما الآن فستدخل مصر في حياة كفاح جديدة تتطلب النضال في سبيل إصلاح النقائص الداخلية وضمان التقدم في جميع مناحي الحياة.

إن وحدة الشعور التي تكونت وتجلت خلال الكفاح السياسي لا تلبث أن تندثر خلال هذا النضال الإصلاحي إذا لم تغذ بتربية موحدة مستندة على نظام تعليمي موحد.

ولذلك أقول: إن إعادة النظر في أسس نظام التعليم أصبحت من الواجبات التي تتحتم على مصر في مستهل حياة النهوض التي دخلتها الآن.

- 5 -

هذه ملاحظات تتعلق بأسس نظام التعليم في مصر، ابسطها أمام الرأي العام المستنير بكل احترام وصراحة وإخلاص. وأرجو ألا يعتبرني أحد متطفلاً على مصر بهذه الملاحظات، فإني عربي صميم أدين بدين (العروبة) في أيمان وصدق، واهتم بمصر بقدر ما اهتم بسورية والعراق. ولا أكون مغالياً إذا قلت: أنني اهتم بمصر اكثر مما اهتم بسورية والعراق، لأنني أعرف أن مصر - بحسب أوضاعها العامة - أصبحت (القدوة المؤثرة) في العالم العربي بأجمعه. فاعتقد لذلك أن كل تقدم يحصل في مصر لا يخلو من النفع لسائر البلاد العربية، كما أن كل نقص يعيش ويستمر في مصر لا يخلو من ضرر العدوى إلى سائر البلاد العربية.

فكل خدمة تسدى إلى مصر تكون كأنما أسديت إلى سائر البلاد العربية جمعاء.

بغداد

أبو خلدون

(ساطع الحصري)

ص: 30

‌الفقر أستاذ.

. .

للأستاذ السيد محمد زيادة

التقى رجلان فقيران، كلاهما مدقع ذليل لفقره. . . وجلسا يتشاكيان ويتناجيان بأحاديث يصل فيها الفقر إلى الألم، ويصل الألم إلى الحسرة، وتبلغ الحسرة إلى الثورة، وتنتهي الثورة إلى الدموع. . . ثم يكون بعد الدموع الاستلام والجلد والهدوء والراحة

قال أحدهما للآخر: هبك أصبحت غنياً من أهل الترف والنعيم والجاه؛ فكيف تكون في غناك، وماذا تعمل إذ ذاك بمالك؟.

فأجاب: أكون ظلا مباحاً يأوي إليه الشَّرَدُ بلا قيد، ويتفيؤه الفقراء بغير عناء، وأكون حلقة الاتصال بين الأغنياء والمساكين. . . أعطي أولئك المكانة والمظهر، وأعطي هؤلاء النفس والجوهر

وأما مالي فلا يكون ألا مطية للكرم ومجالاً للعطف وسبيلاً للرحمة، ولا أكون عليه إلا كالأمين على مال موقوف للخير ولا يكون لي منه ألا ما للمرضع من لبن ثديها تدرُّ به للتربة

والتقى رجلان غنيان كلاهما مرهوب مرفوع لغناه. . . وجلسا يتداعبان ويتنادمان بأحاديث يصل فيها الغنى إلى الفخر، ويصل الفخر إلى الكبر، ويبلغ الكبر إلى التعاظم، وينتهي التعاظم إلى الوقاحة. . . ثم يكون من الوقاحة انتفاخ الأوداج واتساع المزاعم وادعاء المستحيل

قال أحدهما للآخر: هبك أصبحت فقيراً من أهل البؤس والعدم؛ فكيف تكون في فقرك؟ وماذا تجد إذ ذاك في دنياك؟

قال الثاني: وهل تتوقع الفقر لأمثالنا؟

قال الأول: ليكن هذا مستحيلاً، ولنفرض انه وقع. . .

قال الآخر: إذن أنتحر. . .

ومشت الأيام في طريقها إلى غايتها. . . فإذا الفقير المعدم غني موسر يتدرج نحو الثراء وشيكاً؛ فيجد في كل عمل حظاً، ويكسب من كل حظ ثروة، ويحس في كل ثروة سعادة. . . لأن الدنيا رضيت عنه فراحت تسترضيه، ومالت إليه فأخذت تستميله

ص: 31

وقد كان بين آخر العسر وأول اليسر يحمل تلك النفس الطيبة التي كان يحملها وهو فقير والتي أوحت إليه إذ ذاك أن يقول لصاحبه ما قال. . . فظلم نفسه باستمساكه بمذاهب الفقر واستعذابه حياة الفقراء!!. ثم تتغير قليلاً فكانت دنياه مزيجاً من حياته القديمة وحياته الجديدة، فأنصف نفسه بذلك وعدل بين الفقر والثراء!!. ثم تتغير تغيراً بينياً فنسى الفقر ونسى أنه كان فقيراً، وحقر الفقراء واستقر في الأغنياء، وطغى واستكبر، وبدل النفس الخيرة بنفس شريرة، واستطاب لسانه كلمة أنا. . . وبذلك لبس الغنى كما يشاء الغنى أن يلبس

وويل للغني من جهلة إذا تسلط على عقله الغرور فتعبده!!. ينسيه أنه إنسان ويلقي في روعه أنه فوق مرتبة البشر، ليجرد من صفات الإنسانية، ويكسوه صفات غيرها تصيره تحت؛ ودائماً تحت مرتبة البشر. . . المال في يده مفسدة لخلقه ومضيعة للفضيلة ونداء للجشع وقضاء على الرحمة. . .

لقد تلف الرجل، وفقدته الحياة حياً فلم يصبح معدوداً في الناس؛ وإنما اصبح رقماً حسابياً لثروة واسعة ليس من ورائها خير

ومشت الأيام في طريقها إلى غايتها، فإذا الغني الذي استبعد على نفسه الفقر قد رجع فقيرا يستبعد على نفسه الرجعة إلى غناه. تمور به الدنيا وتهيئ له في كل خطوة عثرة، وفي كل عثرة كبوة، وفي كل كبوة مصيبة، وفي كل مصيبة هماً وشقاء. . . لأنها غضبت عليه فراحت تقصيه عنها شيئاً فشيئاً لتقطع أسباب المودة بينها وبينه

وكان في بدء انكسار حظه واغتراب نجمه يستكبر على الفقر ويتعظم على القدر، ويحاول بشق النفس ألا يتحول مرتعه ولا يتبدل منزعه، فوضع نفسه بهذا أمام الدنيا في موضع الحرَد والعنت ليناصبها العداء، ويملي عليها العصيان والكبرياء!!. ثم اشتدت عليه غضبة الدهر فأيقظت فيه بعض عقله ونبهته إلى حاله ومصيره. . . فأعتدل طغيانه، وفتر عنفوانه، وهمت به نفسه الخائرة الواهنة تريده على أن ينتحر فراراً من الفقر النازل؛ ولكن راجعته بوادر السمو المنساقة إليه في بوادر الفقر. . . فتشجع واستمهل نفسه فيما أرادت!!. وكان في هذا كالذاهب على رغمه إلى ميدان الحرب. . .

ثم تمت صنعه الفقر فيه. فتأهب للصبر الطويل، وتماسك عزمه لاحتمال الفاقة وصراع

ص: 32

الزمن. وتهذبت سريرته من شوائب الغنى وكفر المادة؛ وبذلك أسلمت نفسه بالحقيقة وحسن إسلامها.

الفقر في ذاته قبيح شديد القبح؛ ولكنه في عمله جميل رقيق الجمال، إذا نزل بالرجل مسخه وبدل في طبيعته، وصير منه للناس الفقراء رجلاً خفيفاً محبوباً، وصير منه للناس الأغنياء رجلاً ثقيلاً مبغضاً، وصير منه بين أولئك وهؤلاء رجلاً بين المحبوب والمكروه. . . فيصبح الرجل بفقره ثلاثة رجال، لكل منهم روح خاصة تضعه في مكانه من الإنسانية

وإذا رضى الله عن رجل ممن ولدوا أغنياء واحبه امتحنه بمحنة الفقر ليخلق منه إنساناً في أرفع درجات الإنسان، وإذا غضب رجل ممن ولدوا فقراء ومقته هيأ له الغنى وغمره به، ليخلق منه رجلاً آخر بين الإنسان والحيوان. . حتى إذا أراد الله وعاد الأول إلى غناه وعاد الثاني إلى فقره شعر كل منها بنعمة الفقر

وإن الفقير ليتعلم من فقره القناعة فيجد سعادته في قناعته، كما يتعلم الغني من غناه الجشع فيجد شقاءه في جشعه. . .

ولا يعرف الفقير أنه فقير إلا إذا عرف أن غيره غني. . . ولا يشعر بوجود الفقر معه إلا إذا شعر بامتناع الغني عليه؛ فإذا اجتمع قوم من الفقراء ولم يكن بينهم واحد من الأغنياء، لم يجدوا للفقر مَضَضاً ولوعة، ولم يحسوا أنهم الفقراء. . . حتى يكون منهم أو يكون بينهم ذو يسار فيرونه في مباهج النعيم ومناهج السعادة، فيفكرون فيجدون في حياته حياة أخرى لم يألفوها ولم يعرفوها، ثم يفكرون فيجدون في حياته فراغاً لا يملؤه إلا المادة، ونقصاً لا يسده إلا الثراء. ثم يفكرون فيعرفون أنهم فقراء. . .

والفقراء في هذه الحياة مظلومون لأنهم يحرمون بقدر ما يعملون. . .

والفقر يمتاز من الغنى بأنه ألزم للحياة وادعى لسلامتها. فليس الناس إذا جمعهم الفقر فصاروا جميعاً فقراء، كالناس إذا جمعهم الغنى فصاروا جميعاً أغنياء. . إذ لو أراد الله الحالة الأولى لوجدنا الناس كتلة واحدة مبنية على الطهارة الفطرية مدعمة بالإخلاص الروحي؛ يتبادلون المعروف ويتعاونون على أيامهم بمناعة الأيمان وقناعة النفوس. . . فتصلح لهم وتصلح بهم الحياة، ويعيشون في نعيم دونه نعيم الغني. . .

ولو أراد الله الحالة الثانية لوجدنا الناس كالوحوش بنفوس داجية وعقول ضارية؛ يتعشق

ص: 33

كل منهم التسلط حيث لا مجال للتسلط، ويستكبر على القيام براحة نفسه فلا يجد من يقوم براحته. . . فتفسد عليهم وتفسد بهم الحياة، ويعيشون في جحيم أخف منه جحيم الفقر. . .

فالفقر أستاذ أخلاق، ومن قدر له أن يكون أحد تلاميذه فقد قدر له أن يتقلى دروس الحياة.

طنطا

السيد زيادة

ص: 34

‌التعب

للأستاذ محمد جلال

ألقى الأستاذ ميكائيل فستر خطبة في هذا الموضوع بجامعة كمبردج في 14 يونية سنة 1893 لا تزال ذات قيمة.

ولابد للباحث من الرجوع إليها ليعرف نشوء الآراء وتبدلها فيما هو بصدده. ولذلك سأبدأ بتدوين ملخص رأيه.

قال الأستاذ فستر: (إن قوة الإنسان الجسمانية محدودة بنقيصتين هما: ميل الجسم إلى السكون حتى ليعسر حثه على الحركة. وسرعة استعداده للتعب، أي العجز عن مواصلة العمل المطلوب منه.

والتعب ينشأ حتى من تكرار أبسط الحركات. ولنضرب لذلك مثلاً تحريك صنج أو ثقل باليد. أن هذا العمل يتم فسيولوجيا على الوجه الأتي: يحصل في الجهاز العصبي المركزي - ولنطلق عليه اسم (المخ) تبسيطاً للشرح - تغيرات تبعث على حدوث تغيرات أخرى في حزم من الألياف تسمى الأعصاب. وهذه التغيرات التي يسميها الفسيولوجيون دوافع عصبية تحدث في العضلات تغيرات من شأنها أن تجعلها تقصر ثم تنكمش حتى تتلاقى أواخرها معاً. وفعلها هذا يحرك روافع عظيمة. وبذلك تنثني الذراع أو اليد ويرفع الثقل

ومن الجلي أن التعب قد ينشأ بطرق ثلاث على الأقل.

(1)

نكوص العضلات

(2)

نكوص الأعصاب

(3)

نكوص المخ، أو نكوص اثنين منها أو الجميع معاً.

أما ما يعتري العضلات من نصب فلا يتوقف على مقدار ما تنفقه من جهد مثل ما يتوقف على مقدار سرعة ذلك الجهد وتعويضه، أي على مقدار الفرق بين سرعة الهدم وسرعة البناء

ويشذ القلب عن جميع عضلات الجسم بأنه لا يعرف الكلل، وحينما يعجز عن الاستمرار في تأدية وظيفته يكون ذلك بسبب اختلال أو فساد يصيب أحد أجزاء الجسم الأخرى لا بسبب اختلاله أو فساده هو ألا في ما ندر.

ص: 35

وتوجد عوامل لتعب العضلات غير الإفراط في بذل رأس ماله الحيوي، ذلك بأنها ميدان حياة وموت، إذ تحمل إليها الشرايين مواد حية وتنقل منها الأوردة مواد ميتة. ومن مظاهر الحياة الغريبة أن كل عضو يصنع سماً لنفسه وهو يؤدي حركة من حركة

فالتعب يتوقف على مقدار ما تفرزه العضلة من السم الضار بها كما يتوقف على ما تدخره بقية أجزاء الجسم من قوة تعين بها تلك العضلة على مقاومة ما يعتريها من وهن بإزالة السموم وجلب مواد حية جديدة.

على أن كل عمل تأتيه العضلات يشاركها فيه المخ والأعصاب، وما ينجم من تعب لا يصيب العضلات وحدها. ومن المشاهد أن الإنسان قد يبلغ به الجهد حد الإعياء، ومع ذلك قد يدفعه الفرح أو الخوف المفاجئ إلى إتيان ما كان يظنه منذ لحظة مستحيلاً، وقد تشل حركتنا وتنضب قوتنا من تأثير انفعال مباغت. ولما كانت العضلات لا تحس ولا تشعر ولا تدري بما يفاجئ، فلا يمكن أن تتأثر بالانفعالات، فالتعب الذي يمحوه الأمل أو الذي يعجل به اليأس لا يمكن أن يعزى إلى العضلات بل لابد أن يكون مصدره الجهاز العصبي.

