الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 189
- بتاريخ: 15 - 02 - 1937
الحياة والقيود
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قلت لصديق ونحن خارجون من السينما - أو لعلنا كنا داخلين فما أذكر الآن: -
(يا أخي أحسب إن من الخسارة علينا أننا خلقنا في هذا الزمان، ولو تأخر بنا الحظ جيلاً آخر لكان عيشنا خليقاً أن يكون أطيب وأرغد، فإن هذا عصر انتقال لم تستقر فيه الأمور على حد مريح)
فوافق واستطردنا إلى حديث آخر. ولكني ظللت أفكر فيما قلت فبدا لي أني أخطأت، ولا نكران أن زمننا هذا زمن انتقال، ولكن هذا حال كل زمان، فما تلزم أمور الحياة حداً تنتهي إليه ولا تكون قط على حال لا يتغير أو لا يتبدل. وكل عصر عصر انتقال. والتحول هو قانون الحياة فلا وقوف ولا رجوع، لأن هذا وذاك مستحيلان في الحياة. ولو كنا خلقنا في زمن غير هذا - قبله - لكنا أحسسنا ما نحسه الآن من إننا في عصر انتقال وإننا نعاني من جراء ذلك اضطرابا وقلقا وقيوداً كثيرة تثقل علينا ونعتقد أن الأيام ستصدعها عن الناس وتعفيهم منها ولتوهمنا إن الناس سيكونون حينئذ اسعد وارغد عيشاً واكثر حرية واقل شعوراً بالتقلقل والاضطراب والحيرة بين القديم المنشوء الذي يتزلزل والجديد المأمول الذي بدت بشائره. وحضرني وأنا أفكر في مثال قريب، فقد كنا في الجيل الذي مضى نسخط على الحجاب وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء، وكانت بشائر السفور قد بدت، ولكن أملنا يومئذ في أدراك عهده والانتفاع به قبل أن تعلو بنا السن وتفتر الحيوية ويفسد علينا الأمر كله - كان يبدو لنا بعيداً. وقد أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور ووثبنا إليه في أوجز مما كنا نقدر، وقبل أن ترتفع أسناننا وينضب معين الحيوية فينا، غير أنا بعد أن صرنا إلى هذا الحال الجديد الذي كنا نحلم به ونتطلع إليه ونتخيل إن الحياة ستكون به أهنأ وأطيب - لم نرض ولم نقنع. ولسنا الآن في حاضرنا ننظر إلى ما كان بل نحن ننظر إلى تيار الزمن واتجاهه، ونقول انه يتحدر إلى ساحة من الحرية أوسع وارحب. ولا سيما بعد أن عرف الإنسان ضبط النسل. والشجرة - كما لا أحتاج أن أقول - تعف بثمرها، فحيث لا توجد ثمرة لا يخطر للمرء أن هناك شجرة فهي غير موجودة فيما يعلم وإن كانت في الواقع هناك
لا. . لم نخسر بأن خلقنا في هذا الزمان. وليست العلة أننا موجودون في زمان دون آخر. بل العلة إن العمر إلى انتهاء وأن الحياة إلى نفاذ كائنا ما كان الزمن الذي نحن فيه. ولا خير في تقطيع النفس حسرات على ما عسى أن يكون الغيب منطوياً عليه، وأحجى بالإنسان أن يقصر همه على حاضره فانه هو الحقيقة التي يضيع كل شيء إذا هو ضيعها. ومهما يبلغ من اتساع نطاق الحرية في المستقبل فان حياة الجماعة لا تنتظم إلا بالقيود والحواجز والاسداد. وستظل هناك قيود من ضروب شتى
ومع ذلك ماذا ينقصنا من الحرية في زماننا هذا. . السنا نصنع ما نحب كما نحب وحينما نحب. . ولا شك أن هناك قيوداً وأغلالاً غير قليلة أو هينة، ولكن هذه القيود هي التي تكسب الحياة الطعم وتفيدها المزية والفضيلة. ولست أحاول أن أعزي نفسي بهذا الكلام أو أغالطها به بل أنا أومن بأن الأمر كما أقول والحال على ما أصف
وتصور أن الماء المنحدر من الجبال أو غيرها لم تعترض طريقه الاسداد ولم يمنعه شيء أن يظل يتدفق وينتشر على وجه الأرض حتى يذهب أو ينتهي إلى البحر، أكان من المكن في ظنك أن تتكون بحيرة مثلاً. . وقد لا تكون ثم حاجة إلى البحيرة وقد تحتاج الجماعة في وقت ما إلى محوها من الوجود، ولكن هذا لا يؤثر في القضية ولا ينفي أن البحيرة إنما تتكون بفضل الاسداد التي يلقاها الماء وهو يجري
والطيارة التي تحلق في الجو وتنقلنا إلى حيث نحب وتقصر المسافات وتطوي الأبعاد والتي نعدها من آيات هذا العصر، كيف كان يمكن أن نفعل ذلك لولا مقاومة الهواء لدفع المحرك؟. بل كيف كان يتسنى أن تتحرك لولا هذه المقاومة. ولست أعرف شيئاً في هذه المسائل العلمانية فإني من اجهل خلقه سبحانه وتعالى وتنزه عن العبث، ولكني التفت إلى هذا الأمر يوماً وكنت في طيارة وإنا فيها لمسرورون مغتبطون بهذا التحليق وإذا بها تسقط كالحجر مائة وخمسين قدماً كما قيل لي فيما بعد، وكانت هنيهة قصيرة جداً. ولكنها على قصرها الشديد كانت أقسى ما جربت في حياتي، فقد أحسست أن قلبي صار في حلقي من فعل السقوط المفاجئ لا من الخوف فما اتسع الوقت لخوف أو رجاء. ثم عادت الطيارة فمضت بنا في طريقها وكرت إلى مثل الارتفاع الأول فلم أفهم سبب هذه السقطة المزعجة، فلما نزلنا كدت أنسى أن أسأل عن السر فيما حدث، ولكنني تذكرت بعد أن مشيت خطوات
فارتددت إلى الطيار فقلت له يا أخي قد سقطنا في الهواء فما سبب ذلك؟ قال هل أحسست شيئاً؟ قلت كيف لا أحس وقد كانت أنفاسي تنقطع.؟ قال لقد صادفنا فراغاً. . قلت كيف واستغربت فبين لي أن بعض طبقات الجو تخلو لأسباب شتى - نسيتها - من الهواء فتصبح فارغة، فإذا دخلت الطيارة منطقة الفراغ لم تستطع أن تجتازها لأن الهواء هو الذي يعينها بمقاومته على الطيران، ولهذا تسقط حتى تخرج من المنطقة الفارغة فيتيسر لها أن تمضي في طيرانها وذكر لي أن المنطقة التي صادفناها كانت أكبر ما لقي من الفراغ مذ ركب طيارة
وقد علق بذهني هذا ودار في نفسي من يومئذ فأضفته إلى ما كنت أعرف من فضل المقاومة بل ضرورتها فأني عاجز عن تصور حياة لا يلقي فيها الحي مقاومة. وكيف تكون يا ترى هذه الحياة إذا أمكن أن توجد حياة على هذا النحو. . لا أدري ولا أحسب أن أحداً يستطيع أن يزعم أن في وسعه تخيلها. . ماذا يدفع فيها إلى العمل ويغري بالسعي. . ويبعث على الطموح. ز الذي هو الوسيلة إلى حفظ النوع في الدنيا؟ كيف يكون حينئذ ولا مقاومة هناك ولا عائق ولا صعاب ولا عراقيل ولا حواجز من العرف أو القانون أو غير ذلك. . أتراه عبثاً ومسلاة. . وكيف تكون له لذة اللهو ومتعة العبث ومزية التسلي وهولا يمكن أن يوجد أصلاً. . أم ترى ينحط فينقلب مجرد رغبة عارضة واشتهاء زائل بزوال دواعيه الوقتية. . وكيف تنشأ الرغبة وماذا يشحذ الشهوة ولا شيء هناك من قبيل الموانع
ودع الحب وأنظر في غيره وأسأل نفسك ماذا عساك أن تطلب حينئذ ولا عسر هناك ولا عناء ولا خوف من حرمان لأنه لا عقبة هناك ولا صعوبة ولا مقاومة من الأحوال أو الحظ أو الناس أو التنافس أو غير ذلك مما تكون به المقاومة. .
ويطول بي الكلام إذا أنا أحببت أن أتقصى وجوه هذا الأمر: وما الداعي إلى الإطالة والمسألة واضحة. كلا لم أخسر بأن خلقت في هذا الزمن. ولا خسر أحد شيئاً بأن خلق في زمنه وإنما ينظر الإنسان إلى ما هو مستطيع ويقيسه إلى ما يشتهي فيرى البون عظيماً والبعد كبيراً والمسافة طويلة بين المطلوب والموجود، فيتوهم أن ذلك إنما كان هكذا لأن في الزمن عيباً وفي أحواله فساداً، وأنه لو كان في زمن آخر لكان حقيقياً أن يكون أمله أقرب منالاً وسعيه أعظم توفيقاً. وهذا وهم كما قلت فأن رغائب الإنسان في أي زمن أكثر
مما يبلغ وينال. والذي يسمح لرغبته بأن تطغى إلى هذا الحد حتى لتصور أمر الحياة على هذا النحو المقلوب تكون شهوته أقوى من إدراكه أو إرادته أو أعصابه إذا شئت
ولم ألق صديقي لأبلغه أني غيرت رأيي أو صححته، فهأنذا أقول له ذلك في (الرسالة)
إبراهيم عبد القادر المازني
صعاليك الصحافة.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لما ظهر كتابي (وحي القلم) حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات أهديه إليهم ليقرءوه ويكتبوا عنه. وأنا رجل ليس فيَّ أكثر مما فيَّ، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع. فما أعلم في طبيعتي موضعاً للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكاناً من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أهذي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمن أثق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم؛ وإما إنذار حرب لغير هؤلاء
والقرآن نفسه قد أثبت الله فيه أقوال من عابوه ليدلل بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يقر بها ويقلبها؛ فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار. والشعور بالحق لا يخرس أبداً، فإذا كانت النفس قوية صريحة مر من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصة، فإن قال لا أو نعم صدق فيهما، وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الأغراض والدخائل، فمر من باطن إلى باطن حتى يخلص إلى الظاهر في الكلمة المقلوبة، إذ يكون شعوراً بالحق يغطيه غرض آخر كالحس ونحوه، فإن قال لا أو نعم كذب فيهما جميعاً
وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلات أحس في كل منها سؤالً يسألني به المكان: لماذا لم تجيء؟ فإني في ابتداء أمري كنت نزعت إلى العمل في الصحافة، وأنا يومئذ متعلم ريِّض ومتأدب ناشيء، ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه والحمد لله، فلو أنني نشأت صحافياً لكنت الآن كبعض الحروف المكسورة في الطبع. . .
وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمَّت نقصت، إذ كان مدار الأمر على اعتبار أكثر من يقرءونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين. وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية، فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ. . . وما بدُّ أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها. فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد. لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها. ثم هي عمل الساعة واليوم فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان
ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها. فأن أساس النبوغ (ما يجب كما يجب)، ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق. أما هي أساسها (ما يمكن كما يمكن)، ودأبها السرعة التصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير
فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا نضج وتم وأصبح كالدولة على (الخريطة) لا كالمدينة في الدولة في الخريطة، فهو حينئذ لا يسهل محوه ولا تبديله. . . ثم هو بمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجاً من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد من الآفاق. لا كمصباح من مصابيح الشارع.
وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكاناً طبيعياً لرجل السياسة قبل غيره، إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلاً ومجيباً، ثم يليه الرجل شبه العالم، ثم الرجل شبه الممثل الهزلي. . والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعاً، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعاً
ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في نومي. فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي (وحي القلم) إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية، ودلوني عليه فإذا رجل مربوع مشوه الخلق صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريها دورة وحشية كأنما أرعبته الحياة مذ كان جنيناً في بطن أمه لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية فينبغ في فنونها، أو هو خلق بهاتين العينين الجاحظتين دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل فذ أرسل لتدقيق النظر
وقال الذي عرَّفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ. . . وهو أديب الجريدة
قلت شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟
فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحاذ الجريدة. يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح؛ بالرغيف والجبن والبيض والقرش. . .
قلت: إنا لله فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنت من أعاجيب الدنيا، وكيف
خبت في الصحافة وكنت رأساً في الكلام؟
قال: نجحت أخلاقي فخابت آمالي، ولو جاء الوضع بالعكس لكان الأمر بالعكس. والمصيبة في هذه الصحف أن رجلاً واحداً هو قانون كل رجل هنا
قلت: وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟
قال: له ثلاثة قوانين: الجهات العالية وما يستوحيه منها. والجهات النازلة وما يوحيه إليها. وقانون الصلة بين الجهتين وهو. . .
قلت: وهو ماذا؟
فحملق فيَّ وقال: ما هذه البلادة؟ وهو الذي (هو). . . أما ترى الصحيفة ككل شيء يباع؟ وأنت فخبرني - ولك الدولة والصولة عند القراء - ألم تر بعينيك أنك لو جئت يدفع ثمانمائة قرش، لكنت في نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة من البيان والأدب؟
قلت: يا أبا عثمان. فما تكتب هنا؟
قال: إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية، فماذا ترى أنت في. . وفي. . وفي.؟ لقد كنا نروي في الحديث. (يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها) فلعل من هذه الألسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة. . .
قلت: ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة.
قال: القراء ما القراء، وما أدراك ما القراء. وهل أساس أكثرهم إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياة، وضعف الأخلاق، وكذب السياسة؟ أن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة. . . وما دام المبدأ هو الكذب فالمظهر هو الهزل. والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشديدة القوية السامية، فهم يريدون الصحافة الرخيصة، واللغة الرخيصة، والقراءة الرخيصة. وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم (صعاليك الصحافة)
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير، فنهض إليه ثم رجع بعنين لا يقال فيهما جاحظتان بل خارجتان. . . وقال: أفّ. (وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون).
كلا والذي حرم التزيُّد على العلماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضل
سعيه).
قلت: ماذا دهاك يا أبا عثمان؟
قال: ويحها صحافة. قل في عمك ما قال في المثل: جحظ إليه عمله.
قلت: ولكن ما القصة؟
قال: ويحها صحافة. وقال الأحنف: (أربع من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو حسب يصونه، أو حياء يقناه). وقال: (المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده، وشيطان يفتنه. وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله). وقال الحسن بن علي. . .
قلت: لم أحسن المهاترة في المقال الذي كتبه اليوم. . . . ويقول رئيس التحرير: إن نصف التمويه رذيلة؟ فأن نصفه الآخر يدل على أنه تمويه. ويقول: إن سمو الكتابة انحطاط فصيح، لأن القراء في هذا العهد لا يخرجون من حفظ القرآن والحديث ودراسة كتب العلماء والفصحاء، بل من الروايات والمجلات الهزلية. وحفظ القرآن والحديث وكلام العلماء يضع في النفس قانون النفس، ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للاستجابة لتلك المعاني الكبيرة في الدين والفضيلة والجد والقوة؛ ولكن ماذا تصنع الروايات والمجلات وصور الممثلات والمغنيات وخبر الطالب فلان والطالبة فلانة والمسارح والملاهي؟
ويقول رئيس التحرير: إن الكاتب الذي لا يسأل نفسه ما يقال عني في التأريخ، هو كاتب الصحافة الحقيقي، لأن القروش هي القروش والتأريخ هو التأريخ. ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي. ولا يتحقق نسب ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يصرف كله ولا يرد منه شيء
إنهم يريدون إظهار المخازي مكتوبة كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها؛ يزعمون أنها تروى وتقص للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء. . .
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. .
لها بقية
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
إلى رجال التعليم
بقايا التركية في لغة مصر الرسمية
للأستاذ أبي خلدون ساطع بك الحصري
مدير دار الآثار العربية بالعراق
لقد لاحظ العلماء الذين توغلوا في درس الحوادث الاجتماعية اللسانية، أن الكلمات ما تنتقل من لغتها الأصلية إلى اللغات الأخرى حسب العلائق التي تنشأ وتتوثق بين الأمم التي تتكلم بها، وقد تندمج هذه الكلمات في اللغة التي دخلت عليها؛ فتنتظم في سلك كلماتها الأصلية وتتكيف بمقتضيات قواعدها الخاصة؛ وقد تولد نسلاً جديداً في موطنها اللغوي الجديد، يختلف عن النسل الذي كان قد تولد منها في موطنها الأصلي اختلافاً كلياً
أما أنواع الكلمات التي تنتقل بهذه الصورة من لغة إلى لغة، فتتبع - بطبيعة الحال - أنواع العلائق التي تحدث بين الأمم التي تتكلم بها: فالمعاملات التجارية تئدي إلى انتقال المصطلحات العلمية مع الآراء والمعلومات، والسيطرة السياسية تؤدي إلى انتشار الكلمات والتعبيرات المستعملة في الأنظمة الإدارية والعسكرية، والكلمات والمصطلحات التي تدخل على اللغة بسبب هذه العلائق المتنوعة، تبقى فيها عادة حتى بعد انقطاع تلك العلائق. . ولهذا السبب نجد العلماء الذين يستكشفون الحقائق في مجاهيل التأريخ يستندون في بعض الأحوال إلى (مقارنة الألسن) و (تتبع الكلمات) في استدلالاتهم المتعلقة بالحوادث التاريخية والتطورات الاجتماعية.
لعل الآثار التي تركتها التركية في مصر، ولا سيما في لغة الدواوين الرسمية، من أبرز الأمثلة وأقربها إلى ما أسلفنا. إذ أننا إذا استعرضنا عناوين الوظائف الرسمية في جداول الميزانية ودليل التليفون وتصفحنا بعض النشرات الرسمية، وتتبعنا بضعة أعداد من الجرائد اليومية، فسجلنا الكلمات والتعبيرات التركية التي نصادفها خلال هذا البحث السريع. . دهشنا من كثرة الكلمات والتعابير الباقية من عهد الحكم التركي في مصر
نستطيع أن نقول إن معظم النعوت والألقاب المستعملة في مصر هي من بقايا ذلك الحكم. ولا سيما الكلمات والتعابير التي تدل على الرتب الملكية والعسكرية، فكلها ترجع إلى منشأ
تركي بدون استثناء فإن كلمات (بك، أفندي، باشا، هانم) تركية الأصل. مع هذا تستعمل في مصر كالكلمات العربية، ويقال لذلك (بكوية وبكوات) و (باشوية وباشوات، أفندية، وهوانيم) ومما تجب ملاحظته أن الألقاب ألغيت في تركية أخيراً واستبدلت بكلمة (باي) للرجال و (بايان) للنساء
فمن يتتبع الجرائد التركية الآن لا يجد فيها أثراً للكلمات التي بحثنا عنها؛ غير أن من يتصفح الجرائد المصرية يصادف في كل نسخة منها مئات
ومما يستلفت الأنظار أن الألقاب الرسمية التي تستعمل في مصر عند ذكر أصحاب الرتب أو مخاطبتهم - مثل: صاحب العزة، صاحب السعادة - أيضاً تمت بقرابة إلى العهد التركي، بالرغم من مظهرها العربي: فأن الأتراك عندما أرادوا أن يضعوا لقباً خاصاً بأصحاب كل رتبة من الرتب الملكية والعلمية، اقتبسوا من العربية كلمات كثيرة، مثل (رفعة، عزة، سعادة، عطوفة، دولة، فخامة، فضيلة، سماحة، سيادة، عناية، عصمة.) وأضافوا إلى كل واحدة منها حرف (لو) الذي يعرف في قواعد الصرف التركي باسم (أداة المصاحبة) فقالوا (. . . عزتلو، سعادتلو، دولتلو، فخامتلون فضيلتلو، سماحتلو. . .) إن هذه النعوت والألقاب استعملت في مصر مدة غير قصيرة بصيغتها التركية، ثم استبدلت فيها (أداة المصاحبة) التركية بتعبير (صاحب الـ. . .) العربية؛ فتحولت بذلك هذه الألقاب إلى (صاحب العزة، صاحب السعادة، صاحب الدولة، صاحب الفضيلة. . .) فنستطيع أن نقول: إن هذه الألقاب تركية بمدلولاتها الحالية، وإن كانت عربية بألفاظها الأصلية. وإلا فلا يوجد أي سبب معقول لاعتبار (الفضيلة أو العزة أو السعادة) من النعم التي يستطيع أن يحصل عليها الإنسان عن طريق إنعام الملوك والحكومات. .
وأما أسماء الرتب العسكرية المستعملة في مصر، فبعضها تركية بحتة مثل شاويش، باششاويش، أونباشي، يوزباشي، بيك باشي،. . .
فان اللفظة الأولى كلمة مفردة، والأربع الباقية كلمات مركبة، تعني (رئيس الشاويشية، رئيس العشرة، رئيس المائة، رئيس الألف. .)
وهناك أسماء رتب عسكرية مؤلفة من كلمة تركية وكلمة عربية، حسب الاستعمال التركي: مثل (بلوكامين) بمعنى أمين الرهط، و (ميرالاي) بمعنى آمر الكتيبة. .
وأما كلمة (صاغ) التي تدل على إحدى الرتب العسكرية في مصر، فتركية أيضاً؛ غي أنها لا تستعمل في التركية للدلالة على رتبة من الرتب العسكرية أبداً. لأن معناها اللغوي عبارة عن (أيمن)، نظراً لرتبته العسكرية. وأما كيف صارت هذه الكلمة لقباً لإحدى الرتب العسكرية في مصر، فلا يتضح إلا بمراجعة تاريخ الألقاب العسكرية في تركيا: إذ يوجد في الجيش التركي رتبة عسكرية تسمى باسم (قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح). وبما أن القطع العسكرية كانت تقسم إلى جناحين، كانوا يقسمون هذه الرتبة قبلاً إلى درجتين فيسمون الأولى (صاغ قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح الأيمن)، ويسمون الثانية (صول قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح لأيسر). غير أنهم وحدوا الدرجتين مؤخراً، فحذفوا كلمات (صاغ) و (صول) من هذه الألقاب، واقتصروا على تسمية الرتبة بـ (قول أغسي) أي (آمر الجناح). ويظهر أن لفظ (صاغ قول أغاسي) كان يستعمل في مصر أيضاً؛ غير أنه أختصر مؤخراً، بدون ملاحظة معاني الكلمات التي يتألف منها، فجرى الاختصار عن طريق حذف الكلمتين الأخيرتين، والاحتفاظ بالكلمة الأولى وحدها. وبما أن الصفة في اللغة التركية تتقدم على الموصوف، كما أن المضاف إليه يتقدم على المضاف، صار هذا الاختصار بمثابة حذف كلمتين (آمر) و (الجناح) والاحتفاظ بكلمة (الأيمن) وحدها، وبهذه الصورة أصبحت كلمة (صاغ) التركية، التي تدل على (اليمين) أو (الأيمن)، اصطلاحاً على الرتبة من الرتب العسكرية المصرية
غير أن الكلمات التركية المستعملة في الجيش المصري لا تنحصر في أسماء الرتب العسكرية التي أسلفنا ذكرها. بل أن المصطلحات العسكرية التالية أيضاً تمت إلى منشأ تركي صريح؛ بلوك، تابور، آلاي، أورطة، قيشلاق، قره قول، طوبجي، نوبتجي. .
