المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 188 - بتاريخ: 08 - 02 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٨٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 188

- بتاريخ: 08 - 02 - 1937

ص: -1

‌لو كنا نقرأ.

. .

في مصر تسعمائة وتسعون في كل ألف لا يقرأون، وتسعة من العشرة الباقية ينتفون الأخبار من الصحف اليومية، ويقطفون النكت من المجلات الخفيفة؛ وواحد هو الذي يقرأ الكتاب المثقِّف ويطالع المجلة المهذِّبة؛ وهذا الواحد الأحد يدركه في أكثر العام فتور الطبع أو عدوى البيئة أو فوضى النظام فيعاف الكتاب، ويجتوي الصحيفة، ثم يقعد في مشارب القهوة يتقمع، أو يسير في مجالي الطبيعة يتأمل، أو يضطجع في مراقد السكينة يستجم. ذلك تقدير مقارب نتهجم به على (مصلحة الإحصاء) وفي يدينا استقراء متتبع لا يتهيأ لغير من قضى أكثر العمر في التعليم والتأليف والصحافة. وتقدير المؤلفين والكتاب في هذا الباب هو الكاشف الحق عن مكان الأمة من التربية القويمة والثقافة السليمة والرقي الصحيح. أما قياس درجة الرقي على نسبة القارئين بالقوة لا بالفعل، فذلك عمل كل ما يدل عليه أنه خانة في سجل التعداد - ماذا يردّ على العقلية المصرية إذا بلغ (فكاكو الخط) فينا مائة في المائة مادام فك الخط لا يطلق عقلا أسيرا ولا يجلو بصرا حسيرا ولا يذكي قريحة كابية؟ أوافق مصلحة الإحصاء على أن في الخمسة عشر مليون نفس أكثر من مليوني قارئ، وأن في هذين المليونين ألوفا من ذوي الشهادات المدرسية والدرجات الجامعية يستطيعون أن يكشفوا للعقل آفاق المعرفة، وينهجوا للنفس طرائق الكمال؛ ولكنك إذا وازنت بين عدد المتعلمين وعدد ما يطبع من الكتاب وما يوزع من الصحيفة خامرك الشك في إحصاء المصلحة، أو في تعليم المدرسة، أو في عقلك أنت! ينتشر في العام كله بضعة من الكتب يتراوح ما يطبع من كل واحد منها بين الألف والثلاثة، ثم تساق إلى قراءته بالطبل والزمر مصر جمعاء وفي معونتها العالم العربي أجمع، ومع ذلك لا تنفد طبعته المباركة بعد الأغراء بالإعلان والإهداء قبل خمس سنين!

أليس معنى ذلك أن هذا الشعب أمي وإن عرف حروف الهجاء، وعامي وإن تلقب بألقاب العلماء؟ تتبع الطالب من يوم دخوله روضة الأطفال إلى يوم خروجه من الجامعة؛ فهل تراه يقرأ - إن قرأ - إلا كتب المدرسة أو ملخصات المعلم أو فكاهات الصحف؟ إنك تراه ساعة الدرس وأذنه إلى فم الأستاذ، ويده على القلم، وعينه في الدفتر، يختصر ما اختصر، ويقتصر على ما أقتصر؛ وتراه ساعة الفراغ يحاول أن ينقشه بالتكرار على صفحة ذهنه، فيصدع رأسه بترديد ما لا يفهمه، ويغثي نفسه بإساغة ما لا يهضمه، حتى إذا خرج من

ص: 1

المدرسة خرج مكروباً لا يتقار من الكلال والسأم، فينفس عن صدره بالفكاهة الرخيصة أو القراءة السهلة ? فإذا نال الشهادة بالحفظ تبعه هذا النفور إلى منصبه إذا كان عبد الوظيفة، أو إلى مكتبه إن كان حر العمل، فيكره الأدب لأنه يتذكر درس (المحفوظات)، ويعاف القراءة لأنه لم ينس درس (المطالعة)؛ وعمله وأمله لا يقتضيانه التعمق ولا المزيد، فيعود كما بدأه الله أمياً يعمل بالإرشاد، وفطرياً يهتدي بالغريزة. والمعلم الذي يخرّج التلميذ اليوم، كان هذا التلميذ نفسه بالأمس: أرسل إليّ مدرس في كلية الآداب كتاباً يسألني فيه أن أقطع عنه (الرسالة) لأنه لا يجد وقتا لقراءتها، وهو لا يلقاك إلا حدثك بما قالته المجلة الفلانية عن الفتاة فلانة، وما تهزأت به المجلة الأخرى من الأستاذ فلان؛ ثم سأله أحد طلابه ذات يوم عن (واسط) فقال له: أحسبها مكاناً في طريق القصير ? قرأت هذا الكتاب فعذرت وكيل المعرض الزراعي الصناعي وقد دخل عليه مندوب الرسالة يطلب إليه (تصريحاً صحفياً) بدخول المعرض، فقال له وإمارات التعجب الساخر تتخايل على جبينه العريض: ولكني لم أر هذه (الرسالة) قط! فلم يجبه مندوبنا وإنما أجابه حاجبه هو بقوله: لا، يا بك! هذه مجلة صفتها كيت وكيت؛ وأنا وابنتي نقرأها كل أسبوع، ونجلدها كل سنة ? سمعت هذا الخبر فعذرت ذلك الباشا القاروني الذي أهديت إليه الرسالة لصلة بين أخي وبينه، فردها علي وقد كتب على غلافها الأبيض بالقلم الغليظ:(مرفود) فوقع في نفسي أن الباشا يتشبه بالملوك والخلفاء، في رفد المعوزين من الأدباء والشعراء، فهممت أن أكتب إليه أشكره وأستعفيه لولا أن نبهني صديق أوتي منطق الناس أن (مرفود) معناها (مرفوض) ولا أريد الترسل في هذا الحديث، ففي ذاكرة كل صحافي من بابه طرائف وأعاجيب

الحق أننا لا نزال أمة أمية ننظر إلى الكتاب نظر المتعظم الخائف، أو المتقنع العازف؛ ومادمنا لا نرى الكتاب ضرورة للروح، كما نرى الرغيف ضرورة للبدن، فنحن مع الخليقة الدنيا على هامش العيش أو على سطح الوجود

تتطور المذاهب والآراء، كما تتطور الحلي والأزياء؛ فإذا لم تتقصّ بالقراءة المتجددة أخبار هذا التطور في أطراف الأرض عشت في عصرك غريب العقل أجنبي الشعور وحشي الثقافة، كالذي يلبس في الناس زيا مضى بدل زي حضر

إن من وظائف المدرسة أن تعودك القراءة وتعلمك كيف تقرأ، وإن من وظائفك أن تقرأ

ص: 2

وأن تعرف ماذا؛ فإذا لم تفعل هي فقد قصرت عن رسالة، وإن لم تفعل أنت فقد فرطت في واجب

ليت الذين يطلبون من الأدباء أن ينتجوا ويجيدوا الإنتاج، يطلبون من القراء أن يقرءوا ويحسنوا القراءة. فلو كنا نقرأ لخلقنا الكاتب والكتاب ولو كنا نقرأ لأخصبنا حقول المعرفة فأزهرت في كل مكان وأثمرت في كل نفس؛ ولو كنا نقرأ لما كان بيننا هذا التفاوت الغريب الذي تتذبذب فيه الأفكار بين عقلية بدائية وعقلية نهائية؛ ولو كان العالم العربي يقرأ لنشر من الكتاب زهاء مائة الألف، ووزع من الصحيفة قرابة المليون؛ وإذن تستطيع أنت أن تتصور كيف تزهر الثقافة وتنتشر الصحافة ويتنوع الأدب ويرقى الأديب!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌حديث مجلس

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

زارني صديق، ففعلت ما يفعل المرء مثله في العادة حين يجيئه ضيف: قدمت له السجاير ليأخذ منها واحدة وأشعلت عود الكبريت. وكنت لا أشعر برغبة في التدخين في تلك اللحظة، فكانت أصابع إحدى يدي ممدودة إليه بالكبريت وأصابع اليد الأخرى تثني الغطاء على السجاير، فلما أشعل سيجارته رددت يدي إلى فمي وزممت شفتي لأنفخ وأطفئ النار ألفيتني أتردد ثم أتناول سيجارة.

وقلت لصاحبي وأنا أنفخ الدخان مثله (أرأيت. . . لم أكن أريد أن أدخن، ولكن العادة غلبتني حين رأيت النار في طرف العود بين أصابعي، وأنا أغالط نفسي وأقول لها مازحا إن الكبريت أغلى من السجاير، وإن من سوء التدبير أن أضيع عود الكبريت من أجل سيجارة واحدة. وتروقني هذه المغالطة لأنها تفتح لي باب القياس والتمثيل فأقول إن الإنسان كثيرا ما يضيع الكثير من جراء حرصه على القليل فما رأيك؟)

قال: (رأيي أن هذا صحيح. وسأقص عليك قصة)

قلت: (هاتها)

وسرني أني أطلقت لسانه وأنه صار في وسعي أن أستريح من الكلام، فإن من نقائصي أني طويل الصمت وإن كنت في العادة ثرثاراً عظيما، واحسبني أهرب بالصمت من الناس، وبالثرثرة من نفسي

وسمعته يقول: (كنت منذ سنوات أتعلم العزف على الكمان، وكان معلمي تركيا ضيق الصدر من أولئك (المولوية) الذين يعيشون في التكايا ويزجون فراغ الحياة بالموسيقى وما تغري به. وكنت قد اشتريت (فرسا) جديدة للكمان - والفرس كما تعرف هي قطعة من الخشب المنجور ترفع عليها الأوتار، فلما رآها أستاذي غضب ورماها وقال إنها غليظة، وذهب يعنفني ويؤنبني كأنما كنت أنا صانعها، أو كأنما كنت أدري قبل ذلك شيئا عن الكمان والأوتار والفرس، فكرهت سوء خلقه وثقل على نفسي سلوكه وزهدت في التعلم - على هذا الرجل على الأقل - وزارني بعد خروجه صديق رآني منقبضا متجهما، فسألني عن السبب فحدثته به، فأحب أن يرى هذه (الفرس) التي أثارت كل هذا الخلاف، وكانت لا

ص: 4

تزال على الأرض، فأشرت إليها فتناولها وقال:(هذه) وجعل يقلبها في يديه مستغربا، ثم طلب أن أدعها له، فقلت:(خذها يا سيدي) فما لها قيمة في الحقيقة فإن ثمنها لا يزيد على قرشين، ولكن معلمي كان ممن يخلقون من الزبيبة خمارة عظيمة

ومضى بها صاحبي ونسيت الأمر كله جملة وتفصيلا، وإذا به بعد سنة أو نحو ذلك يقول لي أنه يتعلم العزف على الكمان وإن الدافع له على ذلك والمغري به كان هذه الفرس التي ظل بضعة شهور يخرجها من مكانها كلما خلا إلى نفسه ويتأملها

وهو الآن من خير هواة العزف على الكمان

قلت: (وأنت)

قال: (أنا. . انقطعت عن الدرس. . لم أجد أستاذا أقدر منه أو مثله قدرة وإن كنت وجدت كثيرين أرحب صدرا. . . على أني كنت أدور على المعلمين كارها وبي فتور شديد فكففت)

قلت: (هل تعلم أني أنا أيضاً تعلمت العزف على الكمان. . ظللت أتعلم أكثر من سنة. . فلو أني واظبت لكنت الآن من أمهر العازفين على هذه الآلة. . خمس وعشرون سنة. . من يدري. . لعلي كنت خليقا أن أتحول عن الأدب إلى الموسيقى. ولكن قلة الصبر. . والخجل من أن يسمع الجيران الأصوات النابية التي أخرجها. . والاستحياء من أن يعرف عني أني مبتدئ، كل هذا صرفني. . كما صرفتني عوامل أخرى عن الشعر. .)

فابتسم وقال: (والآن؟)

قلت: (الآن. . أنا الذي كنت خليقا أن أكون شيئا. ولكن. . لا بأس. . أرانا بعدنا جدا عن الموضوع)

فابتسم مرة أخرى وقال (لا بأس. .)

قلت: (صدقت. . كل شيء ككل شيء في هذه الحياة. . هبني كنت الشيء الضخم الذي كان يغريني الصبى والخيال الجامح بالطمع فيه والتطلع إليه فماذا إذن؟.)

قال: (كنت تكون أشد رضى عن نفسك)

قلت: (كنت أشعر. . كلا. . كان رأيي في نفسي يبقى كما هو. . ربما غرني رأي الناس أحيانا، ولكن بلائي أني حين أغتر أدرك أني مغتر فيسلبني إدراكي هذا متعة الغرور. .

ص: 5

لست أقول إني غير قابل أو مستعد للغرور أو عرضة له، فإني كغيري في هذا، والغرور لازم لإطاقة الحياة، وبغيره لا أدري كيف يطيق الناس عيشهم. ولكني لا أزال أدير عيني في نفسي وأتأملها وأفحصها وأنكت تربتها كما ينكت المرء الأرض بطرف العصى، وأخلق بهذا أن يكشف للإنسان عن حقائق غير التي يزيفها أو يموهها الغرور. . وأول ما يعرفه المرء - بفضل الفحص المتواصل والتدبر المستمر - هو حدودها، ومتى عرف المرء حدود نفسه فأيقن أنها لن تغيب عن عينه قط. . وقد يعالج توسيعها وإفساح ما بينها. . ولكنها تظل ماثلة أبدا. . والشعور بهذه الحدود كرب وبلاء. . والجهد الذي يبذله الإنسان لعلاج النقص الذي يشعر به في نفسه كرب آخر. . آلة محدودة القوة تريد أن تبلغ بها ما تستطيعه آلة أخرى أقوى منها. . هذا الجهد ماذا تظنه يكلف الآلة المسكينة المحدودة القوة والعزم. . وفوق كل قوة أخرى أعظم. . وتجاهد حتى تبلغ بنفسك فوق ما كان ظنك أنها قادرة عليه فلا تقنع بهذا. . لأن هناك مرتبة أعلى ومنازل أخرى أسمى، فأنت لا تزال تستحث نفسك وتدفعها وتخزها. . ولانهاية لهذه الدائرة. . وهذه هي حياتنا جميعا. . في الحقيقة والخيال. . محاولات مستمرة لعلاج ما نحسه من نقصنا. . ولا يخلو هذا من جانبه المضحك. . فقد يعيينا أن نصلح الفاسد ونعالج الضعف، أو أن نعوضه من ناحية أخرى قابلة للزيادة والنمو فنروح نستر العيب أو الضعف أو النقص سترا نظنه وافياً كافياً أو نحتال لنبدو كأن قوتنا هي في هذه الناحية التي نعرف ضعفنا فيها. والإنسان ليس بشيء إذا لم يكن منافقاً مرائياً ودجالا كبيرا).

فقال صاحبي: (أو لا يدرك المرء حدود نفسه إلا إذا دأب على إدارة عينه فيها؟)

قلت: (لا. . ليست هذه سوى طريقة واحدة لمعرفة النفس، ومثلنا العامي يقول إن سكة أبي زيد كلها مسالك. ولا أعرف من هو أبو زيد هذا. ولكني أعلم أن المعرفة سكتها كثيرة المسالك. ومن المسالك التجربة والمعاناة. والتجربة تتيح للإنسان أن يقيس ما عنده إلى ما عند سواه فيعرف في أية ناحية قوته، وفي أي النواحي نقصه وضعفه وتقصيره. . وأعترف لك بحقيقة. . لقد كنت في سني وفي ميعتي يهولني أن أرى نفسي عاجزاً عن الحب الذي أرى غيري قادراً عليه. . . نعم كنت أشعر بالإعجاب وبسحر الجمال وفتنة الحسن، ولكن شعوري هذا كان لا يطول ولا يلبث أن يفتر. . ولم يكن الحب عندي أكثر

ص: 6

من مظهر رغبة وقتية تزول إذا زال الداعي إليها كما يجوع المرء فيشتهي الطعام، حتى إذا أصاب شبعه صد عنه ولم يعد يذكر إلى أن يجوع مرة أخرى. . . فلا أرق ولا شوق ولا أحلام ولا بكاء، وإذا حرمت حظاً في باب الحب فكما يحرم المرء نصيباً من لون من ألوان الأكال كان يشتهي أن يفوز به. . وما أكثر ملايين الناس الذين يعيشون محرومين ويعلمون أنهم محرومون ومع ذلك يحيون ويسعدون بالحياة. . . كذلك كنت. ولم يكن إخواني كذلك، ولا كان الذين اقرأ أخبارهم في كتب الأدب مثلي، فكنت استغرب وأنكر من نفسي هذا الجمود أو إن شئت هذه الحصانة أو المناعة من الحب بالمعنى المعروف المألوف. الحب الطاغي العنيف الذي لا يفتر ولا يخبو له ضرام والذي يذكرك بمجنون ليلى وأشباهه. فأغراني هذا الذي بلوته من نفسي بالتكلف ولججت في التكلف حتى لكان يخيل إلي أحياناً أن الأمر صار جداً لا هزل فيه. وكنت أشجع نفسي على الأرق وأحثها على التذكر والشوق، وألح عليها بأجمل شعر الغزل في الأدب العربي والآداب الغربية لأوحي إليها الروح الذي ينقصها، وكنت أتمثل هذه الحالات التي يصفها الشعراء واسمع بها من الأخوان، وأروض نفسي على مثلها وأجعلها تستغرقني حتى قلت شعرا كثيرا في ذلك لا يشك قارئه في أنه صادر عن عاطفة صادقة عميقة قوية. ولم أكن أنا أشك في أن الأمر كذلك أيام كنت أقول هذا الشعر لأني لم أزل أعالج نفسي بالإيحاء إليها حتى صار الأمر أشبه ما يكون بالحقيقة. ولكني كنت في أعمق أعماق نفسي أدرك الحقيقة. وكنت أمتحن نفسي أحياناً بالبعد فلا أراني اشتاق أو أتلهف أو أتحسر أو أصبو إلى آخر ذلك. وأخيرا مللت هذا التكلف. وهذا من أسباب تركي للشعر. وثم أسباب أخرى ولكن هذا من أكبرها إذا لم يكن أكبرها).

فاستغرب صاحبي وجعل ينشدني بعض ما يحفظ - وما نسيت أنا - من شعري، ويسألني أكان هذا تكلفا، فقلت له (لم يكن الشعور الموصوف في هذه الأبيات كاذبا، فانه كان صادقا في ساعته. . كان حبا قصير العمر جدا. . حب ساعة. . إعجاب إذا شئت، نشوة عارضة كنشوة الخمر. وكونها عارضة. . . من فعل الخمر أو بتأثير الحسن لا يمنع أن الشعور الذي تحدثه صادق في حينه. وقد يلح المرء على نفسه بالإيحاء إليها حتى يشعر بما يشعر به العاشق الحقيقي. فيكون شعوره أيضاً في حينه صادقا. ولكن بعد ذلك. . بعد أن يثوب

ص: 7

الرشد الذي أضاعه الخمر، ويرجع الاتزان الذي أفسده منظر الحسن، أو تعود الحالة الطبيعية التي اضطربت من جراء الإيحاء. بعد ذلك يذهب ما جاءت به النشوة الوقتية، وقد أفادني علاج نفسي ورياضتها على أن تستغرقها الحالة التي أتمثلها. نعم بقيت عاجزا عن العشق وفي أمان من جنون الحب فإن هذه طباع لا حيلة لي فيها، ولكني أصبحت بفضل هذه الرياضة أستطيع حين أفكر في شيء أو أكتب شيئاً أو أشغل بأمر أن أذهل عن الدنيا فلا أسمع ولا أرى، ولا يستطيع شيء أن يصرفني عما أنا فيه. . خرجت بفائدة على كل حال. وكثيرا ما ترى الإنسان يطلب شيئاً فيخطئه ويفوز بغيره.)

فقال (ولكنك محروم وهذا فظيع)

قلت (كلا. أنا على نقيض ذلك سعيد. مستريح من وساوس الحب وبلابله وهواجسه وتخريفه، وفي وسعي دائما أن أمتع نفسي بالحسن وأنا هادئ الأعصاب مدرك لما أنا فائز به بلا إسراف أو غمط في التقدير، ومن غير أن أنغص على نفسي هذه المتع بعد ذلك بالوساوس والخيالات وما إلى ذلك مما يكابده المحبون. . . وأقول لك الحق إني أصبحت لا أصدق من يزعم أن حبه على نحو ما يصف الشعراء ومن إليهم. ولا أعتقد إلا أن ذلك نشوة يطيلون عمرها بالإيحاء. والإيحاء يا صاحبي - إلى النفس والى الغير - عامل خطير الأثر في حياتنا. صدقني)

قال: (ولكني جربت)

قلت: (ما أظن بك إلا أنك تخدع نفسك. وهذه سنة الإنسان أبداً. عد إلى نفسك وحلل خوالجك بلا خوف من مواجهة الحقيقة ولا جزع ولا إشفاق. اجعل من نفسك شخصاً مستقلا. طبيبا يفحص حالة ولا يعينه إلا ما يهتدي إليه. وانظر ما يكون. . ثم تعال واخبرني. وأنا واثق أن النتيجة ستكون مطابقة لما حدثتك به عن نفسي)

فوعد أن يفعل. . ولكنه لم يعد إلي

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 8

‌في الأدب المقارن

التفاؤل والتشاؤم

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

حب الحياة كائن في طبيعة كل حي، والرضى بها والاطمئنان إليها والإقبال عليها شيمة جميع الأحياء مادامت بنياتهم صحيحة وحاجاتهم حاضرة، والمرح واللعب غاياتهم الأخيرة مادامت غرائزهم مقضية اللبانات مشعبة المطالب. ولما كان الإنسان يمتاز بالخيال والفكر فإن له مطالب نفسية غير مطالب جسده الغريزية؛ يرضى ويرتاح إذا قضاها، ويقنط ويكتئب إذا أخطأها؛ وليس يشكو الحي أو يألم، وليس يسخط الإنسان أو ينقم، إلا أن يغدو وهو سقيم الجسم أو محروم الغريزة أو ممنوع المطالب. فحب الحياة والإقبال عليها والرضى عنها هي الحال الطبيعية العادية، وذم الحياة والعزوف عنها والسخط عليها حال طارئة استثنائية، نتيجة لامتناع وسائلها وعدم مواتاة أسبابها.

فالمتشائمون قوم قست الحياة عليهم فحرمتهم قليلا أو كثيراً مما حبت به سواهم، فثاروا عليها وكالوا لها قسوة بقسوة، وجزوها على حيفها بمرير الذم والتفنيد؛ فلسنا نرى بين المتشائمين الزارين على الحياة والأحياء رجلا صحيح البدن معتدل المزاج مجدوداً واثقاً بنفسه، بل كلهم ممن أكسبتهم الوراثة والنشأة والبيئة أجساماً معتدلة أو أعصاباً مختلة، أو ألحت عليهم الخطوب فحطمت مساعيهم، أو اقتنعوا بعجزهم عن مصاولة الأحياء في ميدان الحياة، فأورثهم ذلك حساً مرهفاً متيقظاً إلى مواطن الشر والقسوة والنقص في الحياة، فقعدوا يبرون لها وللمقبلين عليها السهام.

وفي الحياة مواطن للنقص لا تحصى، يهتدي إليها الناقمون عليها بلا عناء، وهي تعرض مثالبها عليهم وتضع أصابعهم على نقائصها؛ بيد أن المتفائل المعافى الجسم الناجع المسعى قلما يلتفت إلى تلك المساوئ، وإذا التفت إليها فبرهة قصيرة يأسى فيها ويعتبر، ثم يعود إلى ما كان فيه من استمراء لمتعات الحياة واجتلاء لمفاتنها، متعزياً بهذه المفاتن والمتعات عن تلك النقائص والمقابح، باذلاً جهده لتوفير السعادة لنفسه ولمن حوله، ومحو ما يستطيع

ص: 9

من أسباب الشقاء؛ على حين يظل المتشائم أمام ما يروعه من مساوئ الحياة قائماً، لا يريد أن يحول بصره إلى سواها، بل يهول تلك المساوئ كما يسول له حسه المرهف وخياله المغرق.