وهنا يجب التنبيه على التفرقة بين الأعصاب والجهاز العصبي فالأعصاب لا تتعب مطلقاً، وإنما الذي يكل هو المخ أو الإرادة، وهذا ما نقصده بالجهاز العصبي، وهو أقل قدرة من العضلات على تحمل التعب. ولعل سرعة تكرار ذبذبة الأمواج الصوتية والضوئية وغيرها مما يجتهد المخ مسجل الاحساسات، فأننا لنرى أن الصوت المستمر يأتي علينا وقت لا نسمعه كما نفقد الشعور بلمسة واصبة ولا نشعر بحلاوة ما نأكل أو نذوق من مادة سكرية نأكلها أو نذوقها دون انقطاع، وإحساسنا يكاد يصبح بليداً، دون أن ندرك بفعل التكرار، ولذلك تفقد الملذات لذتها في نظرنا بطول المدة وتشبع الجسم وسآمته

ولما كانت أعضاء الجسم جميعاً مرتبطة في العمل، فالجهد الذي يصيب أحدها لا تسلم منه سائر الأجزاء. . . ولما كان الدم يحمل السموم كما يحمل المواد المنعشة فإن مروره في الجهات الحساسة كالمخ قد يسبب لها اضطراباً وقلقاً أو تخديراً وموتاً.

على أن تلك السموم تفيد بعض الأعضاء التي تتغذى بها أو تحولها إلى مواد غير ضارة أو تقذف بها إلى خارج الجسم، ولذلك تجب علينا العناية بالأعضاء الداخلة وخصوصاً الكبد.

ص: 36

ولا يفوتنا أن الجلد لا يقل أهمية عن الكبد. وليذكر كل واحد أن لأبداننا علينا حقوقاً يجب أن نوفيها بالراحة والرياضة غير المجهدة).

هذا بعض ما يقوله الأستاذ فستر.

أما الدكتور فلوري فقد أفرد باباً للتعب في كتابه الطلي الذي جعله مقدمة لطب النفوس، وفيه يقول: (إن الإنسان يستنفد قواه اليوم ما يتعرض له من مختلف الذبذبات، فقد أقام المسيو فيريه البرهان على انه يكفي أن يمر تحت نظرنا لون زاه، أو على سمعنا صوت، حتى يهيج جهازنا العصبي إلى حد يزيد قوتنا مؤقتا ثم يعقب ذلك خمول دائم. فإذا قدرنا ما يقع تحت أبصارنا من ألوان الصور، وما يقرع أسماعنا من أصوات الموسيقى وحركة العربات وغيرها، أمكننا أن نكون فكرة عن مقدار ما يذهب من قوانا هباء بسبب التعب الجسماني ليس غير

وإذا أضفنا الإجهاد العقلي وما تستنفده حياتنا العاطفية استطعنا أن نعرف أن أجل نومنا قصير لا يعوض ما كابدنا من مشقة، وهذا هو الإرهاق بعينه، ولا يكون علاج هذا الإرهاق المدمر ألا بإحدى وسائل ثلاث:

الراحة والمران ثم تنبيه المراكز العصبية تنبيهاً منظماً

أما الراحة فتتطلب العزلة التامة بعيداً عن المنغصات والمثيرات في بيت من بيوت العلاج المائي بحيث لا يقطع تلك الحياة البسيطة التي يقضيها المجهد هناك ألا فترات الأكل والاستحمام والنزهة والتعرض لتيارات الكهرباء الاستاتيكية.

وفلوري يرى أن هذه الوسيلة شرها أعظم من خيرها ولا يقرها علاجاً إلا حين يخفق كل علاج سواها، فإن المرء لا ينبغي له أن يرتمي في أحضان السآمة بل يجب عليه أن يصون نشاطه ويذكيه بتنمية ميله الطبيعي إلى العمل بالمران. فإن البطالة والكسل مصدر كل الموبقات ومنبع عدة اضطرابات وأمراض عصبية. والتعب الحقيقي نادر عارض لا يلازم المفكرين المنتجين إلا أمداً قصيراً، ولكنه كثيراً ما يلازم الفارين من متاعب الحياة الذين يقضون أوقاتهم دون عمل، والذين لا ينتجون إلا إذا هبط عليهم وحي أو الهام. لأمثال هؤلاء لا تنفع الراحة إذ هم في راحة دائمة، والراحة لا تفيد ألا من تعوزه، وهي لا تعوز ألا من يبذل أقصى الجهد في عمل متواصل. أي أناة وجلد ومثابرة، وأي جهد

ص: 37

استلزمته مؤلفات إسكندر دوماس الكبير أو مؤلفات بلزاك أو ميشليه أو هوجو أو تيير؟ فلنر كيف كان هؤلاء الفحول يشتغلون

يقول دوماس الصغير في والده: لم يكن والدي يشتغل متقطعاً، بل كان يشتغل يومياً من وقت استيقاظه حتى الظهر غالباً؛ ولم يكن الغذاء ألا فترة راحة، وإذا تناول طعامه وحيداً، وهذا نادر، نقلت له مائدة صغيرة إلى حجرة العمل حيث يأكل برغبة ولذة كل ما يقدم إليه. فإذا انتهى الأكل عاد إلى كرسي العمل وتناول قلمه. ولم يكن يشرب وقت الغداء إلا النبيذ الأحمر أو الأبيض مخلوطاً بماء سلتز، فلا قهوة ولا خمر ولا تبغ. أما بقية اليوم فلم يكن يتناول فيه ألا شراب الليمون. وشغله في المساء قليل، ولكنه على كل حال لم يكن يسهر أبداً حتى ساعة متأخرة من الليل بل كان ينام نوماً عميقاً.

ولم يكن يشعر بتعب ألا إذا قضى على هذه الحال عدة أيام بل عدة اشهر. عند ذلك يسافر للصيد والقنص في رحلة قصيرة يستغرق معظم وقتها في النوم دون أدنى تفكير، فإذا ما حل ببلدة فيها ما يدعو إلى الفرجة ذهب لمشاهدة غرائبها ودون مذكرات عنها؛ فكل راحته في تغيير العمل.

ولقد شاهدته في عدة سنين يصاب بالحمى يومين أو ثلاثة عقب عمله اليومي المستمر، وتبلغ ضربات قلبه 120 أو130 فيعالج نفسه بالنوم العميق وشراب الليمون يوضع له في جفنة عظيمة على منضدة بجوار السرير، فكلما استيقظ تناول جرعات، منها وبعد مضي يومين أو ثلاثة ينتهي كل شيء فيقوم ويستحم ويبدأ عمله.

وكان دائماً في صحة جيدة لا يرتاح راحة تامة إلا في الصيد والسفر، ولم أعهده يرتاح في المنزل مطلقاً. غير أنه كان كثير النوم؛ وقد ينام بالنهار (على حسب هواه) ربع ساعة نوماً مصحوباً بشخير عظيم، فإذا ما استيقظ امسك بالقلم، ولم يكن يمحو شيئاً حين يكتب، وكان جميل الخط

أما دوماس الصغير فكان على خلاف والده، متقطع العمل يسكت أشهرا ثم يستأنف الكتابة، ذلك بأنه كان عديم الخيال، معتمداً في تأليفه على الملاحظات والتفكير؛ فكان لابد من أن يستغرق زمناً طويلاً في المشاهدات، ثم يفكر في طريقة صوغ القصة، حتى إذا ما نضجت عمد إلى تدوينها على القرطاس؛ وكان يقضي مدة المخاض في حركة، حتى إذا ما أراد

ص: 38

الوضع بدأ عمله مبكراً واستراح عند الظهر. وكان يحب التأليف في الريف، ولا يشتغل في اليوم اكثر من ساعتين أو ثلاث، وكلما طال عمله طال نومه وقلت رغبته في الأكل، وكانت صناعة الكتابة منهكة له، وكثيراً ما اضطر إلى الانقطاع عن العمل بتاتاً مددا طويلة.

على أنه كان كأبيه من حيث الاعتدال، فلم يكن يشرب نبيذاً ولا قهوة ولا خمرا ولم يكن تبغاً.

أما بلزاك العظيم فقد كان غريباً في حياته التأليفية. فلم يكن يكتب ألا بعد أن يلبس لباس الهبان، وكذلك كان سلوكه مثلهم منظماً نقياً جيدا. ويروى تيوفيل جوتييه أن بلزاك كان ينصح لتلاميذه أن ينقطعوا للعمل سنتين أو ثلاثا بمعزل عن الناس، وألا يشربوا إلا الماء ولا يأكلوا إلا الأرانب، وأن يناموا عند تمام الساعة السادسة مساء ويستيقظوا عند منتصف الليل فيبدأوا عملهم حتى الصباح، كما كان ينصحهم بالعفاف المطلق؛ وكان كثير التكرار لهذه النصيحة الأخيرة. ولم يكن هازلا في نصائحه. وقد كان عظيم الإنتاج بفضل إرادته الخارقة ومزاجه التقشفي وانقطاعه عن الناس انقطاع المتحنثين الأبرار. وكان في سلوكه مستقيماً حتى لم يكن يشرب النبيذ

وأما هوجر فكان مفرطاً في شرب الخمر والأكل دون اكتراث، ولكنه ككل عظماء المنتجين، كان يبدأ عمله في ساعات محددة من وقت الاستيقاظ إلى وقت الغداء. وكان يستيقظ في الساعة السابعة دائماً فيغسل رأسه بماء بارد، ثم يبدأ يكتب وهو واقف بسلاسة دون محو صفحات من نثر أو نظم قد أختمر في عقله في مساء اليوم السابق في أثناء نزهته المعتادة بعد الظهر. وما أكثر ما صنف! ولكن تصانيفه الهائلة لم تجهده أبداً وذلك بفضل نظام العمل.

أما ميشليه فكان من عادته أن يكتب مبكراً؛ فكان في أول حياته يستيقظ في الرابعة صباحاً، ثم اصبح في وسط حياته يعمل نحو الساعة الخامسة: وفي آخر حياته صارت السادسة هي ساعة بدء العمل. وكان محباً للنوم، هادئه عميقه، وكان ينام الساعة التاسعة مساء حين كان وحيداً. وكان يدرس قبل نومه الحقائق الأساسية الخاصة بالفصل الذي عليه أن يكتبه في اليوم التالي، فمما لا شك فيه أن العقل يشتغل بالليل وصاحبه نائم.

ص: 39

وكان معتدلاً في غذائه، لا يأكل شيئاً ثقيلاً، ويكثر من الخضر؛ وقبل بدئه عمله يتناول فنجانة صغيرة من قهوة ولبن دون خبز وفي الحادية عشرة صباحاً يأكل بيضتين وشريحة من اللحم المشوي؛ وقد يأكل قليلاً من الفاكهة ويشرب قليلاً من النبيذ أما الخمر فلم يكن يتعاطاها ولم يكن يحب القهوة ألا باللبن

وكان يشتغل في كل يوم ست ساعات طول حياته، ولم يكن يحب الملاهي، وما كان يزورها ألا نادراً؛ وما كان يلهيه عن عمله شيء، فإذا ما أتم كتابه شعر بأثر متاعب العمل المتواصل فلا ينجيه من آلامه إلا الريف والتاريخ الطبيعي

مما سبق يتبين أن هؤلاء العظماء قد اشتغلوا كثيراً جداً دون انقطاع تقريباً مدى عدة سنين ولم يصابوا في صحتهم بسوء، فقد عاش دوماس الكبير 67 سنة وميشليه 74 وتيير 80 وهوجو 82 ودوماس الصغير 71، ولم يمت صغيراً ألا بلزاك فقد عاش 51 سنة فقط. ولعل لكثرة مشاغله وهمومه المالية أثراً في ذلك؛ فكثيراً ما كان يضطر إلى العمل 16 ساعة في اليوم شهرين متتاليين أو ثلاثة أشهر. فلا عجب إذا كل وعجز عن المقاومة وإن كان قوى الجسم مفتول العضلات.

ص: 40

‌شاعر الإسلام

محمد عاكف

بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

كنت أقرأ اسم محمد عاكف بين أعلام الأدب التركي الحديث، وكنت لا اعرف ألا طرفاً من أخباره وأشعاره. فلما سافرت إلى استنبول منذ سبع سنين، وكان عاكف قد هاجر إلى مصر، عرفت من سيرته وأدبه ما حببه إلي وشاقني إلى لقائه. فلما عدت إلى مصر بادرت إلى زيارته، وكان من سعادة الجد حينئذ أن ألفيته على مقربة مني في حلوان نازلاً في كنف الأمير عباس حليم باشا رحمه الله

ذهبت إلى داره، فطرقت الباب رجل ناهز الستين اشمط ربعة قوي البنية، عليه سيما الحياء والتواضع. وجلست فتحدثنا قليلاً، فافتتحنا عهداً من المودة المؤكدة والصداقة المخلصة

وكان صديقي حيياً، نزر الكلام، كثير التفكر، طويل الصمت، نزاعاً إلى العزلة، نفوراً من المجامع؛ فتوفر حظي من لقائه والأنس به، قلما زرته فلم ألفه في داره

وكان أنسه أن أزوره أو يزورني، فنفرغ للحديث نصرفه بين الماضي والحاضر، ونمزج فيه الجد بالفكاهة. ونطوف به في أرجاء الأدب والتاريخ، ونتعرف بها أحوال المسلمين. وكان إذا أنس بالمجلس انطلق في الحديث وتبسط واستزاد المحدث بحسن استماعه واهتمامه. فإذا قاسمنا مجلسنا غيرنا صمت حياء أو انقباضاً، أو إصغاء أو إنكارا؛ فإذا سألته لأشركه في الحديث هز رأسه متجاهلاً، أو ابتسم أو أجاب موجزاً، ثم راجع صمته. فإذا انفض المجلس أبدى لي رأيه مخالفاً أو موافقاً، ساخطاً أو راضياً

وكان احب شيء إليه أن نلتقي في عشايا الصيف، فنطوف في حلوان نتعطف في شوارعها كما تتعطف بنا شجون الحديث، فلا ننتبه لمكاننا حتى نخرج من ابنيه المدينة فنرجع إليها، ويلهينا الحديث حتى ننتهي إلى طرفها الآخر. وكان قوياً على المشي محباً له لا يذكر الدار ألا أن شكوت إليه التعب، فيشكني عائداً إلى داره أو داري لنقطع الحديث بشرب الشاي.

