الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 19
- بتاريخ: 15 - 10 - 1933
القرية أمس واليوم.
. .
كان أكتوبر في الزمن السعيد يقبل على القرية إقبال الربيع، يفَّتق لوز القطن في الحقول، ويشِّقق ورد الصبى في الخدود، ويفتَّح نوّار المنى في القلوي، ثم يمر بيده الذهبية على نصب الفلاح فيزول، وعلى هم المدين فينفرج، وعلى غمرة المكروب فتنجلي، ويرسل الخصب مدراراً على المنازل الجديبة فيرتاش المقلُّ، وينعم البائس، ويتزوج الأعزب!
كنتَ في أكتوبر، شهر الغنى والزواج، ترى مزارع القطن رفَافة الوجوه، بسامة الصور، تنساب بين خطوطها البيض أسراب الغيد بجنين الثمرة الغالية، وهن يغنين الأغاني الجميلة، ويحلمن الأحلام اللذيذة، ويتخيلن هذا القطن الذي يجمعنه الآن بأناملهن، ويضعنه في أحضانهن، وقد اصبح الثوب الزاهي الذي اشتهينه، والقُرط الذهبي الذي ابتغينه، والزوج الحبيب الذي طالما تمنينه! فإذا جئت القرية وجدتها زَّخارة بالحياة، مَّوارة بالحركة، تمرح بحماس الشباب، وتموج بأطياف الحب، وتهزج بأناشيد الأعراس، وتتلقى جزاءها الأوفى على جهادها الصابر طول العام في فلاحة الأرض وخدمة المالك، وإعانة الحكومة.
فالطرق الآتية إليها من الغيط تسيل بالعذارى الأوانس يصفقن بالأكف المخضوبة ويحدون بالأصوات الندية، (والخواجات) يخرجون متعاقبين من بيت إلى بيت يساومون على (المحصول) بالأثمان المغرية، والشباب المرحون يسمرون إلى موهن الليل على الرباب والأرغول في بيوت الأفراح القريبة، وأشعة الخريف الفاترة تبعث في قلوب هؤلاء الخليين طلاقة العيش وجمال الوجود، فلا يشغلون بالهم بالزروع التي تذبل، والأوراق التي تسقط، والطبيعة التي تموت!
ذلك حديث القرية المصرية بالأمس، فهل أتاك حديثها اليوم؟ لم يعد وا أسفاه للقطن تلك القوى السحرية التي كانت ترد البؤس نعيما وتجعل النار جنة! ولم تعد الطرق السالكة إليه شادية بالغناء، ولا الأنامل التي تجنيه مخضوبة بالحناء، ولا الدور التي تحويه ألاقة بالذهب! فقد القطن ولواحقه من سائر الغلات معنى الرخاء فأصبح علاجها عناء خالصا لا روح فيه، وسعيا باطلا لا رجع منه!! وكان الفلاح قد أقام بيته وأدار حياته على هذا الحاصل، فكان يأكل حبوب الأرض ثم يرصده وحده لقضاء الدين وأداء الضريبة ووفاء القسط وسداد العوّز وأكلاف السنة، فلما بخست قيمته الظروف القاسية تزعزع البيت،
واضطربت الحياة، وانتشرت الحال، واستحكمت الازمة، فألحف الدائن في الطلب، وأعنف الصراف في التحصيل، وأسرف البنك في الحجز، حتى انتقص لهم من قوُته، واقتطع لهم من ثوبه، ونزل لهم عن جهده، ولم يغن كل ذلك شيئاً عن بيع ملكه!
تبدلت القرية غير القرية، فلا ليلى تطمح في زينة، ولا أخوها يطمح إلى زواج، ولا أبوهما يفكر في حج! وأصبحت الطريق الذاهبة إلى المدينة تجئ بالمرابي والصراف والمحضر، بعد أن كانت تجئ بالشاعر والزامر والمغني، وغاضت بشاشة العيش في وجوه الشباب فعادت القرية جديبة كالقفر، كئيبة كالقبر، لا يعقد فيها اجتماع لأنس، ولا يقام بها احتفال لعرس! وما أبعد هاتين الكلمتين اليوم عن قوم ندر عندهم الكبريت (الأصفر) حتى اتخذوا الزناد، وغلا عليهم التبغ حتى اشترك ثلاثة في سكارة!!
لا تزال القرية كما كانت في القرون الخوالي أكواخا متلاصقة من الطين غرقى في المناقع والدِّمن، لا تبصر الشمس، ولا تنشق الهواء، ولا تعرف النظافة، تكومت في قاعها أرواث البهائم وزرق الدجاج، وتراكم على سطحها حطب الوقود وعلف الماشية، وتقاسم الإنسان والحيوان المضاجع في هذه الحظائر المشتركة! ثم راض الفلاح نفسه مرغماً على الطعام الوخيم والشراب الكدر والملبس الرث والقناعة المزرية، حتى مات في حسه إدراك الجمال، وتفه في ذوقه طعم الوجود!
ذلك والعواصم المصرية تعيش في القرن العشرين تأخذ بمدنيته، وتقبس من نوره، وتنعم برفاهه، كأن الصلة بين القرية والمدينة هي الصلة التي كانت بين العبد والسيد، يملك ولكن ملكه لمولاه، وينتج ولكن إنتاجه لسواه!!
تغلغلت المدينة في الأمم الأوربية حتى انتظمت قمم الجبال وبطون الأودية وأطراف السهوب، وسوَّت بين بنيها في مُتَع العيش وحقوق الإنسان، ثم تشوفت إلى الآفاق الغائمة في الشرق تريد أن تهديها طريق الحضارة، ونحن لا نزال قاصرين عن إنقاذ قرانا من الجهل والمرض والفاقة، وهي مصادر القوة وموارد الإنتاج تعول الموظفين بالضرائب، وتغذي الجيش بالجنود، وتمد الحواضر بالأرزاق، وتعين الأحزاب بالمال، وتقيم (الحفلات) بالتبرع إن الفلاح المسكين الساذج يسمع بالوزارات تسقط وتقوم، وبالأحزاب تختصم وتحتكم، وبالمجالس تنتثر وتنتظم، وبالدواوين تفتح وتغلق، وبالأموال تجرى وتنفق،
فيسائل نفسه سؤال الجاهل الذاهل. إلى من هذه الأعمال والأموال إذا لم يكن لي من ثمارها نصيب؟؟
لقد اشترينا بأقوات الريف أبهة العاصمة، وبنينا بأنقاض القرية
قصور المدينة، وغسلنا بعرق الفلاح أقدام المترفين، فكنا كمن
حفر الجداول، وخطط الحقول، ونثر البذور، وشيد الأهرام، ثم
طمر في سبيل ذلك فوهة الينبوع!! احمد حسن الزيات
حول قصيدة
للدكتور طه حسين
في مساء يوم من أيام سنة 1920 دخل الأديب الفرنسي جاك ريفير على صديقه الشاعر العظيم بول فاليري، فرأى أمامه صورا مختلفة لقصيدة أنشأها، أو قل لقصيدة كان ينشئها. فاختلس صورة من هذه الصور، ثم خرج فنشر هذه الصورة في مجلة من المجلات الفرنسية الكبرى.
وهذه القصيدة هي (المقبرة البحرية) ويجب أن تعلم أن بول فاليري لا يتمأثراً من آثاره الفنية وإنما يتركه. وهو يفسر لنا هذا حين يتحدث إلينا في بعض ما كتب من الفصول، بأن الشعراء وأصحاب الفن في العصور القديمة، لم يكونوا يتمون أثراً من آثارهم، وإنما كانوا يعملون فيه ينقحونه، ويهذبونه، ينقصون منه، ويضيفون إليه، ويلائمون بين أجزائه، يبتغون الكمال ما وجدوا إلى ابتغائه سبيلا. حتى إذا أكرهوا على تركه أسلموه إلى النار أو أسلموه إلى الجمهور. فالنار والجمهور عند بول فاليري وعند أصحاب الفن الأقربين سواء. كلاهما يميت الأثر الفني بالقياس إلى مبدعه لأنه يختص نفسه بهذا الأثر فيحرقه تحريقاً ويقطع الصلة بينه وبين صاحبه، ويجعله ملكاً لنفسه، يتمثله كما يشاء أو كما يستطيع ويذوقه، ويفهمه كما يريد، أو كما تمكنه ملكاته الخاصة من الفهم والذوق. وبول فاليري حريص على هذه السّنة الفنية القديمة، فهو لا يتم كما قلت قصيدة من الشعر، ولا فصلا من النثر، وإنما يمضي فيه مصلحاً مهذبا، ساعياً إلى هذه الغاية القريبة التي لا تدرك وهي الكمال. حتى تضطره الظروف إلى أن يدع قصيدته أو فصله أو كتابه لصديق مختلس كجاك ريفير أو لناشر ملح، أو لأي ظرف من الظروف التي تذيع آثار الشعراء والكتاب، وتخرجها من أيديهم إلى أيدي القراء.
وكذلك فرضت هذه القصيدة في صورتها المعروفة على صاحبها فرضاً، ولعله لو خير لاختار صورة أخرى من هذه الصور التي كانت بين يديه، ولكنه نظر ذات يوم، فإذا المجلة الفرنسية الجديدة تنشر له قصيدة (المقبرة البحرية) فلم يكن له بد من التسليم والإذعان.
على أن من العسير جدا أن تظفر في التاريخ الأدبي الفرنسي، بقصيدة كثر حولها الحوار
وأشتد فيها الجدال، وتشعبت فيها الخصومة، كهذه القصيدة التي لا تزيد على أربعة وأربعين ومائة بيت. فقد انفق النقاد الفرنسيون أعواماً يدرسونها، ويحللونها، ويلتمسون معانيها، وأغراضها، ومظاهر الحسن ودخائله فيها. ثم لا يتفقون على ذلك بل لا يتفقون على شيء من ذلك، يل يبلغ بهم الاختلاف أقصاه. فإذا بعضهم يرفع القصيدة إلى أرقى منازل الآيات الشعرية الخالدة وإذا بعضهم ينزل بها إلى حضيض السخف الذي لا ينبغي الوقوف عنده ولا الالتفات إليه. وإذا الأمر يتجاوز المجلات والصحف الأدبية إلى الصحف اليومية الكبرى، ثم يشتد الخلاف وتنظم الخصومة حتى يضطر ناقد من كبار النقاد إلى ان يبدأ بحثا دقيقاً وتحقيقاً بعيد الأمد، فيختار قطعتين من هذه القصيدة، ويعرضهما على الأدباء والنقاد المعروفين يسألهم عما يفهمونه منهما، وما يرونه فيهما من الرأي، ويدعوه ذلك إلى أن يسألهم عن أصل من أصول الفن الشعري، ظهر أنهم لم يكونوا يتفقون عليه بحال من الأحوال، وهو الوضوح أهو ضرورة من ضرورات الشعر الجيد، أم هو شيء يمكن ان يستغني عنه هذا الشعر؟ وإذا شئت الدقة والجلاء فقل أيجب أن يكون الشعر الجيد واضحاً جلياً يفهمه من قريب من سمعه أو قرأه، أم يستطيع الشعر أن يكون جيداً وإن حال الغموض بينه وبين فهم القارئين والسامعين. ولا يكاد يبدأ هذا التحقيق حتى يعود الخلاف حول القصيدة وصاحبها كما كان حاداً عنيفاً متشعباً. وكان بول فاليري في أثناء ذلك قد انتخب عضوا في المجمع اللغوي الفرنسي. فيثير انتخابه حقد الحاقدين وحنق المحنقين، ويزيد الخلاف حدة وعنفاً. وتستطيع أن تقول غير مبالغ ولا مسرف أن المثقفين الفرنسيين جميعاً قد شغلوا بهذه القصيدة وصاحبها أعوام 1927 و 28 و 29
وانتهى أمر هذه القصيدة إلى السوربون، وما أقل ما تعنى السوربون بشعر المعاصرين، وإذا أستاذ من أساتذة الأدب فيها هو مسيو جوستاف كوهين يتخذها موضوعا لدرسه في تفسير النصوص الأديبة، وإذا هو يتخذها موضوعاً لكتاب سماه محاولة لتفسير المقبرة البحرية. كل هذه الحركة العنيفة والشاعر صامت لا يقول شيئا، ساكن لا يأتي شيئاً، أو هو لا يقول ولا يأتي شيئاً يمس هذا الخلاف العنيف حتى اضطر صاحب التحقيق الذي أشرت إليه آنفاً أن يكتب إليه ينبئه بأن كثرة الذين أجابوا إلى ما ألقي إليهم من الأسئلة يعترفون بأن لقصيدته معنى ولكنهم لا يتفقون على هذا المعنى، وإنما يختلفون اختلافا شديداً في
تحصيله، ويسأله أن يبين ما أراد ليقطع الشك ويزيل الخلاف، فلا يجيب الشاعر ويضطر كاتب آخر إلى أن يطالبه في صحيفة من الصحف الكبرى بأن يبين للناس ما أراد أن يقول في هذه القصيدة، ليظهر من أخطأ من النقاد ومن أصاب، ويصفه بالكبرياء، والحرص على أن يغيظ النقاد، ولكنه على ذلك كله لا يجيب حتى إذا ظهر كتاب أستاذ السوربون، نظر الناس، فإذا الشاعر قد قدم بين يدي هذا الكتاب بمقدمة بديعة ممتعة، يصفها بعضهم بأنها مثيرة للدوار، لكثرة ما تشتمل عليه من المعاني والآراء في وضوح لا يكشف الحجاب عنها كل الكشف، وفي غموض لا يريح القراء من التأمل وإطالة البحث والتفكير. فإذا قرأت المقدمة البديعة الممتعة المثيرة للدوار، لم يتبين فيها القارئ جواباً لهذه الأسئلة الملحة التي ألقاها النقاد على الشاعر يتمنون عليه فيها أن يبين لهم ما أراد، وإنما يجد القارئ في هذه المقدمة آراء موئسة من الوصول إلى تحصيل المعاني التي أراد إليها الشاعر حين نظم قصيدته. فهو يقول مثلا: إن الناس يسألونني ماذا أردت أن أقول؟ فأنا لم أرد أن أقول شيئاً وإنما اعمل شيئاً، ورغبتي في هذا العمل هي التي قالت ما يقرئون، وهو يقول مثلاً إن الأثر الفني الذي يصدره الشاعر أو الكاتب أو غيرهما من أصحاب الفن لا يكاد يخرج من يد منشئه حتى يصبح أداة من الأدوات العامة يصرفها الناس كما يريدون أو كما يستطيعون. ومعنى ذلك أن القصيدة إذا أذيعت بين الناس، فلكل واحد منهم أن يفهم منها ما أراد أو ما استطاع. فإما ما أراد الشاعر فأمر مقصور عليه حين نظم، ولعله قد نسيه أو انصرف عنه إلى غيره من المعاني فلا ينبغي أن يسأل عنه ولا أن يطالب بتبيينه للناس.
وأظرف وأطرف أن الشاعر يثني على الكتاب الذي يفسر قصيدته فيقول: انه قرب هذه القصيدة إلى الشبان من تلاميذه، وأحاط بخصائصها التي تتصل بما فيها من الموسيقى والانسجام. ولكنه يقول: أوفق الأستاذ الشارح إلى تحقيق المعاني التي قصد إليها الشاعر أم أخطأه هذا التوفيق؟
كل هذه الآراء وآراء أخرى للشاعر العظيم في هذه المقدمة الممتعة إن لم تبين المعاني التي أودعها قصيدته فهي تبين شيئاً آخر أظنه أقوم وأجلّ خطراً من هذه المعاني، وهو مذهب الشاعر في فن الشعر، وما ينبغي له من الارتفاع عن هذا الوضوح الذي يفسد الفن افساداً، ويقربه من الابتذال، فهو يرى مثلاً إن جمال الشعر يأتي من أنك تحدد اللذة الفنية
في نفسك، كلما حددت قراءته ومن أنك تستكشف في القراءة الثانية من فنون الجمال ما لم تستكشفه في القراءة الاولى، بل تجد في كل قراءة فنوناً جديدة من الجمال لم تجدها في القراءات التي سبقتها، وأنت لا تجد هذه اللذة المتصلة المتنوعة إلا لأنك خليق أن تستكشف في كل قراءة معنى جديداً يثير في نفسك شعوراً جديداً بالجمال، وهو يرى مثلاً أن للشعر صفات تعصمه من الموت أو تعصمه من الموت القريب، وهذه الصفات تتصل بوزنه وقوافيه وبهذه الصور الخاصة التي لا تجدها في النثر. وموت الأثر الفني عنده يأتي من فهم الناس له، فأنت إذا قرأت كتاباً وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه. فهناك إذا جهاد عنيف بين القارئ والمقروء، فإذا فهم القارئفقد غلب. وإنما الأثر الفني الخليق بهذا الاسم هو الذي يغلب قارئه ويعجزه، ولكن دون أن يضطره إلى اليأس والقنوط. ومن هنا يرى شاعرنا العظيم أن النثر بطبيعة تكوينه أقرب إلى الموت وأدنى إلى الفناء، لأنه أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى الهضم، لا تعصمه هذه الدروع المتقنة التي نسميها الوزن والقافية، والموسيقى والصور.
فإذا أضفت إلى هذه المقدمة ما كتبه شاعرنا العظيم في مواضع مختلفة، وظروف مختلفة حول الشعر والنثر والأدب عامة استطعت أن تلخص مذهبه في الشعر الخالص أو في الشعر العالي كما يقولون. فالشعر عنده كلام، ولكنه كلام ممتاز، وامتيازه لا يجب أن يأتيه من معناه وحده بل، يجب أن يأتيه من صيغته قبل كل شيء، فحقيقة الشعر إنما تلتمس في صيغته وشكله، تلتمس في وزنه الذي يجب أن يبهر السمع ويؤثر فيه، تلتمس في انسجامه الذي يجب أن يثير في النفس لذة الموسيقى، أو لذة أرقى من لذة الموسيقى لأنها تمس العقل والشعور والسمع جميعاً، ثم تلتمس في صوره التي تروع الخيال وتروع معه الحسن أيضاً ثم تلتمس قبل كل شيء وبعد كل شيء في هذه الصفة التي لا أدري كيف أسميها أو أحددها، والتي تضطرك إلى البحث والتفكير وإلى جهاد ما تقرأ في غير ملل ولا يأس.
وطبيعي بعد أن ثار هذا الخلاف العنيف الطويل حول هذه القصيدة أن تتجاوز حدود فرنسا، ويعنى بها النقاد الأجانب كما عني بها الفرنسيون، كما يعنون بكل ما يصدر هذا الشاعر من الآثار. فقد ترجمت هذه القصيدة أربع مرات في اللغة الإسبانية، وثلاثاً في اللغة الإنجليزية، وثلاثاً في اللغة الألمانية ولكن الغريب أنها ترجمت في اللغة الفرنسية نفسها
شعراً. ترجمها الكولونيل جودشو، وأرسلها إلى الشاعر، فكتب إليه الشاعر يقول: اشكر لك خالص الشكر ما أرسلت إليّ من ترجمة المقبرة البحرية إلى لغة أقرب إلى الوضوح. وسأضيف هذه الترجمة إلى التراجم الإسبانية الأربع، وإلى التراجم الإنجليزية الثلاث، وإلى التراجم الألمانية الثلاث، وإلى تراجم أخرى لهذه القصيدة قد وقعت إلى. وقد أعجبني جداً ما بذلت من الجهد لما ظهر فيه من الحرص على أن تحتفظ ما استطعت ببعض الأصل، وإذا كنت قد استطعت أن تترجم هذه القصيدة فليست هي إذن من الغموض بحيث يقال. فان قصيدة مظلمة حقاً تحتاج إلى تغيير أعمق من هذا التغيير الذي أحدثته لتصبح ترجمتها أمراً ميسوراً. فأنا مدين لك بهذا الدليل الواضح على أن المقبرة البحرية شيء يمكن فهمه إذا عنى القارئ بعض العناية بقراءتها ورغب بعض الرغبة في فهمها.
وأظن أن السخرية في هذا الكتاب أوضح من أن تحتاج إلى أن أدل عليها، ولعلك تسألني أن أترجم لك هذه القصيدة كلها أو بعضها، ولكني معتذر من ذلك لأمرين. الأول: أني أجد في قراءة القصيدة لذة راقية قوية حقاً، ولكني لا أستطيع أن أقول أني أفهمها على وجهها، وليس على من ذلك بأس ما دام النقاد والأدباء الفرنسيون وهم أعلم مني طبعاً بلغتهم وأدبهم يختلفون في فهمها إلى هذا الحد. والثاني: أن بول فاليري نفسه يرى أن ترجمة الشعر إلى النثر قتل لهذا الشعر، وتمثيل به ومحو لآيات الجمال فيه، وأعوذ بالله أن أقترف هذه الجناية أو أتورط في هذا الأثم، ولكن في مصر شعراء أو أنا أرجو أن يكون في مصر شعراء يحسنون الفرنسية فهل لهم أن يستبقوا في ترجمة هذه القصيدة شعراً عربياً، وهل لأصدقائنا أصحاب الرسالة أن يجعلوا للفائز في هذه المسابقة من الشعراء جزاء يلائم ما سيبذله من الجهد الذي سيكون عنيفاً حقاً، ولكنه سيضع أمام قراء اللغة العربية نموذجاً من أرقى وأروع نماذج الشعر الحديث.
الرأي والعقيدة
للأستاذ أحمد أمين
فرق كبير بين أن ترى الرأي وأن تعتقده، وإذا رأيت الرأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك، وإذا اعتقدته جرى في دمك، وسرى في مخ عظامك، وتغلغل إلى أعماق قلبك.
ذو الرأي فيلسوف، يقول إني أرى الرأي صواباً وقد يكون في الواقع باطلاً، وهذا ما قامت الأدلة عليه اليوم، وقد تقوم الأدلة على عكسه غداً، وقد أكون مخطئاً فيه، وقد أكون مصيباً، أما ذو العقيدة فجازم بات لا شك عنده ولا ظن، عقيدته هي الحق لا محالة، هي الحق اليوم وهي الحق غداً، خرجت عن أن تكون مجالاً للدليل، وسمت عن معترك الشكوك والظنون.
ذو الرأي فاتر أو بارد، أن تحقق ما رأى أبتسم ابتسامة هادئة رزينة، وإن لم يتحقق ما رأى فلا بأس، فقد احترز من قبل بأن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيره خطأ يحتمل الصواب، وذو العقيدة حار متحمس لا يهدأ إلا إذا حقق عقيدته. هو حرج الصدر، لهيف القلب، تتناجى في صدره الهموم، أرَّق جفنه وأطال ليله تفكيره في عقيدته، كيف يعمل لها، ويدعو إليها، وهو طلق المحيا مشرق الجبين، إذا أدرك غايته، أو قارب بغيته.
ذو الرأي سهل أن يتحول ويتحور، هو عبد الدليل، أو عبد المصلحة تظهر في شكل دليل، أما ذو العقيدة فخير مظهر له ما قاله رسول الله:(لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته) وكما يتجلى في دعاء عمر: (اللهم إيماناً كأيمان العجائز) شعر جديد لقد رووا عن (سقراط) أنه قال (إن الفضيلة هي المعرفة) وناقشوه في رأيه، وأبانوا خطأه، واستدلوا بأن العلم قد يكون في ناحية، والعمل في ناحية، وكثيراً ما رأينا أعرف الناس بمضار الخمر شاربها، وبمضار القمار لاعبه. ولكن لو قال سقراط إن الفضيلة هي العقيدة، لم أعرف وجهاً للرد عليه، فالعقيدة تستتبع العمل على وفقها لا محالة، قد ترى أن الكرم فضيلة ثم تبخل، والشجاعة خيراً ثم تجبن، ولكن محالة أن تؤمن بالشجاعة والكرم ثم تجبن أو تبخل.
العقيدة حق مشاع بين الناس على السواء، تجدها في السذج، وفي الأوساط، وفي الفلاسفة. أما الرأي فليس إلا للخاصة الذين يعرفون الدليل وأنواعه، والقياس وأشكاله. والناس يسيرون في الحياة بعقيدتهم، أكثر مما يسيرون بآرائهم، والمؤمن بعقيدته يرى ما لا يرى
الباحث برأيه، قد منح المؤمن من الحواس الباطنة والذوق ما قصر عن إدراكه القياس والدليل.
الناس إنما يخضعون لذي العقيدة، وليس ذوو الرأي إلا ثرثارين لا يعملون، عنوا بظواهر الحجج أكثر مما عنوا بالواقع، لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم.
قد يجود الرأي وقد ينفع، وقد ينير الظلام وقد يظهر الصواب، ولكن لا قيمة لذلك كله ما لم تدعمه العقيدة، وقلَّ أن تؤتي أمة من نقص في الرأي، ولكن أكثر ما تؤتي من ضعف في العقيدة، بل قد تؤتى من قبل كثرة الآراء أكثر مما تؤتى من قلتها.
الرأي جثة هامدة، لا حياة لها ما لم تنفخ فيها العقيدة من روحها، والرأي كهف مظلم لا ينير حتى تلقى عليه العقيدة من أشعتها، والرأي مستنقع راكد يبيض فوقه البعوض، والعقيدة بحر زاخر لا يسمح للهوام الوضيعة أن تتولد على ظهره، والرأي سديم يتكون، والعقيدة نجم يتألق.