والأدباء وغيرهم من رجال الفنون عادةً أرهف حساً وأبعد خيالاً ممن عداهم، وما من أديب إلا تتجسم له مقابح الحياة جهمة مقززة في فترة من فترات حياته، فتعافها نفسه، وينقم عليها وعلى نفسه وعلى الأحياء جميعاً؛ فأما من كان متفائلا بطبعه معتزاً بنفسه واثقاً من قدرته على خوض وغى الحياة، فسرعان ما يخرج من تلك الغمة وتنتصر فيه دفعة الحياة القاهرة، فيلتفت إلى ما بالحياة من مباهج بجانب ما بها من مآس، ويطلب العزاء ببعض تلك عن بعض هذه، ويستن لنفسه مثلاً أعلى جديداً في الحياة؛ وأما المتشائم المحس بوطأة الحياة الثقيلة على جسمه المتعب وأعصابه المنهوكة ونفسه الخائرة، فيرفض كل عزاء ويأبى كل إيمان ويسخر من كل مثل أعلى

فالفرق الرئيسي بين المتفائل والمتشائم هو أن الأول يرضى العزاء والثاني يرفضه، والأول يؤمن بمثل أعلى والثاني يأبى الإيمان بشيء، فالمتشائم يرفض الدين فيما يرفض، فالتشاؤم والدين ضدان لا يلتقيان: التشاؤم إزراء بالحياة وإنكار لجدواها وتحقير لأبنائها، والدين يبشر بجدوى الحياة الصالحة ويبث العزاء في النفوس عن آلام الحياة. وما كانت الديانات الأولى كديانات المصريين والفرس إلا محاولة حاول بها الإنسان أن يفسر ما راعه من تجاور قوى الخير والشر في الحياة، وأن يتعزى بجانب الخير عن جانب الشر منها، أما والتشاؤم هو فقد الإيمان بالحياة ورفض العزاء عن شرورها، فالتشاؤم والدين نقيضان، ولا ترى متشائماً إلا يسر الإنكار للدين أو يعلنه، ولا مؤمناً معتصماً بدينه قد هوى في لهوات التشاؤم

وليس فقد الإيمان بالحياة ومثلها العليا - أو التشاؤم - ينتهي بصاحبه في كل حالة إلى الإسراف في رفضها واعتزالها، بل هو ربما أدى إلى إسراف مناقض لهذا: إسراف في انتهاب لذاتها القريبة وإشباع الغرائز النهمة منها، تناسياً لمنغصاتها وتخلصاً من لذعات التفكير في نقائصها؛ فالمتشائمون المعتزلون للحياة الناقمون على الإحياء الساخرون من المجتمع، والمتشائمون المستهترون باللذات المتهكمون بتقاليد المجتمع وأخلاقه، الخارجون

ص: 10

على عرفه المصادمون له في عقائده؛ أولئك وهؤلاء سيّان في التشاؤم ورفض الإيمان والعزاء النفسي، أو قل هما طرفان متباعدان بينهما الوسط الذي يحتله المتفائلون الراضون بالحياة على علاتها، المتسلون بنعمائها عن بأسائها في قصد واعتدال، المتشبثون ببعض مثلها العليا

على أن المتشائمين أنفسهم لا يخلون من عزاء وإن توهموا سوى ذلك؛ وأشدهم إمعاناً في التشاؤم لا ينضب من نفسه حب الحياة، وعزاء أكثرهم هو ذلك الفن الذي يزاولونه، هو أدبهم الذي يودعونه فلسفتهم المتشائمة وخطراتهم القائمة، ففي كتابة أفكارهم تلك راحة لنفوسهم المعذبة وشفاء لغرائزهم الظامئة؛ ولولا أنهم ما يزالون يحبون الحياة في صميم أفئدتهم، على رغم إعلانهم الحرب عليها، لما لبثوا بساحاتها؛ ولو أنهم يزدرونها ويزدرون أبناءها بقدر ما يزعمون، لما حفلوا بتدوين آرائهم فيها وعرض تلك الآراء على أبناءها؛ ففلسفتهم المتشائمة تناقض نفسها بنفسها

فإذا كانت فلسفة تصدق أو تفسير للحياة يقبل، فليست فلسفة المتشائمين بالتي ترجح وتفسر الحياة، وليست رسالتهم التي يؤدونها إلى الإنسانية بالتي تقبل، لأن فلسفتهم كما تقدم تناقض نفسها، وتناقض طبيعة الحياة التي بثت حبها في جبلات أبنائها، ومهدت من متعاتها ما يرجح شوائبها، وزودت بنيها بالسلاح اللازم لهيجائها. ليست فلسفة المتشائمين بالمقبولة في جملة، وإن احتوت في أطوائها من صائب النظرات وبديع اللفتات وآثار الفكاهة والسخر والوصف والتحليل ما يمتاز به أصحاب ذلك المزاج، وما يهديهم إليه حسهم المرهف المستوفز وخيالهم المتيقظ المسترسل

وفلسفات المتشائمين في مختلف الأمم والأجيال متماثلة، ومواضيعهم متقاربة: إسهاب في شرح مظاهر تنازع البقاء، وإطناب في ذكر لئيم الطباع في الأحياء وفي الإنسان خاصة، وإصرار على تذكر الموت وكرور الزمن وحلول البلى، وتهويل لضعف الإنسان إزاء جبروت القدر، وتصوير لنفاق المجتمع وجور أنضمته، وتحقير للمرأة وموازنة بينها وبين الحياة؛ وآراؤهم في كل ذلك مردها إلى اضطراب تكوينهم وتزعزع ثقتهم بأنفسهم وحرمانهم من شتى مطالب الحياة؛ ففلسفة المتشائمين لا تدلنا على حقائق الحياة والكون، بمقدار ما تدلنا على نفوس أصحابها وأمزجتهم وعوامل تكوين أذهانهم

ص: 11

فهم يجزعون لمرآي تنازع البقاء لإحساسهم بأنهم عزّل ضعفاء، وينحون على المجتمع بقوارع الكلم لأنهم عاجزون عن الانغمار فيه ونيل الحضوة والصدارة به، ويذكّرون الناس بالموت والدثور لأن الناس يتمتعون دونهم بالطيبات، فهم يسلّون أنفسهم بتكرار القول بأن تلك الطيبات عما قليل ذاهبة، ويخوفون الناس بجبروت القدر لأن غيرهم يتمتعون بالقوة والاقتدار، فهم يلوحون أمام أعينهم بالقدر الذي يتلاعب بهم ويضحك من تدبيرهم، ويرمون المرأة بالغدر والتقلب لأنها تفي لغيرهم، ويجاهرونها بازدرائهم إياها لأنهم يسرون الإحساس بازدرائها إياهم وإعراضها عنهم.

ولما كان مردّ المزاج السوداوي المتشائم إلى عوامل فردية محض، من وراثة أو بيئة، يظهر المتشائمون في شتى الأمم والأجيال متفرقين لا اتصال بينهم من مدرسة أو مذهب؛ على أن مسحة التشاؤم تطغي عادة في آداب عصور الأدبار السياسي والضيق الاقتصادي والفوضى الخلقية، فيسود الشك والرفض والتهكم المرير، كما كان الشأن في الأدب الروسي تحت الحكم القيصري؛ كما أن صبغة الأيمان والبشر والتفاؤل تغلب في عصور الرخاء والنجاح والمغامرة، وهي الصبغة التي سادت الأدب الإغريقي في عصره الذهبي عقب الانتصار على الفرس. فلما تلا ذلك عهد الأدبار ظهر السخر والشك ومذاهب الرفض والاعتزال من جهة، ومذاهب الاستهتار والإباحية من جهة أخرى

ولعل أشد أدباء الإنجليزية نكيرا على الإنسان وتهكما بمساعيه وتهويناً لشأنه هو جوناتان سويفت، وهو أديب نشأ نشأة ضنكة مقلقة، ولازمه داء في أذنه جشمه آلاما مبرحة، ومازال حتى طغى على عقله في أواخر حياته؛ وحالف الإخفاق مطامحه السياسية وصاحب النحس غرامه، فلم يبق له إلا الانزواء في عزلته ببعض بلدان أيرلندة، وإلا أن يقول لبعض أصحابه إنه يمقت ذلك الحيوان المسمى الإنسان من أعماق قلبه، وما ذاك إلا لما كابد من عنت الظروف والأمراض ولدد الخصومات وغصص الإخفاق، وهو الذي كان فيما عدا ذلك من أوفى الناس عهدا وأصفاهم ودا، وهو الذي عطف على الأرلنديين ودافع عنهم، على حين ناصبهم من قبل ذلك مواطنه وزميله في حرفة الأدب ادموند سبنسر. وكتاب سويفت (رحلات جليفر) على ما به من سلالة وفكاهة وبراعة تصوير، مملوء بالسخر المرير من الإنسانية.

ص: 12

وزعيم التشاؤم في العصر الحديث توماس هاردي، الذي كانت أشباح الموت والبلى والقدر لا تبرح ناظريه، وكان لا يمل تكرار موضوعه الوحيد في شتى قصائده وقصصه: موضوع ضعف الإنسان وقلة حيلته وعبث مسعاه، حيال ضربات القدر الأعمى، ودوران رحى الزمن الطحون، فكان دائبا يتفنن في اختراع المواقف المفجعة والظروف المنحوسة، يتخذ مشاهدها في المقابر والبراري وفي الأيام الداجنة الكالحة، ويطيف أشخاص روايته بين الموتى، وينطق الموتى في أشعاره، ويغالي في تصوير فجائع الحب: بين الغدر والسلو والنسيان والغيرة وجفاف الجمال؛ فأشعاره لا تكاد تنتقل بك من غمة إلا إلى غمة، ولا من محنة للإنسان إلا إلى انتصار وحشي للأقدار عليه

ومعاصره أو خليفته في هذه النظرة المتشائمة إلى نصيب الإنسانية في الحياة هو هاوسمان، الذي كان يحاكيه كثيراً في اختيار مواضيعه وطريقة معالجتها وإجرائه الحديث فيها بين الأحياء والأموات. ومن نماذج ذلك الضرب من شعر التشاؤم قوله:(- أما برحت خيلي تحرث الأرض كعهدي بها، إذ أنا حي أسواقها واسمع صليل شكائمها؟ - بلى ما تزال تنقل خطاها وشكائمها تصل، ولم يتغير شيء برغم أنك قد رقدت تحت الأرض التي كنت من قبل تحرثها - أو ما تزال الكرة تترامى ويتسابق خلفها الرفاق على شاطئ النهر، وإن أك لا أستطيع اليوم نهوضاً؟ - نعم تترامى الكرة بينهم وكلهم باذل في اللعب جهده، وذلك مرماهم قائماً وحارسه لايني - وفتاتي التي شق عليّ فراقها، أسأمت البكاء واستطابت طعم الغمض؟ - نعم هي ناعمة في خدرها، فنم أنت وقر - وهل صديقي صحيح معافى وقد نحلت أنا وبليت؟ وهل وجد بعد فراشي فراشاً وثيراً؟ - أجل أنا يا صاح لي ضجعة كأروح ما يشتهيه الفتى: أسلي حبيبة رجل قضى، ولا تسألني حبيبة من)

ومن أمثلة الوراثة المختلة والمزاج السوداوي في تاريخ الأدب الإنجليزي كوبر وبيرون: كلاهما كان مضطرب التكوين اضطراباً أدى إلى ظهور الغرابة في مسلكيهما وأدبيهما. على أنهما رغم اتفاقهما في ذلك كانا يختلفان ثقة بالنفس: كان أولهما ضعيفاً متناهياً في الخجل، وكان الثاني مفرطاً في الزهو والاعتداد بمواهبه ونسبه، فقنع كوبر بحياة العزلة ولم يعلن على الناس حرباً، وإن ظهرت أعراض التشاؤم في كثير من شعره؛ أما بيرون فصادم المجتمع بمسلكه الخلقي كما هاجمه في شعره؛ ولما لفظه المجتمع الإنجليزي زاد

ص: 13

عتوا وجرأة، وتحدياً لخصومه وتشفياً من مؤيدي النظم الاجتماعية التي كان يمقتها. هذا فضلاً عما حفلت به آثاره عامة من تصوير لضعف الإنسان وقصر مدته وعبث جهوده.

ورمز التشاؤم في العربية هو ولا شك المعري، الذي اجتمع عليه من أسباب التشاؤم ما لم يجتمع على غيره: من اعتلال التكوين الجسمي، واختلال الصحة، والحرمان من شتى اللذات، واضطراب العصر الذي عاش فيه، فجاءت فلسفته مثالاً نادراً لفلسفات المفكرين المتشائمين: حقر الإنسان. وأنذر ببطش الأقدار، وذكر بالموت، وشك في الدين، وأزرى بالمرأة، وندد بالمجتمع، وفند الحكام، وأطنب في تنازع البقاء؛ ورثى مع ذلك للإنسان ورأف بالحيوان، وضاق بنفسه كما ضاق بغيره وحرم على نفسه اللذات وعاش نباتياً ومات عزباً لم يجن على أحد، وعبر عن نظراته النافذة الحكيمة التي سبق بها عصره، تعبيراً شعرياً عربياً جزلاً ممتعاً؛ وكان صادقاً صريحاً: اعترف بأنه لم يختر تلك الحياة الضنكة إلا لأن سواها قد شآه، فهو القائل.

ولم أرغب عن اللذات إلا

لأن خيارها عنى خنسنه

فقد كان لدقة حسه شديد الحرص على كرامته، شديد التوقي لمواطن السخر والزراية، فكان ذلك حائلاً بينه وبين ما تصبو إليه غرائزه من متعات، وكانت حياته معركة طويلة قائمة داخل نفسه، بين الرغبة في الاستمتاع بطيبات الحياة والإصرار على رفضها، لاستعصاء سبلها على الكفيف المجدور، إلا أن يبيح كرامته ويهدر حياءه. وما أطار خياله إلى طيبات الفردوس إلا حرمانه من طيبات الحياة وطول نزوع نفسه إليها. وما كان وصفه لمتعات الخلد إلا إرضاء لشهواته المخمدة تحت رماد التوقر والتقشف. وما كان تأليفه رسالة الغفران أو اتخاذه الخلد مسرحاً لها إلا تنفيساً عن مكتوم نوازعه؛ وبفضل هذه النوازع المكبوتة خلّف المعري الكفيف أثراً من آثار الخيال فريداً في اللغة، كان المبصرون من أدباء العربية منصرفين عن مثله

والمعري نسيج وحده في التشاؤم في العربية، يرفع راية الرفض للحياة والاعتزال لها والإزراء عليها، ويمارس في حياته ما ينادي به في أشعاره، ولا ينضوي تحت تلك الراية سواه: إنما كانت غالبية المتشائمين في العربية الذين نبذوا الإيمان ورفضوا العزاء وهانت عليهم الحياة فلم يجدوها أهلاً لسعي ولا لحفاوة هم طائفة المتشائمين المستهترين، الذين

ص: 14

ظهروا حين طغت تيارات الترف والمادية والشكوك، على المجتمع والعقائد في العهد العباسي كبشار وأصحابه، وأبي نواس وأضرابه، أولئك ساقهم تفكيرهم إلى تصغير الحياة وما يقدس الناس من مثلها العليا، فلم ينبذوا الحياة جملة بل راحوا يطفئون غليل نفوسهم المتحرقة في لذات الحياة الدنيا، ويشبعون غرائزهم الحيوانية متهكمين بما عدا ذلك مما يسميه المجتمع فضائل وعظائم وعقائد. وأبو نواس هو القائل:

وما هنأتك الملاهي بمث

ل إماتة مجد وإحياء عار

والقائل:

قلت والكأس على كف

ي تهوى لا لتثامي:

أنا لا أعرف ذاك ال

يوم في ذاك الزحام

وإنما حرضهم على سلوك تلك السبيل ما كان يسود عصرهم من حرية تقرب من الإباحية، وما كان يسود المجتمع العربي دائماً من صراحة لا نظير لها في المجتمع الإنجليزي، حيث التقاليد الاجتماعية شديدة الصرامة، فعلى حين كان يتأتى لبشار وأبي نواس وأضرابهما أن يباشروا وهم معافون حياة الاستهتار التي باشروها، ويتهكموا بعقائد غيرهم ما شاءوا، ويترنموا بمخازيهم شعراً، نرى بيرون الذي لم يجر إلى مداهم يلفظ من المجتمع الإنجليزي الذي بجله من قبل لشعره وحسبه

وحياة المعري وبشار موضع لموازنة ممتعة: كلاهما عاش كفيفاً، أي مكفوفاً إلى مدى بعيد عن كثير من مسرات الحياة ومتعات المبصرين، فخلقت فيهما تلك الحال وحشة وشذوذاً وزراية على الحياة والأحياء، ولكن المعري كان دقيق الحس مرهف الأعصاب ضعيف البنية، فنفض يده من الحياة ونجا بالسلامة والكرامة، وبشار كان مفرط الجسم متنزّي الحيوانية مضطرم الشهوة، فأكب على إشباع شهواته مستهدفاً لزراية الآخرين وتهكمهم، وشهر عليهم سوط لسانه المقذع، كما يشرع السبع المنهمك في تمزيق فريسته مخلبه لذب غيره من السباع عنها.

تلك مظاهر التشاؤم، أو فقه الإيمان بسمو الحياة والعزاء النفسي عن شوائبها، في الأدبين العربي والإنجليزي، وفيما عدا ذلك كان أقطاب الأدبين - لما يتدفق في شرايينهم وشرايين أمتيهم من دفعة الحياة - متفائلين متشبثين بأهداب المثل العليا التي ترضاها لهم طبائعهم

ص: 15

وبيئاتهم، يغبر لهم وجه الحياة حينا فيبدو أثر ذلك عابساً في آثارهم، ثم يجنحون إلى التعزي والإيمان: فملتون في الإنجليزية مثلا على فرط ما لاقى من خذلان في حياتيه الفردية والعامة وما حل به من فقدان البصر، ظل وطيد الإيمان متطلبا للعزاء إلى منتهى حياته، وكتب ملاحمه في أواخر أيامه طلبا للترفيه عن نفسه ولكي (يبرر للناس أعمال الله)؛ والمتنبي في العربية رغم ما أصاب من إخفاق متوال في مطلب حياته الأسمى، الذي (جل أن يسمى)، ورغم ما كابد من حسد وكيد وعداوة، وما صب على الناس من قوارص كلمه، ظل أبدا (من نفسه الكبيرة في جيش وفي كبرياء ذي سلطان)، متدرعاً متأهباً للجلاد.

وإن يكن هناك مجال للمقابلة، فالأدب العربي لا شك أكثر اصطباغاً بالتفاؤل والإيمان، على كثرة ما به من الشكوى؛ والأدب الإنجليزي أحفل منه بآثار التشاؤم، ولاسيما في العصور الحديثة التي زادت الحياة فيها تعقدا ووطأة؛ وإنما يبث ذلك التفاؤل في المجتمع والأدب العربيين أمران: صحو الجو الذي يعدل المزاج ويبعث البشر والطلاقة، والدين الإسلامي الذي يبث الإيمان في النفوس ويحض على اجتلاء متعات الحياة التي أحل الله، والذي هو كما تقدم القول أكثر تغلغلا في سرائر معتنقيه، وشمولا لجوانب حياتهم من غيره من الأديان.

فخري أبو السعود

ص: 16

‌ضوء جديد على مأساة شهيرة

هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟

نظرية الدعاة السريين ومزاعمهم

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة

تلك هي النظريات والشروح الغربية التي لجأ إليها الدعاة لتفسير اختفاء الحاكم وغيبته؛ ولا ريب أن اختفاء الحاكم على هذا النحو الفجائي كان ضربة شديدة للدعاة؛ فقد كان الحاكم ملاذهم وحاميهم، وكان شخصه محور دعوتهم وعماد مزاعمهم؛ فلما اختفى الحاكم انهارت الدعوة في مصر بسرعة، وتفرق الدعاة في مختلف الأنحاء اتقاء المطاردة به، ولكن الدعاة ألفوا في هذا الظرف ذاته مستقى جديداً لدعوتهم؛ فقد اختفى الحاكم ولكن إلى رجعة؛ وليس على المؤمنين أن يعرفوا أين اختفى وكيف اختفى؛ ولكن عليهم بالصلاة والاستغفار حتى يرضى عنهم، ويعود إليهم عندما تحل الساعة، ذلك لأنه اختفى غضباً عليهم لما أمعنوا فيه من الآثام والخطايا، ولن يظهر إلا عندما تصفو قلوب المؤمنين وتصفو نياتهم؛ وفي هذا الاختفاء ذاته، دليل ساطع على ألوهيته وخارق قدرته، وهو في السماء أو في الأرض روح بلا جسم، يشرف على عباده (وإنه ليراهم من حيث لا يرونه)!

هذا وقد مضى إلى اليوم على مصرع الحاكم تسعمائة وخمسة عشر عاما، ولا يزال الموحدون يؤمنون برجعته ويرقبونها؛ ولم يقل لنا الدعاة أنى ومتى تكون هذه الرجعة من عالم الأبدية، وكل ما هنالك أن حمزة يقول للمؤمنين في رسالته الشهيرة، (إنه متى أطلت عليهم رحمة الله خرج ولي الله إمامهم باختياره راضياً عنهم، حاضراً في أوساطهم. .) ويكرر الدعاة هذه الإشارة الغامضة إلى مثول الحاكم ورجعته في رسائلهم، ولاسيما رسالة الغيبة التي أشرنا إليها، فيقولون:(إن مولاكم لا تخلو منه الدار وقد عدمته أبصاركم)(إن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه)(أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم) وأمثالها من الإشارات والعبارات الرمزية الجوفاء. وخلاصة مزاعمهم في ذلك هو أنه متى حلت الساعة، يقوم جند الموحدين من ناحية الصين،

ص: 17

ويقصدون إلى مكة في كتائب جرارة، وفي غداة وصولهم يبدو لهم الحاكم على الركن اليماني من الكعبة، وهو يشهر بيده سيفاً مذهباً، ثم يدفعه إلى حمزة بن علي فيقتل به الكلب والخنزير وهما عندهم رمز الناطق والأساس؛ ثم يدفع حمزة السيف إلى محمد (الكلمة) وهو أحد الحدود الخمسة، وعندئذ يهدم الموحدون الكعبة ويسحقون المسلمين والنصارى في جميع أنحاء الأرض، ويملكون العالم إلى الأبد، ويبسطون سلطانهم على سائر الأمم، ويفترق الناس عندئذ إلى أربع فرق. الأولى الموحدون وهم (العقال) أو (العقلاء) والثانية أهل الظاهر وهم المسلمون واليهود والثالثة أهل الباطن وهم النصارى والشيعة، والرابعة المرتدون وهم (الجهال)(الجهلاء)؛ ويعمد حمزة إلى أتباع كل طائفة غير الموحدين فيدمغهم في الجبين أو اليد بما يميزهم من غيرهم، ويفرض عليهم الجزية وغيرها من فروض الذلة والطاعة، وأما أصحابه فالعقلاء منهم يصحبون أرباب السلطة والمال والجاه في سائر أنحاء الأرض

والظاهر أن هذه المزاعم الأخيرة في سحق أنباء الأديان الأخرى مستمدة من أقوال حمزة ذاته في رسالته المسماة (النهاية والبلاغ في التوحيد) إذ يقول: (وعن قريب يظهر مولانا جل ذكره سيفه بيدي، ويهلك المارقين ويشهر المرتدين، ويجعلهم فضيحة وشهرة لعيون العالمين؛ والذي يبقى من فضلة السيف تؤخذ منهم الجزية وهم صاغرون، ويلبسوا الغيار وهم كارهون)

تلك هي نظرية الدعاة السريين ومزاعمهم في غيبة الحاكم وفي رجعته، وهي نظرية في منتهى الإغراق والجرأة؛ بيد أنه لا ريب في سخفها؛ وقد ألفى الدعاة بعد انهيار دعوتهم في مصر، ملاذا لهم في الشام، فوجهوا إليها أنظارهم، وحاولوا بشروحهم ومزاعمهم الجديدة أن يستبقوا ولاء شيعتهم وأنصارهم هنالك، ومازالت ثمة بقية من شيعتهم إلى يومنا وهم طائفة الدروز

بيد أن الدعاة لم يكونوا مبتدعين أيضا في نظريتهم الجديدة؛ فقد رتبوا فكرة اختفاء الحاكم ورجعته على فكرة قديمة هي فكرة بعض غلاة الشيعة في المهدي المنتظر؛ ومنذ عصر علي بن أبي طالب تتبوأ هذه الأسطورة مكانها؛ ويزعم هؤلاء الغلاة وهم الرافضة، أن عليا لم يمت، ولكنه حي غائب عن أعين الناس مستقر في السحاب، صوته الرعد، والبرق

ص: 18

صوته؛ ومنهم من يقول مثل هذا القول في ابنه محمد بن الحنفية، وأنه مستقر في جبل رضوى من أعمال الحجاز؛ ويقول آخرون وهم الاثنا عشرية إن هذا الإمام المنتظر هو محمد بن الحسن العسكري (وهو أيضا من ولد علي) وأنه لم يمت، ولكنه اختفى وغاب عن الأنظار، ولا يزال مختفيا إلى آخر الزمان، ثم يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا

فالقول باختفاء الحاكم مستمد من هذه الأسطورة القديمة؛ وقد كانت هذه الأسطورة، أعني أسطورة الغيبة والرجعة، وما يكتنفها من الرموز والغموض، مبعث الخفاء دائما؛ وكان هذا الخفاء ذاته مبعث الخشوع والروع في المجتمعات الساذجة المؤمنة؛ وكان مبعثا لأكثر من دعوة بالنبوة والإمامة؛ بل كان مبعثا لدعوى الألوهية ذاتها؛ أليس منتهى الخفاء والروع أن يغيض الحاكم على هذا النحو إلى حيث لا يعلم أحد؟ وقد رأى الدعاة أن يستغلوا هذا الخفاء في تأييد دعوتهم، وأن يبثوا بين المؤمنين جوا من الرهبة والخشوع لذكرى ذلك الذي اختفى ليعود حين تحين الساعة، والذي (يرى ولا يرى)

على أن هناك نقطة غامضة في موقف الدعاة إزاء هذا الاختفاء إذا سلمنا بان الحاكم اختفى ولم يقتل؛ ذلك هو الدور الذي يحتمل أن يكون قد أداه الدعاة في هذا الاختفاء ذاته. فهل للدعاة يد ما في هذا الاختفاء؟ وهل دبروه أو اشتركوا في تدبيره؟ أليس من المحتمل أن يكون الدعاة هم الذين اقنعوا الحاكم بأن يختفي تقوية للدعوة، وتمكينا للزعم بألوهيته لدى الأولياء والكافة؟ بل نستطيع أن نتساءل أيضا، أليس من المحتمل أن يكون الدعاة قد فكروا في اغتيال الحاكم خدمة لدعوتهم، وانهم دبروا مؤامرة لاغتياله أو اشتركوا في تدبيرها واستطاعوا أن يحكموا تدبير جريمتهم، لكي يستغلوا بعد ذلك فكرة الاختفاء على النحو الذي أسلفنا؟ هذه أسئلة قد تخطر على الذهن في مثل هذا الموطن، خصوصا وقد كان حمزة وصحبه أهلا لكل اجتراء، ولا تبعد فكرة الجريمة عن أولئك الذين اجترءوا على زعم الألوهية البشرية، وسفكوا في سبيلها دماء الأبرياء؛ بيد أن هذه مسائل يحيط بها الظلام المطبق، ولا يقدم التاريخ إلينا عنها أية لمحة أو ضياء، ومن المستحيل أن نعاملها بأكثر من فروض عارضة، وستبقى أبد الدهر على التاريخ لغزاً مغلقاً.

