الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 190
- بتاريخ: 22 - 02 - 1937
على هامش الرتب والنياشين
شكر المنعم واجب
قال لي صديقي وهو أبيٌّ وفي نزيه: ألا يوحي إليك إنعام العرش وإكرام الوزارة كلمة في الرسالة؟ فأجبته جوابا أملس لا يتماسك عليه إيجاب ولا سلب؛ لأن نفسي قلما تنفعل لما يشغل الناس من ضحكات القلوب في هذه الحياة. فقال في لهجة حادة جازمة: إذا لم تكتب أنت كتبت أنا، لأن الأمر بالنسبة إليك يستغرق الفكر طويلا ويستوجب الشكر جهرة
انصرفت عن صديقي ومضيت في طريقي أقاول نفسي في اقتراحه، وأداول عقلي على رأيه. فانثالت على خاطري معانٍ لا أدري أين كانت
لا جرم أن الأمر بالإضافة إلي يستغرق كما قال صديقي الفكر طويلا ويستوجب الشكر علانية، ولا ريب أن واجب الشكر على هذا العطف السامي لا يسقط عني بتسجيله في دفتر التشريف بقصر المُلك ودار الرياسة، فإني لم ألق همي إلى هذا الأنعام، ولم أضع نفسي في طريق هذا الوسام، ولم أكن ذا منصب فأقدّم على حسب ما قضيت به من زمن أو أمضيت فيه من كفاية، ولا صاحب مال فأكرم على قدر ما أنفقت منه في مشروع الدفاع أو في سبيل الخير؛ ولست بالكاتب السياسي الذي يكافأ على عظم جهاده وكرم تضحيته، ولا بالأديب الصالوني الذي يقرب للطف مدخله وحسن مصانعته؛ وإنما أنا رجل لا أحسن بطبعي تكاليف المجتمع: أعيش في زاوية مظلمة من زوايا الحياة، وأدور في دائرة ضيقة من دوائر الوجود، لا أتعرض لأقطاب السياسة، ولا أتعلق بأصحاب النفوذ، ولا أخرج عن هذا النطاق الصوفي الذي ضربته عليّ مواهبي، وحصرت فيه رغائبي وواجبي؛ فأنا كما أجدني في شعوري هوى خالصاً من أهواء الطبيعة: أمجد الوادي لأنه الوطن، وأقدس الملك لأنه الدولة، واحب الوفد لأنه الشعب، وأوثر الخير لأنه الجمال، وأعشق الأدب لأنه الحياة. فإذا نفذت مع ذلك عين الوزارة إليّ، وبسطت جناح برها عليّ. دل ذلك على يقظة تخترق كل حجاب، وعدالة تشمل كل فرد، ونزاهة تفند كل اعتراض
ولا يمكن أن تكون الوزارة قد قصدت بهذا التكريم شخصي الضارع، وإنما قصدت به ولا ريب تكريم الأدب المستقل في جندي من جنوده، وتشجيع الجهاد الثقافي في ناحية من نواحيه. فأما عسيُّ أن أشكر هذه اللفتة الكريمة بلسان الأدب لأنها إلى الأدب، وعلى منبر
(الرسالة) لأنها متصلة بهذا السبب
كان العهد بالسلطان المطلق أن يكون إنعامه على رأي ابن المقفع أشبه بشجرة الكرم تعلق بأقرب الشجر لا بأكرمه، فلما غلبت الديمقراطية على طبيعة الملك، وقبضت الأمم على أزمة الحكم، تهيأ لكل فرد أن ينال نصيبه المقدور من الكرامة القومية العامة، والسيادة الوطنية المشتركة، وتسنى للنبوغ المستور، والذكاء المغمور، والعبقريات الفقيرة، أن تطاول في المجد شرف الولادة، وتنافس في الجاه سلطان الثروة
وهذا الذي تفعله الحكومة من اقتراحها الألقاب المميزة والأوسمة المشرفة لأبناء الأمة، ظاهره يخالف طبيعتها الشعبية، ولكن باطنه يوافق المنطق ولا يعدو الإنصاف. فإن المساواة روح الدستور وجوهر العدالة، فإما أن تلغى هذه الألقاب فيصبح الناس سواسية أمام المجتمع، كما هم سواسية أمام القانون؛ وإما أن تبتذل هذه المميزات حتى تتدانى الطبقات ويقصر هذا الفرق المهين بين (الباشا) و (الفلاح)
لقد كانوا بالأمس يعيرون الوفد أنه حزب الرعاع وقائد السوقة، فما بالهم اليوم وقد ورث أمجاد الوطن يعيبونه أن يرفع عن حزبه أو شعبه معرة هذه الإهانة؟
زعموا أن الديموقراطية العاملة حين ثارت في فرنسا على الأرستقراطية العاطلة، أوحت إلى العمال العراة الجياع أن يقتحموا قصور السراة والنبلاء، فلبسوا وشيهم، وتقلدوا حليهم، وغرقوا في مقاعدهم المنجدة، وطعموا على موائدهم المنضدة، فشعروا في ساعة واحدة باسترداد ما فقدوه في الحقب الطوال من اللذة والعزة والكرامة والعظمة؛ فلم لا يكون ذلك من هذا؟
عفواً! لقد كدت أخرج عن موضوع الشكر وما قضيت منه لبانة وما نقعت به غلة. وليس الشكر باباً من أبواب الملق ولا ضربا من ضروب التنبيه كما يظن، ولا هو قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة كما يقال، وإنما هو للصنيعة كالاعتراف للاقتراف والتسبيح للعقيدة، يخفف عبء المنة عن الضمير ويكفكف سورة الإيمان عن القلب!
ولئن كان يخجلك في رأي نفسك من التكريم أن تسعى إليه، لقد يخجلك في رأي غيرك إلا تشكره وقد سعى إليك
على أن الأدب نفسه سجل عصره بما فيه من محاسن ومساوئ؛ فهو يضمن الذكر والشكر
لمعضده، كما يضمن المجد والخلود لموجده. والأدب كان ولن يزال لغة التاريخ، ولسان النهضة، وقبس الروح، وومضة الإلهام، ورائد الإنسانية إلى المثل الأعلى؛ فلا يمكن أن يكون رجاله في عهد الذين اشتهرت زعامتهم به، وقامت دعايتهم عليه، أضعف ركناً واقل شأناً من رجال الأعمال وأصحاب الأموال وعبيد الأرض
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
…
بناة المعالي كيف تبنى المكارم
أحمد حسن الزيات
في الحب أيضا
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أرجو إلا يتوهم أحد أن هذا حديث في فلسفة الحب فإنه لا قدرة لي على الفلسفة، وقد فقدت إيماني بها مذ خذلتني وخيبت أملي وعجزت عن أن تفسر لي شيئا مما يحيرني في هذه الحياة. وقد قرأت كثيرا مما كتبه الذين ينسبون إلى الفلسفة وإلى البحث العلمي، غير أني لم اقتنع به ولم استرح إليه. ومن سوء الحظ - حظي أنا بالطبع كما لا أحتاج أن أنبه - أنه ليس لي في هذا الباب تجربه تستحق الذكر حتى كنت أعرض ما يقول الفلاسفة والعلماء على ما جربت وأرى إلى أي حد أصابوا ووفقوا. ولست أكتمكم أني عاجز عن هذا الحب. وعسى أن أكون واهما لا عاجزا. ولكني ما قرأت قط شعر العشاق وما قالوه في الصبابة والوجد وفي ما تضطرب به نفوسهم وتجيش به صدورهم من الخوالج والاحساسات في القرب والبعد، والإقبال والصد، والمواتاة والحرمان، ولا سمعت ممن اعرفهم وصف ما جربوا من ذلك إلا قلت لنفسي - حين أخلو بها - (اسمحي لي يا نفس أن أقول انك - ولا مؤاخذه - بليدة) فتسألني لماذا؟ فأقول (لأني لا أراك تحسين شينا من هذا الذي اجمع على وجوب الإحساس به الشعراء والناس قاطبة. فهل أنت بليدة أم هؤلاء كلهم كذابون أو على الأقل مبالغون؟) ولا احتاج أن أقول أني لا اخرج من هذا الحوار الذي يدور بيني وبين نفسي بشيء آنس به واستريح إليه. فإنها تصر على أن الناس مبالغون وأصر أنا على منطق (قرقوش) المشهور. فقد قالوا أن ناسا كثيرين وضعوا رجلا من الأحياء في نعش وحملوه فيه كالميت، فمر قرقوش بجنازته فصاح به الرجل مستنجدا وأكد له انه لا يزال على قيد الحياة، فاطرق قرقوش قليلا وفتل شعرات من لحيته ثم رفع رأسه ونظر إليه وإلى الناس وقال:(أتريد أن أصدقك واكذب هذا الخلق كله؟) وكذلك أنا مع نفسي - لا يعقل عندي أن تكون هي وحدها على صواب وكل هذه الملايين من النفوس مخطئه أو كاذبة، أو مبالغة.