إن كلمة (اورطة) تستحق النظر والتأمل بوجه خاص: فأن هذه الكلمة من التعبيرات الدارجة في تشكيلات مصر الدارجة وهي تدخل في التراكيب مثل الكلمات العربية، فيقال مثلاً (الاورطة الثالثة) و (استعراض الأورطتين) وأعلام الاورط، كما يقال (اورطته، اورطتيه، اورطتيهما. . .). . مع إنها من الكلمات التركية المهجورة في تركيا نفسها فان استعمالها في الجيش التركي قد بطل منذ عهد بعيد، يرجع إلى تاريخ إفناء الانكشارية، وإحداث النظم العسكرية الجديدة: ومن المعلوم أن المدة التي مضت منذ ذلك التاريخ تناهز
القرن الكامل
هذا، ومما يجدر بالانتباه أن قاموس الاصطلاحات العسكرية المصرية يحتوي على بعض الكلمات الفارسية أيضاً - مثل، بيادة، سوارى، ياور، سردار. - غير أن هذه الكلمات لم تدخل على العربية من الفارسية مباشرة، بل دخلت عليها بواسطة التركية. ولذلك يجب علينا أن نعتبر هذه الكلمات أيضاً من بقايا الحكم التركي بالرغم من أصلها الفارسي
كذلك كلمة (حكم دار) أيضاً تشبه الكلمات المذكورة آنفاً، إذ أنها مركبة من كلمة (حكم) العربية وكلمة (دار) الفارسي، فمعناها اللغوي عبارة عن (صاحب الحكم). غير أن معناها الدارج في تركية إذ أن تعبير الـ (حكم دار) لا يستعمل في التركية إلا للدلالة على (الملوك)
هذا وإذا استعرضنا عناوين الوظائف والخدمات المختلفة نجد بينها أيضاً عدداً كبيراً من التعبيرات التركية
أولاً، سلسلة كبيرة من التعبيرات التي تحتوي على كلمة (باش) التركية: باش كاتب، باشمفتش، باشمهندس، باشمعاون، باش محضر، باش صراف، باش حكيم، حكيمباشي، خاخامباشي، باش ساعي، باش فراش، باش طباخ، باش جنايني، باش بستاني، باش ميكانيكي، باش آدلاء، باش رئيس البحرية، باش رئيس المطافي. فإذا أنعمنا النظر في هذه التعبيرات نجد أن كلماتها الأساسية عربية، غير أنها موصولة بكلمة (باش) وفقاً لقواعد اللغة التركية، وإذا بحثنا في عن منشأ التراكيب نجد أن نصفها الأول مستعمل في التركية أيضاً غير أن نصفها الأخير لم يستعمل في التركية أبداً. فنستطيع أن نقول إن القسم الأول منها (من باش كاتب إلى خاخام باشي) مقتبسة من التركية. وأما القسم الثاني (من باش ساعي إلى باش رئيس المطافي) فمستحدثة في مصر نفسها. قياساً على التراكيب المماثلة المستعملة في التركية
ثانياً، سلسلة غير قصيرة من التعبيرات التي تحتوي على أداة (جي) التركية: تليفونجي، تلغرافجي، بوسطه جي، نوفكجي، نيشانجي، تعليمجي، مخزنجي، محاسبجي، قهوجي، سفرجي، عطشجي، عربجي، قمشجي، اجزاجي، تيمارجي، جاشمبجي، مطبعجي، استفجي، جزمجي، مكوجي، اشرجي، ناضورجي، مفتاحجي. وما يجب عليه التنبيه إليه أن التراكيب
الأربعة الأخيرة ليست مستعملة في التركية، مما يدل على أنها استحدثت في مصر قياساً على أمثالها وعلاوة على كل ما تقدم نذكر فيما يلي الكلمات التركية التي صادفناها في النشرات الرسمية:
فنار، ليمان، أورمان، كوبري، قزان، طولمبة، بوري، باشبوري، أوضه، قاووش، آغا، ترزي. وهذه الكلمات تدخل في تراكيب بعض التعبيرات مثل: مصلحة الليمانات والفنارات، حديقة الأورمان، أوضة المحامين، الطلمبات الأميرية، تعمير القزانات مصلحة الكباري، كما نذكر فيما يلي الكلمات الفارسية التي صادفناها في تلك النشرات، والتي انتقلت إلى مصر بواسطة التركية أيضاً سراي، شنكل، كليم، نيشان، أورنيك، ماهية، رفت، خانة،. . .
ومما يجدر بالذكر أن الكلمة الأخيرة تدخل في تراكيب كثيرة مثل: أجزخانة، كتبخانة، دفترخانة، بطركخانة، سلخانة، جبه خانة، يمكخانة، أدبخانة، عربخانة، شفخانة، مهندسخانة.
بعد أن القينا هذه النظرة السريعة على اللغة الرسمية في مصر يجدر بنا أن نقوم بمقارنة عامة بين دواوين سورية والعراق في هذا الموضوع
من الغريب أن هذه المقارنة تظهر لنا تبايناً عظيماً في الأمر: إذ بينما نجد أن دواوين مصر مضيافة لجميع هذه الكلمات الدخيلة والمصطلحات الأعجمية نجد أن دواوين سورية وللعراق - بعكس ذلك - مجردة منها ومتعصبة عليها. .
هذا. . مع أنه قد مضى على انفصال مصر عن تركية عهد طويل، في حين أنه لم يمض على انفصال سورية والعراق عنها إلا زمن قصير، ومع أنه لا يشاهد في مصر أثر للقوانين الموضوعة في العهد الترك، في حين أن عدداً غير قليل منها لا تزال نافذة في سورية والعراق. . .
ومع أن أنظمة الحكومة المصرية مختلفة عن الأنظمة التركية اختلافاً كلياً في حين أن أنظمة سورية والعراق لم تتباعد عنها إلا تباعداً جزئياً. . . وما أن الذين يعرفون التركية بين موظفي الحكومة المصرية قليلون جداً، في حين أن عددهم كثير في سورية والعراق. . ومع أن اللغة الفصحى منتشرة في مصر انتشاراً كبيراً، ودراسة الآداب العربية متقدمة فيها
تقدماً عظيماً، في حين أن كل ذلك لا يزال محدوداً في سورية والعراق
فيجدر بنا أن نتسائل عن أسباب هذه الأحوال والحوادث المتناقضة: كيف أن مصر حافظت، ولا تزال تحافظ، في دواوينها الرسمية على هذه المصطلحات الأعجمية، بالرغم من قدمها في الانفصال وتقدمها في فصاحة القلم واللسان؟ وكيف أن حكومات سورية والعراق - بعكس ذلك - تخلصت في دواوينها من جميع تلك المصطلحات، بالرغم من قرب عهدها في الانفصال وحداثة دخولها في مضمار فصاحة الإنشاء والبيان؟
إننا نعتقد بأن أسباب ذلك تعود إلى تباين الظروف التي حدث فيها انفصال هذه الأقطار العربية المختلفة عن الدولة العثمانية: فان انفصال مصر حدث قبل أن يستيقظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح، وللغة العربية استولت على الدواوين المصرية بصورة تدريجية، دون أن تضطر إلى الاصطدام مع اللغة التركية والقيام عليها بحركة عنيفة. وهذا ما جعل مصر متساهلة مع الكلمات التركية ومضيافة لها، بل لا نغالي إذا قلنا: غير منتبهة إلى أعجميتها.
وأما انفصال سورية والعراق عن الدولة العثمانية، فلم يحدث إلا بعد حوادث كثيرة أدت إلى أيقاظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح واللغة العربية لم تصبح رسمية هناك إلا بعد أن حدثت مشادة بينها وبين التركية وبعد أن مازج هذه المشادة شيء غير قليل من العنف من الطرف الواحد ومن الثورة من الطرف الآخر. فقد قامت في سورية والعراق، وفي أواخر العهد العثماني، جمعيات عديدة تطالب بـ (حق التعلم والتعليم بالعربية)، تارة بالطرق السياسية، وطوراً بالطرق الثوروية. ولم تنل تلك البلاد هذا (الحق) بصورة فعلية إلا بعد الحرب العالمية، فعندما تألفت الحكومة العربية بجد وحماس؛ فلا نغالي إذا قلنا أن المصطلحات التركية خرجت من الدواوين هناك مع خروج الموظفين الأتراك منها.
والحكومة العراقية التي تأسست بعد سقوط الحكومة العربية السورية أيضاً حذت حذوها ف هذا الباب؛ وزيادة على ذلك وجدت أمامها متسعاً من الوقت لإتمام عملها في تكوين مجموعة المصطلحات الإدارية والعسكرية من الكلمات العربية التي لا تشوبها شيء من الأعجمية
هذه هي سلسلة الحوادث والأسباب التي وجهت الأمور في سورية والعراق إلى اتجاه
يختلف عن الاتجاه الذي سارت عليه في مصر في هذا المضمار. . .
مع هذا، لابد من الإشارة إلى أن هذه الأسباب تعود إلى النشأة الأولى وظروف الانفصال فأدت إلى إبقاء هذه المصطلحات في لغة الدواوين المصرية إلى الآن. غير أنه يجدر بنا أن نتساءل: هل هذه الأسباب ستضمن دوام هذه المصطلحات بعد الآن أيضاً؟
إنني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي. فلا أستبعد أن يصبح معظم ما كتبه آنفاً (حكاية ماض) - في عصر مصر الحديث - بعد مدة وجيزة من الزمن
بغداد
أبو خلدون
ساطع الحصري
في الجامعة المصرية
كرسي خاص لدراسة الأدب المصري الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قرأت مع الغبطة نبأ ذلك الاقتراح الجليل الذي تقدم به صديقي الأستاذ العميد الدكتور طه حسين إلى مجلس إدارة الجامعة المصرية بوجوب إنشاء كرسي خاص للأدب المصري الإسلامي؛ وهو اقتراح لا ريب أن سيلبيه المجلس الجامعي الموقر، وسيلقي بلا ريب تأييداً حاراً من كل أولئك الذين يقدرون تراث التفكير القومي، ويعتزون به، ويتوقون إلى بعثه وإحيائه واستعراض نفائسه، بعد أن طال الأمد على إغفالها ونسيانها.
ولقد حاولت منذ أعوام أن الفت النظر إلى وجوب العناية بدراسة تأريخ مصر الإسلامية وآدابها، وحاولت جهدي أن أحث الشباب المتأدب على قراءتها ودراستها، وكان من بواعث دهشتي أن الجامعة المصرية الفتية لم تفكر منذ قيامها في إنشاء كرسي خاص لتأريخ مصر الإسلامية، وكرسي آخر لآدابها إلى جانب ما أنشأته من كراسي خاصة للتأريخ الأوربي والآداب الفرنسية والإنكليزية؛ فإذا كان الأستاذ العميد يتقدم اليوم باقتراحه بإنشاء كرسي خاص للأدب المصري الإسلامي فهو إنما يعبر في ذلك عن أمنية قديمة لنا جميعاً، والجامعة إنما تعمل بتحقيقها على استدراك نقص في دائرة الثقافة القومية كان خليقاً أن يستدرك منذ بعيد
والواقع أن الأدب المصري الإسلامي لم ينل في عصرنا شيئاً من العناية التي هو حقيق بها، في حين أن كثيراً من نواحي الأدب الأخرى من شرقية وغربية تنال من عنايتنا أوفر حظ؛ وما زال الأدب العربي يقدم إلينا في صورته العامة ويمثل لنا بنوع خاص في الأدب العباسي، وقلما نعني بدراسة نواحيه الخاصة، بل إن الشباب المتعلم ليرغب اليوم عن الأدب العربي كله ويتجه شطر الأدب الغربي، ويعرف عن تطورات الأدب العربي وخواصه؛ ويعرف من شخصيات الآداب الأوربية وآثارها ما لا يعرف عن شخصيات الأدب العربي وآثارها؛ وإذا كانت ثمة أقلية من الشباب المتأدب تعنى بالأدب العربي عل وجه التعميم، فهي قلما تعنى بدراسة شيء من تراث أدبنا المصري
ونحن نعرف الأسباب التي يرجع إليها هذا الشذوذ في ثقافتنا الأدبية وهذا الانصراف عن
تراثنا العربي وتراثنا المصري بنوع خاص؛ وهي أسباب سياسية واجتماعية لا نرى محلاً لاستعراضها في هذا المقام؛ بيد أنه يجدر بنا أن نشير هنا إلى سبب مادي واضح، هو أننا لم نوفق حتى اليوم سواء في برامجنا الدراسية أو في بحوثنا الأدبية إلى تقديم الأدب العربي في مثل تلك الصور الأنيقة الشائقة التي يقدم بها الأدب الغربي إلى قرائه؛ ومن ثم كان انصراف الشباب عن الأدب القومي إلى صنوف منوعة من الأدب الغربي يجد في قراءتها كثيراً من المتاع العقلي، فيؤثرها بعناية وفراغه، ولا يستطيع أن يتذوق بجانبها شيئاً من ذلك التراث الذي ما زال يغمره القدم وما زال يقدم إليه في صور العصور الوسطى
وإذا كنا قد دعونا منذ أعوام إلى العناية بدراسة الأدب المصري الإسلامي، وإذا كنا نرى وجوب التخصص في دراسة هذا الادب، فليس ذلك فقط لأن البواعث القومية تدعو إلى مثل ذلك في كل أمة حية تشعر بماضيها وتعتز بتراثها القومي، بل لأن هناك أيضاً من البواعث العلمية والثقافية والتاريخية ما يدعو إلى اعتبار الأدب المصري الإسلامي وحدة أدبية مستقلة بين تراث الأدب المصري الإسلامي وحدة أدبية مستقلة بين تراث الأدب العربي العام، تستحق أن تدرس على وحدة؛ وأن تدرس على حدة؛ وأن تدرس خواصها وتطوراتها دراسة خاصة، كما يدرس الأدب العباسي أو الأدب الأندلسي
بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن الأدب المصري الإسلامي يستأثر بمميزات خاصة قلما توجد في فرع آخر من الأدب العربي؛ نعم إن الأدب العباسي والأدب الأندلسي، وأدب الشام، وأدب شمال أفريقية يمتاز كل منها بمميزاته الخاصة، من إقليمية، واجتماعية وسياسية، ولكن الأدب المصري فضلاً عن احتفاظه بمثل هذه المميزات العامة يمتاز أيضاً بطابعه المصري العميق؛ وتبدو هذه الخاصة واضحة في كل فنونه ومراحله، وتكاد تغلب على كل خواصه الأخرى؛ وذلك يرجع إلى عوامل تاريخية وثقافية خاصة؛ فقد اتخذت الحضارة الإسلامية في مصر طابعها الخاص؛ وكان قيام الأزهر بالقاهرة منذ منتصف القرن الرابع عاملاً جديداً في توكيد هذا الطابع الخاص للأدب المصري؛ ولما انهارت الخلافة العباسية في المشرق وفرت العلوم الآداب الإسلامية أمام الغزاة البرابرة من السلاجقة والتتار، تبوأت مصر زعامتها الفكرية في المشرق، ولبثت القاهرة بجامعتها
الكبرى، ملاذ التفكير الاسلامي، حتى الفتح التركي؛ وفي جميع هذه المراحل كان الأدب المصري الإسلامي يحتفظ بجميع مميزاته وخواصه في جميع مناحي التفكير، في الشعر والأدب والتاريخ والعلوم والفنون؛ وإذا كان الأدب المصري قد تأثر في العصور ببعض العوامل الخارجية، سواء من المشرق أو المغرب، فأنه لم يفقد بالأخص شيئاً من طابعه المصري العميق
ويبدو هذا الطابع المصري الخاص لأدبنا الإسلامي في تراثنا الفكري بأوضح صورة؛ ففي الرواية والتأريخ، وفي الشعر والنثر. وفي أساليب والتفكير والكتابة، نلمس هذه الخاصة ولا سيما في الشخصيات والآثار النموذجية؛ فأنه يصعب مثلاً أن تجد بين شعراء العربية في الأمم الأخرى، شاعراً مثل البهاء زهير، أو ابن نباتة؛ فهذان شاعران مصريان روحاً ومعنى، يمثلان مصر أقوى تمثيل وأصدقه، ومن النادر أن تجد بين شعراء العربية من يحمل الرسالة القومية بمثل ما يتجلى في شعرهما من إخلاص وقو ة في التعبير عن الروح القومي وكل خواصه ومميزاته؛ كذلك ينفرد الأدب المصري بنوع من أدب الموسوعة أو (الأدب الانسيكلوبيدي، ولدينا من ذلك آثار تعتبر بحق نماذج فريدة مثل نهاية الأدب للنويري، ومسالك الأبصار للعمري. وصبح الأعشى للقلقشندي، وهي آثار ليس لها نظائر من حيث تنوعها وطابعها العام، وتخصصها مع ذلك فيما عرضت إليه؛ وانفردت الرواية المصرية الإسلامية أيضاً بمميزات خاصة تستحق أن ندرس على حدة، فأليها يرجع الفضل مثلاً في ابتكار فن الخطط والآثار، الذي يقوم على استعراض تأريخ المجتمع والحضارة إلى جانب تاريخ الدول، ونستطيع أن نقول بحق أنه لا يوجد بين آثار الرواية الإسلامية كلها أثر كخطط المقريزي في طرافته وقيمته الاجتماعية والتاريخية؛ وهذه أمثلة قليلة من كثيرة نستطيع أن ندلل بها على ذلك الطابع القومي الخاص الذي يمتاز به أدبنا المصري الإسلامي على غيره من آداب الأمم الإسلامية الأخرى
كذلك يجب أن لا ننسى أثر الأزهر في تكوين ذلك الطابع الخاص؛ وقد لبث الأزهر قروناً ملاذ العلوم والأدب في مصر الإسلامية؛ وأثره في تكوين تراثنا الفكري أعظم من أن نحيط به في مثل هذا المقام، وهو أثر يستحق أن يدرس لذاته ولأهميته وإذا كلن الأزهر نفسه أحق بأن يدرس تأريخه العلمي الحافل؛ فانه من المعقول أيضاً أن تكون رسالة الأزهر في
ماضيها وحاضرها موضعاً للدراسة المستفيضة في استعراض مراحل الأدب المصري الإسلامي التي تعني الجامعة المصرية بالبحث في إنشاء كرسي خاص لها؛ بل يلوح لنا أن مثول الأزهر في تاريخنا الفكري بمثل هذه القوة من العوامل الأدبية الخطيرة التي تملي بضرورة إنشاء هذا الكرسي الخاص
وقد كنا نود أن تعني الجامعة المصرية إلى جانب عنايتها بإنشاء كرسي للأدب المصري الإسلامي بإنشاء كرسي آخر لتأريخ مصر الإسلامية؛ فقد انقضى عصر طويل لم يحظ فيه تاريخنا الإسلامي بما يجب من الدرس والعناية؛ ونحسب أن العوامل السياسية التي كانت تملي من قبل بإسدال الستار عن ماضينا وعلى ذكرياتنا القومية المجيدة. وبتصوير مصر في جميع مراحل تاريخها أمة مستعبدة، لم تذق في ماضيها الطويل الحافل طعم الحرية والاستقلال قد أنقضت؛ ونحسب أن الوقت قد حان لأن يعرف الشباب المصري عن تاريخه القومي على الإقلال مثلما يعرف عن تاريخ الأمم الغربية الذي تسخو برامجنا التعليمية في تلقينه للطلاب، وأن يرفع عن تاريخنا ذلك الستار الذي أسدلته يد الاهواء، وأن نستعرض ذكرياتنا القومية المجيدة على ضوء البحث المنزه، فيكون لنا منها غذاء قومي حقيقي، يخلق بالعصر الجديد الذي تستقبله مصر، فالتاريخ القومي في جميع الأمم الحية عنصر هام في تكوين الشعور الوطني وفي تغذيته وإذكائه
فالمشروع الجليل الذي يتقدم به اليوم الأستاذ العميد إلى مجلس الجامعة المصرية إنما تملي بتحقيقه بواعث علمية وقومية معاً؛ وما نحسب المجلس الموقر إلا سيقدر هذه البواعث قدرها وسوف يكون إنشاء الكرسي المنشود حادثاً علمياً في تاريخ برامجنا الدراسية؛ وفي اعتقادنا أن الجامعة ستفهم مهمة هذا الكرسي بأوسع معانيها، فتجعل منه بداية حسنة لدراسات مصرية إسلامية شاملة فيما بعد، وسوف يكون لهذه الدراسات أكبر الأثر في إحياء تراثنا الفكري، وسيكون لها بالأخص أكبر الأثر في التدليل على أهميته وعلى قيمته التي طمستها عصور طويلة من النسيان والنكران
محمد عبد الله عنان
في الأدب المقارن
البطولة في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
البطل فرد يمتاز عن غيره من أفراد مجتمعه بمواهب عقلية أو خلقية أو جسدية، يظهر بها بينهم وينال من أجلها إجلالهم ويبذلها في خدمتهم ويتولى قيادتهم في معترك الحياة ردحاً من الزمن، ويترك في تاريخهم أثراً يطول عهده أو يقصر؛ فالبطل لا يكون إلا في مجتمع، وهو عادة نموذج لصفات أبناء ذلك المجتمع ومثل أعلى لنوع حياتهم، ومواهبه إجابة لمطالب ذلك المجتمع وحاجاته في فترة من الزمن، فالأمة المحاربة إذا كانت تجري الحياة في عروقها قوية وتتمتع بالصفات اللازمة للبقاء ينبغ فيها القائد، والأمة الشاكة الحيرى يظهر فيها النبي، والشعب الذي يشكو فساد أنظمته الاجتماعية يقوم فيه المصلح
والأمة المتبدية الساذجة التي لم تستقر بعد ولم تبرح حياتها سلسلة متواصلة من الحروب، لا يكاد يظهر فيها من أنواع البطولة إلا القواد البسلاء، الذين يقودونها في مهاجراتها ومحارباتها لجيرانها، ويبدون من ضروب الشجاعة ويفتقون من أفانين الحيلة والرأي والمكيدة ما يبلغون به الفرصة في أعدائها؛ ولأولئك الأبطال في تلك الجماعات مكانة لا تطاول وأثر لا يبارى وكلمة لا ترد، وإن أحدهم ليغني غناء الجحافل، ويعدل بين قومه ما لا تعدل الآلاف، ولا غرو: فالحروب في أمثال تلك العهود أكثرها مصاولات فردية، وتسمى تلك العهود لذلك عصور الأبطال