ذو الرأي يخضع للظالم وللقوي، لأنه يرى أن للظالم والقوي رأيا كرأيه، ولكن ذا العقيدة يأبى الضيم ويمقت الظلم، لأنه يؤمن أن ما يعتقده من عدل وإباء هو الحق ولا حق غيره، ومن العقيدة ينبثق نور باطني يضيء جوانب النفس، ويبعث فيها القوة والحياة، يستعذب صاحبها العذاب، ويستصغر العظائم، ويستخف بالأهوال، وما المصلحون الصادقون في كل أمة إلا أصحاب العقائد فيها.
الرأي يخلق المصاعب، ويضع العقبات، ويصغي لأماني الجسد، ويثير الشبهات ويبعث على التردد، والعقيدة تقتحم الأخطار، وتزلزل الجبال، وتلفت وجه الدهر، وتغير سير التاريخ، وتنسف الشك والتردد، وتبعث الحزم واليقين، ولا تسمح إلا لمراد الروح.
ليس ينقص الشرق لنهوضه رأي، ولكن تنقصه العقيدة، فلو منح الشرق عظماء يعتقدون ما يقولون لتغير وجهه وحال حاله، واصبح شيئاً آخر، وبعدُ، فهل حُرِم الأيمان مهبط الإيمان؟
حياة الإنسان
للأستاذ بول جانيت. الأستاذ بالسربون
حياة الإنسان منقسمة إلى أربعة أطوار: الطفولة والشباب، والرجولة والشيخوخة، ولطالما أشتد الجدل وما يزال يشتد بين البشر لمعرفة أي هذه الأطوار يكون الإنسان فيه أسعد حالا وأهدأ بالا وأشد تفاؤلا؟ ويلوح لنا أن الناس يجمعون أو يكادون يجمعون على تفضيل الرجولة على الشيخوخة، والشباب على الرجولة، والطفولة على الجميع، والحق الذي لا مراء فيه أن لكل طور من أطوار الحياة لونا من السعادة يناسبه ويلائمه، ولكل طور نظر إلى الحياة مغاير. . وهب أن ليس هناك ما هو أهنأ من الطفولة المرحة فمن منا يود أن يظل طيلة حياته طفلاً؟ فنحن الذين نغبط الأطفال هناءهم ونذكر في أسى تلك السعادة البريئة الماضية التي تفيأنا ظلالها وأحتسينا راحها ونعمنا بزنبقها وآسها أيام كنا أطفالا نرتع ونلعب، لنرمق في حزن عميق أولئك التعساء الذين تطول بهم الطفولة إلى غير نهاية، وإن سرورهم نفسه ليحرك فينا عاطفة الرحمة والإشفاق. نحن نرثى لهم لأنهم لما يلمسوا ما هم فيه من بؤس وشقاء، فهذه السذاجة التي يطول عمرها، وهذه الغرارة، وهذه الغباوة، وهذا الاستخفاف بآلام الغير ليبدو لنا أعظم الآلام. فليست السعادة منحصرة في قيام لذة او في انعدام ألم، ولكنها في استغلال القوى التي خص بها الإنسان استغلالا مشرفاً معقولاً. .!!
يجهل الطفل الحياة جميعها ولا تكاد تنصب رغائبه إلا على التافه من الأغراض، ومع إننا نعجب بهذا الطور وما حواه من سذاجة ومرح وتدلل فنحن لا نأسف عليه أسفاً حقيقياً، ولا نرضى عن طواعية واختيار أن نستعيده ثانية، ويحب الشباب من الحياة ما يحبه الرجل، ولكنه لا يتبع سبيله، ولا يسلك منهاجه، ومعرفته وآراؤه قريبان من معرفة الرجل وآراؤه، وليس الفرق بينهما عظيماً كما نراه بين الطفولة والشباب، وميزة الشاب عن الرجل أن رغائبه ما تزال في نضارتها وقشوبها، فالمستقبل مفتر له باسط ذراعيه، والأمل لابد ماليء جوانب قلبه، وناشر على أحزانه النادرة طبقة من السرور على أهبة أن تسفر وتتلألأ، وإذ لا عهد له بعقبات الحياة وتكاليفها، فهو أبداً سخي وشجاع، وما لم يكن قد خدع إلا نادراً كان ناصح الدخيلة، سليم الطويلة، يصدق الرواة ويثق بالظروف، ولما كان عمله في المعهد
أو المصنع لا يتجاوز بضع ساع من النهار كان لديه وقت من الحرية والفراغ طال أو قصر يتسنى له خلاله أن يتذوق لذة الاستقلال قبل أن ينوء به عبء التبعة. . . غير أن زمن اللذة قد ولى وأدبر وبدأت حياة الجد والكفاح، وحتى هذا الوقت لم تكن آراء الشباب إلا قضايا عقل وخلجات نفس ينبغي أن تستحيل إلى عقائد وقيود! كان ميله هوى، وصداقته مسلاة، وحبه تلهية من تلاهي الخيال قبل أن يكون حاجة من حاج القلب وضرورة من ضروراته، وكانت علاقاته بالعالم لذة لحظة أو ملال لحظة، ثم استحالت إلى سلاسل وأغلال لا يستطيع المرء أن يتحرر منها دون خطر، ثم تتجمع حول الرجل الكامل المنافع والغايات والحاجات والمنافسات. وتحيط به وتنبسط أمامه فلاة بلقع ليس فيها سوى أهراس وعواسج ومهاو، وقد كان الشاب لا يرى فيها إلا سهولا منبسطة تغطيها رياض بها أطيب الزهر وأشهى الثمر! كل هذا حق، وهل يمكن أن يقال أكثر من هذا في مدح الشباب وذم الرجولة؟ ولكن لم خلق الإنسان؟ خلق ليكون رجلاً يكافح ويناضل، أما السلام فليس من أطوار هذه الحياة، إن نشدته وجدته أبعد من الفرقدين واعسر من رد أمس الدابر. إن هذه الحياة جهاد ونضال، وحري بالرجل أن يكون كالربان في بحر تحفه الأهوال، وليس أدعى إلى السخرية من شاب في سن الرجولة أو في سن الشيخوخة مثل ذلك الشاب الأبدي يدعو إلى حزننا ورثائنا، وليس الذي نرثى له من أجله هو ذلك التناقض المادي والمعنوي، أو الجسدي والروحي في الشخص الواحد، ولكن ذلك النقص المعيب والخمول المزري، وتلك القوة المعتلة ثم ذلك الوقار الضائع والأهلية المفقودة. . كل هذا ليس إلا ضعفاً هرمياً قبل الأوان، فالطبيعة تثأر لنفسها بشيخوخة مبكرة طافرة مع من لم يعرف كيف يتلقاها ويرحب بها ويتأهب لها وهي تدنو منه في رفق وتريث واتئاد. . .
يَبذُّ الشاب الرجل ببهجته ونضارته وجماله، أي يبذه بشيء ليس إلا عرضاً زائلاً، وعثاً بالياً، وزينة أحرى أن تفاخر بها المرأة، ويبذه الرجل بقوته واحتماله، وعلمه وحزمه ووقاره. يريد الرجل فيعمل، وينتوي فينفذ، ويعد فيصدق، ويكافح فلا ينثني له عنان ولا تلين له قناة. ويقف الشاب من مسرح الحياة موقف المتفرج بينما يلعب الرجل فوقه دوراً تافهاً أو عظيماً. ولربما تطلب أتفه الأدوار جهداً فوق الذي يتطلبه أعظمها، فعول أسرة أشق غالباً من تأسيس مملكة.
يجهل الطفل شؤون الحياة، ولا يكاد يعرف منها كثيراً ولا قليلاً، ويعرفها الشاب أو يعرف منها الكثير فتستهويه وتستميله، غير أنه لا يساهم فيها، ولكن الرجل يمتزج بها ويحاول أن يغيرها، تحنكه التجارب وتوقره الحوادث، ويروضه الزمان ويثقفه الجديدان، وتشحذ قوته العقبات. وتعلى مكانته التبعات، وتوقظ مشاعره الآلام النبيلة، والعبرات الصادقة. . هذا عصر الإنتاج المثمر، والكفاح المجدي، والعزائم التي تولد من عناصر الضعف قوة، ومن ظلام اليأس نور أمل. هذا عصر القيادة والزعامة والابتكار، هذا عصر المجد والنور بل هذا عصر الإنسانية الحقيقي!!
في الطفولة عذوبة وسحر، وفي الشباب نظرة وجمال، ولكن كليهما ليس فيه غناء، لا لصاحبه ولا لوطنه ولا للإنسانية جمعاء، فالأطفال والشبان يعيشون في هذه الحياة كلا على الرجل، فالرجولة وحدها هي التي يؤمل لها أن تبلغ الغاية القصوى، والمثل الأعلى، وهي التي يحق لها أن تطمح إلى الخلود إن كان لشيء في هذه الحياة خلود!!
أما الشيخوخة فمتى كانت مدعمة بالرزانة والحزم، ومجردة من الهوى والأثم، وكان معها توبة من الذنوب وإقلاع عن المعاصي أضحت للذابل طلا وندى، وللفائت ترجيعاً وصدى، وما أشبهها بأصيل يوم ربيعي رق وصفا!
لينسَ الشيخ المعمر لحظة ما وسع من أحزان وآلام، وما أبتلى به من أوصاب وأسقام، وما نزل به من خصاصة، وما حضره من إملاق، وما لقي من عنت وإرهاق، وما صادفه من تعثر وإخفاق، ولينس مع هذا وقبل هذا أن قناته قد اعوجت، وأن عظمه قد وهن، وأن الدهر عاضه من نضارة عوده ذبولاً، ومن سواد عِذَاره قتيراً، وإن استطاع فلينس أيضاً أنه متى حان حينه طوى بساط عيشه، ووافاه حمامه فكحله بمروده. ولفه في مئزره، وأنتزعه من بين ابنة له وابن، ووالدة وخدن. وصاحبة وناي ودن، ليواريه في حفرة قد ضاقت مساحتها وأحلولكت جوانبها. . . فان فعل، وحري به أن يفعل، فثم قصيدة فيها سحر وجمال ومتاع سوف يخلقها له خياله. . قصيدة تبدأ بألاعيب الطفولة المرحة الطروب يتضوع منها شذا الوداعة والعذوبة والإيناس، ويفج منها نور السذاجة والبراءة والعفاف، ويغرد من فوقها البلبل والورقاء والحسون!! وتتصل بها آمال الشباب وأمانيه وأناشيده وأغانيه وتأملاته ونجواه ولياليه وليلاه. . . ثم تعقبها الرجولة بما أخذت من تبعة واحتمال،
وما اضطلعت به من أعباء ثقال، وما بذلت من جهود ونضال، وما ذللت من عقبات، وما جابت من فياف وقفار، وما قضت من لبانات وأوطار، وما نالت من مجد وفخار، وما أنعمت به من زوج وولد وصحاب، وما احتملت من وقدات الهجير ولفحات الزمهرير في طلب رزق أو استجلاء سر، أو ذياداً عن وطن. وتختمها الشيخوخة وقد توسدت الراحة وأخلدت إلى الدعة واعتصمت بالحلم والأناة وارتسمت على وجهها آيات الرضا، وانبعثت من مقلتها أشعة الهدى. فراحت تتفيأ ظلال الذكرى، وكأنما في سني الطفولة والشباب والرجولة تحيا!!
ترجمة: رسلان عبد الغني البنبي
الموسيقى في مصر
للأستاذ محمد كامل حجاج
لا ريب أن الموسيقى من أعظم الفنون الجميلة التي أصبحت من
الضروريات عند كل الطبقات، وقد بلغت أوجها عند الأمم الراقية،
وتمشت مع التمدن حتى أصبحت معيار المدنية والرقي.
الموسيقى الراقية كالشعر بل هي متممة له، لأن كثيراً من الحالات النفسية العميقة لا يستطيع الكلام أن يعبر عنها، وإني أضرب لك مثلاً سهلاً:
إذا قرأت أمام أمي جاهل مرثية من أروع الشعر الجاهلي فهل يظهر عليه أي تأثر؟
أعد الكرة أمام الرجل نفسه وأسمعه مرثية موسيقية راقية فلا ريب أنها تهزه وتحزنه حتى تقرأ علامات الحزن على وجهه ولربما لا يقوى على ضبط نفسه فيتأوه أو يخونه الدمع إن كان رقيق الشعور.
إن لم تكن الموسيقى واصفة ومصورة لكل ما تقع عليه العين من محاسن الطبيعة، ومعبرة كالشعر عن أسمى العواطف وأرق الشعور والوجدان، فأولى بها أن تسمى لغطاً وجلبة تصدع الرؤوس وتسئم النفوس.
لقد اهتمت مصر بالعلوم والآداب والفنون وأحرزت نصيباً يقارب الضروريات، ولكنها متقهقرة في الموسيقى. ولم نر واحداً من أبناء الأغنياء أولع بهذا الفن وحاول أن يدرسه دراسة تامة تؤهله لخدمة الموسيقى والنهوض بها إلى أوج الكمال. ولا يتأتى بلوغ هذه الغاية إلا بدراسة الموسيقى الإفرنجية، ثم العربية مع نصيب كاف من الثقافة العامة ولاسيما الآداب وتاريخ الفنون الجميلة، لأنهما يثقفان الذوق ويشحذان الخيال ويرهفان العواطف.
إننا بدراسة الموسيقى الإفرنجية بفروعها من سولفيج وأرموني وكونتريوان وتوزيع الموسيقى على الآلات نتمكن من إتقان الإملاء الموسيقي بأن نكتب موسيقى الدور أو القطعة بمجرد سماعها، ونرقى في التلحين إذا نبغنا في الارموني واستطعنا أن نسترشد بها لوضع أرموني تتناسب مع موسيقانا العربية. أما الكونتريوان فأنها تتمشى مع موسيقانا ولا تتنافر معها ولا تحدث فيها أية شائبة.
إن موسيقانا لا تتعدى على الجملة: الضروب والمقامات، وهي لا تؤهل الإنسان للتلحين ما لم يكن الموسيقار قد وهب استعداداً طبيعياً وموهبة فنية وذوقاً سليماً كالشيخ سلامة حجازي وعبده الحمولي ومحمد عثمان، وبهم أسترشد ومنهم اقتبس جميع ملحنينا العصريين. المشتغلون بالموسيقى في مصر هم المحترفون والهواة وصبية رياض الأطفال وصبيات السنتين الأولى والثانية من مدارس البنات الابتدائية والجيش والبوليس والملاجئ وسنتكلم عن كل طائفة منهم.
إن المحترفين من عازفين ومفنين ومنشدين وملحنين يقنعون بالوصول إلى درجة متوسطة أو دونها، وليس عند أغلبهم ميل إلى الفن، والغاية التي ينشدونها هي كسب العيش بدرجة يغبطون عليها من القناعة، والهواة من الشبان يكتفون بحفظ بعض البشارف والسماعيات وجانب من المارشات والأدوار دون أن يهتموا بقواعد الفن وأصوله. وأما الفتيات فأغلبهن يتعلمن منهاج المرحومة ماتيلدة على البيانو، ويقلقن به الجيران إلى ما بعد منتصف الليل، ولا يعزفن نوتة واحدة ويستثنى منهم أفراد قلائل من الشبان والفتيات بلغن غاية عظيمة ويقولون دائماً هل من مزيد؟ ولكن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد. اغتبطنا حين رأينا مدة انعقاد المؤتمر الموسيقي أطفال رياض الأطفال ومدارس البنات الابتدائية يمثلون قطعاً استعراضية تمثيلية غنائية في غاية من الرواء والإتقان، ويمثلون أدوارهم برشاقة واسترسال ويغنون ألحانها غناءاً صحيحاً شجياً، وقد أعجب بهم أعضاء المؤتمر أيما إعجاب. ويسرنا أن نرى وزارة المعارف مهتمة بتنفيذ قرارات المؤتمر الذي أوصى بنشر التعليم الموسيقي في المدارس الابتدائية والتجهيزية، إذقررت الوزارة في هذا العام تعليم بنات السنة الثانية من المدارس الابتدائية.
أما موسيقى الجيش والبوليس والملاجئ فقد ترقت كثيراً في السنوات العشر الأخيرة، ولاسيما موسيقى البوليس فأنها تعزف كثيراً من القطع الإفرنجية ومنتخبات الأوبرات المشهورة فضلاً عن القطع العربية الراقية، كما أنهم اهتموا بتوحيد طراز آلاتهم حتى يكون فيها انسجام. وهم يعزفون عليها بلباقة وحسن تعبير ورقة لم تكن موجودة فيما مضى وإني أورد مثالين يظهران شدة الاهتمام بالموسيقى والتضحية العظيمة في سبيلها.
كلنا نعرف هكتور برليوز أعظم موسيقي أنجبته فرنسا، وكان من أول أمره طالباً في
مدرسة الطب، وكان أبوه طبيباً فلم يجد الولد في نفسه ميلاً إلى الطب ورجا والده أن يدخله في معهد الموسيقى فرفض وهدده بقطع مرتبه، ولم يستطع الابن أن يستمر في الطب فدخل الكونسرفاتورا. فما كان من والده إلا أن قطع مرتبه، فأضطر أن يعطى دروساً موسيقية بفرنك واحد للدرس، واستمر في دراسته وهو يغالب الزمن للحصول على قوته حتى نبغ، وهو الذي ابتدع الرومانتيزم في الموسيقى في فرنسا.
والمثال الثاني يبين لنا اهتمام الهمج بالموسيقى بدرجة لا تجدها في المصريين.
كنت في صغري أقضي عطلة المدارس في قريتنا بين أهلي، وكان منزلنا في ربوة عالية تشرف على جميع القرية، وكان في الحي الذي يلينا بيت تسكنه فئة من العبيد يحيون الليل جميعه في الغناء والعزف والرقص إلى أن تطلع الشمس، ثم يذهبون إلى عملهم وهو التجوال في القرى لجمع (البجم) من أشجار الأثل بقصبة طويلة بطرفها شص كبير وهو يستعمل في الصباغة.
كنت في الصغر طلعة أحب الوقوف على كل شيء، وكنت أرقب هذا البيت الصادح الباغم من الأصيل بمنظار، فكنت أرى النساء يكنسن فناء الدار ثم يرشونه ويفرشون الحصر ويصفون الآلات الموسيقية من دلوكات وطبول مختلفة الأنواع والكستلوفون الفطري المصنوع من قطع الخشب الرنانة المختلفة الاحجام، والكيزان الصفيح المحشوة بالحصى الصغير يحملونها في أيديهم ويهزونها لتحدث (دوكة) مخصوصة وقت التوقيع. وحينما يقبل رجالهن بعد الغروب يهيئن لهم ثريد العدس، ثم يصف أقداح البوظة، ثم يدخنون ويتسامرون ساعة إلى أن يأتي وقت الموسيقى فينشطون لها ويأخذ كل منهم آلته الموسيقية ويتهيأ الباقون للرقص والغناء، ويستمرون في لهوهم إلى مطلع الشمس دون أن يناموا، ثم يذهبون إلى عملهم ويقنعون بأن يقيلوا ساعتين بعد الغداء في ظل شجرة.
إن الموسيقى الشرقية كنز زاخر بالجواهر واللآلئ واليواقيت، ولكننا لا نعرف كيف نستخرجها ونبريها بذوق سليم حتى تليق لأن نزين بها تيجان الملوك. إن للموسيقى العربية مائة نغمة (مقام) أو اكثر من مائة وزن (الضروب) ولكن اين النابغة المثقف الذي يحسن التأليف والتلحين.
إن بعض الملحنين ينزعون في تلحينهم إلى اختطاف ألحانهم من الإلحان القديمة، ثم
يخلطونها بشيء من الموسيقى الإفرنجية المنحطة التي تسمعها في أفقر المقاهي الإفرنجية ويضنون لسذاجتهم انهم جددوا الفن ونهضوا به، وما دروا انهم شوهوه وفضحوه وهذا جرم كبير لا يغتفر، عيّرنا به كثير من المستشرقين.
كانت الموسيقى المسرحية قد خطت أول خطوة في سبيل النجاح. ولكن القائمين بأمرها لم يحسنوا إدارتها، وكان ينقصهم الحزم والتدبير والذوق الفني، فلذلك فشل المشروع في عامه الثاني واستمرت الموسيقى المسرحية في التمثيل الهزلي، والحمد لله قد نشطت هذه المسارح وسارت في سبيل الرقى لولا ما يصادفها من عقبة لم تذلل وهي ندرة المطربين والمطربات الحائزين للأصوات الجميلة القوية الرنانة والثقافة الموسيقية الصحيحة.
إننا معشر المصريين مقصرون في تجميل بيوتنا وإنعاشها بالفنون الجميلة حتى نسكن إليها بعد عناء العمل، ونجد فيها من وسائل السرور والأنس ما ينسينا آلامنا وينعشنا ويجدد قوانا.
نجد الأسر الإفرنجية تهتم بتعليم أبنائها الموسيقى، وتعنى ربة الدار بنظام الحديقة وتنسيقها حتى تصبح جنة مصغرة ترتاح إليها النفوس المتعبة، وفي المساء تجتمع الأسرة فتحيي حفلات موسيقية ترقص لها القلوب وتنسى فيها الهموم والآلام.
أما بيوتنا التي تجردت من جميع مظاهر الجمال والأنس حتى نفرت منها النفوس ولم يطق الأبناء أن يطيلوا المكث فيها فينصرفون إلى المفاسد من تجوالهم ومعاشرة ذوي الأخلاق الضعيفة فلا يلبثون أن تتسرب إليهم عدوى الرذائل ويضحون في عداد الحشرات المؤذية.
أن الموسيقى لغة القلوب ومهذبة الأخلاق، ومرفقة الطباع ومبددة الهموم والأشجان، وخير لنا أن نهتم بها في أوقات فراغنا ونسعى في رقيها حتى نعيد عصر زرياب وأسحق الموصلي.
مستقبل الإنسانية
للكاتب الاجتماعي هـ. ج.
تحليل وتعليق شهدي عطية الشافعي
كان عجباً حقاً أن يتخرج ويلز في كلية العلوم الملكية حيث الهندسة والجبر والميكانيكا ليصبح روائياً له مكانته العالمية.
وكان غريباً وهو رجل العلوم والرياضيات أن يتخطى السنين فيحلق على أجنحة الخيال ليكتب عن القمر وسكانه والمريخ وسبيل الوصول إليه. ثم يهبط إلى الأرض فيوجه إلى المجتمع الحديث بما فيه من نظم وأوضاع قارص النقد وشديد اللوم. تثقف ويلز ثقافة علمية صحيحة، وأمعن في القراءة لدارون وآمن بنظريته في النشوء والارتقاء إيماناً لا يتطرق إليه الشك. وتتبع محاظرات هكسلي تلميذ دارون بشغف لا مزيد عليه. والتهم معظم مؤلفات سبنسر. وكان إعجابه شديداً بوليام جيمس عالم النفس المعروف والفيلسوف التجريبي.
. . . . . ولكنه مع كل هذا كان رجل الخيال الرائع والأحلام الذهبية قبل أن يكون رجل المعضلات الحسابية والنظريات الهندسية، وكان لابد أن يتضارب الخيال مع الواقع. وإن تتناقض الدروس التي تلقاها في علم الكائنات الحية وغرامه بالروايات والقصص.
ولكن ويلز كان عقلية خصيبة من هذه العقليات التي تهضم كل شيء حتى لتستطيع أن تمزج الخيالات والحقائق، وتخلط التشريح والعواطف، وتوفق بين الروح العلمية والروح الشاعرة.
ولذا تجده في كتاباته يحيطك بشباك من حقائق علمية لا يمكنك إنكارها. ثم يجرك في رفق وهوادة إلى أشد ضروب الخيال إغراقاً في الخيال، وأكثرها بعداً عن العقل، ولكن لا يسعك إلا أن تسلم بما يقول وتوقن بما يكتب.
إن الإنسان بكل ما فيه من جمال وكل ما وهب من عقل لم يكن يوماً من الأيام إلا قرداً ممسوخاً لا جمال فيه ولا عقل له. هكذا كانت الصيحة التي فوجئ بها البشر من فم رجل قبيح الوجه عرفه الناس باسم دارون.
ولم يكن في هذه الصيحة من جديد. فقد سبقه إليها العالم (لامارك) ولكن دارون زعم أن
هناك سنّة للحياة لا محيد عنها. وقانوناً صارماً لا سبيل للهروب منه: هو قانون تنازع البقاء.
فهذه الحياة تضطرب بملايين من المخلوقات تتباين في نموها وتختلف في تركيبها، ولكن لا تلبث الحياة أن تضيق ذرعاً بها فتقدر لها أن تشتبك في قتال وحشي، ثم لا يبقى منها حياً إلا أقواها وأصلحها.