ولا أنكر أن نفسي كانت تتحرك أحيانا فأشجعها مسرورا واستحثها فرحا بيقظتها بعد طول السبات، ولكن أقصى ما جربت حين تفتح النفس عينيها على ما حولها أن يخفق القلب خفقان تصعد به إلى حلقي من فرط شدتها، فأفهق وتعود فتهوي به إلى قريب من حذائي
كأنما هذا ليس قلبا وإنما ركب لي الله سبحانه في مكانه لعبة من لعب (اليويو) التي شاعت في الزمان الأخير. وأحيانا اشعر بأن حولي فراغا وأحس شيئا من اللهفة وقليلا من الشوق، ولكنه شوق هادئ ولهفة محتمله لا تثقل على النفس ولا يشقى بها القلب ولا يسود من جرائها العيش. وشبيه بذلك أن يشتهي الإنسان أن يرى شريطا من أشرطة السينما سمع عنه ثناء أو أن يشتاق أن يطوف حول الأرض أو يشاهد معرضاً كبيراً في بلد ناء. ولا أضن أن هذا يعد حبا بالمعنى القديم أو الحديث
وللسامع العذر إذا تساءل: (كيف إذن كنت تقول الشعر في شبابك وتذكر فيه الحب ولواعجه وصباباته وما تزعم أنك كنت تعانيه من السهد والضنى أو تريقه من الدموع إلى آخر ذلك) والسؤال طبيعي ولكن الجواب عنه حاضر، ولولا عادة الصدق التي اكتسبتها في الأيام الأخيرة لعز الجواب. والجواب يعرفه القراء فقد سقته في فصل سابق عن الحب نشرته لي (الرسالة) وخلاصته أني أوحيت الحب إلى نفسي
ومن الجرأة أن أزعم أن الناس كلهم كذلك، ولكني أقول إن نشوة الحب تطول عند الناس بفضل الإيحاء المستفاد من تأثير الجماعة والعرف. ولو خلت الكتب مما نقرأه في وصف الحب وأثره في النفس وألف المرء أن يرى الناس يحبون حبا لا يخرج بالنفس عن الاتزان لصار الحب هادئا فاترا كالصداقة. وأحسب أن الفرق بيني وبين غيري ليس هو أني شاذ وهم طبيعيون، بل إني تأثرت بإيحاء الجماعة وإيحاء الكتب وأنا عارف بذلك مدرك له متفطن لحقيقته، وأن الأكثرين يتأثرون على هذا النحو تماما ولكنهم لا يدركون أن في الأمر إيحاء ولا يفطنون للحقيقة فيه. والحياة تقوم - كما لا أحتاج أن أبين - على الإيحاء، وكل امرئ يوحي إلى كل امرئ آخر ويستوحي منه، بل نحن نستوحي الأشياء كما نتلقى الإيحاء من الناس.
ويخيل إلي أن الحب اسمه غلط، فإنه يبدو لي أن هذه العاطفة التي نسميها الحب خالية في الحقيقة من الحب والعلاقة فيها بين الجنسين ليست علاقة مودة. وهذا كلام قد يبدو متناقضا ولكني أظنه صحيحاً. ذلك أن الحب ضرب من الجوع؛ ولا تقولوا إنه جوع معنوي فإن هذا يكون تخريفا، إذ ليس ثم فيما يتعلق بالإنسان أو الحياة شيء معنوي. والإنسان مادة وكل ما في الحياة من المادة وإلى المادة، فلندع هذه الخيالات ولنجتزئ بالحقائق فإن أرضها
صلبة متينة لا تسوخ فيها الرجل. والمرء يجوع فيشتهي الطعام أي يطلبه، لا لأنه يحب الطعام في ذاته، ولا لأن بينه وبين ما يأكل مودة، بل ليسد الحاجة التي يشعر بها ويقضي الرغبة التي تلج به ولا يستطيع أن يهدئها بغير الأكل. وكذلك يجوع جوعا من ضرب آخر - جوعا يطلب به إرضاء الرغبة الطبيعية في النسل إطاعة لغريزة حفظ النوع، كما يطلب بالأكل إطاعة لغريزة المحافظة على الذات. وكما لا يقال إن بين المحبين مودة. إنما تكون العلاقة بينهما قائمة على الرغبة في الالتهام أو الاستحواز إطاعة للغريزة لا عن مودة. والحبيبان أشبه بالمتقاتلين المتبارزين منهما بالصديقين المتوادين، لأن مطلب كل منهما الاستيلاء والغلبة؛ وهما لا يستعملان سلاحا ولا يحدثان جراحا، ولكن الواقع أن القبل والعناق والضم وغير هذا وذاك مما يكون بين المحبين - كل ذلك ليس إلا وسائل للتليين بغية التغلب. وقد استعمل الشعراء ألفاظا كثيرة كانوا فيها صادقين من حيث لا يشعرون، فذكروا في مواقف الحب وحالاته المختلفة المتعددة السيف والجراح والأكباد القريحة والقلوب المفجوعة والنفوس الكليمة والسهام وما إلى ذلك، فأشاروا إلى حقيقة العلاقة بين الحبيبين من حيث يحسون بها بالفطرة ولا يدركونها بالعقل. والحقيقة هي أن الحب حرب واقتتال وفتك، وغايته - وهي النسل - تنطوي على تعرض للتضحية الكبرى - على الأقل من جانب المرأة - وسبيله الإخضاع، فالمرأةتحاول إخضاع الرجل ليتسنى لها بذلك أن تجيء بالنسل الذي جعلتها الطبيعة أداة له. والرجل يحاول إخضاع المرأة ليتسنى له أن يجعلها تجيئه بالنسل الذي يطلبه بغريزته. والحال بينهما دائر أبداً على الكفاح. وفي شعر صادق - قديم أو حديث - لمحات عديدة تدل على التفطن إلى هذه الحقيقة ولو من غير إدراك تام صحيح جلي لها
والحب يتخذ الصورة التي يؤدي إليها التفاعل بين عاملين: الأول هو الدافع الغريزي للإنسان، والثاني هو مقاومة الجماعة، وهي مقاومة مرجعها إلى العرف والدين وما يجري هذا المجرى. وإلى تفاعل هذين العاملين وما ينتجانه فيما بينهما من الأثر ترجع الصور الشائعة للحب بين الجماعة. وقد كان التحرج شديدا في الجيل الماضي من ذكر الحب والاعتراف أو المجاهرة به، لأن التقاليد كانت صارمة وكان لها معين من الدين لا يستهان به، وكانت الجماعة تنزع إلى الاحتشام. وكانت قاعدة الحياة من هذه الناحية المثل المشهور
(إذا بليتم فاستتروا) فكانت معاقرة الخمر على قارعة الطريق ممنوعة لا بحكم القانون بل بقضاء العرف، وكان الشبان مثلا يستحيون أن يجلسوا في القهوات، وكان النساء يتحجبن ويحرصن على ستر زينتهن، ولم يكن اتصال شاب بفتاة من الهينات، ثم جاءت الحرب فرجت الدنيا وزلزلت قواعد الحياة فيها وانتشر التعليم وشاع الاطلاع على الآراء الحديثة في الأمور الجنسية، وهدمت الهبة القومية المصرية حواجز كثيرة وفي جملتها ما كان يفصل الجنسين ويفرق بينهما، وصار الناس - شيئا فشيئا - يلهجون بذكر الحب ويتناوله في مجالسهم وفي كتاباتهم تناولا هو أقرب ما يكون إلى البحث العلمي، ولم يعد الشبان - بسبب نشأتهم والجو الجديد المحيط بهم ينظرون إلى الحب وما يتعلق به كما كان آباؤهم يفعلون أو يرون في الأمر موجبا للحماسة أو داعيا للخجل أو باعثا على الاستحياء؛ وجاء التطور الاجتماعي ولاسيما فيما يتعلق بإمكان ضبط النسل هادما لحاجز منيع بين الرجل والمرأة. وفي الأمثال إن الشجرة تعرف من ثمارها؛ فإذا لم تكن ثم ثمرة فأين الشجرة؟ وضعف العرف وتفككت قيوده وحصل التمرد عليه في سبيل الحرية كما حصل التمرد على كل قيد آخر. ومن أخطار الحرية في بادئ الأمر أن الناس يطلبون الحقوق وينسون الواجبات التي تقابل الحقوق. والتوازن لا يعود إلا ببطء وبعد التجارب الطويلة والمعاناة المرة والدروس العلمية الأليمة. وبذلك فقد الحب الهالة التي كانت حوله وسلب القداسة القديمة، وصار على الأيام أمرا عاديا، وهوى إلى مرتبة الرقص والألعاب الرياضية، لأن وطأة العرف والتقاليد ضعفت وخفت جدا حتى ليمكن أن يقال إنها غير محسوسة في الأغلب والأعم. وفي مثل هذه الأحوال التي يعظم فيها الترخص والتسامح يندر الحب القوي العميق الطويل العمر، وقد يكون هذا الحال هو بعض السر في ركود الشعر إلى حد كبير في هذه الفترة من حياتنا الأدبية
إبراهيم عبد القادر المازني
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 2 -
يدرس أبن سينا النفس من نواح كثيرة، فيحاول أولاً أن يثبت وجودها ومغايرتها للبدن، ثم ينتقل بعد هذا إلى حقيقتها فيعرض لجوهريتها وروحيتها ويبرهن على خلودها ببراهين شتى ووسائل متعددة. ولن تفهم حقيقة النفس فهما كاملا إلا إذا حددت وظائفها وبين في دقة عملها. وابن سينا يتحدث طويلا عن أنواعها المختلفة من نباتية وحيوانية وإنسانية، ويسهب بوجه خاص في حديثه عن قوى النفس الإنسانية الظاهرة والباطنة، وهذا الجزء يلخص تقريباً علم النفس عنده. وواضح أن مشكلة العقل التي تعد أحد الأحجار الأساسية في بناء الفلسفة الإسلامية والتي شغلت فلاسفة القرون الوسطى على العموم، تتصل اتصالا وثيقاً بقوى النفس الباطنة، وسنتبع هنا الخطوات السابقة لندلي بفكرة كاملة عن أبحاث ابن سينا في النفس، ولكنا سنجمل القول في أقسامه وتفصيلاته الكثيرة المتصلة بأنواعها وقواها لأن هذا في أغلبه أصبح من علم النفس البائد، وسنكتفي بأن نشير منه إلى مصادره اليونانية. وأما مشكلة العقل فهي من الأهمية بحيث لا تدرس عرضاً وفي ثنايا بحث كهذا، ولابد من دراسة مستقلة سبق لنا أن حاولناها في كتابنا عن الفارابي
لم يعن مفكرو اليونان كثيراً بالبرهنة على وجود النفس، وكأنهم كانوا يعدون وجودها واضحا بحيث لا يتطلب الإثبات، ومسلماً به إلى درجة لا تقبل الشك أو المناقشة. فالماديون منهم والروحيون متفقون على وجود النفس، وخلافهم فقط في بيان ماهيتها وتحديد وظائفها. وأطباؤهم وفلاسفتهم مجمعون على أن للظواهر النفسية مصدراً وأصلا تعتمد عليه بجانب الجسم. وعلى هذا يمكننا أن نقول إن المادية المتطرفة التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي تنكر وجود النفس بتاتاً غير معروفة لديهم. ذلك لأن هذه المادية اثر من آثار الطب وعلم وظائف الأعضاء الحديثين، وكل همها أن تفسر الأحوال العقلية جميعها تفسيراً واقعياً تجريبياً، وفي اعتقاد أنصارها أن المخ والجهاز
العصبي كفيلان بتوضيح كل أعمال الفكر السامية. لهذا نراهم يصرحون بأنه (لا تفكير بدون الفسفور) وأن (المخ يهضم الاحساسات بشكل ما ويفرز عصارة التفكير إفرازاً عضوياً) وما كان الطب متقدما عند اليونان تقدمه في التاريخ الحديث، ولا كانت وظائف الأعضاء واضحة وضوحها اليوم
ومن الغريب أن ابن سينا الذي تقبل كل مبادئ الطب وعلم وظائف الأعضاء اليونانيين قد عنى عناية خاصة بالبرهنة على وجود النفس وإثبات أنها تغاير البدن. ولعل ذلك راجع إلى أن بعض الماديين قد غالوا مغالاة الماديين المحدثين وتطرفوا تطرفهم، فوحدوا بين النفس والجسم أو أنكروا وجودها رأسا واعتبروا الجسم مبعث الظواهر العقلية على اختلافها. فلم ير بداً من أن يرد عليهم ويبين خطأهم، وقد أشار إليهم صراحة في إحدى رسائله. وفوق هذا فالمنهج القويم في رأيه يقتضي أن يبدأ الباحث بإثبات وجود النفس ثم ينتقل بعد هذا إلى شرح وظائفها وأعمالها. يقول:(من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولا أنيَّته (يعني وجوده) فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح. فواجب علينا أن نتجرد أولا لإثبات وجود القوى النفسانية قبل الشروع في تحديد كل واحدة منها وإيضاح القول فيها
وهو في برهنته على هذا الوجود يسلك سبلا عدة ويستخدم وسائل متفرقة. فليلجأ تارة إلى العرف العام والاستعمالات الدارجة مستمدا منها بعض الملاحظات الدالة على أننا نؤمن بوجود حقيقة فينا تخالف الجسم. ويركن تارة أخرى إلى بعض القضايا الفلسفية المسلمة من القدامى ليستعين بها على تحقيق هذه الغاية. ويبتكر أحيانا فروضا وتعليلات دقيقة تقربه من بعض الفلاسفة وعلماء النفس المحدثين. فيلاحظ أن الإنسان إذا كان يتحدث عن شخصه أو يخاطب غيره فإنما يعني بذلك النفس لا الجسم. فحين تقول: أنا خرجت أو أنا نمت لا يخطر ببالك حركة رجليك ولا إغماض عينيك، بل ترمي إلى حقيقتك وكل شخصيتك. وقد صاغ ابن سينا هذه الملاحظة على الصورة الآتية (إن الإنسان إذا كان منهمكا في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته حتى أنه يقول إني فعلت كذا أو فعلت كذا؛ وفي مثل هذه الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه. والمعلوم بالفعل غير ما هو مغفول عنه، فذات الإنسان مغايرة للبدن. وأنا لنلمح في ثنايا هذه الملاحظة فكرة الشخصية أو فكرة
(أنا)(? التي هي مثار بحث طويل بين علماء النفس المعاصرين. فالشخصية أو (الأنا) في رأي ابن سينا لا يرجع إلى الجسم وظواهره، وإنما يراد به النفس وقواها