ص: 41

وكم تحدثنا وقرانا في سيرنا وجلوسنا في الآداب الثلاثة: العربية والفارسية والتركية. وكنت احب أن أقرأ عليه شعره؛ وكان يسره أن يستمع له. وكانت كل أحاديثنا وقراءتنا متعة، نجتمع فيه على الفكر والذوق والأمل والألم. وكان أطيب المجالس مجلساً نفزع فيه إلى شعر محمد إقبال. وهو رحمه الله عرفني بإقبال يوم أعارني ديوانه (بيام مشرق) فإذا صفا الوقت عمدت إلى أحد كتب إقبال فقرأت واستمع مقبلاً مستغرقاً يقطع إنشادي في الحين بعد الحين بالاستعادة أو الاستحسان أو التعجب أو التأوه. وشد ما كان يثير إقبال نفسه، أو يثلج صدره! وشد ما كان يحزنه أو يفرحه! وأذكر أننا بدأنا كتاب إقبال (أسرار خودي) فوالينا الجلسات حتى أنهيناه إنشادا، ثم اتبعنا به أخاه (رموزبي خودي) فختمناه على شوق إلى الإعادة

وكنت عرفت أساتذة كلية الآداب بهذا الأديب الكبير، فاختاروه لتدريس التركية بها، فكان محبباً إلى الأساتذة والطلاب يأنسون به ويجلونه ويتوددون إليه

- 2 -

كرت على هذا الأيام، وعددنا فيه بضع سنين لا يكاد عاكف يغيب ثلاثة أيام لا أراه في حلوان أو كلية الآداب. وكان قوياً صحيحاً مغتبطاً بالعافية، فلم يرعنا ألا أن بدا عليه الهزال والشحوب، وازداد به الانقباض والحزن، فإذا سألناه اخبرنا أن مرضاً قديماً عاوده. وهو يطب له ويرجو الشفاء. ثم بداً له أن يذهب إلى الشام يستمد العافية من السفر وتجديد الهواء، فعاد بعد شهرين وقد استفاد أن مرضه لم يزدد. ثم تغير وتغير فأنكرنا حاله ورثينا له، وإذا الجسم القوى المضمور عظام تحت الثياب، ولكنا كنا نأمل له العافية، ونرتقب أن نغتبط به معافى متهللاً كما كان.

وكان سفري إلى العراق، فتركته راجياً أن ينجده الطب فيسترد عافيته ونضرته، وتطول سعادة أصدقائه وغبطة الأدب به. وكتبت إليه من بغداد فلم اظفر بجواب، ولم يكن ذاك من دأبه. فالتمست له عذرا من المشاغل وتمنيت ألا يكون المرض شغله عن رجع الخطاب، ثم علمت أنه سافر إلى استنبول وأن حاله لا تبشر بالرجوع إلى مصر.

- 3 -

ص: 42

رجعت إلى حلوان افتقد زوراته بالنهار والليل، وأندب غدواتي وروحاتي إليه، ممسكاً بكتاب أو معداً الحديث، وأتذكر مجالس عزت علي من بعده، ومن لي بعد عاكف بمجالسه؟

وعلمت أواخر الصيف الماضي أن صاحبنا لما به، وأن داءه قد استفحل، وغلب اليأس الأمل. ثم انقطعت الأخبار، وطال الانتظار، وأرجفت الأنباء، ولم نظفر من الأمر بيقين. والتمسنا أخباره بالبريد والبرق فلم نستقر على نبأ

ثم طلعت جرائد مصر بالنعي، وترادفت جرائد تركيا بخبره، ولكن بالحسرة والرثاء، وبصورته ولكن في ساعاته الأخيرة، وبمشهده، ولكن محمولاً على الأعناق، وبالخبر اليقين! ولكن في بطن الثرى.

فإلى رحمة الله التقي النقي، وفي ذمة الله الأديب الألمعي وفي رضوان الله (شاعر الإسلام)

(للكلام بقية)

عبد الوهاب عزام

ص: 43

‌سجين شيلون

للشاعر الإنجليزي لورد بيرون

بقلم الأستاذ محمود الخفيف

إلى الذين لا يلويهم شيء عما يعشقون من حرية

(المعرب)

تمهيد

كتب بيرون هذه القصيدة الجميلة في فندق صغير في قرية بالقرب من لوزان، حيث عاقته رداءة الجو عن متابعة سيره، وقد أثار مرأى ذلك الحصن العتيق (شيلون) في قلبه ذكرى فرنسوا دي بونفارد الذي سجنه فيه دوق سافوي من أجل مبادئه الجمهورية عام 1570م وقد جعله بيرون بطل هذه الأقصوصة الخيالية الرائعة.

- 1 -

لقد علق الشيب بشعري ولكن لم تلده السنون، كذلك لم تبيض رأسي في ليلة كما تبيض رؤوس الرجال بغتهم الرعب.

وتقوست ساقاي. وإن لم يك ذلك عن جهد، بل لقد صدئتا في سكون موبق مهلك، إذ كانتا نهب الدمار في سجن مظلم تحت الأرض

وكان حظي في هذه الدنيا حظ أولئك الذين لا يجدون في أرضها مضطربا، ولا في سمائها مسرحاً، إذ كان ذلك عليهم محرما

على أن ما ألاقيه، إنما هو من أجل عقيدة أبي! أجل، من أجل تلك العقيدة أقاسي الأصفاد وأغازل الموت طالبا يده!

ولقد قضى ذلك الأب نحبه مستشهدا على خشبة الصلب، في سبيل مبادئه، التي لم يكن لينثني عنها، وفي سبيل هاتيك المبادئ عينها، يجد أبناؤه مأواهم في ظلمات السجن

كنا سبعة، نحن الذين تراهم الآن واحداً فحسب، ستة في الشباب وواحداً في المشيب، انتهوا جميعاً كما بدأوا فخورين بما صبه الاضطهاد على رؤوسهم من نقمة.

ص: 44

ألقي بواحد في النار، وهلك اثنان في الميدان، حيث طبع الدم عقيدتيهما بخاتمه، وذهبا كما ذهب أبوهما في سبيل الله الذي أنكره أعدائهم، وألقي بالثلاثة الباقين في غيابة السجن حيث لم يعش منهم سواي أنا. . . حطامهم الباقي

- 2 -

هنالك في سجن (شيلون) ذلك السجن العتيق العميق، توجد سبعة أعمدة أقيمت على النمط القوطي، سبعة أعمدة ضخمة شهباء، تتراءى كالحة على بصيص منبعث من شعاع كئيب سجين، شعاع من أشعة الشمس ضل طريقه، فسقط من خلال الشقوق في الجدار الضخم على أرض السجن، واخذ يزحف فوق تلك الأرض الرطبة المبللة كأنه خيال المذنب انعكس في مستنقع

في كل عمود من تلك الأعمدة علقت حلقة، وفي كل حلقة ربطت سلسلة. آه. يا لهذا الحديد من آكل، فهاهي ذي أسنانه لا يزال أثرها في ساقي ولن يزول ذلك الأثر إلا بزوال هذا النهار الجديد، الذي تتأذى به الآن عيناي وتتألمان، لأنهما لم تريا الشمس هكذا تشرق منذ سنوات لا يسعني حصرها، فقد نسيت عددها وغاب عن وعيي تعاقبها الثقيل، منذ أحنى آخر اخوتي رأسه وفارق دنياه، وأنا بجانبه لا تزال تدب في جسمي الحياة!

- 3 -

أوثقونا كلا في عمود من تلك الأعمدة الحجرية وكنا ثلاثة معا، ولكن كل في معزل عن أخويه، ولم نك نستطيع أن نتحرك خطوة واحدة، ولم يك يتسنى لأحدنا أن يرى وجهي الآخرين لولا ذلك الضوء الشاحب الأغبش الذي جعل كلاً منا غريباً في عين أخيه: وهكذا كنا معا وإن كنا في الوقت نفسه منفردين، كانت أيدينا مغلولة مربوطة، ولكن قلوبنا كانت تذوي من الحزن.

على أننا مع ما كنا نقاسيه من حرمان أنفسنا من عناصر الحياة الصافية وجدنا بعض العزاء أن كنا نستطيع أن نتحادث ويسمع كل منا كلام أخويه فيسري كل عن الآخرين بما ينشد من أمل جديد أو بما يذكر من أسطورة قديمة أو بما يتغنى به من نشيد حماسي من أناشيد البطولة

ص: 45

ولكن هاتيك التعلات وا أسفاه تسربت إليها في النهاية برودة المكان، وصار لأصواتنا رجع كئيب موحش هو الصدى المرتد من أحجار ذلك السجن، صارت أصواتنا حبيسة ضعيفة ولم تعد كما كانت بالأمس طليقة مليئة. ربما كان ذلك وهما ولكني لم اعد أتبين في تلك الأصوات أصواتنا السوالف.

- 4 -

كنت أكبر هؤلاء الثلاثة، وكان علي أن أشد أزر أخوي وأسري عن قلبيهما، ولقد قمت من ذلك بأحسن ما استطعت، وكذلك قام كل منهما بما وسعه

وتالله لقد حرك الحزن نفسي من أعماقها، وبلغ الأسى منها كل مبلغ من أجل أخي الأصغر، ذلك الفتى الذي أحبه أبي لأنه كان يرى في جبهته جبهة أمه، وكان يرى في عينه لازورد السماء

وفي الحق أنه مما يذكي القلوب أسى أن يرى مثل هذا الطائر في مثل ذلك القفص. ذلك لأنه كان جميلاً كالنهار حين كان يبدو لعيني من جمال النهار بقدر ما يبدوا منه لأعين النسور الفتية المحلقة في جو السماء؛ كان جميلاً كنهار القطب، لا يرى الغروب حتى يتصرم صيفه، ذلك الصيف الصاحي الطويل زمن ضوئه ابن الشمس المتشح بياض الثلج.

كان أخي شبه ذلك النهار في نقائه وبريقه وكان عذب الروح يفيض بالمرح، ولا تعرف عيناه الدموع في شيء، اللهم إلا فيما ينال الآخرين من شقاء، وهنالك تفيضان كما يفيض الغدير المنحدر من الجبل، ولن يرقأ دمعه حتى يدفع ذلك الشقاء الذي أزعجه مرآه وأمضه

- 5 -

وكان الآخر مثله في صفاء الروح، ولكنه خلق محارباً مقداما، فكان قوي البنية، متين الأعضاء، له من قوة الإرادة ما يتحدى به العالم في ساحة الحرب، وكان أشد ما يبهج نفسه أن يتاح له الموت في طليعة الصفوف، لا أن يذوي هكذا في الأغلال.

ولقد أوهن روحه صليل تلك الأغلال حتى ذبلت كما تذبل الزهرة، ورأيتها تتساقط شيئاً فشيئاً، وفي الحق لقد نالني مثل ما ناله، ولكني تجلدت لأبقي على حشاشة هذا البيت العزيز الغالي، وكان أخي هذا صائداً يطارد الغزلان والذئاب على متون التلال، ولذلك كان

ص: 46

يرى في هذا السجن أقبح هوة وفي تصفيد قدميه أسوأ عذاب.

- 6 -

كان تقع بحيرة ليمان تحت أقدام ذلك الحصن على عمق ألف قدم. وكانت لججها تتلاطم وتعج حتى لتصل إلى رأسه وتجعل قياس عمقه يبدأ من تلك الرأس البيضاء التي كانت تكتنفها الأمواج من جميع النواحي، وتجعل مع الحائط من الحصن سجنين؛ وتدعه كالقبر الحي!

وكان يقع القبو الذي ألقي بنا فيه تحت سطح البحيرة، وكثيراً ما سمعنا موجها فوق رؤوسنا يلطم الجدران بالنهار والليل ولقد أحسست ثبج الشتاء يضرب القضبان في الريح العاصفة ورأيته ينبعث صعداً نحو السماء الهانئة.

وعند ذلك أرتج الصخر وهو الصخر، وأحسسته يهتز وما هو بالمهتز، ذلك أني كنت حينئذ أستطيع أن ابتسم، أن أرى الموت الذي يطلقني من هذا الأسر!

البقية في العدد القادم

الخفيف

ص: 47

‌الشتاء

للأستاذ أديب عباسي

أحسب أن مقال الأستاذ الكبير (أحمد أمين) في امتداح الشمس وذكر آياتها فينا وأياديها علينا، كان بداعي توارد المعاني والانتقال الطبيعي من موضوع (الضحك) إلى تاليه (الشمس)

فالشمس بما ترسل إلى النفوس في الشتاء من إشراق، وما تشيعه في الوجوه من بشر، وما تبعثه إلى القلوب من حرارة، تعمل عمل الضحك في النفوس والأجسام. ومن هنا ما جوزت لنفسي أن افترض من انتقال الأستاذ بين الموضوعين انتقال توارد لا انتقال عفو

وأنا اعترف بأنني متأثر الأستاذ الكبير، متأثر به في كتابة هذا الفصل. فلولا موضوع الشمس الذي دبجت يراعته الساحرة ما كنت في الأرجح أفكر في موضوع (الشتاء) وأكتب فيه في هذا الفصل الذي يغرى بالاعتكاف والانكماش. ولولا طريقة الأستاذ في امتداح الشمس والتغزل بمحاسنها لكانت لي خطة تباين في الراجح هذه الخطة عند الكتابة في هذا الموضوع لو عينت يوماً أن اكتب فيه

والشتاء - كما لا بد انك تعلم - أقل فصول العام نصيباً من احتفال الشعراء والكتاب له. ومن هنا كان ما قيل فيه مدحاً وهو القليل، وذماً وهو الكثير، أقل لما جاء في الربيع أو الصيف أو الخريف مدحاً وثناء. ولعل ذلك لما يرين على النفوس في هذا الفصل من حرج الشتاء وضيق البرد مما يذود عن الشعراء أقل الشعر والنثر في التغزل بالشتاء ومدح القر. على أنني سأخرج على هذه القاعدة وامتدح الشتاء في فصل الشتاء عينه وإبان اشتداده وسورته غير العادية في هذا العام.

وأول ما نذكره للشتاء وغيومه المقطبة وبروقه الملعلعة ورعوده المقعقعة وغيثه المنهل وسيله الحادر ونهره الهادر، أنه فصل الأحياء والبعث في الطبيعة، وأنه محرك رواقد الأجنة وغوافي النبت، ثم هو مغذي الزرع وباعث الرزق ومحيي الضرع. ولعلة واضحة وسبب مقبول أن أشتق العرب الغيث من الغوث، إذ لولا الشتاء ما نبت نبت ولا تفتح زهر ولا اكتسى دوح ولا فاح عطر ولا غنى جدول ولا انبجس نبع ولا أورق عمود ولا أخضر ربع ولا أحصد زرع

ص: 48

يسيل في الترب الماء فينقل أسباب الخصب والنماء إلى البذور المستكنة والأجنة المخبوءة في باطن الأرض، فتصاعد الجواهر المغذية محمولة في مطاويه إلى سوق النبت وأزهاره وأوراقه وبراعمه وتسير في كل مسير، فيأخذ حاجته ونصيبه كفعل الجسم بالدم

ولولا الشتاء لحرمنا الربيع بوشيه وأفوافه وأنواره، والصيف وضلاله الندية، ونسماته الرخية وغلاله الوفية، والخريف وما أنضج من ثمر شهي وفاكهة روية

وللشتاء جماله الرائع القوى: ففيه الغيوم تأخذ كل شكل وتلون كل لون وتسير متلاحقة مطردة، تارة مسرعة وأخرى وئيدة، تشق عباب الجو كالسفين المثقلة. وهي تجتمع في الجو لتفترق، وتفترق لتتجمع، فهي حيناً جميعة وهي حينا الشمل شتيت. وآنا هي مسفة حتى لتدخل من النوافذ وتتطفل على الناس في مخادعهم وأسرتهم، وآونة تسمو وتشيل في كبرياء وأنفة حتى لتكاد تحس بأنها تبغي إلى الشمس سبيلا.