وإذا كانت القرود قد تمخض عراكها عن إنسان بسود اليوم وجه الأرض. فأي مخلوق جديد سيكشف لنا عنه الغد! تساؤل تملك ويلز تملكاً قوياً وكان محوره: وإلى أين هذه الإنسانية؟ وأي فئة من البشر مقدر لها البقاء؟ وأيها محكوم عليه بالفناء؟
ولقد زعم ويلز إنه مستطيع أن يهتك اللثام عن وجه هذا الغد المجهول فيصور لنا تصويراً دقيقاً رجل المستقبل، جسمه وعقله ونفسيته والمجتمع الذي يعيش فيه! ولكنه كان في كتابه حذراً. فهو يستند دائماً إلى الحقائق الثابتة، ويسترشد بماضي التطور الإنساني، ويعتمد على مجريات الحوادث. مما رفع به إلى مصاف كبار المفكرين. وجعل لرواياته الشيقة صبغة علمية محترمة.
فتراه يدرس الماضي ويحاول أن يستشف منه المستقبل، يستنتجه استنتاجاً ومقدماته في ذلك فروض علمية صحيحة.
واليك مثلاً هذه المحاولة الكبرى من جانب الإنسان في سبيل التحرر من قيود الطبيعة. فها هو قد فك عن نفسه الثقل الذي يربطه إلى سطح الأرضفارتفع في الهواء. وها هو قد تغلب على مضطرب الأمواج، فامتطى البحار، وعلى صعب الأرض فشق في جوفه المسالك والطرقات.
وإذن فمن الطبيعي أن يستمر تطوره في هذه الناحية قوياً. فهو لابد يوماً متخلص تخلصاً تاماً من جاذبية الأرض ليصعد إلى القمر وليسبح منه إلى المريخ وليهبط منه إلى زحل!
وما دام الإنسان قد أستغل بعض عناصر الطبيعة من كهرباء وبخار فسخرها في أدارة آلاته وتسيير قاطراته، فليس عجيباً ألا يدع عنصراً إلا استخدمه غير تارك في ذلك موج بحر أو نور شمس أو حرارة في جوف أرض.
وما دام البشر قد تغلبوا على بعد الشقة وطول المكان بما أوجدوه من سريع الطيارات،
فليس بعيداً أن يخترعوا آلة يتحكمون بها في الزمان. ماضيه ومستقبله.
فلا يرتبط رجل الغد بزمان أو مكان. قد يكون في شرق الأرض، فإذا به في غربها. قد يكون في السنة الحاضرة فإذا به قد تركها ليعيش في الماضي السحيق أو المستقبل البعيد.
ولن يرضيه وقد تخلص من قيود الطبيعة أن يستمر أسيراً لأغلال الجسد. فهو يركب غذاء يتمكن به أن يكون له من الجسم جباره ومن العضلات مفتولها، فلا يصيبه وهن ولا تعتوره شيخوخة.
وهو يتقدم الطب، وبقليل أو كثير من الرياضة يستطيع أن يتحكم في أعضاء جسمه. فلا يبقى منها على عضو لا فائدة فيه، ولا يدع عضواً نافعاً إلا قواه. فمعدته التي تجر عليه أمراضاً يحتاج لعلاجها إلى ألف طبيب وطبيب. لابد متخلص منها إلى معدة صناعية تقوم بوظيفة الهضم أحسن قيام! وأنفه هذا الذي كثيراً ما يصيبه بالزكام يجب أن يستبدل به أنفاً جديداً لا يتطرق إليه برد ولا تنزف منه دماء!
وهو قد يضايقه الخضوع للنظام الجنسي فتلهمه عبقريته طريقة للتناسل عن طريق غير طريق المرأة فلا يحتاج إليها ولا تحتاج إليه. وطبيعي بعد هذا أن تختفي لديه تلك العواطف الرقيقة من حب وشفقة وحنو. فهي كلها مظهر ضعف لا يليق به، وهو لن يعترف إلا بالعقل يدين له وبالمادة يؤمن بها. وبالقوة يخضع لها أو يناجزها.
سيكون إنساناً جباراً بكل معنى الجبروت، عظيم الخلقة، شديد الذكاء، قوي الإرادة، لا عواطف له ولا قلب. ثم لا مكان له ولا زمان. لا يعرف النوم، ولا بفهم الكلال، ولا يصيبه المرض! ثم ينتقل بك ويلز إلى رسم لا يقل غرابة لحالة المجتمع الذي يمكن أن يعيش فيه البشر غداً.
ولكنه يتأثر في هذا بآراء ماركس. وماركس هو هذا الألماني الذي زعم أن المال يجتمع في أيدي أفراد قلائل يتمتعون بأطايب العيش، بينما هناك ملايين من العمال محرومون لا يكادون يجدون ما يتبلغون به. ثم تنبأ بثورة هائلة تقوم بها الغالبية الساحقة من الطبقات الفقيرة يذبحون فيها الأقلية الضئيلة من أصحاب رؤوس الأموال.
وبذا يسدل الستار عن مأساة كبرى قد تكون خاتمة الحياة الإنسانية أو بدء حياة جديدة هانئة سعيدة.
وقد كان لهذه النظرية أثر عميق في كتابات ويلز عن مجتمع المستقبل إلا أنه ذهب شوطاً أبعد، فزعم أن الفروق بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال ستتسع فلا تقتصر على نوع المعيشة بل سيتناول الجسم والعقل فينقسم البشر طائفتين متنابذتين متفاوتتين. طائفة قوية جبارة تسمو إلى أكثر ما يمكن أن يسمو إليه إنسان، فتكون نوعاً بذاته له مميزاته. ثم طائفة أخرى تنحط إلى أقصى حدود الإنسانية. مكانها تحت الأرض. وعملها آلة تديرها، ويكون من نتيجة المعيشة التي تعيشها أن يكيف عقلها فيصبح قاصراً محدوداً ويشوه جسمها فلا يصير قادراً إلا على حركة واحدة يأتيها.
ويشتد هذا الاختلاف وضوحاً. ويقوى هذا التباين ظهوراً، حتى تختفي أوجه التشابه بين الفريقين فلا تمازج بينهما ولا تزاوج ولا عاطفة هناك ولا علاقة، اللهم إلا تحكم قوي في ضعيف.
وهنا يتردد ويلز كثيراً. فهو لا يملك إلا أن يتساءل. أهذا هو الفصل الأخير من رواية الإنسانية؟ أم ذلك بداءة لثورة يثورها سكان ما تحت الأرض يحاولون فيها تخلصاً من ربقة العبودية الثقيلة؟
ويتحدث ويلز عن هذه الثورة ولكنه يتهرب من التكهن بنتيجتها الحاسمة، فهو في شك وأنت تعجب لهذا الشك. فكيف يمكن لقوم قد هزلت أجسامهم وضعفت عقولهم أن يصمدوا لطائفة لها من العقل أرقاه ومن الجسم أقواه؟
ولكن ويلز يعود فيعطيك صورة أخرى لهؤلاء الجبابرة من رجال الغد. فهم بعد أن استكشفوا ما في السماوات والأرض وبعد أن تسنموا الرقي حتى قمته لا يجدون ثمة عملاً يعملونه، أو معضلة يفكرون فيها، أو شاغراً يصرفون فيه ذكاءهم، فيلجئون إلى الرفاهية والتهتك ينهلون منها الكأس حتى الثمالة. وإلى الترف والخلاعة ينسون بها ما قد يلحقهم من سأم قتال، فتخبوا ملكاتهم وتضعف قواهم وتنحل عظمتهم
ولا شك أن حرباً تقوم بينهم وبين عمال الأرض السفلى هي حرب سجال!
لا يسعك وأنت تقرأ لويلز إلا أن تنسى نفسك فتتحمس إذا ما تحمس وتضحك معه إذا ما ضحك، وتتشاءم لتشاؤمه. وينسيك إعجابك بالقصة وبغرابة أفكارها وروعة خيالها. ينسيك موطن الضعف من ويلز.
فهذه الصور التي صورها عن التطور البشري صور مغرية فيها بعض الحق وناحية من الصواب، ولكنه ليس كل الحق ولا معظم الصواب. فهو قد تجاهل عاملاً هاماً له أثره الخطير. تجاهل هذا التوازن الدقيق الذي نشاهده في قوى طبيعية. فلا يرتفع جزء من الأرض إلا انخفض جزء، ولا يهدم بناء إلا وقام بناء ولا يتشقق صخر إلا التأم آخر.
وهكذا لا يمكن أن يقوى العقل الإنساني إلا على حساب الجسم ولا تتاح للعضلات أن تضخم إلا إذا فقد العقل بعض قوته. وهذه الصورة التي أعطاها ويلز عن إنسان الغد مبالغ فيها إذ يختل فيها التوازن اختلالاً واضحاً.
فها هو الإنسان إنسان منذ العصور التاريخية وليس هناك من يزعم أن مقدرة العقل الإنساني أو قوة جسمه قد زادت زيادة تسمح لويلز أن ينسب لرجل الأجيال القادمة قوة عقل خارقة يصحبها قوة جسدية لا حد لها.
وهذا التوازن ينساه مرة أخرى في الصور التي يبدعها عن مجتمع الغد. فنظرية ماركس القائلة بأن الثروة مصيرها إلى التجمع في أيدي نفر قليل، والتي أخذ بها ويلز نظرية لا يتاح لها أن تتحقق، فالثروات اليوم تتجه إلى التوازن، وعامل اليوم يساهم في الشركات التي تقوم عليها الأمور، والمال يتبدد ويتوزع بين الأفراد، والأزمات المتلاحقة تهدد من كيان بيوت المال الضخمة، ومن كبار الأغنياء أكثر مما تقلل ثروة الفقير أو العامل الأجير.
لذلك نأبى تصديق ويلز فيما ذهب إليه من أن الإنسانية قد تنقسم طائفتين متباينتين. بل نرى عكس ذلك، فالعامل في رقي عقلي يساعده ما يجد من ساعات فراغ كان لا يجدها بالأمس، ويعاونه أتساع مجال الثقافة وانتشار التعليم انتشاراً سريعاً.
ثم أن الفروق الاجتماعية في طريقها إلى الزوال، فالكل قد تساووااليوم في الحقوق والواجبات، والكل قد يتساوون غداً في العلم والثروة. ونظام الطبقات الذي كان يضع فواصل من حديد بين الشريف والحقير هو في سبيله إلى الانهيار ان لم يكن قد أنهار منذ زمان.
ثم شيء آخر نوافق عليه ويلز ونخالفه فيه، نوافقه على ما يكتبه من تطور الإنسان الآلي وتقدمه في إخضاع عناصر الطبيعة. ولكنا نخالفه في أن هذا التطور قد يتجه بالإنسان إلى ناحية مادية لا يخضع فيها إلى قانون ولا يؤمن بدين ولا يعترف بخالق. إن ناساً كهؤلاء لا
يستطيعون مكثاً في الأرض ولا مضياً. فهم بماديتهم وجشعهم وإسفافهم الخلقي لابد متقاتلون، متناجزون، فلا يبقي فرد منهم فردا.
ولا تحسب أن هذه الملايين من السنين التي مضت على تاريخ البشرية ستنتهي إلى مخلوقات ويلز البشعة. فنحن نؤمن أن الطبيعة التي طورت القرد إلى إنسان حسن التكوين، متناسق الصورة قوي الشعور، طبيعة فنانة ذكية عاقلة! وليست هي مجموعة من المصادفات الهوجاء.
ونحن نظن أن الإنسانية التي كانت تسير على غير هدى بالأمس قد أصبحت اليوم شاعرة عاقلة تحس نفسها وتتساءل عن مصيرها، ولقد شارفت الأفول شمس هذا اليوم الذي كان يسير الناس فيه عمياً لا يبصرون، ويخضعون ويتألمون ولا يدرون، لماذا يتألمون. وسيغرب هذا اليوم ليشرق غد عن الإنسانية أكثر استثارة، وأقل حيوانية وأنزع إلى الكمال، وأعرف بمواطن الضعف، وبطرق العلاج.
هذا ما يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الناحية من كتابات ويلز الاجتماعي ليست بالناحية الخالدة وان كانت هذه الناحية هي التي برز فيها واشتهر بإتقانها.
لقد طرق ويلز موضوعاً آخر أبدع في علاجه إبداعا لا شك أنه رافع اسمه إلى الخلود.
وهذا ما يحدونا إلى الكتابة عنه مرة أخرى؟
شخصية.
. .
(لقد سئمت أن أكون على الدوام رجلاً عاقلاً)
(أوليفر جولد سميث)
يتكلف الصدق في أبريل ليصدقه الناس حين يكذبون العالم بأجمعه، ثم يطلق نفسه على سجيتها باقي شهور السنة، فيكذبه الناس حين يصدقون العالم بأجمعه.
وهو يحاول قدر طاقته أن يصوغ حقائقه المكذوبة صياغة صادقة، ولكن مقدرته الفنية على ذلك ليست كبيرة وإن كانت في نظره، ومن غير تصريح، عظيمة بالغة!!
وأؤكد أنه لو شك يوماً في مقدرته على سبك الأكاذيب، لخجل، وكف، واتزن.
ولكنه لأمر ما، غريزي ولا شك، يكذبك دون أن يشعر أنه يكذب حقاً، أو هو يتصور من فرط عنايته بالصياغة أنه يصدقك حين يتكلم إليك. أستطيع أن أفهم هذا من أنه يتألم إذا اتهمته بالكذب، ويغضب لكرامته غضب من يروي لك خبراً صادقاً وأنت تشك في روايته.
وهو يواجه الناس بمقدرة عظيمة على دفع اتهامهم إياه، وينبري لهم ليرد عن نفسه سيل الانتقاد الجارف. وهو بارع في مواجهته لأكثر من شخص في الوقت الواحد.
وهو إذ يروي لك رواية، يهذبها قبل أن يلقيها إليك بقدر ما تسمح مقدرته على التهذيب، ثم هو يعود فيتدارك ما قد يكون فيها من تنافر وتضارب مع بعض الحقائق التي قد تسارع إلى رأس سامعه، فينتظر ريثما يفهم نوع استقبالك لحديثه واستساغتك له، فإذا لم يكن بد من الاستدراك، سارع إلى الاعتذار بقوله:(إنني لم أحسن التعبير) ثم يروح يفكر، ويفكر، ويزيد على الاعتذار السابق قوله:(إنني اقصد بالضبط أن أقول كذا وكذا)
وأنت مضطر إلى أن تقبل الاعتذار عن ضعف التعبير أولا، ثم عن ترقيع الرواية ثانياً، لأنه صديقك، وللصداقة حقها. ثم لسبب آخر غير الصداقة إذا كنت ممن يرون الحياة ثقيلة إذا ظلت دائبة على الصدق، وتحري الحقيقة. . ففي الكذب متسع عظيم للخيال الشارد والخيال المتزن، وفي الصدق تحقيق وتدقيق، وأخذ بأسباب الحقيقة، والحقيقة لا تتعدد، وصاحبنا من أنصار التنويع والتعدد، فهو بما يخترع من الروايات، وما يلفق من الأحاديث، ينتقل بك من الجد الثقيل على النفس إلى جد آخر، من صنعته هو! بلغ فيه عنده حد الإبداع في السبك وحسن الأداء، فإذا ضيقت عليه المسالك، وأخذته من كل ناحية، وأعلمت المنطق في قضاياه، وسلطت الحقيقة المرة على خياله الحلو، انحصرت عن
صاحبنا كل مسعفة من حسن الأداة وبراعة الحبك، وتخلت عنه فجأة شياطين الأكاذيب التي اعتادت أن تواتيه بالهام كلما استلهمها، وفزع إليها.
والحق أن تلك الشياطين كانت أطوع له من بنانه، فلم تكن تشعر أن هناك فترة تمضي بين ضراعته إليها في أحرج مواقفه وبين استجابتها لضراعته، حتى لتكاد تعتقد أنها كانت تلازمه أينما أرتحل، متحفزة لكل نداء، متأهبة لكل تلبية.
وإن أعجب من شئ، فليس ببالغ عجبي من هؤلاء العباقر، ومن اجتماعها على خدمة هذا الرأس الصغير المستدير، ومن مقدرتها على تأليف الصور من الشتات المتنافر، وتركيب الأخيلة من الحطام المتناكر، ثم من عجزها وتخليها فجأة عن النهوض بأعباء المهمة التي أرسلت إليها، حين تهبط ملائكة الحق لتنقذ الموقف. . . فيتعذر إذن أن يجتمع ملاك وشيطان.
فإذا انجابت عن صاحبنا شياطين أكاذيبه، دق موقفه، وتحرج، فمال على محدثه يلتمس عنده المعذرة عن هذا الموقف المتجرد، لا بالقول بعبارة الأسف المألوفة، بل بالانضمام إلى محدثه دفعة واحدة، ومشايعته في رأيه، وفي منطقه، وفي حملته على هذه الأكاذيب الصريحة! حتى لكأنهما يحملان معاً على شخص ثالث!!
فإذا التفتّ إليه التفاتة ذات معنى، تقلص وقطب، ثم هش بغتة، واحمر، ثم غاض الدم من وجهه، وتهدلت شفته السفلى وغمغم، فإذا دققت، فهمت أنه يريد أن يقول ما مؤداه:(وماذا عليّ؟ إني ألفت الكذب ينجي في كثير من المآزق) وهذه هي خلاصة فلسفته التي يصارحك بها في الوقت المناسب.
تردد يوماً ما في قضاء إجازة قصيرة بين بلدته وبين القاهرة.
اعتزم أن يزور بلدته لأن فترة طويلة مضت دون أن يرى أهله وذويه.
واعتزم أن يزور القاهرة لأنه مل حياة الريف الرتيبة المملة، وتاق إلى حياة القاهرة الصاخبة بما تستحدث كل يوم من صنوف المسليات، وأراد أن (يشعر بالحياة) على حد تعبيره.
فلما أعتزم السفر إلى بلدته، كلف بأمر من الأمور التي تمت إلى حياة القرى بصلة.
فلما اعتزم السفر إلى القاهرة كلف من صديق له بأمر من الأمور التي لا يسهل قضاؤها
من غير العاصمة. وحمل النقد الكافي لذلك.
ومضت الإجازة كأن لم تكن. وعاد صاحبنا إلى مقر عمله.
والتقى بمن كلفه مهمة البلدة فابتدره بقوله: (أنا آسف جد الآسف، لأني قد مضيت الإجازة كلها في القاهرة!)
فلما التقى بالآخر كان لزاماً عليه أن يعتذر عن تقصيره، فقال:(أرجو المعذرة إذ قد مضيت إجازتي كلها في البلدة، إذ وردتني رسالة برقية في آخر لحظة تستدعيني إليها على عجل لأمر عائلي).
وكان يلذ لي شخصياً اصطناعه لهذه الأحاديث (أحياناً) فأكون في نظره الصديق الذي ما بعده صديق! وأكون أقرب شخص إلى قلبه، وأقرب فكر إلى فكره، ويكون منطقي طبق الأصل من منطقه! (كذا)
وأنا حين أكون هذا الشخص أجري على حكمة أوليفر جولد سميث (لقد سئمت أن أكون رجلاً عاقلاً)
ولكني كنت أضيق بصاحبي ذرعاً، حين كانت نزعة الحقيقة والعقل تغلب عندي على كل خيال حلو تنتجه قريحة صاحبي، فأقف منه فجأة موقفاً يصفه هو بالعداء، وأصفه أنا بتحري الحقيقة والتزامها ليس غير.
فإذا بلغت الحال بنا هذا الحد من التحرج، بحثت لصديقي عن هنة من هناته التي تمتُّ إلى الكذب الصريح بصلة قريبة.
وحضرني في آخر موقف أن أعنفه على إهماله إرسال بطاقة (المعايدة) التي اعتاد الناس تبادلها في العيد، فابتدرني بهذا السؤال:
- أليس عنوان بيتكم رقم 19 شارع. . . . .؟
- قلت نعم (متخابثاً)
- قال لقد أرسلت لك المعايدة على هذا العنوان.
- قلت وما رأيك إذا كان رقم منزلنا 16 لا 19؟
- فسكت صاحبي سكوتاً أشفقت عليه منه، ومع ذلك لم يمنعني إشفاقي عليه من أن أذكره بفلسفته الخالدة:(إني ألفت الكذب ينجي من المآزق)!!!
- وسألته: إلى أي حد تنطبق فلسفتك على هذا المأزق؟. . وكيف خلاصك منه؟. .
إبراهيم إبراهيم جمعة
(ليسانسييه)
مطالعات في التصوف
عوارف المعارف، ماهية التصوف، أصل كلمة صوفي
- 3 -
لعل حظ كل من البابين الخامس والسادس من الأهمية والقيمة العلمية
أكثر من حظ غيرهما. فهذان البابان يدلان دلالة واضحة مستقيمة لا
ليس فيها ولا اعوجاج على ماهية التصوف وكنهه وعلاقته بالفقر
والزهد، والفرق بينه وبين الفقر والزهد. هذا هو ما يتناوله الباب
الخامس من كتاب عوارف المعارف فيما قدم لنا فيه مؤلفه من تعريفات
متنوعة للتصوف. أما الباب السادس فأنه يظهرنا على مسألة ليست أقل
من سابقتها خطراً. ولكنها على العكس أبعد ما تكون أثراً على أعانتنا
على فهم التصوف وما مر به من أطوار فهماً مستقيماً. وأعنى بها
مسألة الأصل الذي صدرت عنه كلمة صوفي وتلك مسألة قد عرض
لها مؤلف عوارف المعارف في نهاية الباب الأول من كتابه فأشار
إشارة موجزة إلى أن هذه اللفظة لم تذكر في القرآن وإنما تركت وذكر
مكانها لفظ المقرب. وإذن فالمألوف يفصل في الباب السادس من كتابه
ما أجمل في الباب الأول. وهو يعرض علينا في شئ من الاستطراد
الآراء المختلفة التي رآها العلماء المختلفون في الأصل الذي اشتقت
منه هذه الكلمة. وهو ينتهي من هذه الآراء كلها على الرأي الذي يلائم
طبيعة الاشتقاق اللغوي من ناحية، ويدل دلالة صحيحة على طبيعة
الصوفية وماهية التصوف من ناحية أخرى. وبالجملة يمكننا أن نقول
أن هذين البابين من كتاب عوارف المعارف أقدر على إعطائنا فكرة
عامة شاملة تستطيع أن تظهرنا على لب التصوف.
1 -
ففي الباب الخامس يقدم إلينا المؤلف طائفة من التعريفات اختلفت في مبانيها واتفقت في معانيها. وهو يظهرنا من خلال هذه التعريفات على ماهية التصوف والفقر والزهد. ثم هو ينتهي من هذا كله إلى أن هناك فرقاً بين التصوف من ناحية وبين كل من الفقر والزهد من ناحية أخرى. كما أنه ينتهي إلى أن أساس التصوف وقوامه إنما هو الفقر. ولكي أكون لديك صورة صادقة لما أشتمل عليه هذا الباب لابد من أن أقف بك وقفة قصيرة تلم بها بأهم التعريفات التي عرضها علينا المؤلف لتتبين منها ماهية التصوف:
(1)
قال رويم: (التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار. والتحقق بالبذل والإيثار. وترك التعرض والاختيار.)
(ب) وسئل الجنيد عن التصوف ما هو. فأجاب بقوله: (أن نكون مع الله بلا علاقة.)
(ج) وقال معروف الكرخي: (التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق. فمن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بالتصوف).
وبعد أن ذكر المؤلف هذه التعريفات، تراه قد قدم لنا تعريفات أخرى للفقر والفقير اليك أهمها:
(أ) سئل الشبلي عن الفقر فقال: (ألا يستغني بشيء دون الحق)
(ب) وقال أبو الحسين النوري: (نعت الفقير الكون عند العدم. والبذل والإيثار عند الوجود)
وانتهى مؤلفنا من هذه التعريفات التي قدمت، إلا أن هناك اشتباهاً بين التصوف والفقر. فأنت ترى مثلا أن أشياء بعينها تذكر في معنى التصوف يذكر مثلها في معنى الفقر. وإن أشياء بعينها يرد ذكرها في معنى الفقر يرد ذكر مثلها في معنى التصوف. ومن هناك كان الاشتباه. ومن هنا أيضاً كان لابد من التحقيق الذي يكشف الفاصل بين كل من التصوف والفقر، والفرق الذي يميز ويحدد ماهية كل من التصوف والفقر، وفوق هذا فان الاشتباه ليس قاصراً على التصوف والفقر فحسب وإنما هو قد تجاوزهما إلى التصوف والزهد. وإذن فلابد من التمحيص والتدقيق الذي يبين الفرق بين التصوف والفقر من ناحية والتصوف والزهد من ناحية أخرى. بحيث نلمس الاشتباه الذي يمكن أن يكون بين كل من هذه الأشياء الثلاثة. ونميز الفرق بينها تمييزاً يحدد كلامنا تحديداً من شأنه أن يحول بين
اندماج بعضها في بعض أو تشابه بعضها مع بعض. فأنت إذا أنعمت النظر ودققت الفكر في هذه المسألة تبين لك أن التصوف غير الفقر، وان الزهد غير الفقر، وان التصوف غير الزهد. وليس التصوف غير اسم جامع لمعاني الفقر والزهد بإضافة صفات ونعوت لابد منها لكي يكون الرجل صوفياً. فقد يكون الرجل زاهداً وقد يكون فقيراً ولكنه ليس صوفياً. ولكنه لكي يكون صوفياً لابد له بين أن يكون زاهداً وفقيراً.