ومن جهة أخرى تبدو علينا آثار لا يمكن تفسيرها إلا أن سلمنا بوجود النفس، وأهم هذه الآثار الحركة والإدراك. فأما الحركة فضربان: قسرية ناتجة عن دفعة خارجية تصيب جسما ما فتحركه، وغير قسرية وهي التي تتصل بنا هنا. وغير القسرية هذه منها ما يحدث على مقتضى الطبيعية كسقوط حجر من أعلى إلى اسفل، ومنها ما يحدث ضد مقتضى الطبيعة كالإنسان يمشي على وجه الأرض مع أن ثقل جسمه كان يدعوه إلى السكون، أو كالطائر الذي يحلق في الجو بدل أن يسقط إلى مقره فوق سطح الأرض. وهذه الحركة المضادة للطبيعة تستلزم محركا خاصا زائدا على عناصر الجسم المتحرك، وهو النفس. وأما الإدراك فأمر امتازت به بعض الكائنات على بعض، وإذن لابد للكائنات المدركة من قوى زائدة على غير المدركة. هذا هو البرهان الطبيعي السيكولوجي الذي يعتمد عليه ابن سينا في إثبات وجود النفس. وهو كما لاحظ لانداور مستمد في أغلب أجزائه من كتابي (النفس) و (الطبيعة) لأرسطو. ففي الكتاب الأول يصرح الفيلسوف اليوناني بأن الكائن الحي يتميز من غيره الحي بميزتين رئيسيتين: هما الحركة والإحساس. وفي الثاني يقسم الحركة إلى أقسام عدة لم يعمل ابن سينا شيئا سوى أن رددها وبنى عليها برهنته السابقة. بيد أن هذه البرهنة، فوق أنها برهنة باللازم، غير مقنعة وخاصة في جزئها الطبيعي. فأنه لو كانت الأجسام كلها مكونة من عناصر متحدة لكان لهذه البرهنة قيمتها. فأما وهي مختلفة التكوين فلا مانع من أن الجسم الذي يضاد الطبيعة العامة بحركته متمش مع قوانين طبيعته الخاصة ومشتمل على عناصر تسمح له بالحركة. وكم من جهازات وآلات تتحرك حركات مضادة للطبيعة ولا يخطر ببال أحد الآن أنها تحتوي على نفس أو قوة خفية أخرى، وقد انقضى الزمن الذي كانت تعتبر فيه النفس أصل الحياة والتفكير في آن واحد، أو مصدر الحركة والإدراك إن شئنا أن نستعمل لغة ابن سينا، واصبح علماء الحياة يفسرون الظواهر الحيوية تفسيراً آلياً أو (ديناميكياً) بمعزل عن القوى النفسية تاركين للنفسيين توضيح النفس وظواهرها، وهؤلاء الأخيرون حتى الممعنون في الروحية منهم لا يذهبون اليوم مطلقاً إلى أن للنفس عملا فوق الظواهر العقلية ويتقبلون التفسير الآلي للحياة والحركة. ويظهر أن
ابن سينا قد تنبه إلى ضعف برهنته بدليل أنه لم يطنب فيها إلا مرة واحدة وفي مؤلف تقوم كل الدلائل على أنه كتبه في صباه. أما في (الشفاء) و (الإشارات) وغيرهما من مؤلفات الشيخوخة: فإنه يمر بها مسرعة ويحاول أن يثبت وجود النفس معتمداً على آثارها العقلية؛ وهذه هي البراهين التي تدل على العبقرية والابتكار.
فيلاحظ أولا أن في الأحوال النفسية تناسقاً وانتظاماً يؤذن بقوة مهيمنة عليها ومشرفة على نظامها، وهي برغم تنوعها وتخالفها بل تنافرها أحياناً تدور حول مركز ثابت وتتصل بمبدأ لا يتغير، وكأنها مرتبطة برباط وثيق يضم أطرافها المتباعدة، فنسر ونحزن، ونحب ونكره، وننفي ونثبت، ونحلل ونركب، ونحن في كل هذا صادرون عن شخصية واحدة وقوة عظمى توفق بين المختلف وتوجد المؤتلف؛ ولو لم تكن هذه القوة لتضاربت الأحوال النفسية واختل نظامها وطغى بعضها على بعض. وما النفس من آثارها إلا بمنزلة الحس المشترك من المحسوسات المختلفة؛ كلاهما يلم الشعث ويبعث النظام والترتيب.
وهنا يشير ابن سينا إلى ذلك البرهان المشهور الذي كثيراً ما ردده أنصار المذهب الروحي من علماء النفس المحدثين. ويتلخص في أن وحدة الظواهر النفسية ? تستلزم أصلا تصدر عنه وأساساً تعتمد عليه. وضعف هذه الوحدة أو انعدامها معناه ضعف الحياة العقلية أو القضاء عليها
يدنو ابن سينا من المحدثين، بل ومن المعاصرين بشكل أوضح من هذا في برهان آخر يصح أن نسميه برهان الاستمرار. وملخصه أن حاضرنا يحمل في طياته ماضينا ويعد لمستقبلنا، وحياتنا الروحية هذا الصباح ترتبط بحياتنا أمس دون أن يحدث النوم أي فراغ أو انقطاع في سلسلتها، بل وترتبط بحياتنا منذ أعوام مضت. ولئن كانت هذه الحياة متحركة ومتغيرة فإنما تتحرك في اتصال وتتغير في ارتباط. وليس هذا التتابع والتسلسل إلا لأن أحوال النفس فيض معين واحد ودائرة حول نقطة جذب ثابتة. يقول ابن سينا: (تأمل أيها العاقل في أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجوداً في جميع عمرك حتى أنك تتذكر كثيراً مما جرى من أحوالك. فأنت إذن ثابت مستمر لا شك في ذلك. وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتاً مستمراً بل هو أبداً في التحلل والانتقاص. . . ولهذا لو حبس عن الإنسان الغذاء مدة قليلة نزل وانتقص قريب من ربع بدنه. فتعلم نفسك أن في مدة عشرين سنة لم يبق
شيء من أجزاء بدنك، وأنت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك. فذاتك مغايرة لهذا البدن وأجزائه الظاهرة والباطنة) وفكرة استمرار الحياة العقلية واتصالها من الأفكار التي أثبتها حديثاً وليم جيمس وبرجسون وعداها من أخص خصائص الظواهر النفسية ومن اكبر الدلائل على وجود (الأنا) أو الشخصية. وفي رأيهما أن تيار الفكر لا سكون فيه ولا انقسام ولا انفصام، وهو في حركة متصلة مطردة. وما أشبه الحياة العقلية بقطعة موسيقية مكونة من نغمات مختلفة ومتميزة قد امتزجت واختلط بعضها ببعض فأنتجت لحناً منسقاً يقول جيمس:(من الصعب جداً أن نجد في شعور واقعي حالا نفسية مقصورة كل القصر على الحاضر بحيث لا نستكشف فيها أي شعاع من أشعة الماضي القريب). فابن سينا ببرهانه المتقدم يسبق عصره بعدة أجيال ويدلي بآراء يعتد بها علم النفس الحديث كل الاعتداد
(يتبع)
إبراهيم مدكور
الصوت الخافت
للأستاذ مصطفى حمدي القوني
(مهداة إلى صديقي الكاتب السويسري جوستاف بيل)
- 1 -
ما كان يدور بخلدي قط أن يكون هذا كل نصيبي من الدنيا، لقد طالما حلمت إبان صباي وفي فجر شبابي أني سوف أدير كرة الأرض على أناملي، وأني سوف أمثل باسمي الأفواه والأسماع والقلوب. والآن وقد نقضت أيام الصبا فإذا لي دنياي أديرها في غير جهد، وإذا أفواه وأسماع وقلوب يملؤها أسمي، وإذا أيد ترتفع إلى الجباه تحييني كلما أقبلت على عملي أو أدبرت عنه. ويا ما أكثر ما يتملقني تلاميذي!