والغيم رمز الأمل القوي والعزم الفتي. فهو أبداً متجدد وهو أبداً يسير، وأبداً يستهدف المرامي البعيدة والآفاق القصية، ولن يصده عنها سهل ولا وعر. وهو كلما وصل أفقاً وبلغ غاية استهدف أفقاً آخر جديداً إلى أن يفنى كفناء الأمل بفناء العمر الذي يضع الحدود ويقيم السدود للآمال والأماني الإنسانية.

وفي الشتاء السيل المنزع والموج المصطفق والنهر الزاخر، وفيه الثلج يكسو الأرض حلة نقية من أديم الشمس هي لولا برودها. وفيه الجليد كالثريات المدلاة حيناً، وحيناً كصفحة السماء، في الزرقة والاستواء، وحيناً آخر تراه. فتخاله هشيماً من البلور النقي الصفيق. وفيه الندى مسلوكا عقوداً من اللؤلؤ في خيوط الزرع وتباشير النبت. وفيه الضباب يضيق الأفق ويقصر أمد الأبصار فترة، فيكون للأبصار كالحمية للأجسام يعطيها فرصة للاستجمام من ألم النظر البعيد! وفي الشتاء البروق الخواطف والرعود القواصف والرياح العواصف. وكل هذا فيه جمال القوة وجمال الروعة، وهما كجمال الهدوء والاعتدال لا زمان لرياضة العواطف وحياة الشعور. وإن يكن في فصول العام ما يرينا عظمة الخالق وجبروته ففصل الأمطار هو أول هذه الفصول. ولا يذكر الناس الله ويخشعون أمام سطوته خشوعاً صادقاً إلا في فصل الشتاء حينما يعود إلى الأذهان ذكر الطوفان الذي أغرق قوم نوح، وحينما يشتد قصف الرعد وهزيمه فتزلزل الأرض زلزالها، وتوشك أن تخرج أثقالها كيوم الحشر.

ص: 49

والشتاء في أول عوامل التعمير والبناء في صرح الاجتماع، فلولا الشتاء لما كان الموقد، ولولا الموقد لما كانت الأسرة أو لتأخر نشوءها أمد طويلاً، ولولا الأسرة ما كانت قبيلة، ولولا القبيلة ما كانت دولة ولا مملكة. فأنت ترى أنه لولا الشتاء وضرورة اجتماع الأفراد حول النار للاصطلاء وطلب الدفء، لظل نشوء الأسرة رهناً بحوادث وظروف أخرى طارئة قد تقع وقد لا تقع.

وفي الشتاء يقل الأجرام قلة ملحوظة، وذلك أن الناس يقلون من الغدو والرواح ويعتكفون في بيوتهم مما لا يهيئ للصوص فرصاً عديدة للسلب والنهب. وفيه كذلك يسمو مستوى الحياة العائلية. فالأب يرى بنيه وزوجه، يخالطهم ويباسطهم ويقيم بينهم وقتاً أطول، فلا الزوجة ساهرة مسهدة، ترقب دامعة العين والقلب أوبة الزوج من إحدى زوراته الليلية، ولا البنون يلتمسون حنو الأب وعطفه عليهم ورعايته لهم وانتباهه إليهم فلا يجدونها، ولا العاشق المفتون ييسر له كل اليسر أن يتسور على الناس الدور ليسطو على الأعراض ويلغ فيها ويفسد

وفي الشتاء تقل الضوضاء ولا يقطع على الناس في الليل وأطراف النهار هدوءهم لغط الباعة وهرجهم وصراخهم وضجيجهم في الشوارع والأزقة وأمام الدور والمدارس والمستشفيات وفي كل محل تجوس خلاله أقدامهم

هذا ويعلم الشتاء الناس الحذر والحيطة، فلا يجدي معه أن تهمل لباسك أو تهمل أمور بيتك أو تهمل استشارة الطبيب أو تغامر في الأدلاج والسير فإنه على خلاف بقية الفصول، سريع حاسم في عمله، ولا يدع لك فرصة للمطل والمراوغة وترك التبعات المفروضة عليك نحوك ونحو بنيك وذويك.

ويعلمنا الشتاء بتقلبه واختلاف وجوهه وقوة تنبيهه دراسة الطبيعة وحسن الاستدلال بالأمائر والإشارات على حال الجو من دفء أو قر أو إمطار أو انحباس وخلافها. والبدوي أسرع الناس استدلالاً وأسوغهم معرفة وأصدقهم فراسة بشؤون الجو، لأن للشتاء عنده من المعاني غير ما له عند الحضري وساكن المدينة

ومن أنعم الشتاء على الناس وفضله العميم انه يحجب عن الأبصار كثيراً من مشاهد القبح والتشويه المغثية مما تقذى به العيون، وأنه يحجب كذلك الكثير من مظاهر الفتنة والجمال

ص: 50

والإغراء

وقد تقول محتجاً ومعارضاً: نستطيع أن نفهم ونسيغ أن يكون من فضل الشتاء على الناس وخيره العميم أنه يحجب عنهم مظاهر القبح فيمن حرموا الجمال بما لابد أنهم مخبؤه من أجسامهم الشوهاء المضطربة بما يلففون به أنفسهم من أردية وأكسية ثقيلة، حتى لا يكاد يبدو الاضطراب والتشويه. قد تقول: إننا نستطيع أن نُسيغ هذا ونفهمه، ولكن كيف نفهم أن يكون إخفاء الحسن والجمال والفتنة من أنعم الشتاء عندنا وفضله العميم علينا؟

وأجيب: إنك بلا ريب تحمد للشتاء أن يخفي عنك الفرو الغزير حول العنق فتنة الجيد العاجي، وما يصله بأعلى الصدر من نحر يطل عليك إطلالة الفجر. وتحمد للشتاء أن يخفي عنك بالمعطف الثقيل والدثار الكثيف والصوف الخشن الصدر الناهد البض، والترائب المصقولة والأعضاء المملوءة والرداء الشف يخفي شيئاً ويبدي أشياء فتكون الفتنة - وايم الله - أشد من فتنة العرى الكامل!! وتحمد للشتاء أنه يخفي عن عينك ضمور الخصر وهيف القد والساقين لفرط انسجامها لا تدري أهمها إلى الربالة والامتلاء، أم هما إلى الدقة والنحافة. ستحمد للشتاء كل أولئك لأنك تحب أن يثوب إليك رشدك والعازب من لبك، وتحب أن تنقطع شيئاً آهاتك وتغيب حيناً مثيرات الحرمان والحسرة في فؤادك.

أفبعد هذا لا نصوغ للشتاء عقود المدح والثناء. ونردد قول الشاعر: (سلام الله يا مطر عليك). سواء (أعنى الشاعر مطر السماء أم عنى اسما من الأسماء؟!

بلى، سلام وألف سلام يا شتاء!

أديب عباسي

ص: 51

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

محبة القريب

إنكم لتعطفون على القريب، وتعبرون عن عطفكم بتزويق الكلام، أما أنا فأقول لكم إن محبتكم للقريب إن هي إلا أنانية مضللة.

إنكم تلجئون للقريب هرباً من أنفسكم، وتريدون أن تعدوا هذا العمل فضيلة، وهل يخفى علي كنه تجردكم هذا؟

إن المخاطب أقدم من المتكلم، فالأول مقدس أما الثاني فلم يقدس بعد. ذلك هو السبب في عطف الإنسان على قريبه.

إن ما أشير عليكم هو أن تنفروا من القريب لا أن تحبوا لتتمكنوا من محبة الإنسان البعيد، فإن ما فوق محبة القريب محبة الإنسان البعيد المنتظر، وإني أضع فوق محبة الإنسان محبة الأشياء والأشباح.

إن الشبح الذي يعدوا أمامك، يا صديقي، لهو أجمل منك، فلماذا لا تعيره لحمك وعظمك؟

لقد استولى الخوف عليكم فلذلك تفزعون إلى القريب. لا قبل لكم باحتمال أنفسكم وما حبكم بالحب الكامل، لذلك أراكم تطمحون إلى إغواء قريبكم لتتمتعوا بضلاله.

أتمنى أن تنفروا من جميع فئات الأقربين ومن جيرتهم أيضاً لتضطروا إلى إيجاد الصديق الذي يطفح قلبه بالإخلاص. إنكم لتدعون شهوداً عندما تريدون أن تغدقوا الثناء على أنفسكم، وإذا ما توصلتم إلى تضليلهم ليحسنوا الظن بكم تبدءون حينئذ بإحسان الظن بأنفسكم.

ما من أحد يرتكب الكذب إلا إذا تكلم ضد ضميره؛ فأصدق الناس من لا ضمير له يحول دون قوله الصدق. على هذه القاعدة تتكلمون عن أنفسكم بين الناس لتضللوهم في حقيقتكم.

يقول المجنون في نفسه: (إن مخالطة الناس تفسد الأخلاق، بل هي تفسد بخاصة من لا خلاق لهم)

ص: 52

إن منكم من يهرع إلى جاره ليفتش عن نفسه، ومنكم من يذهب إليه لينساها. أنكم تسيئون محبة أنفسكم، لذلك يصبح انفرادكم بمثابة سجن لكم.

إن الغائبين يؤدون ثمن حبكم للقريب، لأن خمسةً يجتمعون منكم يقضون دائماً على السادس الغائب.

إنني لا احب أعيادكم، إذ رأيتها مليئة بالممثلين، ورأيت النظارة أبرع منهم تمثيلاً.

لا أدعوكم إلى محبة القريب، بل أدعوكم إلى محبة الصديق. فليكن الصديق لكم مظهر حبور الأرض فتحسون بما ينبئكم بالإنسان الكامل.

أوصيكم بالصديق يطفح قلبه إخلاصاً؛ غير أن من يطمح إلى الظفر بمثل هذا القلب يجب عليه ن يكون كالاسفنجة قادراً على تشرب السائل المتدفق. أوصيكم بالصديق الذي يحمل عالماً في نفسه، فهو الصديق المبدع الذي يسعه أن يقدم لكم هذا العالم في كل حين فيعرض عليكم ما مر به من عبر الحياة، فتشهدون كيف يتحول الشر إلى خير وكيف تنتهي الصدف بكم إلى غاياتكم.

ليكن المستقبل والمقاصد البعيدة ما تصبو إليه في يومك، فتحب في صديقك الإنسان الكامل، وتضعه نصب عينيك كغاية لوجودك.

لا أشير عليكم بحبه القريب أيها الأخوة، بل محبة الآتي البعيد.

هكذا تكلم زارا. . .

طرق المبدع:

أتقصد العزلة يا أخي لتجد الطريق التي توصلك إلى مكمن ذاتك؟ أذن، فقف قليلا في ترددك وأصغ إلي:

لقد قال القطيع: (من فتش فقد تاه، ومن انعزل فما أمن العثار).

وأنت قد عشت طويلا بين هذا القطيع، ولسوف يدوي صوته ملياً في داخلك. فإذا قلت له: - لقد تغير ضميري جانحاً عن ضميرك - فلن تكون إلا شاكياً متألماً.

إن اشتراكك بالشعور مع القطيع قد أورثك هذا الألم، وآخر وهج من هذا الضمير المشترك لا يزال يلهب فجيعتك فيجددها. ولكنك ترغب في اتباع هاتف آلامك لأنه يقودك إلى التوغل في ذاتك، فأين برهانك على حقك في المضي إليها وعلى أنك قادر على هذا السفر.

ص: 53

أفأنت قوة جديدة وحق جديد؟ أأنت حركة ابتداء؟ أأنت عجلة تدور على ذاتها؟ أبوسعك أن تجعل النجوم تدور حولك؟

لكم من طموح يتحفز نحو الأعالي، ولكم من طمع يرتعش في أمانيه، فاثبت لي أنك لست من الطامحين الطامعين.

إن كثيراً من ساميات الأفكار لا تعمل إلا عمل الأكر المنتفخة فلا تكاد تتضخم حتى يحكمها الضمور.

إنك تدعو نفسك حراً، فقل لي ما هي الفكرة التي تقيمها مبدأ لك. ولا تكتف بقولك إنك خلعت نيرك، فهل كنت يا ترى ذا حق بخلعه؟ إن من الناس من يفقدون آخر مزية لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم.

لا يهم زارا أن تقول له من أية عبودية تحررت، فلتعلن له نظراتك الصافية الغاية التي تحررت من أجلها

هل بوسعك أن تسن لنفسك خيرها وشرها فترفع إرادتك شريعة تسود أعمالك. أبوسعك أن تكون قاضياً على نفسك وان تكون منتقماً منها لشريعتك؟

إنه لأمر مريع أن يبقى الإنسان منفرداً مع من أقامه قاضياً عليه ومنتقماً منه بالشريعة التي أوجدها. إن مثل هذا الإنسان ليذهب في الفضاء ذهاب الكوكب مقذوفاً إلى فراغ الوحدة وصقيعها.

إنك وقد أصبحت منفرداً لا تزال تتألم من المجتمع لأنك لم تطرح شجاعتك ولم يزل للأمل مرتع فيك. غير أنك ستتعب من انفرادك يوماً، إذ تلين قناتك، وينحطم غرورك فلا تتمالك من الهتاف قائلاً. إنني أصبحت وحيداً فريداً

سيأتي يوم تحتجب فيه عظمتك عنك فتلتصق صغارتك فيك حتى لترتجف فرقاً من تساميك نفسه إذ يبدو أمامك كشبح مرعب فتصرخ قائلاً (كل شيء باطل)

إن في المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه فإن لم تنل منه نالت من نفسها وانتحرت. فهل أنت مستعد لارتكاب جريمة قتل؟

أتعرف، يا أخي، معنى كلمة الاحتقار، وما ستكون آلامك إذا أنت أردت العدل واضطررت إلى الاقتصاص ممن يحتقرونك؟

ص: 54

إنك تكره الكثيرين على تغيير اعتقادهم فيك، فتثير حفيظتهم عليك. لقد اقتربت منهم ثم تجاوزتهم، فهم لذلك لن يغتفروا لك.

لقد تفوقت عليهم، فكلما اعتليت فوقهم ازددت صغاراً في أعين الحاسدين. وما كره الناس أحداً كرههم للمحلق فوق السحاب.