وفضلاً عما يناله البطل في عصره من تبجيل وتقديم، فإنه إذا ما مات وخلا مكانه وافتقد مثاله، زاد ذكره ارتفاعاً وزاد ذاكروه مبالغة في تعظيم آثاره وتصوير وقائعه وتخيل صفاته ومواهبه، وما يزال جيل يزيد على جيل حتى تقوم حول بعض الأبطال أقاصيص طويلة السرد، تنطوي على شيء من الحقيقة الأولى ويتكون أغلبها من صنعة من الخيال ومما تصبو إليه النفس الإنسانية دائماً، من أمثلة القوة والشهامة والنجدة والغلب وحماية الذمار، ومما تتوق دائماً إلى تصوره من روائع المشاهدات، وجسام الوقائع؛ بل كانت بعض المجتمعات البدائية تغالي فترتفع بأبطالها إلى مصاف الآلهة، كما فعل أوائل قدماء المصريين بأوزيريس وأخته وابنه، وكما فعل أوائل الاسكندناويين ببطلهم أودين، أو إلى
مراتب أنصاف الآلهة كما فعل الإغريق القدماء بأبطالهم
وإذا ما استقرت الأمة وتحضرت، وجنحت إلى السلم ولم تعد الحرب هي حالها الاجتماعية وضؤلت مكانة أبطال السلم من أنبياء ومصلحين ومشرعين وحكام وأرباب علم وفن، وهبطت قيمة القائد في الجيش قليلاً فلم يعد هو وحده المهيمن على مصائر الحرب بل صار للعدد والنظام والسلاح وغير ذلك حساب كبير؛ وبطل تصديق المتعلمين بواقع الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال؛ ولكن البطولة أعلى صورة من الصور خالدة، وعبادة الناس في كل العصور لها قائمة، بل إن احتفاء الأمة بأبطالها من أبرز دلائل حيويتها، كما أن من دلائل حيويتها حفول تاريخها بأسمائهم، بل يغالي كارليل ويزعم أن تاريخ الأمة هو تاريخ أبطالها، وتاريخ العالم إن هو إلا سير الأبطال
وتلك الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال إذا فقدت اعتقاد الناس بصدق كثير مما فيها فم فقدت إلا هيناً يسيراً، ولن تفقد ما يعج به من روائع الأوصاف وبدائع الصور وممتع الأخيلة وشائق المواقف والوقائع، والعرض الصادق لأحوال المجتمعات المتخلفة عنها تلك الآثار، والتأمل في طبائع الإنسان ومذاهبه في الحياة؛ فتظل تلك الأقاصيص تحفظ لنفاستها، وتظل كنزاً ثميناً لقرائح الأدباء وأخيلتهم، يطيب لهم الهيام في عالمها البعيد، وإجراء أفكارهم على ألسنة أشخاصها العظماء، واستعارة وقائعها وتشاهدها في التمثيل لوقائع عصورهم وأحداثها، وإبراز معانيهم وأغراضهم بالإشارة إلى حوادثها وملابساتها؛ وخير مثال لكل ذلك عصر الأبطال في بلاد الإغريق:
فعصر الأبطال في بلاد الإغريق، الذي أمتد زمن استقرارهم في شرق البحر الأبيض وتشربهم حضارته، هو أشهر عصور الأبطال وأسيرها ذكراً، لأن أشعار هوميروس قد خلدت روائع الصور لأحواله وعظائم أبطاله، وبدائع الأوصاف الشاملة لمعتقدات القوم وتصورهم لآلهتهم؛ حتى إذا ما انقضى ذلك العصر وبرزت اليونان في عالم التاريخ الواضح وطلعت في عصرها الذهبي وحلت الفلسفة محل الخرافة، وبطل الاعتقاد بكثير من أخبار الإلياذة والأوديسة، اتخذت أشعار الملاحم تلك مادة لضرب جديد من الأدب هو الدرامة، التي ظهرت لتسد حاجة ذلك العصر ما لم يعد يسده شعر الملاحم الذي يلتفت إلى الماضي ويتوفر عليه، ولا يعير الحاضر التفاتا
وكلتا الأمتين العربية والإنجليزية قد مرت في استقرارها وتحضرها بعصر أبطال ترك أثره في أدبها: وعصر الأبطال في التأريخ العربي هو عهد الجاهلية الذي انتهى بظهور الإسلام وظهور الأمة العربية في ضوء التأريخ المستيقن، فالجاهلية العربية شديدة الشبه بالعصر الهوميري: فيه كانت الأمة منقسمة على نفسها لا تفتر عن القتال، ولا يزال يظهر فيها من الأبطال أمثال عنترة ومهلهل ودريد بن الصمة، ولا تزال تتحدث بأيام المواقع وتتفاخر وتتنافر كما تفاخر أبطال الحروب الطروادية، ولولا أن الإسلام وضع حداً فجائياً لذلك العصر، لما بعد أن تتجمع أشعاره وأقاصيصه في ملحمة أو ملاحم كبرى؛ وكان العرب على تفرقهم يشعرون بوحدتهم في الجنس واللغة ويجتمعون في مواسم الحج وأسواق التجارة والأدب، كما كان اليونان يجتمعون في دلفي وأوليمبيا، وكما كان اليونان يزدرون غيرهم ويلقبونهم بالبرابرة كذلك كان العرب يعتدون بعربيتهم ويلقبون غيرهم بالاعاجم، ولم يفتهم أ، يجمعوا شملهم تحت لواء العربية لدفاع الفرس في موقعة ذي قار، كما فعل الإغريق من قبل إذ تجمعوا بزعامة أثينا لرد عادية الفرس أيضا، وفي موقعة ذي قار يقول الأعشى:
لما أمالوا إلى النشاب أيديهم
…
ملنا ببيض فظل الهام يقتطف
وخيل بكر فما تنفك تطحنهم
…
حتى تولوا وكاد اليوم ينتصف
ومر الإنجليز بمثل ذلك العصر في عهد استقرارهم في الجزيرة، وأهم الآثار الأدبية المتخلفة عن ذلك العصر ملحمة بيولف التي تصف كيف تغلب أمير إنجليزي على وحش هائل أقض مضاجع بعض الملوك المجاورين، وذلك العصر في التاريخ الإنجليزي شديد الغموض، ولغموضه ذاك رُدًّت إليه خرافات لعلها لم تكن منه في شيء كقصص الملك آرثر وفرسان مائدته المستديرة، وهي قصة قد نالت من احتفال أدباء الإنجليزية ما لم تنله قصة بيولف، لسذاجة هذه وشدة إمتاع تلك، واحتوائها على كثير من تقاليد العصور الوسطى وأنظمة فروسيتها ومغامراتها
ولم ظهر الأدب الإنجليزي الحديث، بعد انتشار الحضارة والعلم، اتخذ الشعراء والروائيين من تراث العصر السابق مادة لخيالهم، ولم يكتفوا بذلك بل استعاروا خرافات عصر الأبطال الإغريق مضافاً إليها تاريخ الإغريق والرومان، مما انطوى عليه ذلك التاريخ من
سير الأبطال، فحفل الأدب الإنجليزي بذكر البطولة وتمجيد الأبطال، سيان إنجليزيهم وأجنبيهم، تاريخيتهم وخرافيتهم، عجت بذكر هؤلاء وأولئك روايات شكسبير، وتفنن سبنسر وتنيسون في سرد قصص آرثر وفرسانه، واستعار شلي أبطال اليونان وآلهتهم لبعض مواضيعه، كما في قصيدته (بوميثيوس المقيد) ولم يألُ سكوت جهداً في تصوير بطولة القرون الوسطى في قصصه
تناول الأدباء سير أولئك الأبطال بالدراسة الفنية لشتى الأسباب: لما ركب في الطبع الإنساني من عبادة الأبطال والشغف بحديثهم، ولما يُضفيه مجدهم وبأسهم على الموضوع التناول من عظمة وجلال، ولما يبعثه حديثهم في النفس من تسام وصبوٍ إلى المثل الأعلى، وما يبثه ذكر أبطال الوطن في نفوس أبنائه من فخر وثقة؛ فلعباده البطولة في إطلاقها وتمجيد العظمة الإنسانية في عمومها تناول شكسبير سير قيصر وبروتس وكريولانس وعطيل بالوصف، وكتب ماثيو ارنولد قصيدته الطويلة سهراب ورستم، ولتبجيل البطولة القومية والاعتزاز بأبوة الوطن الذين شادوا مجده تناول شكسبير مواقف هنري الخامس في حرب مائة العام، وألف سكوت قصصه الاسكتلندية مثل خرافة منتروز وكونتين دروارد
ولم يقتصر أدباء الإنجليزية في تمجيدهم للبطولة واحتفائهم بالأبطال على الماضي الخرافي أو التاريخي البعيد، بل التفتوا إلى الحاضر والماضي القريب، ووفوا أبطال جزيرتهم الذين وطدوا مكانتها وأعلوا كلمتها حقهم من الذكر والتعظيم، في جانبي المنثور والمنظوم؛ بل كان الأبطال الخرافيون يستعارون أحياناً رموزاً للعظماء المعاصرين، كما فعل ادمزند سبنسر في قصته الشعرية (الملكة الحسناء). وكما قيل أن شكسبير قد قصد من الزمن لشخصية هملت إلى شخصية إرل إسكس؛ وقد أحتفل سوذي وكاميل وتنيسون وما كولي نتمجيد أبطال الإنجليز وعظمائهم في البر والبحر أمثال نلسون وولنجتون وكلايف. وكتب كارليل كتابه (الأبطال وعبادة الأبطال) فأسهب في الكلام على مظاهر البطولة في شتى الأزمان والأمم، واثر الأبطال في تقدم العمران البشري وما هم جديرون به من حفاوة
فالأدب الإنجليزي، بعد انقضاء عصر الأبطال المحاربين، لم يخل من ذكر البطولة وتمجيد الأبطال، بل ظل معنياً بأبطال الماضي ولم يجعل الحاضر دبر إذنه: لأبطال الماضي البعيد بوقائعه الخارقة التمجيد والتصوير الفني المبالغ المغرق في الخيال والشاعرية، ولأبطال
الحاضر التكريم والتأريخ الذي هو أدنى إلى الحقيقة دنو عصرهم من الأذهان، وأبعد من الخرافة والخيال بعد الإنسانية عن عصور طفولتها؛ أما في الأدب العربي فقد أنقطع ذكر الأبطال أو كاد بانتهاء عصر البطولة الجاهلية: أهمل الأبطال الجاهليون أو فازوا بالنظرة العابرة والذكرة العارضة، ولم يكن أبطال الإسلام أوفر منهم حظاً من عناية الأدباء. مهما كان نصيبهم من اهتمام المؤرخين ومكانهم في التاريخ
ولم يخل تاريخ العرب بعد الإسلام من أبطال يمجدون وتنسج حولهم القصائد الطوال، ولا أقفر تاريخهم من حوادث مملوءة بالوحي الشعري الصادق، بل أن تاريخ نهضتهم وبسط سلطانهم لهو ملحمة التاريخ الكبرى التي تزري بكل ملحمة، وتسخر من الوقائع الموضعية الضئيلة التي حاك حولها هوميروس قصيده الفاخر، وقد أنجبت تلك النهضة - بعد شخصية الرسول الكريم التي لم يجد بمثلها الزمن - نخبة من أبطال السلم والحرب، كخالد وعمر وعلي وابن العاص ومن عاصرهم وتلاهم من فحول الأبطال الذين لو تنجب أمة أعظم منهم. واحتوى تاريخ العرب على سير أفذاذ يستفزون الوحي الشعري خاصة، لما انطوت عليه سيرهم من طرافة وجاذبية: كالحسين الذي استشهد على أسنة الرماح آبياً أن يستأسر، وصلاح الدين الذي رفع لواء الإسلام وقصم ظهر الصليبيين في سورية، وعبد الرحمن الداخل الذي شاد من الفوضى دولة أزهر دول التاريخ، ومحمد بن القاسم، الذي فتح السند وهو يافع والذي قيل فيه:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة
…
يا قرب ذلك سؤددا من مولد
ولكن الأدب العربي قد نبذ ذكر أولئك جميعاً ظهرياً، ولم يحتو من ذكر البطولة والحماسة والحروب إلا على وقائع ثانوية كفتح عمورية وأعمال أنصاف الأبطال، كبدر بن عمار، وغيره من ممدوحي الشعراء الذين كانوا يطمعون في رضاهم ونوالهم، فجاء مدحهم لهم شديد التكلف مغرقاً في التهويل؛ أما إذا لم يكن نوال ولا سلطان حاضر فلا بطولة تستهز نفس الشاعر، ولا عظمة تستدعي إعجابه وتستجيش وحيه، ولا يرد ذكر عظماء الجاهلية في القصيد إلا مستعارة صفاتهم وفضائلهم للمدوح مهما ظهرت فضفاضة عليه داعية إلى السخرية، بل كان أولئك العظماء يزدرون في مواقف الملق لأرباب السلطان: فقد قيل إن بعض الحضور عاب على الطائي تشبيهه ممدوحه (بأجلاف العرب) حين أنشد سبيته في
مدح أحمد بن المعتصم فقال منها:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
…
في حلم أحنف في ذكاء إياس
ومن مثل هذا الحديث تتبين بعض أسباب إعراض الأدب عن حديث البطولة: كالتكسب بتمليق أمراء أنانيين يأبون إلا أن يكون كل المدح لهم؛ بيد أن هناك سبباً أهم هو انعدام روح القومية بين العرب: فقد كانت العصبية القبلية فوق القومية العربية في عصر الجاهلية، فلما وحد الإسلام العرب تحت لوائه وحض على التآخي ونبذ العصبية، لم يستمر العرب دولة واحدة مستقلة منعزلة زمناً طويلاً كافياً لتوحد عناصرها توحداً صحيحاً، واعتناقها جميعاً للقومية العربية مكان العصبية القبلية، بل اندفعوا وهذه العصبية ما تزال على أشدها يفتحون شرقي العالم وغربيه، فإذا هم في بضع سنين يموجون في إمبراطورية مترامية، ضلت قوميتهم العربية في قومياتها المتعددة، وظلت عصبيتهم المأصلة تستأثر بولائهم وتثير الفتن بين قبائلهم، وكان هذا التناحر القبلي من أكبر أسباب انتصار الفرس، ووثوبهم إلى السلطان على أيدي العباسيين
فالمجتمع العربي عرف العصبية القبلية الضيقة الحدود والإمبراطورية العالمية الفضفاضة الجوانب، ولم يعرف القومية العربية التي تسمو على العصبية وتفخر بأبطال العرب الغابرين من أي الإحياء كانوا، والتي تضيق دون مدى الإمبراطورية الواسعة، التي لا يجمعها ماض واحد ولا تشترك في تراث عمراني ثقافي فرد. فلم يكن العربي المسلم يفخر بأبطال العرب المشتركين كابن الوليد وابن الخطاب قدر ما يفخر بآبائه الذين تنتسب إليهم قبليته فابن الرومي في القرن الثالث يمدح أبا الصقر فلا يفوته أن يمدح قبيلته شيبان، وأبو الصقر يرى أن ابن الرومي لم يوف شيبان حقها فيحرمه العطاء، وأبو فراس في القرن الرابع يفخر ببني حمدان الذين يراهم لم يخلقوا إلا (لمجد أو لبأس أو لجود)، ولا يرد ذكر العرب في شعره، وهذه النزعة القبلية الضيقة لا تنتج شعر بطولة فنياً راقياً، بل تنتجه الروح القومية المتدفقة
إنما كان الدين يحل محلل القومية من نفوس العرب، ومن ثم كان له في أدبهم أثر بعيد المدى، ولذلك نرى أن جانباً عظيماً مما قد ندعوه شعر بطولة في العربية يدور حول أعظم الشخصيات الدينية في الإسلام بعد الرسول الكريم، شخصية الإمام علي، وشخصيات
أبنائه: ففي الأشعار التي تندب مصارعهم - رغم اتسامها بالحزن والفجيعة، وقلة ما تسجله من عظائم أولئك الأبطال الذين نهضوا في الحقبة بعد الحقبة، وساروا إلى الموت مملوءين ثقة وبسالة - تمجيد صادق الشعور للمثل العليا مشخصة في أولئك النفر الغر الميامين، ولدعبل وابن الرومي وغيرهما أشعار حارة فيهم، ومن ذلك قول الأول:
وليس حي من الأحياء نعلمه
…
من ذي يمان ومن بكر ومن مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم
…
كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة
…
فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
وسبب آخر عظيم الأثر في خلو الأدب العربي من تمجيد البطولة، هو أن هذا الضرب فني يحتاج في ممارسته إلى تفرغ وطول معاناة وكثرة مراجعة، ومثل هذا الفراغ لم يتهيأ لأدباء العربية، ومثل هذا العكوف أو الترهب الفني الذي حظي به ملتون ووردزورث وتنسيون وغيرهم من شعراء الإنجليزية لم يفز به شعراء العرب وكتابهم، أضف إلى ذلك أن الأدب العربي كان دائماً يؤثر التقليد ويحجم عن اتخاذ مواضيع أو صور جديدة لم يرثها العرب الأولين، ولهذه النزعة المحافظة قد نفي من حظيرته كثيراً من فنون القول ومنادح الفن، لم يرها من شأنه ولم يحسبها جديرة بالتفاته، لأنه لم يرثها عن الأقدمين ولم يطلع على أدب الإغريق فيقف على بدائع النظم التي تأتي من ذلك الباب
وكان الأدب العربي كلما نفي من حظيرته باباً من أبواب القول يمت إلى الطبيعة الإنسانية بسبب لا يجذ، ويروي من النفس البشرية غليلاً دائم الحاجة إلى الري، تلقفه عن الأدب العامي فنهض عنه بالعبء الذي طرح، وآثر إرضاء النفس الإنسانية حين آثر الأدب الفصيح إرضاء التقاليد، ومن ثم حلك الأدب العامي، أو الخيال العربي، حول أبطال الجاهلية كعنترة وكليب، وعظماء الإسلام كعلي بن أبي طالب وهارون الرشيد، روائع قصص البطولة ومنازلة الصناديد ومقابلة الأنس والجان واجتلاء أسباب المتعة والبهجة والفكاهة؛ وما كان بالأدب العربي الفصيح قصور عن ذلك الضرب من القول لو أراده. انظر إلى روعة الوصف في قول المتنبي:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
…
وفي أذن الجوزاء منه زمازم
وقول ابن هانيء الأندلسي في جيش جوهر:
إذا حل في أرض بناها مدائناً
…
وإن سار عن أرض ثوت وهي بلقع
فهذا وصف للجيوش لن تحوي أبلغ أشعار أروع منه، ولا غرو: فقد كانت المادة متوفرة لأدباء العربية لينسجوا من أحاديث البطولة وأوصاف المواقع ما شاءوا، فقد تفنن المسلمون في وسائل الحروب البرية والبحرية وحازوا فيها غايات السبق، والدول والانقلابات كانت تتوالى على أعين الأدباء تباعاً واللغة العربية الرحبة المساعدة بالألفاظ، الغنية بالأوزان الرصينة والقوافي المتعددة، خير معوان على نظم قصيد الملاحم ووصف عظائم الأبطال، فلو التفت الشعراء إلى هذا المجال من القول لرأوا سعة ولكنهم أغفلوه فيما أغفلوه فيما أغفلوا، وعدوا البطولة والأبطال شأناً من شؤون التاريخ، لا فناً من فنون الأدب
فخري أبو السعود
2 - دعابة الجاحظ
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
ولقد رأيت في الناس من يحسب أن التنادر من الشيء الهين، الذي يستطيعه كل إنسان، ويقدر عليه كل شخص؛ وهذا حسبان خطأ، فان التنادر فن له ثقافة ودراية كسائر الفنون، ولا بد من حذقه من استعداد موهوب، وملكات فطرية، يتصل بعضها بالقلب، وبعضها بالعقل، وقد يناقض بعضها بعضاً، وقد لا تجتمع كلها لشخص واحد، ومن ثم اختلف حظ الناس في إجادة هذا الفن، كاختلافهم في إجادة الشعر والكتابة والرسم وغيرها، ففيهم الذي يبلغ في ذلك مرتبة العبقرية، ومنهم من يقف عند حد النبوغ، وفيهم من هو دون ذلك وأقل، ثم تتدلى وتتدلى حتى تقع على البليد الأصم الذي لا يفهم ما يقول، ولا يفقه ما يقال، فهو أخو الجمادات في فقدان الشعور، وبلادة الإحساس، وإن كان قد تميز بالنطق، وبالنطق فحسب!
ومن أجل أن نقيم الأود في هذا الخطأ على وجه أوضح، ونعطي الموضوع بعض ما يستحقه من الشرح، نقول بأن التنادر لا يقف في اتجاهاته ومراميه عند العبث والضحك، ولكنه في الواقع يقصد إلى ما هو أهم وأجل، ويرمي إلى أغراض متعددة، كل غرض منها يعتمد على ملكات ولا بد له من استعداد خاص، فمن ذلك السخر وهو يقوم على الذكاء وقوة الإدراك، وحسن المفارقات؛ والدعابة وهي تعتمد على انبساط النفس، ومرح الطبيعة، وخفة الروح؛ ثم الهزل وإنما يكون عن استهانة بتكاليف الحياة وعظائم الأمور، وتفريط في الواجب؛ وقد يتدفع الإنسان إلى الهزل والعبث بدافع العطف والتبسط، كما تضحك من طفلك الصغير، ومن أصحاب النقص وذوي العاهات. وقليل في الناس من تجتمع له كل هذه الجهات بملكاتها كما كان الجاحظ، وكثير من نجده يجيد الضرب والضربين، فهو في أحدها يقطف، وفي بعضها يقف
على أنه لابد لحذق هذا الفن بعد كل هذه المواهب والملكات من ثقافة بضروبه، وعلم بمسالكه وانتهاجه، حتى يمكن للتنادر أن يقع بالنادرة من قلوب السامعين موقعاً يهز المشاعر، ويشفي نجى البلابل، وقد تكلم الجاحظ في تبيان النهج الذي يكون به أداء النادرة وحظها من القبول والاستملاح والاستطابة فقال: (والنادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من
النادرة الحارة جداً، وإنما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ الأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جداً والبارد جداً. . .
ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإن أنت غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً، أو تجعل لها من فيك مخرجاً سرياً، فان ذلك يفسد الإمتاع بها، وبخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها. .)
وثمة ناحية لا أحب أن تغرب عن البال، وهي أن الإنسان وإن اجتمعت له ملكات التنادر، وتمت له مواهب الدعابة، وكان على علم بشرائط ذلك وضروبه، فأنه مع هذا كله لا يستطيع أن يكون له فبهذا الفن إلا إذا استوفى شرائط أخرى في هيئته ومخبره وإشاراته، وما هذه الشرائط في الواقع إلا أداة هذا الفن وآلته، فكما أنهم ارتضوا للخطيب نمطاً خاصاً في موقفه من اعتجار العمامة، وإصابة الإشارة، وجهارة الصوت، وجودة الإيقاع؛ وكما أنهم اشترطوا للمنادم بزة معلومة من الزي، وحسن الحديث ولطف المدخل، فكذلك رأوا من شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف الإشارة لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف ولا جهول، قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها فطبق المفاصل، وأصاب الشواكل، ولقد تم للجاحظ كل هذا من مواهب الفن وملكاته، فبلغ فيه مبلغ العبقري النادر، وكان له في كل ضرب من ضروبه واتجاهاته، يتهكم تهكماً مراً لاذعاً، ويداعب مداعبة حلوة سائغة، ويهزل هزلاً هو مراح الأرواح، وأنس القلوب. وإنك لتجده في سائر كتاباته وأحاديثه يجمل القول بالنادرة، ويخلط الجد بالدعابة، فيجعله حسيباً إلى النفوس، سهلاً في التناول، وما أعرف للجاحظ ضريباً في تلك الناحية غير الكاتب الإنجليزي الماجن صاحب (الأفكار البليدة) فقد كان ذلك الكاتب خفيف الروح، قويم الفكر، له آراء صائبة، ولكنه كان يسوقها إلى القارئ مساق الدعابة والتفكه، وكان مشغوفاً بنقض ما تواضع عليه الناس من الفضائل والأخلاق، فيحسب الغرور فضيلة، والقناعة بلادة،
ويرى أن أهل الخير والطيبة على باطل، وإنه في ذلك كالجاحظ إذ كان يكتب في الأمور المتناقضة، والحالات المتضاربة، فيحتج لفضل السودان على البيضان، ويفتخر للرماد على المسك، وإن الشبه ليشتد بين الرجلين إذ يتحدث كل منهما عما يتصل بنفسه، ويمسه في شخصه، ولقد وقفت على فصل لذلك الكاتب يتكلم فيه عن الذاكرة، ويتنادر بضعف ذاكرته حتى بلغ به أنه كان ينسى أسمه في بعض الأحيان، فاذكرني ذلك بما كان من أمر الجاحظ إذ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام، فسألت أهلي بماذا أكنى فقالوا لي: أبو عثمان!!
ولقد كان الجاحظ في كثير من قبح الشكل، ودمامة الخلقة، وقصر القامة، ونشوز التركيب. ولكنه كان على الرغم من ذلك كله طيب المحضر، شهي الحديث، خفيف الروح. ظريفاً في إشاراته، فكان بذلك ريحانة السامر، وأنس النادي، ومهوى الرؤساء وولاة الامر، يطلبونه لخفته، ويحرصون عليه لظرفه، ويغمرونه لذلك المرح الذي يفيضه عليهم. وأسوق إليك من ذلك طرفاً: حدث الرواة أن الجاحظ كان جانب الوزير أبن الزيات ينصره على القاضي ابن أبي دؤاد، وكان الشنآن مستحكماً بين الرجلين، فلما غضب المتوكل على أبن الزيات وقتله، وتم الظفر للقاضي، خاف الجاحظ على نفسه التلف، فطلب السلامة بالهرب، فلم يلبث أن قبض عليه، وحمل إلى ابن أبي دؤاد مغلول العنق، مقيد الرجلين، في قميص سمل. فلما وقف بين يديه، وأرسل القاضي في وقف بين يديه، أرسل القاضي في طلب حداد. فقال الجاحظ أعز الله القاضي، ليفك عني أو ليزيدني؟ قال: بل ليفك عنك! فلما جيء بالحداد، غمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساقه، ويطيل أمره قليلاً، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي، وليس بجذع ولا ساجة. فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه. وقال ابن أبي دؤاد لمحمد ابن منصور وكان حاضراً: أنا أثق بظرفه، ولا أثق بدينه!! ثم قال يا غلام صر به إلى الحمام، وأمط عنه الأذى، فنزع منه الغل والقيد وأدخل الحمام وقد حمل إليه تخت من ثياب وطويلة من خف، ثم جاء فصدر المجلس، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان
وكم كنا نشتهي أن يصلنا ذلك الحديث الذي لا نشك في أنه كان عذباً شهياً يفيض بألوان من المرح، وفنون من الأنس، قد توثب فيه الجاحظ على طريقته من نادرة إلى نادرة،
وتنقل به من طرفة إلى طرفة. فيا ترى ماذا قال أبو عثمان، وبماذا أجاب ابن أبي دؤاد ولماذا سكت الرواة؟!
(له بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي آلفونس كار
الفونس كار من أبرز أدباء القرن التاسع عشر وقد أشتهر بأسلوب خاص من السهل الممتنع، ومن ابلغ آثاره (حديث الأزهار) وهو مجموعة قطع صغيرة في كل منها مجال وسيع للتفكير، وهذه بعض أحاديث أزهاره أنقلها إلى العربية وأقدمها إلى قراء الرسالة.
ف. ف
(1)
الزهرة الأولى
لقد انبلج صبح نيسان (أبريل) فإلى الحقول يا بنات الأمل لاقتطاف أول زهرة من أزهار الربيع.
اقطفي أول زهرة يا فتاتي وضعيها تحت طيات ثوبك على صدرك، فأنها طلسم السعادة يشدد العزم ويحيى الأمل.
ليست الوردة ولا البنفسجة أولى أزهار الربيع، بل هي الزهرة التي تلمحها العين قبل سواها؛ هي التي يبدو لمرتاد الحقول كأول ابتسامة ترسلها الطبيعة من خلال دموع الشتاء.
لقد كانت الوردة أول زهرة أعلنت إلى قدوم الربيع في السنة الماضية؛ وكانت زهرة البنفسج رسول الحياة إلى قلبي في أول هذا الربيع. ومن يدري ما تكون الزهرة الأولى بعدها، فلعلها زهرة القبور.؟
من أي نوع كنت يا زهرة الربيع، أنت ابتسامة الحياة بعد الموت، ولمعة الأمل بعد اليأس. أنت الزهرة الأولى، لا تلمسك يد دون أن ترتجف، ولا تقع عليك عين دون أن تترطب بندى الأجفان.
إن الناظر إليك يا أولى الزهار، ليشعر بأن فتوة القلب ستعود مع فتوة الزمان، وأن النفس ستنور مع تتويج الأزهار وتخضّر ذاوياتها مع اخضرار الأوراق.
أنت الأمل يا زهرة نيسان، بل أنت ابتسامة أوهام ينخدع بها المرء فيؤمن بإمكان رجوع المنصرم وعودة خطوات الزمان.
أولى الأزهار شبيه بالأعياد في دوران الأعوام، فهي درة في عقد الساعات والايام، إذا ما بدت في الحاضر نبهت ما مضى بمثل زمانها الغابر ودفعت بالقلب إلى العودة نحو الزمان القديم إنها لوقفة يربط الإنسان فيها حلقة الآن الحاضر بمثلها من الآن البعيد، فيحسب نفسه إلهاً ينفخ في الأموات نسمة الحياة. وما أوجع ما يشعر به حينما يرى هذه الرجعة وهماً تولده حرارة القلب وتبدده عاصفات الأقدار.
ما أجملك أيتها الزهرة الأولى، وما أحلى وما أمر ما تفعلين بالقلوب، ينشر مشهدك من جوانب التذكار ألوفاً من مجنحات الحياة ثم يطويها ليردها مكسورة الأجنحة إلى قبر الزمان.
إنها لسريعة الذبول، أولى أزهار الربيع، وما أشبهها بما تولد في القلب من شعور.
سلاماً على وريقاتك يا زهرة الربيع وبلسماً من عبيرك على قلوب العاشقين والشعراء، على قلوب الحزانى والآملين.
لئن كان في وهمك بعض العذاب، فان فيه ما يعيد إلى التذكار برهة من متلاشيات الحياة.
في أول قطفك برهة من الشباب للشيخ، ولحظة أمومة للثكلى، وفترة بنوة لليتيم. وما بين وريقاتك الباسمة فترة لقاء لأبناء هذه الحياة بأحبابهم الراحلين الثاوين في القبور
سلام عليك يا زهرة الربيع، فأنني وجدت بك وأنا أقتطفك لوحدي ما كنت أجده وأنا أقتطفك من قبل مع الأحبة المودعين.
فليكس فارس
جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
لأستاذ الأدب في جامعة السربون (دانيال مورني)
بقلم الأستاذ خليل هنداوي
القصة الواقعية
أميل زولا
أصول مذهبه:
يتولد أدب زولا من إرادة قانونية ومن طبع لا يتلاءم مع هذه الإرادة. أما هذا النظام فهو يعود إلى تأثير (بالزاك) فيه و (فلوبير) وفلسفة (تين) والواقعيون هم الذين قالوا بأن القصة لا ينبغي أن تكون رومانتيكية إبداعية لأنها ليست وليدة خيال أو وهم، وإنما يجب أن تكون محاكاة حقيقية للحقيقة، ولكن زولا بما أوتي من الخصب وبما أفاد من مطالعة المتأخرين وجد إن هنالك مذهباً أجدر بالأخذ، يجب أن تخلق القصة المبنية على الامتحان الذي يصل إلى عرفان حقائق علمية. وقد آلت بزولا مطالعته للدراسات النفسية التي نشأت في جيله كنظرية ولادة العواطف ونظرية الوراثة الطبيعية فلسفياً وفسيولوجياً إلى أن يرى أن الطبائع في الرواية المدرسية إنما كانت عقداً بسيطة، على أن كل ما في الإنسان وكل ما في القصة يخضع للجبلة الطبيعية أو للطبع. وهذا الطبع إنما هو وليد الوراثة ووليد تأثير الأوساط والظروف، فواجب القصة إذن ألا تقف بحثها على دراسة حالات نفسية ما هي إلا كلمات مصفوفة، وإنما على حالات واقعية. فتأنيب الضمير مثلا ما هو إلا اضطراب بسيط عضوي، (وإنما غايتي أن أكون كاتباً واقعياً وطبيعياً) ولكن القصة الامتحانية يجب أن يكون لها هدف أبعد، إنها ستكون درساً. فقد يجلس القصصي وتحمله ملاحظته وتأملاته إلى حالة من حالات كل يوم، فيرى مثلاً حالة جنون التصوف أو هلاك المدمنين للكحول، أحل بهم هذا عن مصادفة، أم نتيجة شريعة معلومة؟ إذا أردنا أن نعرف ذلك فلنقم أشخاصاً وأنفسنا مقام من تخيلهم فكرنا المؤلف على الطريقة الامتحانية، ولنتأمل مجرى هذه
الأشياء، فإذا وصلنا في النهاية إلى النتيجة التي أدركناها بالتأمل الأول كان لنا أن النتائج الواحدة تتبع الأسباب الواحدة، وهكذا أوجدنا قانوناً، وعملنا علماً!
على أن أهواء (الرومانتيكيين) لم تكن أبسط ولا أسهل من هذه البحوث العنيفة التي يشبهها زولا بحقائق علمية يختلقها رجل الأدب كما يشاء هواه لكي يصل إلى النتائج التي تلائم فكرته وغايته. وأحكام زولا العلمية لم تكن أكثر جداً من بحوثه.
وقد وضع زولا قصصه سائراً على طريقته بصبر وجلد، لا يعرف الملل، وقد عمل على الذهاب من المبدأ إلى النتائج، فبعض أشخاصه تؤثر فيهم عوامل الوراثة، وبعضهم لا يستطيعون فراراً من تأثير الأوساط والظروف وبهذا لم تظهر الفضيلة عنده كمثل مستقل وإنما الفضيلة تحتاج إلى الوراثة والى تأثير الأوساط والظروف كما هو الحال في الرذيلة التي تنشأ بهذا التأثير.
طبع المؤلف وعبقريته
لقد كان طبع زولا أشد وأقوى من تعاليمه الفلسفية، وقد كانت آثاره الأولى تفيض عاطفة ورقة. لق كان كاتباً رومانتيكياً! وهو لا يجهل ذلك في نفسه. فلقد أخذ عهداً على نفسه بأن يكون واقعياً وطبيعياً، وطلب إلى القصصي أن يكون ذا عاطفة، تموج في صدره كل العواطف حيث لا تغنيه عاطفة التأمل والتحليل وحدها. ولقد كانت تموج في صدر زولا العواطف على اختلافها: العواطف الاجتماعية، والعواطف النبيلة. ولقد كان جمهورياً ثم صار اجتماعياً فاشتراكياً. وله هذه الجملة المأثورة (الجمهورية ستكون واقعية أو لن تكون). فكان من وراء ذلك إن رأى في الأغنياء والأسياد والمثرين رجالاً لؤماء وأرواحاً قاسية وعقولاً منحطة، ولا ينزل النبل والشرف والحقيقة إلا منازل رجال الشعب والفنانين والمفكرين المؤمنين بالجمهورية الواقعية. وفي استطاعتنا أن نناقش هذه الأفكار ولكنها بجملتها تصل بنا إلى بعض الأنانية والحمق، والى الإشفاق على البؤس والبؤساء.
إن الصورة التي صور بها - زولا - الإنسانية صورة مظلمة الألوان، تحمل في طياتها اليأس والوجوم، تتلخص هذه الصورة في أنها مجموعة مظلمة للعيوب والخبث والرياء، وجهود دائبة تبعث على الإشفاق تذهب مذهب العنف في قتال الفاقة الروحية والجسدي؛ على أن زولا برغم ذلك كله يعتقد أن هذا النضال شريف وعظيم، يبشر بمستقبل خير من
الحاضر ويعلن أن الحياة الحرة المخصبة هي التي ستظفر وتنتصر. وتراه قبل كتابة (أناجيله العاطفية) كان يعتقد بجمال الحياة، هذا الجمال الذي هو عنوان قصه له، إن جمال الحياة سينتصر على كل شناعة فيها، وسيغلب على كل مناسك وشعائر لا تبعث إلا على الزهد والفرار من الحياة وسيقهر المذاهب المسممة. الحياة وحدها ستكون جميلة لأنها ستكون صادق مبدعة. وهكذا تجد زولا يتشاءم ويطغي عليه تشاؤمه تلوح خلاله لمعات الرجاء، ويمشي فيه شعاع التفاؤل
ولزولا مخيلة قوية وثابة. إن الشيء الذي يحبه حباً جماً هو مشهد الحياة. يحب الشناعة فيها والرذيلة والفساد أيضاً، أليس هو مشهداً من مشاهدها؟ وإن مشهد الحياة يجمل بنفسه حيث يبدو مجموعة صور تتجلى فيها لجبة الحياة، وفي الحق لا تظهر عبقرية زولا وفي الحق لا تظهر عبقرية زولا إلا في هذا القدرة على التخيل. وان هوجو وفلوبير قد وصفا الجماعات في حركتها، وفي عراكها وصراعها، ولكنه وصف ينشأ حول أبطال القصة ولا يدخل في أنفسهم. أما زولا فقد بدل هذا النظام، وترك الحياة المضطربة المبهمة تسود جو القصة كلها. فهنالك صور كبيرة تهيمن على الجماهير، وهنالك كائنات سرية عظيمة كأنها تحيا باضطراب الجماعات، وأن عالماً ضخماً واسع الحدود، ذا لجب وصخب، مبهم التفسير، يفتش ويتحرى ويجد تأويل نفسه في هذا الرمز يبدو - طوراً - كصورة عنه، وتارة كوهم باطل!
وقام لزولا منتمون لمدرسته، أخذوا بمبادئه الأدبية وهجروا مبادئه الفلسفية، فلم يشاءوا أن يجعلوا تأريخ البشرية مقيداً بتاريخ الوراثة والأدواء الكحولية، ولم يعتقدوا بأن القصة إنما تكون تجربة فسيولوجية اجتماعية. . . فعادوا إلى المصادر التي صدر عنها زولا، والى الواقعية التي أقتبسها من فلوبير وكونكور، ورأوا أن كل ما فيه اختلاق هو افتراء، ورأوا ألزم شيء التحدث عن شيء لاحظناه، ولو أن الحياة قدمت لنا مشاهد نادرة الوقوع فمن الواجب أن نهملها لأنها افتراء! مادة الرواية هي مادة كل يوم، هي مادة كل شيء لا ابتداء له ولا انتهاء، مادة كل ما يمكن وقوعه كل يوم في كل كون، والحياة التي تتمثل لنا كل يوم وفيكل كون هي حياة فيها القبح والشنيع، أما الجمال والفضيلة فهما صفتان نادرتان، أو أقل هما مستحيلان، وهما مما لا يصح اتخاذه موضوع القصة، القصة التي تعرض الشناعة
والرياء الضعيف الممتثل في مجتمع بنيت أسسه على رذائل مشتهرة وأنانية متبجحة. وإنما قيمة القصة وحسنها يتوقفان على مقدار صدقها في وصف هذه الشناعة والرياء
هذه مبادئ جهد بها هؤلاء ولكنهم لم يكونوا أمناء لمبادئهم، فقد كانت فضيلتهم زاهية مختالة، قتلوا كبرياء وخلقوا كبرياء، وكرروا موضوع (كتلة الشحم) تحت مظاهر متحدة الغرض، وكل رواياتهم تعود إلى وصف فئة تتظاهر بنصر الفضيلة، تمدح جماعة سافلة إذا افترقت إليها، وتعود إلى إهانتها إذا فرغت منها. ولهذا لم يبق من (الواقعية) إلا مبادئ عامة قد تتلاقى بالمذهب (المثالي) حيث تكتب القصة بإسناد وأدلة، والروائي لا يحيا إلا في العالم الباطن، عالم نفسه، وإنه ليخرج منه ليلتقط من الحياة اليومية ألف مشهد، ويتحرى في هذه المشاهد عن الغرائز والهواء التي تتمثل هذه القصة. الحياة الحقيقية ليست هي حياة صفوة مختارة، وقد تكون هذه الحياة كاذبة مرائية، إن الحياة في حياة المجموع، حياة الشعب الصادقة، والفن يكون في تصوير هذه الحياة الشعبية
جي دي موباسان
جمال الحياة ومذهبه الواقعي:
عاش موباسان للحياة ولجميع لذائذ الحياة. لقد كان فتى (نورماندياً) له مظهر يملأ العين ونفس لا تعرف الكلال. كان يهيم شغفاً بالطبيعة وجمالها وهو القائل (إني أحب السماء كعصفور، والغابات كذئب شرس، والصخور كوعل أحب حباً وحشياً عميقاً قدسياً وحقيراً - كل شيء يحيا). ولقد كان له في فنونه حواس لا للتمتع فحسب، بل للملاحظة، وقد كان الصديق المقرب الوفي للكاتب (فلوبير) إذا هم بأن يكتب قيد بانتباه ودقة لا كل ما شاهده، بل كل ما يقدر أن يشاهده. ولقد أعطى صوراً كثيرة قوية عن مناظر السين والمارن ومقاطعة نورمانديا وعن حياة القرويين وطلاب الجامعات. وفي قصصه الأولى سخر من معايب نفسه ومخازيها، وسخر من كل ما يراه كاذباً في المجتمع في الأديان والشرائع والعادات.
لقد كان ماجناً مرحاً ولكن لم يطل عهد مجونه ومرحه. فقد تألم وغزا الألم جسمه ونفسه فبدل كل نظراته الواهمة في الحياة
لقد كان مسرفاً جد الإسراف في التمتع بالحياة، وقد أساء لنفسه وجسده بهذا الإسراف، إسراف عنيف في لذته وصناعته كأنما كان طبيعة شاذة عنيفة في ميولها! فبكرت إليه الاوصاب وتناوشت جسمه العلل، فأراد أن يقاوم سلطانها فعكف على الخمر والمورفين والمخدرات وما لبث قليلاً حتى أثر ذلك في نفسه فولد فيها الاضطراب فتبدلت ألوان الحياة في وجهه، واستحال نورها ظلمة حالكة، وأخذت هذه الروح المرحة تشك في فرح الحياة وبدأت تحقر معانيها، وآزره على ذلك عقول أوى إليها كان تفكيرها متجهماً، فهو يحب شوبنهاور ممن وجدوا الحياة صفحة سوداء. ومنذ ذلك الحين إذا كل شيء في عينه زهواً باطلاً وجنوناً وعدما:(سعداء همة أولئك الذين لا يبصرون بسأم كبير: لا شيء يتبدل، ولا شيء يتحول، وأن كل شيء يغمره سأم طويل. . فكرة الإنسان ساكنة لا تتحرك وإنما تدور ضمن حدودها المتقاربة كذبابة في قارورة مسدودة) وهذا الضجر الذي عراه يظهر على صور مختلفة في ثنايا مواضيعه ورواياته؛ على أنه لم يجعل من هذه الإنسانية الكئيبة المحزنة صورة فتانة، وهو إذا لم يجل هذه الصورة بوجه صحيح فانه كان مفعماً شفقة وحناناً عليها، فهو في المواطن التي تهتز فيها الغرائز وتملك على المشاعر يبصر فضائل خفية وجمالاً متوارياً ونزوعاً عنيفاً متألماً نحو المثل الأعلى، تراه يعود إلى حديث من أحاديث الحياة حيثما كان مصدره، يسكب عليه الحنان والرقة، ويسبغ عليه الجمال؛ على أن فوزه الأدبي والثروة التي نالها قد بدلاه وأثرا في نفسه، فقد كان يغشى الأوساط الأرستقراطية ويتمتع بما تخلقه هذه الأوساط من الفنون والمرح العنيف في الحياة، فلم يعد يقنع بطريقته وفنه الأول في وصف الأشياء البسيطة وتصوير الحوادث القريبة. إنه نشط إلى ما تدعوه طبيعته الصافية إلى تحليل نفوس مركبة يستحوذ عليها القلق ويهديها الشقاء، ومن جملة هذه الأنفس نفسه. كتب قصة (قوى كالموت) و (قلبنا) و (بطرس) و (حنا) وما هي قصص تحليلية. هو يريد فيها أن يخفي التحليل بدلاً من نشره. وأشخاصها يريدون أن يخدعوا الناس أسرار نفوسهم بهذه الفصول والحركات التي يأتون بها. وأكثر قصصه تجري على طريقته، القصة الشخصية التي تدور حوادثها حول بطل هو صاحب القصة، تجري على طريقة الاعترافات التي تعبر عن الحياة الباطنة والتحليل الخلقي.