واليوم إذ خرجت في الصباح إلى المدرسة بدأت تطوف برأسي هذه الخواطر: كنت في الماضي أصور الآمال وانتظر تحقيقها في أيام مقبلة، وأقبلت هذه الأيام فإذا آمالي ليس إلى تحقيقها من سبيل، فأصابني شيء من الرضا والقناعة وطفئت حرارة الصبى وجرأته، وأصبح الصبى وآماله حطاما، وإن عاودتني أحيانا ذكراه فلا أكاد أصدق أني كنت في يوم الأيام
إني أحيا الآن ولكن. . . عاريا عن الآمال والعواطف. لقد سقطت عني عواطفي وآمالي كما تساقط عن الشجرة الذاوية أوراقها؛ وكثيراً ما أشعر أني كالغريق الملقى على ضفة اليم ينتظر النهاية.
لست آسف على الماضي ولا أؤمل في المستقبل ولا أبالي كيف يكون، ولكني اقف الآن حيث أنا فاتحا يدي للقدر يلقي فيهما ما به يجود. . .
وإني لأدخل حجرة الدراسة - وأنا لا أزال غارقا في مثل هذه الخواطر - إذ تسألني نفسي:
- أكان من الممكن أن تقنع بمثل هذا في الماضي؟
وإذا بي أسمع صوتا ساخراً يقول مجيباً:
- ولم لا؟ ألم يكن يحلم بشجرة الخلد وملك لا يبلى و. . . عرش عظيم؟
واعتليت المنصة!
ووقف التلاميذ رافعين أيديهم بالتحية، وإذ رفعت يدي أرد تحيتهم جلسوا صامتين، وبدأت قائلا:
- واجب الدرس السابق
ففهموا بذلك أني أريد أن يقف المقصرون ويلقوا إليّ بأعذارهم عن التقصير فيما كلفتهم به؛ ووقف واحد من التلاميذ كان من أكثرهم جداً وعناية بعمله، ولكنه لم يلق إليّ بأي عذر وإنما بقى ساكناً صامتاً كأنما لا يبالي
ونزلت من على المنصة وتقدمت إليه في خطى ثابتة ورفعت يدي أريد أن ألطمه، وحينئذ انبرى زميل له يقول في صوت خافت:
- لا لا يا أستاذي! إن أباه قد مات البارحة.
ونزلت يدي إلى جانبي وعدت إلى مكاني من جديد والحجرة يخيم عليها سكون، وأنفاس التلاميذ كأنها محبوسة، ونظراتهم متعلقة بي تتبعني، ففتحت كتاباً أمامي وقلت لهم من دون أن أرفع نظري إليهم:
كتاب المحاسبة صفحة 65 التمرين الثاني. سوف أراه مع سابقه في الدرس القادم.
وفتحوا كتبهم في سكون وبدأت اذرع الغرفة جيئة وذهوباً ورأسي يدور، وقلبي كأن به بركاناً ثائراً
- 2 -
ودق الجرس فخرجت من الفصل ومن المدرسة إذ كان هذا هو درسي الوحيد في هذا اليوم، وبدأت أجوب شوارع المدينة ذاهلا عن كل ما حولي إذ بدأت أعود بالذاكرة إلى الماضي وكأنما بدأت أعيش فيه كرة أخرى:
(هذا أنا طفلا في المدرسة الابتدائية أسير إليها مع الشمس كل صباح وأعود منها كل أصيل. وهذا أنا أعود من المدرسة في أصيل يوم من الأيام فلا أجد أمي: لقد انتقلت إلى الريف تبتغي فيه شفاء من مرض ألم بها. وهذا أنا أعود في أصيل كل يوم أتنسم أخبارها، فإذا جن الليل سهرت من أجلها أدعو لها وأتمنى لها طيب الأماني. وهذا أنا أقوم إلى المدرسة ذات صباح فأجد رسولا من القرية جاء يستقدم أبي، فينقلب أملي شكا طاغياً
جارفاً. وهذا أنا أخرج من المدرسة في أصيل هذا اليوم يائساً أشد اليأس، حزيناً أشد الحزن، أسرع الخطا ثم أبطئها، أسرع لأني أريد أن أعلم ماذا كان مصير أمي، ثم أحس كأن شيئاً يرد من خطاي ويصدني: لقد كان الشك يغمر نفسي
أذكر أن الشمس كانت جانحة إلى المغيب تلقي على طرق المدينة أشعة صفراء باهتة حزينة، وإني لازلت إلى الآن تفيض نفسي بالكآبة كلما رأيت مغرب الشمس.
وفي أول الطريق الذي ينتهي إلى بيتنا قابلني عمي ثم أجلسني إلى جانبه في دكان صغير هناك وجاء أحد الجيران يشتري بعض حاجة من الدكان، فألقى إلي نظرة ومال برأسه إلى صاحبه كأنما يسأله عن شيء، وهز صاحب الحانوت رأسه ومص الجار شدقيه راثياً، وقمت من مكاني وانفجرت باكيا وجريت إلى البيت لأسترسل في البكاء
وهناك كانت نسوة كثيرات - في ثياب سود - حاولن عبثاً أن يكفكفن من عبراتي. وهناك كانت أختي الصغيرة مدهوشة حيرى لا تدري ماذا جرى. وهناك كانت أختي التي تكبر هذه - في هدوئها وسكونها الدائمين - تسكب عبرات صامتة
وكانت ليلة. . .