بيد أنه من الغريب أن تلقى هذه الفروض المغرقة سبيلها إلى دوائر البحث الحديث. فنرى المستشرق فون ميللر مثلا يأخذ بنظرية اختفاء الحاكم، ويعلق عليها بما يأتي:

ص: 19

(أما أن أخته قد دبرت قتله لخوفها من تنفيذ وعيده لها بالقتل، فهو حديث خرافة، والواقع أن مصيره لم يعرف قط، وعندي أنه طبقاً لكل ما نعرفه من حياته، قد رأى استحالة تحقيق مبادئه في مصر، فاعتزل الحياة واختفى في مكان ما ليقضي حياته بعيداً عن الأنظار لكي يعتقد أنصاره على الأقل أنه هو (الناطق) حقيقة (ناطق الزمان) وأنه سيعود من رمسه آخر الزمان في شخص الإمام أو المهدي؛ وهذا ما لا يزال ماثلا إلى اليوم في عقائد الدوز)

أما نحن فمازلنا نرجح فكرة المؤامرة والجريمة: وسواء أكانت المؤامرة من تدبير ست الملك، أم من تدبير أبن دواس، أم كانت من تدبير الدعاة أنفسهم، وسواء أكان الذي ارتكب الجريمة هم عبيد ابن دواس، أم البدو الذين اعترضوا الحاكم ليلة اختفائه: أم آخرون لم يعرفوا: وسواء أكانت البواعث السياسية أم البواعث الدينية هي التي أملت بتدبير المؤامرة وارتكاب الجريمة، فإن ما لدينا من الروايات والقرائن على أن الحاكم قد زهق ضحية الجريمة، يرجح في نظرنا كل فرض آخر مما استعرضنا

وليس من المستحيل أيضاً، أن يكون الحاكم قد اختفى من تلقاء نفسه أو بتحريض الدعاة لبواعث أو مشاريع خيالية أو جنونية قامت في نفسه: بيد أن هذا الفرض يبدو في نظرنا من الضعف والإغراق بحيث له موضعاً من التاريخ.

هذا والظاهر أن فكرة اختفاء الحاكم بأمر الله لبثت مدى حين تردد بين آونة وأخرى حتى أوائل عهد المستنصر بالله، أعني بعد وقوع الحادث بنحو ربع قرن، وقد أشرنا فيما تقدم إلى قصة ذلك المشعوذ الذي تسمى (بأبي العرب) وزعم حينا أنه الحاكم ثم توارى بعد ذلك. بيد أن هنالك قصة أخرى من هذا النوع كادت أن تحدث فتنة حقيقية؛ ففي رجب سنة 434هـ (1043م) في أوائل عهد المستنصر، ظهر بمدينة مصر شخص يدعى (سكين) كان يشبه الحاكم في بعض ملامحه، وادعى أنه الحاكم، وأنه بعث بعد موته وعاد من غيبته؛ والظاهر أنه كان من عصبة الدعاة السريين، وأن الدعاة أرادوا بدفعه إلى هذه المغامرة أن يحاولوا إثارة الفتنة التي خمدت، وأن يطبقوا نبوءاتهم وما بشروا به في رسائلهم من رجعة الحاكم بصورة عملية؛ فالتف حوله فل الملاحدة، من شيعة الدعاة الذين يعتقدون أو يتظاهرون بالاعتقاد في هذه الخرافة؛ وفي ظهر يوم سار سكين وأصحابه إلى القاهرة وقصدوا إلى القصر الكبير، ولما حاول الجند منعهم نادى الملاحدة بأنه الحاكم، قد

ص: 20

عاد من غيبته، فارتاع الجند مدى لحظة ثم ارتابوا في الدعي فقبضوا عليه، وحملوا على صحبه، واشتبك الفريقان في معركة حامية ضجت لها أرجاء القصر، وقتل من الملاحدة عدد كبير واسر الباقون، وصلب سكين وأصحابه وقتلوا بالنبال شر قتلة

وكانت هذه آخر مغامرة من نوعها، ولا نسمع بعد ذلك شيئاً عن أولئك الدعاة الملاحدة أو دعوتهم بمصر. ولا نجد بعد ذلك أثراً لأسطورة غيبة الحاكم أو رجعته إلا في الشام حيث استقرت الدعوة في بعض أنحائه ورسخت حتى يومنا.

(النقل ممنوع قطعاً - تم البحث)

محمد عبد الله عنان

ص: 21

‌النفس وخلودها عند أبن سينا

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

النفس سر الله في خلقه وآيته في عباده، ولغز الإنسانية الذي لم يحل بعد، وقد لا يحل يوما ما. هي مصدر المعارف المختلفة والمعلومات المتباينة، ولكنها لم تسم إلى أن نعرف حقيقتها معرفة صادقة يقينية؛ وهي منبع الأفكار الواضحة الجلية، إلا أن فكرتها عن ذاتها مشوبة بقدر كبير من الغموض والإبهام. ومع هذا فالإنسان منذ نشأته تواق إلى تعرفها جاد في تفهمها، ولا يزال حتى اليوم يبذل قصارى جهده في إدراك كنهها والوقوف على أمرها. وبوده أن يعرف في دقة ماهيتها ويدرك الصلة بينها وبين الجسم ويتبين مصيرها ومآلها. وكيف لا وهو طلعة يحب أن يعرف كل شيء، وهو في معرفة الأشياء المجهولة والأمور المستترة أرغب. وإذا كان قد خطا خطوات فسيحة في سبيل فهم الطبيعة وتوضيح آياتها فنفسه التي بين جنبيه أولى بالبحث والتوضيح، هذا إلى أنه مدني بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن إخوانه وذويه، ومعرفته لنفسه كثيراً ما تعينه على تفهم بني جنسه، وكم بذل الأخلاقيون والمربون من جهد في تحديد الدعائم النفسية التي يقوم عليها إصلاحهم ووعظهم وتعليمهم وإرشادهم. والأديان والشرائع تخاطب النفوس قبل أن تخاطب الأبدان، وتتجه إلى الأرواح أكثر من اتجاهها إلى الأجسام. والثواب والعقاب والمسؤولية الأخلاقية والدينية بوجه عام تدعو إلى التفكير في الروح وخلودها ومآلها بعد مفارقة البدن. ففي أحوال الإنسان الفردية وظروفه الاجتماعية وأبحاثه العلمية وتعاليمه الدينية ما يدفعه إلى كشف ذلك السر الذي أودعه الله فيه والذي آمن به الناس جميعا دون أن يروه.

لهذا كان موضوع النفس شغل الباحثين والمفكرين في مختلف العصور؛ وليس ثمة فيلسوف إلا أدلى فيه برأي وتعرض له بالبحث والتحليل، وربما كان في تاريخه ما يلخص تاريخ الفلسفة بأسرها. بيد أن أبن سينا، فيما نعتقد، قد عني به عناية كبيرة لا نجدها لدى واحد من رجال التاريخ القديم والمتوسط. حقاً إن أفلاطون تحدث عن النفس في محاورات عدة ووقف على خلودها محاورة مستقلة؛ وكتاب أرسطو في النفس ومؤلفاته المسماة (بالطبيعيات الصغرى) تصعد به إلى مرتبة أسمى عالم نفسي عرف في التاريخ القديم. ولم

ص: 22

يغفل أفلوطين أمر النفس في تاسوعاته، وشغل بوجه خاص بهبوطها من العالم العلوي واتصالها بالعالم السفلي ورغبتها الدائمة في أن تعود إلى مقرها الأصلي. ولفلاسفة القرون الوسطى المسيحيين وخاصة أوغسطين وتوماس أبحاث مختلفة في حقيقة النفس ووظائفها. إلا أن هؤلاء جميعاً لا يبدو عليهم الشغف بهذا الموضوع مثل ما شغف به أبن سينا، فإنه يعود إليه غير مرة ويقف عليه جملة رسائل مستقلة، ويتحدث عنه في كل كتبه الرئيسية التي وصلت إلينا. ففي كتاب القانون المعروف يبين قوى النفس المختلفة على طريقة الأطباء ويشير إلى الصلة بينها وبين الجسم. وفي الشفاء يعقد فصلاً مستفيضاً يفصل فيه أراءه النفسية، وفي النجاة يلخص هذا الفصل ويصوغه في قالب مدرسي محكم، وفي الإشارات ينظم في نحو عشرين صفحة عقداً من مسائل علم النفس كله درر قيمة وآيات بينة. وله تعليق على كتاب النفس لأرسطو لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ولم يقنع بهذا، بل كتب رسالة قيمة في القوى النفسية أهداها للأمير نوح بن منصور الساماني، ورسالة أخرى في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، وشرح هبوطها إلى الجسم وحنينها إلى مصدرها الأول في قصيدة مشهورة.

كنا نتوقع وأبن سينا هو الطبيب والفيلسوف أن يستخدم طبه في دراسة الظواهر النفسية وأن يستعين بالملاحظة والتجربة على شرحها وتوضيحها فينمي معلوماتنا ويخطو بنا إلى الأمام في سبيل هذا البحث الدقيق. ولكنه، فيما يظهر: كان يعتقد أن الفصل في مشاكل علم النفس ليس من عمل الطبيب ولا من دائرة اختصاصه، بدليل أنه يشير في القانون إلى بعض نقط متصلة من نفس وقواها قد اختلف فيها الأطباء والفلاسفة، ويصرح بأن الكلمة كلمة الآخرين. وإن استيفاء هذه النقط إنما يتم في كتبهم والواقع إن التجارب المنظمة والأبحاث العلمية الدقيقة المتصلة بالنفس أثر من آثار التاريخ الحديث وحده، بل القرنين الأخيرين فقط، وفي وسط طبي حضر فيه التشريح وحرم من الأدوات الحديثة لم يكن في الإمكان دراسة المخ والجهاز العصبي دراسة تجريبية كاملة. ولا نكاد نحظى بباحث بين المسلمين نحى هذا المنحى التجريبي فيما وراء أبن الهيثم الذي أدلى بآراء في الضوء والرؤية تقترب مما جاء به فيبير حديثاً. وأما ما يذهب إليه أبن سينا من تقسيم المخ إلى مناطق تقابل قوى النفس المختلفة ومن ملاحظات فيسيولوجية شيء فهو ترديد لما قال به

ص: 23

أطباء وفلاسفة اليونان. فقد كان أمامه تراث عظيم خلفه أفلاطون وأرسطو وجالينوس وأفلوطين أفاد منه كثيراً وعول عليه التعويل كله. وإليه يرجع الفضل في عرض هذا التراث في صورة واضحة مهذبة لم نعهدها عند سابقيه، وإذا كان قد فاته أن يتوسع في دراسة المخ والظواهر النفسية دراسة تجريبية فإنه لم يفته أن يفتن في البرهنة على وجود النفس وخلودها افتناناً يستلفت النظر ويستحق التقدير. ولعل ذلك راجع إلى أن النزعة الميتافزيقية والفلسفية البحتة غلبت عليه في كل أبحاثه النفسية

وبالرغم من أن أبن سينا عالة على السابقين في أغلب آراءه المتعلقة بالنفس وأحوالها فإنه قدر لهذه الآراء نجاح عظيم في القرون الوسطى ولدى بعض رجال التاريخ الحديث، فكانت عماد علم النفس جميعه في العالم العربي منذ القرن العاشر الميلادي إلى أخريات القرن التاسع عشر؛ وخلفت آثاراً واضحة في الفلسفة المدرسية اليهودية والمسيحية؛ واتصلت بنسب إلى بعض ما جاء به ديكارت في حقيقة النفس ووجدوها. وقد عرف لها الباحثون المحدثون هذه المنزلة فسارعوا إلى دراستها وجمع مصادرها وبيان أثرها في المدارس الغربية. وربما يكون البادرون كارادي فومن أول من لخصوها وحاولوا إعطاء فكرة عنها. فقد عقد لعلم النفس السينوي (نسبة إلى أبن سينا) فصلاً في كتابه المسمى: ثم جاء الدكتور صليبا أخيراً فتوسع في هذا الموضوع قليلاً في رسالته التي تقدم بها إلى السربون للحصول على الدكتوراه. أما من اشتركوا في نشر مؤلفات أبن سينا السيكولوجية فيجب أن نشير أولاً إلى الدكتور صمويل لانداور الذي نشر رسالة القوى النفسية المهداة إلى نوح بن منصور الساماني سنة 1875؛ وقد وفق في عمله هذا كل التوفيق وأحاطه بوسائل الدقة والبحث الصحيح فاعتمد على أصول عربية وعبرية ولاتينية ليختار النص المناسب والتعبير المقبول؛ ولم يفته أن يرجع إلى المصادر اليونانية رجاء أن يوضح بها بعض عبارات أبن سينا. وعلى ضوء مجهوده العظيم استطاع فنديك بعد ذلك بنحو 30 سنة أن يعيد نشر هذه الرسالة مرة أخرى مع ترجمة إنجليزية دقيقة وفي العام الماضي نشر ثابت أفندي الفندي أحد خريجي كلية الآداب ومبعوثها الآن في باريس رسالة أخرى في معرفة النفس الناطقة وأحوالها. ويظهر أن أثر أفكار أبن سينا السيكولوجية في المدارس المسيحية قد شغل الباحثين ومؤرخي الفلسفة من قديم. ففي النصف الثاني من القرن الفائت

ص: 24

نرى هانيبرج يدرس نظرية المعرفة لدى أبن سينا والبير لجراند. وفي أوائل القرن العشرين كتب فنتر في إحدى صحف مونيخ العلمية مقالاً طويلاً عن الجزء السادس من طبيعيات الشفاء المترجم إلى اللاتينية، وهذا الجزء هو الذي يدرس فيه أبن سينا النفس وقواها وفي سنة 1929 وفى المسيو جلسن مؤرخ الفلسفة المدرسية وأستاذها في (كوليج دي فرانس) هذا الموضوع حقه من البحث، وبين أثر أبن سينا في هذا المضمار بما لا يدع مجالاً للشك

وفي اختصار يمكننا أن نقول إن علم النفس عند ابن سينا كان أعظم حظاً من أجزاء فلسفته الأخرى وكان نصيبه من الدراسة والبحث أكبر منها جميعاً، بيد أن هذه الدراسات على اختلافها ناقصة وغير مقنعة. فبعضها لا يخرج عن ترجمة حرفية أو ملخص غير كامل لآراء أبن سينا. وبعضها يعنى بهذا الفيلسوف لدى اللاتينيين أكثر من عنايته به لدى العرب، ويفصل القول في أثره في الغرب تاركاً جانباً ما كان من أمره في الشرق، وأغلبها ينسى الأساس اليوناني الذي بنى عليه فلسفته عامة وأبحاثه النفسية خاصة. وسنتتبع هنا آراءه النفسية المختلفة مبينين أولا صلتها بالوسط الذي نشأ فيه وبالأفكار الإسلامية على العموم وباحثين ثانياً عن منابعها لدى فلاسفة اليونان وأطبائهم، ومظهرين أخيراً ما كان لهما من أثر في الشرق والغرب.

إبراهيم مدكور

ص: 25

‌من روائع أدب الغرب

الخلود '

لشاعر الحب والجمال الفونس دي لامرتين

ترجمة السيد حسين تفكجي

أحبها فبادلته حبه، فراحا يرشفان أكؤس الغرام تحت ظلال الأشجار الباسقة.

في أفياء الأدواح المنتشرة غنى لها لحن غرامه. فسمعه الطير على غصنه، وأنصت له العصفور على فننه. اختلسا النعيم ساعات معدودة. حتى رمى الدهر سهم التفرقة، فسافرت بعيدة عنه إلى باريس.

انتظر كتابا منها يطمئنه على صحتها يرجع الأمل إلى صدره، والى فؤاده أشعة الحياة. ولكن ساعي البريد أتاه بكتاب نعيها.

مسكينة؟! أماتت (جولي). أو يموت من عاش لأجل الحب؟ لم يصدق عينيه. سار يخبط خبط عشواء، يردد ألفاظها، يقف الساعات الطوال مكانه يرجع أنشودة غرامها.

إنها أمل رحل. وحب مقيم)

نظم قصيدته (الخلود) ' فكانت قطعة من قلبه الملتهب، ونشيدا لفؤاده المضطرب.

قضت (الفير)(كما يدعوها) نحبها. فدبت إلى جسم (لامرتين) يد المرض.

كان في ريعان الشباب. ظن نفسه أنه على طريق الآخرة يسير. فلذا جاءت قصيدته (الخلود) جامعة لشتى معاني الفلسفة، والحب والجمال، والخلود، والحياة والموت.

إلى جولي

شمس حياتنا اصفرت وهي في فجرها. ترسل على جباهنا الذابلة ووجوهنا المنهوكة المتعبة أشعتها المضطربة، وأضواءها الحائرة، التي تغالب طلائع الظلام وتناصب هواجمه. الظل يمتد، النهار يموت؛ كل شيء يزول، وكل شيء يفر ويحول.

كم يهلع المرء لهذا المنظر الرهيب ويرتجف! لشد ما يتراجع وهو راعن الأوصال مضطرب الفؤاد عن شاطئ الهاوية الماثلة أمامه! بل لكم يخفق قلبه الضعيف، إذ ينصت من بعيد لتلك الأنشودة المظلمة!

ص: 26

تلك أنشودة الموت، مازالت تتردد في أعماق صدره، وتنتشر في أنحاء نفسه. وتلك الزفرات المتصاعدة والتنهدات المرسلة، والأنات المخنوقة، والأنفاس المتحشرجة، لهي آهات الحبيب، وزفرات الخليل، وانتحابات الولهى، تضطرب وتتراجع، تتقدم وتتأخر، حول سرير الموت.

الناقوس الصغير مازال يرسل الهمسات، ويعلو بالخفقات. أصواته التي تطويها معالم الفضاء تنبئ الأحياء أن شقياً بائساً رحل، ومكدوداً تاعساً إلى هوة القبر نزل

أحييك أيها الموت، أيها المنقذ السماوي، سوف لا تظهر أمام ناظري بهيئتك المرعبة، وبزتك الموحشة، وطلعتك المشؤومة. إن يمينك سوف لا تشارفني بمرهف ماضيك، أني لا أرى تجهم وجهك، ولا أقرأ في عينيك معالم الجريمة والخيانة، فأنت الذي تنقذنا من آلامنا، تخفف من أحزاننا، تأخذ بيمنانا لتقودنا إلى حيث الرب الرحيم تستعدي رحمته على نكباتنا، وتستنزل رأفته على ويلاتنا.

إنك لا تميت بل تنقذ؛ إنك لا تهلك بل ترحم؛ إن يدك يا رسول السماء تحمل إلي نبراساً إلهيا، يوم تغمض عيناي الكليلتان أجفانهما. تأتي تحت الأضواء المنعشة لتبلل ناظري، وتغمض عيني، والأمل إلى قربك يطفر، يظلله الأيمان، تشده التقوى، فتفتح أمامي عالماً رائعاً

إلي أيها الموت. أقبل واكسر عني أغلال الجسد. بدد عن نفسي قيود الأوصال. أفتح باب سجني واكسر مغالق حبسي وأعرني أجنحتك الرفرافة، وقوائمك الهفهافة. ماذا يمنعك عني؟. لماذا تتأخر؟ ماذا يعيقك عن زيارتي الأخيرة؟ تقدم إلي. فإني أريد أن أرمي بنفسي نحو ذلك الكائن المجهول، حيث أعرف سر حياتي ومماتي

أي شيء فصل عني؟ من أنا؟ ومن سأكون؟.

أموت ولا أعرف ماهية الحياة وسر الوجود، وأذهب وأنا أجهل ما البقاء! ما أنت أيتها الروح المبهمة، أيها الطيف المجهول؛ أيها السر الغامض. قبل أن أردى في لحدي أريد أن أسألك: أية سماء بحقك تسكنين؟ وفي أي عالم تعيشين؟ وأي قدرة إلهية رمتك إلى هذه الكرة المحطمة، حيث عالمنا الضعيف الهشيم، وأي يد إلهية قذفت بك إلى سجنك الفخار، واعتقلك في محبس الطين؟ وأي سر عجيب ربطك بالجسد وربط الجسد بك وأي يوم

ص: 27

تنسلخ الروح فيه عن المادة؟ وتصبح عالما بنفسها، تقوم بأودها دون أن تعتمد على الجسد البالي والجسم الفاني؟

إلى أين تذهبين؟ أتتركين الأرض الجميلة لترحلي إلى قصر منيف؟ هل نسيت كل شيء؟ أم لا زلت تذكرين؟ إن هناك القبر، فهل ستبعثين إلى عالم مجهول جديد؟ أتعودين إلى حياة أشبه وعالم أحكى وأمثل إلى حجر الله، حيث رأيت أشعة الحياة ولمست معالم الوجود. أم إنك ستفصلين من كل شيء تدب إليه يد الفناء؟ وتسير في عروقه دماء البلاء

أستنعمين بمناعم الخلود الأبدية وتلعبين في الجنان غير البالية؟

نعم، هذا أملي الوحيد يا نصف حياتي. تلك هي الأمنية التي بها رأت الروح التي تضيء جوانب صدري طرق الحياة. وكانت عزاء نفسي المتألمة التي قضي عليها بالسجن في هذا الجسد البالي. شهدت ربيع حياتك يرحل وألوانه البهيجة تموت وتذبل، وزهوره المتلألئة تسير نحو هوة الفناء، والحزن مازال يفتك بي، والموت يدير مني الخطوات وأنا أجود بالنفس الأخير، ترتسم على شفتي الابتسامة، وتنهمل من عيني دموع الفرح، مقدماً إليك كلمات الوداع الأخير، منتظراً نظراتك لتشع في عيني قبل أن يغمضهما الموت

أولئك الذين تعلقوا بأذيال المادة، وكانوا أشبه بالقطيع، يسيرون وراء راعيهم (أبيقور سيهتفون (يا له من أمل كاذب خلب قد مضى ورحل، عندما يرون معالم الدنيا قد قضت وانتهت

وذلك العالم الذي مازال يفحص أسرار الطبيعة يود اكتشافها، يدرسها في زاوية مهملة تسمى العقل. سيقطع الدهر في فهم كنه المادة، يعيش في عالم الملموسات، يغفل عن الروح ولكنهم سيهتفون به:

أيها الأحمق، أي كبر سخيف يكسوك؟ أنظر حولك! تأمل بناظريك! كل يبتدئ لينتهي، وكل يدب نحو الفناء دبيبه. إن سيرك نحو هدف ممثل، والى غاية نهائية هي (هوة الموت)

انظر إلى الحقل وقد علت أوراقه صفرة الذبول! ألا ترى الزهرة تتعب وتضمحل ثم تلفظ الأنفاس؟ ألا تشهد في هذه الأحراج الملتفة تلك السدرة العظيمة بجبينها الشامخ ونظراتها إلى العلياء كيف هوت تحت ثقل السنين ورزحت تحت أعباء الدهر، ثم امتدت على العشب النضير المنتشر على البطحاء الأرض؟

ص: 28

ألا تنظر الأنهار تنضب في مجاريها، والبحار تجف في قيعانها، وهذا الكوكب المتلألئ في السماء أخرت يد الزمن ولادته، وهذه الشمس، وما أشبهها بنا! إنها تسير إلى الفناء والعدم، وفي السماء حيث الأموات ينتظرون يوماً به ينعمون.