على أن موباسان كانت جهوده بارزة في تطور المدرسة الواقعية وهو في خير قصصه
تبدو واقعيته في ذوق حاد مشبوب يسمو إلى فتنة الحياة الشعبية وهجو الحياة الاجتماعية هجواً لا فظاظة فيه ولا مرارة في انتقاء هذه الحقائق التي تمثل الحقيقة الأكثر ارتباكاً في الحياة. كل شيء في أسلوبه يدل على صرامة واتزان. ولا يمل (موباسان) من قول كل شيء. ولكن من قول كل ما يوحي إليه عقله بقوة وبيان. وقد تفتنه الطبيعة وتأسره وتؤثر فيه، ولكن القصة تخون نفسه، وأخيراً تراه لا يتردد في التحري عن الحقيقة الإنسانية التي تعكس في لحظة واحدة من هذه الحياة المتغيرة العابرة شيئاً من حقيقة النفس الخالدة للناس.
(يتلوه بحث تأثير العلم في الرواية)
خليل هنداوي
التبعة الأدبية
للدكتور حسن صادق
سنبين في هذه الكلمة تبعة الشعراء والكتاب التي يحملونها أمام التاريخ وتثقل على أسمائهم وشهرتم عند مؤرخي الأدب وتطوره، إذا أنتجت أعمالهم الأدبية حالة من الاضطراب العقلي والقلق النفسي بين شباب الأجيال المتعاقبة
وقد يقول قائل إن من ينسب إلى مصنفي الكتب مثل هذه التبعة الخطيرة، إنما يجعل للأدب قيمة أكبر وأعظم من قيمة الدور الحقيقي الذي يقوم به في حياة الأفراد والشعوب. ولكننا نجيب على هذا الاعتراض بأن الطريق الوحيدة التي نملكها لحفظ كنز الإنسانية الأدبي ونقله من جيل إلى جيل، من فجر العصور التاريخية إلى اليوم، هي الكتب؛ وكل ما نعرفه عن العصور الماضية البعيدة لم نصل إليه إلا بأعمال الكتاب. وفضلاً عن ذلك فإن الدراسة المضنية التي يقوم بها الأساتذة أثناء الأعوام الطوال في معهد العلم المختلفة، ليست إلا شرحاً وتفسيراً لأعمال مكتوبة
وينتج عن ذلك أن الحضارة والأدب أمران متعاونان لا ينفصلان، وأن أحدهما بغير الآخر لن يكون إلا التكرار المستمر لوقائع ومذاهب ونظريات بعينها، بدون أية مقارنة ممكنة بين الماضي والحاضر. وما دام هذا هو اعتبار مهمة الكتابة فأن من السهل تصور التعبئة الهائلة الملقاة على عاتق الذين يدونون أفكارهم وينشرونها بين الناس
إن الروح السائد بيننا الآن، قد كونه الشعراء والكتاب والمؤرخون والفلاسفة الذين يتحدثون إلينا بوساطة كتبهم منذ آلاف السنين؛ وسيتأثر من غير شك روح الأجيال القادمة بما نكتب اليوم أو ببعضه على الأقل، ومن أجل ذلك يشعر الإنسان بشيء من الانفعال المستبهم كلما نشر كتاب جديد، لأنه يجهل مبلغ الخير أو الشر الذي ينتجه الكتاب خلال سير الإنسانية.
وليست أنواع الكتب جميعاً متساوية فيما تنتج من الأثر، ولكن أعظمها سلطاناً على النفس وأشدها خطراً وأقواها بأساً هي الكتب التي مصدرها الخيال، أو ما يصح أن يطلق عليها الكتب الشعرية
وفي الحق أنى الكتب الغزيرة المادة التي تدل على التبحر وتتطلب الجدال والمناقشة، أو التي تثبت آراء وأفكاراً وأسس تفندها وتهدمها، سواء أكان موضوعها التأريخ أم الفلسفة أم
الدين، تجد أمامها كتباً أخرى كتبت في الموضوعات نفسها للقضاء على الأثر الذي أنتجه النوع الأول من الكتب؛ وبهذه الطريقة نجد تصحيحاً لشر هذه، في الخير الذي تنشره تلك. وجمهرة الناس الذين لهم حق الخيار في الأخذ بما يرون لهم من الآراء، يستطيعون الوصول إلى الحقيقة بفضل جهودهم العقلية الخاصة. وبهذه المناسبة أذكر كلمة حكيمة للكاتب الفرنسي أناتول فرانس، فقد دخلت عليه في صباح أحد الأيام سيدة، فراعها كثرة ما رأت عنده من الكتب والمجلدات، وقالت له في دهشة شديدة: أقرأت يا سيدي الأستاذ هذه الكتب جميعاً؟ فقال نعم، ومن أجل هذا لا أعرف شيئاً. فازداد عجبها من هذا الجواب الغريب وسألته الإفصاح فقال: كل كتاب من هذه الكتب ينقض الآخر ويهدمه. ولهذا السبب لا يخرج القارئ منها جميعاً إلا بفائدة واحدة، هي أن يتعلم كيف يفكر
ولنفرض - كما هو الواقع - أن مؤخراً نشر كتاباً لحمته الهوى وسداه الحقد على شعب أو ملك أو زعيم ما، ففي هذه الحال يكتب مؤرخ آخر في الموضوع نفسه كتاباً يدافع به عن الشعب أو الملك أو الزعيم الذي حمل عليه المؤرخ الأول، ثم يقوم مؤرخ ثالث بجمع الوثائق والأدلة الصحيحة ويثبت الوقائع والآراء في دقة تاريخية، وهكذا. فإن كان المؤرخ الأول قد قصد إلى الشر، فان نجاحه لا يكون إلا في حدود ضعيفة وقتية لا تلبث أن تزول. وكذلك الحال في ميدان الفلسفة، فإذاً دعاك حكيم إلى الركود وعدم الاكتراث مثلاً، أظهر لك حكيم آخر بالمنطق ضرورة الإرادة والعزم والحركة.
فمهما تكن قوة أصحاب المذاهب والمفكرين، فليس لهم علينا إلا سلطان نسبي، لأننا نظل سادة أنفسنا في قبول مبادئهم ومذاهبهم أو رفضها، ونجد في كتابات أخرى السلاح الذي ندفع به عن أنفسنا هجمات هؤلاء
أما حالنا مع الشاعر فعلى النقيض من ذلك، لأنه السيد المطلق في الميدان الذي اختاره لنفسه. والشاعر هنا هو الذي يخلق من عبقريته الخاصة عالكماً من الحوادث والانفعالات والصور ينفث فيه كل حيوية الأشياء الحقيقية، وإذن فالشاعر هو الروائي أو المؤلف التمثيلي، أو الموسيقار، أو مبتكر الحكايات الخرافية أو مصنف الملاحم أو مبتدع الكلام الموزون المقفى
وبفضل هذه الموهبة، موهبة خلق عالم مستقل، يكون الشاعر فخماً عظيماً أو خطراً مخيفاً.
إنه لا يبحث ولا يناقش ولا يبرهن، ولكنه يبتدع ويخترع. فهو لا يقنعنا، ولكنه يستهوينا ويفتننا كما تفتننا المناظر الطبيعية الجميلة واصطفاق الأشجار في سكون الغابة وخرير الماء في الغدير، أي أن الشاعر يغزونا دون أن نستطيع الدفاع عن أنفسنا وصد غارته عنا. وهو بعبقريته يجعلنا عاجزين عن أن نحذر سلطانه، وفرض علينا أريج أزهاره وظلال غاباته والتحليق في أفقه، فنحن في الواقع سجناء سحره، وأين نجد ملجأ للخلاص من الصور والأخيلة التي يطبعها فينا؟ أنلجأ إلى شاعر آخر؟ كلا لأن هذا يكون تعباً ضائعاً لا طائل تحته. فكل شاعر منهم له ميدان حر مستقل خالص، وليس من المعقول أن يفند الإنسان ملحمة بأخرى ولا درامة بأخرى ولا نشيداً بأغنية. ومن هنا نرى الخير أو الشر الذي يستطيع الشاعر عمله. فهو يستطيع أن يغرس فينا بذور البطولة أو جراثيم الجبن؛ وفي وسعه أن يقودنا إلى الخير أو يدفعنا إلى الشر على الرغم منا
والشاعر الكبير الجدير بهذا اللقب هو الذي يشعر بالرحمة العميقة، ويحتقر المتاع المادي، ويستعذب الآلام في سبيل المجد المستقبل. ويلهمنا حب الحياة ويحثنا على إعزاز الإرادة وقهر الهوى، ويدفعنا إلى ضروب التضحية المجيدة، أي يدفعنا إلى البطولة مهما اختلفت البلاد والجنس والذين والفلسفة. وهذه صفات مشتركة بين الشاعر والبطل
وكلامنا هنا عن الشاعر العبقري؛ أما الشاعر الذي يعوزه الابتكار والأسلوب والعبقرية فلا قيمة له ولا أثر يخشى منه. ومثل هذا ربما يحصل على نجاح وقتي، ولكن شهرته لا تطول ونفوذه لا يمتد ولا يثمر
والشاعر العبقري نوعان: الأول هو الذي أوتي المقدرة على استهواء الناس بخصوبة ذهنه ورقة خياله وقوة ألفاظه وإحكام نسجه، ثم يستسلم فيما يكتب لضعف الهوى ويتغنى بالحياة السهلة الرخوة ويندفع في الملذات الحقيرة المبتذلة ويؤثر بهذا فيمن يسحرهم ويدعوهم إلى الضعف والجبن والأثرة والاشتهاء والشراهة. والثاني هو الذي يحملنا نحو مثل أعلى من القوة والنور والبطولة ولا يورطنا في اضطراب الذهن ورعشة الأعصاب والحواس
حسن صادق
13 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة محمد حسن حبشي
إن تاريخ البدو أيام الجاهلية لا يخرج عن كونه سجلاً لحروبهم، أو بالأحرى هو ذكر عصابات كانت تغير على القوافل بين آن وآخر بغية لسلب والنهب. ولم يكن ثمة حاجة تدعو إلى الاستغاثة، بل كان كل فريق منهم يفخر بنسبه، ويصب على الآخر وابلاً هطالاً من الأهاجي المقذعة، وتؤسر الإبل والنساء، كما كانت المناوشات العدة تقوم بينهم ولكن القليل منها يؤدي إلى نشوب حرب، وكان ذلك نوعاً من الحروب الهومرية أتاح فرصة طيبة للقيام بأعمال تنطوي على البطولة. ويقول ثوربك بصدد هذا الشأن:(وإذا شئنا أن نكتب التاريخ الواقعي لمثل هذه المنازعات البدوية وجدنا ذلك أقرب إلى المستحيل. أما عن المصادر المعاصرة له التي تستأهل عناية الباحث فليس لدينا سوى القصائد والمقطعات الشعرية التي ظلت محفوظة، وطبقاً لما يذكره السيوطي كان العرب يطلبون من أي بدوي يقص حادثة تاريخية أم يقرنها ببعض أبيات تتعلق بها. والحقيقة أن كل مثل هذه الأقاصيص التي ضغطت على مر العصور حتى وصلت إلينا قد تبلورت حول القصائد. ومما يؤسف له أنها قلما كانت صحيحة، ويتضح في اغلب الأحيان أن الأقاصيص قد اخترعت اختراعاً وهيئت حتى توافق موضوع الأشعار) ورغماً من أن معظم ما يتعلق بأيام العرب خرافي إلى حد بعيد إلا أنه يصف في أمانة الخصومات القبلية التي كانت تنشب بينهم والطريق الذي كانوا يسلكونه فيها، وقصة حرب البسوس التالية - وهي أشهر حرب في الجاهلية كافية في تصوير هذا الجانب المهم من الحياة البدوية، وجنوب أرض نجد المرتفعة يقترب المسافر بالتدريج من البحر الأحمر الذي تفصله عن الجبال المحاذية له أرض منخفضة ضيقة يقال لها تهامة، أما الحجاز فهو تلك الهضبة الوعرة المسلك التي تقوم بين نجد والشاطئ وهذا هو الشعب الذي كانت تسلكه في الأزمنة القديمة قوافل السبئيين محملة بالبضائع الغالية الثمينة، ميممة شطر موانئ البحر الأبيض المتوسط؛ ومنذ عدة قرون قبل الميلاد نشأت محطتان تجاريتان عظيمتان هما مَكُرَب (مكة فيما بعد) وفي شمالها يثرب (اسم المدينة قبل الإسلام) ولسنا نعرف شيئاً عن سكانهما الأولين أو تاريخهم
إلا ما تفيض به روايات الكتاب المسلمين التي تطوي القرون القهقري حتى تصل إلى ذكر أيام آدم وإبراهيم؛ ولقد كانت مكة مهد الإسلام هذا الدين الذي كان - كما يذكر محمد (ص) - ملة إبراهيم، ولكن جاء من بعده خلف أفسدوه إلى أن أرسله الله ليطهره من شوائبه مبشراً به من جديد، ولذلك قيل إن دين أهل مكة قبل ظهور الإسلام بزمن كبير كان هو في ذاته الإسلام. وإن مدينة الإسلام المقدسة لتظهر منذ آلاف السنين وهي مغمورة بفيض هذا السناء، ويقال أن العرب حينذاك كانوا جميعاً يعبدون (الله) ثم تفرقوا بعد ذلك وزلوا بعبادة الأوثان ولكنهم عادوا كحجاج إلى مزارٍ خصص أولاً للكائن الأعظم الفرد، بيد أن المطاف قد استحال إلى حرم الآلهة القبائل المختلفة، وهذه النظرية من أول ما جاء به الإسلام، وسأقص - جهد ما أمكنني الاختصار - النقط البارزة القوية
في وادي مكة - وهي البيت الأول لهذا الفريق من الجنس العربي الذي يدعي أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من زوجه هاجر - يقوم بناء مكعب الشكل على غير نظام، وفي مساحة صغيرة ذلك هو الكعبة، وتنسب قصة بنائها إلى آدم الذي شادها بأمر سماوي، وحينما طغى الطوفان وطوى في لجته كل ما على الأرض رفعت الكعبة إلى السماء حتى غاض الماء أعاد بناءها في مكانها السابق إسماعيل وإبراهيم، وبينما كانا منهمكين في عملهما هذا جاءهما جبريل بالحجر الأسود المعروف وموضعه الجنوب الشرقي من البناء، وأوصاهما بأداء فريضة الحج. ولما انتهى البناء انتصب إبراهيم واقفاً على صخرة يطلق عليها المتأخرون (مقام إبراهيم) واستدار إلى الجهات الأربع ثم ولى وجهه شطر السماء وصاح (أيها الناس: لقد فرض عليكم الحج إلى البيت العتيق فاستمعوا لألهكم) وحينئذ أجابته من كل الجهات أصوات هاتفة (لبيك اللهم لبيك).
وكثر نسل إسماعيل حتى ضاق بهم الوادي فساح عدد جم منهم في فجاج الارض، وخلفتهم قبيلة جرهم كأسرة حاكمة للبقعة المقدسة، ولقد غرقت تلك القبيلة في الكبرياء والآثام حتى حلت نقمة الله عليها، وكثيراً ما يشار إلى انفجار سد مأرب الذي جعل الكثير من عشائر اليمن تشد رحالها ناحية الشمال، ولقد استقر المهاجرون في الحجاز واستأصلوا غالبية الجرهميين ثم واصلوا السير إلا قبيلة واحدة هي قبيلة خزاعة التي استقرت في جوار مكة إمرة زعيمها لحيّ، واشتهر عمرو أبن لحيّ بين العرب بثرائه وكرمه، ويقول أبن هشام
(حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مأرب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له هذه أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا. وقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له هبل. فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. وقلده العرب في ذلك فجاءوه بأوثانهم ونصبوها حول المعبد، وبذلك تم انتصار الوثنية وعم انتشارها، حتى لقيت كل هاتيك الأوثان مصرعها حينما دخل محمد (ص) مكة على رأس جيش من المسلمين في السنة الثامنة للهجرة (= 629م)
أما أشهر القبائل التي نسلت من إسماعيل من عدنان واستقرت في الحجاز فهي هذيل وكنافة وقريش، وينبغي أن نجعل أسم هذه القبيلة الأخيرة على الدوام نصب أعيننا، إذ نجدها قبل ظهور محمد بقرن صاحبة السيادة في مكة. وشيوخها حراس الكعبة، وتلك المرتبة قد حصلوا عليها لما تدر من ثراء عظيم. وبسبب صعودهم إلى معارج القوة أنه كان لكلاب بن مرة ولدان: هما زهرة وزيد وكان الثاني طفلاً حينما اغتصب الموت أباه، وتزوجت أمه فاطمة من رجل يدعى ربيعة فاحتملهما إلى بلاده، وشب زيد بعيداً عن وطنه الأول ومن ثم سمي (قصياً) ولما بلغ مبلغ الرجال وعرف موطنه أتى مكة حيث كانت السيادة فيها معقودة على هام بن خزاعة وتحت زعامة شيخهم حليل بن حبشية، فكانت شؤون الكعبة بعيدة عن قريش وهي من سلالة إسماعيل، ثم أن قصي بن كلاب خطب إلى حليل بنته حبى فرغب فيه حليل، وكان هدف قصي أن يخلف حليلاً في هذه المكانة الرفيعة بيد أن هذا سلم مفاتيح الكعبة ساعة وفاته إلى أحد ذوي أقربائه واسمه أبو غبشان، وكان كثير الشرب فاحتال قصي عليه وأسكره حتى باعه مفاتيحها لقاء زقة من النبيذ. ولهذا يقال في الأمثال (أظل من غبشان) ولم ترض خزاعة بهذا الأمر فامتشقت الحسام، ولكن قصياً ظهر عليها. ومن ثم غدا المهيمن على شؤون البلدة وحرمها القدسي وكانت باكورة أعماله أن جمع قريشاً وكانت قد تفرقت في سهول مكة فسمته قريش (المجتمع) وبنى دار الندوة حيث يجتمع شيوخ العشائر والقبائل فيها متبادلين الرأي والمشورة فيما يعرض أمامهم من الأمور، ولما مات قصي احتفظت قريش بهذا الإرث المقدس وظل في
بيتها.
وربما كانت موت قصي قد حدث في النصف الثاني من القرن الخامس للميلاد، وقد ولد الرسول بعد ذلك بقرن أعني عام 570 أو 571م وهنا ينبغي الإشارة إلى أن تاريخ مكة طوال هذه الفترة كان سجلاً لمشاغبات تافهة قل أن تخللها حادثة ذات أهمية، كما أننا نجد الصدارة لأسلاف النبي طوال هذه المدة. وتظهر المنافسة التاريخية للبيتين الأموي والعباسي في شخص مؤسسيهما: أمية وهاشم؛ وفي أثناء ذلك كان نفوذ قريش ثابت الدعائم، واسع الانتشار، وغدت الكعبة دار ندوتهم الأهلية الكبرى، كما أن وفود الحجج الذين أقبلوا من مختلف أصقاع بلاد العرب لم يعملوا فحسب في رفع العبء عن قريش بل عاونوها في تنبيت مركزها التجاري، ولقد قصصنا عليك من قبل، كيف عزم أبرهة - والي الحبشة على اليمن - على النيل من مكة بما ارتكبه أحد القرشيين من تدنيس كنيسة صنعاء، وقد يصح أن يكون هذا سبباً يتخذه أبرهة بيد أنه كان يريد بلا شك الاستيلاء على مكة ومفاتيح تجارتها.