وليس التصوف زهداً أو فقراً بإضافة صفات ونعوت فحسب، وانما هو شيء آخر أبلغ وأروع من هذا كله واقدر على تهذيب النفس، وتنقية القلب، وتصفية الضمير، هو كما قال أبو محمد الحريري:(الدخول في كل خلق سني، والخروج عن كل خلق دني).
وأهل الشام لا يميزون بين التصوف والفقر. فهم يذهبون إلى أن الله وصف الفقراء بالصوفية. وإلى أن الصوفية سموا كذلك لأنهم فقراء. ولكن مؤلفنا قد تناول هذه المسألة بالدرس والتحقيق فأوضح غامضها وكشف عن وجه الحقيقة فيها بحيث أظهر لنا في وضوح وجلاء الفروق بين التصوف والفقر. وأول هذه الفروق هو أن الفقير في فقره متمسك به، راض عنه، مطمئن إليه. وهو في هذا كله قانع بما سيجد عند الله من العوض. وهو كلما أمعن في التطلع إلى هذا العوض ازداد إعراضاً عما في الدنيا من أعراض زائلة وزخارف باطلة. وأما الصوفي فلا يرغب عن زخرف الدنيا وعرضها ابتغاء هذه الأعواض الموعودة ولكنه يفعل هذا من أجل الأحوال الموجودة. وثاني هذه الفروق هو أن الفقير حين يتمسك بفقره ويمعن في ترك الدنيا وإعراضها إنما يفعل هذا بإرادته واختياره على حين أنك ترى الصوفي قد تجرد من هذا الاختيار وهو الإرادة. فهو في جميع أحواله قد محيت فيه ملكة الاختيار وفنيت إرادته في إرادة الله فناءً تاماً بحيث لا يصدر في شئ الا عن إرادة الله. ولا يرى فضيلة ما في فقر أو غنى، ولكن الفضيلة عنده كائنة فيما أقامه الله فيه من حال. وليس أدل على أن الصوفي قد فنيت إرادته في إرادة الله، من قول الجنيد الذي عرف فيه التصوف بأنه. (هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به) فمن هذا ترى الفرق واضحاً بين التصوف والفقر. كما ترى أن التصوف قوامه ودعامته الفقر بمعنى أن الوصول إلى مراتب التصوف إنما يتوسل إليه بالفقر. على أن الفرق بين التصوف والفقر لا يقف عند هذا الحد، وانما هناك فرق ثالث يمكن تلخيصه في أن الصوفي هو من إذا
استقبله حالان حسنان أو خلقان حسنان كان مع الأحسن. على حين أن الفقير والزاهد لا يميزان بين الحالين الحسنين أو الخلقين الطيبين. بل هما يختاران من الأخلاق ما هو ادعى إلى الترك والخروج عن شواغل الدنيا حاكمين بعلمهما. وعلى العكس من هذا ترى أن الصوفي يحكم على الأشياء ويستبين الأحسن بما أُلهم من عند الله مستعينا في ذلك بصدق التجائه وحسن إنابته وعلمه بربه. وبعبارة أخرى يمكنك أن تقول أن الصوفي لا يرى في الأشياء إلا ما يظهره الله عليه ولا يحكم عليها إلا بما أوحى إليه. فالتصوف على حد قول رويم ليس إلا استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد. أو هو كما قال بعضهم أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة من الله تعالى. والصوفي - كما قال سهل بن عبد الله - هو: (من صفا من الكدر. وامتلأ من الفكر وانقطع عن البشر. واستوى عنده الذهب والمدر)
وخلاصة هذا كله هي أن الفقر أساس التصوف وقوامه. وأن التحقق بأحوال التصوف ومقاماته بني على الفقر والزهد فيما اشتملت عليه الدنيا من زخرف ومتاع. وقد قص علينا مؤلف عوارف المعارف قصة رويت عن ذي النون المصري، ولا بأس من إيرادها فهي تظهرنا على ما انطوت عليه نفوس الصوفية من تمسك بالفقر، وإمعان في الزهد، وإغراق في الإعراض عن ملذات الدنيا وشهوات النفس.
قال ذو النون: (رأيت ببعض سواحل الشام امرأة فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فقلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فقلت: صفيهم لي. فأنشأت:
قوم همومهم بالله قد علقت
…
فما لهم همم تسمو إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم
…
يا حسن مطلبهم للواحد الصمد!
ما أن تنازعهم دنيا ولا شرف
…
من المطاعم واللذات والولد
ولا للبس ثياب فائق أنق
…
ولا لروح سرور حل في بلد
إلا مسارعة في أثر منزلة
…
قد قارب الخطو فيها باعد الأبد
فهم رهائن غدران وأودية
…
وفي الشوامخ تلقاهم مع العدد
فهذا الشعر وان كان ركيكا مهلهلا ضعيفا إلا أنه يصور لنا في وضوح نفوس الصوفية
وقلوبهم وما احتوت عليه هذه القلوب وهذه النفوس من فناء في الله، وذكر له، واتحاد معه، بحيث أصبحت نفوسهم لا تفكر إلا فيه وقلوبهم لا تنزع إلا إليه. وبحيث انهم تجردوا عن كل شهوة، وخلصوا من كل لذة، وتحرروا من هذه القيود الجسمانية التي تفسد على الإنسان حياته الباطنية وتكدر صفاء سريرته النفسية.
وآية ذلك هي أن الصوفي دائم التصفية والتنقية لنفسه مما يشوبها من الأكدار. وهو فوق هذا دائم الحركة والاضطراب بدوام التجائه وافتقاره إلى ربه. والتجاؤه وافتقاره هما اللذان يهذبان قلبه وينقيان نفسه ويضيئان جوانب هذا النفس وهذا القلب بالمعرفة الصحيحة الصادقة التي تكشف له عن حقيقة الله وماهية الأشياء. وعلى هذا ترى انه لابد للصوفي من دوام الحركة والاضطراب بدوام الافتقار والالتجاء وحسن التفقد لمواطن إصابات النفس.
ولنترك الآن الباب الخامس بعد أن وقفنا عند أهم ما اشتمل عليه ولنعرض للباب السادس حيث يحدثنا السهروردي عن مسألة لها قيمتها العلمية وخطرها العظيم في تاريخ التصوف وفهم الأطوار التي مر بها فهماً صادقا مستقيما. وأعنى بهذه المسألة مسألة الأصل الذي صدرت عنه كلمة (صوفي) والمصدر الذي اشتقت منه ونسبت إليه، والمؤلف حين يحدثنا عن أصل كلمة صوفي يعرض علينا أهم الآراء التي رآها القدماء واختلفوا فيها اختلافاً تجاوزهم إلى المحدثين من المستشرقين وغير المستشرقين من علماء الشرق.
ولعل مؤلف عوارف المعارف أمّيل ما يكون إلى أن هذه الكلمة ليست إلا نسبة إلى الصوف. وهو يستمد في رأيه هذا إلى أن الصوف كان لباس الأنبياء فقد روي عن النبي (أنه كان يجيب دعوة العبد ويركب الحمار ويلبس الصوف. وحكي عن عيسى عليه السلام أنه كان يلبس الصوف والشعر ويأكل من الشجر ويبيت حيث أمسى. فأنت ترى أن هذا الكلام إن صح كان طبيعياً أن يختار المتصوفة لباسهم من الصوف وكان بديهياً أن تكون نسبتهم إلى ظاهر لباسهم الذي ينسج منه. وهذا الرأي ملائم لما أخذ به الصوفية أنفسهم من زهد في ملذات الدنيا بصفة عامة وميل إلى اللباس الخشن وأعراض عن اللباس الرقيق الناعم بصفة خاصة ناهيك بأنه يلائم ملاءمة تامة طبيعة الاشتقاق اللغوي. فيقال تصوف الرجل إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص. وفق هذا كله فانه نظراً لتقلب
أحوالهم ومقاماتهم ودوام تنقلهم لم يكن هناك أمر يقيدهم ويجمع هذه الأحوال وهذه المقامات المتنوعة. ومن هنا كانت نسبتهم إلى ظاهر اللباس الذي اتخذوه مميزاً لهم مشيراً إلى ما يأخذون به أنفسهم من زهد وتقشف وورع. فكان ذلك أبين في الإشارة إليهم وأدل على حصر وصفهم. إذ أن ليس الصوف كان غالباً عليهم لتشبههم في ذلك بالأنبياء والمقربين. ومن هنا ترى أن نسبتهم إلى الظاهر أوفق وأقرب إلى الإقناع من نسبتهم إلى الباطن. فلو نسبوا مثلاً إلى حال ما، أو إلى مقام ما، كان ذلك أقل دلالة وأدنى إلى الغموض والإبهام في الإشارة إليهم.
فمما تقدم ترى أن نسبة الصوفية إلى الصوف أبين في تفهم حالهم وأدل على زهدهم وأقرب إلى التواضع منها إلى أي شيء آخر. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تسمية الصوفية بهذا الاسم راجعة إلى نسبتهم إلى الصوفة وخلاصة هذا المذهب هي أنه لما كان الصوفية يؤثرون الذبول والخمول والانكسار والتواضع مثلهم في ذلك كمثل الصوفة الملقاة، كانت تسميتهم بهذا الاسم نسبة إلى الصوفة. وهذا الرأي فضلا عن انه ملائم للدلالة على ما انطوت عليه نفوس الصوفية من الإذعان والذلة والخضوع فانه ملائم أيضاً لطبيعة الاشتقاق اللغوي.
وهناك رأي آخر يتلخص في أن الصوفية سموا بهذا الاسم لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل لارتفاع هممهم وإقبال قلوبهم على الله تعالى.
ورأي رابع ذهب فيه أصحابه إلى أن تسمية الصوفية بهذا الاسم راجعة إلى نسبتهم إلى (الصَّفة) التي كانت لفقراء المهاجرين في عهد النبي. على أن هذا الرأي وإن كان صحيحاً من ناحية المعنى إلا إنه لا يستقيم من ناحية الاشتقاق اللغوي. فالصوفية يشبهون (أهل الصفة) من حيث أنهم فقراء مؤتلفون في الله مجتمعون في الله. وأصحاب الصفة هؤلاء كانوا نحوا من أربعين رجلاً لم تكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر. كانوا يصرفون بياض النهار محتطبين ويقضون سواد الليل متعبدين. آثرهم النبي بحبه لهم وعطفه عليهم وبره بهم حتى انه كان يأكل معهم ويحث الناس على مواساتهم. هم الذين نزلت فيهم الآية الكريمة. (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) والذين نزلت في أحدهم وهو ابن أم مكتوم هذه الآية الشريفة: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى.) فكان ذلك عتاباً
للنبي ويقال انه كانت توجد في بلاد خراسان طائفة من أهل الصفة لجأت إلى المغاور والكهوف ولم تسكن المدن والقرى. كان يسميهم أهل خراسان (شكفتية) لأنهم يطلقون على الفار لفظة (شكفت) فنسبوهم إليها. أما أهل الشام فكانوا يسمونهم (جوعية).
تلك هي أهم الآراء التي ذكرها السهروردي في أصل كلمة صوفي وقد أخذ بعدها في إظهارنا على أن هذه الكلمة تجمع المتفرق في الأسماء التي ذكرها الله في القرآن وسمى بها طوائف الخير المختلفة فقد سميت طائفة بالأبرار وأخرى بالمقربين وثالثة بالصابرين ورابعة بالصادقين الخ. . . وأنت إذا أمعنت النظر فيما اشتملت عليه قلوب الصوفية من بر وصبر وصدق وذكر لرأيت أن لفظة الصوفي قد احتوت كل ما تدل عليه أسماء هذه الطوائف.
ويختم المؤلف هذا الباب بذكر موجز لتاريخ كلمة صوفي فيقول أنها لم تعرف في زمن النبي وانما عرفت في زمن التابعين. وأثبت هذا بذكر كلام روي عن الحسن البصري قال فيه: (رأيت صوفياً في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذه وقال: (معي أربع دوانيق يكفيني ما معي) على هذا ذهب بعضهم إلى أن هذا الاسم لم يعرف إلى المائتين من الهجرة. فكان أصحاب رسول الله يسمون الرجل صحابياً حتى إذا انقضى عهد النبي سمي من أخذ العلم عنهم تابعيا. ولما أن تقادم عهد النبوة وانقطع الوحي وأقبل الناس على الدنيا وتهافتوا على زخرفها انفردت طائفة بالعبادة والتقوى وأعرضت عن الدنيا فكانت هذه الطائفة هي الصوفية (الاسم سمتهم. والعلم بالله صفتهم والعبادة حليتهم. والتقوى شعارهم. وحقائق الحقيقة أسرارهم).
محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
- 8 -
ويقول السير إدوارد كريزي: (إن النصر العظيم الذي ناله كارل مارتل على العرب سنة 732 وضع حداً حاسماً لفتوح العرب في غرب أوربا، وأنقذ النصرانية من الإسلام، وحفظ بقايا الحضارة القديمة وبذور الحضارة الحديثة، ورد التفوق القديم للأمم الهندية الأوربية على الأمم السامية) ويقول فون شليجل في كلامه عن الإسلام والإمبراطورية العربية: (ما كاد العرب يتمنون فتح أسبانيا حتى تطلعوا إلى فتح غاليا وبورجونيا. ولكن النصر الساحق الذي غنمه بطل الفرنج كارل مارتل بين تور وبواتيه وضع لتقدمهم حدا، وسقط قائدهم عبد الرحمن في الميدان مع زهرة جنده، وبذا أنقذ كارل مارتل بسيفه أمم الغرب النصرانية من قبضة الإسلام الفاتكة الهدامة إلى الذروة) ويقول رانكه: (إن فاتحة القرن الثامن من أهم عصور التاريخ، ففيها كان دين محمد ينذر بامتلاك إيطاليا وغاليا، وقد وثبت الوثنية كرة أخرى إلى ما وراء الرين، فنهض إزاء ذلك الخطر فتى من عشيرة جرمانية هو كارل مارتل، وأيد هيبة النظم النصرانية المشرفة على الفناء بكل ما تقتضيه غريزة البقاء من عزم، ودفعها إلى بلاد حديثة). ويقول زيلر (كان هذا الانتصار بالأخص انتصار الفرنج والنصرانية، وقد عاون هذا النصر زعيم الفرنج على توطيد سلطانه لا في غاليا وحدها ولكن في جرمانيا التي أشركها في نصره): (على أن هناك فريقاً من مؤرخي الغرب لا يذهب إلى هذا الحد في تقدير نتائج الموقعة وآثارها، ومن هذا الفريق المؤرخان الكبيران سسموندى وميشليه. فهما لا يعلقان كبير أهمية على ظفر كارل مارتل. ويقول جورج فنلى: (إن أثرة الكتاب الغاليين قد عظمت من شأن تغلب كارل مارتل على حملة ناهبة من عرب أسبانيا، وصَّورته كانتصار باهر ونسبت خلاص أوربا من نير العرب إلى شجاعة الفرنج في حين أن حجابا ألقي على عبقرية ليون الثالث إمبراطور (قسطنطينية) وعزمه مع أنه نشأ جنديا يبحث وراء طالعه ولم يكد يجلس على العرش حتى احبط خطط الفتح التي أنفق الوليد سليمان طويلاً في تدبيرها) ونحن مع الفريق الأول نكبر شأن بلاط الشهداء أيما إكبار، ونرى أنها كانت أعظم لقاء حاسم بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول تور وبواتيه فقد العرب سيادة العالم بأسره وتغيرت مصائر العالم القديم كله وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار
قسطنطينية وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب وإخضاع النصرانية لصولة الإسلام، ولم تتح للإسلام المتحد فرصة أخرى لينفذ إلى قلب أوربا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه يوم مسيره إلى بلاط الشهداء. ولكنه أصيب قبل وبعد بتفرق الكلمة، وبينما شغلت إسبانيا المسلمة بمنازعاتها الداخلية، إذ قامت فيما وراء البرنيه إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة الكلمة تهدد الإسلام في الغرب وتنازعه السيادة والنفوذ.
محمد عبد الله عنان
المستشرق برجستريسر 5 أبريل سنة 1886 - 18
أغسطس سنة 1933
للدكتور إسرائيل ولفنسون. مدرس اللغة العبرية بكلية الآداب
وقع نظري أثناء مطالعتي في الجرائد اليومية التي وصلتني من ألمانيا على خبر لم يوضع في مكان بارز كأنه ليس من الأهمية في شيء، ورد فيه نعي جوتهلف برجستريسر أستاذ اللغات السامية بجامعة ميونيخ، سقط أثناء رحلة رياضية في جبال الألب من قمة جبل جلوكنر إلى هاوية توفى فيها على الفور، لو وقع هذا الحادث منذ سنوات قليلة لكان قد وضع في مكان أبرز، وعلى حالة تلفت القراء أكثر مما هو في جرائد هذه الأيام، لأن ألمانيا الحالية ليس فيها من يعبأ كثيراً بمن توفي من العلماء المستشرقين، ولكني روعت لهذا الخبر الذي أدمى قلبي وملأه حزناً وأسى.
كان علم الاستشراق قد قطع شوطاً بعيداً في أواخر القرن الماضي في جامعات أوربا على العموم، وفي ألمانيا خاصة حتى وصل ببحوث نولدكه وجولدسيهرويت ويستنفلد وليتش وغيرهم إلى أوج مجده ثم أخذ بعد انتهاء الحرب العظمى ينحدر من قمة الجبال إلى بطون الوهاد ويتضاءل شيئا فشيئا.
ويجب أن يلاحظ أن الحرب العالمية قد أدت إلى انحطاط العلم على العموم في أوربا، لأن التفكير الجدي والقراءة الدقيقة انقطع عنهما الشباب الذي أخذ يميل إلى البحوث السطحية وإلى اكتساب العلم عن طريق الراديو والسينما، كما انتشر في الجامعات توغل جمهرة الطلبة في الشؤون السياسية والحزبية اكثر من توغلهم في البحوث العلمية.
وقد توفي من خيرة الأساتذة المستشرقين (جولدسهر ونولدكه شبيجلبرج وبيجر وهورديتس) دون أن يأتي غيرهم فيملأ الفراغ الذي تركوه في شتى العلوم التي كانوا يضحون حياتهم في سبيلها. وأما الآن فنجد عدداً غير قليل من الأساتذة يملئون أروقة الجامعات في ألمانيا وهم من الذين يناصرون الحزب الذي يقبض الآن على ناصية الحكم في البلاد. . . هذه الأفكار أخذت تقلق بالي في تلك اللحظات التي قرأت في الجرائد الألمانية عن وفاة العالم برجستريسر.
نشأ الأستاذ برجستريسر في أسرة ألمانية مسيحية بروتستانتية وكان أبوه وجده قسيسين في مدينة بلون
من أعمال زكسن بألمانية، ومن هنا يسهل فهم سبب عناية والديه بتربيته الدينية في المدرسة الابتدائية والثانوية، إذ أراد أن يحقق أمنيتهما حتى يكبر تقياً ويصبح صالحاً لرداء الكهنوت ويكون خير خلف لخير سلف، ولكن جوتهلف برجستريسر مال عن هذه الرغبة إلى البحث في اللغات السامية والعلوم الإسلامية حين دخل في جامعة ليبزيج في سنة 1904 وقد درس آداب اللغة العربية عند العالم أوجست فيشر الذي يعتبر إلى يومنا الحالي من قادة النقاد لدى جمهرة المستشرقين، وقد أثرت روح النقد في جستريسر حتى أضحت على كر الزمن من مميزاته البارزة لا في الكتابة وإلقاء المحاظرات فحسب، بل أثناء محادثاته العادية مع محدثيه، كانت لا تفوته كبيرة أو صغيرة دون أن يتعرض لها إذا وجد مجالا للمعارضة أو الانتقاد.
ونذكر بهذه المناسبة إن فيشر، شيخ النقاد، كان على الدوام ينتقد بكل شدة مؤلفات المستشرقين حتى هابه عظماء العلماء في العصر الحاضر، على إن فيشر لم يؤلف المؤلفات الكبيرة كما فعل العلماء الذين انتقد مصنفاتهم بل كان يكتفي بوضع المقالات، وأخذ بعض العلماء يهزءون به ويقولون أن فيشر لا يحب أن ينشر كتبا خوفا من شبح النقد وانتقام النقاد، ومن أكبر عيوب أوجست فيشر أنه بدأ يدون جملة كتب في موضوعات شتى منذ سنين كثيرة ولم ينته منها، إذ من المعلوم انه يعمل منذ ثلاثين سنة في تأليف قاموس عربي علمي دقيق للشعر العربي القديم لم يطبع إلى الآن، وكذلك بدأ في مراجعة جملة مخطوطات لكتاب المغازي للواقدي منذ أمد بعيد وإلى الآن لم ينته منه أيضاً. وكان
كاتب هذه السطور قد التقى بالأستاذ فيشر في مدينة فينا في مؤتمر المستشرقين في سنة 1930 فعرض عليه أن يتم مراجعة بقية الأجزاء من كتاب المغازي للواقدي، فلما سمع فيشر اقتراحه بدا اضطراب على وجهه وسكت طويلا كأنه لم يتمكن من أن يبوح بكلمة، ثم أجاب بعد تفكير طويل: أمهلني حتى أفكر ملياً في هل أكمل الكتاب أم أقدمه إليك مع جميع المخطوطات والصفحات التي بدأت بمراجعتها. . . فلما قصصت حكاية المقابلة مع فيشر للأستاذ يرجستريسر ابتسم ابتسامته الحلوة قال: فيشر لن يرسل إليك الصفحات التي راجعها أبداً كما لن يخبر أنه عزم على أن لا يتم الكتاب. . .
على أن فيشر كان قد درب في جامعة ليبزيج تحت أشرافه عددا لا يستهان به من العلماء حتى أصبحوا من فحول المستشرقين فيما بعد، وكان بينهم الأستاذ جوتهلف برجستريسر.
وبعد أن أتم برجستريسر دراسته الجامعية وقدم رسالة عن حروف النفي وأسماء الاستفهام في القرآن الكريم في سنة 1911 قام برحلة إلى الأقطار الشرقية في سنة 1913 فزار الأناضول وسورية وفلسطين ومصر وما كاد يصل إلى ألمانيا من هذه الرحلة المباركة حتى بدأت الحرب العظمى فدعي إلى ساحة القتال، وظل متنقلا مع الجيش الألماني في أرض بلجيكا وفرنسا إلى أن دعته الحكومة التركية في سنة 1915 لإلقاء محاضرات في جامعة الأستانة، وكان أول عهده يلقب أستاذ، وقد بلغ حينئذ العام الثلاثين من حياته، ولما ذاع صيته دعي لإلقاء محاضرات في جامعات ألمانيا في العلوم الإسلامية واللغات السامية كانت أولها جامعة كونسبرج في سنة 1919 وفي عام 1922 انتقل إلى جامعة برسلو ومنها إلى جامعة هيدلبرج في سنة 1924 ثم دعي إلى مدينة ميونيخ، سنة 1926 التي ظل يدرس بها إلى أن أدركته المنية.
تنقسم مؤلفات برجستريسر إلى أربعة أنواع أصلية، نوع يشتمل كتبه عن اللغة العربية وعلم اللغات السامية، ونوع آخر يبحث في الآرامية ولهجاتها، ونوع ثالث يحتوي على مصنفاته ومطبوعاته في الآداب العربية والعلوم الاسلامية، وأما النوع الرابع فيشمل مقالاته عن علوم اللغة التركية.
على العموم تمتاز كتابة برجستريسر بدقة الجمل القليلة في ألفاظها، الكثيرة في معناها، يعبر عما يجول في خاطره بعد تفكير طويل، وبعد إحاطة بالموضوع من جميع نواحيه،
وإلمام شاق بجميع المراجع الكبيرة والصغيرة مع استعمال الأدلة العلمية الدقيقة، مما يجعل القارئ يحتاج إلى قراءة الكتاب بأناة حتى يقف على النظريات الغزيرة.
ومن أهم ما دون برحستريسر في حياته: كتابه عن قواعد اللغة العبرية، ومما لا شك عندنا أنه اخطر كتاب في موضوعه منذ بدأ البحث في علوم الأمم الشرقية على الطريقة العلمية المألوفة عند الإفرنج، وقد أظهر المؤلف في هذا المصنف أنه وقف على جميع النظريات التي الفت في هذه المادة في جميع العصور بين كتب ومقالات معروفة ومهجورة، وهذا المام يندر أن يوجد بين علماء اليهود أنفسهم.
ومع أن كتابه هذا وضع لجمهرة الطلبة في الجامعات فانه لم يستعمل كثيراً بين هؤلاء لأنهم لم يتمكنوا من فهمه وإدراكه حق الإدراك، لذلك اصبح كتاباً للأساتذة والمدرسين في المعاهد العليا كما هو شأن جميع كتب برحستريسر التي انحصر تداولها بين أيدي الذين نضجت عقولهم وتمرنوا على مطالعة الموضوعات العويصة والكتب الفنية الدقيقة.