تأمل حواليك الطبيعية. مرت الأجيال فتكاثفت أتربتها. وتحولت الأعوام إلى ذرات غبار تناثرت في فضائها

إن الزمن بخطوة واحدة يذل من كبريائك، يخمد عزة نفسك، ويطفئ جذوة اشتعالك، يقبر في جوفه العميق الحوادث، ويرمس في لحده المخيف الأيام.

ولكن الإنسان، الإنسان وحده، المجنون الأكبر في هذا الكون! إنه ليظن أن القبور لتسعد بسكانها، ويأمل أن يعيش الحياة ثانية فيها، فيظفر طياتها بالحياة أثر الحياة، ويحلم بالأبدية والخلود، وهو كريشة في مهب زوبعة العدم الهائجة

ليجبكم غيري، يا عقلاء الأرض، يا مدعي الفلسفة. اتركوا لي خطأي، فأنا أهوى فلذا آمل، فإذا كان الخلود خطيئة لا توجد مرسومة إلا في بعض العقول دون أخرى، فكم هذه الخطيئة عزيزة لدي!

اتركوني أيها العقلاء أنعم بجانب ضلتي، إني أحب أن أتمنى وأن أعلل الأشياء، إن عقلنا الضعيف المضطرب يتحير. بلى إن عقلنا ليمسك عن الكلام أمام حججكم، ولكن الإدراك يجيبكم

أما أنا، عندما أرى الكواكب تسبح في السماوات العلى، والنجوم تنحرف عن طرفها المدبرة وسبلها المقررة، واشهد النجم في حقول الأثير اللانهائية يناطح النجم، والكوكب يركض أثر الكوكب، فأنصت لصراخ الأرض، واستسكن لسماع صرخاتها المتوالية تتنهد، وقد شق جوفها، ومادت كرتها هائمة تضطرب، بعيدة عن السماوات وشموسها، تبكي الإنسان المحطم، أبنها العاني، المسرع في طريق الموت الذي هام في حقول الأبدية المظلمة، عندها أكون الشاهد الأخير، والحاضر الفرد، وقد احتاطني المدلهمات، وأمسك بيدي الموت إلى جوف الظلمات. وبالرغم من ضعفي سأنهض واثباً، لا خوف يدب إلى قلبي، ولا ذعر يمسك علي فؤادي، أفكر فيك، أرقب بفارغ الصبر عودة الفجر الأبدي ليضيء العالم المحطم، حيث أرقب لقاءك وأرجو زورتك

ص: 29

كنت تذكرين دائماً رحلتنا الهنيئة وسفرتنا الرغدة، يوم نشأ غرامنا الخالد وبدأ حبنا المقيم، فكنا ننعم على ذوائب الصخور القديمة التي شهدت مجد الأولين حيناً، وحينا على ضفاف البحيرة الساكنة، نرقب أمواجها الهادئة، ونستمع إلى أصوات مياهها العذبة، فتحمل نفوسنا على جناح النعيم حيث نسلو العالم الصاخب.

كنت أخوض معك الظلماء التي أنتجها التفاف الأشجار. وأسير جنبك تحت الظلال الوارفة والأفياء المنتشرة، نهبط الربى لنصعد الجبال. لحظة سعيدة مرت أصغينا خلالها لموسيقى النجوم الغامضة، وأصخنا بسمعنا إلى غناء الكواكب الجميل، لا صخب يتخلله ولا ضوضاء تمسك ألحانه

كم دهشنا لهذه الصورة الجميلة التي تغطي العالم، عدنا أدراجنا إلى المعبد، خشعنا أمام الضوء الخافت الذي يرسل أشعة متضائلة تبعث إلى القلب الرهبة، والى الأجسام الرعشة. سكرى من جمال الوجود، كنت ترددين النظر بين الأرض والسماء ثم تهتفين:

(إله الغيب، هذه الطبيعة مأواك، عندما نتأمل بنظراتنا صنع يديك، الروح تراك متمثلا في كل صورة من إبداعك، فهذه الدنيا صورة كمالك: النهار نظرتك، والجمال ابتسامتك. في كل مكان القلب يعبدك، والنفس ترجو أن تدب فيها الأمل وتنفخ طياتها روح العمل

(أيها الخالد اللانهائي القدير الجليل! إن قلمي ليعجز عن وصف اسمك وكتابة حسناتك، والروح التي حبيتها بنفختك تمجد عظمتك حتى تخمد فيها الحركة، وتسكن بين جنباتها الخفقات

(أيها الإله القدير! إن الروح لتخضع لحكمتك العليا وأنشودتك المثلى. تريد أن تطفر نحو علاك، وتثبت إلى سمائك. إنها لتشعر أن الحب هو ختام حياتها، فهي تحترق لمعرفتك وتلتهب لمرآك

كذلك كنت تقولين وبهذه النفثات كنت تناجين. وقلبانا يجمعان التنهدات، يمزجان الأنات، يصعدان الزفرات، يرسلانها صوب هذا الكائن العظيم الذي يدل عليه هوانا، ويشهد لعظمته غرامنا، نخشع بصلاتنا أمامه، نحمل طيات قلوبنا محبته واحترامه، يرسل إليه الفجر تخشعاتنا وتضرعاتنا، ويرفع نحوه المساء تذللاتنا وابتهالاتنا، وعيوننا السكرى بجمال ما صنعت يداه، تتأمل بين الفينة والفينة الأرض حيث نفينا والسماء مسكنه.

ص: 30

أواه! في هذه اللحظة والروح على وشك الفرار تريد البعاد، تود تحطيم السجن. هو ذا الإله يطل علينا من عليا سمائه، يستجيب دعانا، ينظر إلى شكوانا نظرة عطف تنقذ كلينا.

إن روحينا تريدان أن ترجعا إلى حيث وجدتا النور. واستشفتا الضياء. تريدان أن تقطعا معاً خضم هذا العالم إلى النهاية المحتمة، يداً بيد، ووجهاً إزاء وجه. حتى تصلا على جناح الحب إلى النهاية. فهي تصعد كضوء النهار إلى أن تنتهي إلى حيث الإله الخالد، وترتمي تحت أقدامه متعانقة باكية.

هذه الأفكار: أتراها تغشنا وتخدعنا؟

أواه! أللعدم خلقت أرواحنا؟ أللفناء كانت حياتنا؟ أتشترك الروح في مصير الجسد إلى العدم، ويلتهمها جوف القبر الغامض كما تلتهم الضواري اللحم، ويضيع بين ترابها العظم؟ أتعود إلى التراب الذي منه نشأت، أم تطير في الأجواء ولا تستحيل إلى هباء؟ أم تراها تتبدد في الفضاء، كما تتبدد صرخات صوت قذفته عروس حسناء؟

بعد حسرة ضائعة، وزفرة راجعة، وتوديعة باكية، أترى يفنى المحب، ويطوي الدهر في صفحات كتابه غرامنا؟ أواه؟! إن هذا السر العظيم لا يعرف كنهه إلا أنت. ألا انظري موت من أحبك (الغير) أجيبي. ردي علي!

حسين تفكجي

ص: 31

‌وطني في عرس الحرية

للأستاذ عبد المنعم خلاف

عرش الشمس، عليه صباح مشرق، كله أضواء وأنداء وأغاريد وطوالع سعدٍ، واستهلال مجد

يَرِفُّ فوقه علم هو النمو والخصب والعلا وإقبال الأيام، رفيف القلوب حوله والأجفان فيه

وعلى العرش ملك يومئ الزمن باسمه إلى تاريخ وقف، وتاريخ أقبل. . . . وبشبابه إلى ربيع مخضر يلف بنت النيل بطيلسانه وريعانه فتنبت الورد والشوك. والغصن والرمح، للجمال والقوة. فهو ملك وكلمة من كلمات الغيب ألهمها (فؤاد) فوضعها فيما وضع من أعلام المجد

وأمة صهرت الفتن جوهرها نصف قرن، فخرج صافياً غير مدخول ولا زائف، قد (تكتل) وتجمعت ذراته، وتضائلت خلاياه، ونشطت عضلاته، ونهض في مركزه بين مشرق الشمس ومغربها صلب العاتق كالأهرام، رشيقا كالنيل، رهيبا كالصحراء، ينتظر أن يحمله الزمن رسالته الحديثة

وشعب يبدو كخلية النحل، يعمل في رأي مجتمع، ونشوة بعذوبة الوحدة بعد مرارة الفرقة، وحيرة الادلاج والسري خمسين سنة في مجهل السياسة، وقد ترك على الطريق جثثاً صرعى ونفوساً هلكى، فلما عسعس الليل وملّ الحادي وحار الدليل، أسعفه القدر بانفلاق الإصباح وإقبال النور والهدى إلى الغاية

وتاريخ يمسك قلمه القديم الذي كتب به أولى صحائف الحضارة والعلم ليكتب صحيفة جديدة نرجو ألا ينقضي مداها ولا يأفل سناها

وأرواح حائمة من الأبوة الأمجاد تصلي في ملكوت السموات أن يحمي رحمن العالم أرض الذرية ووصلة الشرق بالغرب.

وشيوخ محنكون يضعون الأساس ويخلقون الجو الجديد للروح والجسم، بالقلم والسيف، للمجد والحق.

وشباب ملتهب الفؤاد مسعر الروح، يريد أن يقيم البناء بنجوم السماء. . لا يدري ماذا يقدم من مطالب الوطنية ورغائب الحياة الجديدة، فما يولد يوم إلا ومعه إلهام منه يتنزل على

ص: 32

العقول بمعنى من معاني توكيد الاستقلال والتأهيل لاستكماله، لأنه يشعر بالعظيمة التي ألقيت على كاهله في عصر الانتقال وتغير مجرى التاريخ، وإليه مآل الحوادث وقرار النتائج

ذلكم هو وطني من بعد. . أبي وأبوكم الرحيم أيها المصريون! تشيع منه في عيني صورة حاضرة على غيابه، مجلوة على احتجابه، طائفة في المُصبح والمُمسي، والخلوة والجلوة

وقد شاء الله أن تعود الحرية النائية إلى ربوعه وأنا عنه بعيد، فلم أشهد مواكبها وعرسها على الجباه والشفاه، ونشوتها في الأرواح والأشباح، وأملأ فراغي من فرح الحياة بها كما ملأته من الأسى عليها وهي حمراء دامية. . واضحك للبلسم كما بكيت للدم!

ولي ولع برؤية الجماهير ورصدها، وللجماعة في أعصابي سحر. . . عجيب يجدد إيماني بقوة الذرة إلى الذرة. إلى الصحراء، وبالقطرة إلى القطرة. . . إلى الدأماء، وبالإنسان إلى الإنسان. . إلى الدولة. فكانت مناي أن أرى الشباب الذي طالما خر إلى الأرض شهيداً يخر للأذقان ساجداً تحت رجفة من هتاف الزعيم (اسجدوا. . اسجدوا لله شكرا)

طلع الفجر يا بني أبي! وانفجر الضوء، فاغسلوا قلوبكم بنوره، ونقوا ضمائركم بطهوره، وأشيعوا معانيه في صدوركم، وسلطوه على أوكار الظلام والضعف والجهل، واقتلوا به الحشرات المخربة الدنيئة. . . ثم أجمعوا أمركم لسفر طويل في طريق وعر مملوء بالإشراك والتعاسيف والمتاهات والزحام والسعالي والغيلان. . وجثث الأمم الوانية الخطى، الخرقاء التدبير، المتخاذلة القوى، المفرقة الهوى. . . طريق المجد!!

وقبل السير قفوا وتلفتوا إلى الخلف، وسرحوا الأبصار في معالمه، وتذكروا أغلاط الماضي واستوحوا هداه وعبره، فإن ذلك أحرى أن يطرد معه السير على الجادة دون انحراف إلى بنيات الطريق

بغداد

عبد المنعم خلاف

ص: 33

‌حول رأيين في

الوحدة الإسلامية

للأستاذ حسين مروة

لنكاد نلمس اليوم في مظاهر الحركة الإصلاحية القائمة في ديار الإسلام وأمة القرآن الكريم - اتجاها جديدا يغتبط به كل مسلم يستشعر في نفسه الأيمان الحق، ومظهرا مباركا يرتاح إليه كل موحد يحمل في صدره عاطفة الخير الصريح، وإننا - إلى اغتباطنا بهذا الاتجاه - لنزداد طمأنينة إليه إذ نتلمس بين عوامله وأسبابه عامل النضج الفكري وفهم الحقائق المستوحاة من ملابسات الحياة وروحية الدين الإسلامي الحنيف. وإننا لنذهب في طمأنينتنا واغتباطنا هذين مذهباً أبعد مدى، إذ نشهد بين العاملين على هذا الاتجاه طائفة رجال الدين التي يرى كثير من المشتغلين في هذا الحقل إنها السبب الأول في إخفاق الحركات الإصلاحية التي نشأت في الأعوام المتأخرة لتوحيد كلمة الأمة الإسلامية وجمع رأيها الشتيت ورتق ما فتق التاريخ من مجدها السني وعزها الرفيع.

وفي الحق أن طائفة رجال الدين هذه كانت في عصور التاريخ الإسلامي الأولى هي العنصر الصحيح الذي عمل للإسلام أكثر مما عملته العناصر الأخرى، إذ بينما كانت هذه العناصر تحمل المعاول لهدم صروح الوحدة الإسلامية الشامخة - كان علماء الدين يجلسون إلى القرآن والحديث الشريفين يستوحونهما حقائق الدين؛ ويستهدون بنورهما المبين إلى حل المشكلات وتوضيح الغامضات، يجتمعون على ذلك فيما بينهم وإن باعدت المذاهب بين صفوفهم، ويتواصلون تواصل الأرحام وإن حاولت أهواء السياسة أن تنثر جماعاتهم نثراً وأن تستغل بساطتهم البريئة استغلالا، وأن تستثير حفائظهم الدينية لتأييد اغراضها، فتراهم - على هذا كله ينصرفون عما حولهم من شؤون إلى دراسة، أو تدريس، أو تأليف، أو مناظرة علمية مهذبة الحواشي طاهرة المقاصد موطأة الأكناف بالسماحة الرحبة والتساهل العذب وأدب البحث النزيه. وإذا كنت ترى في مخلفات هذه الطائفة في عصورها تلك من المؤلفات والدراسات ما لا يدل على شيء من هذا الذي نقول - فإنما هو النادر الذي لا يصح القياس به، أو هو مما ألحت عليه السياسة بأسبابها ونوازعها الأثيمة. وهكذا كانت السياسة تلحف بالتنقص من أطراف الوحدة، وتلج في تبديد

ص: 34

الشمل، وتجهد في تضييع الخلق العلمي السمح، واستئصال هذه البقية الكريمة من تراث العصر الأول للإسلام - حتى انثال رجال الدين إلى السياسة، وأنهال العلماء على الدنيا، وكان ما كان من هذه الطرائق المبعثرة، وهذه الأهواء المتدافعة، وهذه الدنيا الإسلامية المليئة بالأحداث الجسام والنوازل المروعة الفادحة

وعفا الله عن رجال الدين هؤلاء ومن خلف من بعدهم إلى يوم المسلمين هذا، فلقد سايروا أهل المطامع، وكانوا معهم إلبا على الدين من حيث لا يشعرون، وكانوا لهم عونا على الإثم من حيث هم غافلون، ونحن لا نشك في أن أصحاب الرأي القائل بأن علماء الدين قد عرقلوا سير الإصلاح في الإسلام - على شيء من الحق، وإن لم يكونوا على الحق جمعية فيما نرى، لأن تخلف هؤلاء عن قافلة رجال الإصلاح الذين قطعوا شوطاً في هذا المضمار - ليس هو السبب - كما يرون - في إخفاق الحركات الإصلاحية التي قامت في هذه الأمة إلى اليوم، لأننا لا نعتقد أن سلطة رجال (الاكليروس) الإسلامي تتناول هذا المدى من التأثير في سير الأمور العامة في دنيا المسلمين، ولعلنا لا نزيغ عن الحق إذا قلنا لأصحاب هذا الرأي إن السبب الأول في فشل المصلحين يرجع إلى عاملين أثنين: أحدهما - كاتبوا التاريخ الإسلامي أنفسهم الذين أمعنوا كثيراً - علم الله - في تملق السياسة ومجاراة أهواء النفوس من أي حزب كان هؤلاء ومن أي شيعة ولون، جعلوا تاريخنا مثارا للحزازات وموقظا للنعرات كلما شاء الزمان أي يبدلنا بشرنا خيراً، وبفرقتنا اجتماعا، وشر البلية في هؤلاء أننا مرغمون على قرائنه فما الحيلة إذن؟. ترى هل يعمد القائمون على فكرة الإصلاح إلى ما كتب المؤرخون عن عصور القلق الإسلامي فيقطعون ألسنتهم فيما يتحدثون به إلينا من فضول الأحاديث؟.

وأما العامل الثاني فليس في قراء (الرسالة) الكريمة - كما نعتقد - من يجهله، أو ليس هو (الغرب) الغازي. . . المظفر. . .، ويعلم القراء ما وراء هذا من شجون الحديث وشؤونه الرائعات.

هذان ما نعتقد أنهما السبب الأول في تمزيق شمل المسلمين. وإذا كان لرجال الدين من أثر بعد هذا، فذلك هو استسلامهم إلى هذين العاملين استسلاماً ساذجاً أخرق، ولا نقول عنه إلا ذلك. . .

ص: 35

ونعود الآن لنقول ثانية: إن هذا الاتجاه الحادث في دفة الحركة الإصلاحية، يزيد في اطمئنانا إليه أن بين عوامله وأسبابه فهم أولي الشأن من طوائف المسلمين حقائق الحياة المحدقة بهم وأسرار الروحية الإسلامية السمحاء، وأن في صف العاملين عليه طائفة رجال الدين، ورجال الدين هؤلاء المساهمون في هذا الاتجاه ليسوا من الأزهر الشريف وحده، وليسوا من النجف المقدس وحده، ولكن المعهدين الشقيقين كليهما يمدان الفكرة الجليلة المنشودة:(الوحدة الإسلامية) بروح منهما وبسبب من عندهما بليغي الأثر، كريمي العنصر، طيبي المنبت، وهاهي دار (الكنانة) العزيزة، زعيمة هذه الفكرة المثلى وحاملة المشعل المقدس اليوم قد شهدت منذ أيام عالما جليلا من علماء النجف يحاضر في دار جمعية الشبان المسلمين في موضوع (الوحدة الإسلامية) بروح من التسامح جليل البادرة، ويجتمع إلى عظماء البلد الإسلامي الكريم يحادثهما حول هذا الشأن فيلقي في رجال العرش المؤثل الرفيع كل العطف، ويشهد في أوساط الأزهر العظيم أبلغ المثل على نضج الفكرة، ويأنس من علية البلد وزعمائه الأبرار ومن حملة العلم والقلم ورجال الفكر فيه - ألمع الدلائل على قرب اليوم السعيد، إذ يصبح المسلمون إخواناً كأنهم البنيان المرصوص تظلهم جميعاً راية التوحيد العليا.

ولكننا - ونحن نعرض لهذا كله - نرى من واجبنا أن نقول كلمة في مرحلة ثانية للموضوع، وهي التي أردناها أول ما أردنا أن نكتب في هذا الباب، ذلك أن للموضوع مرحلتين: أولهما - حاجة الأمة الإسلامية إلى الوحدة الشاملة الكبرى، وهذه قد فرغ الباحثون من التدليل عليها، ووضعها في ميزانها الصحيح، وفرغ كذلك المصلحون منعقد الضمائر على الإيمان بها وجعلها مثلاً أسمى تستهدفه النفوس، وتستهون في سبيله الجهود. والمرحلة الثانية هي: قضية العوامل والأسباب القرب أثراً وأعظم فعلا في تحقيق هذه الأمنية الغالية والمثل الرفيع.

هذه المرحلة الثانية قال الكاتبون والمصلحون فيها ما شاؤا، ولقد طلع على العالم الإسلامي منذ أعوام بعيدة أو قريبة، رأي بهذا الشأن عرفه السوريون أكثر من غيرهم، إذ نشأ - أول ما نشأ - في ديارهم، ويقول أصحاب هذا الرأي إن الخلافات المذهبية - ولاسيما بين طائفتي السنة والشيعة - هي مصدر الفرقة، وهي مصدر البلاء والشقاء، وإذن فلنعمد إلى

ص: 36

قلع هذا الوباء من أصله، ونجذه من جذوره، بأن نجمع المسلمين كافة على مذهب واحد يستخلص من مجموعة هذه المذاهب على ضوء القرآن والحديث، ولكن هذا الرأي لم يكد يظهر حتى اختفى دون أن يثير وراءه جدلا ولا بحثا، ودون أن يترك بعده صوتاً لنادب عليه أو شامت به؛ وهاهو ذا اليوم يظهر ثانية على لسان سماحة العلامة الزنجاني - ومن النجف كذلك -، فإذا هو يلقي هذه المرة في مصر وفي ديار الشام غير ما لقي أول مرة، وإذا هو موضوع بحث وعناية من العلماء ورجال الفكر وأولي الشأن الجليل في القطرين الشقيقين. وبينا نفكر في إدلاء دلونا بين الآراء في الموضوع وإذا (الرسالة) الرفيعة تطلع علينا فنستقبلها بالهمة الروحية التي نستقبلها بها في كل مرة، ونقف - أثناء سبرها - على مقال جليل للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي في الموضوع نفسه وبعنوان:(الوحدة الإسلامية) وللأستاذ حرمة في النفس حملتنا على أن نجمع الفكر إلى مقاله، فإذا هو يقول فيه ما كنا نحاول أن نقول في الموضوع قبل ذلك، وها نتقدم إلى (الرسالة) الغراء بهذه الكلمة العاجلة تأييداً لرأي الأستاذ الصعيدي الذي تفرد به بين من عرضوا لهذا (المشروع) بشيء من القول:

في الحق - يا سيدي الأستاذ - أن محاولة توحيد المسلمين عن هذا الطريق الذي يقولون، لهي - شهد الله - عامل جديد على توسيع شقة الخلف بينهم، وتهديد هذا الكيان الحاضر - على هزاله - بالاضطراب فالاضمحلال.

ليس هذا أوان التلبيس والإبهام ونحن نبحث أمراً حيوياً له خطره وله عواقبه الجليلة ونتائجه المرموقة، فلنقل - إذن - بصراحة: إن خلاف الطائفتين في أصول العقائد حقيقي، وليس هو - كما قالوا - ظاهري قشري يستطاع (تصفيته) في اجتماع أو مؤتمر أو ما يشبه هذا. ولنقل كذلك - بمثل هذه الصراحة -: إن من العسير، بل من المتعذر، أن نحمل أية من هذه الطوائف على التزحزح عن مبدأ واحد من مبادئها أو أصل واحد من أصولها - قيد شعرة، بعد أن أصبحت هذه المبادئ والأصول عقيدة في العقائد. ولا نظن السادة أصحاب هذا الرأي يجهلون أن العقيدة جزء من كيان المرء لا ينفك عنه مادام كياناً ينسب إليه ويتميز به، ونظننا في غنى عن التبسيط بهذه الناحية، وفي مباحث العلوم النفسية والاجتماعية وفي منطق الواقع نفسه ما يغني عن التبسط والتدليل

ص: 37

ولنفرض - جدلاً - أن اجتمع نخبة من علماء كل طائفة، وتجرد هؤلاء عن اعتبارات المذهب، وموحيات العقيدة، وبحثوا الأمر بحثاً علمياً صريحاً مستهدين بروح الإسلام الأعلى ومبدأ القرآن الأول، ثم أقروا جملة من المبادئ والأصول قد تكون مزيجاً من مذاهب شتى وقد تميل إلى مذهب دون مذهب - لنفرض هذا كله، ولنجعله بمكان من الاعتبار الصحيح، ولكن من يضمن لنا هذه الدهماء أن تتنازل عن عقائدها لقاء ما يقول لها العلماء، هكذا قضى البحث وقواعد العلم، وهكذا تشاء مصلحة الإسلام. أو أن تتقبل هذا المذهب (الجديد) بطمأنينة ورضا واقتناع، ومن يضمن لنا كذلك هذا التاريخ الأرعن أن يوقظ النعرات من جديد فنستهدف مشكلة جديدة ونضيف إلى هذه المجموعة (الضخمة) من المذاهب مذهباً جديداً، أو قل: عاملاً جديداً على صدع الصف وخلق الفوضى التي نحاول أن نبيدها من الوجود؟.