- 3 -
وأصبح الصباح فإذا الشمس مشرقة كعادتها، وإذا بي أسير إلى المدرسة محني القامة خافض الهامة، أفكر فيما كان وفيما سيكون
وابتدأ الدرس الأول، وكان درس القواعد العربية، وإني لأذكر تماما الشيخ عبد الحميد رجلا قصير القامة مكور الوجه قاسيا، وأذكر أنه كان في هذا الصباح جاداً في إلقاء الدرس وشرح ما غمض منه على السبورة، ولكني لا اذكر ما هو الدرس الذي كان يلقيه، إذ أني نسيت - فيما نسيت - هذا الباب الذي من أمثلته (حضرموت وبختنصر)، ولكن ماذا يهمني من هذا، إن ما يزال عالقاً بذهني هو أني انتبهت لحظة للشيخ وللدرس، ورفعت نظري إلى السبورة أمامي فوجدت هاتين الكلمتين (حضرموت - بختنصر)
تأملت الكلمة الأولى وقرأتها هكذا (حَضَرَموْت) ثم بدأت أقول في نفسي:
- يا ما أسعد من لا تموت أمهاتهم! وهؤلاء الذين يحضرون موت أمهاتهم إنهم أسعد مني حالا، أنا الذي لم يحضر موتها ولا يدري ماذا مصيرها
وحينئذ عن للشيخ أن يلقي إلي بسؤال - ولعله رآني عنه وعن درسه في شغل شاغل - ولكن كلمة واحدة لم تند عن شفتي جواباً لسؤاله
وكان أن تقدم إلي ولطمني لطمة قاسية. . . تقبلتها صامتاً. وماذا كانت هذه إلى جانب لطمة القدر؟
- 4 -
وحين وصلت بذكرياتي إلى هذا الحد - وكنت قد وصلت في سيري إلى شارع سليمان باشا - رفعت يدي إلى خدي كأنما أتحسس بها أثر اللطمة بعد هذه السنين الطوال. ثم تراءى لي - ويدي لا تزال على خدي - أن أعبر الشارع. وإني لأخطو أولى خطواتي إذ سمعت كأن صوتاً يناديني:
- إبراهيم! يا إبراهيم!
وكان الصوت خافتاً كأنه آت من بعيد، من أعماق هاوية، وقد خيل إلي أنه ليس غريباً عني، وأني سمعته قبل الآن، متى وأين لا أدري؟ وتلفت حولي واختل توازن خطاي وكادت سيارة تدهمني، فنظر إلي شرطي المرور كأنما يسألني ماذا بي. فقلت له في بساطة:
- إن اسمي إبراهيم!
فلم يبد على وجه الشرطي أنه فهم شيئاً
وطفت على شفتيه ابتسامة فيها سخرية وفيها رثاء.
مصطفى حمدي القوني
في أفق السياسة الدولية
المسألة الاستعمارية والصراع على الأسلاب والغنائم
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يظهر أن المسالة الاستعمارية ستغدو في القريب العاجل مسألة المسائل، وربما لعبت دوراً خطيراً في تطورات السياسة الدولية هذا العام، وقد كانت مسالة المستعمرات، خلال الأعوام الأخيرة تبدو في الأفق من آن لآخر، ولكنها كانت تتخذ صبغة نظرية؛ بيد أنها منذ غزو إيطاليا للحبشة واستيلائها عليها تتخذ صورة عملية واضحة؛ وكانت ألمانيا وإيطاليا هما اللتان تصران على إثارة هذه المسألة الشائكة كلما سنحت الفرص، أما ألمانيا فلأنها فقدت كل مستعمراتها السابقة في أفريقية وفيما وراء البحار نتيجة لهزيمتها في الحرب الكبرى وتنفيذاً لنصوص معاهدة الصلح، وأما إيطاليا فلأنها رغم كونها كانت في عداد الحلفاء الظافرين ورغم استيلائها على نصيبها من أسلاب الدول المهزومة، كانت ترى دائماً أنها خدعت من حلفائها، وانهم استأثروا دونها بالغنائم الكبرى وخصوصاً في مسألة المستعمرات والأراضي الجديدة، إذ بينما حصلت فرنسا وإنكلترا وبلجيكا على انتدابات وأملاك واسعة في أفريقيا وآسيا، إذا بإيطاليا تحرم من كل نصيب في هذا التراث وترغم على الاكتفاء بما منح لها من الأراضي النمسوية القليلة في أوربا؛ وقد كان هذا الغبن شعار السياسة الفاشستية في الأعوام الأخيرة، وذريعة إيطاليا في وجوب إعادة النظر في معاهدات الصلح وتعديلها تعديلا يكفل استقرار الأحوال في أوربا، وحل مسألة الانتدابات والمستعمرات بصورة ترضي الأماني الإيطالية، فلما لم توفق إيطاليا إلى إرضاء مطامعها بطريق المفاوضة والتفاهم، عمدت إلى طريق القوة، فنظمت اعتداءها المعروف على الحبشة رغم المعاهدات المعقودة، واستولت عليها، وحققت بذلك بعض مطامعها الاستعمارية
وأما ألمانيا فلم تفكر قبل قيام الحكومة النازية في أن تثير مسألة المستعمرات بصورة جدية، وإن لم تنقطع منذ معاهدة الصلح عن الشكوى من فداحة شروطها المرهقة، ولم تنقطع ألمانيا بالأخص لحظة عن السعي في سبيل التنصل من تبعة الحرب التي اتخذت ذريعة لسحقها وتصفيدها بمثل هذه الفروض والمغارم الفادحة، وكانت ألمانيا تثير مسألة
المستعمرات من آن لآخر ولكن بصورة نظرية فقط، فلما قامت الحكومة النازية منذ أربعة أعوام كان برنامجها الواضح أن تنكر معاهدة فرساي برمتها، وأن تنكر بالأخص الأساس الذي قامت عليه وهو تبعة ألمانيا في الحرب الكبرى، وأن تحطم من نصوصها القائمة كل ما يمس السيادة الألمانية أو يغل حقوق ألمانيا وحرياتها؛ وقد فازت ألمانيا الهتلرية في هذه الأعوام القليلة بتحقيق غايتها من نقض معاهدة فرساي وتمزيقها. وفي نفس الوقت الذي كانت ألمانيا تنكر فيه تبعة الحرب وتنكر شرعية معاهدة الصلح، كانت تطالب برد مستعمراتها وتنوه بضرورة هذه المستعمرات لتقدمها الاقتصادي والاجتماعي؛ ولما نظمت إيطاليا مشروعها لغزو الحبشة كانت ألمانيا من ورائها تؤيدها بكل ما استطاعت، لأنها كانت ترى في مشروع إيطاليا دعامة لقضيتها الاستعمارية وذريعة لإثارة المسألة الاستعمارية كلها؛ ذلك أن غزو إيطاليا للحبشة لم يكن مشروعاً إيطالياً داخلياً فقط، ولكنه كان يمثل في نفس الوقت طموح الفاشستية إلى التوسع الاقتصادي. ويمثل بالأخص نزعتها العسكرية المتوثبة، وهي النزعة التي تضطرم بها ألمانيا اليوم كما تضطرم إيطاليا، وقد كان في مثل إيطاليا قدوة صالحة لألمانيا؛ وكان العام الماضي بالنسبة لألمانيا عام القضاء على معاهدة الصلح وميثاق لوكارنو، واسترداد ألمانيا لسيادتها المطلقة في مسائل التسليح، وفي منطقة الرين الحرام، أما هذا العام فسيكون بالنسبة لألمانيا عام المستعمرات والمسالة الاستعمارية، كما تدل على ذلك طوالع السياسة الألمانية الجديدة ومقدماتها
فمنذ أشهر يتحدث زعماء ألمانيا الهتلرية وتتحدث صحفها بشدة عن ضرورة استعادة ألمانيا لمستعمراتها السابقة، ويقولون إن المسالة فضلاً عن كونها مسألة كرامة قومية لأن ألمانيا هي الدولة العظمى الوحيدة التي حرمت من المستعمرات، قد أضحت في نفس الوقت بالنسبة لألمانيا ضرورة اقتصادية واجتماعية، لأن سكان ألمانيا يزيدون بسرعة وألمانيا لا تستطيع الحصول على المواد الأولية اللازمة لصناعتها إلا بالشراء واستنزاف موارد ثروتها القومية، وهي حالة تهدد كيانها الاقتصادي؛ وقد رأينا الدكتور شاخت زعيم ألمانيا الاقتصادي يهدد أوربا بالانفجار إذا لم تحقق ألمانيا أمانيها الاستعمارية، ورأينا الجنرال جيرنج رئيس الحكومة البروسية يصف اقتطاع الحلفاء للمستعمرات للألمانية بأنه سلب وسرقة صريحة؛ وقد كانت هذه كلها تمهيدات عنيفة للخطوة الرسمية التي تزمع ألمانيا أن