لقد وجب عليك أن تقول للناس: - إنني اخترت ظلمكم نصيباً حق لي منكم، لذلك عز إنصافي عليكم. إن الناس يرشقون المنفرد بالمظالم والمثالب، ولكنك إذا كنت تريد أن تصبح كوكباً فعليك أن ترسل أنوارك حتى إلى الراشقين.

واحترس بخاصة من أهل الصلاح والعدل لأنهم يتوقون إلى صلب من يوجد فضيلة لنفسه. إنهم يكرهون المنفرد.

واحترس أيضا من السذاجة المتقية، لأنها ترى الكفر في كل إنسان لا يلتصق بها. وقد كان الساذجون في كل زمان يتوقون إلى إيقاد النار واللعب بها.

كن على حذر من التطرف في حبك، فإن المنفرد يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقي في طريقه. أن من الناس من يجب عليك إلا تمد إليهم يداً، بل مخلباً ناشباً.

غير أن اشد من تصادف من الأعداء خطراً إنما هو أنت وما يترصدك في المغاور والغابات إلا نفسك.

لقد تبينت الطريق الذي يقودك إلى ذاتك. أيها المنفرد، وطريقك منبسط أمامك وأمام شياطينك السبعة. فتصبح منذ الآن جاحداً لنفسك، ساحراً مجنوناً، مشككا كافراً شريداً. فيجب عليك أن ترضى بالاحتراق بلهبك إذ لا يمكنك أن تجد ما لم تشتعل حتى تصبح رماداً.

إنك تتبع طريق الخالق، أيها المنفرد، فأنت تفتش على إله لك تقيمه من شياطينك السبعة. إنك تتبع طريق العاشق، أيها المنفرد، وقد عشقت نفسك، فأنت لذلك تحتقرها احتقار العاشقين.

يريد العاشق أن يبتدع لأنه يحتقر، وما له أن يدعي الحب إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب.

توغل في عزلتك، يا أخي. سر فلا رفيق لك إلا حبك وإبداعك. إنك ستسير طويلا قبل أن

ص: 55

تقفو العدالة أثرك متثاقلة متعارجة.

اذهب إلى عزلتك فأنني أشيعك بدموعي يا أخي، لأنني احب من يتفانى ليوجد في فنائه من يتفوق عليه.

هكذا تكلم زارا

الشيخة والفتاة

لماذا تدلج مختفياً في الغسق يا زارا؟ وما هو الذي تخفيه بكل احتراس تحت ردائك؟ أكنز وهبته أم طفل رزقته؟ وإلى أين تتجه على طريق اللصوص يا صديق الأشرار؟)

فأجاب زارا: - والحق يا أخي، أن ما أحمل إنما هو كنز وهبته، فهو حقيقة صغيرة طائشة كالطفل، ولولا إنني كممت فمها لصاحت بملء شدقيها.

بينما كنت أسير اليوم منفرداً في طريقي عند الغروب، التقيت بشيخة ناجتني قائلة: -

لقد كلمنا زارا مراراً نحن النساء، ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة.

قلت لها: - يجب ألا يتكلم عن النساء إلا للرجال.

فقالت: - لك أن تتكلم أمامي عن النساء لأنني بلغت من العمر أرذله فلن تستقر أقوالك في ذهني.

وقبلت رجاء المرأة العجوز فقلت لها: - كل ما في المرأة لغز، وليس لهذا اللغز إلا مفتاح واحد وهو كلمة (الحَبل)

ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة؛ أما غايتها فهي الولد، ولكن ما تكون المرأة للرجل يا ترى؟ أن الرجل الحقيقي يطلب آمرين: المخاطرة واللعب؛ وذلك ما يدعوه إلى طلب المرأة فهي أخطر الألعاب.

خلق الرجل للحرب، وخلقت المرأة ليسكن الرجل إليها، وما عدا ذلك فجنون، ولا يحب المحارب الثمرة إذا تناهت حلاوتها، فهو لذلك يتوق إلى المرأة لأنه يستطعم المرارة في أشد النساء حلاوة

تفهم المرأة الطفل بأكثر مما يفهمه الرجل؛ غير أن الرجل أقرب إلى خلق الطفل من المرأة، ففي كل رجل حقيقي يحتجب طفل يتوق إلى اللعب. فلتعمل النساء على اكتشاف الطفل في الرجل.

ص: 56

لتكن المرأة لعبة صغيرة طاهرة كالماس تشع فيها فضائل العالم المنتظر.

ليتوهج الكوكب السني في حبك أيتها المراة، وليهتف شوقك قائلا: لأضعن للعالم الإنسان الكامل. ليكن في حبك استبسال تتسلحين به لاقتحام من يثير الوجل في قلبك. ضعي شرفك في حبك، وما تعرف المرأة من الشرف إلا يسيراً؛ غير أن الشرف في حبك هو الخلق الذي يجعلك تبادلين المحبة بأكثر منها فلا تنحدرين إلى المقام الثاني

ليحذر الرجل المرأة عندما يستولي الحب عليها، فهي تضحي بكل شيء في سبيل حبها، إذ تضمحل في نظرها قيم الأشياء كلها تجاه قيمته، ليحذر الرجل المرأة عندما تساورها البغضاء، لأنه إذا كان قلب الرجل مكمنا للقسوة، فقلب المرأة مكمن للشر

إلى من توجه المرأة أشد بغضائها؟

والجواب في قول الحديد للقوة الجاذبة:

- إن أشد كرهي موجه إليك لأنك تجتذبين ولا طاقة فيك لتربط على ما تجتذبين.

إن سعادة الرجل تابعة لإرادته؛ أما سعادة المرأة فمتوقفة على إرادة الرجل.

تقول المرأة وقد استسلمت لحبها العميم: لقد اكتمل العالم.

ولابد لها أن تخضع وأن ترى أعماقا على سطحها، لأن روح المرأة سطحية، فهي صفحة ماء متماوجة تداعبها الرياح، في حين أن روح الرجل أعماق تزمجر أمواجها في المغاور السحيقة القرار؛ وقد تشعر المرأة بقوة الرجل ولكنها لن تفهمها

عندئذ قالت العجوز: لقد تكلم زارا عن أشياء طريفة اجدر بسماعها من النساء من لم يزلن في مقتبل العمر. ومن الغريب أن ينطق زارا بالحق عندما يتكلم عن النساء وهو لا يعرفهن إلا قليلا. أفتكون أصابته ناشئة عن أن ليس في حالة المرأة شيء ممتنع

والآن أصغي إلي يا زارا، فإنني سأعلن لك حقيقة صغيرة مكافئة على ما قلت، وكبر سني يجيز لي أن أعلنها لك، فاسترعها وأطبق شفتيك عليها لئلا يتعالى صراخها من فمك

فقلت هاتها، هذه الحقيقة الصغيرة أيتها المرأة. وهذا ما قالت العجوز: -

- إذا ما ذهبت إلى النساء فلا تنس السوط.

هكذا تكلم زارا. . .

(يتبع)

ص: 57

فليكس فارس

ص: 58

‌شاعر الطبيعة

للسيد عمر أبو ريشة

شاخص الطرف محدق في الفضاء

فوق طود عالي المناكب ناءِ

يرقب الفجر والندى مالئ بُرْ

دَيْه والشعر مائج في الهواء

شاعرٌ خافق الجوانح بالحب

(م) بعيد عن عالم الضوضاء

تتراءى في وجهه الهادئ الوا

جم آي الوداعة الغرَّاء

وبعينيه بارقٌ قذفته

شعلة الروح مبهم اللألاء!

نهض الفجر مثقلاً يتلوَّى

فوق صدر الطبيعة الخرساء

يتخطَّى الربى وئيداً ويهمى

بشتيت الأظلال والأنداء

وثبةٌ إثر وثبة ذائب الأل

وان فيها وجامد الأضواء

فارتدى الكون بردةً من جمال

وتهادى بباسم النعماء

فإذا السفح باسمٌ تمرح القط

عانُ فيه وترتعي بهناء

وإذا الطير بين كرٍّ وفرٍ

من غدير لروضة غناء

صورٌ أفرغت على أذن الشا

عر نجوى علوية الإيحاء

هبط السهل والهجيرة تنقضّ

(م) وتطوي مطارف الأفياء

وتصبُّ الخمول والسام الصاخ

ب والصمتَ في فم الغبراء

وتردّ الجمال منهتكَ الستر

(م) سليب النعومة العصماء!

وتسلّ النشاط من قبضة الكو

ن فيغفو على ذراع الفناء!

فصدور الحقول متعبةٌ تل

هث في غمرة من الإعياء!

ورءوس الأزهار مطرقة تن

سلّ منها انتفاضة الكبرياء!

وقيان الغصون مَلْوِيَّة الأع

ناقِ صرعى كآبة عمياء. . .

صورٌ أفرغت على أذن الشا

عر نجوى علوية الإيحاء!!. .

بلغ المنحنى. . فجاز مدى الطر

ف بحسٍّ مفجَّع الأنباء!

مأتمُ الشمس ضجَّ في كبد الأف

ق وأهوى بطعنة نجلاء

عصبت أرؤس الروابي الحزانى

بعصاب من جامدات الدماء!

ص: 59

فأطلّت من خدرها غادة اللي

ل وتاهت في ميسة الخيلاء

وأكبَّت تحلُّ ذاك العصابَ

(م) الأرجواني باليد السمراء!!

وذؤابات شعرها تترامى

في فسيح الآفاق والأجواء

وعيون السماء ترنو إليها

من شقوق الملاءة السوداء!!

فإذا الكون لجَّة من جلال

فجَّرتها أصابع الظلماء

يرسب الطرف في مداها ويطفو

ثم يرتد فاقد الارتواء

فتطلُّ الأشباح من كوَّة الوهم

(م) وتعوي مجنونة في العراء

وتموج الأصداء من جهش الأر

ض بأذن المهابة الصماء

وتحس الروح الوديعة بالرع

شات تسري كموجة الكهرباء!

صور أفرغت على أذن الشا

عر نجوى علويَّة الإيحاء!!

هكذا استعرض الوجود مليّاً

في غضون الإصباح والإِمساء

في اختلاج البروق في قهقا

ت الرعد في صاخب من الدأماء

في ابتسام الرياض في هدأة الجد

ول في نفحة الربى الفيحاء

فانثنى ضاربا على الوتر الشا

دي أهازيج روحه الشماء!

فَضَّ فيها عن الحياة نقابا

من خداع وبرقعا من رياء!

ورمى ختم سرها فتجلت

بعد لأي عريانة للرائيْ!

فتهادت بناتها باصطفاق الص

نج والدف واتساق الغناء

كدُمى هيكل لقد نفض الله

(م) عليها اختلاجة الأحياء!

يتمايلن راقصات نشاوى

بدلال مفجر الإغراء!

فمن الخصر عطفة تركت في

حُلمة النهد نفرة للعلاء

كل بنت جياشة الصدر ترمي

أختها بابتسامة استهزاء

هذه في يمينها مشعلُ الحب

(م) قصير الأنفاس خابي السناء

هذه في عيونها تصرخ الشه

وة جوعا وتزدري بالحياء

هذه فوق رأسها تشرق الحك

مة في شبه هالة وضاء!

هذه. . خَل هذه، ودع الأخ

رى فصعب إصابة الإحصاء

ص: 60

زمر من كواعب برزت في

صور العيش في أتم جلاء!. .

عزف الشاعر النبيغ فجسَّت

أكبدَ الراقصات كف العزاء

مسنداً رأسه على كتف القي

ثار مستسلماً إلى الأهواء

وإذا ما صحا على نفخة البو

ق بأذنيه وازورار القضاء. .

خدِرت كفه على الوتر الشا

دي وسالت أَصداؤه في الفضاء

وتلاشت تلك الحسان تلاشي ال

شمع في زفرة اللظى الحمراء

وهوى فوق مضجع من تراب

تحت عطفي صفصافة غيناء!!

حلب

عمر أبو ريشة

ص: 61

‌الفنون

اكروبوليس أثينا

-

للدكتور أحمد موسى

الجمال في هذا الوجود كثير، ولكنه ليس رخيصاً؛ ولذلك كانت معرفته والاستمتاع به شان فئة معينة من الناس. وكان من أهم ما نظرت إليه الجامعات الأوربية الحديثة وجوب تدريس مادة علم الجمال ضمن دراسة الفلسفة، ومادة تاريخ الفن العام وعلم الآثار بعد إكمال دراسة التاريخ والجغرافيا؛ فبالأولى نتمكن من معرفة الجمال بقواعد تؤدي إلى ترقية حواسنا وتهذيب تقديرنا، وتقريب استمتاعنا من الكمال، وما ينبني على هذا كله من تمهيد السبيل إلى إكمال سلسة التطور الفني والوصول بها إلى الغاية المقصودة دون ركود أو انحطاط. وبالثانية نسجل ماضي الفن تسجيلاً علمياً نقيس به الحضارات ونعمل على ربط الحاضر بالماضي وبالمستقبل فيكون التطور طبيعياً والتقدم منتظراً

وإذا رجعت إلى حضارة أي شعب أو أمة، وجدت أن الآثار والفن من أهم مواد التسجيل لمقياس مدى هذه الحضارة؛ فكأننا بدراساتنا هذه نقصد الوصول إلى معرفة الوسائل التي بها نستطيع تكوين حضارة حقيقية ترجع في جوهرها إلى معرفة نواحي الجمال الفني، فضلا عن الاستمتاع واللذة نتيجة صدق التقدير.

وإذا نظرنا إلى مصر وجدنا أن الفن فيها عظيم، وان الطبيعة منحتها الكثير من جمالها، ومع هذا يجهل كثير من أبنائها ما فيها منه، وليس جهلهم هذا نتيجة مباشرة لجهلهم العام دائماً، ولكنه نتيجة لإهمال مدارسنا لعلم يعد اليوم من أهم العلوم الدراسية في أوروبا التي نأخذ عنها الكثير.

والظاهر أننا بحسب مولدنا والبيئة التي نشأنا فيها قليلو التأمل فيما نراه - وأثر ذلك واضح في كثير من تصرفاتنا العامة حتى في مطالعتنا، ترانا نقرأ ما نقرأ بطريقة أوتوماتيكية خالية من الأخذ والرد تبعدنا غالباً عن الاستمتاع.

وإذا نظرنا إلى الطبيعة فإننا قد لا نستطيع أن نتذوق ما يسميه الغير جمالاً؛ وإذا شاهدنا

ص: 62

معبدا أو كنيسة أو جامعاً أو صورة صعب علينا التعرف على ما فيها من سر الجمال والإنشاء.