لا. لقد جاء الأستاذ الصعيدي - حفظه الله - بالحق إذ نحا غير هذا المنحى في سبيل الإصلاح وجمع الشمل. ولقد نحونا مثل هذا كذلك في مقالات نشرتها جريدة (الهاتف) النجفية ناشدنا فيها هيئة العلماء العليا في النجف أن يعتبروا هذه الخلافات في أصول العقائد بين المذاهب الإسلامية، كما يعتبرون هذه الخلافات في الفروع بين مجتهدي المذهب الواحد، وأن تمد مدرسة النجف يدها إلى شقيقتها الكبرى مدرسة الأزهر، وأن يتبادل المعهدان الكريمان البعوث العلمية ويوحدا مناهج التعليم فيها وأن يشتركا في الرأي كلما حدث في الإسلام حدث من إصلاح أو تثقيف، أو تأليف، أو تأسيس الخ.

هذه هي الخطة المثلى التي نرجو أن يعتبرها المصلحون من علماء الطائفتين قاعدة لأعمالهم في سبيل الوحدة الإسلامية المنشودة. وإننا لنرجو أن يكون لنا في هذا الاتجاه الإصلاحي الجديد - سبب أي سبب في تحقيق هذه الأمنية الحبيبة.

وأنا أرجو - في ختام كلمتي - أن أحقق أمنية تعتلج بالصدر في أن أشد الرحال في اليوم القريب إن شاء الله إلى الأزهر العظيم رجاء أن نشق الطريق إلى تواصل الأرحام بين المعهدين الشقيقين، وتحقيقا لمقترح الأستاذ الصعيدي الكريم، والله ولي الأمر.

حسين مروة

ص: 38

‌دعابة الجاحظ

بقلم محمد فهمي عبد اللطيف

كان أبو عثمان الجاحظ لوقته شيخ الأدب، وفخر العرب، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدل، وكان إلى جانب هذا كله ظريفاً مرح النفس، يحرص على النادرة ويحتفل بها، ولو كان فيها ما ينال من شخصه، ويمسه في سمته. ولما كان الأدباء قد أكثروا القول عن الجاحظ في أدبه وفنه، وعلمه وتحقيقه واقتداره على الكلام والجدل، فقد رأينا أن ننظر إليه في دعابته ومرحه؛ وإنها لناحية للباحث فيها مراد ومنزع، وللقارئ منها متاع ولذة. ولعل من الخير قبل الإمعان في البحث أن ندحض وهما يقوم في رؤوس بعض الناس إذ نجدهم ينكرون ذلك على الجاحظ وأضراب الجاحظ، لأن كرامة الأديب أو العالم في رأيهم أكبر من أن تكون مصدر عبث ومجانة، وأرفع من أن تبتذل في الضحك والتنادر، وقديما قيل: ليس لمزاح مروءة، ولا لممار خلة. ولقد رأيت ابن قتيبة لما أراد أن يثلم الجاحظ لم يدخل عليه إلا من هذه الجهة إذ قال: إنه كان يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث. وفات هؤلاء الناس أن الإنسان حيوان ضاحك باك بطبعه، وأن الله قد خلق فيه الضحك قوة تعينه على استساعة هذه الحياة المريرة، كما خلق فيه البكاء قوة تقف به موقف العظة والاعتبار. وقد روي فيما روي عن الحسن البصري أنه قال: حادثوا هذه القلوب فأنها سريعة الذبول، وارعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إن لم ترعوها تنزع بكم إلى شر غاية!! ومما جاء في التاريخ أن عبد الله بن طاهر جلس مجلسا أنصف فيه من وجوه القواد، وأمراء الأجناد، وضرب العناق، وقطع الأيدي، وردّ كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس، فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا قباءه، وهذا إزاره، فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه نحو البستان وهو يتغنى:

النشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكف عنم

قال عيسى بن يزيد: وكنت جريئا عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى وقيصر، ثم تعمل الساعة عمل علوية ومخارق؟! فردّ ثوبه على عاتقه وهو يقول:

ص: 39

لابد للنفس إن كانت مصرفة

من أن تنقل من حال إلى حال

ومن أولى - رعاك الله - بأن يصرف نفسه من حال إلى حال، ومن أحق بالاسترواح والانشراح من ذلك العالم أو الأديب الذي يصهر ذهنه في خدمة الإنسانية، كالذبالة تضيء للناس وهي تحترق؟ وهل هو يفعل في ذلك إلا ما تقضي به إنسانيته، وتدفعه إليه طبيعته؟ فإذا طاب لنا أن نقف بهذا وأمثاله موقف التزمت والوقار في كل فترة من فتراتهم، فنحن في الواقع نجردهم من نصف إنسانيتهم ونعطل فيهم قوة خلقها الله لهم مباءة للرفاهية والراحة، بل نحن نبقي لهم حياة هي الكرب الآخذ بالخناق، والجحيم الذي لا يطاق (وإني لأعجب لبعض الناس أن تطرق إلى عقولهم تلك العقيدة الغريبة وهي أن حياة الأبرار في الجنة، أرفع وأشرف من أن يدخلها الضحك، ويكون فيها التنادر. ولقد رأيت كثيرا من هؤلاء يهيئون نفوسهم في هذه الحياة الدنيا لاستقبال تلك العيشة العابسة التي يزعمونها في دار النعيم، فهم يطردون من صدورهم كل ميل إلى السرور والانشراح، ويكشحون عن صحائف وجوههم كل لمحة من سنا البشر والطلاقة. وكثيرا ما أصادف في غدواتي أحد هؤلاء العابسين فينظر إلي كمن عرفني نظرة موحشة شزرة، كأنما هو قاضٍ سماوي قد هبط إلى هذا العالم ليحكم بأقصى العقوبة على كل من يعرف، ومثل هذا الرجل يقطع ولاشك ذنب هرته إذا هو صادفها تعبث به، فبالله سله من علم الهرة أن تعبث بذنبها؟!.)

هذا وللجاحظ في هذا المعنى كلام حسن هو من أقوم ما قيل في بابه، وأدق ما أتى في معناه، وإنما ساق الرجل الحديث في ذلك وهو ينضح عن نفسه، ويدحض شبهة كالتي نعالجها، إذ خاف - وهو العالم الأديب - أن يتهم بالنزق والسفه من أجل ما يستروح به من المزح والفكاهة، وبسوقه من الطرف والتنادر. والظاهر أن مسألة الجد والمزاح كانت من المسائل التي شغلت الأذهان في عصر الجاحظ، فكثر حولها القول، وطال فيها الخلف والتضارب، وما كان ذلك إلا نتيجة لازمة لتلك الحياة الفكرية التي كان عليها القوم، وهي حياة مضطربة لم تأخذ وضعها من الاستقرار بعد، ولم تكن قد خلصت من شوائب الأخذ والرد، فهناك علماء الفقه والسنة مازالوا يتلمسون نصوص الشريعة يطبقونها على ما أمامهم من مظاهر وظواهر، وتبيان ما هو حلال منها وما هو حرام، والى جانب هؤلاء جماعة يتولون الوعظ بأحوال السابقين، والزجر بالقصص والآثار، وإن فيهم من لا يتورع

ص: 40

عن التزيّد والافتراء، والحشو والكذب، لتأييد أمر له فيه غرض ومآرب. وثمة عناصر فارسيةً من الشعراء والأدباء لا يتحرجون من اقتحام الدين والخروج على الأوضاع، فكل همهم إشباع الجسد، وإمتاع القلب. وفيهم من يذهب في التظرف مذاهب، فكان من الطبيعي أن تقوم مسألة (المزاح) عند كل فريق من هؤلاء باعتبار، وأن يجري فيها القول على خلافٍ، إذ لكل هوى ومنزع، وقدعرض الجاحظ أقوالهم أجمل عرض فقال:(وقد ذهب الناس في المزاح إلى معانٍ متضادة وسلكوا منه في طرق مختلفة، فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان) وبعد أن أتى الجاحظ على جمل هذه الأقاويل أخذ في إعلان رأيه فقال: (ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة، كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، وقد يكون الكلام في لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه معنى الجد، ولو استعمل الناس الدعابة في كل حال، والجد في كل مقال، وتركوا التسجيح والتسهيل، وعقدوا أعناقهم في كل دقيق وجليل، لكان السفه صراحاً خيراً لهم، والباطل محضا أردّ عليهم، ولكن لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل، فأن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد، وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، فأما أن يذم حتى يكون كالظلم، وينفى حتى يصير كالغدر فلا، لأن المزاح مما يكون مرة قبيحاً ومرة حسنا، ولا يكون الظلم إلا قبيحا، وبعد: فمن حرّم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة، وفرع من فروعه الطلاقة، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة، ولم يأتنا بالانقباض والقسوة. .)

ولاشك أن الجاحظ في رأيه هذا قد وقف موقف العدل والأنصاف، وقال قولا هو غاية القصد. ولقد أحسن الرجل كثيراً إذ راعى (المقام) في حكومته بين الجد والمزاح، فقال بأن (لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل) نقول: بل وكذلك كل شأن من شؤون هذه الحياة، وما أحسب أحداً في الناس يجهل أن وضع الندى في موضع السيف مضر، كوضع السيف في موضع

ص: 41

الندى؛ ولكن قل في الناس من يتعرف الوضع المناسب، ويتبين المقام المشاكل، وما ذلك في الواقع إلا مسبار الذكاء، ومحك البراعة، وهل التنادر يقوم إلا على قوة المفارقات، والتمييز بين المناسبات؟ وهل الرجل الذي يلقي بالنادرة في موقف العظة والاعتبار، أو يخلق الضحكة ينطلق بها فمه بين مظاهر الأسى والحزن، ألا نزق طائش، بل قل سفيه لا يحس بالواجب، ولا يقدر العواقب، وسرعان ما ترمقه العيون بالنظر الشزر، ويقعد في الجالسين مقعد الثقيل المملول، وربما كانت نادرته حلوة رائعة، وضحكته رقيقة حسنة، ولكنه ألقى بها في المقام الكز، واختار لها الموقف الخشن!!

ولا عاب في المزح عند الجاحظ إلا أن الخطأ إليه أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، ومن ثم فهو يرى أن من الصون للأديب أو العالم أن يكون فيه على قصد، وأن يعالجه على قدر، هو قدر الاسترواح والانشراح. ولقد أوضح هذه الناحية إذ يقول:(والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان، وهو باب متى فتحه فاتح، وطرق له مطرق، لم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه ولا يخرج منه بقدر ما كان قدم في نفسه، لأنه أصل بناءه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف، ومن شأنه التزيد، وأن يكون صاحبه قليل التحفظ، ولم نر شيئاً أبعد من شيء ولا أطول له صحبة. .، من الجد والمزاح، والمناظرة والمراء. . .)

وهذا كلام يتفق فيه الجاحظ هو وصاحب حديث المائدة، إذ يقول في كلام له عن الجد والمزاح (أنا لا أمقت منكم ميلكم إلى الضحك، ولا أضن عليكم بالكلمة تضحككم متى قدرني الله على ذلك، فأما أن تطلبوا إلي ألا أقول إلا ما يضحك، وإلى أنفسكم ألا تفعل شيئاً غير الضحك، فذاك مخالف لسنة الطبيعة، وجدير بمن هذا شأنه أن ينقلب قرداً لتوّه وساعته. . . ولذا كان من البلية على الكاتب أو الشاعر أن يسترسل في باب المضحك، فإنه يعوّد الناس بذلك ألا ينتظروا منه إلا ما يضحك وألا يعرفوه إلا مزاحاً، فهم يضحكون معه مادام يضحكهم، فإذا أراد أن يجد وشرع ينطق بالعلم والحكمة ضحكوا منه وهزئوا به). ثم ينظر صاحب حديث المائدة إلى الموضوع من ناحية لم يتمعنها الجاحظ فيقول: (على أن هناك سبباً أغمض من ذلك، ألا تشعر أنك ترى نفسك فوق كل إنسان يتصدى لإضحاكك، سواء بحركات جسده أو بحركات قلمه؟ بل ألا تشعر بأنك تفيض عليه من برك

ص: 42

وإحسانك إذ تمن عليه بتقبلك منه الوثبات الحقيقية أو الشعرية!!. فإذا لزم أدبه، ووقف عند حده فخيراً يفعل، وإذا حاول أن يعلو إلى مقامك الرفيع، فأخذ يدلي إليك من منبر عظته نوابغ الحكم، فبئس ما صنع، وساء ما أتى، وهيهات أن يقوم عندك مقام الواعظ، أو يفوز منك بنظرة الإجلال التي هو جدير بها لعلمه وأدبه!).

وما كان الجاحظ من الدعابة والمزح، إلا في ذلك المقام الكريم الذي اتفق عليه هو وصاحب حديث المائدة، فتجده يستروح بالنادرة، ويتفكه بالدعابة، ولا يضن على السامر بالكلمة تصفق لها القلوب، وترتاح لها النفوس. وإنه في أبحاثه وكتاباته ليبتدع النكتة ابتداعاً، ويحتفل بالنادرة يسوقها إلى القارئ، ولكن كل هذا في المقام المناسب، وعلى القدر اللازم، فما تعدى طوره، ولا خرج عن قدره، ولا أستذل كرامته بالتزيد والإمعان في المجانة. وإذا كان ابن قتيبة قد عاب الجاحظ بالعبث والضحك، فما ابن قتيبة إلا مسرف في هذا الاتهام، وإنه ليطعن الجاحظ في غير مطعن، بل أنه ليريد أن ينكر على الرجل طبيعته البشرية، وكأنه كان يحمله له ضغناً، ولماذا ينكر ابن قتيبة على الجاحظ ما استباحه هو لنفسه في عيون الأخبار من سرد المضاحيك والمعائب، حتى ليقول في مقدمة ذلك الكتاب بلهجة صريحة:(وسينتهي كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به، واعلم أنك إن كنت مستغنياً عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك! ولو وقع فيه توقّي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل عليه معك. . .)، وأحب أن يتأمل القارئ قوله - شطر بهائه وشطر مائه - فيا ليت شعري إذا كان توقّي المزاح والفكاهة سيذهب بالبهاء والماء، فماذا يبقى بعد!؟.

(للكلام صلة)

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 43

‌جولات في الأدب الافرنسي الحديث

تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة

لأستاذ الأدب في جامعة السربون (دانيال مورني)

بقلم الأستاذ خليل هنداوي

(فصول ملخصة من كتاب تاريخ الأدب والعقل الفرنسي الحديث لأستاذ الآداب في جامعة السوربون (دانيال مورني) تبحث تطور الشعر والرواية والنقد والتاريخ والفلسفة) ودانيال مورني أستاذ له مدرسته التحليلية وطريقته الأدبية التي يفرضها على آداب أمته في هذا الجيل! وهو مؤرخ للأدب بطريقة خاصة يكاد يكون بها نسيج وحده. تقرأ كتبه ومقالاته فتشعر باطلاع واسع عميق وجهد كبير وفكر عال استطاع أن يقرأ ويفيد ويحلل فتأخذ منه ما اوجزه فإذا به يخفي طي سطوره القليلة ما يغني!

يكتب بأسلوب سهل كتابة يغلب عليها الأسلوب الأدبي طوراً والأسلوب التحليلي تارة، وهو في كل ذلك حي تجري حياة الفكر فيه، يكتب عن المدرسة الأدبية أو حياة الأديب صفحة أو صفحتين ويقف وإنك لراغب في الزيادة! ولكن وقوفه هو الحاجز الذي يجب أن يقف عنده. ولن يمضي زمن حتى ينشأ هذا الأسلوب الموجز في تحليل الأدب وتعيين مواقفه الحاسمة. وأشهر كتبه المنشورة تاريخ شامل للأدب الفرنسي قديمه وحديثه. وتاريخ لمراحل خاصة للعقل الفرنسي وقد أحببت أن أدرس هذا الكتاب لأنه درس شامل لعقل وأدب. لا يذهب وراء الخيال كثيرا كأنه كل شيء، ولا ينطلق وراء العقل كثيراً كأنه كل شيء. . . لأن صاحبه يرى التأثير متبادلا بينهما، ففيه نرى تأثير العلم في تطور الأدب وتأثير الأدب في الفلسفة. وفيه يرى أصحابنا تأثير النظريات الفنية والعلمية في توجيه الأدب.

(خ، هـ)

رقية العلم عام 1880

لم تبلغ العلوم الطبيعية من الذيوع والقوة ما بلغته في أواخر القرن التاسع عشر. فأن أهم اكتشافاتها ومخترعاتها إنما تمت في عهد قبل عهد الأواخر. فكتاب (داروين) مثلا عن

ص: 44

أصل الأنواع إنما ظهر عام 1859 وكذلك في الأعوام الأخيرة نشأت اكتشافات جديدة غمرت الأرض وألقت في إخلادهم أن العلم قادر على تبديل الحياة الاجتماعية وغير عاجز عن تغيير الحياة ذاتها. وساعدت على نشر هذا الاعتقاد الانتصارات المتتالية في كل ميادين العلم. ولم يقبل عام السبعين حتى ازداد هذا الاعتقاد عنفا ورسوخاً حتى اعتنقه بعضهم كما يعتنق ديناً. على أن الناظر لا يرى خلقا جديداً في مذاهب العلم وأساليبه وأصوله، ولكن غير العلماء كانوا يتحرون في أصوله عن النور الذي ينبغي له أن ينير مسالك الحياة الاجتماعية والحياة الخاصة وما قدر لها. فـ (رينان وتين) قد جمعت آثارهما قبل عام السبعين ولكن الشباب لم يتخذ منهما قائدين إلا بعد هذا العام. وهكذا انتشر سلطان العلم وغلب على كل سلطان وطني على الأدب واصبح موضع الأنظار. وأعلن أحد رسل العلم (برتلو) بعد اكتشافه في الكيمياء مذهب تأليف الأجزاء المتفرقة بأنه بواسطة هذا المذهب يستطيع إنسان الغد أن يصبح المسيطر على عالم الأجساد والنفوس. فهو يضع غذاءه ويخلق عصور الرفاهية التي تتجلى فيها المساواة والإخاء إزاء شريعة العمل المقدسة. كل شيء سجله العلم ويخلقه خلقا جديداً. وكذلك شأن الأخلاق يدركها هذا التطور الذي أدرك الطبيعة

كل شيء في الحقيقة ينتظم ليخضع كل فكرة إنسانية لقوانين العلم. وقد كان علم طبقات الأرض وعلم الآثار القديمة والتوسع فيها كانا ذائعين في القرن الثامن عشر قبل أن تتفجر عن العلم اكتشافاته وتزداد حركته. وهنالك مجامع كثيرة قامت ومدارس نشأت تطلب أن تقيم الدراسة المحض للحقائق بدلا من الركض وراء الخطرات الخيالية اللامعة على غير جدوى. ولكن هذه المطالب كانت لا تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فيها تردد غير المطمئن وشك غير المؤمن. فبقي التعليم وجامعاته والنقد وحركاته أمينة لمذاهب الأدب القديمة التي تعتمد على الذوق والذهاب إلى إحياء فن الأوائل بالخيال، حتى بزغ عام السبعين فبدأت الأذواق تنفر من هذه الأخيلة، ودعا الأدباء إلى اعتناق علم (الألمان) الذين ربحوا الحرب، ليكون منهم علماء في دراسة اللغات ومؤرخون وأساتذة، وأن تكون دراساتهم مرتكزة على بحث الحقائق وتجريدها ونقدها نقداً علمياً. وقد طغت هذه الدعوة العنيفة على جامعات فرنسا وغزت مجامعها الأدبية. فتغير الأسلوب وتبدلت المناهج،

ص: 45

ونرى أثر ذلك في مدرسة (أثينا) الفرنسية التي أخذت تنهج في الدرس نهجاً حديثاً، وفي بقية مدارس أنشئت لهذه الغاية كمدرسة (روما) ومدرسة القاهرة، وفي بعض مجلات علمية أنشئت لتعمل على تشجيع هذا المذهب الجديد!

وقد سرى هذا الارتجاج إلى الفلسفة فخالت أن العلم يبدل منهجها. وبدا أثر هذا الارتجاج في الدراسات النفسية التي كانت تعتمد على الدرس الباطني فبدل نوع هذا الدرس وجاءوا بعلم جديد لدرس النفس لا يعتمد إلا على الفحص والتجريب والبرهان. وخزانة الفلسفة الفرنسية لا تزال طافحة بهذا النوع الجديد من الدرس كآثار الفيلسوف (ريبو) في معالجة أمراض الذاكرة والإرادة والشخصية. وكلها أبحاث قائمة على الفحص العلمي والبرهان العملي الذي لا مجال للخيال فيه وهي تثبت أن أصول علم النفس الروحاني لا تتلاءم مع الأعمال، وأننا بدرسنا - علمياً - لفساد المادة الدماغية ندرس كذلك فساد الفكرة التي لابد أنها مظهر من مظاهرها واثر من تأثيرها.

أما علم درس المجتمعات فهو لا يشبه العلم فحسب، بل يجب أن يكون علماً صارماً في تطبيق مبادئه وفي تطبيق نتائجه، كما هو الحال في علوم الطبيعة ولم ينشأ هذا العلم في فرنسا إلا بعد عهد، ولكن هذا لا يمكن أن يكون وليد المذاهب العقلية. وإنه علم ومنطق يراد به خلق أصوله ومذاهبه. وقد وقف العالم (دور كهايم) جهوده على القول بأن الحوادث الاجتماعية هي حوادث مخصصة معينة يجب اعتبارها كأنها خاضعة لقوانين خاصة يكتشفها علم الاجتماع كما يكتشف علم الطبيعة قوانين الطبيعة

وهنالك فئة علمية تدين بالعلم. هذه الفئة التي قدم لها (رينان) كتابه (مستقبل العلم) هذه الفئة هي التي مشت وراء تعاليم (دارون) وعلى هذه الفئة ثبت مستقبل العلم ومستقبل الديموقراطية، وفي الحقيقة كانت الجمهورية الفرنسية متقلقلة متزعزعة حتى عام 1880، فتألب رجال السياسة والصحافة على استنقاذها من مأزقها، فعمدوا إلى التبشير بكلمات (برتلو) بالمساواة والحرية والاتحاد والسعادة، بالعمل على تأييد العلم الذي يجازى العاملين من أجله بالسلامة والعافية ورفاهية العيش، وهو الذي سيحل عقدة الحياة والوجود.

إن هذه الرقية العلمية غزت الأدب فيما غزت وكان لها فيه تأثير بليغ.

خليل هنداوي

ص: 46

‌دمعة وفاء على المرحوم الأستاذ غانم محمد

بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته

للأستاذ زكي نجيب محمود

أحقاً يا غانم حم القضاء وقام فيك الرثاء؟ أحقاً طاح بدوحك العاتي منجل الفناء؟ وا فجيعتاه؟ قم إذن يا صاح فاهتف بالمحاجر أن تسح الدمع هتوناً سخيناً، وبالحناجر أن تسكب ذوب النفوس أنيناً حزيناً.

عجباً! آستطاع الدهر في لمحة من الزمن، أن يطوي الشمس في ظلمة الرمس؟ آستطاع الموت بلفظة في لحظة أن يدك طوداً كان شامخاً بالأمس؟ أفي اليوم الذي نرجو للأمة فيه غانماً وغانماً، يهوي مخلب الموت، بين أشاجعه رعب القدر، وننظر فإذا غانمنا الواحد قد افتقدناه في مثل اللمح بالبصر؟ حنانيك يا رباه! أأصبت بالمنية غانماً أم أصبت عشيرة في رجائها؟ أرميت بالبلية رجلا أم رميت الرجولة في سويدائها؟ فما كان فقيدنا في عداد القوم واحداً كسائر الآحاد، بل كان ينبوعاً للرجولة دافقاً، وقلباً للوطنية خافقاً، يمتلئ همة حتى ليسكب الهمة في بنيه، ويشتعل حماسة حتى ليبث الحماسة في مواطنيه، لا يدخر في سبيل ذلك ما وسعه من جهد اللسان والقلم. فهأنذا أطوي الليالي القهقرى أعواما ثلاثة، فإذا بالمطبعة العربية تذيع في الناس كتاباً لا يخطف العين مظهره، ولا يضج به في الناس منشئه ومسطره: جان دارك تأليف غانم محمد.

أقبلت على الكتاب حينئذ، ولم أكن أدري عن صاحبه إلا أشتاتاً منثورة، فحسبته بادئ الأمر كتابا من الكتب أخرجه للناس كاتب من الكتاب، فما هي إلا صفحات عشر أتلوها حتى همست لنفسي قائلا: كلا! تالله إن الرجل لكاتب بارع وأديب قدير، اختلجت في نفسه الفكرة عنيفة جبارة، تنشد التصوير والتعبير، فاستجاب لدعوة القلم وكأنه فولتير يثور فيسطر فيثير. نعم لم تكن إلا صفحات عشرا أتلوها حتى أيقنت أن الكاتب منتش مخمور، قبس من صحائف التاريخ هدى ونوراً ليلقيه في جوانحنا لهباً مسعوراً! فما كتابه هذا عن جان دارك إلا منصرف تدفقت فيه أواذي نفسه المضطربة المصطخبة في بيان رائع خلاب. كأنها وحي النبوة يستحيل إلى بلاغ في كتاب.