تتخذها في سبيل المسالة الاستعمارية؛ وفي 30 يناير الماضي أعلن الهير هتلر زعيم الدولة الألمانية في خطابه الرسمي الذي ألقاه في مجلس الريخستاج لمناسبة الذكرى الرابعة لتولي النازي الحكم مطالب ألمانيا الصريحة في سبيل استرداد مستعمراتها وبذلك اتخذت ألمانيا في هذه المسالة موقفها الرسمي الصريح؛ ولم يمض على تصريح الهير هتلر أيام قلائل حتى كان صدى المطالب الألمانية يتردد في دوائر باريس ولندن، وحتى وقعت المقابلة الأولى بين الهير فون ريبنتروب السفير الألماني في لندن، وبين اللورد هاليفاكس القائم بأعمال وزير الخارجية البريطانية، وفيها بسط السفير الألماني وجهة نظر حكومته في مسالة المستعمرات
ويجب أن نذكر إلى جانب ذلك كله موقف ألمانيا من المسألة الإسبانية وهو موقف وثيق الصلة بمطالبها ومشاريعها الاستعمارية؛ فقد اشتركت ألمانيا مع إيطاليا والبرتغال في تدبير الثورة الإسبانية القائمة، وعاونت زعيمها الجنرال فرانكو بالرجال والذخائر، واعترفت بحكومته أي بحكومة برجوس الفاشستية، ولألمانيا عدة سفن حربية في المياه الإسبانية تعاون مشاريع الثوار؛ وقد أذيع في الأسابيع الأخيرة أن ألمانيا استطاعت أن تحصل من الجنرال فرانكو على امتيازات عظيمة لاستغلال مناجم النحاس وغيره في أنحاء كثيرة من أسبانيا؛ وقد ذهبت ألمانيا إلى ابعد من ذلك فحاولت بالتفاهم مع الجنرال فرانكو أن تحتل مراكش الإسبانية، وأنزلت فيها بعض قواتها فعلا؛ ولم يك ثمة شك في الغايات الاستعمارية المباشرة أو غير المباشرة التي تعلقها ألمانيا على هذه الحركة التي ذكرتنا بحادث أغادير في سنة 1912، وهو الحادث الذي استغلته ألمانيا يومئذ لمصالحها الاستعمارية؛ بيد أن ألمانيا اضطرت إزاء حزم فرنسا وما أبدته من الاستعدادات البحرية العظيمة في المياه الإسبانية وما همت به من اتخاذ الإجراءات العسكرية السريعة في مراكش وعلى حدود أسبانيا الشمالية أن تتراجع في مشروعها وأن تؤكد أنها لا ترمي إلى أية غاية استعمارية في مراكش الإسبانية أو في أسبانيا ذاتها
والآن ما هي الاحتمالات التي يمكن أن تسفر عنها حركة ألمانيا في سبيل المستعمرات؟ إن ألمانيا تتقدم بمطالبها إلى جميع الدول التي استولت على أملاكها السابقة في أفريقية وفيما وراء البحار، وهي إنكلترا وفرنسا وبلجيكا واليابان؛ وهي تتقدم إلى إنكلترا بصفة خاصة
لأنها وضعت يدها على اكبر قسم من هذه التركة، ولأن موقفها من المسألة قد يغدو مفتاح الموقف كله؛ وقد كانت السياسة البريطانية تتوقع هذه الخطوة من ألمانيا منذ أشهر، ولهذا فقد بحثت المسالة، وانتهت فيها على ما يلوح إلى خطة معينة لم تتضح قواعدها بعد. بيد أنا نستطيع أن نتبين موقف السياسة البريطانية من بعض التصريحات الرسمية والتعليقات غير الرسمية؛ وقد أدلى السير صمويل هور وزير الخارجية البريطانية السابق، منذ اكثر من عام خلال مناقشات عصبة الأمم في المسألة الحبشية بأول رأي واضح لإنكلترا في المسألة الاستعمارية وهو أن إنكلترا مستعدة لأن تنظر في مسألة تنظيم توزيع المواد الأولية تنظيما يكفل توزيعها بصورة أكثر عدالة ورضاء للدول المحرومة منها؛ أما عن التخلي عن المستعمرات ذاتها أو إعادة شيء منها إلى ألمانيا، فقد صرح مستر ايدن وزير الخارجية الحالي، وكذلك مستر بلدوين رئيس الوزارة اكثر من مرة في مجلس العموم، بأن إنكلترا لا تنوي التخلي عن أية مستعمرة أو منطقة يظللها العلم البريطاني؛ بيد أنه يلوح لنا أن السياسة البريطانية قد تقدمت أخيراً خطوة أخرى في سبيل بحث المسألة الاستعمارية، وهو أنها مع عدم استعدادها لبحثها من الوجهة الشخصية، فإنها على استعداد لبحثها من الوجهة الدولية العامة، أعني من حيث ارتباطها بالسلام الأوربي، ووضع تسوية عامة للمسائل الدولية والأوربية يستقر معها السلم بصورة نهائية؛ ومن هذه مسألة تحديد السلاح، وتأمين الحدود المختلفة، وحل المشكلة الأسبانية وغيرها؛ وهذا ما تأباه ألمانيا، لأنها لا تقبل المساومة في أي مسالة تتعلق بسيادتها وحرياتها في العمل، وتصر على أن تنظر المسألة الاستعمارية في ذاتها؛ وهي تجد في إنكلترا ذاتها بعض المؤيدين لنظريتها، فقد رأينا مستر جارفن الكاتب السياسي الكبير ينصح بإعادة مستعمرات ألمانيا إليها، ويقول أن مسألة المستعمرات لا تستحق أن تكون مثارا للحرب بين الدول العظمى
ولا ريب أن المسالة لا يمكن أن تحل بمثل هذه السهولة؛ فإنكلترا لا تقبل مطلقا أن ترد لألمانيا مثلا شرق أفريقية الألماني وبذا تعيدها خصما منافسا لها في شرق أفريقيا إلى جانب إيطاليا الفاشستية، أو تعيد إليها غرب أفريقيا الألماني فتهدد بذلك سلامة إمبراطوريتها في جنوب أفريقيا وفي أواسطها، أو مستعمرة غانه الجديدة فتهدد مواصلاتها مع استراليا؛ وقد كانت هذه أهم مستعمرات ألمانيا السابقة. وليست فرنسا اقل تمسكا من
إنكلترا بما وضعت يدها عليه من تراث ألمانيا السابق في الكمرون وفي توجلاند؛ والنظرية الفرنسية في مسألة المستعمرات معروفة، خلاصتها أن فرنسا لا تقبل مطلقا أن تعيد إلى ألمانيا أية مستعمرة أو أراض تستغلها ألمانيا في سبيل تدعيم قواتها ومشاريعها العسكرية، ولا تنظر في مسألة المستعمرات إلا إذا ارتبط البحث فيها بمسألة السلامة العامة، وأسفر عن ضمانات جديدة مؤكدة تقدمها ألمانيا في هذا السبيل
والخلاصة أن مسالة المستعمرات هي مسألة اليوم، وهي طور جديد من أطوار الصراع التي تثيره ألمانيا الهتلرية في سبيل استرداد مكانتها القديمة كاملة شاملة وفي سبيل تدعيم مشاريعها الاقتصادية والعسكرية؛ وقد يؤدي البحث فيها إلى بحث الموقف الأوربي كله، ويؤدي إلى تسوية دولية عامة؛ وقد يقف البحث فيها عند الخطوات التمهيدية إذا أصرت ألمانيا على وجهات نظرها المعروفة من رفض البحث في مسالة تحديد التسليح، والإصرار على وجوب إبعاد روسيا عن حظيرة الدول الأوربية، وعندئذ تتعقد المشكلة الأوربية، ويصعب التكهن بما قد يفضي إليه هذا التعقيد من التطورات
ويجدر بنا أن نشير أخيراً إلى أن هذه الشهوة المضطرمة التي تحدو الدول الفاشستية، وتحدو ألمانيا إلى السعي لامتلاك المستعمرات لا ترجع إلى بواعث اقتصادية واجتماعية حسبما تصورها لنا السياسة الفاشستية، فإن الإحصاءات تدل على أن المستعمرات تغدو في أحيان كثيرة، عبئاً اقتصاديا، وقد لا يهاجر إليها من البيض سوى آلاف قليلة لا تؤثر في تخفيف مشكلة السكان في البلد الأصلي، واكثر ما ترجع هذه الشهوة إلى بواعث سياسية وعسكرية فوق ما ترجع إليه من الأطماع المادية واقتصادية؛ وهي نفس البواعث التي تحمل الدول الأخرى على الاحتفاظ بتراثها الاستعماري الشاسع، وهي في الواقع معركة الغنائم والأسلاب الخالدة؛ فإذا كانت ألمانيا قد فقدت مستعمراتها في حرب كبرى هزمت فيها وسحقت، فمن الصعب أن تتوقع عودة هذه المستعمرات إليها غنيمة باردة، وعليها إما أن تبذل الثمن المناسب، وإما أن تخوض حرباً تحرز فيها النصر، وعندئذ تستطيع أن تملي شروطها، كما أملى عليها الظافرون شروطهم بالأمس، وهذا ما نستبعد وقوعه في الظروف الحاضرة
(* * *)
2 - صعاليك الصحافة.