وإذا كان من نصيب البعض زيارة متاحف أو معارض فنية، وكان من شانه وصف ما شاهد، أو نقد ما عاين، أو تكوين رأي شخصي، تراه لا يخرج فيما يكتبه أو يقوله أو يقرره عن مديح وإطراء أو ذم وتقليل ليس فيه قيمة دراسية تعود على القارئ أو المستمع بأي تثقيف أو فائدة، بل على النقيض من ذلك قد تضر استعداده الفطري وتنقص منه؛ وذلك ما حدا لي في الواقع إلى الاتصال بالأستاذ الكبير رئيس تحرير هذه المجلة، بقصد التحرير في تاريخ الفن وتاريخ الآثار أجمالا، حتى أستطيع بذلك أن أقدم للقارئ تعاريف إجمالية تكوين خلاصة هذه الدراسات، إذ بها يمكن اكتساب المعرفة الحقة لعلمين مهمين يؤديان بنا إلى التعرف على ما في حياة الإنسان من تراث فني مجيد، ويكسبنا ناحية من الاستمتاع قد لا يمكن الوصول إليها دون المعرفة الدراسية ولاسيما وبيئتنا لا تزال تخلو من هذا النوع من التثقيف.

وقد فكرت كثيراً في الخطة التي يمكنني السير عليها، ووجدت أن الملائم للقراء وجمهرتهم من الأدباء والمثقفين، إلا أنحو نحواً مدرسياً بحتاً قد يمل القارئ، فتراني مرة أكتب عن روبنز وأخرى عن جويا وثالثة عن رمبراندت، ثم تراني أنتقل فجأة إلى اكروبوليس أثينا، مع أن الصلة المدرسية أو المنهجية بين هذه المقالات وبعضها مفقودة تماماً؛ كما أني لم اعرج على الفن المصري أو الإسلامي بعد، ولكني أتعمد هذا الأعراض مؤقتا، كما أتعمد الانتقال المفاجئ لأمرين: أولهما تشويق القارئ كل مرة بقراءة شيء جديد مخالف لسابقه؛ وثانيهما إعطاء الفكرة العامة عن ماهية تاريخ الفن وتاريخ الآثار في ابسط عبارة تؤدي إلى معرفة وسائل القياس بواسطة الفن المقارن، وبذلك تكمل حواسنا، وندرك الجمال على الوجه المتقدم.

على أنه كان ولابد من جعل الدراسة منتظمة، فهذا ما سيكون بطبية الحال في النهاية؛ إذ يمكن عندئذ، بعد عمل ترتيب بسيط، جمع فناني كل مدرسة على حدة، ووضعهم معاً وضعاً تاريخياً، وهذا الترتيب يمكن أجراؤه فيما يتعلق بتاريخ الآثار أيضا.

واليوم أقدم إيضاحاً عن اكروبوليس أثينا الذي يعتبر آية من آيات الفن القياسي، إلا أني

ص: 63

مضطر للإشارة إلى تاريخ أثينا نفسها قبل الدخول إلى اكروبوليس اضطرار من يريد تاريخ الأزهر مثلاً، فيعرج على تاريخ القاهرة وعلى ما كان لها من الشان أيام إنشائه

كانت أثينا من ناحية حضارة الإغريق مركز الحياة اليونانية، وكانت من الناحية السياسية من أهم بلاد الإغريق حينا، وعاصمة لها حينا آخر.

قامت هذه المدينة على مرتفع أكسبها بروزاً هاماً في مقاطعة أتيكا بين نهيري اليزوس وكفيزوس وعلى بعد خمسة كيلومترات من شاطئ البحر وسبعة كيلومترات من ميناء بيريوس. يرجع إنشاؤها إلى الملك ككروبس اختار لها هذا المرتفع لحسن ملاءمته. ثم أقيم مكان هذه المدينة بناء قلعة اكروبوليس الذي خصص للحفلات الدينية والحربية في عصر الحضارة الإغريقية، بعد إصلاح الأرض وتسطيحها ثم إحاطتها بسور عال من كل الجهات (ش 1) فكان بذلك أهم بناء في أثينا، وقد جعل المدخل في الجهة الغربية للمرتفع مكوناً من مداخل بعضها خلف بعض لتعزيز الوصول إلى اكروبوليس، ولأمكان عمل الرقابة اللازمة عند الدخول إليه أو الخروج منه، وسمي هذا المدخل في ذلك الحين بلاسجيكون نسبة إلى ما يقال من أن مؤسسيه كانوا البلاسجر (ش 2)

وفي داخل المرتفع المحاط بالسور سكن ملوك هذه المنطقة من أتيكا، وبجوار تمثال الإله زويس بني معبد هيكاتومبيدوس وهو اقدم المعابد، وفيه أقيم تمثال أثينا بولياس وتمثال الإله ارشتايوس وعلى اسمه بني بعدئذ معبد ارشتايون، وتمثال بوزيدون إله البحر والزلازل.

كثر سكان أثينا وزحف جزء منهم تدريجياً إلى جنوب وغرب المرتفع، فكان أمام المدخل وعلى بعد مناسب منه أول سوق تجارية

ونظراً لاتحاد سكان اتيكا وتكوينهم مقاطعة متحدة الأطراف عملاً بإرادة الملك تيستوس اتسعت دائرة المدينة وزادت قيمتها الاجتماعية والسياسية فأصبحت العاصمة.

أما السكان الذين زاد عددهم كثيراً عن قبل فقد امتدوا بمساكنهم إلى الأطراف خصوصاً إلى الجزء الغربي، حيث سكن صناع الفخار، ولذلك سمى هذا الموقع حي الفخارين

اشتغل الفنان بيسستراتوس وأولاده بتجميل المدينة مبتدئين بالجزء الشمالي الغربي منها، فبنوا هيكلاً شمل الاثني عشر إلهاً، كان بوضعه ملتقى الشوارع التي أنشئت وتقاطعت

ص: 64

عنده.

ثم أبتدأ بيسستراتوس وأولاده أيضا في بناء معبد زويس الأولمبي بالطرف الجنوبي الشرقي وسموه معبد ألمبيون على أن بناءه لم يتم إلا بواسطة هدريان كما أنهم أضافوا إلى مباني معبد أثينا القديم مدخلاً مكوناً من أعمدة أقيم في أعلاها إفريز رسومات شملت تماثيل تبين مواقع حربية؛ أما المدخل العام للمرتفع فأنهم أدخلوا عليه كثيراً من التحسينات البنائية، فأصبح مدخلاً فخماً بكل معاني الكلمة.

ولم يترك بيسستراتوس البئر الموجودة بالسوق القديم دون تحميل، فبنى حولها بناء ظاهراً، كما بنى الجهة الشرقية دائرة ليكايون لتقديس أبولون؛ على أن بناءها لم يتم إلا بواسطة بركليس. وقد تحولت هذه الدائرة فيما بعد إلى جمنازيوم أقيمت فيه الحفلات الرياضية منذ أيام الحاكم ليكورجوس

وبعد ثورة تيرانيس وانتصار الديموقراطية بواسطة كلايسثينس في نهاية القرن السادس قبل المسيح أصبحت أهمية أثينا عظيمة وقيمتها الاجتماعية أعظم.

وبعد عام 500 ق. م. أقيم مكان خصص للرقص في الموضع المخصص للإله ديونيزوس في الجنوب الشرقي للمرتفع تطل عليه أماكن صنعت من الخشب لمشاهدة تمثيل المناظر الدراماتيكية التي مثلت أيضا في هذا المكان.

ظل الحال كذلك حتى جاء الفرس محاربين (480 - 479 ق. م) فدمروا المدينة وهدموا معظم مبانيها. وكانت فترة إقامتهم قصيرة، فعاد الأثينيون إلى أثينا نشطين، وأخذوا يعيدون الحال إلى ما كانت عليه مبتدئين ببناء سور جديد بطول ثمانية كيلومترات.

وواصل المهندس تيميستو كليس أعماله البنائية بميناء بيريوس وهي التي بدأها قبل الحرب الفارسية، ثم أنتقل إلى مواضع أخرى أنشأ عليها مواني أخرى غير بيريوس.

أبتدأ رؤساء المدينة بالإشراف على أعمال التأسيس والبناء، وأول ظاهرة لهذا اهتمام كيمون بتوسيع الجهة الغربية لمكان القلعة وبجوار مدخل اكروبوليس، وذلك ببناء أكتاف عريضة أقيم على جزء منها ومن المسطح الأول معبد أثينانيكا - الذي اتخذ منه الأتراك عام 1687 طابية لهم؛ فتفككت أحجاره وتهدم، وظل كذلك حتى أعاد بناءه المهندسان الألمانيان شوبرت وهانزين تحت أشراف العالم الأثرى لودفيج روس عام 1835.

ص: 65

وبنى بايسيانكس أحد أقارب كيمون صالة رحبة على أجورا، وصور الفنان لوحات زين بها هذه الصالة.

انتهت أيام كيمون وابتدأ عصر بركليس الذي يعد أهم عصور أثينا فأنشأ الأوديون ثم التفت إلى تجميل اكروبوليس

وبنى اكتينوس معبد بارثنون (ش2) وبعده قام البناء العظيم منيسيكليس ببناء المدخل الباهر للقلعة، وهو المسمى بروبيلين (ش2).

هذا بيان موجز لنشأة أثينا وأكروبوليس وما أحاط بهما لم يكن منه بد.

للكلام بقية

أحمد موسى

ص: 66

‌القصص

العبقري الملعون

للكاتب الإيطالي

جيوفاني بابيني

ذهبت إلى براغ مرتين ولكني لم أستطع لقاءه. ففي المرة الأولى لم أجرؤ على التطلع إلى بيته. وفي الثانية لم أهتد إلى منزله الجديد، فقضيت ليلة في تلك المدينة الغريبة أسائل الناس عنه وأنا مسوق إليه سوقي إلى المصير المحتوم.

لقد كنت في تلك الليلة متشبعاً بكلامه وأفكاره حتى أخذت أحلم أحلامه وأغني أغانيه وأتابع تيارات تفكيره وأتمثل نفسي أحد أبطال قصصه. لم أخضع لرجل من قبل كما خضعت لذلك الرجل الغريب الذي يزداد تأثيره فيَّ يوماً بعد يوم حتى لم أعد أفكر قي أمل الخلاص منه. كنت أعتقد أنه أعظم رجل أنجبته أوربا. ففي فنه روعة (بو) وتهاويله، وقوة نيتشه ووحدته، وموسيقى شيلي وعذوبته، وآلام (دستوفسكي) ومرارته فيه حمرة الجحيم وزرقة السماء. فيه طلاقة الطفل وعبوس الشيطان، ولكن شيئاً آخر كان خافياً عليَّ هو عبقريته الفذة التي لم يكن يدركها أو يشرف عليها إلا القليلون. ولم تكن شهرته الذائعة التي نالها في سنين قلائل إلا مجداً خالداً يشدو بذكره. لقد رماه الناس بالكبرياء والنفور، ولكنهم لم يدروا شيئاً عن مؤلفاته ولم يحيطوا بأركان عبقريته. لقد أحببت قصصه إذ كانت كلها سيرة لشخصه من نسج غريب. تزأر أرواح أبطاله وتدوي بين أحزان الحياة ومخاوفها.

لم أستطع أن اكبت ذلك الإعجاب طويلاً، بل أحسست بدافع قوي لأن أراه وأتطلع إلى وجهه واسمع كلمات تخرج من فمه. أردت أن اقرأ في سطور وجهه تلك الآلام العاصفة التي صبها في أبطال قصصه فوطنت العزم على لقائه. وقد ساعدني على ذلك رجل فرنسي قادني إلى بيته، فدلفت إلى سلمه وقد ازدادت دقات قلبي شدة كلما دنوت من الطابق الذي كان يقطنه. وقفت أمام الباب وحاولت الكلام ولكن لساني كان قد لصق بسقف حلقي فوقفت برهة انظر إلى تلك اللوحة النحاسية المنقوش عليها اسمه في حروف كبيرة سوداء فازددت هلعاً ورعباً. وأخيراً استجمعت قواي ومددت يدي إلى الباب أقرعه، فجاءتني

ص: 67

خادمة نَصف في لباس أسود، فهمست في أذنها باسم ذلك الكاتب العظيم، فقادتني إلى ممر طويل ينبعث فيه نور ضئيل شاحب حتى وصلت إلى غرفة نظيفة قد أغلقت نوافذها وتدلت مصابيح الكهرباء في وسطها، فلمحت في أحد جوانبها مكتباً صغيراً عليه دفتر كبير شبيه بدفاتر المحامين وقد كسيت الجدران بالخرائط والصور.

شعرت بخيبة الأمل عندما وقع نظري على تلك الغرفة العادية التي لم تكن تختلف عن سائر الغرف ولاسيما وقد كنت أتوقع صومعة لقديس أو عريناً لأسد لا مكتب أحد المحامين؛ فأخذت أسائل نفسي: أحقا هذا بيته وتلك غرفته، أم أنا في بيت أحد أقربائه؟ ولكني لم أطل التفكير في هذا إذ رأيت أمامي رجلاً ضئيلاً قد أربى على الخمسين يحييني بلغة فرنسية صحيحة، فارتعت لمرآه. أيعقل أن يكون رجل أحلامي وأماني هذا الرجل الضئيل الذي يرمقني بعينين صغيرتين وتنفرج شفتاه عن ابتسامه هي أقرب إلى ابتسامات البله والسذج؟ أيعقل أن يكون هذا الرجل الذي يرتدي ثوباً أسود ويضع يديه في جيبه كما يصنع ضابط الاستيداع أو موظف المعاش؟ ذلك الذي جعل قلبي يخفق بروعة آثاره وقوة أسلوبه؟ وهل يمكن أن تكون تلك الأفكار العظيمة التي حيرتني وجعلتني اقطع الليالي ساهراً قد نبعت من ذلك الرأس الأصلع الصغير؟ لم اكن لأصدق هذا، بل كنت كلما أنعمت النظر فيه ازددت دهشة وعجباً، حتى لم أستطع أن أخفي دهشتي فقلت. أأنت الكاتب الذي أبحث عنه والشاعر الذي كتب (نفسي) و (الله) (ومشاكل نصف الليل)؟ فأجابني في هدوء وابتسام: نعم، وكأنه لم يشعر أنني أهنته بسؤالي هذا فدعاني إلى الجلوس وسألني حاجتي.