(استمع إليه كيف يستهل كتابه:

ص: 48

لم اكتب مذ عرفت أناملي قبض القلم وتحريكه، ولم تنطق شفتاي مذ انفرجتا للنطق، ولم يخفق قلبي، ولم يجش وجداني وتنشرح جوانحي، منذ أن خرجت إلى الدنيا، لأمر من الأمور هو أسمى وأرفع واشرف من الغرض الذي أرمي إليه بموضوع اليوم)

ثم أنفذ إلى الختام وأنصت إليه ماذا يقول قبيل أن يضع القلم: (وإني أختم هذا الكتاب مترسماً أثر جان في دعوتها وحياتها وصفاتها، وكلي أمل خالص أن تبعث قراءة قصتها في قلوب القارئين نور الأيمان الصادق ونشوة الوطنية الحقة. . . إن ما حققته جان في مقدورنا أن نحققه، إذا ما ارتفعت بنا، كما ارتفعت بها هي من قبل، أجنحة الوطنية والدين. . . أيتها الفتاة المنقطعة النظير! انفخي فينا من روحك، وبثي فينا من حماستك، لكي نحيا حياتنا ونموت في سبيل الله والوطن!!)

وإذا أنت مضيت بين تلك الفاتحة وهذه الخاتمة، لم تقرأ أسطراً كالأسطر، بل أحسست في الكلم حرارة وقوة وحياة، فهو ثائر حيناً شاعر حيناً، إذا جالت جان دارك في أجنادها زأر القلم في يده زئيراً، وإذا جلجلت جان دارك في أصفادها صرّ القلم من الأنين صريراً. وهكذا صور تتلوها صور، أبدعها صناع فسواها، وألهبها من شعوره فأذكاها. حتى لتقرأ الكتاب وكأنما تخوض في أتون مستعر، أو كأنك تنصت إلى صوت من السماء يهتف بك: تلك جان دارك في فرنساها، وهأنت ذا في مصرك، فماذا أنت صانع ليذكو شعورك الخابي، وينهض بلدك الكابي؟! وهذا النداء في ذلك الحين ما كان ابلغه من نداء حيث كادت تذهل أنفس عن الطموح إلى السماء، فانحرفت إلى الأرض راضية من الغنيمة بالحب والماء!

لم أكد أفرغ من قراءة الكتاب عندئذ حتى حملت قلمي على وهنه وعثاره. ودعوت للكتاب (في الرسالة) لأني آمنت أن الدعوة له صيحة وطنية واجبة، وكلما ازددت للكتاب قراءة ازددت يقيناً بما قلته إذ ذاك من أن غانماً (اخرج بكتابه للناس درة من أثمن ما تحوي لجة التاريخ من درر، ونشر صفحة من أسطع ما طوى الدهر من صفحات، ومن إنه بهذا الكتاب قد أذاع في الناس مثلاً أعلى للتضحية والفداء، ونموذجاً سامياً للوطنية المشتعلة الصادقة ممثلة في جان دارك). وما أزال عند كلمتي التي ختمت بها مقالي من أن غانماً (قد وفق في التصوير توفيقاً بلغ حد الكمال، وأن ليس هذا الكتاب واحداً من الكتب يتلى ثم

ص: 49

يطوى وكأنه لم يكن، إنما هو فيض من الشعور القوي النبيل سيغمرك ويحتويك حين قراءته وسيطبعك بطابع هيهات أن يزول أثره ما بقيت على الدهر إنساناً)

ذلكم هو غانم الذي التقيت به في كتابه منذ أعوام ثلاثة لقاء قارئ بكاتب، ثم التقيت به منذ أشهر ثلاثة لقاء روح بروح، ثم افترقنا فراق الأبد، بعد أن خلف لنا حرارة نفسه وحلاوة جرسه في كتابه الخالد

فرحمة الله ورضوانه على الفقيد الكريم

زكي نجيب محمود

ص: 50

‌شاعر الإسلام

محمد عاكف

بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام

- 2 -

كتب الأديب الكاتب عمر رضا صهر الأستاذ محمد عاكف مقالاً في جريدة جمهوريت التركية بعنوان (أيام عاكف الأخيرة) فأردت أن يطلع عليه قراء الرسالة في هذه الترجمة:

منذ ستة اشهر أرست في استنبول باخرة قادمة من مصر، توسمت النازلين منها فإذا على السلم شبح لم أثبته للنظرة الأولى، فلما أنعمت النظر عرفت الفاجعة؛ وتأوه رفيقي مدحت جمال آهة أعربت عن وقع الفاجعة في نفسه.

لقد انحطم الأستاذ عاكف! ولكنه كان على ذلك، لا يزال متفائلاً يحسب أن هواء الوطن يحييه. ذلك كان ضنه، وذلك ما أمله إلى آخر رمق من حياته. أخبرته يوماً أن أحد أقاربه يود مقابلته. فقال:(لا يشق على نفسه؛ سأزوره أنا حين أستعيد بعض عافيتي)

ولقد حيرني حقاً هذا الرجاء، وهذه القوة الروحية التي رسخت فيه بعد أن آذنه الأطباء بخطر المرض، وضعف الأمل، ورأى هو صحته تضمحل يوماً بعد يوم. كان تفاؤله يملأ نفسي عجباً، فكنت أقول لنفسي: أتراه يريد أن يشعرنا الطمأنينة وينفي عنا الفزع؟ ثم أرجع فأقول: كلا إن هذا الأمل القوي لا ينبع من تعلق البشر بالحياة وإفراطهم في حبها، بل وراءه منبع ابعد غوراً، وأغزر فيضاً، وأسمى مكاناً

كان الزائرون يتتابعون إلى حجرته في المستشفى، وكان في هذه الزيارات إرهاق له. وكان الأطباء يكرهونها ولكنه هو كان يحرص على لقاء أصدقاءه ورؤية أحباءه، وكان يسكن إلى محادثة كل واحد منهم منفرداً ولا يجد في هذا حرجاً ولا نصبا.

ولم يكن بد من تغيير هذه الحال، فدعي الأستاذ لينزل ضيفاً في دار لأحد أصدقاءه القدماء. وكانت الدار في (علم طاغي). وحسب أصدقاء الأستاذ أنه سيجد في هواء هذه الجهة وماؤها بعض شفاءه إلى ما تجدي عليه العناية بنظام الغذاء وتناول الأدوية التي كانت تجلب له من أوربا

ص: 51

فرح الأستاذ كثيراً حين بلغ علم طاغي وسكن إليها. ورسم له أن يهبط المدينة مرة كل أسبوع لزيارة أصدقائه واستشارة أطبائه. وكان هو يقول: سأفترش سجادة تحت شجرة وأنشق الهواء النقي، وأستمتع بحرارة الشمس الصافية، وأحاول أن أسترجع قواي وشيكاً. فإذا آنست في بدني الصحة، دعوتكم جميعاً إلى علم طاغى، وعندي هناك طاه منقطع النظير.

وحق إن الأستاذ افترش سجادته في ظلال أشجار علم طاغي الخضراء، وأنس بها وتمشى في تلك المروج، ولكن مرارة الدواء كانت تنغص عليه جمال المكان ومسراته، بل كانت ترد هذه المتعة الموموقة سماً قاتلاً. وكان يقول: لو إن هذه الأدوية تشرب مرة واحدة كل يوم! لا أكاد اخلص من جرعة حتى ألزم بجرعة أخرى، فأنى لي أن أشهد جمال علم طاغي وآنس لذاتها.

لست أنسى قوله ذات يوم: (يا بني لقد كنت أطوي الطريق من اسكدار إلى علم طاغي سيراً على قدمي لا أبطئ ولا أقف. وهاأنذا اليوم اقطع الطريق لا تمس قدماي الأرض. ولكن ماذا تجديني هذه السيارات وآهاتي فيها لا تفتر. آه لو شفيت فعدت سيرتي أقطع الطريق على قدمي!.) - وأما هواء (علم طاغي) فلم يرد على الأستاذ عافيته بل كانت قواه في خور مستمر.

ليت شعري ماذا ألهمه هذا التفكير العميق الذي دام أشهراً؟ وماذا كان يريد أن يعرض علينا من أفكاره حين يبل من مرضه!! لقد كان نظم (قصة الاستقلال) إحدى أمانيه منذ سنين. وكان يبغي من التجاءه إلى مصر أن يخلص من متاعب الحياة ويفرغ لهذه القصة. فلما هم بهذا طلبت إليه رياسة الأمور الدينية في أنقرة أن يترجم القرآن الكريم إلى اللغة التركية، فأشفق وأبى وأعتل بأن أمامه قصصاً يود أن ينظمها، فلم يقبل عذره وتوسلت رياسة الأمور الدينية بصديقه الحميم أحمد نعيم بك أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة استنبول فاضطر عاكف أن يذعن كارهاً. والحق إن إباءه الإطلاع بترجمة القرآن أول الأمر كان من إجلاله الكتاب الكريم واعتقاده إن إنساناً لا يستطيع أن يؤدي ترجمته على الوجه الجدير به مهما أوتي من العلم والبيان. وكان كلما سئل عن الترجمة قال:(لم اقدر عليها. إنها لم ترضني فكيف ترضي غيري؟.) وقضى الأستاذ سبع سنين في مصر وهو في شغل

ص: 52

شاغل عن ترجمة القرآن، وكانت النتيجة ما رأينا فقد ضاعت تلك السنون وحرم الأدب التركي من أثر خالد. وكان نظم حجة الوداع من أمانيه - هذا المشهد التاريخي العظيم الذي يمثل الرسول في حجته الأخيرة يخطب على مائة ألف من المسلمين، وكذلك كان يريد أن ينظم قصة تمثيلية في الحروب الصليبية وبطولة صلاح الدين الأيوبي، وحالت دون الأماني حوائل، وعاد الأستاذ إلى استنبول عليلاً بدت عليه إمارات الهجوم الأخير من هذا المرض المشؤوم فثقل لسانه قليلاً ولكنه لم يفقد من إدراكه إلا يسيراً

ويوماً تغيرت حال الأستاذ فجأة، وبدت عليه إمارات القوة والنشاط، فكان يتحدث إلى الناس ويستمع إليهم، ويطلب أن يكونوا حوله ولا يرضى أن يترك وحده.

وفي مساء هذا اليوم ضاقت نفسه فلم يلبث إلا يسيراً حتى كانت الخاتمة

(للكلام بقية)

عبد الوهاب عزام

ص: 53

‌سجين شيلون

للشاعر الإنجليزي لورد بيرون

بقلم الأستاذ محمود الخفيف

تتمة ما نشر في العدد الماضي

- 7 -

ذكرت أن أقرب الأخوين إلى مكاني تساقطت نفسه وذوى عوده، وكذلك ذكرت أن قلبه القوي انصدع وانسرقت قوته

عزفت نفسه عن الأكل وعافته، ولم يك ذلك لما كان عليه من قبح ووحشية، فقد ألفنا طعام الصيد ورضنا أنفسنا عليه.

أبدل ما كنا نشربه من لبن تجود به غنمات الجبل، بماء أتوا به من الخندق، وكان الخبز الذي يلقى إلينا على حال أحسسنا معها كأن دموع الموثقين البائسين قد سقته فألانته آلاف السنين، منذ ألقى الإنسان ببني جنسه أول مرة في الأصفاد كما يفعل بضواري الوحوش!

ولكن ما كان ليضيره ذلك أو يضيرنا، لم يكن ذلك ما أذاب قلبه وفت في عضده، فقد كانت روح أخي من ذلك الطراز الذي تتسرب إليه برودة الموت حتى ولو كان في قصر، إذا حيل بينه وبين شعاب الجبال وجوانبه الحادرة. وليت شعري لم أخفي الحقيقة وأؤجل النطق بها. . . لقد لفظ أخي أنفاسه

رأيته يموت ولكن وا حسرتاه لم أستطع أن اسند رأسه، لا ولم استطع أن أمسك بيده وهي تموت ولا بعد أن همدت فيها الحياة، لم أستطع شيئاً من ذلك ولو أني تنزيت في الحديد وحاولت عبثاً أن أفك السلاسل واجعل أصفادي شطرين. لفظ أخي أنفاسه، ففكوا سلاسله وحفروا له لحدا قليل العمق، وقد جعلوه هكذا قريب القرار في مثل تلك الأرض الباردة أرض ذلك القبو

ولقد توسلت إليهم أن يمنوا علي بسلوة لنفسي فيدفنوا جثمانه في بقعة يقع عليها ضوء النهار وهي فكرة سخيفة، ولكنها أوحت إلى نفسي أن قلبه الذي فطر على الحرية لن يجد حتى في ضجعة الموت راحة في مثل ذلك السجن

ص: 54

وكان أولى بي أن أكفي نفسي عناء هذا التوسل، فما أغنى عني منهم شيئاً، إذ ضحكوا في برود ثم وسدوه وسدوا عليه حيث سجنوه، وهناك رقد ذلك المخلوق الذي أجزلنا له الحب تحت أرض منبسطة لا ينبت فوقها عشب، ترتكز فوقها السلاسل المفرغة والأغلال نصبا ملائما لذلك الاغتيال!

- 8 -

ولكن الآخر، ذلك الفتى الحبيب الذي كان يشبه الزهرة، ذلك الذي أعززناه منذ أن رأت الوجوه عيناه، ذلك الذي كان يحمل صورة أمه في وجه صبوح. ذلك الطفل الذي تحب فيه الطفولة جميعاً، ذلك الذي كان أحب وأعز خيال إلى أبيه الشهير، والذي اصبح في السجن آخر ما بقي لأعنى به، والذي كنت من أجله أجهد أن أبقي على حشاشة نفسي، عسى أن يقلل ذلك من شقاءه وعسى أن تتاح له الحرية يوماً ما؛ أقول حتى ذلك الأخ أيضاً، ذلك الأخ الذي ظل إلى ذلك الوقت محتفظاً بروح ذاتية أو موحاة، غلب على نفسه في النهاية ورأيته يذبل كما تذبل الزهرة على غصنها يوما بعد يوم

يا إلهي! إنه لمما يبعث الرعب في القلوب، أن نرى الروح البشرية تنطلق مولية في أية صورة وفي أي موقف، ولقد رأيتها من قبل تنطلق في دم مسفوح، ورأيتها في البحر الثائر تجاهد الموج المنتفخ القاذف، ورأيت المضاجع المحتضرة مضاجع الذين أسرفوا على أنفسهم يشيع فيها الهذيان من شدة الهول، رأيت ذلك كله وما حوى من صور مرعبة، ولكن رزئي في أخي كان فاجعة.

لم يصحب موته هول مما أسلفت، وإنما أسلم روحه مستيقنا غير معجل، وتساقطت نفسه ومضى هادئا وادعا، أكثر نعومه في نحوله، وابرز جمالا في ضعفه؛ ذهب غير دامع المقلتين ولكنه عطوف رؤوف، حزين على من خلفهم وراءه؛ سار للموت وفي وجنتيه نضرة بدت كأنها تهزأ بالقبر! ولقد ذهبت صبغتها في رقة وهدوء كما يتلاشى في السماء قوس الغمام؛ سار وفي عينيه بريق يكاد ومضه يضيء ذلك القبو

مات لم أسمع له غمغمة ولا أنة تحسر على هذا الذي انتابه قبل أوانه. لم أسمع سوى كلمات قليلة عن حياة هي خير وأبقى، وإشارة طفيفة إلى الأمل أراد بها أن يثيره في نفسي إذ قد غرقت في السكون، وأحسست بفقدان روحي في ذلك القفر الذي عظم عندي عن كل

ص: 55

قفر.

وأخيرا توانت وتضاءلت تلك التنهدات التي كان يحاول كتمانها، تلك التنهدات المنبعثة من هزال نفسه المتلاشية

أصخت بسمعي، ولكني لم اسمع شيئاً، فصرخت إذ ذهب الهلع بلبي، فعدت في وحشية المذعور ثم أدركت أني صرخت عبثاً؛ ولكن هلعي ما كان لينهنه بزجر، لذلك عاودت الصراخ واحسبني سمعت صوتا، وإذ ذاك فصمت سلسلتي في وثبة قوية وأسرعت إليه ولكنني لم أجده!

وما فعلت سوى أن رحت أحدق في تلك البقعة القاتمة، وما أحسست سوى أني مازلت حيا وأن رئتي تتنفسان ذلك الهواء الرطب اللعين هواء القبو.

وهكذا انكسرت تلك الحلقة التي كانت تصلني باللانهاية، والتي كانت تربطني بتلك السلالة المضمحلة التي انحدرت منها؛ انكسرت في ذلك المكان المهلك تلك الحلقة الوحيدة آخر الحلقات واعزها جميعا لدي. وبات أخواي أحدهما تحت الأرض والآخر فوقها وكلاهما لا ينبض فيه عرق

أخذت بيدي تلك اليد التي تدلت هامدة، ولكن يدي وا حسرتاه كانت مثلها في برودتها. ولم أعد أجد في نفسي القوة لأن أتحرك أو أناضل، ولكني على الرغم من ذلك أحسست أني ما زلت حيا، وتملكني ذلك الشعور المضطرم الذي لا يقر، ذلك الشعور الذي يكون مبعثه إدراكنا أن الشيء الذي أوليناه محبتنا لن يعود أبداً إلى ما كان عليه. وليت شعري لم عجزت عن أن أضع حدا لتلك الحياة؟ لم يعد يربطني بالأرض أمل. ولكن ظلت لي فيها عقيدتي وهي التي حالت دون أن اقتل نفسي.

- 9 -

أما ما كان من أمري بعد ذلك، فلست أتبينه تماماً. لا أذكر سوى أنني فقدت شعوري أولا بالضوء ثم بالهواء، وأخيراً بالظلمة نفسها. لم أعد أفكر في شئ أو أحس شيئاً، ووقفت حجراً بين الأحجار. كنت كالصخرة الجرداء يغشاها الضباب، إذ لم يكن حولي سوى الفراغ والكآبة والظلام. لم يعد ثمة ليل ولا نهار؛ حتى ولا ذلك النور البغيض نور القبو الذي كان ينفر منه بصري الكليل، لم يبقى إلا الفراغ الذي فني فيه الكون كله فلا أحس

ص: 56

سواه، والوجود الذي لا يرتبط بمكان في معناه!

لم يعد ثمة سماء ولا أرض، ولم يعد ثمة ثبوت ولا تحول ولا زمن ولا خير ولا شر، لم يكن هناك سوى السكون، والتنفس الذي لا يبعث حركة فلا هو إلى الحياة ولا هو إلى الموت.

كنت في بحر من الخمود الراكد تغشاه الظلمة، لا تدرك له نهاية، ولا يسمع فيه صوت، ولا تحس فيه حركة!

- 10 -

طافت بعقلي بغتة بارقة من النور؛ كانت غناء حلوا تغنى به طائر، غناء انقطع ولكنه ما لبث أن عاد؛ ولقد كان أجمل سجع سمعته الآذان! طربت له أذناي حتى دارت عيناي تتبعان هذه المباغتة السارة، في تلك اللحظة لم تستطيعا أن تريا إني حليف الشقاء، ولكن حواسي عادت في خطا كئيبة إلى طريقها التي الفتها، ورأيت جدران القبو وأرضه تدور فتلتف حولي في بطئ كما كانت من قبل، ورأيت ذلك البصيص المنبعث من الشمس يزحف كما كان يزحف من قبل؛ بيد أني رأيت ذلك الطائر في تلك الكوة التي دخل منها الشعاع يقف مشغوفاً أليفاً كما لو كان فوق شجرة، بل اكثر ألفة مما لو كان هنالك. كان طائراً جميلاً ذا جناحين أزرقين وغناء جم المعاني؛ ولقد خيل إلي إنه تغنى بتلك المعاني جميعاً من أجلي! وما وقعت عيناي من قبل على طائر مثله ولن تريا بعد شبيهاً له أبداً. وبدا لي كأنما كان يعوزه إلف كما كان يعوزني إلف، ولكنه لم يصل إلى نصف ما كنت فيه من وجد ووحشة. وكذلك بدا لي إنما قد جاء ليهبني حبه، على حين لم يبق لي من يهبني ثانية مثل ذلك الحب. ولقد جعلتني هذه البشرية المنبعثة من حافة القبو أشعر ثانية وأفكر ولست أدري أكان أطلق سراحه حديثاً أم أنه كسر قفصه وجاء ليطل عليّ قفصي! ولكني أيها الطائر الجميل وقد عرفت معنى الأسر لن أستطيع أن أريده لك!

وليت شعري لعله زائر من الفردوس تنكر في جناحين! ذلك إني كنت أفكر أحياناً أنه ربما كان روح أخي هبطت إلي. ولتغفر لي السماء تلك الفكرة، تلك اللحظة التي جعلتني أذرف الدمع وجعلتني ابتسم ولكنه في النهاية ولى بعيداً عني، وإذن فقد كان من بني الفناء؛ عرفت ذلك حق المعرفة. وإلا فما كان ليذرني هكذا في وحدة أحسستها ضعفين: وحدة كنت

ص: 57

فيها كما يكون الجسد في أكفانه، أو كما يكون السحاب المنعزل: ذلك السحاب الفريد الذي يتراءى في اليوم الضاحي حينما تكون نواحي القبة صافية كلها فيبدو في الجو كعبوس لا موجب لظهوره والسموات طلقة والأرض في بهجة

- 11 -

طرأ على حالي نوعاً من التغير إذ أصبح آسري ذوي رحمة؛ ولست أدري ماذا جعلهم كذلك وقد ألفوا مناظر الشقاء، ولكن ذلك ما حدث. بقيت سلسلتي المكسورة منفصمة الحلقات. وكانت الحرية عندي أن أتجول في صومعتي من جانب إلى جانب، وأن أقطعها طولاً وعرضاً، وأن أطأ أرجاءها جميعاً، وأدور حول كل عمود، ثم أعود إلى حيث بدأت، لا أتجنب وأنا أطأ الأرض بقدمي إلا ذينك القبرين العاريين: قبري أخوي. ذلك أني كنت إذا ظننت أن وطأة على غير قصد مني قد أهانت مضجعهما الخافض، ينبعث نفسي لاهثاً كثيفاً، وينقلب فؤادي المتحطم ضريراً عليلاً.

- 12 -

تسلقت الحائط ولكني ما أردت الهروب. فقد غال الردى كل من كانوا يحبونني من البشر، ومن ثم صارت الأرض كلها عندي سجناً أكثر سعة مما أنا فيه، لم يكن لي ولد ولا والد ولا ذو قربى، ولا شريك فيما ألاقي من شقاء.

ذكرت ذلك فاغتبطت به لأن فكري في هؤلاء قد أورثني الجنون، ولكني كنت أتطلع إلى تسلق الجدار حتى النوافذ التي تعترضها القضبان. كما كنت أتطلع إلى أن أصوب بصري مرة أخرى في هيام إلى تلك الجبال الشاهقة

- 13 -

رأيتها لما تزل على ما كنت عليه فلم تنل منها يد التغيير كما نالت مني في الأغلال؛ ورأيت الثلج الذي يكلل هاماتها منذ آلاف السنين كما رأيت البحيرة الواسعة الطويلة اسفل منها، ونهر الرون الأزرق في أشد فيضه وسمعت جارف السيل يتلاطم ويندفق فوق الصخر المتشقق والجذوع المتحطمة؛ وأخذت عيناي المدينة النائية البيضاء المنازل، كما لمحت القلاع التي تفوقها ابيضاضاً تجري مسرعة؛ ثم وقع بصري على جزيرة صغيرة

ص: 58

تراءت حتى لي أنا باسمة، ولم يلح سواها أمام نظري؛ جزيرة صغيرة خضراء ظهرت كأنما لا يزيد عرضها على ذلك إلا قليلا، قامت فيها ثلاث شجرات باسقات، وكانت تهب عليها نسمات الجبل وتجري بجوارها المياه، كما كانت تنمو فوقها زهرات جميلة اللون عاطرة الأنفاس.

ورأيت فيما رأيت السمك يسبح إلى جدران السجن؛ ولقد بدا للعين مرحا: وحداته وجماعاته؛ وأبصرت النسر يركب متن الريح الهائجة، ويخيل إلي إني لم أره من قبل في مثل تلك السرعة. وعندئذ اخضلّت عيناي بدمع جديد وتبلبل خاطري، وودت لو أني لم انطلق من تلك السلاسل، ولما نزلت أحسست كأن الظلمة في مأواي الكدر تقع عليّ كأنها حمل ثقيل: كانت كأنها القبر ينطبق عليّ من جهدنا في خلاصه، وأحس بصري وقد انقلب إلى هكذا محزوناً كأنه يطلب راحة كراحة القبر.