ويزعم المؤرخون المسلمون أن هذه الحادثة العجيبة وقعت عام ميلاد الرسول في السنة المعروفة بعام الفيل حوالي 570م، وبرهان على أن العرب قد هالهم مرأى هذه الحيوانات الضخمة أن واحداً أو أكثر قد صحب الحملة الحبشية، وقد أوقع صدى استعداد أبرهة الحربي الرعب في قلوب القبائل التي حاولت في مبدأ الأمر أن تصده، معتبرة الدفاع عن الكعبة أن تصده، معتبرة الدفاع عن الكعبة واجباً مقدساً، ولكن سرعان ما طارت نفوسهم شعاعاً إذ رأوا أن لا قدرة لهم على ذلك، وبعد أن هزم أبرهة ذا نفر الحميري، عسكر في جوار مكة دون أن يلقي مقاومة تذكر، بعث إلى عبد المطلب جد النبي الرسالة التالية، وكان عبد المطلب موقراً محترماً من جميع القبائل (إني لم آت إلى سربكم، إنما جئت لأهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم) فرد عليه عبد المطلب (والله ما نريد الحرب وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، وإن للبيت رباً سيمنعه، وإذا لم يشأ فلا حول لنا) وأنطلق عبد المطلب إلى معسكر الأحباش مع حناطة رسول أبرهة فتوسط له أنيس عند الملك وقال له (أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال) فأذن له
أبرهة، وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً جسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره وجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه (قل له ما حاجتك) فقال عبد المطلب (حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي) فقال أبرهة لترجمانه (قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟) فقال عبد المطلب (إني أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه) قال (ما كان ليمنع مني) قال (أنت وذاك، أردد إليّ إبلي)
ويقال أن القبائل المقيمة حول مكة قد أوفدت رسلاً من لدنها ومن بينهم عبد المطلب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم ولما استعاد عبد المطلب إبله انصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من معرة الجيش، ثم قام فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش فقال عبد المطلب:
لا هُمَّ إنَّ العبد يْم
…
نع رحله فامنع حلالَكْ
لا يغلبنَّ صليبهم
…
ومحالهم أبدا محالك
ولئن فعلت فربّما
…
أولى فأمر ما بدا لكْ
ولئن فعلتْ فإنّه
…
أمر تتمّ به فعالك
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة فأقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جانب فيله وقال (ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل فوجهوه لمكة فأبى ثم للشام فهرول، وللمشرق واليمن ففعل مثل هذا، وأرسل الله عليها طيراً من البحر أمثال الخطاطيف يحمل كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره وحجران في رجليه لا تصيب أحداً منهم إلا هلك وقد أشير إلى هذا الحادث في السورة الخامسة بعد المائة المعروفة بسورة الفيل حيث يقول تعالى (ألمْ تر كيف فَعَلَ رَبُّكَ بأصْحَاب الفِيل. ألمْ يَجْعَلْ كيْدَهُمْ في تَضْليل، وأرْسَلَ عليْهِمْ طيرْاً أبابِيل، ترميهِمْ بِحَجارَةٍ مِنْ سِجِّيل، فَجَعَلَهُمْ كَعَصفٍْ مَأكُول)
وإن الفصل الذي قام بتمثيله عبد المطلب في هذه القصة لهو فصل ديني الغرض منه تبجيل شأن هذه المدينة المقدسة، كما يتضح لنا منه ما كانت عليه أسرة النبي من سطوة وثراء قبل انبثاق نور الإسلام بنصف قرن، (وحينما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، وعظمت العرب قريشاً وقالوا أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم، وقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم وينسب ابن إسحاق الأبيات التالية إلى ابن الصلت بن ربيعة بن ربيعة الثقفي وينسبها كثيرون غيره لأمية بن أبي الصلت الشاعر المشهور وكان حنيفياً ومعاصر للنبي:
إن آيات ربنا ثاقبات
…
لا يمارى فيهنّ إلاّ الكفورُ
خلق الليل والنّهار فكلٌّ
…
مستبين حسابهُ مقدورُ
ثم يجلو النّهار رب رحيم
…
بمهاةٍ شعاعها منشورُ
حبس الفيل بالمغمس حتّى
…
ظلّ يحبو كأنه معقورُ
لازماً حلقة الجرَان كما قط
…
طَرَ من صخر كبكب مجدورُ
حوله من ملوك كندة أبطا
…
ل ملاويث في الحروب صقورُ
حلّفوه ثم أبذعروا جميعا
…
كلهم عظم ساقه مكسورُ
كل دِينٍ يوم القيامة عند الل
…
هِ إلاّ دين الحنيفة زور
ولقد أثارت غزوة الأحباش وهزيمتهم النعرة الوطنية في نفوس عرب الحجاز، هذه المشاعر التي لابد وأن يكون قد شاركهم فيها إلى حد بعيد البدو عامة، وظهرت روح جديدة خلال الحوادث التي تخللت الأربعين عاماً التي تلت هذا الحادث في جميع نواحي شبه الجزيرة، وينبغي أن نتذكر دائماً أن أسرة اللخميين في الحيرة قد انتهت بالنعمان الثالث الذي لقي مصرعه على يد خسرو وبرويز (602 هـ، 607 م) وكان قبل موته استودع أسلحته وبعض حاجاته عند هانئ شيخ عشيرة بني بكر وقد طلب خسرو هذه الودائع ولكن هانئاً رفض تسليمه إياها، فأرسل هذا جيشاً فارسياً عرمرماً إلى ذي قار وهو مكان قرب الكوفة يطفح بالمياه المتدفقة ولذلك كان ملجأ حصيناً لبني بكر أثناء فصل الجفاف، ونشبت هناك معركة حامية الوطيس انتهت بهزيمة الفرس هزيمة منكرة وكانت قوات العرب أكثر من قوات الفرس، وقد عد العرب هذه الموقعة فاتحة عصر جديد. من ذلك ما يروي أن
محمداً صلى الله عليه وسلم قال حينما سمع بهذا (هذا أول يوم استراح فيه العرب من الفرس) أما قبائل الصحراء فقد قوى اعتقادها في نفسها وأخذت موقف المهاجم بعد أن كانت من قبل تستظل بلواء إمبراطورية آل ساسان وتخضع إلى للأسرة الحاكمة في الحيرة، وأخذت تلك القبائل تظهر الموجدة والاحتقار بهذا الشبح الذي لم يعودوا يخشون بطشه بل وطئوه بأقدامهم.
(انتهى الفصل الثاني)
محمد حسن حبشي
شاعر الإسلام
محمد عاكف
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
- 3 -
مات الشاعر الكبير والساعة ثمان إلاّ ربعاً من مساء الخميس التاسع والعشرين من ديسمبر، تاركاً للأمة التركية آثاراً خالدة، آثار مثل (دفاع جناق قلعة) و (نشيد الاستقلال)
(1)
شيعت الجنازة من (عمارة مصر) في بيوغلي إلى جامع بايزيد. وهنالك أقيمت صلاة الجنازة، ثم اتصل المسير إلى قبر الشاعر الذي هُيّئ له في المقبرة التي أمام شهيدلك في (أدرنه قبو)
كان في توديع الشاعر كثير من أصدقائه وجمهور عظيم من طلبة الجامعة، فلما أديت الصلاة وأريد وضع التابوت على لسيارة أبى الطلبة إلا أن يحملوا النعش على أيديهم، واشترك مئات الشبان في حمله طوال الطريق من بايزيد إلى (أرنه قبو)
وعلى حافة القبر فتح التابوت وأخذ النحات راتب عاشر صورة الشاعر في قالب من الجص ليصنع مها تمثالاً
ولما وضع الشاعر في لحده دوّت أصوات الطلبة جميعاً بنشيد الاستقلال الذي نظمه محمد عاكف. ثم تكلم طالب كلية الآداب في حياة الشاعر وما أعقبته وفاته من أسى، وأنشدت طالبة القصيدة (جناق قلعة) وأنشدت أخرى أبياتاً كتبها الشاعر تحت صورته، وهي آخر ما نظم
ثم أقترح بعض الطلبة أن يشيد طلبة الجامعة قبر شاعرهم العظيم، فتلقاه الحاضرون بالموافقة والاستحسان، واتفقوا أن يحتفل كل عام بيوم الوفاة وأن يسمى (يوم عاكف)
ثم أنصرف الذين أودعوا الشاعر الكبير مقره الأبدي بين الحسرات والدموع
(2)
هو ابن محمد طاهر أفندي الايبكي أحد مدرسي الفاتح. وأمه تركية خالصة من بخارى
ولد في استانبول عام 1873. وبدأ تعلمه على أبيه، ثم حصل العلوم الدينية وأتقن اللغتين العربية والفارسية
ثم التحق بالمدرسة الإعدادية في استانبول، فلما أتم دراستها التحق بمدرسة الطب البيطري إلى أن نال شهادتها من الدرجة الأولى. وقد فاق أقرانه جميعاً في الكيمياء والطبيعة، والنبات والحيوان والتشريح ووظائف الأعضاء
ثم تنقل في عمله بين سورية والرومللي والأناضول. وشرع حينئذ ينشر أشعاره
ولما وقعت حرب البلقان عمل في شعبة النشر من جماعة الدفاع الملي. ولما كانت المهادنة بعد الحرب العامة ذهب إلى الأناضول ولبث هناك محتملاً عبئه في الجهاد الوطني حتى النهاية، وكان نائباً في المجلس الكبير عن ولاية بوردور. وفي ذلك الحين نظم نشيد (نشيد الاستقلال) الذي بذ به كل المتبارين في نظم نشيد وطني
(3)
كان محمد عاكف يحب من شعراء العرب ابن الفارض، ومن الترك فضولي، ومن الفرس سعدي، ومن الفرنسيين لامرتين. ويمكن أن يقال إن شعره آثاراً من هؤلاء ظاهرة أو خافية، ولكن الذي لا ريب فيه أن عاكفاً قد رفع النظم التركي في أوزان العروض إلى درجة من السلاسة لم ينلها شاعر آخر، وقد صارت اللغة التركية بقلمه أيسر لغات الشعر وأبلغها، نشيد الاستقلال أبرع بيان لهذا اللسان الحساس النقي الذي ذلله قلم عاكف. ومنظوماته (صوت الحق)(حقك سسلري) و (الصفحات) في أجزائها السبعة تراث يغني به الأدب التركي، وإن لعاكف في تاريخ الأدب لمكانه خاصة. لقد فقدنا بموته شاعراً عظيماً
(4)
ذلكم إجمال ما كتبته الجرائد التركية عرضته على قراء (الرسالة) تمهيداً للكلام في شعر عاكف، موضوعه ومقاصده، وأسلوبه وأوزانه. وعسى أن أبين هذا في الأعداد الآتية
(للكلام بقية)
عبد الوهاب عزام
حول المدفأة
أنا وابناي
للأستاذ محمود نعيم
وأطيبُ ساعِ الحياةِ لديَّا
…
عشيَّةَ أخلو إلى وَلدَيَّا
متى الجُ البابَ يَهِتفُ باسمْي الع
…
ظيمُ ويحبو الرضيعُ إليَّا
فأجلسُ هذا إلى جانبي
…
وأجلس ذاك على رُكبْتيَّا
وأغزو الشتاء بموقد فحْمٍ
…
وأبسُط من فوقه راحتيَّا
هنالك أنْسى متاعب يوم
…
ي حتى كأني لم ألْقَ شيَّا
وأحسَبُني بين طفليَّ (شاها)
…
وأحسَبُ عُشِّيَ قصراً عَليَّا
فكلُّ شرابٍ أراهُ لذيذاً
…
وكل طعام أراهُ شهيَّا
وما حاجتي لغذاء وماءٍ
…
بِحَسْبيَ طفلايَ زاداً وَرِيَّاً؟
هنا أستعيدُ زماناً خلا
…
وأرجعُ أَطوي اللَّياليَ طيَّا
فأنسَى عِذَارِي وأنسى وَقارِي
…
وأحسَبُ أنيَ عُدتُ صبيَّا
فقل لرفاق الندىِّ سلاماً
…
فلستُ من اليوم أغشى النديَّا
ولن أتلَهَّى (بشاةٍ)(وفرزٍ)
…
ولن ألعب النرد ما دمت حيَّا
وأيَّةُ نجوى كنجوايَ طفلي
…
يقولُ: أنى فأقولُ: بُنَيَّا؟
ويا رُبَّ لغوٍ يفوهُ الصبي
…
به فيكونُ حديثاً شجيَّا
وأفصحُ من ألف سحبانَ طفلٌ
…
أراد الكلام فكان عَييَّا
فيا ليتَ شِعري أتمتَد بِي
…
حياتي فأجنيَ غرسَ يديَّا؟
وأشهدَ طفلِيَ حين يَشِبُّ
…
فتىً عاليَ النفس شهماً أبيَّا؟
أبوك أمرُؤ من رجالِ الكلامِ
…
فكنْ أنت يا أبني أمرَأ عَمليَّا
فما احتقر الناسُ إلا الأديبَ
…
ولا احترام الناسُ إلا الغنيَّا
أيا ابْنَيَّ أحْبِبْ بما تَكسِرانِ
…
وأَهْوِنْ بما تُتلفان عَلَيَّا
يصونكما الله من حادثات الل
…
يالي ويُبقيكما لي مليَّا
ويكفيكما اللهُ شرَّ البكاءِ
…
ويحفظُ من وقعه أذُنيَّا
أمن كبدي أنتما فِلْذَتا
…
ن أم أنتما حَبَّتَا مقلتيَّا؟
كوم حماده
محمود غنيم
أروع الأشياء
للدكتور عبد الوهاب عزام
أتذكرين يوم جئت حيرى
…
سائلة: ما أروع الأشياء!
أتذكرين حيرتي وأنى
…
طوّفت في الأرض وفي السماء
ثم انثنيت واللسان عيَّ
…
يعثر بين العجز والحياء؟
أتذكرين بعد ذاك يوماً
…
أسلمك الحزن إلى البكاء
ترقرت فيه الدموع تترى
…
لألاءة في خدك الوضاء
هذي الدموع، لا عراك حزن
…
أوحت لقلبي أصدق الإيحاء
أروع شئ في الورى دموع
…
في مقلة الحزينة الحسناء
وله أيضاً:
شباب أم أماني؟
يا زهرة في ضفاف الماء ناضرة
…
يهتز فيها جمال جد مفتون
وللنسيم على أوراقها عبث
…
ينشر فيه الحسن كل مكنون
تطالع الماء تبغي فيه صورتها
…
تردّها الريح عنه رد مغبون
وينفذ الدهر فيها حكمه فإذا
…
شتى الوُريقات بين الماء والطين
أين الشباب الذي راقت نضارته
…
ورفرفت فوقه أحلام مجنون
أنضرة الزهر لم تثبت لناظرها
…
أم صورة الماء بين الحين والحين
السراج المفقود
للأستاذ أمجد الطرابلسي
لا! دعوني وسطَ الجموعِ وحيداً
…
أشعلُ القلب كي أنيرَ سبيلي
عجباً أيها الورى! ما الذي تب
…
صر في حالكِ الدّجى المسدول؟
أتراني ولدتُ أعمى؟ أم الكو
…
ن ظلام؟ أم كلّ حَيٍّ متيلي؟
أم هُمُ الناس واهمون سكارى
…
يتغنون بالسَّراب الجميل؟
رقصوا في فم الجحيم وغنَّوا
…
فوقَ أشلائهم وبين الطلول!
خابت العين! ليس يُبصرُ إلا ال
…
قلبُ، يا نعمةَ الخليِّ الجهول!
يا هناء الصخور في هذه الدني
…
اويا شقوة الشعورِ النبيل!
يا ضلال العقول في الحانة السَّكْ
…
رى ونعَمى المعربد الضّليل!
أين منى قلبي يُنيرُ سبيلي؟
…
أترى ذابَ قبل ليلى الطّويل؟
أم ترى أطفأتهُ عاديةُ الرّ
…
يح جنوناً وزمجراتُ السّيول؟
ورَمَتْهُ كفّي فأهوى به السَّي
…
لُ غضوباً إلى أقاصي السهُّول
وأخَبا لي! أما سمعتُ سراجي
…
يَتَشَظّى؟ وما أشدَّ ذهولي!
مَزَجَتْ شِرَّةُ السّيولِ بقايا - هـ معَ الشوكِ والحصى والوحول
تلك أشلاؤه تَشعُّ على البع
…
دِ وراَء الربى وخلفَ الحقول
يا سراجي المفقودَ في ثورةِ اللْي
…
لِ شَهيداً، يا مشعلي ودليلي!
يا سنا مقلتيَّ في الظّلَمِ السو
…
دِ ويا نورَ غَمِّيَ المَمْلول!
كنت لحني فمن يمزق صمتي؟
…
ومدامي فمن يبل غليلي؟
وأنيسي فمنْ تركتَ لأنسى؟
…
وخليلي فمنْ يكون خليلي؟
يا سراجي كلّت ذراعي فألقت
…
كَ بلا رحمةٍ ودونَ عويل
فرحتْ مثلما تسِرّ بِتَرْكِ ال
…
غُلِّ كفُّ المصفَّدِ المغلول
حسبت في نواكَ راحتَها الكبر
…
ى ضلالاً، واخيبة المأمول!
يا سراجي! لما صرخت هشيماً
…
وتبددْتَ كالدم المطلولِ
قد تصاممتُ عن أذنينِك، لا بل
…
كانَ عندي كانَّه الا رغول!!
نصبٌ آدنى فخّففتُ حملي
…
بعد يأسي من حُلمَي المقتول
ما ترى الفلكَ في العواصفِ تلقي
…
بخفيفٍ منِ حمْلِها وثَقيلِ. .؟
أيهذا الساري المرَوَّعُ! مهلاً
…
وعزاءً عن كلّ قصد وسولِ
ما ترجى وهذه الدُّجية النكرا
…
ءُ غَشَّتْ بوارِقَ التأميلِ؟
الدّجى راعبٌ تفحّ به الأشب
…
احُ ظمأى إلى النّجيعِ العليل
موحش ليسَ فيهِ غير صدى الوب
…
لِ وهزجِ الأمواهِ وسْطَ المسيل
وأعاصيرُهُ تلاعب خديَّ
…
كَ بسيفٍ من بردها مصقولِ
والذئابُ الجياعُ ضَجَّت عواءً
…
في بطونِ الهُوى وفوقَ التلول
تتحرّى فريسةً من جريحٍ
…
أو طريد أو شاردٍ أو قتيل
أيهذا المسكين! أيَّ الأماني
…
تتقرى؟ هُديتَ من مخبولِ!
شعَّثت رأسَكَ الرَّياح السّوافي
…
وتعثَّرتَ في الكثيب المهيلِ
لا تمدَّن إلى جبيِنكَ كفُّا
…
ضُرِّجتْ بالدم الزكيَّ الطليلِ!
ضرَّجَتْها الأشواك من طولِ ما تك
…
بو عَياءً كالموثقِ المكبول
أَتُرَجَّى خلفَ الدَّياجي شعاعا
…
من صباحٍ مُزَوَقٍ أو أصيل؟
ما وراَء الظلام إلا الظلام
…
ليس فيه من ملجأ أو مَقيل!
كلُّ وادٍ وراءه ألف واد!
…
كل ميلٍ وراءه ألف ميل!
خابَ من سار لاصطيادِ الأماني
…
في عمايات مَهْمَةٍ مجهول
من يسر دونَ غايةٍ كيف يحظى
…
بعد طول السّرى بنعمى الوصول؟
ارجعِِ القهقري فلن يطلعَ الفج
…
رُ ولنْ تستقرّ بعدَ الرحيل
وتلمَّسْ بينَ الصخورِ رماماً
…
من سِراجٍ محطّمٍ مشلول
وأعدْ سبكها سراجاً منيراً
…
لدجاك المعبَّس المسدول
لا تقْل إنه يهدُّ ذِرَاعَيّ
…
م ويدني نضارتي للأفولِ
إنه فجرُكَ الذي تتمنىَّ
…
إنّه نِبعه الهَوى والميولِ
إنه فرحة الحياة وبؤسا
…
ها وشهدُ المنى وسم الذحول
إنه هيكلُ الرِّضى والتأسّي
…
إنّه رَفْرَفُ الجمالِ الخجولِ
انه مهبطُ الرؤى والأماني
…
والخيالاتِ والهوى المعسولِ
يا سراجي أنت العناء ولكن
…
في تواريك مصرعي وأفولي
(دمشق)
أمجد الطرابلسي
الفنون
أكروبوليس أثينا
للدكتور أحمد موسى
(تابع)
وإذا أردنا أن نسجل هنا كل ما في معبد بارتنون من عجائب الفن وآياته، فإننا نحتاج إلى أعداد كاملة من (الرسالة)، ولكنا نقتصر على وصف أهم ما فيه مما يستطيع غير المشتغل بعلم الآثار أو بتاريخ الفن تفهمه وتذوقه
فالمثلثان المصوران بين السقف الجمالوني وأفريز المعبد من ولجهتيه حيث المدخل المؤدي للهيكل، اشتملا كما سبق القول على منحوتات غاية في الإبداع الفني وجمال الإنشاء المجموعي، كلها من خلق الفنان فيدياس.
وترى في (ش1) مجموعة منحوتات أحد المثالين، نقلها العلامة كاري عن الأصل بتصرف قليل أضطر إليه، وهي كما يتضح بالنظر إليها مبتورة الأجزاء، ومعظم هذه القطع موجود في المتحف البريطاني وبمتحف أثينا.
والصورة (ش2) تبين امرأتين جالستين، إحداهما قد اضطجعت مستندة إلى صدر الأخرى وواضعة يمناها على فخذها، على حين ترى ساقي الثانية كادا يلتصقان بالفخذين حتى يكون بذلك إخراجهما طبيعياً إلى أبعد حد.
والبناء العام لجسميهما مثل عال من أمثلة تناسب الأعضاء؛ وإذا رجعنا إلى أصول وقواعد النحت، نجد أن فيدياس من أقدم مؤسسي هذه الأصول والقواعد، كما يتضح هذا من منحوتاته، التي ترى الوحي فيها خارجاً عن دائرة حاجات النفس المادية، بل إنك إذا تفرغت بها للاستمتاع الذوقي ترى أنها تعرج بك إلى ملكوت الخيال السامي
ومهما وصفنا قطع فيدياس فأننا لا نزال نقصر عن وصف ما جال بخاطره عند نحتها الذي عبر به عن ثورة فنية رائعة تكاد تكون خارقة للمعقول، إذا علمنا أنها نحتت من الرخام في القرن الخامس قبل المسيح.