لم أكن أعرف مكاني، ولم أكن أستطيع التفكير في شيء أقوله، فلاحظ علي بعض هذا الارتباك فدنا مني متلطفاً وقال: أراك أحد المعجبين الأجانب الذين يأتون لرؤيتي. إن هذا أمر يسير، فأني أستطيع أن أقوم لك بما تريد. ثم أسرع إلى مكتبه وأخرج ورقة ومجموعة من الصور وعاد ثانية يستأنف حديثه: (هاك بعض تاريخ حياتي مدوناً بالفرنسية، وفهرسا كاملا لجميع مؤلفاتي. أي صورة تعجبك؛ إنني أظن أن أحسن صوري ما كان جانبيا، ولكن لك الاختيار. في أي صحيفة ستنشر هذا المقال؟ أفي صحيفة يومية أم في مجلة؟ فلما رأى أنني لم أجبه إلا بنظرة حائرة ساهمة عاد إلى مكتبه وأخرج كتابا صغيرا وقدمه إلي قائلا: هاك أشهر المقالات التي نشرتها كبرى الصحف عن مؤلفاتي، إنها مدبجة بأقلام كبار

ص: 68

الناقدين. ألا تريد صورة تنشرها مع المقال؟ ثم أسرع ذلك الرجل الذي لا يعرف التعب إلى مكتبه وجاءني بأقاصيص من الورق مكتوبة بخط يده، فلم أستطع أن أخفي دهشتي، ولكن صاحبي مضى في حديثه قائلا: أليس هذا كل ما تحتاج إليه؟ أظنك تريد أن تعرف كيف أكتب، سأخبرك حالا: إني أعمل أربع ساعات في اليوم ولا أكتب أكثر من خمسين صفحة في جلسة واحدة. إني لا أستعمل الكتب القديمة ولا المعاجم البالية، لأني صنفت كل مواد الكتابة تصنيفا جديدا. ففي هذا الصندوق تجد الصفات، وفي ذلك تجد التشابيه والاستعارات، وفي الثالث تجد المتناقضات، وفي الأخير تجد أوصاف المناظر الطبيعية، وفي ذلك الذي عن يمينه تجد الأوصاف الغريبة لجميع الناس. أما الذي عن يساره فقد جمعت فيه كل عناوين القصص والمسرحيات. أظنك الآن تستطيع أن تفهم أن عملي ليس شاقا جدا بفضل هذا الترتيب. إني أكتب بدون تفكير كأني آلة: فإذا أردت أن أكتب شيئاً فما علي إلا أن أضع يدي فأخرج كل ما أحتاج إليه. إني لست أحد أولئك البلهاء الذين ينتظرون الوحي والإلهام، فإنني أكتب بانتظام وفي أوقات معينة. فماذا ترى في هذا؟ فحاولت أن أتكلم ولكني لم أستطع. فمضى صاحبي يقول: (أخبرني. ألا يمكن أن تؤدي لي عملا في إيطاليا؟ ألا يمكنك أن تنقل بعض كتبي إلى الإيطالية؟ إني أعطيك 40 % في المائة من الأرباح وحق النشر في بلادك. دعنا نكتب العقد.

ومن حسن الحظ أن دق جرس التليفون في الغرفة الثانية فأسرع إليه الرجل دون استئذان، ولكنه ما لبث أن جاءني يقول: عفوا إن ناشري كتبي في ميونيخ يطلبوني. دعنا نستأنف حديثنا. قل لي بصراحة: ألا تستطيع أن تقوم بهذا! فنهضت مذعورا وأنا أعجب أن تكون هذه اليد الغليظة قد جرت بتلك الروائع الخالدة، ثم صوبت نظري إلى الباب ولكنه لم يكد يراني أنهض حتى صاح: ألا تنتظر الشاي! إن زوجي وطفلي سيعودان حالا وسنتناول الشاي معاً. ألا تريد أن ترى طفلي؟ إنهما طفلان جميلان، أحدهما في السابعة والآخر في الحادية عشرة، إن زوجي تجيد العزف على (البيان) وتتقن فن التصوير. إن هذه اللوحات الفنية التي تراها على الجدران من ريشتها، فقبعت في كرسي وأنا أتفرس في وجه ذلك الرجل الذي لم يفتأ يقوم ثم يقعد ويفتح الأدراج ثم يقفلها وأخيراً قال لي: هنا تجد الطبعة الأولى من كتبي، وفي الدرج الآخر تجد الطبعات الثانية، وتحتها التراجم. إنه محصول

ص: 69

كبير، أليس كذلك؟ إني أعنى بها عنايتي بأطفالي. ثم أخذ يقهقه عاليا فلم أطق أن أرى فكيه ينفرجان عن فم واسع كريه، فصحت: يجب أن أذهب، ثم اندفعت إلى الباب وتدحرجت على السلم؛ وبدون أن أشعر وجدت نفسي خارج المنزل، وما كدت أصل إلى منزلي حتى ألقيت جميع مؤلفات ذلك الملعون في النار

ترجمة نظمي خليل

ص: 70

‌البريد الأدبي

اكتشاف مدهش في الموميات المصرية:

وقع العلماء الأثريون في متحف (المتروبوليتان) بنيويورك على اكتشاف مدهش في شأن الموميات المصرية القديمة؛ فقد رأى الدكتور ونلوك مدير المتحف أن يسلط أشعة رنتجن على لفائف الموميات لأول مرة، وقد انتهى البحث إلى نتيجة مدهشة؛ وكان بعض العلماء قد سلط هذه الأشعة على الموميات من قبل فكانت النتيجة سلبية دائما لأن اللفائف الكثيرة التي تحيط بالجثث المحنطة كانت تحول دون ظهور أية نتيجة. ولكن العلامة الكيميائي الدكتور أرثور كوب توصل إلى اختراع جهاز جديد، واستعمل الدكتور ونلوك للكشف على مومياءين ترجعان إلى الأسرة الحادية عشرة، وهي مما وجدته البعثة الأمريكية أثناء حفرياتها بمصر سنة 1920، فكشفت الأشعة عن حقيقة مدهشة هي أنه يوجد تحت هذه اللفائف العديدة، وفوق الجثة المحنطة كثير من الحلي والجواهر التي زينت بها الجثة في الصدر والعنق والمعاصم، وبذا كشفت الصورة التي أخذت عن كنز لم يكن يحلم به إنسان، ففي عنق المومياء وجدت أربعة عقود، منها واحد ذهبي يتوسطه بعض اللآلئ الكبيرة والصغيرة، وعقد من اللآلئ الصناعية الصغيرة (الخرز)، ووجد على الصدر غطاء من الخرز وعقد كذلك، وكشفت الأشعة عن سوارين، كل معصم فيه سوار من الخرز وثلاثة جعارين كبيرة قد ثبتت فيهما. كذلك كشفت الأشعة عن سوارين في مفصل القدمين كسواري المعصمين. ومن أعجب ما كشفت الأشعة هيكلا جرذين صغيرين عند القدم يظهر أنهما تسربا إلى الجثة عند ربطها. وقد رأى العلماء إزاء هذا الاكتشاف أن يحاولوا نزع اللفائف عن المومياء، بيد أنه رؤي قبل ذلك أن نتخذ كل الوسائل العلمية لحفظها خوفاً عليها من التلف. وقد عرضت الصور التي كشفت عنها الأشعة بجانب المومياء في متحف نيويورك.

شعب مصري في غانة الجديدة؟

نشرت إحدى الصحف الألمانية التي تصدر في بودابست نبأ اكتشاف غريب وفق إليه بعض الطيارين والعلماء الإنكليز أخيراً في جزيرة غانة الجديدة التي تقع في المحيط الهادي على مقربة من استراليا، فقد طار إلى الجزيرة بعض الطيارين الأستراليين وتوغلوا

ص: 71

في داخلها، فوقعوا على شعب غريب عن أهلها يعيش في الداخل ويبلغ عدده زهاء مائتي ألف، وليس بينه وبين باقي سكان الجزيرة شبه في الجنس أو العادات. وجاء بعدهم بالطيارة إلى الجزيرة بعض الأخصائيين في علم الأجناس وبحثوا أحوال هذا الشعب المتأخر المنقطع عن العالم فألفوه ماهرا في الزراعة خبيراً بطرق الري. ورأى العلماء أنه يوجد بين هذا الشعب وبين المصريين شبه كبير، ورتبوا هذا الاستنتاج على عدة حقائق علمية، منها أنهم يحرزون من الآلات الموسيقية ما هو شبيه بالآلات التي ترسم على الآثار الفرعونية، كذلك أسلحتهم الحجرية تشبه أسلحة المصريين القدماء. كذلك يوجد في معتقداتهم الدينية كثير مما يشبه عقائد المصريين القدماء. ويرى هؤلاء العلماء المكتشفون أنه ليس بعيداً أن يكون المصريون القدماء قد ساحوا إلى تلك المياه في العصور الغابرة، ونزلوا على تلك الجزيرة الثانية وحل بعضهم بها، وأقاموا فيها مجتمعا خاصا بهم ونقلوا إليها بعض عاداتهم وحضارتهم. بيد أنه يبقى على أولئك العلماء أن يبحثوا عما إذا كان لذلك الشعب من الخواص الجنسية، وعما إذا كان في لغته، ما كان للشعب المصري القديم؛ فإذا وقفوا إلى وجود هذه الخواص، فعندئذ يغدو الاكتشاف حقيقة علمية لا ريب فيها

ولقد دلت أبحاث المكتشفين من قبل على وجود آثار حضارة مشابهة لحضارة الفراعنة في بعض أنحاء أمريكا الجنوبية والمكسيك، ولكن البحث لم يقطع بوجود الصلة بين هذه الحضارة وحضارة المصريين القدماء.

فبير عميد الموسيقى الألمانية

احتفلت دوائر ألمانيا الفنية والموسيقية أخيراً بذكرى الموسيقي الألماني الكبير كارل ماريافون فبير وذلك لمناسبة مرور مائة وخمسين عاما على وفاته. وكان مولد هذا الموسيقي الكبير في ديسمبر سنة 1786 في إحدى قرى هولشتين وكان أبوه رئيساً لموسيقى البلاط المحلي - فخرج على رأس فرقة من الممثلين الهزليين يطوف جميع أرجاء ألمانيا، ومعه أبنه فبير؛ وهكذا قضى الموسيقي العظيم حداثته متجولا في مختلف الأنحاء؛ ومنذ سن العاشرة ظهر شغفه بالموسيقى؛ ولم يمض عامان حتى وضع أولى مقطوعاته الموسيقية؛ وفي الرابعة عشرة وضع أولى (أوبراته)، وفي الثامنة عشرة أتم فبير دراسته الموسيقية، وغدا علماً يشار إليه. وتولى رياسة الفرقة الموسيقية في برزلاو -

ص: 72

وقام بتنفيذ موسيقى (طيطوس) لموتسارت ثم التحق بخدمة دوق فرتمبرج. وبعد أن تنقل حينا في قصور هذا الأمير اتهم بالتدخل في الشؤون السياسية فقبض علية وزج إلى السجن. ولما أطلق سراحه تقلب حينا بين مانهايم ودارمشتات وبامبرج حيث تعرف بالكاتب الأشهر هوفمان، زار ميونيخ وهنالك مثلت (أوبرته)(أبو حسن) ثم قصد إلى فيمار وتعرف بشاعر ألمانيا الأكبر جيته، وأشتغل بعد ذلك في درسدن وفي برلين واشتهرت أوبراته ومقطوعاته الغنائية؛ وكانت أشهر قطعه (فراي شتس) التي نالت في عصره أعظم نجاح، والتي تعتبر فاتحة عهد جديد في تاريخ الموسيقى وهذه القطعة التي حملت فاجنر فيما بعد على أن يقول (لم يوجد موسيقى أكثر ألمانية من فبير)

وتوفي فبير في الأربعين من عمره في لندن ثم نقل رفاته بعد ذلك إلى مدينة درسدن تثوي إلى يومنا.

عيد جريدة الطان

من أنباء باريس أن جريدة (الطان) كبرى الصحف الفرنسية قد احتفلت بعيدها الخامس والسبعين في حفل فخم أقيم في بهو الاستقبالات بقصر أورسي وشهده جمع عظيم من الوزراء والنواب وأكابر الكتاب والفنانين ورجال المال والصناعة وأعضاء الأكاديمية والمجمع العلمي، وخطب فيه عده من الوزراء وأقطاب التفكير الفرنسي مثل مسيو أندريه تاردييه، ورنيه بو، وجاك شاستنيه وغيرهم منوهين بعظمة الطان وعظمة المهمة التي تضطلع بها وكونها فخر الصحافة الفرنسية بلا مراء سواء من حيث رصانتها وسمو تفكيرها أو أسلوبها الرفيع المتزن، والواقع أن الطان على رغم ثوبها المحافظ وحرصها على القديم وأحجامها عن مجاراة التطور الصحفي المعاصر من حيث التصوير والتنويع، تبقى عميدة الصحافة الفرنسية من حيث غزارة مادتها وقوة تحريرها ونزاهة غايتها واحتشام أسلوبها

وقد أسست الطان منذ خمسة وسبعين عاماً سنة 1861 في أواخر الإمبراطورية الثانية؛ وكان مؤسسها صحفيا يدعى نفتزر. أسسها أولا لخدمة التجارة الدولية. ثم تحولت إلى جريدة سياسية قوية، أهم مظاهرها إذاعة الأنباء الدولية؛ ثم كانت المرحلة الثالثة في عنايتها بالعلوم والآداب والنقد؛ وكتب فيها أئمة التفكير الفرنسي مثل شيرر وسانت بيف

ص: 73

وبريسون وبلان، وكتب فيها عظماء الوزراء والساسة مثل بوانكاريه وتاردييه. وقد اشتهر مراسلوها الخارجيون بأنهم أعظم مراسلين من نوعهم حتى قيل في المثل أن فرنسا لها سفيران:(السفير الفرنسي ومراسل جريدة الطان) وأشرفت على إدارة هذه الصحيفة الشهيرة مدى نصف قرن أسرة ايبرار، التي أنجبت عدة من كبار الصحفيين والكتاب، وكان أخرهم في الإشراف عليها أميل ابيرار الذي تخلى عن إدارتها منذ نحو عشرة أعوام.

أيام تولستوي الأخيرة

صدرت أخيراً ترجمة إنكليزية لمذكرات الكونته تولستوي زوج الكاتب الروسي الأشهر ليون تولستوي بعنوان (المعركة الأخيرة) ترجمها ومهد لها الكاتب الإنكليزي الميرمود. وقد ذاعت عن أيام تولستوي الأخيرة قصص عديدة، فقيل إنه في أواخر حياته كان يعيش عيشة الفلاحين الذين اعتنق قضيتهم؛ وقيل إنه رجل نظري لا يفعل ما يعتقد. فهذه المذكرات التي كتبها عن هذه المدة من حياته ألصق الناس به تبدد كثيرا من الأخطاء الذائعة وتلقي ضوءاً كبيراً على خاتمة الكاتب العظيم في مقامة الهادئ في (سنايا بوليانا)

وقد اجتمعت أسباب عديدة لتنغص عيش تولستوي في أعوامه الأخيرة، وأهمها الدسائس والشجار المتواصلة بين زوجه وأبنائه من ناحية، وبين أبنته الكبرى وهي أعظم أصدقائه. وكان تولستوي يود في تلك الفترة أن يترك العالم لينقذ روحه، وكانت ثمة مسألة مؤلفاته ولاسيما مذكراته وكلها ذات قيمة أدبية ومادية معا. وهذه المذكرات التي تنشر اليوم تشمل سنة 1910 التي توفي فيها تولستوي. وفيها مذكرات كثيرة من تحرير تولستوي نفسه عن أحواله وشؤونه اليومية.