- 14 -

ولست ادري كم لبثت بعدها في ذلك القبو، ربما كانت شهوراً أو أعواماً أو أياماً. لم أحص لها عدداً ولم ألق إليها بالاً ولم يك ثمة من أمل يرفع عيني ويمسح عنهما القذى المحزن. وأخيراً اقبل الرجال ليطلقوني من الأسر، فلم أعن أن أعرف ما سبب هذا ولا حفلت أين اذهب، فلقد تساوى في النهاية عندي الفكاك والقيد. وتعلمت أن أصالح على اليأس نفسي. ولذلك حين اقبلوا يطلقونني وحين ألقيت جميع السلاسل جانباً، أحسست أن تلك الجدران السميكة قد صارت لي معتكفاً وأصبحت علي وقفاً؛ وكأني شعرت نصف شعور ساعتئذ إنهم أتوا ينتزعونني من وطنٍ ثان. لقد اتصلت بيني وبين العناكب أسباب الصداقة، وكنت أراقب عملها الدائب، كما كنت أرى الجرذان في نور القمر. وليت شعري ماذا يدعوني أن أحس أنني دون هؤلاء جميعاً؟ لقد صرنا آلاّفا جمعتهم وحدة المكان

وكنت أنا فيهم ملك الجميع، ولي الحول أن اقتل أنى شئت! ولكنا تعلمنا أن نعيش معاً هادئين، وذلك لعمري من عجيب الأمور! في ذلك السجن توثقت الألفة بيني وبين الأغلال ذاتها. وهكذا ينتهي بنا طول الاعتياد إلى ما نصير إليه فهأنذا الذي لاقيت ما لاقيت قد تنهدت حينما عادت حريتي إلي!

الخفيف

ص: 59

‌الفنون

اكروبوليس أثينا

ومعبد بارتنون:

للدكتور أحمد موسى

يرى الواقف في وسط أثينا على بعد ليس بقليل، مرتفعاً أشبه بتل منبسط القمة تعلوه مبان ظاهرة، أكثرها ارتفاعاً معبد بارتنون.

والقاصد إلى هذا المرتفع يعرج إلى جهته الغربية ليستطيع الوصول إليه، فتنتهي به الطريق إلى مدخل بروبيلين المعتبر من أكبر الأعمال البنائية في أثينا، مبني كله من الرخام بين سنة 437 وسنة 432 ق. م، على آثار بناء قديم، تحت إشراف المهندس منيسيكلس وأستغرق بناؤه زهاء الخمس سنوات. وهو بحالته الحاضرة لا يزال يعطي المشاهد أنموذجاً فذاً لعصر البناء الفني في أثينا، فضلاً عن أنه مثال رائع لجمال البناء على مر القرون.

وهو بوضعه أشبه شيء بجبين الحسناء في نظر المتجه إلى اكروبوليس، لأنه في مقدمة ما يرى الداخل إلى المرتفع، يمر منه للوصول إلى المعابد.

وكانت شهرة بروبيلين وبارتنون شهرة فاقت كل وصف في ذلك الحين، ومع أن عمل التجديد به لم ينته بعد، إلا أن الزائر لأكروبوليس لا يمر منه دون أن يأخذه العجب من عظمة إخراجه وإتقان بنائه وجمال أجزائه.

ويتكون الجزء الأوسط منه من مداخل بعضها خلف بعض على جانبيها أعمدة من الطراز الدوري تحمل سقفاً جملوني الشكل يبدأ بإفريز شمل نقوشاً ورسومات دون تماثيل، كما ذكر ذلك كل من سبن وهيلر & اللذين زاراه سنة 1675.

ويلاحظ المشاهد لمدخل آثار الألوان وماء الذهب على أجزاء من رؤوس أعمدته، كما يرى أن الردهتين الأمامية والخلفية تتجهان بستة أعمدة دورية إلى الشرق والغرب، وبينهما يقع المدخل بفتحات كبار كانت في ذلك الحين مما يمكن إغلاقه حسب الرغبة بواسطة أبواب أشبه بأجنحة.

ص: 61

وعمل المدخل المؤدي إلى الباب الوسط بحيث يتصل بالردهة الغربية، وله أيضاً ثلاثة أعمدة يونية الطراز على كلا الجانبين، وتتصل الصالة الداخلية من الشمال والجنوب ببناءين صغيرين زاداهما قوة وهيبة جعلت من المجموع الكلي لبروبيلين فخامة ظاهرة، وطرازاً أنيقاً

أما البناءان الصغيران فيسمى الأيمن منهما بينا كوتيك لأنه كان شاملا لمجموعات صور الفنانين في ذلك الحين. والأيسر أصغر بكثير من الأيمن نظراً لما طرأ على العمل من التعطيل بسبب حرب البلوبونيس ولمعارضة حزب الكهنة في امتداد البناء خشية أن يصل إلى حدود معبد أثينا نيكا وارتميس برورونيا فيقلل من شانهما، كلاهما يكمل الجمال الإنشائي لبروبيلين. (أنظر ش1 من المقال السابق)

وهناك ردهات أخرى لم يتم بناؤها كما كان مفروضاً وفق التصميم الذي وضعه منيسكليس للأسباب المشار إليها.

يسير المشاهد بعدئذ إلى معبد بارتنون الخالد الذي يعد أبهى بناء فني في العصر القديم كله، فهو وحيد في مظهره العام وأبهة بنائه وعظمة تجسمه وضخامته دون خروج على أصول الانسجام في أكمل معانيه.

وإذا شاهدت كل آثار أثينا فلن ترى من بينها بناء يفوق بارتنون؛ ومع أن الفارق بين مظهره الحالي ومظهره القديم شاسع جداً إلا أنه لا يزال يشع جمالا خالداً يملأ الروح بهجة ويفعم العقل روعة.

يقع بارتنون في وسط جنوب المرتفع، فهو بموقعه هذا يشغل نقطة أشبه بمركز قوس دائري يلتف حوله كل ما قام على المرتفع من مبان زادت في عظمت وقوته (أنظر ش1 من المقال السابق).

كان أساس الحوائط وما يعلوه قليلاً من الرخام الخالص عندما هاجم الفرس أثينا وأشعلوا النار بالمرتفع، ولكن أدركه عصر بركليس فجدد بناؤه وجعل كله من الرخام.

قام بركليس ببناء هذا المعبد كما تولى بنفسه الأنفاق على تكاليفه. أما أستاذا بنائه فكانا اكتينوس وكلليكراتس

وتعد حليات البناء الخارجية من أروع القطع الفنية التي عملها الفنان العظيم فيدياس

ص: 62

فكانت معجزة سميت باسمه إلى اليوم، وضع تصميمها واشرف على عملها واشترك فيها بيده ونفخ فيها من روحه. كان فيدياس صديقاً مقرباً لبركليس، فأفادت هذه الصداقة إلى حد بعيد في إخراج معبد بارتنون على هذه الصورة من الجمال والروعة.

أقيم هذا البناء كما تشير الكتابات الخاصة به في القرن الخامس عام 438، وافتتح عام 447 ن. م.، ومن هذا يتضح أنه تم في عشر سنوات بعد مجهود جبار استغرق كل أيام السنين العشر. وإذا علمنا أن هذه الأعجوبة البنائية الرائعة شملت 62 عمودا كبيرا و36 عمودا صغيرا وحوالي الخمسين تمثالا بحجم الإنسان الطبيعي لتحلية الموضعين المثلثي الشكل من الناحية الأمامية والخلفية المحمولة على الأعمدة لتكوين واجهتي السقف الجمالوني وبأفريزه البالغ طوله 160 مترا حول البناء من نواحيه الأربع، واثنين وتسعين مستطيلا صغيرا انحصرت بين رؤوس الأعمدة وقاعدة السقف فكونت الأفريز؛ وأخيراً تمثال أثينا الذي بلغ ارتفاعه ثلاثة عشر متراً وصنع كله من العاج والذهب؛ إذا تمثلنا كل هذا الإنتاج الفني الهائل في بناء واحد تناسقت كل أجزاءه وانسجمت كل مشتملاته، وجدنا أنفسنا أمام عظمة قل أن يجود الزمان بمثلها مرة أخرى.

انظر إلى الأعمدة المتكررة دون إملال ودون تشابه (ش - 1)، وتصور إلى أي حد وصل فنانو الإغريق، والى أي درجة بلغت القدرة في الإنتاج الفني الذي يعد بحق آية من آيات القدرة الإنسانية في أبهى ما وصل إليه تفكيرها وشعورها بالوجدان والجمال.

والأعمدة كما ترى عملت مسلوبة من أعلاها، كما أنها لم تكن مستديرة صماء حفرت على طولها قنوات متوازية سارت على ارتفاع العمود فزادته حسناً وأكسبته حياة. حملت الأعمدة السقف الجمالوني الذي لم يبن فوقها مباشرة، بل ارتفع قليلا ليترك مكاناً إلى المستطيلات الصغيرة الملتفة حول محيطه الخارجي البالغ طوله 160 متراً كما سبق القول. وترى على هذا المحيط الإفريز الشامل لتلك المستطيلات المملوءة بالمناظر البارزة الأخاذة لبصر المشاهد المدقق. اشتملت كلها ما يمثل كثيراً من حياة الإغريق العامة والخاصة. والمجال هنا لا يسمح بالتوسع في التكلم عنها أو الإتيان بمعظم صورها. ولما كانت دراستنا في هذا المقال إجمالية، فإننا نأتي ببعض هذه القطع.

فإذا تأملت المتسابقين بخيولهم (ش2) أخذتك روعة غريبة تملك عليك مشاعرك عندما تعلم

ص: 63

أن هذا ما استطاع الفن الإغريقي إبداعه قبل المسيح بخمسة قرون.

انظر إلى الإنشاء الكلي للقطعة وتصور أن هذا منحوت على الرخام ومع ذلك ظهر بهذه القوة التي مثلت صورة تنبض بالحياة. انظر إلى الخيل وهي جامحة والى تفاصيل أجسامها وهي في غاية من الدقة، والى بروز عضلاتها التي لا تخالف أصول التشريح؛ ثم تأمل الفرسان واذكر قدرة فيدياس في عظمة إخراجه لهم دون تناظر ودون تماثل، لاشك ترى أن هذا دليل الغنى الفني إلى ابعد حدوده. تأمل عيون الفرسان وعيون الخيل تر اليقظة الكاملة في الأولى والوثوب التام في الثانية.

والصورة 3 أوضحت لنا أربع نساء تحمل كل منهن آنية، ظهرت أجسامهن كاملة مغطاة إلى أعناقهن بملابس امتلأت بالحياة فالتعاريج والتفاصيل التي شملتها هذه الملابس لا ترى لها نظيراً في قوة الإخراج ولم يترك الفنان رؤوسهن متشابهة، بل جعلها تختلف الواحدة عن الأخرى مسجلا بذلك الحالة كما كانت، فضلا عما ينجم عن ذلك من تقوية درجة الاستمتاع النظري، فجعل اليمنى تربط الشعر برباط رفيع، على حين جعل الثانية بذؤابة صغيرة ظهر بروزها من خلف رباط الرأس، وتركت الثالثة شعرها مسترسلا على ظهرها، أما رابعتهن فقد أخفت الشعر تحت غطاء هرمي الشكل.

أما تفاصيل الوجوه فهي مع كونها تعبر عن جمال المرأة الإغريقية فإنها تمثل الخشوع إلى حد بعيد؛ إنهن يحملن ما بأيديهن بقصد التوجه إلى المعبد. أما نبل الإخراج فهو ظاهر من طريقته في تكوينهن الواحدة وراء الأخرى في انسجام.

وصورة حاملي الأواني (ش4) تريك، فوق قوتها الفنية البعيدة إلى أي حد استطاع المثال أن يجعل من حركة سير الثلاثة رجال صورة رائعة لقدرته على الإخراج - تأمل صدر الرجل الأوسط تر الفنان لم يتركه دون حياة، فوضوح خطوط العضلات وبروزها مع ما تراه شاملا للقطعة من حسن التصوير ودقة الثنايا، كل هذا جدير بالإعجاب. إن غنى مادة فيدياس ظاهر واضح عندما تحقق من الكيفية التي سار عليها المثال في تكوين ذراعي كل رجل وكيفية حمله الآنية فوق رأسه وسندها بيمينه.

ومن قطع بارتنون الرائعة أيضاً اللوحة (ش5) حيث ترى إلى أقصى اليسار رجلا جالسا يتحدث إلى شاب بجواره. مشيراً له بيسراه إشارة المستمر في الحديث، وهو ينصت إليه،

ص: 64

وإلى اليمين ترى ولداً عارياً يستند إلى ركبة أمه وهي تشير إليه لافتة نظره إلى شيء معين، وكأن مجاورتها تشترك معهما في النظر، وهي في مجموعها أوضحت ما أراده الفنان من تمثيلها آلهة العدالة.

أما صورة تيسويس (ديونيزوس) الجالس عارياً فهي وحدها درس كامل لجمال الإنشاء وصدق التعبير وقوة الإخراج، فكل ما برز فيها من تفاصيل تشريحية مملوءة بالحياة وان المتحف البريطاني ليفخر بوجود هذه القطعة وغيرها من تماثيل بارتنون التي لا تزال إلى الآن النماذج الفذة لفن النحت.

ومهما يكن من شيء فإن بارتنون أعظم بكثير من أن يسجل بين سطور لا يتجاوز ما جاء فيها قطرة في محيط فنه وجماله.

(لها بقية)

أحمد موسى

ص: 65

‌من هنا ومن هناك

الاثنولوجيا الجديدة وهر هتلر

الأثنولوجيا أو علم الأجناس البشرية هو علم حديث لا يزيد عمره على الخمسين أو الستين سنة، وأشهر العلماء الذين ساهموا في مباحثه هم هكسلي وولفرد بلنت وجريفث تايلر وسير. ف. بتري والأستاذ ج. ف هورابين الذي وضح بالرسوم خلاصة التاريخ لولز ثم الأستاذ العلامة إليوت سميث الذي يتعصب لمصر القديمة ويعترف أنها صاحبة الفضل في تثقيف العالم. ولقد كانت الاثنولوجيا القديمة تحصر الأجناس البشرية في السلالات الثلاث التي تنتسب إلى أبناء نوح وهم حام وسام ويافث، وقد نسخت الأثنولوجيا الحديثة تلك النظرية البالية وأصبحنا نرد الشعوب في أقاصي الأرض إلى أصول أقرب إلى الحقيقة وإن يكن الجدل لم ينته بعد حول هذه الأصول

وقد أثار العداء الناشب بين هر هتلر وبين اليهود الجدل من جديد حول الأصول الأثنولوجية وكانت النتيجة الهائلة أن طرد اليهود من ألمانيا وأن حرمت ألمانيا التزاوج على أبنائها من غير الآريين، وهي تخص بهذا التحريم الشعوب السامية وإن تكن تقصد - كما صرح ساستها - أنها تعني اليهود من بين الشعوب السامية قاطبة!!

وبعد أن نهضت اليابان نهضتها الحاضرة أصبح علماء الأثنولوجيا في شك مريب من القيم الذهنية التي كانوا يخصون بها بعض الشعوب. ونحن لا تعنينا هذه القيم الآن وإنما أردنا أن نقدم للقارئ خلاصة مفيدة عن الأجناس التي تعترف بها الأثنولوجيا الحديثة

1 -

فهم يرجعون الأصول الإنسانية إلى العصر الباليوليتي الأقدم واشهر أناسيه هم: إنسان هيدلبرج والإنسان النيندرتالي وإنسان بلتدن ثم الإنسان الراقي الذي هو الجد الأول للشعوب

2 -

ثم يأتي العصر الباليوليتي الحديث وتنقسم أناسيه إلى مجموعتين كبيرتين: المجموعة الكروماجنارديه والمجموعة الجريمالديه وهذه المجموعة هي مجموعة الزنوج وقبائل البوشمان والأستراليين والطسمانيين والأندمانيين

3 -

أما المجموعة الجريمالديه فهي مجموعة الجناس الراقية وتتفرع إلى ثلاث شعب: الأجناس النورديه والأجناس السامية والأجناس المغولية

ص: 66

4 -

على أن بعض العلماء يطلق اسم (الجنس القوقازي) على سكان أوروبا وغرب آسيا، ويقسم القوقازيين إلى (نورديين) وهم أهالي شمال غرب أوروبا ثم (أيبريين) وهم أهالي البحر البيض و (ألبيين) وهم سكان اللب والجبال الممتدة منها

5 -

وهناك أجناس مولدة (خلاسية) من النورديين والأيبريين أهمها الأيرلنديون والقلتيون والغاليون

6 -

وإذا ذكر الآريون فإنما يجيء ذكرهم عند الكلام عن الفيلولوجيا (التي تعني علم فقه اللغات) ويشملون الإنجليز والفرنسيين والألمان والأسبان والإيطاليين والإغريق والروس وأهل أرمينيا. والفرس وشمال ووسط الهند ويسمون - أو

7 -

وتشمل شعبة الساميين المصريين والعرب والشآميين والفرس والسامريين والدرافيد (الهند) والسياميين وأهل ملايو

8 -

أما شعبة المغول فتشمل الهون والترك والمنغوليين والإسكيمو والأمرنديين واليابانيين والصينيين والتتار

9 -

ويتكون من أجناس المجموعة الراقية الكروماجنارديه مزيج وسط يطلقون عليه (البرونيتيين) وهم شعوب الثقافة الهليوليتية

ولا يحسبن القارئ أن هذه الأجناس صافية مستقلة بأصولها محتفظة ببذرتها فقد تزاوجت كثيراً وتداخل بعضها في البعض الآخر. ومن أنفع الكتب التي تفيد المستزيد في هذا الباب كتاب الأستاذ إليوت سميث (هجرة الثقافة في العصور القديمة)

د. خ

لويجي بيراندللو:

مات الأديب الإيطالي العظيم لويجي بيراندللو منذ شهرين فخسرت فيه إيطاليا ملكا أكبر من الحبشة! وإمبراطورية أوسع من إمبراطورية سبط يهوذا. وشتان بين فتح مغتصب، وأدب خالد مكتسب!

لقد استطاعت إيطاليا أن تساهم في الثقافة العالمية منذ القدم إلى اليوم بطائفة من الأدباء الأفذاذ الملهمين، لولاهم لتأخر موكب الإنسانية، ولتباطأت النهضة (الرنيسانس) عن

ص: 67

تاريخها منذ خمسة قرون، ولاستطالت العصور الوسطى، ولتبدل مجرى التاريخ. وهذه الأسماء البارزة في تاريخ الفكر الإنساني: فرجيل، هوريس، شيشرون، سنكا، دانتي، بوكاشيو، جاليليو، كوبرنيكوس رفائيل، سانازارو، كارو، كاسا، كاستليوني، ليوباردي، بترارك الخ. هي أسماء عظيمة لاشك، وقد ضم إليها ورقد إلى جانب أصحابها لويجي بيراندللو فزاد التراث وعظمت إيطاليا

ولد براندللو في جيرجنتي إحدى مدائن صقلية وشب في أسرة كثيرة المتاعب والخصومات، وقد ماتت أمه فتزوج أبوه وكان أباً شهوانياً مولعاً ببنات الهوى، وقد ظل متصلا بابنة عمته الأرمل برغم زواجه، وقد حملت منه سفاحاً فأرضاها بهبة مالية على أن تهاجر إلى بلد آخر

ويظهر أثر هذه الحياة العائلية المضطربة في بيراندللو، وقد سجل فضيحة أبيه في درامته (إكساء العراة) حيث يصور العلاقة الأثيمة بين الفتاة أرزيليا ومخدومها الذي شغف بها حباً واتصل بها ثم أولدها. فلما حاولت الانتحار ولم تستطعه ألحف عليها مخبرو الجرائد ليتعرفوا سبب محاولتها الانتحار حتى اضطرت أن تعترف لهم بكل شيء ثم أفلحت آخر الأمر في أن تنتحر.

وفي درامته (إيف - و - لين) يصور لنا شاباً مالياً يتزوج من الفتاة الجميلة (إيفلين) ثم يقع في عسر مالي فيهرب ويتركها وقد ولدت منه طفلاً جميلا - وتتصل إيفلين بمحامي زوجها فتتزوج منه وتلد له طفلة بارعة الجمال. . . وتمضي الأيام. . . ويعود الزوج الأول وقد هاجه الشوق إلى زوجته ولكنه يجدها متزوجة محاميه وقد ولدت له هذه الطفلة - وكان كل منهما يدللانها فيدعوها الأول (إيف) ويدعوها الثاني (لين) - وهنا تظهر براعة بيراندللو في تصوير العواطف المتباينة في قلب هذه المرأة وحيرتها بين حبها القديم وواجباتها الزوجية الحاضرة، وبين حبها لطفلها الأول الذي اصبح اليوم شاباً وطفلتها الأخرى من زوجها الآخر. . . ثم لا يسعها إلا الرضى بما قسم لها. . .

ولم ينبه ذكر بيراندللو إلا بعد إصداره درامته الخالدة (ماتياس باسكال) والتي يصور فيها حياة رجل ضج بالحياة وتبرم بزوجه وحماته فهرب منهما واعتزم الرحيل إلى الدنيا الجديدة. ولكنه مر في طريقه على مونت كارلو بلد الميسر والمقامرة فرأى أن يجرب حظه

ص: 68

على الروليت فربح أرباحاً طائلة - ولكنه قرأ في الجرائد أن جثة غريق ظهرت في النهر وأنها لرجل يدعى (ماتياس باسكال) فضحك ماتياس. وهنا خطر له أن يستغل الحادث وأن يعيش عيشة رجل مجهول طليق من الأوضاع الاجتماعية ولكنه سرعان ما يفقد شخصيته ويحس كأنه ميت حي!

وبعد صيت بيراندللو فعين أستاذاً للآداب في جامعة رومة، ولكن مهنته الجديدة زادت في متاعبه، فقد كان يعلم التلميذات في الجامعة وكن ظباء كلهن، واضطرمت الغيرة في قلب زوجته، وكثيراً ما اتهمته بميله إليهن وغرامه بهن؛ وغلى هو في التبرؤ إليها ولكنها ازدادت حقداً عليه بزعم غلها يده في نفقته الشخصية حتى لم تكن تسمح له إلا بدريهمات لا تغني. . . ثم تضاعفت غيرتها وساورتها الشكوك فكرهت أبناءها وقلبت بيتها جحيماً لا يطاق، فاضطر بيراندللو آخر الأمر أن يلجأ بها إلى مستشفى للأمراض العقلية

وقد أرسل بولديه إلى الميدان في الحرب الكبرى فأسر الأكبر وجرح الأصغر، ثم وصل إليه أبوه المفلس الأعمى من صقليه، فزادت أشجانه وتضاعفت متاعبه ولاسيما بعد أن لفظت الألسن وولغت في عرض أبنته التي اضطرت أن تقضي بقية حياتها في دير بعيد منفردة بعد أن فشلت في الانتحار غير مرة. . . . . . فمن هذه الفذلكة السريعة يدرك القارئ كيف أثرت تلك الحياة المشجونة القلقة التاعسة في كاتب إيطاليا العظيم، حين أصدر درامته الخالدة العبقرية (ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف) والتي ملأها بكل مخاوفه وأحزانه

وقد تأثر بيراندللو بالكاتب الروسي دستوئفسكي، وبين دراماته وقصص دستوئفسكي صلات وثيقة، ولا نكاد نقرأ قصة أو درامة لبيراندللو إلا ونلمح أثر البطل راسكو لنيكوف ومناظر (بيت الموتى) ماثلة فيها - وقد تأثر كذلك بالسيكولوجي النمساوي فرويد وقد غادر منصبه في الجامعة سنة 1922 ليتفرغ للمسرح، وقد كان يصحب فرقته التمثيلية إلى مختلف العواصم الأوربية والأمريكية ليباشر إخراج دراماته بنفسه

ومن أخلد دراماته وقصصه: هنري الرابع - و - أنت تضحك - وزوجها - كوميديا الموت - وحصان في القمر - والفخ - وشهوة الشرف. . . الخ.

ومما يؤخذ على بيراندللو إغراقه في الخيال وتجزئ الشخصيات والغموض الشديد في

ص: 69

بعض مواقف دراماته المملوءة بالمنازعات

وقد نتناول بعض دراماته بالبحث والتحليل في إعداد تالية

د. ح

ص: 70

‌البريد الأدبي

المصطلحات العسكرية في مجمع اللغة العربية:

تألفت في المجمع اللغوي الملكي لجنة لوضع كلمات عربية للمصطلحات العسكرية المستعملة في الجيش من حضرات الأساتذةالأب انستاس الكرملي وحسن حسني عبد الوهاب باشا والشيخ أحمد السكندري وسيادة حايم ناحوم أفندي ومنصور فهمي بك، وقد روعي في تشكيلها أن تظم بعض ممثلي الأقطار العربية الأخرى للاستئناس بما اتبع في البلاد الأخرى ورغبة في توحيد المصطلحات في جميع الأقطار العربية.