وله كتاب آخر سمى المدخل إلى اللغات السامية ويجب أن يلاحظ أنه بعد أن نشر مصنف نولدكه عن اللغات السامية، وكتاب بروكلمان الكبير عن الموازنة بين قواعد اللغات السامية جاء برجستريسر وأضاف كتاباً جديداً في هذه المادة، وكان الناس يتوقعون أنه لا يأتي بجديد، ولكن ظهور الكتاب أزال كل أثر لتلك المخاوف، إذ جاء جديداً في اسلوبه، فياضاً في نظرياته، ثائراً على القديم، يلقي أحكامه الجديدة ويهدم قضايا مألوفة ومعروفة.
وله كذلك كتاب في جغرافية اللغة في سورية وفلسطين وضعه لاغراض عملية لرجال الجيش الألماني في البلدان العربية أثناء الحرب العظمى.
وقد ذكرنا رحلة الأستاذ برجستريسر إلى البلدان الشرقية، وكان قد أقام مدة من الزمن في دمشق بحث فيها بحثاً علمياً دقيقاً عن اللهجة العامية في دمشق، كما وجه عناية شديدة إلى البقية الباقية من الأرهاط السريانية التي تقطن في المعلولة وهي ضاحية من ضواحي دمشق. وصنف رسالتين إحداهما عن اللهجة السريانية عند أهل معلولة والأخرى عن الروايات الخرافية الجديدة عند الآراميين.
على أن الأستاذ برجستريسر وجه جل عنايته إلى البحث في العلوم الإسلامية والعربية، وكانت باكورة مصنفاته في هذه المواد رسالته عن حنين بن اسحق ومدرسته، ومما لا شك
فيه أن اللذين يكتبون عن الفلسفة اليونانية وأثرها في الفلسفة الإسلامية وعن حركة الترجمة والنقل من اليونانية إلى العربية بواسطة السريان، يجدون في هذا السفر مادة غزيرة لا يمكنهم أن يستغنوا عنها مطلقاً.
وله كتاب آخر وهو عظيم الخطر في العلوم الإسلامية أعني به ما كتبه عن مصاحف القرآن الكريم. كان الأستاذ نولدكه قد ألف في أواسط النصف الثاني من القرن التاسع عشر كتاباً عن تاريخ القرآن كان له الدوي العظيم والأثر البعيد في أندية العلماء في أوربا، ولما احتاج الكتاب إلى تنقيح وزيادات وكان الأستاذ نولدكه قد توغل في بحوث أخرى تناوله الأستاذ شوللى واخرج الطبعة الثانية من كتاب تاريخ القرآن الكريم مع زيادات وملاحظات كثيرة، ولم يكن الكتاب كمل بعد، لذلك أتم برجستريسر ما بدأ به نولدكه وشوللي فدون الجزء الثالث من تاريخ القرآن الكريم وهو كتابه عن المصاحف، وقد رأى الأستاذ برجستريسر أن يبحث في قراءات القرآن وهي مادة لم يكن ليشتغل فيها غيره من كبار المستشرقين، فقضى سنين طويلة يراجع بصبر وأناة كل ما دون في أمهات المصنفات الإسلامية في هذه المادة من كتب مطبوعة ومخطوطة، وكانت نتيجة هذه الأبحاث الطويلة أنه طبع (1) كتاب غاية النهاية في طبقات القراء لشمس الدين أبي الخير محمد الجزري المتوفى سنة 832 هـ (2) كتاب شواذ القراءات لابن خالويه (3) رسالة باللغة الألمانية عن القراءات القرآنية الشاذة في كتاب المحتسب لابن وهو آخر مصنف وضعه الأستاذ برجستريسر في حياته، ومما يلفت الأنظار أن هذا الكتاب مقدم إلى الدكتور طه حسين.
ويجب ألا يغيب عن البال إن الأستاذ برجستريسر قد أتقن ما عدا اللغات السامية: الفارسية والتركية أيضاً، وقد وضع جملة مقالات عن آداب هاتين اللغتين نشرت في مجلات المستشرقين في مناسبات شتى كان الأستاذ أنوليتمان
المستشرق الشهير صاحب المدونات عن الكتابات العربية قبل الإسلام، المعروفة بالخطوط الثمودية واللحيانية (راجع كتاب تاريخ اللغات السامية لكاتب هذه السطور ص 175 - 188) بعد أن ألقى محاضرات في الجامعة المصرية في السنة الدراسية 1928 - 1929 ولم يستطع الرجوع إلى الجامعة بعد ذلك الحين أشار على الهيئات الرسمية بالجامعة
المصرية بأن يدعو الأستاذ برجستريسر لإلقاء محاضرات في الجامعة المصرية.
وقد قوبل الاقتراح ولبى الأستاذ برجستريسر دعوة الجامعة وحضر إلى القطر المصري وكان مجيء برجستريسر حادثاً خطيراً في حياة الجامعة المصرية إذ كان الأساتذة والمدرسون يقبلون عليه ويحضرون مع الطلاب محاضراته النفسية، وكان يلقي في ذلك العام (1930) محاضرات عن التطور النحوي للغة العربية. وكان في محاضراته الأولى كثير العجمة والإبهام في لغته العربية، وكان يقرأ المحاضرة من الورقة المكتوبة التي كانت أمامه، ثم أخذ بعد جملة أسابيع يتحرر شيئاً فشيئاً من الكراس، وأخذ يرتجل الجمل ارتجالاً ويفصح في الكلام افصاحاً، ثم رجع في سنة 1932 إلى مصر وألقى محاضراته عن اللهجات العامية في الموصل. كان يفيض كالبحر الزاخر بلغة عربية فصيحة كانت مفهومة واضحة لجمهرة الطلبة ويجب أن يقال بكل صراحة إن عدد الحاضرين عند برحستريسر كان في بادئ الأمر كبيراً، ثم أخذ ينقص على كر الزمان إلى أن انحصر الحاضرون في طلبة قسم اللغات السامية فقط، والسبب في ذلك يرجع إلى أن محاضرات برجستريسر كانت فنية قبل كل شيء أي إن الذين لم يدرسوا اللغات السامية لم يفهموا كثيراً مما كان يلقي الأستاذ، وفوق ذلك فأن عقلية برجستريسر كانت دقيقة وعميقة وكانت محاضراته موجهة إلى أصحاب الثقافة الراقية قبل كل شيء.
لم يكن برجستريسر أكبر الأساتذة سنا، ولكنه كان أعلاهم مقاما وأغزرهم علما وكانوا يوجهون إليه الأسئلة حتى يقفوا على آرائه في كثير من الموضوعات ومن هنا ادخل برجستريسر في هيئة التحرير في المجلة العلمية الشهيرة في أدبيات وكان مدة من الزمن رئيس التحرير في المجلة الألمانية للعلوم السامية. كان الأستاذ برجستريسر يسرف في إجهاد نفسه حتى أضناه العمل لأنه كان فوق البحث والفحص لتنظيم محاضراته لطلبة الجامعة المصرية، يمضي ثلاثة أيام كاملة من الصباح إلى الغروب في المكتبة الملكية يجلس إلى مائدة في غرفة منفردة ويراجع مخطوطات في قراءات القرآن، ثم اضطر إلى ملازمة الفراش، فعنفه الأطباء على اجتهاده المفرط الذي ينذر بالخطر وأشاروا عليه بترك العمل في المطالعة والتأليف ولكنه لم يحفل بهم.
وكان برجستريسر يحب الجبال، والرياضة في الجبال، يتنزه أسابيع كاملة على خلوة
بنفسه، وفي اليوم الثاني عشر من شهر أغسطس المنصرم صعد جبل جلوكز الشامخ فحدثت الفجيعة العظمى إذ زلت قدماه من ذروة الجبل الشاهق وسقط إلى هاوية فتوفي على الأثر وكان قد بلغ الثامنة والأربعين من عمره حين قضى نحبه.
في الأدب العربي
ابن خلدون ومكيافيللي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
بعد وفاة ابن خلدون بأكثر من قرن، وضع نيكولو ميكافيللي المؤرخ والسياسي الإيطالي كتاباً يتبوء في التفكير الغربي مكانه كتلك التي تتبوأها مقدمة ابن خلدون في التفكير الإسلامي. ذلك هو كتاب (الأمير) وهو كأثر ابن خلدون قطعة بديعة من التفكير السياسي والاجتماعي، تمتاز بكثير من القوة والطرافة والابتكار الفائق. وإذا لم يك بين الأثرين كثير من أوجه الشبه المادي، فان بينهما كثيراً من أوجه الشبه المعنوي، وبين الذهنين بالأخص مشابهة قوية من حيث الظروف والبيئة التي تكون كل فيها، ومن حيث فهمه للتاريخ والظواهر الاجتماعية، ومن حيث قوة العرض والاستدلال بشواهد التاريخ.
ونستطيع أن نرجع كثيراً من أسباب هذه المشابهة بين المفكرين العظيمين إلى تماثل عجيب في العصر والظروف السياسية والاجتماعية التي عاش كل منهما فيها. فقد كانت الإمارات والجمهوريات الإيطالية التي عاش ميكافيللي في ظلها تعرض في إيطاليا نفس الصور والأوضاع السياسية التي تعرضها الممالك المغربية أيام ابن خلدون، من حيث اضطرام المنافسات والخصومات فيما بينها، وطموح كل منها إلى افتتاح الاخرى، وتقلب إماراتها ورياساتها بين عصبة من الزعماء والمتغلبين. وقد اتصل ميكافيللي بهذه الدول، وقضى عصراً في خدمة إحداها وهي وطنه فلورنسا (فيرنتزا) وانتدب لمهام سياسية مختلفة؛ واستطاع أن يدرس عن كثب كثيراً من الحوادث والتطورات السياسية التي تعاقبت في عصره، وان يجعل من هذا الدرس مادة لتأملاته عن الدولة والأمير، كما جعل ابن خلدون من الحوادث التي عاصرها واشترك فيها مادة لدرسه وتأملاته.
على أن المفكر المسلم أغزر مادة وأوسع آفاقاً من المفكر الإيطالي. ذلك أن ابن خلدون يتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة لدرسه، ويحاول أن يفهم هذه الظواهر وأن يعللها على ضوء التاريخ، وأن يرتب على سيرها وتفاعلها قوانين اجتماعية عامة. ولكن ميكافيللي يدرس الدولة فقط، أو يدرس أنواعاً معينة من الدول، هي التي يعرضها التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتاريخ إيطاليا في عصره، ويدرس شخصية
الأمير والمتغلب الذي يحكم الدولة، وما يلحق بها من الخلال الحسنة أو السيئة، وما يعرض لها من وسائل الحكم. وهذه الدراسة المحدودة المدى تكون جزءاً صغيراً فقط من دراسة ابن خلدون الشاسعة، وهو الفصل الثالث من الكتاب الأول من المقدمة، وهو الذي يدرس فيه أحوال الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية. وحتى في هذا المدى المحدود يتفوق ابن خلدون على ميكافيللي تفوقاً عظيماً. ويبتدع هنا نظرية العصبية، ونظرية إعمار الدول، ويتناول خواص الدولة من الناحية الاجتماعية وإن كان ميكافيللي من جهة أخرى يتفوق على ابن خلدون في سلاسة المنطق، ودقة العرض والتدليل، ورواء الأسلوب.
كتب ميكافيللي كتابه (الأمير) سنة 1513 وأهداه إلى لورنزو دى مديتشي (الأفخم) أمير فلورنسا، وهو يشير إلى غرضه من وضع كتابه في قوله للأمير في خطاب الإهداء:(ومع أني أعتبر هذا المؤلف غير خليق بمطالعة محياك، فإني اعتمد جل الاعتماد على عطفك ورقتك في قبوله، فلست أستطيع في إهدائك خيراً من أن اقدم إليك فرصة لتفهم في أقصر الأوقات كل ما عرفته خلال أعوام طويلة، وفي غمار من المتاعب والأخطار) وفي قوله: (فتناول يا ذا الفخامة هذه الهدية الصغيرة بنفس الروح الذي أرسلها به، وإنك إذا قرأته بإمعان وتأمل، فسوف تعرض خالص رغبتي في أن تظفر بهذه العظمة التي يمنى بها حسن الطالع وتمنى بها خلالك) وإذن فقد أراد ميكافيللي أن يقدم كتابه (الأمير) مرشداً لأمراء عصره يرشدهم إلى أمثل طرق الحكم، وأمثل الوسائل لسيادة الشعوب التي يحكمونها. وميكافيللي يستمد آراءه ونظرياته من حوادث التاريخ القديم. وبالأخص من حوادث عصره التي شهدها وخبرها. ويرتب عليها أحكاماً وقواعد عامة، كما يرتب ابن خلدون مثل هذه الأحكام والقواعد على دراسته للمجتمع. ويبسط ميكافيللي دراسته في بحوث موجزة ويبدأ بالحديث عن أنواع الإمارات، ووسائل اكتسابها، وعن الوسائل التي تحكم بها المدن أو الإمارات التي كانت تعيش في ظل قوانينها قبل أن تغلب، وعن الإمارات التي تقوم بالفتح وكفايات الأمير الشخصية، وعن تلك التي تغنم على يد آخرين أبطرق الحظ، أو تلك التي تغنم بالغدر والخيانة. وعن الإمارات المدنية والدينية، وعن أنواع الجيوش والجنود المرتزقة، وما يجب أن يعرفه الأمير عن فن الحرب. ثم يتناول بعد ذلك شخصية الأمير، وما يحمد فيه من الخلال وما يذم، وعن الكرم والشح، والرأفة
والقسوة
وعن الطريقة التي يجب أن يحفظ بها الأمراء وعودهم، وعما يجب عليهم لتجنب بغض الشعب واحتقاره، وما يجب عليهم لاكتساب الشهرة والمجد، وأخيراً يتحدث عن حجاب الأمير (سكرتارية) وعن وجوب تجنب الملق، وعن الأسباب التي فقد بها أمراء إيطاليا دولهم، وعما يمكن أن يؤديه حسن الطالع في سير الشؤون البشرية؛ ثم يختتم بالحث على تحرير إيطاليا من نير الأجانب أو غزوات البرابرة كما يسميهم.
تلك هي المباحث التي جعلها ميكافيللي قوام فلسفته عن الدولة والأمير. ويبدو بالأخص مما كتبه عن (الأمير) انه يعالج موضوعاً عالجه المفكرون المسلمون قبل ابن خلدون بعصور طويلة، هو موضوع (السياسة الملكية) وهو موضوع يجري منذ القرن الثالث الهجري في التفكير الإسلامي مع بحث أو علم خاص هو علم السياسة على نحو ما بينا في فصل سابق. وقد رأينا مما تقدم أن (السياسة) كانت تفهم عند العرب في العصور الأولى بمعنى ضيق جداً هو شرح الخلال الحسنة التي يجب أن يتصف بها الأمير، والعيوب التي يجب أن يبرأ منها لكي يصلح لرآسة الدولة وتبوء الملك؛ ولكي يستطيع الحكم بأهلية وكفاية. ثم توسع المفكرون المسلمون في فنهم معنى (السياسة) وقسموها إلى عدة أنواع؛ وتناولوا (السياسة الملكية) من الناحية الفقهية وكذا من الناحية الإدارية وبحثوا مركز الأمير من الناحية الشرعية وتحدثوا عن الخطط السلطانية، وظاهر ما يتناوله المفكر الإيطالي من خواص الأمير وخلاله وواجباته هو ضرب مما تناوله المفكرون المسلمون منذ أواخر القرن الثالث الهجري. ومن ذلك ما كتبه ابن قتيبة في كتاب (عيون الأخبار) والماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) والطرطوشي في كتاب (سراج الملوك) والغزالي في كتاب (التبر المسبوك)، ثم ابن الطقطقي في كتاب (الآداب السلطانية). وهو موضوع تناوله ابن خلدون فيما تناوله من أحوال الدول العامة والملك، إذ يتحدث هنا عن حقيقة الملك وأصنافه، وعن معنى الخلافة والامامة، وعن مختلف المذاهب والآراء في حكم الإمامة ثم عن الخطط السلطانية، وحديثه في ذلك يمتاز عن حديث أسلافه بما يتخلل بحثه وتدليله من الملاحظات والتأملات الاجتماعية التي لم يوفق إليها باحث قبله.
على أن ميكافيللي يمتاز في بحثه بروح عملية جافة. وبينما يتحدث المفكرون المسلمون
عن الأمير أو الحاكم كما يجب أن يكون، وعن خلاله المثلى كما يجب أن يكون، إذا بالمفكر الإيطالي ينظر إلى الأمير الأمثل نظرة عملية محضة. فيصفه كما هو في الواقع، ويتصور خلاله المثلى فيما هو حادث بالفعل، ويرتب تدليله ونتائجه على ما أحرز الأمير وأحرزت خلاله من النجاح أو الفشل دون تأثر بما إذا كانت هذه الصور والخلال تتفق مع مبادئ الأخلاق المثلى كما فهمت خلال العصور. ومن هنا تستمد فلسفة ميكافيللي لونها القاتم، وتوصم آراءه ونظرياته السياسية بتلك الصرامة والقسوة والخبث التي جعلتها حتى عصرنا مضرب الأمثال للسياسة الغادرة التي لا ضمير لها ولا وازع، والتي جردت من كل نزاهة وعفة، وتغاضت عن كل المثل الإنسانية والأخلاقية. وإلى القارئ بعض نماذج من تلك الآراء التي طبعت فلسفة ميكافيللي، وأميره الأمثل بذلك الطابع الأسود.
من طرائف الشعر
آثار شوقية
- 3 -
منظر من رواية الست هدى
السيدة هدى وجارتها زينب تتحدثان في إحدى حجرات منزل السيدة هدى المطل على مسجد أبي الليف بحي السيدة زينب، وقد أخذت السيدة هدى تقص على صديقتها حياتها مع أزواجها التسعة إلى أن قالت عن آخر زوج لازال معها:
الست هدى:
ثم اقترنت بمحام عاطل
…
شريب خمر يحتسيها في الضحى
قلَّت دعاويه وقلّ ماله
…
وأصبح المكتب منه قد خلا
(عبد المنعم المحامي زوج الست هدى وهو سكران يصعد السلم)
عبد المنعم (منادياً:)
هدى! ضلالْ! أين أنت يا هدى؟
…
أين العجوز؟ أين جدتي هدى
وانكدا زينب! واداهيتاه!
…
أتى ولا أعرف من أين أتى
يشتم في السلم:
زينب! خليه دعي
…
لا تفرضيه غير سكران هَذَي
رأيته
الست: وكيف؟
زينب: من تحت وقد
…
كان من السقف أطل وانحنى
وكانت الحارة منا امتلأت
…
فأرسل القيء علينا ورمى
الست: القيء! ماذا قلت؟
زينب: قلت ما رأت
…
عيني وما مر على رأسي وما. . .
عبد المنعم وهو بالسلم:
هدى! عجوز النحس، أنتِ قردةٌ
…
خطوطك الوحل وكحلك العمى
سمعتِ يا زينب؟
خليه دعي
…
لا تفرضيه غير سكران هذى
زينب:
ومرة جاء أبا الليف ضحى
…
أذنَّ في الناس يصلون العشا
فضيحةٌ في الخُطّ
الست: وا فضيحتاه!
…
ما شهدوا في الحنفيِّّ مثلها
عبد المنعم ولا يزال في السلم:
هدى تعالي يا عتيقة اظهري
…
عندي لكِ النعلُ وهذه العصا
الست: سمعتِ يا زينب
زينب: خليه دعي
…
لا تفرضيه غير سكران هذى
الست: دعيه يهذي ما شاء=غداً ترين، زينب
ففي غد لي وله
…
شأن، غدا يؤدب
زينب: وما الذي عزمت يا=حبيبتي أن تصنعي
الست:
أقذف في القسم به
…
وأشتكي وأدعي
إن رجال القسم وال
…
نائب والقاضي معي
الست لزوجها:
لتندمن يا لكع
…
يا من يقوم ويقع
عبد المنعم وقد سمع صوتها:
ماذا سمعت؟ صوتها!
…
أأنت بومتي هنا؟
الآن يا حميزة ال
…
خُطِّ أريك من أنا
زينب:
هدى حبيبتي اسمعي
…
تعالي اهزلي معي
الست: أنا؟
زينب: اسمعي دعيه
الست: لا
زينب: دعيه يا هدى دعي
زينب:
لا تغضبيه إنه
…
ممتلئ ليس يعي
عبد المنعم:
هدى! هدى! أين هدى!
…
أين العجوز البالية
خدّّاك ضفدعان قد أسنَتَّا
…
وأذناك عقربان من قنا
وحاجباك والخطوط فيهما
…
كدودتين اكتظتا من الدما
وبينَ عينيكِ نفارٌ وجفا
…
عينٌ هناك خاصمت عينا هنا
الست:
دعيني أقطع عليه الحذاء
…
وأجز الوَقاح على ذنبه
دعيني أضربه حتى يفيق
…
فلابد زينبُ من ضربه
زينب:
قد جاء. . هيّا نتقي
…
جنونه وهَوَسه
ففي يمينه العصا
…
وفي الشمال المكنسة
الست:
سكران يُضرِب
…
إذن لنهرب هلم زينب
هذه حجرة نومي
…
أسرعي زينب فيها
نحن يا زينب لا نكب
…
ح سكران سفيها
(تدخلان الحجرة وتستتران وراء الباب وعبد المنعم يدخل مترنحا)
في الأندلس
أبيات مبعثرة نظمها أمير الشعراء في الأندلس
- 4 -
. . . ويوم من صبا آذار حلو
…
فقدناه وما بلغ الشبابا
تصوَّر من حلى النيروز وجهاً
…
وجمَّع من زخارفه إهابا
فراق صباحُه صحواً وزهواً
…
ولذّ ضحاه حاشية وطابا
تناثر في البطاح حُلى وأوفى
…
على الآفاق فانتظم الهضابا
وسالت شمسه في البحر تبراً
…
على مثل الزمرد حين ذابا
كأن نسيمه َنَفس العذارى
…
طعمن الشهد أو ذقن الخبابا
تمناه ابن عبّاد صبوحاً
…
إذا حدثَّ المزاهر والشرابا
وما قَّدرت أن يسجن ظهراً
…
ولم تكن القيامة لي حسابا
تشَّعث لمة واغبَّر وجهاً
…
ودلَّى مشفراً وافتَّر نابا
وبَّدل حسن ذاك السمت قبحاً
…
وأصناف النعيم به عذابا
وضج البحر حتى خيل موسى
…
أتى بعصاه أو فرعون آبا
وأبرق في العباب كأن سراً
…
بأسطول الجزيرة قد أهابا
كأن شعاعها في الثلج نارٌ
…
لفارس حولها ضربوا القبابا
أو الحسناءُ يوم العرس جنَّت
…
فمزقت الغلائل والنقابا
فمن سَحَرَ السماء فأمطرتنا
…
فكان الدر والذهب الذهابا
تروق العين من بيضاء حال
…
كما َترَّبت بالتبر الكتابا
منادف عسجد ظفرت بقطن
…
فما تألوه ندفاً وانتهابا
وقطعت الثلوج لكل روض
…
وكل خميلة منها ثيابا
فمن صور مجلَّلة فراءً
…
وولدان مسربلة جبابا
فتنة الحسن
للشاعر الوجداني احمد رامي
نازعتني إلى اجتلاء الجمال
…
فتنة الحسن في بديع المثال
غرة كالصباح رفت عليها
…
طرة في سواد جنح الليالي
وعيون تشع بالأمل العذ
…
ب وتلقى سحر الهوى والدلال
وفم تبسم الملاحة فيه
…
ببريق اللمى وظلم اللإلى
وقوام مهفهف القد ممشو
…
ق تهادى في رفق خطو الغزال
طالعتني وكنت أخلس منها
…
خطرة الطيف في سنوح الخيال
ثم مرت كما يمر نسيم ال
…
روض عبر الغدير بين الظلال
وقضى الله أن أراها أروى
…
ناظرى من بهاء تلك المجالي
وسمت الحديث من فمها المفترّ
…
عن بسمة الندى في الدوالي
فإذا خفة القطاة إذا اختا
…
لت على الماء ساعة الآصال
وإذا رقة النسيم إذا بث
…
شكاة المهجور عند الوصال
الأصل والمثال
عجباً أحق ما أحس وما أرى
…
أفهذه أنت انبعثت من الثرى؟
هل يرجع الموتى إلى الدنيا ولم
…
ينفخ لهم في الصور أو يفن الروى؟
أم صح زعم القوم أن زماننا
…
دور تسلسل في العصور مكررا؟
وحياتنا فيه مواسم ثبته
…
لا تختفي حتى تعود فتظهرا
لكن، أدار بك الزمان فريدة
…
وسها عن الماضين قبلك وازدرى؟
أم قوة الإيحاء بين قلوبنا
…
أحيتك، أم هذا خيالك في الكرى؟
لا، لا، فليس يعود من قد ضمه
…
قبر ولست بحالم فيما أرى
ولو أن إيحاء يعيدك بيننا
…
لاسطاع دفع الموت عنك وأخرا
أفلم تكوني مهبط الإيحاء من
…
ألبابنا والموضع المتخيرا؟
ما هذه إلا شبيهتك استوى
…
فيها كيانك يوم طاب وأزهرا
طرأت على كطائر متغرب
…
لم أدر من أي النواحي قد سرى
أففتنة أخرى ولما استعد
…
أمني وقد مال الصبا وتحدرا؟
إن كنت أنت اليوم أنت فأنني
…
غيري تداولني الزمان فغيرا
وأعتضت من مرح الصبا هبوبه
…
حذرا وتمحيصاً إذا أمر عرا
من ذا الذي دفع الفتاة لموضعي
…
لأراك فيها عنوة وتجبرا؟
وأرى عهودك حلوها ومريرها
…
بينا المرير بهن كان الأكثرا
هل ضاق وجه الأرض حتى لم تجد
…
من أشبهتك سوى طريقي معبرا؟
كم من فراسخ بين قطبيها وكم
…
بيدا توارى المشبهات وأبحرا؟
ولم انتحتنى بالرنو ولم أكن
…
أعلى الشهود صوى وأروع مظهرا؟
أفليس في هذا دليل تعمد
…
لولا مما تك كنت أنت المصدرا؟
ومن الذي يدري؟ فرب إرادة
…
للميت فينا دون أن نستشعرا!!