وكانت هذه المذكرات بين تراث أسرة تولسيوي حتى صحت عزيمة ولده سيرجي على طبعها وإخراجها، وقد تولى ترجمتها الميرمود صديق تولستوي وأخرجها في أسلوب صادق مؤثر كما هي في أصلها، ومهد لها بمقدمة بديعة يحلل فيها شخصية الكاتب العظيم تحليلا يدل على الوفاء والإعجاب الذي لا حد له، وشرح كثيرا من مواقفها وغوامضها. وما كادت هذه الترجمة الإنكليزية تصدر حتى هرع القراء إلى اقتنائها بسرعة مدهشة دلت على ما لذكرى الكاتب العظيم من الأثر والصدى.

جائزة للقصص التاريخي

ص: 74

كانت جريدة (الانترانسيجيان) الفرنسية قد خصصت منذ حين جائزة مالية كبيرة، تقوم بمنحها الأكاديمية الفرنسية والمعهد العلمي لمؤلف أحسن قصة تاريخية تعرض فيها حقائق التاريخ في أسلوب القصص الرفيع. وقد عقد أخيراً اجتماع كبير من بعض أعضاء الأكاديمية وكثيرين من رجال الأدب لتخصيص هذه الجائزة عن سنة 1936، وكانت لدى اللجنة عشرة مخطوطات جديدة، فنال الجائزة المسيو روجيه رجيس عن قصته التاريخية التي عنوانها وهي قصة تدور على أسر نابوليون الثالث في الحرب السبعينية في قلعة (هام) وبطلتها فتاة حسناء هي (صانعة قباقيب)؛ ومع أن للواقعة أصلا تاريخيا لاشك فيه، فإن المؤلف استطاع أن يخرج منها قصة خيالية ممتعة.

وقد تبوأت القصة التاريخية مركزها في الأدب الفرنسي في العصر الأخير بنوع خاص وكان كتابها في الغالب مؤرخين من الطراز الأول، وكان أستاذ هذا الفن من المعاصرين المؤرخ لينوتر الذي توفي منذ نحو عام، وكان يكتب قصصه التاريخية في جريدة (الطان) بعنوان (التاريخ الصغير) وفيها يحي شخصيات وحوادث تاريخية مجهولة ويسبغ عليها من قلمه سحراً لا يبارى

ألمانيا وكتابها المنفيون

أصدرت الحكومة الألمانية أخيراً قانوناً ينزع الجنسية الألمانية عن طائفة كبيرة من الكتاب والمفكرين الذين يخاصمون النظام الهتلري والذين غادروا ألمانيا منذ بدء الحركة اتقاء الفتك والمطاردة. ومن هؤلاء الذين نزعت عنهم الجنسية الكاتب القصصي الكبير توماس مان وجميع أفراد أسرته، والمؤرخ الكبير الأستاذ ديتريش فون هلد براند الذي يشغل الآن كرسياً في جامعة فينا، وعدة كبيرة من الكتاب والصحفيين والفنانين الذين يقيمون في مختلف العواصم الأوربية. وهذا آخر إجراء تتخذه الحكومة الهتلرية في شأن هؤلاء الكتاب المنفيين بعد أن نزعت كل أملاكهم وحرمت نشر كتبهم في ألمانيا.

حياة النور

النور أو الغجر من الشعوب البدوية المدهشة التي مازالت تحتفظ بعاداتها وتقاليدها القديمة وسط أمواج الحضارة المحدثة. ومع أن النور يستقرون جماعات كبيرة في أواسط أوربا،

ص: 75

ولاسيما في المجر ورومانيا، فإنهم بدو في أعماق نفوسهم بمعنى انهم لا يستقرون على أسلوب معين في الحياة. وقد صدر أخيراً بألمانيا كتاب عن هذا الشعب الغريب بقلم الدكتور مارتني بلوك عنوانه (النور: حياتهم ونفسيتهم) ، وأصدره معهد التراجم بمدينة لايبزج، ويتناول المؤلف حياة النور وخواصهم وعاداتهم، ثم يحاول شرح نفسيتهم ومشاعرهم وتفكيرهم بطريقة تدل على تعمقه في هذا البحث. ويبين محاسن عاداتهم التي مازالت تقوم على الفطرة والسذاجة كما يبين مساوئهم وميولهم الخبيثة التي أملتها عليهم عصور من التشريد والاضطهاد. ومع أنه ينحو في مؤلفه نحواً علمياً رزيناً فإنه يتبع في نفس الوقت في عرض آرائه أسلوباً بسيطاً جذاباً؛ ويفيض المؤلف في خواص النور النفسية والفكرية والفنية، ويصف براعتهم في بعض الفنون مثل الموسيقى التي اشتهروا بها ونحو فيها نحواً خاصاً لا يباريهم فيه أحد.

مع أن مصادر هذا البحث ليست كثيرة، فإن الدكتور بلوك استطاع أن يجمع في مؤلفه شوارد موضوعه بإفاضة، وأن يجمع فيه كثيراً من المسائل والحقائق التي تلقي ضياء كبيراً على حياة هذا الشعب الغريب الذي مازال ينظر إليه أينما حل بعين البغض والريب

جريدة الشباب بدلاً من الشورى

جاءنا من الأستاذ محمد علي الطاهر أنه اتفق مع الأستاذ محمود عزمي على أن يتولى إصدار جريدته (الشباب) بشكل آخر في خلال شهر فبراير المقبل.

وهو يرجو من أصدقاء الشورى القدماء أن يمنحوا الجريدة الجديدة نفس الثقة التي منحوها للشورى، وسيظل عنوانه كما كان: 30 شارع عبد العزيز بمصر تليفون 56800

ص: 76

‌الكتب

شرح الإيضاح

تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي

أتمت المطبعة المحمودية التجارية ومكتبتها بالأزهر بمصر طبع الجزء الثالث من شرح الإيضاح في علوم البلاغة للأستاذ عبد المتعال الصعيدي المدرس بكلية اللغة العربية

وقد بدأ في هذا الجزء بشرح قسم علم البيان من كتاب الإيضاح وأتمه فيه، وسار في شرحه على منوال الجزء الأول والثاني لا يعنى بالمماحكات اللفظية والمناقشات التي لا تتصل بصميم علوم البلاغة، وإنما عني بتحقيق مسائل هذه العلوم، وبشرح شواهدها ونسبتها إلى أصحابها. وقد يذهب في ذلك إلى مخالفة من سبقه من علماء هذه الفنون، كما ذهب في هذا الجزء إلى أن وظيفة علم البيان تخالف وظيفة علم المعاني مخالفة تجعله علماً مستقلاً عنه، وليس شعبة منه، كما ذهب إليه الإمام السكاكي ومن تبعه

فوظيفة علم المعاني على هذا تطبيق الكلام على مقتضيات الأحوال، ومرجع ذلك إلى مراعاة ما يرجع فيه من جهة البلاغة؛ ووظيفة علم البيان معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة من الدلالة ليعرف ما يقبل منها وما لا يقبل، ويحترز بهذا فيها عن التعقيد المعنوي؛ ومرجع ذلك في الكلام إلى مراعاة ما يجب فيه من جهة الفصاحة بقطع النظر عن مراعاة مقتضى الحال وإن كان لابد من ذلك فيه، ولكن هذه وظيفة علم المعاني، وشأنها من وظيفة علم البيان كشأن وظيفة علم النحو وغيره منها

وعلى هذا لا يكون من شأن علم البيان أن ينظر في مثل قول امرئ القيس:

ألم تسأل الربع القديم بعسعسا

كأني أنادي إذ أكلم أخرسا

من جهة مطابقته لمقتضى الحال أو عدم مطابقته له وإنما ينظر فيه من جهة فساد التشبيه، لأجل انه لا يقال كلمت حجراً فلم يجب فكأنه كان حجراً، وإنما الجيد في ذلك قول كثير عزة:

فقلت لها يا عز كل مصيبة

إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت

كأني أنادي صخرة حين أعرضت

من الصم لو تمشي بها النفس زلت

وكذلك ينظر في امرئ القيس:

ص: 77

وأركب في الروع حيفاتة

كسا وجهها سعف منتشر

من جهة فساد الاستعارة فيه؛ لأنه إذا غطى الشعر العين لم يكن الفرس كريماً، ولا يعنيه في ذلك اعتبار المطابقة وعدمها

وكذلك ينظر في قول أبي تمام:

رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه

بكفيك ما ماريت في أنه برد

من جهة أن الرقة لا تستعار للحلم، وإنما يوصف بالرجحان والرزانة كما قال النابغة:

وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً

وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا

وهكذا يسير الشرح في علم البيان على هذا المنوال، يطنب إذا اقتضى المقام الإطناب. ويوجز إذا اقتضى المقام الإيجاز، فجزى الله مؤلفه عنه خير الجزاء.

(ص)

مرافعات

تأليف الأستاذ حسن الجداوي

كثير منا رأى الدفاع في قاعة المحكمة وهو يدافع عن المتهم. . يدافع عن المجرم! ويحاول بقوة حجته وشدة عارضته وذلاقة لسانه أن يحطم الأغلال والقيود التي تطوق الرجل ويطلقه من إساره. . . أو يرجو متى أفلت أمر الرجل من يده وغدا مصيره إلى الظلمات أن يعامل بروح القانون. وكثير منا أنصت إلى وكيل النائب العام وهو يحمل على المتهم، ويدافع عن الإنسانية المعذبة في أشخاص هؤلاء المجرمين السفاكين الذين يسودون وجه الحياة المشرق النظير ويلطخونه بالدماء، لا يزجرهم زاجر ولا يأخذ على أيديهم قانون. ولكن قليلاً منا من فكر في الظروف القوية التي تسوق المجرم إلى الإجرام، قليل منا من فكر في ظروف الحياة القاسية التي تخلق المجرمين والسفاكين وتدفعهم إلى ارتكاب أشنع الآثام. قليل من الناس من يفكر كما يفكر الدفاع وهو يدرس القضية ويقف أمام القضاء يشرح أدوارها ويبسط فصولها ويلقي الضوء القوي الباهر على ما خفي منها من أسرار.

هذه المرافعة البيانية القوية لها أثرها المحمود في نفوس القضاة ونفوس الناس فكثيراً ما تقسوا الحياة وتتضافر العوامل السيئة على المتهم المسكين، فلا ينقذه إلا محاميه ومرافعة

ص: 78

محاميه، متى كانت قوية خلابة كهذه المرافعات التي بين أيدينا الآن، والتي ترجمها الأستاذ حسن الجداوي عن الفرنسية وتخير فيها قضايا إنسانية تقع في كل بلد وتجري في كل محكمة وتدور على كل لسان. فقضايا حرية الرأي والصحافة والدفاع عن العرض، والقتل بدافع الغيرة والشفقة، والخيانة الزوجية التي يضمها هذا الكتاب القيم، كلها قضايا إنسانية لا تقف على بلد واحد وشعب واحد. ولقد أبدع المترجم في الترجمة خير إبداع، ووفق أحسن توفيق، فجاء كتابه تحفة أدبية رائعة أكملت نقصاً محسوساً في المكتبة العربية وسدت فراغا كبيراً في الأدب القضائي

وسيجد القارئ في مرافعة بعض المحامين الفرنسيين منطقاً أخاذاً ولساناً رائعاً دعم بالدراسة الفنية الدقيقة كمرافعة جوزيه في قضية التجميل حتى قال عنها زميله وخصمه (لقد أدهشتني مرافعة الأستاذ جوزيه تيري بما فيها من معلومات طبية أنحني أمامها، كنت أسائل نفسي أيهما أخطر علي الأستاذ جوزيه تيري أو الدكتور جوزيه تيري؟) وهذا أقل ما يجب أن يكون عليه المحامي في هذا العصر، إحاطة شاملة بعلم التشريح وعلم الإجرام وعلم النفس

وفي قضية حرية الدفاع سيقرأ القارئ دفاعاً فذاً فيه بلاغة وقوة وبيان وحجج منطقية وكلام يجري مجرى الأمثال (إن القوانين لم تعد تطبق بل أصبحت تفسر، وتفسر دائماً بالمعنى الذي لا تدل عليه ولا إرادة المشرع لها. . . إنهم يعذبون القوانين ليجعلوها صالحة لتعذيب الناس) وما الذي سيقوله القارئ بعد هذا الكلام.

وفي محاكمة شارل الأول ترى صورة قوية للشعب الإنجليزي الصابر الباسل المتفاني في حب مليكه حتى في عهد كرمويل.

وفي القرن الماضي أعدم مجرم شقي بطريقة همجية وحشية فثار شارل هيجو ابن شاعر فرنسا الكبير فوصف الحادث في الصحف وحمل عليه حملة شديدة وسيق بعدها إلى المحاكمة. ومما كتب قوله:

(ما الذي ارتكبه هذا الرجل ضد الهيئة الاجتماعية؟ أنه قتل. . وما الذي فعلته الهيئة الاجتماعية بذلك الرجل؟ إنها عذبته. . . ولكن أتدرون ما الأثر الذي تركته فعلتكم؟ لقد أتيتم أمرا إدا، فيه قسوة وفيه وحشية وفيه إيلام. . إنكم بدلاً من أن تكسبوا عطف الجمهور

ص: 79

المشاهد لجانب القانون كدتم تحولون عطفه لجانب المجرم. لقد أخفق الجلاد الأول فجئتم بثان، وبعد نصف يوم من جهاد مستمر أستطعم آخر الأمر أن تقهروا الرجل، وتمسحوا في آن واحد الدم من نصل المقصلة والعرق من جباهكم. . لا لا. إن الإعدام ليس بالمنظر الجميل. . .)

ومرافعات الكتاب كلها قوية بليغة وهي على نسق قصصي يسر ويشوق، ويعرض صوراً بارزة من الحياة. وسيجد فيها القارئ لذة خالصة وفائدة محققة، أما المحامي فسيطلع في لغته على مرافعات يكفي أن يقال عنها إنها لأفذاذ رجال القانون.

هذا والكتاب مطبوع طبعاً جيداً على ورق ناعم وغلاف مقوى وهو يقع في 180 صفحة من القطع الكبير وهو مفهرس الأعلام حسن التبويب زهيد الثمن.

ونرجو ونحن نهنئ المؤلف على جهده الأدبي المشكور أن يتحفنا دائماً بأمثال هذا الكتاب الرائع.

محمود البدوي

ص: 80