ولعل تمثال أثينا بارتنوس المصنوع من الرخام أيضاً (ش2) يعطينا فكرة عن تمثال أثينا
الذي قلنا في المقال السابق إنه كان من العاج الخالص والذهب وارتفاعه ثلاثة عشر متراً، والصورة هنا ليست على جانب كبير من الدقة، إلا أنها لا تخلو من إظهار الغاية التي عمل التمثال من أجلها
والمغادر لمعبد بارتنون يرى الناحية الشمالية على بعد قليل، معبد إرشتايون (انظر صورة أكروبوليس بالمقال الأول) وهو المعبد الذي مناه ككروبس لأثينا بولياس بأحجار نحتتها الآلهة وألقت بها من السماء إلى الأرض على هذه البقعة حيث تحاربت أثينا مع بوزيدون على امتلاك البلاد، كما كانت شجرة الزيتون التي غرستها أثينا والمنبع الملحي الذي حفره بوزيدون في هذا الموضع أيضاً
حطم كسركس هذا الموضع المقدس، ولكن إقامته أعيدت بكل نشاط في عصر بركليس، إلا أنه لم يتم نهائياً إلا عند انتهاء حرب بيلويونيز. والناظر إلى المجموع الإنشائي لهذا المعبد يرى أنه مكون من ثلاثة معابد: هي معبد أثينا ومعبد بوزيدون ارشتايوس (ارشتايون) وبانوروزوس لأن الرغبة كانت متجهة إلى المحافظة على هذه المساحة المشغولة بالثلاثة المعابد معاً، لذلك كان المجموع الإنشائي على شكل غير منسجم التكوين من حيث الوضع الهندسي للبناء، ولفظ ارشتايون باللغة الإغريقية معناه الأقدم، وقد أطلق على هذا المعبد نظراً لأنه مكون من الثلاثة معابد القديمة
وصالة كرياتيد (ش5) تحمل سقفها آنسات قد وقفن وعلى رؤوسهن السقف، ولم تظهر على وجوههن علائم التعب والإجهاد، بل إن وقفتهن تمثلن كما لو كان يحملن شيئاً مألوفاً. ويعطي قوامهن فكرة كاملة عن جمال الشابات الإغريقيات اللاتي لم تمتلئ أجسامهن بعد. والواقع أن جمال الأجسام لا يرتبط بضخامتها أو نحافتها، بل بتكوينها الكلي وحسن تناسب أجزائها وانسجامها بعضها مع بعض لتكوين المجموع، وهذا نفسه ما قرره أوجستينوس (354 - 320 ب. م.) في شرح الجمال ،
وإذا لاحظنا أن الأولى من اليمين تكاد تتشابه مع الثانية من حيث طريقة الوقوف، مع فارق ضئيل في كيفية امتداد الذراع، وأن الأولى من اليسار اختلفت في شكل امتداد الساق اليسرى بدلاً من اليمنى كما كان الحال في الاثنتين الأخريين، وعلمنا أنهن يشتركن جميعاً في حمل سقف واحد؛ أمكننا أن نتصور القدرة الهائلة في الإخراج، لأن أوليات قواعد
الهندسة تحتم أن يكن كلهن في ارتفاع واحد ليستوي السقف. فترى الفنان مع هذا القيد الهام ووجوب مراعاته استطاع أن يخرج عن ضرورة التشابه خشية الإملال كما هو الحال في عمل الأعمدة، وتصرف في طريقة إخراج السيقان والأذرع فجعلها مختلفة دون إخلال بأصول التوازن
أما التيجان البسيطة التي علت الرؤوس، وما فوقها من الإفريز (الشامل للأسنان) فكل هذه في ضبط نحتها واستوا خطوطها مثل آخر من أمثلة الدقة
وفي (ش4) نعرف موقع الصالة المقول عنها. وكذلك الشكل الكلي للمعبد. وأهم ما يلفت النظر هو التكوين الشكلي للأعمدة، فهي مخالفة في قاعدتها السفلى والعليا لأعمدة بارتنون التي قلنا إنها من الطراز الدوري. أما هذه فهي من الطراز اليوني أعني أنها اختلفت عن اليونية بوجود قاعدة صغيرة أسفل كل عمود فضلاً عن التاج الدائري الجانبين على نهاية كل منها، وعلى هذه النهاية قام السقف الجمالوني الذي ترك مثلثاه دون منحوتات بداخلهما كتلك التي رأيناها في معبد بارتنون
والشجرة المغروسة إلى جانب الصورة تمثل شجرة الزيتون السابق ذكرها بالمقال الفائت. ولا نترك أكروبوليس أثينا دون تنويه بمعبد أثينانيكا القريب من المدخل العام (بروبيلين) وها هي ذي قطعة من أفريزة (ش6) تشمل أحد المناظر التي تجلت فيها قدرة الإخراج. فإذا تأملت الأشخاص وما مثلته من حركات الهجوم والمقاومة والانتصار والانهزام، رأيت أن المثال أخرجها في قوة جديرة بالتسجيل بالنظر لما فيها من دقة العضلات وتفاصيل الجسم وحسن التمثيل
أحمد موسى
القصص
شحاذ الأرواح
للكاتب الإيطالي جيوفاني بابيني
دفعت آخر قرش كان معي ثمناً لفنجان القهوة ثم أخذت أفكر في الجوع - الجوع للطعام والجوع للشهرة - إذ لم يكن هناك من يهمه أمري حتى صاحب المجلة التي أكتب فيها لم يكن يقبل مني قصة إلا عندما لا يجد أفضل منها، وقد اعتاد أن ينفحني خمس (ليرات) سواء كانت القصة طويلة أو قصيرة.
في ذلك المساء من شهر يناير كان الجو يدوي بالرياح القوية العاصفة وأصوات الأجراس الرتيبة العالي، فدلفت إلى أحد المقاهي الكبيرة أتفرس في الوجوه النائمة المتعبة، ثم أخذت أرتشف فنجان القهوة وأنا أفكر في مخاطرة غريبة تصلح لأن تكون موضوعاً لقصة. فأخذت أقدح زناد فكري علني أهتدي إلى فكرة لقصة أصيب منها بضع ليرات تكفيني يوماً أو يومين.
كنت مضطراً لأن أكتب قصة في تلك الليلة أقدمها لصاحب المجلة في الصباح، فينفحني مبلغاً من المال يكفي لأكلة طيبة، فأخذت أفكر أترقب أول خاطر يهفو بذاكرتي أملأ به تلك الأوراق البيضاء التي وضعتها أمامي على المنضدة.
قضيت أربع ساعات وأنا على هذه الحالة من الانتظار والحيرة ولكن رأسي كان فارغاً وخيالي ثقيلاً وذهني مكدوداً، فيأست من كتابة أي شيء في تلك الليلة فألقيت بآخر قطعة من نقودي على المائدة وانصرفت.
ولكني لم أكد أترك المقهى حتى جال بخاطري ذلك القول القديم وهو (إذا استطاع الإنسان العادي أن يدون حياته الخاصة فإنه يخرج لنا أعظم القصص) ثم أخذت أفكر في هذا ولكني لم أصل إلى شيء جديد. إلا أنه ما كدت أصل إلى منزلي حتى وقفت وقلت لنفسي (لماذا لا تحاول هذا بنفسك. لماذا لا تكتب حياة أي رجل عادي يقابلك في الطريق).
لم يكن لدي ما أقوله عن نفسي فقد أفرغت كل شيء حدث لي في قصصي، وعلى ذلك يجب أن أبحث عن رجل عادي - وإن كنت لا أعرفه - يقص عليّ قصة حياته.
لاحت هذه الفكرة غريبة وبسيطة حتى أنني عزمت على تنفيذها بأسرع وقت، فتركت
منزلي وأخذت أطوف في الشوارع آملاً أن أصادف في تلك الساعة المتأخرة من الليل إنساناً. سرت مسرعاً أتفرس في كل الوجوه محاولاً أن أختار الشخص المناسب ولكني لم أصادف مخلوقاً فانعطفت إلى ميدان صغير ووقفت هناك كأني أحد قطاع الطرق أو أحد لصوص الليل. ثم لمحت شبحاً قادماً فلم أرد أن أفاجئه بهجومي السريع فانتظرت حتى دنا مني فإذا هو رجل عادي قد التف في عباءة طويلة وترك شعره الطويل يتموج في الفضاء فلم أرد أن أساله وتركته يمضي في طريقه، ثم تبعت آخر وكان حليق الذقن محدودب الظهر يتمتم بأغنية إسبانية قديمة لعلها كانت تذكره بأيام شبابه الماضية، فلم أكد أتفرس في وجهه حتى رأيته يغلب عليه النوم فتركته لِشأنه.
إني لا أستطيع أن أتذكر الحال التي كنت فيها في تلك الليلة، كلما فكرت في تلك الحالة فأتصور نفسي إنساناً غريباً من قطاع الطرق يترقب شخصاً لا يعرفه يسأله قصة حياته وهو يتحرق شوقاً لأن ينقض على تلك الفريسة المجهولة، وكأن القدر القاسي قد ظن عليّ بذلك الرجل الذي أنتظر، إذ أن جميع من مروا بي كانت تبدو عليهم علامات الترف والنعيم. ولكني لم أيأس من الوصول إلى بغيتي، فبقيت واقفاً تحت المصباح الذي كان يتمايل كلما هبت الريح ولكن الشوارع كانت مقفرة، ولم تكن تلك الرياح العاصفة تغري الناس على السير في تلك الليلة الباردة. ولكن لم يطل انتظاري إذ لاح على بعد شبح قد أيقض الشارع وملأه حركة بعد سكونه ثم أخذ يدنو مني شيئاً فشيئاً، ولم يكد يقترب مني حتى عرفت أنه الرجل الذي أبحث عنه. لم يكن ذلك الرجل بالجميل ولا بالقبيح. بل كان وسطاً بين الاثنين كما كان وسطاً بين الشباب والكهولة، ذا عينين هادئتين يلبس معطفاً سميكاً على أحدث طراز. فلم يكد يخطو عدة خطوات حتى أوقفته بيدي، فارتاع لمرآي ورفع يدع كمن يتأهب للدفاع عن نفسه ولكني أسرعت فطمأنته أني لا أريد به سوءاً فقلت له في صوت رقيق (لست قاتلاً ولا سفاك دماء ولا شحاذاً وإن كنت شحاذاً من نوع آخر، إني لا أطلب مالاً ولكني أطلب شيئاً واحداً لا يكلفك نفقة هو قصة حياتك) فحملق الرجل في وجهي ثم تراجع إلى الوراء، فتوقعت أنه قد ظن أني معتوه فقلت في صوت هادئ رزين (إني لست مجنوناً كما تظن وإن كنت قريباً من ذلك فأنا كاتب قصص عليّ أن أكتب قصة قبل طلوع النهار لأرد عن نفسي غائلة الجوع، ومن أجل ذلك أسألك أن تخبرني عن
كل ما حدث لك. من أنت؟ وماذا تعمل؟ حتى يمكنني أنم أكتب قصتي عنك. إني أصارحك القول إني أحتاج إليك وإلى قصة حياتك وإلى اعترافاتك. أرجوك أن لا تخفي عني شيئاً. إني واثق أنك لا تضن بمساعدة مخلوق بائس مثلي فأنت الرجل الذي كنت أنتظره وربما كنت أستطيع أن أكتب بما تقدمه إليّ أروع القصص.
فبدا على الرجل التأثر ونظر إلي في عطف وإشفاق وقد زال عنه الخوف وقال (حسناً. إذا كنت تريد حقاً أن تسمع قصة حياتي فيمكنني أن أخبرك عنها ولا سيما أنها سهلة بسيطة. فقد ولدت منذ 35 سنة من أسرة كريمة وكنت وحيداً والدي فأرسلاني إلى المدرسة وأنا في السادسة. وفي التاسعة عشرة التحقت بالجامعة وحصلت على درجتي في الرابعة والعشرين. لم أظهر طوال دراستي شيئاً من النبوغ الخارق، أول الغباوة الفاضحة. ثم أعانني والدي على أن أشغل وظيفة في السكة الحديدية وخطب لي فتاة جملية. إني أعمل ثماني ساعات في اليوم وعملي لا يحتاج إلا إلى الصبر وذاكرة متوسطة، ويزداد مرتبي جنيهين كل ستة سنوات، وعلى ذلك فإذا عشت حتى الرابعة والستين فسأحصل على معاش قدره كذا. لقد أنجبت طفلين ولداً وبنتاً، فالولد في العاشرة الآن وسأعده لأن يكون مهندساً. وأما البنت فهي في التاسعة. وسوف تكون مدرسة. إني أحيا الآن حياة هادئة لا يشوبها نكد أو أطماع. أستيقظ في الثامنة من صباح كل يوم وفي التاسعة مساءً أذهب إلى المقهى حيث أتحدث مع بعض زملائي عن الطقس والحرب والحكومة والوظائف. والآن لقد أخبرتك بما تريد، فهل تسمح لي بالعودة بعد أن تأخرت عن موعد ذهابي إلى المنزل عشر دقائق).
ولم يكد ينتهي من كلامه حتى شعرت بشيء غريب اضطرب له جسمي إذ كيف يحيى ذلك الرجل تلك الحياة الرتيبة العادية الثابتة، فأشفقت عليه ومضيت في طريقي وأنا أقول في نفسي (حسناً، هذا هو أحسن نموذج للرجل العادي والبطل الحقيقي للحياة الحديثة. والعجلة الصغيرة في الماكينة الكبرى، واللبنة الأولى في الحائط العظيم، الرجل الذي لا يضطرب كثيراً للخيالات والتصورات، كنت أظن أن مثل هذا الرجل غير موجود ولكني قد وجدته أخيراً واقفاً بجانبي ثم أردت أن أعرف عنه كل شيء فهرولت وراءه وأنا أقول (أليس هناك شيئاً آخر في حياتك، ألم يعرض لك حادث غريب، ألم يحاول أحد أن يقتلك؟ ألم تخدعك زوجتك أو يهزمك عدو؟) فأجابني: (لا شيء من هذا. لقد كانت حياتي كلها هادئة
منتظمة فلم أعرف الأفراح البهجة ولا الأحزان القاتلة. لم يحدث لي ما يستحق الذكر) فقاطعته قائلاً: أحقاً ما تقول؟ حاول أن تتذكر - إني لا أكاد أصدق هذا النوع من الحياة. فأجابني: (إني أكد لك أنه لم يحدث لي شيء حتى هذه الليلة، حتى فاجأتني بلقائك الغريب الذي هو أول مخاطرة - فإذا أردت أن تكتب شيئاً فعليك بهذا).
قال هذا ثم مضى مسرعاً بقيت في مكاني أنظر حولي حائراً مذهولاً.
ثم عدت إلى منزلي دون أن أكتب القصة. ومنذ ذلك المساء لم أعد أسخر من أولئك الناس العاديين ثانية.
نظمي خليل
البريد الأدبي
كيف يكتبون عن حركتنا الأدبية
قرأنا في صحيفة (هنوفر شر كورير) الألمانية فصلاً كتبه لها مراسلها الخاص في القاهرة تحت عنوان (الشعراء المصريون وأثر الشعر في مجد مصر القومي) فرأينا أن نأتي على ترجمته ليرى قراء العربية كيف يكتب الأجانب عن حركتنا الأدبية وكيف يصورونها تصويراً يبعد أحياناً عن الحقيقة بمراحل؛ قال الكاتب: تبدو مصر بطرافة مشاعرها القومية وروعة سماءها وإقليمها وسحر ماضيها وصراعها المستمر في سبيل الحرية كأنها موطن الشعر، وتبدو وكأنها تذكي الفكر وتجذبه، بيد أن ترثها الأدنى، وبالأخص ترثها من الشعر السياسي والقومي يبدو متواضعاً جداً. ويرجع ذلك إلا أن شعب النيل منذ عهد النيل يرزح تحت صنوف الاستعباد والذلة؛ فبعد الإسكندر الأكبر جاء قياصرة روما، ثم قياصرة بيزنطية، ثم العرب، ثم الترك؛ وهكذا مزق صرح الوحدة القومية الذي لا بد منه لكل تقدم عقلي قومي؛ ومنذ عصر محمد علي أي منذ نحو قرن بدأ نماء هذا الصرح القومي وألف ختامه الظاهري أخيراً حيث استطاعت مصر أن تحقق حريتها السياسية وسيادتها القومية، بيد أنها رغم هذا الظاهر لا تزال من حيث الناحية المعنوية في المؤخرة.
وللجاليات الأجنبية التي تعيش في مصر منذ بعيد، رغم تطور مصر القومي أثر قوي في جميع مناحي الحياة؛ وقد كانت الدوائر الاجتماعية التي كان بوسعها أن تعمل على خلق نهضة ثقافية خاصة على اتصال دائم مع الأجانب، بيد أنها فيما يتعلق بشؤون الأسرة اتجهت إلى اسطنبول، لأن معظم رجال هذه الطبقة كانوا يتخذون زوجاتهم من التركيات، وهؤلاء طبعنا الحياة العائلية بطابعهن ولغتهن؛ بل لقد غلب التركية على العربية، وألقى بالعربية في الشارع حتى غدت في مستوى العامية، ولم تبقى اللغة الأدبية إلا في الدوائر الدينية، وبقى مثلها الأعلى لغة القرآن.
وتبوأ الدين زعامته إزاء الاستعباد المستمر وسحق الكرامة الوطنية، وسادت الفكرة الإسلامية كل نواحي الحياة العامة والاجتماعية؛ فحال ذلك دون نهضة الشعر القومي؛ وقامت ضد الفكرة الوطنية فكرة الجامعة الإسلامية، ولم تتخذ الفكرة السياسية لها مكاناً خاصاً بل غمرتها الفكرة الدينية فسارت في أثرها؛ وهكذا كان منحا الشعر السياسي فأنه
سار في أثر الفكرة الدينية؛ واجتمع حول رعاية القصر في عهد أول زعيم لنهضة مصر الثقافية في العصر الحديث ألا وهو الخديوي إسماعيل؛ ومن شعراء هذا العهد علي الليثي وعبده الحمولي (كذا).
وتقدمت عملية ترقية الشعب علي يد البعثات التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا، وعاد أولئك الشبان إلى مصر يحدوهم العزم في أن يخلقوا لمصر حياتها العقلية الخاصة؛ بيد أنه كانوا دائماً متأثرين بالنفوذ الأجنبي ولا سيما النفوذ الفرنسي، وفي أثناء هذه البداية في سبيل الوحدة القومية وقعت الحوادث العرابية التي انتهت باحتلال الإنكليز لمصر؛ وهنا ظهر لأول مرة جيل فتي من الكتاب والشعراء يهتف بحريات الوطن والذود عنها، وشرد أبناءه في السجن والمنفى؛ وكان أهم أعلام هذا الجيل سامي البارودي محمد عبده.
وبث الاحتلال الأجنبي وما أصاب الوطنية الوليدة روحاً جديدة في الوحدة القومية؛ وظهر في مصر أول الزعماء الوطنين في المشرق، وأسس مصطفى كامل تلميذ جولييت آدام وبيير لوتي الحزب الوطني، وأدرك هذا الزعيم منذ البداية أهمية الشعر والكتابة في النهضة الوطنية فجمع حوله ما هنالك من كتاب وشعراء قلائل؛ بيد أن هؤلاء لم يكونوا سوى أبواق سياسية؛ ولم ينبغ من هذا الجيل سوى شاعرين اقتحما هذه الدائرة السياسية الضيقة في نظمها هما: شوقي وخليل مطران، فهذان شاعرين بلا ريب وهما يدعوا فقط إلى الوطنية، بل تجولا أيضاً في ميدان التأملات الخاصة؛ وقد ضم ذهنا هما الفكرة المصرية والفكرة الوطنية وتوثقت فيهما عدائهما رغم أن خليل مطران ليس مصرياً إلا بالموطن (وهو سوري المولد) ففي نظمهما يرى الإنسان مصر، كما يود أن يراها كل منهما؛ تلك هي مصر المصرية وللشعب المصري.
هذا ما نشرته الصحيفة الألمانية، وفيه ما يغني عن التعليق، بيد أننا نلاحظ فقط أن ما نكتبه نحن عن أدب الغرب وعن الحركات الأدبية الغربية يندر أن يعرض لمثل هذا الخلط في الوقائع والتصوير وإن لنغتبط إذ يعني القوم بالكتابة عنا كما نكبت نحن عنهم، بيد أنا نرجو أن يوفقوا في دراساتهم لشؤوننا وحركاتنا بأكثر فيما يبدو في مقال الكاتب.
الأزهر والمؤتمرات الدولية
قرر مجلس الجامع الأزهر تلبية لدعوة المكتب الدولي للتعاون الثقافي أن يشترك في شهود
مؤتمر القانون الدولي الذي تقرر عقده في مدينة لاهاي (بهولندة) في شهر أغسطس القادم، وسيمثل الأزهر الشريف الإسلام ويقدم إلى هيئة المؤتمر بحوثاً شرعية في الوقف والمواريث والهبة وغيرها من المسائل التي تمتاز بطرافة أحكامها، وسيتألف الوفد الأزهري إلى مؤتمر من ثلاثة أعضاءهم الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم رياض مدير قضايا بنك التسليف الزراعي والأستاذ عبد الرحمن حسن القاضي الشرعي والأستاذ محمود شلتوت المدرس بكلية الشريعة وقد سبق أن اشترك الأزهر في الأعوام الأخيرة في غير مؤتمر دولي علمي أو ديني، وهذه السنة حسنة تمهد لتعاون الأزهر مع الهيئات العلمية والدولية الكبرى، وتزيد في هيبته العالمية.
تحريم جوائز نوبل في ألمانيا
سبق أن أشرنا في عدد سابق من (الرسالة) إلى الضجة التي حدثت في ألمانيا على أثر منح الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للسلم إلى الكاتب الألماني كارل فون أوسيتسكي، وإلى ما أبدته الحكومة الألمانية يومئذ من الامتعاض والتأثر لأنها ترى في الكاتب الذي أسبغت عليه لجنة نوبل هذا الشرف خائناً لوطنه، والخيانة هنا هي أن أوسيتسكي كان قبل قيام النظام الهتلري يدعو إلى السلم ونزع السلاح ومنع الحروب، وهي مبادئ تخالف الأماني العسكرية والإمبراطورية التي تتعلق بها ألمانيا النازية: وكان أوسيتسكي حينما أنعم عليه بجائزة نوبل سجيناً في المستشفى، ولكن الحكومة الألمانية سمحت له تحت ضغط الرأي العام الدولي أن يقبل الجائزة. على أنها اتخذت أخيراً في هذا الموضوع خطوة حاسمة، فقد قررت أن تحرم جوائز نوبل أياً كانت على الألمان، وأنشأت هي جائزة قومية ألمانية قدرها ثمانية آلاف جنيه، (وهو ما يساوي قيمة جائزة نوبل)، وبذلك خرجت ألمانيا من عداد الدول التي يتقدم علماؤها وكتابها لنيل الجوائز الشهيرة، وقد فاز الألمان منذ نهاية الحرب الكبرى بنحو خمس وعشرين جائزة في مختلف العلوم والفنون والآداب، ولكن ألمانيا الهتلرية تمقت كل حركة تمازجها الصفة الدولية، وكل شرف لا يطبعه الشعار القومي، وهي من جهة أخرى لا تريد أن تسمح للهيئات العلمية الأجنبية أن تكون حكماً عليها في أمر من الأمور كما حدث في مسألة كارل فون أوسيتسكي.
طوالع الأيام قديما وحديثا
كان العرافون القدماء يحصون الحوادث السيئة والحوادث الطيبة في أيام معينة لكي يستخرجوا بعد ذلك الأيام السعيدة والأيام المنحوسة، وقد انتهوا بعد أجيال إلى القول بأن هناك أياماً بعينها تعتبر أياماً سعيدة، وأخرى تعتبر منحوسة، وكانت هذه الأيام معروفة منذ العصر الغابر، وكان يعرفها أهل بابل قبل المسيح، وكان المصريون القدماء يقولون أيضاً بمثل هذه التفرقة بين الأيام، ولهم قوائم معينة بالسعيد منها المنحوس، واستمرت هذه القوائم معروفة متداولة حتى العصور الوسطى. وعندئذ طبقها العرافون على أيام التقويم الجريجوري.
فمثلاً يمثل يوم الاثنين السلام، ويمثل الأربعاء والخميس الشجاعة والأحد يمثل الراحة والسعادة، وهذه هي الأيام السعيدة. أما الأيام المنحوسة فهي الثلاثاء وهو مارس إله الحرب، والجمعة وهو يوم فينوس، والسبت وهو يوم زحل.
أما العرب فقد خالفوا هذا الاستنتاج، واعتبروا يوم الجمعة من الأيام السعيدة، وأنه يوم القرآن.
ويرى العرافون المحدثون ألا يأخذوا في ذلك بأقوال القدماء، وأقوال عرافي العصور الوسطى، ويرون أن لكل إنسان طالعاً بظروف وحوادث معينة، وعلى هذا الطالع يتوقف مصير الإنسان مدى الحياة.