ولعلنا يوماً سنسمع في الثرى
…
صوتا ونفهم منه معنى آخرا!!
والآن يا وجها رأيت بضوئه
…
آفاق ماض بالظلام تسترا
كن بعض ذا الماضي البعيد ووقني
…
ضوءا يضر بمقلتي فتقطرا
محمود عماد
الورقاء
ونائحة من بنات الهديل
…
تبث إلى الروض أحزانها
عراها من الدهر غُلْبُ الخطوب
…
فهبت تودع بستانها
وفي الصدر من وجدها حسرةٌ
…
تكاد تفتت جثمانها
وعز عليها فراقُ الغصون
…
وما يملك القلب هجرانها
ففيها مغارس عهد الصبا
…
سقتها الغمائم هَتّّانها
وفيها سرير الهوى ما يزال
…
يحنُّ فيرجِعُ الحانها
فأذرَت مدامعها الغاليات
…
وقد خضَّب الدمع أجفانها
وأهوت على النهر تُخفي الدموع
…
وتودع جنبيه تحنانها
مواجع تقرؤها في الضلوع
…
وتلمح في العين عنوانها
أطافت بها زُمَرُ القانصين
…
وأفقدها الدهر أعوانها
فضمت إلى صدرها أفرخا
…
أثار التفرق إرنانها
وراحت تؤم فسيح الغياض
…
وتبكي مدى العمر أوطانها
دمشق. أنور العطار
دمر!.
. .
دُمَّرٌ ماؤها على الدر يهوى
…
كمرايا تكسرت من لُجين
سكر الصحب بالمدام وأنى
…
نلت بالماء والهوا سكرتين
فحفيف الغصون شاب خرير
…
الماء لحناً فألفَّا جوقتين
جلست حول نهر دمر غيد
…
صرن والدوحَ حوله جنتين
بردى ما رأيت قبلك نهراً
…
يُنبت الغانيات في الشاطئين
ليس عيناي لي بكافيتين
…
فوق عيني أبتغي ألف عين
عن يميني وعن شمالي وخلفي
…
كل حوراء بضة الساعدين
صرت من دهشتي أدير برأسي
…
أتوخى بنظرة نظرتين
دمشق. أحمد الصافي النجفي
العلوم
اكتشاف الكواكب السيار التاسع بلوتو.
للأستاذ عبد الحميد محمود سماحة
تدل كلمة (كوكب سيار) في العربية كما تدل في الأصل اليوناني على صفة نوع خاص من الأجرام السماوية يتحرك في السماء وسط النجوم (الثابتة).
وقد عرف المتقدمون من الكواكب السيارة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل وتوهموا طويلاً أن الشمس والقمر كليهما من الكواكب السيارة لتشابه حركتها الظاهرية، فكان المجموع سبعة، وهو (العدد التام) الذي كان له شأن كبير في فلسفة فيثاغورس الرياضية.
ويلاحظ أن اشتقاق أسماء أيام الأسبوع من أسماء الكواكب السيارة، فمثلاً في الإنكليزية يوم الشمس ويوم القمر، ويوم زحل، وما يشابه ذلك في اللغة الفرنسية.
ولما توطدت دعائم نظرية (كبرنكس) عن مركزية الكون (وقد سبق أن تكلمنا عنها هنا في الرسالة) وتمكن السير اسحق نيوتن من تفسير حركة الكواكب السيارة على أساس نظرية الجاذبية المشهورة، تغير وجه المسألة، إذ ثبت أن الشمس ما هي إلا مركز المجموعة الشمسية، وأن الأرض أحد الكواكب السيارة التي تدور جميعها حول الشمس في مدارات دائرية تقريباً.
وإلى ما قبل سنة 1781 لم يكن معروفاً من الكواكب السيارة سوى هذه الستة السالفة الذكر بما فيها الأرض، وفي مساء 13 مارس من هذه السنة رأى السير وليم هرشل أثناء رصده لبعض النجوم جسماً يختلف في شكله عنها، وسرعان ما تحقق أنه ليس من النجوم ولكنه من الكواكب السيارة، فأتم الفلكيون أبحاثهم عنه وحسبوا مداره وحركته في السماء وأسموه (أورانوس) غير أنهم بعد قليل من الزمن لاحظوا أن مواقع أرانوس في السماء تختلف اختلافاً طفيفاً مع ما توقعوه بالحساب على أساس نظرية الجاذبية
ومع أن هذا الاختلاف لم يزد في أية حالة على دقيقتين قوسيتين إلا أنهم لم يستطيعوا أن يغمضوا أعينهم عليه، وكان لابد لتبرير وجوده من أحد أمرين لا ثالث لهما ثم يؤتى بالبرهان العملي عليه.
الأول: أن يكون قانون الجاذبية العام الذي اكتشفه نيوتن والذي حسبت بمقتضاه مواقع اورانوس المستقبلة في السماء قانوناً غير طبيعي أو بعبارة أخرى غير صحيح.
الثاني: أن يكون هناك جسم مادي غير معروف لنا يؤثر في حركة أورانوس بالجاذبية وهو مما لم يعمل حسابه عند حساب مواقع أرانوس المستقبلة.
ومن غرائب المصادفات أن يفترض اثنان من نوابغ الرياضيين وهما جون أدمز الانكليزي، ولافرييه الفرنسي، مستقلا أحدهما عن الآخر، الأمر الثاني وأن يحسبا بمقتضى هذا الفرض مواقع هذا الجرم غير المعروف، ثم يتقدما في وقت واحد تقريباً (أواخر 1845) الأول إلى الأستاذ (تشالز) مدير مرصد كمبردج والثاني إلى الأكاديمية الفرنسية بنتيجة بحثهما النظري.
وفي رأيي أن العلوم الرياضية أو بالأحرى قانون الجاذبية العام لم يسجل في تاريخ البشرية فوزاً مثل هذا الفوز عندما أيدت الأرصاد الفلكية وجود هذا الجرم السماوي بالفعل، وفي نفس الموقع الذي أشار إليه كل من آدمز ولافرييه فقد رآه جال الفلكي المساعد بمرصد برلين في مساء 23 سبتمبر ومن بعده بخمسة أيام الأستاذ تشالز بمرصد كمبردج وسمى الكوكب السيار الجديد (نبتون).
كان من الطبيعي بعد معرفة مدار نبتون وحركته أن تراقب مواقعه في السماء ليرى هل هي تحقق المستنتج نظرياً فيكون هو آخر الكواكب السيارة، أو هي لا تحققه فيقتضي البحث عن السبب.
وإذا وجد أن هناك اختلافا مثل الذي وجد في حالة أرانوس، أعتقد الأستاذ لويل بمرصد فلاجستاف أنه لابد أن يكون هناك كوكب سيار تاسع يؤثر في حركة نبتون.
وفي سنة 1914 أتم الأستاذ لويل بحثه النظري وحسب مواقع هذا الكوكب السيار الموهوم في أزمنة مستقبلة عديدة غير أنه مات قبل اكتشاف هذا العالم الجديد، فأتم فلكيو فلاجستاف هذا البحث، وأخذوا صوراً متعددة في ليال متعاقبة لتلك المنطقة في السماء التي توهموا وجود الكوكب الجديد فيها، ثم اشتركت مراصد العالم المهمة في هذا البحث حتى تحقق وجوده، وأعلن اكتشافه في 12 مارس سنة 1930 وسمي (بلوتو) لأن (بلوتو) في القصة اليونانية هو أخ كل من المشتري ونبتون وابن زحل وهذا الاكتشاف هو آخر الاكتشافات
الفلكية الحديثة. وربما كان أهم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين ولا يقلل من قيمة اكتشافه أن الطريقة التي اتبعت فيه من الوجهة الرياضية هي عينها التي اتبعت في اكتشاف نبتون ولاسيما وأن معرفته من بين النجوم العديدة على الألواح الفوتوغرافية كانت من أشق الأمور حقيقة نظراً لصغر حجمه، ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أن أصغر النجوم التي ترى بالعين المجردة ألمع من بلوتو بمقدار الف وستمائة مرة.
ويبعد بلوتو من الشمس بما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون ميل، ويتم دورته حولها في 250 سنة تقريباً، وقد حسب بعض الفلكيين درجة الحرارة على سطحه فوجدت حوالي مائتين تحت الصفر المئوي، ولم يعرف إلى الآن حجمه بالضبط، ولكن من المحقق أنه من أصغر الكواكب السيارة، وأن حجمه يقرب من حجم عطارد.
ويرى بلوتو في الصورة إلى جانب النجمة الكبيرة رال التوأمين التي هي من القدر الرابع، وبمقارنة الصورتين نجد أن بلوتو وهو المشار إليه بالسهم قد تحرك بين النجوم (الثابتة) في ما بين 19 و 24 مارس 1930 وهكذا تمكنا من معرفته من بين النجوم العديدة الأخرى.
ولا نستطيع أن نقطع من الآن برأي فيما إذا كان (بلوتو) هو آخر الكواكب السيارة أو أن هناك ما هو أبعد منه، غير أن الزمن كفيل بأن يقطع في هذه المسألة مرة أخرى.
مواطن الحياة الأولى
للأستاذ السر آرثر طمسن
ترجمة بشير إلياس أللوس
(1)
المواطن الساحلية
في وسعنا أن ننظر إلى عملية التطور السامية من ناحية جديدة، فقد سهلت للحيوان أن يخضع لسيطرته جميع الأماكن الملائمة للحياة، ويجعل المحيط خادماً لمصلحته ومصلحة نوعه.
يظن أن العضويات الحية استوطنت السواحل البحرية أولاً لما في تلك المناطق من ظروف ملائمة للحياة، فهي قليلة الغور غنية بالنور والهواء والغذاء ولاسيما أن الأعشاب البحرية النامية في تلك الأماكن تجهز المواد الغذائية بمقياس واسع. إن هذه المناطق مأهولة في الوقت الحاضر بممثلي جميع أصناف الحيوانات تقريباً من النقاعيات إلى الطيور الساحلية واللبائن.
(2)
المواطن البحرية
إن الموطن البحري يشمل جميع سطوح المياه الغنية بالنور عدا المناطق الساحلية القحلة. ويظن أن الحيوانات استوطنت هذه الأماكن لتجانسها ووفرة ما فيها من خزيات مجهرية تصلح طعاماً لها. إن هذه النباتات المجهرية تستمكن في أجسام حيوانات دقيقة كالقشريات البحرية - التي تعتاش عليها الأسماك، وهذه بدورها تصبح طعاماً للسلاحف المفترسة والحيتان ذوات الأسنان. وبهذا الاعتبار يظن أن البحر المكشوف كان المواطن الأصلي للحياة. وقد يكون الأستاذ (شرش على صواب في تصوره أن الحياة البحرية تقدمت على الحياة الساحلية.
(3)
أعماق البحار
يظن أن قعر البحار العميقة كان موطناً ثالثاً للحياة؛ ففي ذلك المحيط البارد وفي ذلك الشتاء الدائمي والظلام الدامس الذي لا يضيء فيه غير بريق الحيوانات الفسفورية الضئيل، وتحت ذلك الضغط الهائل - طنان ونصف طن على البوصة المربعة الواحد في عمق 15000 قدم - وبين ذلك السكون العميق وفي تلك الوحدة الرهيبة؛ أجل في تلك الظروف
كانت الحياة تقضي شطراً من أدوارها. وربما جرى استعمار هذه اللجج العظيمة الغور في عصور حديثة العهد نسبة؛ لأن الحيوانات التي نعثر عليها في هذه الأماكن لا تشتمل أصنافاً قديمة جداً؛ ويرجح أن الحيوانات الساحلية هي التي استعمرت هذه الأماكن بتتبعها لبقايا الطعام خلال أجيال عديدة.
(4)
المياه العذبة
تشمل المياه العذبة جميع الأنهار والبحيرات والبرك والمستنقعات والغدران، وربما حصل استعمار هذه المياه بهجرة بعض الحيوانات بصورة تدريجية إلى مصبات الأنهار، أو بالزحف المباشر في ساحل البحر إلى الغدير.
(5)
استيطان اليابسة
قامت بعض الحيوانات الساكنة في البحر أو في المياه العذبة على مر العصور باستيطان اليابسة تدريجياً، ويجب أن نميز ثلاث غزوات كبيرة قامت بها الحيوانات وهي:
أ - غزوة الديدان: ونتيجتها إخصاب الأرض
ب - غزوة الحشرات: ونتيجتها تأسيس الرابطة بينها وبين الزهور.
جـ - غزوة البرمائيات: ونتيجتها نشوء الحيوانات البرية الراقية ونمو الذكاء والحب العائلي.
وهناك غزوات أخرى أقل من تلك شأناً ولكن جميعها تدلنا على أن الحيوانات المائية تميل إلى احتلال اليابسة وتحاول استعمارها بشتى الطرق. إن للنزوح إلى اليابسة مزايا عظيمة، ذلك لأنه كان بمثابة التوصل إلى محيط فيه مقدار من الأوكسجين أكثر مما هو مذاب في الماء. غير أن التسلط على أكسيجين الهواء أمر صعب نوعا ما، ولما كانت حياة اليابسة تكيف جسم الحيوان فتجعله أكثر صلابة وأفضل وقاية كان لابد من تكون سطوح داخلية في جوف الحيوان تمكن الدم من أخذ الأوكسجين وإيصاله إلى جميع أنحاء البدن وهكذا نشأت الرئتان. في أغلب الحيوانات يذهب الدم إلى السطوح المعدة لاتصال الأوكسجين، أما في الحشرات واتباعها فطريقة أخذ الأوكسجين إلى الدم أو إلى الأنسجة تختلف عن ذلك. ففي هذه الحشرات توجد أنابيب متشعبة تتوزع على جميع أنحاء البدن، ووظيفتها أخذ الهواء من المحيط. يفسر لنا هذا التنفس الكامل مغالبة هذه الحشرات التي تكون دمها نقياً
على الدوام.
إن استيطان اليابسة أدى أيضاً إلى تكيف الحركة الانتقالية في الحيوان على النحو الذي نراه الآن. فصار الحيوان يدفع جسمه إلى الأمام مستنداً إلى الأرض، وتكونت في جسمه سلسلة من العتلات (الروافع) وهكذا تصلبت أجسام معظم الحيوانات البرية وأصبحت تستند إلى الأرض بمنتهيات صغيرة نسبياً (هي الأنامل) حتى لا تدع مجالا لانبطاح الجسم أو تدليه إلى الأرض، فحيوان كقنديل البحر - مثلاً يعيش في المياه ويستطيع أن ينتقل فيها بسهولة، ولكن يتعذر عليه أن يعيش في اليابسة لان تركيب جسمه لا يساعده على الحركة الانتقالية في البر. وربما تبادر إلى الذهن أن بعض الحيوانات البرية تشذ عن التكيف الذي تستلزمه حياة اليابسة - كديدان الأرض وأم الأربع والأربعين والأفاعي. إن شرح الحركة الانتقالية في هذه الحيوانات ليس بالأمر الصعب، فدودة الأرض تحفر طريقها في التربة كما يفعل اللولب، وجسم أم الأربع والأربعين يحمل على عدة أرجل قوية، كما أن الحية تدفع نفسها إلى الأمام بواسطة حراشف بطنية واسعة متصلة بمنتهيات عظمية متشعبة في العمود الفقري.
الضرورة حب الاستطلاع
ويهمنا أن نبحث الآن في مجازفات الحياة على اليابسة، لان ذلك يمكننا من فهم الدواعي التي حملت عددا عظيماً من الحيوانات البرية على حفر أوكارها في التراب، وعددا آخر منها على تسلق الأشجار، ولماذا رجع بعضها إلى الحياة المائية ولجأ البعض الآخر إلى الهواء، وربما تبادر إلى أذهاننا أن نتساءل لماذا استعمرت اليابسة رغما عما في ذلك من مجازفات ومخاطر عظيمة؟ الجواب على ذلك:(أن الضرورة وحب الاستطلاع هما أبوا الاختراع!) فقد تكون الدواعي التي حملت بعض الحيوانات على ترك الحياة المائية هي من قبيل جفاف الغدران أو ازدحامها بعدد لا تستوعبه من الحيوانات، أو الهرب من الأعداء الكامنة لها بالمرصاد، ولكن يجب ألا نتغاضى أيضاً عن غريزة حب الاستطلاع التي كانت ولم تزل عاملا مهما من عوامل التقدم.
(6)
غزو الهواء
وأخيراً لجأت الحيوانات إلى الهواء فنجحت في غزوه الحشرات والعضايا المجنحة القديمة
والطيور والوطاويط وأخفقت غيرها في تلك المحاولة كما نرى ذلك جلياً في الأسماك الطائرة التي تقفز في المياه إلى علو بضع ياردات، تساعد على ذلك زعانف كبيرة تنشرها عند القفز، وهذا ما نجده أيضاً في الضفادع الطائرة التي تطير من غصن إلى آخر. وهناك كثير من أمثال هذه الحيوانات التي يستدل منها على محاولة الحيوان في الماضي التغلب على الهواء ذلك الأمر الذي أدركه الإنسان عن بعد بطريقة أوجدها من عنده.
لاشك أن المقدرة على الطيران لها مزايا وفوائد عديدة، فالطير الذي يعتاش على ما في الأرض يستطيع أن يهرب من الكواسر الداهمة بارتفاعه السريع في الهواء، وفي وسعه أن يتتبع الأماكن التي يكثر فيها الطعام والماء مهما كانت بعيدة، وفي إمكانه أن يضع بيضه في مواقع أمينة لا تصل إليها أيدي الأعداء. وقد استطاعت بهجراتها أن تتغلب على الزمان والمكان فكثير منها لا يعرف شتاء طول حياته.
نظام الطبيعة المتطور
وللتطور صفحة واضحة أخرى وهي ميله لربط الأحياء بعلاقات حيوية مهمة، فالزهور مرتبطة بضيوفها من الحشرات ارتباطاً حيوياً وثيقاً فيه منفعة مشتركة للفريقين. وهناك طيور تعتاش على ثمر العليق فتنشر البذور. وهكذا يحافظ على نسل النيتة، ونعلم أيضاً أن الحلزون المائي النحيف يكون مأوى لدودة الكبد (التي توجد في الأغنام) في أدوار حداثتها، وأن البعوض يحمل جرثومة الملاريا وينقلها من شخص إلى آخر بواسطة اللسع.
ونستطيع أن نجد علائم التعاون ظاهرة بين بعض الحيوانات المتشابهة فتكون مستعمرات أو طوائف أو متجمعات كما هو بارز في النحل والنمل واللبائن، وفي كل ذلك مصلحة مشتركة للأفراد المتعاونة.
على أن هناك علاقات تكون فيها المصلحة لجهة واحدة كما هي الحالة في الحشرات التي تفسد العمليات التناسلية لبعض النباتات التي تحط عليها، وزيادة على ذلك أن الحلقات الغذائية تربط مجموعة من الحيوانات كما هي الحالة في سمك القد الذي يعيش على القوقع والقوقع على الدودة والدودة على البقايا العضوية في البحر.
نسيج الحياة
لقد أصبحت العلاقات المسيطرة على النظام الطبيعي متناهية في التعقيد، وكان التطور العامل المشجع الأكبر لذلك التعقيد. فأمست بنية الإنسان أعقد من جميع الكائنات الحية، ويتراءى لنا أن نظام التطور قضى على الوحدة والتشابه، وكون تنوعات جديدة ذات صفات ومؤهلات تختلف في بعضها باختلاف المحيط الذي تعيش فيه، وهكذا سجلت خطوات الارتقاء على لوحة الطبيعة وأصبحت الكائنات الحية في مأمن من النكوص على الأعقاب في سلم التطور.
القصص
زنبل
بقلم الأديب حسين شوقي
إذا كان المسيو هريو الوزير الفرنسي الكبير قد أبدى لدى عودته من موسكو إعجاباً شديداً بروسيا الشيوعية في أحاديثه إلى مندوبي الصحف، فأنني أعرف كائنا ما كان ليشاركه في إعجابه لو كان حياً، وهذا الكائن هو قطتنا زنبل، لأن زنبل كانت أرستقراطية بحقيقة معنى الكلمة، ويحسبها نبلا أنها من مخدرات قصر يلدز. . وإني محدثك كيف آلت إلينا: كنا في الأستانة بعد خلع السلطان عبد الحميد، وكان أثاث القصر يباع يومئذ بالمزاد العلني، فذهبنا نشاهد ما عرض من طرائف التحف ونفائس الكنوز لأن شهرة يلدز بهذه العجائب لا تقل عند الناس عن شهرة مغارة (علي بابا) في الف ليلة ذهبنا إلى القصر على غير نية الشراء لأن والدي كان يعارض في ابتياع شيء من يلدز احتراماً لذكرى عاهلها المخلوع. وكان يجله ويرى فيه رمزاً لمجد الإمبراطورية العثمانية التي بدأ ظلها يتقلص فعلاً بعد سقوطه، ولكن ما كادت أبصارنا تقع على زنبل القطة الأنقرية الجميلة حتى وقفت لا تريم عنها انصرافاً. . وانقسمنا فريقين فريقاً من الصغار (نحن) يتمسك بالشراء، وفريقاً من الكبار يعارض فيه، وانتهى الخلاف طبعاً بانتصارنا، إذ كان لابد من إنقاذ زنبل من الحالة المهينة التي كانت عليها في تلك الساعة، فقد وضعت في قفص ضيق حقير ليشاهدها الرائحون والغادون. . فدفعنا الثمن خمسة جنيهات وحملناها معنا. . أما طرائف القصر الأخرى فكانت عادية لا تزيد على نظائرها في سائر القصور الملكية.
ما زلت أذكر زنبل خلال ضباب الماضي البعيد، وهي جالسة على مقعد من القطيفة في الصالون الصغير بمنزلنا القديم بالمطرية، ترتل أناشيدها في هدوء وطمأنينة. . وكم كان شعر زنبل جميلا يحاكي بياضه الناصع الثلج الذي يجلل جبال الأناضول وطنها العظيم، وكانت نعومة شعرها أشبه شيء بنعومة الزنبق.
أما عيناها فكانتا تعكسان ما تشاهده على ضفاف البوسفور من خضرة زمردية بديعة. .
وكان لحم كفيها ناعماً طرياً إلى حد إننا كنا نجد لذة في القبض على تلك الأكف الظريفة. .
كان صيد الفيران والصراصير من الأمور الحقيرة التي لا تتعرض لها زنبل، كما تفعل
ذلك القطط الأخرى. .
لأن تسلية زنبل الوحيدة كانت أن تسحب أمامها خيطاً فتجتهد هي أن تقفه بضربات يدها الصغيرة. . وطالما جررنا لها ذيلها لنوهمها انه خيط عادي فكانت المسكينة تصدق ذلك فتوسعه ضرباً. .
وفي ذات يوم وقعت حادثة أدهشت من بالمنزل جميعاً وهي أن زنبل حامل! رباه! كيف زلت زنبل الأرستقراطية؟ كيف خالطت زنبل قطط الحي وهي كلها قطط عادية شعبية لا تمت لأنقرة بنسب؟ ولكن زنبل وكأنها شعرت بالخطيئة الكبيرة التي ارتكبتها ما كادت تضع حملها حتى هجرت صغارها، فاضطررنا أن نغذى هؤلاء الصغار تغذية صناعية. كانت زنبل على حق في هجر أطفالها لأن هؤلاء الصغار كن من الصعاليك لا يليق أبداً أن ينسبن إليها. .!
بعد مرور عامين على هذا الحادث، وعودة زنبل إلى حياتها الأولى الهادئة، عزمنا على قضاء بضعة أشهر في الخارج، فعهدنا إلى أحد الخدم برعاية زنبل، والعناية بوجه خاص بغذائها، وهو دجاجة مسلوقة كل يوم، وكانت زنبل لا تأكل منها إلا اللحم.
. . . ولكن لدى عودتنا من أوربا فوجئنا بخبر وفاة زنبل، على أثر مرض لم يمهلهما طويلا. . كما قال الخادم المكلف بخدمتها. . أما الحقيقة التي عرفناها بعد، فهي أن ذلك الخادم الخبيث كان يأكل دجاجة زنبل ويعطيها عظمها فترفضه زنبل. . وهكذا فقدت حياتها، ولكن في كرامة وأباء! كما يفعل الأرستقراطيون الأصلاء. . .