ومما يذكر أن بعض هذه الأقطار مثل العراق عرب تلك المصطلحات منذ مدة وقد حصلت اللجنة على بيان بالمصطلحات العربية في تلك البلاد. وكان المجمع قد كتب إلى وزارة الحربية لموافاته بالمصطلحات العسكرية المستعملة في الجيش الآن والتي ينظر أن تستعمل فيه بعد زيادته وإعادة تنظيمه، وقد الفت وزارة الحربية لجنة لموافاة المجتمع بما يطلبه. وقد أرسل المجمع إلى وزارة الحربية خطاباً طلب فيه انتداب ضابط ملم باللغة العربية ليحضر الجلسات التي يعقدها المجمع للنظر في وضع عبارات عربية لعبارات التعاليم العسكرية

الاجتهاد في الأصول

قرأت ما كتبه الأستاذ علي الطنطاوي في الرد على ما ذهبت إليه من تجويز الاجتهاد في الأصول كالفروع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمجتهد أجرين إذا أصاب وأجراً واحداً إذا أخطأ، ولم يفرق بين أصول وفروع، بل أطلق الأمر إطلاقاً، وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً

وقد أنكر الأستاذ هذا أشد الإنكار لأنه يخالف ما استقر عليه الرأي بين المتأخرين من علماؤنا في الاجتهاد، ويخالف تعريفهم له بأنه استنباط الفروع من الأصول، فيخرج من هذا المسائل الكلامية لأنها ليست من الفروع، ولأن الحق فيها واحد فمن أخطأه فهو آثم، فإن كان الخطأ فيما يرجع إلى الأيمان بالله ورسوله فالمخطأ كافر

وما كنت أظن أن الأستاذ يؤاخذني بهذا بعد أن قرأ ما كتبته في موضوع الاجتهاد، وهو موضوع سأعود إليه بعد في مجلة الرسالة الغراء، فإني فيما كتبت في هذا الموضوع خارج

ص: 71

على أولئك العلماء من المتأخرين، فلا يصح أن يحتج علي برأيهم في الاجتهاد، وتقييدهم له بالفروع دون الأصول

فالاجتهاد عندي بذل الجهد في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، اعتقادية كانت تلك الأحكام أو عملية

وليس بصحيح ما ذهب إليه الأستاذ من أن المخطئ في المسائل الكلامية آثم، لأن الخلاف بين أهل الكلام ليس مقصوراً على الخلاف بين جماعة أهل السنة وغيرهم من الفرق التي يقال إنها آثمة، فهناك خلاف أيضاً في علم الكلام بين أهل السلف والخلف من جماعة أهل السنة، وهناك خلاف أيضاً بين الخلف من الاشعرية والماتريدية، وهو خلاف لا أثم فيه لقيامه على الاجتهاد، وأنا لا أزيد على هذا إلا أني لا افرق فيه بين أهل السنة وغيرهم

عبد المتعال الصعيدي

كتاب سياسي خطير

صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب سياسي عنوانه (عند الصفر) بقلم رتشارد فرويند وهو كاتب إنكليزي من اصل نمسوي، عرف أخيراً بقوة كتاباته السياسية وحسن تقديره للحوادث والنتائج؛ ويتناول المؤلف في كتابه مواطن الخطر في أوربا الحالية وفي أفق السياسة الدولية بصفة عامة؛ ولا يعنى الكاتب بالنظريات والمبادئ النظرية، ولكنه يعنى بنوع خاص بالحقائق العملية وبالحوادث الواقعة؛ وهو يعلق أملا ضئيلا على عصبة الأمم وعلى مستقبلها وما يمكن أن تؤديه في إنقاذ العالم من اضطرابه الحالي. ويتحدث عن كل مسالة وكل دولة في أوروبا، وعن الحوادث والقوى التي تضطرم بها أفريقية والشرق الأقصى في الوقت الحاضر؛ وهو أكثر ميلا إلى التشاؤم، ولا يرى في النظم والمجتمعات الحالية سوى معترك من الأنانية القومية. ويخشى أن يسفر هذا الاضطراب عند أية لحظة عن الانفجار الذريع الذي يحمل العالم إلى مصير كله الويل والدمار

ويعنى المستر فرويند بمركز ألمانيا الهتلرية بنوع خاص، ويرى أنها تمثل الآن طوراً من أطوار الطموح والتوسع، لابد له أن ينفجر آجلا أو عاجلا؛ ومن حسن الحظ أن ميول هتلر الشخصية وبغضه المأثور لروسيا والبلاشفة يحول دفة المعترك اليوم إلى جهة الشرق وإلى

ص: 72

الجنوب الشرقي؛ ولكن إذا مات هتلر، أو إذا استطاعت روسيا أن تسحق تحديه، فقد تتجه ألمانيا إلى ناحية أخرى، وقد تتجه إلى الإمبراطورية البريطانية. ويرى مستر فرويند أن ألمانيا الهتلرية قد بدأت بالفعل تتجه إلى مناوأة المصالح البريطانية في كثير من المواطن، وأن السياسة الإنكليزية تسيء صنعاً إذا هي لم تعتبر بهذه الحقيقة وآمنت بوعود هتلر وتأكيداته؛ وعلى أي حال فإن المصاعب الداخلية التي تتخبط فيها ألمانيا الآن كفيلة بأن تشحذ سياسة العدوان الألمانية وتدفع ألمانيا في طريق الحرب والاعتداء

أما عن إيطاليا فيرى مستر فرويند أنها تنمو وتتقدم باستمرار، وأنه لابد أن تأتي الساعة التي تضطر إنكلترا فيها إما إلى الحرب وإما إلى التراجع، لأنها لا تستطيع أن تنزل عن سيادتها في البحر الأبيض المتوسط دون المخاطرة بكل مركزها في أفريقية والشرق الأدنى. كذلك يتوقع الكاتب أن تضطر إنكلترا قريباً إلى الوقوف في وجه اليابان بشيء من الحزم لأنها بدأت فعلاً تهدد منطقة المصالح البريطانية. ويعرض مستر فرويند نظرياته بقوة وصفاء ويدعمها بكثير من الحقائق والحوادث الواقعة

رأي جديد في أسباب الثورة الفرنسية

يرى البحث الحديث رأيا جديداً في الثورة الفرنسية وفي أسبابها، فبينما تجمع الروايات والبحوث القديمة كلها على أن الثورة ترجع إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية فقط، إذا بالبحث الحديث يرى أنها ترجع أيضاً إلى جهود الجمعيات السرية الخفية ولاسيما محافل البناء الحر (الماسونية) وأن هذه الهيئات السرية قد لعبت من وراء الستار دورا عظيما لإضرام نارها

وقد ظهر أخيرا كتاب بالإنكليزية عنوانه: (لويس السادس عشر وماري انتوانيت قبل الثورة) بقلم السيدة نستا وبستر وفيه تميل المؤلفة إلى الأخذ بهذا الرأي، وتفصل العوامل والظروف الخفية التي كانت تحيط بهذين الملكين التعيسين قبل نشوب الثورة. وترى السيدة وبستر أن المساعي الخفية التي قامت بها الجمعيات السرية وراء الستار كانت كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عاملا خطيرا في نشوب الثورة الفرنسية؛ ومن رأيها أن قضية عقد الملكة الشهيرة التي ثارت حول اسم الملكة واتهم فيها الكردينال دي روهان والكونت كاجليوسترو، إنما ترجع إلى تدبير هذه القوى الخفية، وإن

ص: 73

كاجليوستر لم يكن سوى داعية خطر يحمل رسالة هذه القوى، ويحيك شراكه من وراء الكردينال. ولقد كانت هذه القضية أو هذه الفضيحة من أعظم أسباب الثورة، ومع أن السيدة وبستر تعدد عيوب ماري انتوانيت ووجوه ضعفها كامرأة وملكة، فإنها تدافع عنها في موطن الشرف والكرامة، وتقول إن الدعاية الواسعة التي أثيرت حول أسمها لتشويه سمعتها الشخصية لم تكن سوى مزيج من الأكاذيب والوشايات المدبرة وأن ماري انتوانيت، كانت امرأة وافرة الشرف والعفة، وملكة وافرة الكرامة والعقل.

ص: 74

‌الكتب

رسالة المنبر إلى الشرق العربي

للأستاذ فليكس فارس

يقول الله في صفة بقية القوم الصالحين من القسيسين والرهبان (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) وقد قرأت كثيراً من هذا الكتاب فتراءت لي هذه الآية، وتراءى الأستاذ فليكس فارس بقية من هذه البقية الصالحة، فهو طالب حق لا يغفل، وساع إلى غاية لا يمل. والكتاب مجموعة من أدب الأستاذ تربط بينها هذه الرابطة: طلب الحقيقة مبرأة من العصبية لما يخالفها، وسعى إلى غاية مبدأة في الطلب، يحتمل في سبيلها إرهاق الفكرة للبلوغ، وحرمان النفس للسمو، والعدل بين المتخالفين لإقرار الحق وتثبيته والعلو به عن نوازع النفوس وشهواتها، وهو في ذلك فارس كاسمه متدفع متدفق، مأمون العثرة، حديد النظرة، ثابت الجنان لا يرهب ولا يتخلف

وقد تعاطى - في كتابه - القول في كثير من الأدباء، وتكلم في أدبهم الكلام القسط، وكشف ببيانه عن الحقيقة الأدبية التي انطوى عليها أدبهم، وعن الحقيقة الفنية التي اشتملت عليها جوانحه، وافصح عن الحقيقة الشرقية التي تعمل في حياة الشرق عمل الدؤوب والاستمرار لتجعل في ضعفه قوة عضلة تستعصي على الأنياب الأجنبية التي تزعم أنها (تستعمر) أرضه وبلاده ونفوس أهله وبنيه. فجزى الله (فارس الحلبة) خير ما جوزي مجاهد عن أمته.

وقد سمى الأستاذ الفارس كتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) وأصاب، فهو في جوهره يحمل الأصل المشرق الذي تكون منه الرسالة. ففيه الشمول والتعدد واختلاف الأغراض وما يتبع ذلك مما يمتاز به الكاتب من جودة الفكرة، وجلاء العبارة، وحسن القصد، وبلاغ الغاية. فأنت من أول فصل مندفع إلى قراءة البقية لما تجد من الروعة واللذة والفائدة.

بدأ رسالته بقوله (نحن وأنتم)، وهي أول رسالة إلى البلاد العربية مصر والشام والعراق وأرض الحجاز فهو فيها عربي قد غلبته عروبته على هواه وعلى عصبيته، يدعو دعوة الحق لليقظة والاتحاد والتعاضد والتخلص من آصار العبودية القاتلة التي تتلجلج في

ص: 75

أوهامها تلجلج المحموم، ثم يتدافع من ثم إلى رسالته في الثقافة الشرقية والعربية، فهو عربي مفكر يقظ مؤمل هاد إلى حقيقة الثقافة الشرقية العربية، عامل على ربط الأول بالآخر من هذه الأمة، داع إلى نبذ الأوهام المتمكنة من وباء الجهل القديم، والسمو عن التورط في التقليد الذي لا يرد بنا إلا موارد التلف. ثم يقف بك على باب أدب من أدب (جبران) وهو كتاب وحده فيه من الفكر ما تختلف عليه العقول، وحسب القارئ أن يقرأه فأن فيه روح الكاتب متجلية كاشفة ناقدة بصيرة عليمة بفنها وإحساسها قادرة على الإبانة عن خلجاتها خير الإبانة. ثم الرسالة الخامسة وهي إصلاح الحياة البيتية، وهو من أدق أبواب هذه الرسالة، يبين عن الفكرة الاجتماعية المخلصة التي تدفع الأستاذ إلى البصر والتفكير والنقد والتمييز، ولولا ما يحول بيننا وبين الإفاضة لأثبتنا بعض هذا الباب وعقبنا، فهو على جلالته فيه مواقع من القول لو عاد إليها الأستاذ بثاقب فكره ومسدد نظره لأنكشف له الحق الذي ينشده ويبغيه.

وأما الرسالة الأخيرة فهي (المهود في الشرق والغرب) وهي التي كتبها بالفرنسية ونشرها ثم ترجمها إلى العربية، فلا غرو أن كانت هذه الرسالة (هي رسالة الشرق والغرب) فإنها بنيت على أصل ثابت من نظرة الشرقي المتحفز بشرقيته في الحياة الغربية التي انتقلت إلينا انتقال الوباء. وأهم ذلك مسألة النسل، وقد كان الرافعي قد كتب (رؤيا في السماء)، فترجمها الأستاذ الفارس واستخرج منها الحكمة الإسلامية في الزواج والنسل وما أعجزت به هذه الشريعة فكر الإنسان في إصابتها مكان الداء على اختلاف الزمان والمكان، وانطوائها على الدواء الذي لا يدع للعلة ما تتعلق في الجسم الاجتماعي

فهذه هي رسالة المنبر إلى الشرق العربي، وهي قبس من إشراق هذا الشرق المتلفع المتجافي ذي الأهوال والأسرار

ثمن الكتاب عشرة قروش ويطلب من إدارة الرسالة ومن المكاتب الشهيرة.

(ش)

نظرات تاريخية دستورية

للأستاذ حسن صادق

ص: 76

180 صفحة من القطع المتوسط

مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر

قلما يعالج الباحث القانوني في مصر موضوع البحث الدستوري، وقلما يتناول الأنظمة النيابية في العالم بأي درس أو بحث. وإذا استثنينا بضع مذكرات موجزة يضعها أساتذة القانون لطلبتهم. فإننا نرى هذا الميدان خلوا من أقلام الباحثين.

وأخيرا يطالعنا الأستاذ حسن صادق بكتابه (نظرات تاريخية دستورية) ويشمل هذا الكتاب ثلاثة بحوث مستفيضة لثلاثة من دساتير العالم الهامة التي تكونت بعد الحرب العظمى وهي: الدستور الألماني، النمسوي، والتشيكوسلوفاكي.

مهد الأستاذ لكتابه بمقدمة قصيرة، أوضح فيها كيف جاهدت مصر في سبيل دستورها على يد زعيميها، وبين فيها كيف كان لزاما على المصري أن يعرف ماله من حقوق وما عليه من واجبات، وأشار فيها إلى أن الغرض من كتابه هو المساهمة في تربية الشعب تربية دستورية صادقة.

ثم بدأ الكاتب بدراسة الدستور الألماني دراسة دقيقة، فتكلم أولا عن الوجهة التاريخية في ذلك الدستور منذ أن سنه بسمارك في إبريل سنة 1871 فخلص ذلك الشعب الذي رسف في قيود الرجعية زمناً طويلا، والذي آده الظلم وأضنته الآلام من نير الظلم ووطأة الاضطهاد، وعلمه كيف يحكم نفسه بنفسه، وكيف يصبح سيداً لا مسوداً، وكانت ألمانيا إلى قبل الحرب مكونة من دويلات صغيرة. وكانت السيادة في دولة الريخ ممثلة في مجلسين: الأول وهو البندسرات ويتكون من مندوبي أمراء الدول. والثاني الريخستاج وينتخب من الشعب. ثم الإمبراطور وهو الرئيس الأعلى للدولة.

واستمر الحكم على هذا النظام إلى أن شبت ثورة سنة 1918. وأخذ الشعب يعمل بجد وعزم حتى سن لنفسه دستوراً، يذهب في الديموقراطية إلى أبعد حد. وأنشأ سلطاناً نيابياً يعبر عن سلطته حق التعبير، وجعل نفسه الحاكم العام في كل خلاف يقع بين عناصر الدولة، وبذلك جعل الشعب الحكومة تستمد منه سلطانها وتدين له بمناصبها إن شاء أسقطها، وإذا شاء أبقاها، وفي ذلك اطمئنان الشعب.

ص: 77

ثم انتقل الكاتب إلى الكلام عن الدستور النمسوي فبين لنا كيف تخلص ذلك الشعب بعد جهاد طويل من أغلال الإمبراطورية النمسوية التي قيدته زمناً طويلاً. فما أشرق عام 1918 حتى هب الشعب يطالب بحقوقه. فسن لنفسه دستوراً ووضع السلطة كلها في يد المجلس الوطني، وهذا المجلس له حرية مطلقة في تحديد انعقاده وتأجيله ولا يمكن لرئيس الدولة أو الوزارة التدخل في ذلك. وفي أثناء الحل والعطلة تقوم مقامه لجنة تراقب أعمال الحكومة. . وإذا خالف الرئيس أو الوزارة قواعد الدستور حوكموا أمام المحكمة الدستورية. والدستور النمسوي منظور فيه إلى الدستور الألماني ومقتبس منه في بعض أجزائه.

أما الشعب التشيكوسلوفاكي الذي نزلت به ضروب الظلم، وصنوف الإرهاق أيام الإمبراطورية النمسوية فأنه انتهز فرصة انهزامها سنة 1918، فأعلن استقلاله، وسن لنفسه دستوراً مقتبسا من دساتير العالم الأخرى. ونص فيه على وجوب دوام الحياة النيابية وذلك بتأليف لجنة من 24 عضواً ستة عشر من الشيوخ وثمانية من النواب، تزاول عمل البرلمان في عطلته وذلك لضمان وجود السلطة التشريعية حتى لا تستأثر السلطة التنفيذية بالأمر

ومما يلاحظ في الكتاب أن الدساتير الثلاثة التي اختارها الأستاذ متشابهة إلى حد ما، ويشمل ذلك التشابه أيضاً نظام الحكم في هذه الدول الثلاث (الحكم الجمهوري) فلو أن الكاتب الفاضل اختار لنا صوراً مختلفة من الدساتير العريقة الأخرى التي يمكن للشعب أن يفيد من تجاربها الدستورية لجاء الكتاب جامعاً شاملا.

والكتاب - في دقة آرائه وبحوثه - مجهود موفق نشكره للأستاذ، وقدوة طيبة نرجو أن نجد في مصر من يقتدي بها، وثمرة تبشر باهتمام الكتاب بالناحية الدستورية، ومساهماتهم في تربية هذا الشعب تربية دستورية صادقة.

أحمد ف. م

التلميذ

لبول بورجيه

ترجمة الأستاذ عبد المجيد نافع

ص: 78

لعل من فضول القول أن يتحدث متحدث عن الفراغ الذي ملأته ترجمة هذه القصة إلى العربية، فما أشد ما كانت تمتلئ قلوبنا أسفاً وحسرة حينما نرى الدنيا تتحدث عن بول بورجيه، ونسمع بأدبه وترى في قصته الخالدة مثلا من أروع المثل للقصص المفتن الدقيق، والأدب العالي الجميل؛ ثم نتلفت حولنا، فنرى مكانه في العربية خالياً إلا من كلمات عنه طائرة هنا وهناك، لا تمثل في ذهن القارئ العربي أدبه، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يجد فيها ذلك المتاع الفني المهذب، أو يستشعر لقاءها تلك اللغة العقلية السامية التي يبتعثها في النفس أدب ذلك الأديب.

وقصة التلميذ التي بين يدينا هي، فيما يقول بعض نقاد الأدب الفرنسي، أروع ما كتب بول بورجيه وما نحسبهم أطلقوا هذا إطلاقاً إلا أنها خير ما يمثل مذهبه في كتابة القصة، فقد أبدع فيها أيما إبداع في عرض الدقائق النفسية عرضا فنياً خلابا، وتحليل الأمزجة العقلية المعقدة تحليلا عبقريا رائعا. حتى لا يكاد يفلت منه عنصر من العناصر التي تكون الشخصية، على ما فيها من غموض وإبهام وتصوير ذلك في صورة فنية منسقة مضطردة، لا يحس القارئ فيها بنبوة، ولا يلمح بها شيئا من الصنعة المتكلفة، أو التلفيق البغيض.

وهو في هذه القصة يعرض شخصية شاب من شبان القرن التاسع عشر، وهو من أعقد العصور فيما أحسب إذا اعتبرنا التأثيرات المختلفة، والنزعات المتباينة، والاتجاهات الغريبة التي تعرض لها الفكر الأوربي في تلك الفترة من الزمن، وأمتحن بها محنة ظهر أثرها في جميع مجالات الحياة، فلا يدع شيئاً مما يكون الشخصية حتى يسوقه في سياقة الغنى الرائع، فإذا أتم عرض شخصيته في صورة فيلسوف من فلاسفة ذلك القرن. قد فني في الفلسفة حتى صار صورة حية منها كر عليها كرة أخرى، فإذا بذلك كله آثار سطحية، وإذا بتلك الصبغة الفلسفية وهذه الصوفية العلمية لم تستطع أن تغير من كيانه الداخلي أو تنسخ ذلك الميراث الذي ورثته الإنسانية الحاضرة عن أناسيها الأولى. فما تزال له من تحت هذا الظاهر الوقور المتزن غرائزه الطبيعية الكامنة التي كان يبدو بادئ الرأي أنها ضعفت وتلاشت بتأثير تلك الحياة الفلسفية الخلابة، ولكنها لم تلبث أن وجدت في البيئة التي تلائمها: ورأت من حولها موضوعا لبروزها ونشاطها حتى ثارت ثورتها، وخرجت من مكمنها، ملونة ألواناً. . بتأثير المؤثرات المختلفة التي كونت صاحبها، ولا تزال تعمل

ص: 79

فيه وتوجهه في طريقها وفي هذه الألوان الغريبة التي عملت في تكييفها شتى العوامل، وفي إظهارها مفتنة متموجة، تتجلى عبقرية بورجيه وقدرته الفائقة على تحليل الحالات النفسية المعقدة إلى دقائقها، وتصويره لها في أروع صورها وأدقها، في أسلوب بياني خلاب.

فما من شك في أن هذه القصة من أعجب المثل الأدبية الخليقة بالخلود، الحقيقة بأن تمثل في كل لغة تقيم للأدب العالي وزناً، فللأستاذ المترجم أخلص التهنئة على هذا التوفيق الذي صادفه في ترجمتها، وأجزل الشكر على الجهد البليغ الذي بذله فيها، حتى جلاها في أسلوب عربي رائق، ومظهر من النشر أنيق.

وبعد فقد كنا نود، مع هذا الصنيع المبارك المشكور، لو أن الأستاذ المترجم عني بأن يبرز إلى اللغة العربية صورة من هذا الأثر الفني الخالد دقيقة كاملة بتفصيلاتها. كما أبرزها جميلة وافية في جملتها. ولكنه اتخذ لنفسه مذهبا في الترجمة وضع فيه الأدب ودقة النقل في المكان الثاني. ووضع فيه جمهور القراء في المكان الأول: فهذه صورة لا تتفق مع تقاليد جمهورنا، إذن يجب أن تبعد! وهذه مسألة فلسفية أطنب المؤلف في عرضها حتى لا تلائم عقلية جمهورنا، إذن يجب أن تبتر! وهذا إسهاب في التحليل والتصوير يبعث السأم إلى نفوس جمهورنا، إذن يجب أن ينفى! ولا بأس بشيء من ذلك مادام سياق الرواية مضطردا، ووقائعها متسقة، وفكرتها محققة. هذا هو مذهب الأستاذ المترجم عرضه في مقدمة ترجمته. وعندنا أن هذا المذهب إن جاز أن يتخذ في نقل بعض الآثار الأدبية الأخرى فلا يجوز أن يتخذ في هذا الذي سماه الأستاذ المترجم نفسه خالدا، والذي صدر عن نابغة كتاب فرنسا حقا، فهو أثر عالمي لا ينبغي أن يخضع لسيطرة بعض هذه الاعتبارات البسيطة. على أنا لا نمنع مع هذا أن المسالة دقيقة كل الدقة، وأن الفصل بين المذهبين ليس من الأمور الهينة التي يتقبلها الضمير دون معاناة.

أما أسلوب المترجم فهو على ما نعرف منه: عربي جميل ناصع، لا ابتذال فيه ولا إبهام. وقد وفق - على حد قوله - إلى إحلال المعاني الغربية في معان عربية. على أنا كنا نود أيضاً أن لو برئ من مثل هذه العبارة:(عالما لا يشق له غبار، ولا يصطلي له بنار) فليس هذا فيما نحسب معنى عربيا، بل هو دمنة بدوية.

ص: 80

وهناك هنوات لغوية لا نرى بأسا في أن نشير إلى شيء منها مثل قطع همزة الابن في صفحة 41، ومثل قوله (ص55) أصبحت وأمي وحيدين) والصحيح الفصل في مثل هذا بالضمير المنفصل فيقال:(أصبحت أنا وأمي وحيدين)، ومثل قوله (ص19)(قد تلقى خمسة أو ستة خطابات) وليس هذا فيما أحسب بناء عربياً، وإن كان من الممكن أن يخرج له وجه نحوي، والعربية المستقيمة تقول: خمسة خطابات أو ستة وهذا على كل حال أمر هين يسير، لا يغض من القيمة الأدبية لذلك الصنيع العظيم.

(الحاجري)

ص: 81