رحلات بيتر موندي
صدر أخيراً كتاب بالإنكليزية عن رحلات رحالة إنكليزي في القرن السابع عشر تعتبر في ذاتها وثيقة تاريخية هامة، والرحالة المذكورة هو بيتر موندي، وقد كان موظفاً في شركة الهند الشرقية التي بدأت استعمار الهند، وكتب عن أسفاره ومشاهداته مذكرات يومية لبثت مخطوطة حتى العصر الأخير، وعندئذ عنى بنشرها السير تمبل فنشر منها أربعة مجلدات حتى سنة 1925، وصدر أخيراً المجلد الخامس والأخير، وفيه يقص موندي رحلته الأخيرة إلى الهند، ويصف البلاد التي زارها أثناء مسيره في أوربا وآسيا ولا سيما الجزائر الأفريقية التي كانت ترسو بها السفينة مثل سنت هيلانة وأسانشيون. وقد شهد موندي حوادث الثورة الإنكليزية ولكنه حريص في سردها، يقدمها كما وقعت دون تعليق، وتتناول
هذه الفصول وصف كثير من المدن الآسيوية ومشاهدها في هذا العصر الذي أخذ الشرق ينحدر فيه إلى سبته الطويل، وأخذ الغرب يتربص به وينقض عليه تباعاً، وقد عاش موندي بين سنتي 1208 و 1667، وصدرت رحلاته بهذا العنوان: رحلات بيتر موندي في أوربا وآسيا، ومن المحقق أن المؤرخ يجد في مذكراته كثيراً من الوقائع والحقائق التي تفيد في درس مجتمعات القرن السابع عشر.
في ميدان الاجتهاد
مسألة الاجتهاد في الدين - من المسائل الفكرية - التي تعني الرسالة بدرسها وتسجيلها - من أجل ذلك فتحت صدرها لمقالات الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي (في ميدان الاجتهاد) - المجلد السادس: 58 و 260 و 464 - والمجلد السابع: 1998 - ونشرت آراءه فيها - فكان من رأيه فيها:
1 -
(أن نعتمد من رجال كل من أهل السنة والشيعة والخوارج من اعتمدوه - ونرفض منهم من رفضوه - ولا يوجد ما يمنعنا من الانتفاع بالحديث الضعيف في التشريع - والأخذ به عند الحاجة إليه، فلا نرفض من الأحاديث إلا ما ثبت أنه موضوع بيقين ولا نهتم من رجال الحديث إلا من ثبت عليه الكذب قطعاً ورب حديث ضعيف يكون هو الصحيح - ورب رجل متهم. يكون هو الرجل الثقة).
2 -
(أن نحذف الإجماع من بين الأصول التي يرجع إليها في الاجتهاد - وأن نرجع مباشرة إلى النصوص التي لا بد من استناده إليها - فقد يفتح الله علينا بفهم جديد - غير ما فهموه منها)
3 -
(ألا نقتصر في القياس على إلحاق الشبيه بالشبيه لأن هذه السنة قد اختلفت رواياتها اختلافاً كبيراً ولا بد من تحكيم الرأي فيها تحكيماً مطلقاً)
4 -
(إن الاجتهاد جائز في الأصول وفي الفروع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمجتهد أجرين إذا أصاب وأجراً واحًدا إذا أخطأ، ولم يفرق بين أصول وفروع - بل أطلق الأمر إطلاقاً - وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً)
5 -
وكان الأستاذ في آرائه تلك خارجاً على العلماء الأصوليين المتأخرين - كما قال هو عن نفسه في الرسالة (118).
6 -
(ولم يدع العصمة فيما قال - بل عرض رأيه على صفحات هذه المجلة - لنشترك فيه الآراء - وتمحصه البحوث - كما قال في خاتمة مقالاته (في ميدان الاجتهاد))
فما هي آراء العلماء الأعلام - في هذه المسألة؟ أرجو أن يدلوا بها باختصار - وأنا واثق أن (الرسالة) التي أثارت البحث في هذه المسألة المهمة - ونشرت كل قال الأستاذ الصعيدي - لن تضن عليهم بنشر ما يرونه - وهذه سبيل الوصول إلى الحقيقة - التي نريدها ويريدها الأستاذ الصعيدي - والمسألة مهمة - تتصل بأصل الدين - ولا يجوز التغافل عنها.
دمشق
علي الطنطاوي
المعارض الدولية
أصبحت المعارض الدولية عنوان النهضات الاجتماعية والاقتصادية ومع أنه لم يمض على البدء بتنظيمها أكثر من ثمانين عاماً. فإنها تغدو اليوم من أعظم المظاهرات القومية والدولية في سائر نواحي التقدم، وقد أقيم أول معرض أو سوق عالمية من هذا النوع في لندن سنة 1851 في قصر البلور الذي التهمته النيران منذ أسابيع قلائل: ثم تبعه معرض باريس في سنة 1855، وفي سنة 1878 أقامت فرنسا معرضها الشهير في قصر (التروكاديرو) الذي أنشأ خصيصاً لإقامته فأحرزت بإقامته نجاحاً عظيماً وذاع صيته في أنحاء العالم وفي سنة 1889، أقامت معرضاً عظيماً آخر. هو الذي أقيم لمناسبته برج أيفل المشهور، وعرضت فيه مناظر فنية وموسيقية في جميع أنحاء العالم ومنها القاهرة، وقد كانت هذه المعارض في الواقع مراحل واضحة لما بلغته الأمة من التقدم في سائر النواحي والمرافق.
أو هي كما يقول المؤرخ (تاين) تبيان عصر، وتعبير مجتمع. ومن المحقق أن المؤرخ يجد في هذا المناظر المختلفة مجموع ما انتهى إليه مجتمع العصر من ضروب التقدم العقلي والاجتماعي، ولقد بلغ الشغف في إقامة هذه المعارض في عصرنا ذروته، وأصبحت الأمم الكبرى تتنافس في إقامتها وفي الإنفاق عليها. حتى لقد تبلغ من الضخامة والتنوع قدر
المدينة العظيمة، وقد يقتضي الطواف بمعرض أو سوق دولية ساحات طويلة قبل أن تلم بمناظره ومحتوياته. والمنتظر أن تكون سوق باريس الذي تستعد فرنسا لإقامتها منذ أعوام. والتي ستقام في الربيع المقبل أعظم مظهر دولي لما بلغته هذه المظاهرات الاجتماعية والاقتصادية من الفخامة والتنوع والرونق والجمال.
الكتب
إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
خير ما تقدم به هذا الكتاب القيم إلى القراء أن ننشر هذه المقدمة التي صدره بها مؤلفه الفاضل فقد حدد فيها الموضوع ورسم الطريق وبين الغاية. وللرسالة بعد ذلك كلمة فيه
هذا البحث من النحو عكفت عليه سبعة سنين وأقدمه إليك في صفحات. سبع سنين من أواسط أيام العمر وأحراها بالعمل، صدقت فيها الاعتكاف إلى النحو، وإلى ما يتصل بمباحثه، وأضعت له من حق الصديق والأهل والولد والنفس جميعاً.
كان سبيل النحو موحشاً شاقاً، وكان الإيغال فيه ينقض قواي نقضاً، ويزيدني من الناس بعداً ومن التقلب في هذه الدنيا حرماناً. ولكن أملاً كان يزجيني ويحدو بي في هذه السبيل الموحشة؛ أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين أصر هذا النحو، وأبدلهم منه أصولاً سهلة يسيرة، تقربهم من العربية، وتهديهم إلى حفظ من الفقه بأساليبها.
كانت بارقات الأمل - خادعة وصادقة - تدفعني في سبيلي، غير راحمة ولا وانية. فليكن ما أنفق من هذا العمر ذخراً في أعمار الدارسين من بعد، ولتكن شيخوخة هذا الشيخ فدى للعربية؛ أن تقرب من طالبيها، ويمهد السبل لمتعلميها.
اتصلت بدراسة النحو في كل معاهده التي يدرس فيها بمصر، وكان اتصالاً طويلاً وثيقاً؛ ورأيت عارضة واحدة، لا يكاد يختص بها معهد دون معهد، ولا تمتاز بها دراسة عن دراسة، وهي التبرم بالنحو، والضجر بقواعده وضيق الصدر بتحصيله؛ على أن ذلك من داء النحو قديماً، ولأجله ألف (التسهيل) و (التوضيح)، و (التقريب) واصطنع النظم لحفظ ضوابطه، وتقييد شوارده.
والنحو مع هذا لا يعطيك عند المشكلة، القول البات، والحكم الفاصل. قد يهدي في سهل القول، من رفع فاعل ونصب مفعول. فإذا عرض أسلوب جديد، أو موضع دقيق، لم يسعفك النحو بالقول الفصل، واختلاف الأقوال، واضطراب الآراء وكثرة الجدل التي لا تنتهي إلى فيصل ولا حكم، كل ذلك قد أفسد النحو أو كاد، فلم يكن الميزان الصالح لتقدير
الكلام، وتمييز صحيح القول من فاسده.
وإذا جئنا إلى مدارس الناشئين، كانت المشكلة في تعليمهم النحو أشد وأكد؛ فهو على ما تعلم من بعد تناوله، وصعوبة مباحثه، قد جعل المفتاح إلى تعلم العربية، وكتب على الناشئ أن يأخذ بنصيبه منه، منذ الخطوة الأولى في التعليم الابتدائي والثانوي، واختير له جملة من القواعد، قدر أنها تفي بما يحتاج إليه لإصلاح الكلام وتقويم اللسان، ثم كانت خصومة هادئة قاسية بين طبيعة التلميذ، وبين هذا المنهاج والقائمين عليه. أما التلميذ فقد بذل الجهد واعياً ولم يبلغ من تعلم العربية أرباً. وأما أصحاب المنهج. فقد رأوا أن يزيدوا في منهجهم، ويكملوا للتلميذ حظه من القواعد، فلا سبيل له إلى العربية غير هذا النحو؛ فزادوا في هوامش كتبهم ما يكمل القواعد ويتمم الشروط - ثم تسللت هذه الزيادات إلى جوف الكتاب فضخم، وزاد المنهاج المفروض - ولكن طبيعة التلميذ الصادقة في إباء هذه القواعد، والتململ بحفظها، لم تخف شهادتها، ولم يستطع جحدها، فكانت ثورة على المنهاج وأصحابه، وخفف منه، وانتقص من مسائله، والداء لم يبرأ، والعوارض لم تتغير، وتكررت الشكوى، وعادوا على المنهاج بالنقص، حتى كان المقرر قواعد من النحو مختلفة، كأنما هي نماذج يراد بها عرض نوع من مسائله قد كان في هذا، الشهادة الصريحة بفشل هذا النحو أن يكون السبيل إلى تعلم العربية، والمفتاح لبابها.
ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة، واصطنعت أصول التعليم اصطناعاً بارعاً، ليكون قريباً واضحاً؛ على أنه لم يتجه أحد إلى القواعد نفسها، وإلى الطريقة وضعها، فيسأل: ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية؟
هذا السؤال هو الذي بدا لي، وهو الذي شغلني جوابه طويلاً. ولقد تميز عندي نوعان من القواعد: نوع لا تجد في تعليمه عسراً، ولا في التزامه عناء، ولا ترى خلاف النحاة فيه كبيراً، وذلك كالعدد ورعاية أحكامه في مثل: قال رجلان، والرجلان قالا. وقال رجال والرجال قالوا. فمع دقة الحكم في رعاية العدد، واختلافه تبعاً لموضع الاسم والفعل من الجملة، لا تجد العناء في تصوره، ولا المزلة في استعماله.
ونوع آخر لا يسهل درسه ولا يؤمن الزلل فيه، وقد يكثر عنده خلاف النحاة، ويشتد جدلهم،
كرفع الاسم أو نصبه في مواضع من الكلام.
ثم رأيت علامات العدد تصور جزءاً من المعنى يحسه المتكلم حين يتكلم، ويدركه السامع حين يسمع. أما علامات الإعراب، فقل أن ترى لاختلافها أثراً في تصوير المعنى، وقل أن يشعرنا النحاة بفرق بين أن تنصب أو ترفع؛ ولو أنه تبع هذا التبديل في الأعراب تبديل في المعنى. لكان ذلك هو الحكم بين النحاة فيما اختلفوا فيه، ولكان هو الهادئ للمتكلم أن يتبع في كلامه وجهاً من الأعراب.
فلو أن حركات الأعراب كانت دوال على شيء في الكلام، وكان لها أثر في تصوير المعنى، يحسه المتكلم ويدرك ما فيه من الإشارة ومن وجه الدلالة، لما كان الأعراب موضع هذا الخلاف بين النحاة ولا كان تعلمه بهذه المكانة من الصعوبة، وزواله بتلك المنزلة من السرعة.
ألهذه العلامات الإعرابية معان تشير إليها في القول؟ أتصور شيئاً مما في نفس المتكلم، وتؤدي به إلى ذهن السامع؟ وما هي هذه المعاني؟؟
والعربية - لغة القصد والإيجاز - أتلتزم علامات الإعراب على غير فائدة في المعنى، ولا أثر في تصويره؟
لقد أطلت تتبع الكلام، أبحث عن معاني لهذه العلامات الإعرابية، ولقد هداني الله - وله خالص الإخبات والشكر - إلى شيء أراه قريباً واضحاً، وأبادر إليك الآن بتلخيصه:
(1)
إن الرفع علم الإسناد. ودليل إن الكلمة يتحدث عنها
(2)
إن الجر علم الإضافة، سواء أكانت بحرف أو بغير حرف
(3)
إن الفتحة ليست بعلم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التي يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهي بمنزلة السكون في لغتنا الدارجة
(4)
إن علامات الأعراب في الاسم لا تخرج عن هذا إلا في بناء أو نوع من الأتباع، وقد بيناه أيضاً.
فهذا جماع أحكام الإعراب؛ ولقد تتبعت أبواب النحو باباً باباً واعتبرتها بهذا الأصل القريب اليسير، فصح أمره، وأطرد فيها حكمه.
ثم زدت في تتبع هذا الأصل، فتجاوزت حركات الإعراب، ودوست التنوين على أنه منبئ
عن معنى في الكلام، فصح لي الحكم واستقام، وبدلت قواعد (مالا ينصرف) ووضعت للباب أصولاً أيسر وأنفذ في العربية مما رسم النحاة للباب. ولا أؤجل عنك إجمال هذه الأصول أيضاً.
(1)
إن التنوين علم التنكرين
(2)
لك في كل علم ألا تنونه، وإنما تلحقه التنوين إذا كان فيه حظ من التنكير
(3)
لا تحرم الصفة التنوين حتى يكون لها حظ من التعريف
والبحث الذي أقدمه إليك الآن، هو شرح موجز لهذه الفكرة ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا موجز لهذه الفكرة ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا من الأدلة لتأييدها وكنت أريد أن أشكر لصديقي الدكتور طه حسين، وأذكر فضله في إتمام البحث وإخراج الكتاب؛ ولكنه آثر أن يقدم الكتاب، وانزلق إلى الثناء على صاحبه، فأجررت أن أتكلم.
وحق علي أن أشكر تلاميذي الذين عاونوني في شيء من المباحث، وإن لم أملك الآن أن أسميهم وأعمالهم.
وأحمد الله حمداً ملؤه التوحيد والتمجيد والشكر.
قصة الكفاح بين روما وقرطاجة
تأليف الأديب توفيق الطويل
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
ما زال الناس يستلهمون التاريخ ويستمدون منه العبرة كلما ألجأتهم ضرورة في حاضرهم إلى ذلك، فإن تجربة العصور في حاضرها لا تغني الناس إذا شاءوا التماس الحكمة أو استبانة القانون الإنساني، وذلك أن حوادث السنين لا تتصل نتائجها بمقدماتها إلا بعد مضي القرون ولا تكمل عبرتها إلا بعد توالي الأجيال. وليس في تكرار التمثل بعبر الزمان إعادة ولا في تعدد النظرات إليها إباحة لها أو ابتذال، فان الحادثة الواحدة قد تنطوي على ما لا حد له من العظات، وقد يتناولها الناس في كل عصر فيجد كل منهم فيها ناحية من المعنى مخالفة لما وجده سواه من معانيها. ولقد كان النضال بين قرطاجة ورومة أحد هذه المواقف
التاريخية الفذة التي هزت العالم هزة قوية في أبانها، وما زالت العصور التالية ترجع وتلتفت صوبه، وكل منها يشير إلى ما يبتغي من عبرة فيه أو يتحدث عنه حديثاً يوحيه إليه موقع الضوء عليه في ناظره، وهكذا كان شأن الأستاذ (توفيق الطويل) مؤلف هذا الكتاب عندما تناول بالبحث هذا النضال.
لقد نظر المؤلف الفاضل إلى تلك الحرب التي يسميها التاريخ بالحرب اليونانية كما نظر سواه إليها ووصفها ورسم لنا منها صورة خاصة لا أظن أنها تشابه صورة أخرى رسمها أحد في لغة العروبة فهو قد استدرج الذهن من موقعه إلى موقعة ومن صورة إلى صورة حتى بلغ به النهاية فأشار إليه مومئاً إلى ما تحت قدميه، فإذا بالعبرة التي كان يرمي إليها ماثلة واضحة لا يستطيع أحد أن يخالف فيها ولقد كانت الشعوب الإنسانية منذ القدم ينافس بعضها بعضاً في كل ميادين النشاط والمطامع، فلقد كانت تتنافس في امتلاك الأراضي وفي الانتفاع بالمراعي، وكانت تتنافس في القوة والمنعة ثم هي تتنافس اليوم في كل هذه المعاني بوسائل سلمية تارة وحربية أخرى. غير أن ذلك التنافس الإنساني كانت له مظاهر عدة، فقد كان يحدث بين وحدات القبائل الصغيرة في دائرة محدودة كما كان يحدث بين الأجناس والشعوب في دوائر أوسع، فأنا لا نكاد نجد عصراً خلا من محاولة شعب من شعوب الأرض سيادة سائر الشعوب ونبوغ شعب آخر يتصدى له بالدفاع، فإذا بشعوب الأرض موزعة بين الزعيمين المتناضلين حتى ينتهي الأمر بإذعان أحدهما أو انقراضه وضياع سلطانه. وقد حاول بعض علماء التاريخ أو الاجتماع أن يخلصوا من استقراء ما حدث من ذلك النضال في كل العصور إلى أن أجناس العالم بينها طائفتان كبريان لا تفتأ تميل إلى النزاع والنضال على سيادة الأرض، فيسمون طائفة من الطائفتين شرقاً والطائفة الأخرى غرباً، ويقول هؤلاء العلماء إن النضال بين هاتين الطائفتين دائب مستمر استمرار الليل والنهار فقد يحدث أن شعبين من طائفة واحدة يثوران حيناً للنضال ثم لا يلبثان أن يستقرا على نوع من التفاهم والتجاور، في حين أن الطائفتين الكبريين لا يستقر بينهما النضال بل لا تزالان تتصاولان وتتصارعان. فإما إحداهما سيدة غالبة، والأخرى تناضل في سبيل الحياة تجاهها، وإما أن تنقلب الآية فتصبح السيدة مسودة والمستضعفة سيدة، وهؤلاء العلماء يجعلون قرطاجة وروما رمزيين لهاتين الطائفتين الكبريين في العصور
التي سبقت الميلاد بقرنين أو ثلاثة. كما أنهم يجعلون حرب الفرس واليونان رمزاً لذلك النضال قبل ذلك، وحرب العرب والروم ثم الفرنج رمزاً له في العصور الوسطى.
ومهما يكن من أمر هذا الرأي فأنا لا نستطيع أن نغضي عما فيه من الضعف والتعسف، فالحقيقة التي لا شك فيها هي أن أمم الأرض تتنازع وتتناضل فيما بينها. وان ما بقي بعد ذلك من التحديد ناشئ من الظروف والحوادث. ولقد كان نضال قرطاجة ورومة بغير شك من أروع مواقف النزاع العالمي، ولكن لم تكن رومة لتمثل عند ذلك شيئاً اسمه الغرب، ولم تكن قرطاجنة تمثل شيئاً اسمه الشرق، فقد كانت مصر عند ذلك تحت سلطان البطالسة العظام، وما كانت قرطاجنة إلا مدينة نامية تستولي على المال وتستخدمه في سبيل بسطة سلطانها بأن تسخر الجيوش لتنتصر لها في حروبها، وما كان لمثل هذه المدينة أن تكون زعيمة الشرق أو الآخذة بزمامه في نضال السيادة العالمية، بل لقد كانت مصر أجدر منها بذلك وأحرى
ويلوح لي أن المؤلف الفاضل لا يذهب مع أصحاب الرأي المتقدم فأنه علم أن قرطاجنة لها رحم بالساميين لم يجعلها ممثلة الشرق في نزاع الأجناس، بل نظر نظرة أخرى تختلف كل الاختلاف عن تلك الوجهة التي أشرنا إليها، فهو لا يتعصب لها ولا يراها تمثل مثلاً من أمثلة الشرق العليا، بل أنه لينظر إلى المثل العليا لروما على أنها أقرب إلى تمثيل مثل الإنسانية عامة، وهو يتحدث عن حوادث نضال قرطاجنة وروما حديث من يريد أن يتغلغل دون السطح ليتخذ من بحثه عظة وتنفعنا في حاضرنا فهو يريد أن يوجه أنظارنا إلى أن قرطاجنة قد فنيت لأنها كانتا جديرة بالفناء، وأن روما قد بقيت ونمت لأنها كانت جديرة بالبقاء والنمو، ثم هو يشير لنا وهو يسير في حديثه إلى الأسرار التي أهلت كلاً من المدينتين إلى مصيرها وجعلتها جديرة بما نالها.
خلفت الأساطير قصتين عن منشأ المدينتين المتناضلتين، وما أحرى هاتين الأسطورتين أن تكونا مختصرة لتاريخهما. فروما تنشأ في العراء وتغذوها الوحوش ثم ترويها الدماء ولكنها ترفض الاستكانة إلى الدعة ويطلب أهلها العيش في ظلال المكارم، فلا تزال مثلها العليا الخشونة والقوة والقسوة. وقرطاجنة تنشأ هرباً من مطامع الطامعين لتنفرد في مأمن تتمتع في برغد العيش وذكريات السعادة ولكنها لا تلبث أن تحرق نفسها دفاعاً لمطامع جديدة
اتجهت إليها من ناحية أخرى. وما كانت التاريخ ليحدثنا عن المدينتين إلا هكذا إذ شاء اختصار حكاية كل منهما في كلامات قليلة.
وانه لمن ألذ المطالعات أن يتتبع القارئ وصف هذا الكتاب لحوادث تلك الحقبة من الدهر، فان فيه خصالاً ثلاث تسمو به. دقة في البحث، ونفوذ في النظر، وجمال في الأسلوب.
وإني لأنتهز هذه الفرصة لتهنئته تهنئة حارة على ما أصاب من إجادة وتوفيق.
محمد فريد أبو حديد