كرمة ابن هانئ
الحارس
لجى دوموباسان
بعد أن فرغنا من تناول الغداء، كان قد بدأ صديق لنا قديم وهو السيد (بونيفاس) يسرد علينا حوادث ومخاطرات جرت له أثناء الصيد، وهو مشهور بالصيد وشرب الخمر، جلد، بشوش، ذو تفكير ناضج، وشعور حي، وله فلسفة تهكمية تظهر بها نفسيته عند المداعبة القارصة، ولا تظهر أبداً إذا تكلم بحزن. قال لنا فجاءة:
إنني أعرف حادثة صيد، أو بالأحرى مأساة صيد فريدة في بابها، لا تشبه أبداً الحوادث التي نعرفها، وإنني أعلم أني لم أقصها عليكم من قبل ولا على غيركم، لأنها لا تسلي أحداً، فهي ليست عاطفية، أريد أن أقول أنه ليس لها هذا النوع من اللذة التي تشوق السامع أو التي تسحره، أو التي تذهله، وهاكم الحادثة:
كان عمري آنئذ يناهز الخامسة والثلاثين، وكنت اصطاد بقوة الشباب، وكنت قد اقتنيت في ذلك الوقت قطعة أرض منعزلة في إحدى الضواحي محاطة بالغابات وهي مأوى طيب للأرانب. ذهبت إليها مرة وقضيت فيها وحدي أربعة أيام أو خمسة لأنني لم أتمكن من اصطحاب أحد الأصدقاء. مكثت هناك كالحارس أو كشرطي متقاعد شجاع شديد البأس على باب قلعته، وكنت لا أخاف شيئاً. وكان بالقرب من أرضي بيت صغير منعزل أو بالأحرى كوخ يتألف من غرفتين سفليتين ومطبخ وغرفة للطعام، وغرفتين علويتين، إحداهما صغيرة لا تتسع لأكثر من سرير ومرآة وكرسي وهي التي استأجرتها، وكان يشغل الثانية (كافالييه) الهرم، وقد قال لي أنه وحيد في مسكنه. فأقمت عنده باسم مستعار ثم أسكن معه حفيده. وهو من الأشقياء تبلغ سنة أربعة عشر عاماً كان يذهب من حين إلى آخر إلى القرية التي تبعد ثلاثة كيلومترات وكان يساعد الكهل في أشغاله اليومية.
كان لهذا الشقي الطويل الهزيل المحدودب قليلا، شعراً أصفر اللون خفيف يشبه ريش الدجاجة المقصوص، حتى ان من يراه يحسبه أصلع، وله كذلك قدمان ضخمتان ويدان جبارتان كيدي المارد، عينه حولاء قليلا، وكان إذا مشى لا يرى أحداً فهو إلى الحيوانات أقرب منه إلى الإنسان لأنه يشبه الثعلب.
كان ينام في ثقب صغير في أعلى الدرج وكان يدعى (ماريوس) ولكنه تخلى عنه أثناء
إقامتي هناك لامرأة مسنة تدعى (سيليست) كان الكهل قد أتى بها لصنع الطعام.
قد علمتم الآن الأشخاص والمكان فهاكم الحادثة:
نحن في 15 أكتوبر سنة 1854 وهو التاريخ الذي لا أنساه أبداً. خرجت ذات صباح من روان ممتطياً صهوة جوادي يتبعني كلبي (بوك) ذو الصدر الواسع واللسان الحاد والأسنان القوية، التي تخترق الأشواك.
وكنت مردفاً حقيبة سفري وبندقيتي، وكان يوماً شديد البرد، عاصف الهواء رطبه، كثيف السحاب مسرعة، وكنت أرى من الشاطئ وادي السين الواسع الذي يمتد ماؤه حتى الأفق ماراً بأوكار الثعابين على ضفتيه، وكان النظر يمتد على الضفة اليمنى حتى يقف على الشواطئ البعيدة المستورة بالغابات، ثم اجتزت غابة رومار، مبطئاً تارة ومهرولا أخرى حتى كنت في الساعة الخامسة تقريباً أمام البيت حيث كان الكهل والعجوز ينتظرانني.
وبعد عشر سنوات من نفس التاريخ ذهبت بنفس الهيئة وسلمت على نفس الوجوه بنفس الكلمات.
- أهلاً وسهلاً أيها السيد، كيف صحتك؟ ألا تزال جيدة؟
وكان الكهل لم يتغير منظره أبداً، فقد كان يقاوم الزمن كالشجرة المسنة، ولكن (سيليست) كانت قد تغيرت ملامحها منذ أربعة أعوام لا أكثر حتى أنني لم أعرفها لأول وهلة. غيرها الزمان ولكنها مازالت نشيطة. وكانت تمشي بجسمها الطويل منحنية إلى الأمام حتى أن رجليها كانتا تشكلان تقريباً زاوية قائمة.
وكانت هذه المرأة تبذل جهدها في عملها، وكانت تدهش عندما تراني وكانت تقول لي عند كل ذهاب:
- هل هذه هي المرة الأخيرة التي أراك فيها يا عزيزي؟
حقاً أن وداع هذه الخادمة محزن، وأن قنوطها أمام الموت الذي لا مفر منه كان يظهر جلياً في وجهها وعينيها حتى أن وداعها كان يؤلمني ويشعرني بحالة نفسية غريبة.
نزلت عن ظهر الجواد إلى الأرض وكان الكهل الذي صافحته يقود الجواد إلى المأوى الصغير الذي يصلح أن يكون اصطبلا، ثم تبعت سيليست إلى المطبخ الذي يصلح أن يكون غرفة طعام.
ثم تبعنا الحارس، وقد لاحظت للوهلة الأولى أن وجهه ليس كالمعتاد فأن القلق والضيق يظهران عليه فقلت له:
- هل تريد أيها الشيخ أن يسير كل شيء في العالم حسب رغبتك؟ فقال بصوت هادئ:
- إن ما حدث لي اليوم، سبب لي هذا الضيق
فقلت: ماذا حدث لك أيها الكهل؟ هل لك أن تقص عليّ ذلك فأومأ برأسه سلباً، وقال:
- لا، لم يحن الوقت أيها السيد، إنني لا أريد أن يحصل مثل هذا بعد الآن، فألححت عليه، ولكنه رفض أن يبدأ بها قبل الغداء فعلمت أنها قصة مؤثرة. ثم قلت له قطعا للصمت:
- وهذه الجعبة؟ هل لنا فيها شيء؟
- فقال: نعم، ستجدون ما تشاءون، الحمد لله! لقد كان نصيبي اليوم وافراً.
قال هذه الكلمات بشجاعة، ولكنها شجاعة حزينة تبعث على الضحك، فان شاربيه الضخمين الرماديين كانا على وشك السقوط من فوق شفته.
ثم أخبرتهما فجاءة أنني لم أر الحفيد إلى الآن فقلت:
- وماريوس؟ أين هو؟ لماذا لا يظهر الآن؟
فاعترت الحارس رجفة خفيفة ثم التفت ألي بسرعة وقال:
- أريد إذن أن أقص عليك الآن أيها السيد كل شيء، أجل إنني أفضل ذلك، وأن الذي أطويه في سري يتعلق بماريوس.
فقلت أين هو الآن؟ فأجاب:
- إنه بالإسطبل يا سيدي، وأنا أنتظر الساعة التي يظهر بها، فقلت وماذا يصنع هناك؟ قال:
- اسمع أيها السيد. . . ثم تردد برهة وتغير صوته وارتجف وظهرت على وجهه تجاعيد الشيخوخة ثم قال:
- اسمع، لاحظت في هذا الشتاء أن هناك سارقاً في الغابة ولكنني لم أتمكن من القبض عليه. فقضيت هناك بضعة ليال ولكني لم أجد شيئاً. وفي هذه الأثناء أخذ يتزايد المسروق من الغابة؛ فانفجرت غيظاً وحنقاً وطفقت أبحث عن المجرم، ولكن عبثاً.
وفي أحد الايام؛ عندما كنت أنظف سروال ماريوس وجدت في جيبه أربعين قرشاً، فقلت
في نفسي من أين لهذا الغلام بها؟
ولبثت ثمانية أيام أفكر، ثم رأيته يخرج كل يوم عندما أرجع إلى البيت لأستريح، فعندما أخذت أراقبه، ولكن دون أن يرتاب بي. وفي ذات صباح رأيته يستعد للذهاب فنهضت على خلاف عادتي وتبعته وليس أحد يجاريني أيها السيد في التتبع. ثم قبضت عليه. قبضت على ماريوس الذي كان يسرق من أرضك أيها السيد! نعم هو حفيد حارسك فغلى الدم في رأسي وفكرت في أن أقتله في مكانه بضربة من يدي، آه. نعم ضربته وقلت له أذهب، وأوعدته أنك عندما تكون هنا سأضربه مرة أخرى عقاباً له لأردعه، وقد أثر فيّ الحزن فهزلت كما ترى وأنك تعلم عقاب مخالفة كهذه المخالفة. ولكن ماذا كنت تعمل غير هذا؟ أنه ليس له أب ولا أم وليس من أسرته إلا أنا؛ فكنت أراقبه ولا أقدر أن أطرده، على أني أنذرته أنه إذا عاد إلى هذا العمل فإن خاتمته سوف تكون على يدي. ولن أرحمه أبداً، فهل صنعت حسناً أيها السيد؟
فقلت له ماداً إليه يدي.
- نعم ما فعلت أيها الشيخ! إنك رجل شجاع.
فقال: شكراً أيها السيد، وسأذهب الآن فأدعوه اليك؛ فيجب أن تؤدبه أنت أيضاً ليرتدع.
وكنت أعلم أنه ليس من اللائق أن أرد هذا الشيخ عن قصده، فتركته يفعل ما يشاء، فذهب يبحث عن الشقي ثم رجع به يجره من أذنه.
وكنت جالساً على كرسي من القش بهيئة المستعد للحكم.
فظهر ماريوس أمامي أكبر سناً وأكثر قبحاً من السنة الفائتة، وظهرت يداه الكبيرتان ضخمتين، فدفعه عمه أمامي وقال بصوت المربي:
- اعتذر لصاحب الأرض!
فلم ينبس الغلام ببنت شفة
فقبض عليه عمه من إبطيه ورفعه عن الأرض وأخذ يضربه بقسوة اضطرتني إلى أن أستشفع له فأخذ الولد يصيح
- شكراً، شكراً أعدك أن. . .
ثم ألقاه الشيخ على الأرض وأخذ يضربه على كتفيه وركبته قائلا له: - اعتذر
فقال الشقي أخيراً بصوت متهدج وطرف خاشع: أعتذر، وعندئذ رفعه عمه وأطلقه بركلة دحرجته فوق الأرض فنجا، ولم أعد أراه في المساء.
ولكن ظهر على الشيخ أنه تعب فقال: إن أخلاقه سيئة.
وقال ونحن على مائدة الغداء.
- إنني أحزن له أيها السيد، أنت لا تعلم كم يشجيني أمره.
فحاولت أن أسليه ولكن عبثاً. . .
ونمت باكراً استعداداً للصيد، وكان كلبي نائماً عند رجل سريري حين أطفأت شمعتي.
استيقظت نصف الليل على صياح الكلب، ولاحظت أن غرفتي ملأى بالدخان، فقفزت من فراشي وأشعلت النور وهرولت نحو الباب ففتحته فدخل تيار من الدخان، وكان البيت يلتهب!
فأقفلت الباب بسرعة ولبست سروالي وأنزلت أولا كلبي من النافذة بواسطة حبل مربوط في سترتي، ثم ألقيت ثيابي وسكيني وبندقيتي ونزلت أخيراً بالواسطة نفسها.
وأخذت أصيح بكل قواي: كافالييه! أيها الشيخ! كافالييه!. ولكن الشيخ لم يستيقظ، بل كان نائماً نوم الضباط العميق، وفي هذه الأثناء رأيت من أعلى النافذة أن الطابق الأسفل كالأنون المستعر، ولاحظت أنه مملوء بالتبن الذي أشتعل لتقوية الحريق. . وعاودت الصياح بشدة قائلاً: كافالييه. . ثم مر خاطر برأسي، فصوبت بندقيتي إلى النافذة وأطلقت رصاصتين فانكسرت الألواح الستة، وفي هذه المرة سمع الكهل ولما رأى النار اعتراه ذهول ودهش فصحت به:
بيتك يحترق، ألق نفسك من النافذة، اسرع، اسرع. . وكان الدخان يخرج من النوافذ السفلية، موازياً الحائط ثم يزحف إلى الشيخ ويحيط به، فألقى بنفسه فسقط على رجليه كالهرة. ثم مضى وقت، وصار السقف يفرقع وكان الدرج أشبه بمدخنة طويلة، وكان لسان النار طويل يتصاعد في الجو ويتمدد، وكانت الشرارات تتناثر حول البيت فقال الشيخ بذهول:
- كيف حصل هذا؟ فأجبت: وضعت النار في المطبخ
فقال: من تظن أنه وضعها؟ فقلت فجاءة: ماريوس! ففهم الشيخ وقال: آه ولأجل هذا لم
يرجع بعد ولكن فكرة رهيبة خطرت لي فقلت: وسيليست، سيليست؟! فلم يجب، ولكن المنزل كان ينهار أمامنا كتلاً من الأحجار لامعة دامية، وكانت المرأة المسكينة قد صارت حجراً أحمر، من اللحم البشري.
إننا لم نسمع صياحاً، ولكن عندما انتقلت النار للسقف المجاور لسقفنا فكرت في جوادي وركض الشيخ ليخلصه.
وتمكن بمشقة من فتح باب الإسطبل فشاهد جسما خفيفاً سريعاً مر بين رجليه ولطمه في أنفه، وكان هذا ماريوس هارباً بكل قواه، فنهض الشيخ ليقبض على الشقي، ولكنه عرف انه لا يمكنه اللحاق به، وأصابه جنون شديد، ولما رأى انه لا يستطيع القبض عليه تناول بندقيتي الموضوعة على الأرض قريباً منه فوضعها تحت إبطه قبل أن تبدو مني حركة واحدة، وأطلقها وهو لا يعرف أن فيها رصاصات عديدة، فأصيب الهارب في ظهره وسقط على الأرض مضرجاً بدمه، فأخذ ينكث الأرض بيديه ورجليه كأنه يريد أن يركض على أربع كالأرانب الجريحة حين ترى الصياد قادماً إليها.
فتألمت، وأخذ الغلام ينازع ثم قضى قبل أن ينطفئ الحريق دون أن يقول كلمة.
وكان كافالييه واقفاً بقميصه وساقيه العاريتين، لا يتحرك وعندما أتى رجال القرية حملوا حارسي وهو كالمجنون.
ذهبت إلى المحكمة شاهداً وسردت الحادث بتفاصيله دون أن أبدل شيئاً، فبرئ، كافالييه، ولكنه ترك البلدة في اليوم نفسه ولم أعد أراه. هذه قصة صيدي أيها السادة.!
محمد ناجي الطنطاوي
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك
ترجمة الدكتور حسن صادق
مليزاند: خل سبيلي. . . قد يباغتنا أحد. . .
بلياس: كلا، كلا، لن أطلق سراحك الليلة، أنت سجينتي، وستظلين كذلك الليل كله. . .
مليزاند: بلياس! بلياس!
بلياس: لن تستطيعي الفكاك بعد ذلك. . . إني أربط شعرك حول الأغصان. . . لم أعد أتألم وسطه. . . أتسمعين قبلاتي ترقص على امتداده؟ إنها تتسلقه، ويجب أن تحمل كل شعرة إليك قبلة. . . أنظري. . . أستطيع الآن أن أفتح يدي. . . أترين؟ هاتان يداي مفتوحتين طليقتين، ومع ذلك تعجزين عن هجري والابتعاد عني!
(يخرج من البرج يمام ويطير حولهما)
مليزاند: أوه! آلمتني. . . ما هذه الطير التي تحوم في الفضاء حولي؟
بلياس: اليمام خرج من البرج. . لقد أفزعته فطار
مليزاند: أنه يمامي يا بلياس! اذهب من هنا ودعني وحدي لن يعود إلي يمامي!
بلياس: ولماذا؟
مليزاند: سيضل في الظلام. . . دعني أرفع رأسي. . . إني، أسمع وقع أقدام. . . اتركني بربك. . . إن (جولو) مقبل علينا! أعتقد أنه هو! لقد سمع حديثنا. .
بلياس: انتظري! انتظري! شعرك عالق بالأغصان. . وقد اشتبك في سواد الليل. انتظري!
انتظري!. . . التف الكون بالظلام. . .
(يدخل جولو من الطريق المستديرة)
جولو: ماذا تصنع هنا؟
بلياس: ماذا أصنع هنا؟. . . إني. . .
جولو: أنتما طفلان. . . مليزاند، لا تنحني هكذا على النافذة. . ستسقطين. . . أنسيتما أن شطراً كبيراً من الليل قد تردى في هوة الماضي؟. . . كاد الليل أن ينتصف. . . لا يجوز أن تلعبا في الظلام كما تفعلان الآن. . . أنتما طفلان. . . (ثم يقول في انفعال شديد) أي
طفلين، أي طفلين!
(يخرج مع بلياس)
المنظر الثاني:
(كهوف تحت القصر. يدخل جولو وبلياس)
جولو: أحترس. . . من هنا من هنا. . . ألم تلج قط هذا المكان؟
بلياس: بلى، مرة واحدة. . . وقد مضى على ذلك زمن طويل
جولو: إذن أنتظر. . . ها هو ذا الماء الراكد الذي حدثتك عنه. . أتشم رائحة الموت التي تنبعث منه؟ هلم نتقدم حتى نبلغ آخر الصخرة المطلة على الماء، ثم انحنى عليها قليلاً. . . ستهب عليك الرائحة وتصدم وجهك. . انحنى ولا تخف، سأشد أزرك. . أعطني لا. لا. . لا أريد يدك. . أخشى أن تفلت من يدي. . أعطني ذراعك. . . أترى الهاوية؟ بلياس؟ بلياس؟
بلياس: نعم. أعتقد أني أرى قاع الهاوية. . . أهو النور الذي يهتز هكذا؟. . . أنت. . .
جولو: نعم. إنه المصباح في يدي يهتز. . انظر، إني أحركه لأنير الجدر. .
بلياس: إني أختنق في هذا المكان. هلم نخرج
جولو: لك حكمك
(يخرجان في صمت)
المنظر الثالث:
(شرف عند مخرج الكهوف)
بلياس: آه! الآن أتنفس بعد ضيق. . . اعتقدت، لحظة؛ أن الدوار سيصرعني في هذه الكهوف الهائلة. . كنت على وشك السقوط. . في ذلك المكان المخوف هواء رطب ثقيل كأنداء من الرصاص، وظلمات كثيفة كعجين مزج بالسموم. . وهاأنذا أملأ رئتي بهواء البحر كله!. . إني لأجد نسيما منعشاً نضيراً، كزهرة تفتحت في هذه اللحظة وسط أوراق صغيرة خضراء. . آه! لقد سقيت منذ قليل الأزهار المغروسة أمام الشرف، والنسيم يحمل إلينا رائحة العشب المبلل ويفوح بشذى الأزهار وعطرها. . حان وقت الظهر أو كاد، وآية ذلك أن ظل البرج قد أدرك الأزهار. انتصف النهار، لأني أسمع دق النواقيس وأرى
الأطفال يجرون نحو شاطئ البحر للاستحمام. آه! أنظر. أمنا وميلزاند في إحدى نوافذ البرج
جولو: نعم إنهما لجأتا إلى ناحية الظل يعصمهما من حرارة الشمس. . وبمناسبة ميلزاند أقول لك إني سمعت ما جرى وما قيل أمس مساء. إنه حديث أطفال يلعبون، وأعرف ذلك جد المعرفة ولكن يجب ألا تعودا إلى ما كنتما فيه من حديث ولعب. إنها رقيقة الحس ورقيقة الأعصاب، وحالها تتطلب معاملة فيها حسن السياسة ولطف الكياسة، لأنها فوق ما ذكرت تحمل في أحشائها جنيناً وستصبح أماً في القريب العاجل. وأقل انفعال قد يصيبها بمكروه. وليست هذه بأول مرة أرى فيها ما يجعلني أظن أن بينك وبينها أشياء. . إنك أكبر منها سناً، ويكفي أن أقول لك ذلك. . تجنبها ما استطعت، ولكن في غير تصنع. . أسمعت؟ في غير تصنع (يخرجان)
المنظر الرابع:
(أمام القصر. يدخل جولو وولده إينيولد الصغير)
جولو: تعالي نجلس هنا يا إينيولد. تعالي. على ركبتي. سنرى من هذا المكان ما يجري في الغابة. لم أعد أراك يا بني منذ أيام كثيرة. أنت أيضاً تهجرني وتزوَّر عني معرضاً! إنك في كل حين عند أمك الصغيرة (يعني مليزاند). . . آه! ها نحن أولاء نجلس تحت نوافذها مصادفة. . لعلها في هذه اللحظة تؤدي صلاة المساء. . ولكن دعنا من هذا وقل، يا بني: إنها تقضي أكثر وقتها مع عمك بلياس، أليس كذلك؟
الكتب
دار المعارف الإسلامية
الأستاذ احمد أمين
لعل أكبر عمل قام به المستشرقون هو تأليف دائرة المعارف
الإسلامية، قصدوا بها أن يجمعوا بحوثهم ومعلوماتهم في كتاب جامع
مرتب على حروف الهجاء، يتكلمون فيه عن البلدان والموضوعات
التاريخية والفقهية والنحوية واللغوية الخ ويترجون فيه للأعلام.
وقد بدأوا عدتهم في ذلك بنشر الفكرة بين علماء الاستشراق سنة 1899 على ما أذكره، وأخذوا يجمعون المواد ويرتبونها ويوزعونها على العلماء من هولنديين وألمان وإنجليز وفرنسيين وإيطاليين وغيرهم من الشرقيين، وظلوا في هذا الأعداد نحو عشر سنوات، ثم أصدروا الأعداد تباعاً باللغات الثلاث الإنجليزية والفرنسية والألمانية، كل عدد يقع في نحو ثمان وستين صفحة بالخط الدقيق.
واعتزموا إخراج هذا المعجم في أربعة مجلدات ضخام كل مجلد يقع في أكثر من ألف صفحة، وقد أخرجوا إلى الآن مجلدين وأعداداً من المجلدين الثالث والرابع وقد عنوا بتوزيع الموضوعات على المختصين فيها فكثير من الموضوعات المتعلقة بالفقه والأصول كان يكتبها جولذ زيهبر والأدبية (هوار) وهكذا.
ولم يستوفوا في كتابتهم كل ما يجب أن يكتب حول الموضوع وإنما اقتصروا على أهمه ووكلوا الإفاضة في ذلك إلى المراجع التي يذكرونها عقب كل مادة ثم يذيلونها باسم من كتبها، ولهم إلى الآن نحو خمسة وعشرين عاماً يوالون إخراج أعدادها، وربما كان أمامهم نحو عشر سنوات أخرى لإتمامها، فهم في كل عام يخرجون عددين أو ثلاثة، وكلما انقرضت طبقة من العلماء والناشرين حلت محلهم طبقة أخرى ينهجون منهجهم ويسيرون في طريقهم وان كان الرعيل الأول أمتن وأعمق من الرعيل الذي خلفه، والكتاب في جملته من أهم الكتب التي تفيد الباحث وترشده إلى أهم ما قيل في الموضوع وتدله على خير الكتب العربية والإفرنجية التي يصح أن يرجع الباحث إليها للاستزادة منها.
وكثيراً ما فكرت لجنة التأليف والترجمة والنشر في تعريبها حتى ينتفع بها قراء العربية في الممالك الشرقية ولكن أكثر ما كان يعوقهم أمور:
(الأول) إن العمل لم يتم بعد، وقد سار المؤلفون في ترتيبها مراعين الكلمة العربية بحروفها الإفرنجية فوضعوا مثال كلمة (عبد) في حروف الألف. وكثير من المواد التي لم تؤلف بعد هي في حرف الألف بالعربية، وان كانوا هم قد أتموا حرف الألف بالإفرنجية فكلمة (أسامة) و (أرجوان) يجب أن توضع في حرف الألف بالعربية وهي توضع في حرف بالإفرنجية فلإتمام كل حرف يجب أن ينتظر إلى إتمام الكتاب.
(الثاني) أن كثيراً من الموضوعات نظر فيها العلماء المستشرقون نظرة خاصة غير النظرة التي ينظرها المسلمون وعالجوا نواحي قد يهم المسلمين غيرها، وبعضهم كان متعصباً فكان يمزج عصبيته ببحثه كما فعل الأب لامانس في بعض ما كتب، وهذا يوجب أن يكتب الموضوع من جديد ومن غير تحيز.
(الثالث) أن بعض الموضوعات قد تغير فيها نظر العلم منذ كتبت، فالكتب التي عثر عليها في هذه الأعوام الثلاثين،
والنقوش التي استكشفت، وجهود العلماء، جعلت المادة لو كتبت من جديد لكانت أدق وأوفى، وجعلت المراجع التي يجب أن يشار إليها أتم وأكمل.
(الرابع) أن المواد لما وزعت على الأعضاء لم تخرج متناسبة فقد رزقت بعض المواد الحظوة التامة فملأت الكتابة عليها كثيراً من الفراغ على حين أن مادة أهم منها قد لا تذكر بتاتاً أو تذكر في قليل من الإيجاز فخرج الكتاب غير متناسب الأجزاء.
هذا كان تفكير الشيوخ، والشيوخ دائماً حذرون يكثرون التفكير في العواقب ويحسبون لكل خطوة ألف حساب، فما هو إلا أن نهض الشباب ولا راد لنهضته فهزأ بكل العقبات وثابر على العمل وجد واقتنع بأن إخراج العمل مع ما قد يكون فيه من نقص أجدى على العالم العربي من الانتظار، فليخرج ولينتفع به القراء والباحثون ولينتقد ثم ليصلح النقد، وليكن فيه تقصير ولكن هذا التقصير يستدرك، فسنستدركه نحن أو يستدركه غيرنا، هذا خير ألف مرة من التسويف وانتظار الزمن وانتظار الكمال، إذن فلننهض بحمل العبء، وليجد غيرنا في نقدنا وإصلاح ما فاتنا، فمن وراء هذا وذاك عمل مجيد أقل ما فيه أنه عمل يطلع علماء
الشرق على عمل الغرب في مادتهم وعلومهم، ويعلمهم كيف يبحثون ويرتبون معلوماتهم، ويضعونها تحت السبر والاختبار، ويبعث علماء الجيل القادم في الشرق أن يهبوا من رقدتهم فيضعوا بأنفسهم ولأنفسهم معاجم ودوائر معارف يعدونها إعداداً صحيحاً وافياً ثم لا يكونوا عالة يتكففون الغرب.
لعل هذا وأكثر منه هو ما دار في نفوسهم وحفزهم للعمل فتحملوا العناء مبتسمين راضين.
لقد أخرجوا لنا باكورة عملهم في هذا العدد الأول وهو في ورقاته القليلة يدل على ما وراءه من جهد كبير، فهم بلا شك قبل ذلك ترجموا كل كلمات الدائرة ورتبوها حتى تكون متسلسلة محكمة، وهم بلا شك راجعوا كثيراً من النصوص واستفتوا كثيراً من العلماء فيما غمض عليهم، واستعانوا بهم فيما نرى أثره من تعليقات.
قد قرأت هذا العدد وراجعت بعض مواده على الأصل الإنكليزي ووافقت الأستاذ إسماعيل مظهر على بعض وجوه النقد المنشورة في هذا العدد والتي ستنشر في العدد التالي، ولكن أهم ما لاحظته وأود أن يتداركوه في الأعداد القادمة أن الترجمة ينقصها كثير من الصقل، فالقارئ يشعر دائماً أن العبارة مترجمة عن أصل أجنبي مع أن مقياس جودة الترجمة فقدان هذا الشعور وأن يخيل للقارئ أنها كتبت بالعربية ابتداء.
من أمثلة ذلك ما جاء في صفحة 14: (ومن واجب كل مسلم أن يعمل المعروف وأن ينهى عن المنكر) مع أن المألوف في العربية: (أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) وما جاء في صفحة 13: (وهم دون أن يجادلوا في شرعية حكم الخلفاء الأربعة الراشدين كما يفعل الشيعة يصرون على أن القدوة الحسنة بعد النبي كانت في أبي بكر وعمر) فمحال أن تصدر هذه الجملة من كاتب يضع كتابه بالعربية، إلى أمثال من ذلك يكاد يجدها القارئ في كل صفحة. فلعل مرونة القلم والصبر على التجويد والرغبة في تحقيق الأكمل يذهب بهذا النقص في الأعداد القادمة.
وأخيراً أحيي في الشباب هذا الجد والنشاط وأكبر هذه العزيمة وأتمنى للمشروع النجاح؟
معجم الحيوان
تأليف الدكتور أمين باشا المعلوف
ليس هذا السفر الجليل مما تجوز معه القراءة السريعة والنظرة
العجلى، لأنه ليس لغواً من القول وحشوا من الكلام، بل لابد لك، إن
أردت أن تحصل مما فيه شيئاً، من وقفة طويلة يحدوها الصبر الجميل.
ذلك لأنك بصدد بحث علمي دقيق فهو معجم لأسماء الحيوانات بقلم
الفريق أمين المعلوف، ذكر فيه لكل حيوان اسمه العربي والفرنسي
والإنجليزي فضلاً عن اصطلاحه العلمي. ووصف كل حيوان وصفاً
أوجز فيه حيناً وأسهب حيناً آخر، إذا اقتضى الأمر إيجازاً أو إسهاباً.
وليس هذا المعجم وليد اليوم، إنما هو مقالات نشرت في مجلدات عديدة من المقتطف. بدئ في نشرها منذ أكثر من عشرين عاماً، ولكن الدكتور المؤلف قد توج هذا المجهود العظيم، وأتم على قراء العربية فضله ونعمته، بأن جمعها وبوبها ورتبها في معجم واحد، فملأ بذلك مكاناً شاغراً في المكتبة العربية وأحب أن أسوق إليك مثلاً لدقته في البحث، ما جاء عن ترجمة كلمتي ،؛ فقد كان شائعاً بيننا أن الأولى تطلق على النمر، والثانية على الفهد، ولكنه أثبت خطأ هذا التعريب، وبين أن معناها ببر، وأن معناها نمر، أما الفهد فهو ما يقول عنه الإنجليز ويحسن أن ننقل إلى القارئ نص ما جاء بالمعجم في تعريب كلمة ليرى المراجع التي استند إليها المؤلف: ببر (فارسية معربة) ، سبع هندي يعادل الأسد في عظم الجثة والقوة إلا أنه أشد منه بطشاً وهو أبيض البطن والجانبين مع صفرة، ومخطط بخطوط سود.
ولابد لي من الإطالة في الكلام على الببر والنمر والفهد والوشق وعناق الأرض، وذلك لكثرة الخطأ في ترجمة هذه الألفاظ. فالعرب لم يكن عندهم لفظة يعبرون بها عن هذا الحيوان المسمى عند الإفرنج فاستعملوا اللفظة الفارسية ولم يسموه نمراً ولا النمر الهندي، ولا بأس بتسميته بالأسد الهندي كما جاء في محيط المحيط فانه أقرب إلى الأسد منه إلى
النمر. وقد وردت لفظة الببر كثيراً في المؤلفات العربية وفي الشعر العربي والمقصود بها هذا الحيوان المخطط المسمى عند الإفرنج، فقد جاء في كتاب عجائب المخلوقات (الببر حيوان هندي أقوى من الاسد، بينه وبين الأسد معاداة، وإذا قصد الببر النمر فالأسد يعاون النمر) وقال الدميري في آخر كلامه عن الببر: (وذكر في ربيع الأبرار أن الببر على صورة الأسد الكبير وهو أبيض يلمع بصفرة وخطوط سود) وقال الجاحظ: (الفيل والببر والطاووس والببغاء والدجاج السندي مما خص الله به الهند) وقال في محل آخر: (لأن هذه السباع القوية الشريفة ذوات الرياسة كالأسد والببور والنمور لا تعرض للناس إلا بعد أن تهرم فتعجز عن صيد الوحش). وهو ما يقوله الإفرنج الآن عن هذه الحيوانات عندما تضرى بأكل لحوم البشر. ثم قال في محل آخر: (والببر الهندي مثل الفيل أيضاً والكركدن فلا يقوم له سبع ولا بهيمة، ولا يطمع فيه ولا يروم ذلك منه *). وقد وردت هذه اللفظة في كتاب كليلة ودمنة ويفهم من سياق القصة انه من الحيوانات المفترسة، فلو كان المقصود به أحد السباع المعروفة عند العرب كالنمر أو الأسد أو الفهد لما تعذر على ابن المقفع استعمال لفظة عربية حتى أتى بكلمة أعجمية. وقد ترجمت هذه اللفظة في النسخة الإنجليزية من كتاب كليلة ودمنة وورد ذكرها في مفردات ابن البيطار في آخر باب النمر حيث قال:(والببر سبع كبير) وترجمت الفرنسية. وهذه اللفظة مستعملة في بعض أنحاء الهند في وقتنا الحاضر لهذا الحيوان بعينه، وكذلك الفرس فانهم استعملوها بهذا المعنى أيضاً كما ورد في شرح جامع التواريخ لكاترمير، فقد ذكر الشارح كلمة ببر وقال عنها: الخ.
ولشد ما أدهشني هذا الخطأ الذائع الذي لم يجد قبل الفريق أمين المعلوف من يرده إلى صوابه، ولم يقتصر أمر هذا الخطأ على طلاب المدارس والمشتغلين بالترجمة جميعاً، بل تعداه إلى أكبر دائرة فنية في مصر وهي حدائق الحيوانات، فأنا أعلم أن إدارة تلك الحدائق تضع الكلمة العربية (نمر) إلى جانب اللفظة الإنجليزية تعريباً لها، وقد أنبأني صديق منذ أيام أنها أدركت أخيراً هذا الخطأ فأصلحته منذ أمد قصير.
وقد أتيحت للدكتور المعلوف فرصة قل أن تتوفر لغيره، وهي هذا التجوال في أنحاء السودان وبلاد العرب، فجمع من الطبيعة نفسها، ومما سمعه من أفواه الشعوب التي مر بها من المعلومات ما لا يوجد بين دفات الكتب. مثل ذلك كلمة (أصله) التي ورد ذكرها في
أساطير الأولين أنها حية وكفى دون أن يعلم لحقيقتها وجود، فاستطاع أثناء وجوده بالسودان أن يطبق هذا الاسم على مسماه لأنه سمع الأهلين هناك يطلقونه على نوع خاص من الحيات.
لست أريد أن أفصل هنا الخلاف الذي قام بين الفريق أمين المعلوف والدكتور محمد شرف، إلا أنني أميل إلى الاعتقاد بأن الدكتور شرف قد استقى مما نشره الدكتور المعلوف شيئاً كثيراً دون أن يشير إلى ذلك في معجمه، وكان خيراً أن ينسب الفضل لذويه.
ز. ن. محمود
دائرة المعارف الإسلامية
نقد وتقدير
للأستاذ إسماعيل مظهر
العدد الأول من المجلد الأول في 64 صفحة من القطع الكبير محلى بصورة جلالة ملك مصر وصدر بمقدمة في 6 صفحات من قلم، لجنة الترجمة، والورق ممتاز والطبع حسن.
بورك في الشباب! بورك في الشباب عامة والطامحين منهم خاصة. فالشباب روح الأمم وعمادها. والطامحون من الشباب هم بناة المجد وسدنة الحضارة وعمد القوة. والشباب إذا نام خيم على الأمم النسيان وغشيها السكون وهوّم عليها النعاس. نعاس القرون بل نعاس الحقب والدهور. والشباب إذا تيقظ ودارت رحاه قذف بالكرات الواقفة على عجلة الدائرة إلى فضاء العدم، واستخلص من لباب الأمم كرات جديدة تساير رحاه في حركتها وتضيف إليها قوى جديدة يستعان بها على بلوغ الغرض الأسمى والمثل الأعلى. أما الشباب القانع المستنيم للدهر وللاقدار، فلا خير فيه إلا يقدر ما في البذرة الحية من الاحتفاظ بجنينها، لتستلمه إلى الطبيعة حياً عسى أن تكون منه جرثومة تخرج شباب الطموح والاستعلاء والتطلع إلى اللانهاية.
شباب قنع لا خير فيهم
…
وبورك في الشباب الطامحينا
ونحن اليوم أمام عمل يقوم به الشباب المتوثب إلى المجد، المتعطش إلى المعرفة، الوثاب إلى المثل والغايات. عمل أقل ما يوصف به أنه أثر جليل من آثار القوة والجرأة النادرة التي تنبأنا بأن عجلة الشباب قد أخذت تدور لتقذف بالكرات الواقفة، وتجمع من حولها الكرات الدائرة. فان ترجمة موسوعة كاملة، في أي موضوع كانت، ومن أي مصدر استقيت، لعمل عظيم. فكيف بموسوعة كدائرة معارف الإسلام وعت ألواناً من التاريخ والفقه والتصوف والفلسفة واللاهوت والترجمة والجغرافية وعلم الهيئة إلى غير ذلك مما وعت حياة العرب قبل الإسلام وبعده. فان العلاقة بين الإسلام والجاهلية لعلاقة شديدة الآصرة تتعارض في نسيجها خيوط من روح الأمم العربية والأمم التي دانت بالإسلام. وكل هذا يزيد من صعاب العمل على المؤلفين، ولا يجعله هيناً على المترجمين. فإننا لم نعن بعد بتبويب ما وصل إلينا من فروع المعرفة التي تلقيناها عن العرب، ولم نفكر حتى
في تصنيف أسماء الكتب التي تعتبر مراجع صحيحة تعود إليها في معرفة أسماء البلدان أو الأشخاص أو الأماكن، أصلية كانت أو معربة عن اللغات الأخرى كاللغات السامية، ومنها السريانية والآرامية. واللغة الإغريقية على الأخص. ولقد كان هذا سبباً في أن يتورط مترجمو هذه الموسوعة في أخطاء هم أبعد الناس عن أن يقعوا في مثلها عن قصد، أو عن حاجة إلى الصبر على البحث أو عن زهد في توخي الكمال المستطاع. ولو أننا أردنا أن نذهب في نقد العدد الأول وهو باكورة هذا العمل الذي يرقبه أديب عراقي (كما يرقب الصائم هلال العيد) مذهب الإطناب لا الإيجاز لاحتجنا إلى الوقت وإلى الفراغ. لهذا نعمد إلى بعض المواد ونتناولها بالمناقشة البريئة من كل غاية إلا أن يتدارك شبابنا الطامح بعض الأخطاء التي نرجح إننا قد نعدها على حق. ونصيحتنا التي لا نرمي من وراءها إلى أي غرض بعيد عن توخي الاصلاح، أن يعيد مترجمو هذه الموسوعة النظر فيما طبع منها وما لم يطبع، وان يستعينوا بذوي التجربة والنظر، وان يترفعوا في عملهم هذا عن فكرة الاعتزال به عمن يستطيعون أن يعاونوا فيه صوناً لسمعة أعمالنا الأدبية أن ينتابها النقص أو تنتقصها الأنانية.
على أنني أريد أن الفت نظر اللجنة المحترمة إلى عبارة وردت في المقدمة جاء فيها: (ومما يغتبط له قارئ هذه الدائرة أن أعلام مصر سواء أكانوا من علماء الأزهر الشريف أو من أساتذة دار العلوم أو الجامعة المصرية قد ساهموا بنصيب وافر في مراجعة الترجمة والتعليق إلى بعض الفقرات، وفي إبداء الملاحظات القيمة والآراء السديدة) هذه هي العبارة وأني لأعجب كيف أن أعلام مصر من علماء الأزهر الشريف وأساتذة دار العلوم الجامعة المصرية قد فاتتهم هنات هينة وأخطاء نحوية مثل قولهم (طبع مرتان)(راجع مادة أبشقة ص 63) وغير ذلك مما نمسك عنه ونكتفي بتوجيه نظر اللجنة إليه.
بيد أنا إن اكتفينا هنا بالإشارة البسيطة فأننا نود أن نعبر عن أسفنا الشديد لإيراد مثل العبارة التي نقلناها عن المقدمة فان فيها لتفريطاً، وان فيها لمغالاة، وإن فيها لأشراكاً لأعلام مصر أجمعين في أخطاء مثل التي سوف نسوق الكلام فيها.
والآن نبدأ بمادة (أبخاز) وقد وقع عليها النظر إتفاقاً، فاثرنا ألا ننتقل إلى غيرها ومضينا في مراجعتها فبانت لنا الملحوظات الآتية:
(1)
جاء في ص 20 نهر 2 (وكان الابخازيون يعرفون قديماً باسم أبسكوي (عند المؤرخ آريان) وباسم أبسجي (عند بلنياس ويذكر بروكوبيوس (في القرن الخامس الميلادي) أن الابخازيين كانوا تحت حكم اللازوي. وجاء في ص 21، نهر1، (وكان سيدرنيوس البيزنطي) الخ. والصحيح في تعريب الأسماء أن نجري فيها على القواعد التي جرى عليها العرب، فلا تقول بلنياس بل بلنيوس، ولا تقول بروكوبيوس بل فروقوفيوس، ولا تقول سيدرنيوس بل قذرنيوس، أما قواعد التعريب فحديث طويل ليس هنا محله.
(2)
(ولكن الأسباب الجغرافية وحدها تجعل احتلال هذا الإقليم احتلالاً فعلياً بعيد الاحتمال)(ص20 نهر 2) والأصل الإنجليزي كما يلي
والمحصل من الترجمة والأصل أن المترجم وضع كلمة (الأسباب الجغرافية) مقابل والأصح أن يقال (العوامل أو المؤثرات أو الموانع الجغرافية) لأن كلمة الأسباب تتضمن معنى (الناموس) الثابت في حين أن كثيراً من المؤثرات الجغرافية ينتابها التغير إن سريعاً وان بطيئاً على تتالي الأجيال وخضوعاً لسنن يعرفها الفلكيون والجيولوجيون على الأخص. ووضع المترجم كلمة (تجعل) لتقابل والكلمة الإنكليزية معناها (كفت)، ثم أنه ساق الجملة العربية في صيغة المضارع وهي في الأصل بصيغة الماضي لانها تتكلم عن ماض محدود بالزمان. ووضع كلمة احتلال لتقابل في حين أن احتلال معناها في الإنجليزية ولكن معناها إخضاع. والظاهر أن المترجم لم يهتف مرة واحدة بسقوط الاحتلال لا بالإنجليزية ولا بالفرنسية، ووضع العبارة الإنجليزية
لتقابل بعيد الاحتمال، والحقيقة أنها وضعت لتدل على أن: العوامل الجغرافية وحدها كفت لان تصرف العرب عن التفكير في إخضاع الإقليم إخضاعاً تاماً. والواقع أن احتلال إقليم قد يجوز أن يكون تاماً ولكن الإقليم لا يكون خاضعاً بالفعل. فان إيطاليا احتلت طرابلس احتلالاً عسكرياً تاماً بأن بددت كل قواه العسكرية، ولكن إخضاع أهل الإقليم لم يتم إلا بعد زمان طويل. والفرق بين الاحتلال والإخضاع لا ينبغي أن يغيب عن ذهن مترجم يكتب في أبحاث تاريخية سياسية. لأن ملاحظة مثل هذه الفروق الدقيقة ضروري لينطبق تصور القارئ دائماً على الحالات التي يريد المؤرخ أن ينقلها إلى مخيلته.
(3)
(وقد أخضع جستنيان الإمبراطور الروماني الابخازيين فاعتنقوا المسيحية). (ص20
نهر 2) والخطأ هنا في تعريب اسم الإمبراطور الروماني (يوستنيانوس) لان حرف ينطق (ياء) فأثبته المترجم (جيما) على الضد من كل الأصول المرعية.
(4)
(ومنذ ذلك العهد أصبحت لغة جورجيا لغة الأدب). (ص21 نهر1) وما هي لغة جورجيا،؟ المؤلف يقصد هنا لغة أهل الكرج التي عربها المترجم باسم جورجيا حرفياً. في حين أن العرب ومن أتى من بعدهم قالوا الكرج. ومن الأسف أن المترجم جرى على هذا الخطأ في كل الجزء المطبوع. فقال ملك جورجيا وهو ملك الكرج تحقيقاً.
(5)
(وعند البحث عن أصل موطن البجراتونيين يجب أن نتجه نحو الغرب (نحو جرخ وريون). وفي الأصل الإنكليزي & والمفهوم من العبارة الإنكليزية أن المؤلف يقصد شواطئ نهرين ولو لم أتحقق من ذلك بل أدركه بالسليقة فقال (نحو الغرب على الكرخ والريون. فجاءت الترجمة غامضة بعيدة عن الأصل. وكذلك يجب أن نلاحظ أن المترجم قد اكثر من ذكر الابخاز بصيغة جمع الجمع فقال الابخازيين والبجراتونيين وغيرهم. في حين أن الابخاز جمع كالأعراب. ولا يصح أن تقول أعرابيين أصلاً. أما في البجراتونيين فقد اصطلح مثلاً على أن ندعو القبيلة التي انحدر منها أهل أثينا القديمة (فلاسجة) وأسمها الأصلي في الإنجليزية صيغة عربية مقبولة تجرى على قواعد التعريب المتبعة. فكان الواجب على المترجم إذن أن يقول البجارطة بدل البجراتونيين. هذا إذا لم يكن العرب قد اصطلحوا على تعريب لأسم هذه القبيلة، ولا أتصور أن يكون بعيداً كثيراً عما اذهب إليه.
(6)
وورد في خطاب الإمبراطور طرابزون أنه كأنه لأمراء
الأبخاز جيش يبلغ عدده. . . 30 مقاتل (ص21 نهر 2) وفي
الأصل الإنكليزي: 1459 ، والفرق بين الأصل
والترجمة شاسع. فالترجمة تقول (في خطاب الأمبراطور). .
والأصل في خطاب من الإمبراطور. . . . وهنالك فرق لا
يخفى بين خطاب لإمبراطور وخطاب من إمبراطور، فضلاً
عن أنه اسقط السنة المسكينة (1459) من الترجمة كلية.
(7)
لم يستطيع الابخازيون أن يتخلصوا من سلطان الترك ونفوذ الإسلام في حين كانت المسيحية تتناقص في بطء شديد. (ص21 نهر 2) والاصل الإنكليزي ذكر كلمة خطأ تتناقص والحقيقة تستأصل. لان النقص يعبر عنه في الإنكليزية بكلمة ويقابله الزيادة فضلاً عن ركاكة التعبير الذي نحسه في استعمال تناقص ببطء شديد.
(8)
ومنذ انفصال جورجيا صار يحكم بلاد الابخاز كاثوليكيوها (الذين ذكروا في القرن الثالث عشر للميلاد) في بتزند (ص21 نهر2) والأصل الإنكليزي كما يلي:
والخطأ هنا فاحش. فان المؤلف لو كان قد أراد أن يقول أن البلاد كان يحكمها كاثوليكيوها لقال وكأنه من الواجب أن يدرك المترجم أن كلمة تدل على وظيفة كنيسة كما يفهم بدياً من سياق الجملة ومن سياق الحديثمعا. أما كلمة فقد عربت وأثبتت في المعاجم العربية ونقلت عنها إلى المعاجم الإنكليزية العربية الكبرى. فجاء في قاموس (بدجر) الفقيه الإنجليزي المعروف أمام هذه الكلمة (الجثالقة جمعاً مفردها جاثليق). وجاء في القاموس المحيط للفيروزابادي (هو الجاثليق بفتح الثاء المثلثة رئيس للنصارى يكون في بلاد الإسلام ويكون تحت يد بطريق إنطاكية ثم المطران تحت يده ثم الأسقف يكون في كل بلد من تحت المطران ثم القسيس ثم الشماس). (ص217 مجلد3).
وهذا يدل على أن المترجم قد أخطأ، وأنه أخطأ خطأ فاحشاً من الوجهتين التاريخية والعلمية فالتاريخ لم يثبت أن الكثالكة كان لهم حكم مدني في بلد من بلاد الإسلام. والناحية العلمية، كما يدل سياق الكلام في الأصل، تشير إلى أن الجثالقة كان يناط بهم ان يرعوا أحوال النصارى الشخصية على قواعد الدين النصراني تحت حكم الإسلام المدني. وعلى هذا يجب أن تكون الترجمة على خلاف ما جاء في (دائرة المعارف الإسلامية)، ويجب أن تكون كما يأتي (ومنذ الانفصال عن الكرج (لا منذ انفصال جورجيا لأن الأصل كان للبلاد جاثليقها المقيم في يتزند. أما الجملة المعترضة التي جاء فيها والتي ترجمها المترجم بقوله:(الذين ذكروا في القرن الثالث عشر الميلادي) ويقصد بهم الكاثوليك خطأ بعد أن خلقهم من وهمه والوهم خلاق، فيراد بها أن بقية الحكام الذين يمثلون نواحي الحكم الأخرى كانوا يذكرون منذ القرن الثالث عشر الميلادي. وإذن يكون تعيين جاثليق يرعى
مصالح النصارى لم يأت إلا بعد أن أمتد نفوذ الإسلام، واحتاج الأمر إلى راع يرعى مصالح الأقلية المسيحية في بلاد إسلامية.
(9)
(وفي عام 1462 م (في عهد الملك بحرات الثاني) ثبت أمراء أسرة شروشيد في مراكزهم) والأصل الإنكليزي كما يلي:
1462
وأنت تتساءل ما هي مراكزهم هذه؟ هي أنهم اعترف بهم أمراء. وهكذا يريد الأصل أن يقول. ولكن المترجم يريد أن يقول أنهم ثبتوا في مراكزهم لا غير. وعلى القارئ أن يضرب الرمل ويناجي الودع ليعرف في أي المراكز ثبتوا. ولو تصور أنهم ثبتوا في الأرض بالإسمنت المسلح لكان له عذر.