. .
للأستاذ مصطفي صادق الرافعي
وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيس التحرير بعض ساعة ثم رجع تدور عيناه في جِحَاظَيْهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار. فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتا على كنفي أنفه تتمان كآبة وجهه المشوه، فكان منظرهما من عينيه السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين. . .
وتركهما الرجل لشأنهما وسكت عنهما. فقلت له: يا أبا عثمان هاتان ذبابتان ويقال إن الذباب يحمل العدوَى
فضحك ضحكة المغيظ وقال: إن الذباب هنا يخرج من المطبعة لا من الطبيعة. . . فأكثر القول في هذه الجرائد حشرات من الألفاظ: منها ما يستقذر، وما تنقلب له النفس، وما فيه العدوى، وما فيه الضرر؛ وما بد أن يعتاد الكاتب الصحافي من الصبر على بعض القول مثلما يعتاد الفقير من الصبر على بعض الحشرات في ثيابه. وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيس التحرير على أن يكتب كلاماً لو أعفاه منه وأراده على أن يجمع القمل والبراغيث من أهدام الفقراء والصعاليك بقدر ما يملأ مقالة. . . كان أخف عليه وأهون، وكان ذلك أصرح في معنى الطلب والتكليف.
وكيفما دار الأمر فإن كثيراً من كلام الصحف لو مسخه الله شيئاً غير الحروف المطبعية، لطار كله ذباباً على وجوه القراء.
قلت: ولكنك يا أبا عثمان ذهبت مُتَطَلِّقاً إلى رئيس التحرير ورجعت متعقداً فما الذي أنكرت منه؟
قال: (لو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النظر وما يشحذ إليه وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها). هناك رجل من هؤلاء المعنيين بالسياسة كما هي السياسة في هذا البلد. . . يريد أن يخلق في الحوادث غير معانيها، ويربط بعضها إلى بعض بأسباب غير أسبابها، ويخرج منها نتائج غير نتائجها، ويلفق لها من المنطق رقعاً كهذه الرقع في الثوب
المفتوق. ثم لا يرضى إلا أن تكون بذلك رداً على جماعة خصومه وهي رد عليه وعلى جماعته، ولا يرضى مع الرد إلا أن يكون كالأعاصير تدفع مثل تيار البحر في المستنقع الراكد
ثم لم يجد لها رئيس التحرير غير عمك أبي عثمان في لطافة حسه وقوة طبعه وحسن بيانه واقتداره على المعنى وضده، كأن أبا عثمان ليس عنده ممن يحاسبون أنفسهم ولا من المميزين في الرأي، ولا من المستدلين بالدليل، ولا من الناظرين بالحجة. وكأن أبا عثمان هذا رجل حرُوفي. . . كحروف المطبعة ترفع من طبقة وتوضع في طبقة وتكون على ما شئت، وأدنى حالاتها أن تمد إليها اليد فإذا هي في يدك
وأنا أمرؤ سيد في نفسي وأنا رجل صدق ولست كهؤلاء الذين لا يتأثمون ولا يتذممون؛ فإن خضت في مثل هذا انتقض طبعي وضعفت استطاعتي وتبين النقص فيما أكتب، ونزلت في الجهتين فلا يطرد لي القول على ما يرجو ولا يستوي على ما أحب. فذهبت أناقضه وارد عليه؛ فبهت ينظر إلي ويقلب عينيه في وجهي كأن الكاتب عنده خادم رأيه كخادم مطبخه وطعامه هذا من هذا
ثم قال لي: يا أبا عثمان إني لأستحي أن أعنفك. وبهذا القول لم يستح أن يعنف أبا عثمان. . . ولهممت والله أن أنشده قول عباس بن مرداس:
أكُلَيب. . . مالك كلَّ يوم ظالما
…
والظلمُ أنَكدُ وجهه ملعون. . .
لولا أن ذكرت قول الآخر:
وما بين من لم يُعطِ سمعاً وطاعةً
…
وبين تَميمٍ غيرُ حَزِّ الغلاصمِ
حزُ الغلاصم (وقطعُ الدراهم) من قافية واحدة. . . وقال سعيد بن أبي عروبة: (لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجز المخبر - أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانيين وذا قولين مختلفين). وقال أيوب السختياني. . .
وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته فقلت: وقال رئيس التحرير. . .؟
فضحك وقال: أما رئيس التحرير فيقول: إن الخلابة والمواربة وتقليب المنطق هي كل البلاغة في الصحافة الحديثة، ولهي كقلب الأعيان في معجزات الأنبياء صلوات الله عليهم فكما انقلبت العصا حيةً تسعى، وهي عصا وهي من الخشب، فكذلك تنقلب الحادثة في
معجزات الصحافة إذ تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملون والمعرفة بأساليب السياسية، فتكون للتهويل وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة وهي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة. ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود. قال: وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدق الناس، فأن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه ولكن للغرض الذي يساق له، إذ كان مدار الأمر فيهم على الإيمان والتقديس، فأذقهم حلاوة الإيمان بالكذب فلن يعرفوه إلا صدقاً وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب، ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا. . .
ثم قال أبو عثمان: ومعنى هذا كله إن بعض دور الصحافة لو كتبت عبارة صريحة للإعلان لكانت العبارة هكذا: سياسة للبيع. . . .
قلت: يا شيخنا فإنك هنا عندهم لتكتب كما يكتبون، ومقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب تقرأ فيها معان لا تكتب، ويكون في عبارتها حياء وفي ضمنها طلب ما يُستَحى منه. . . والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض اسود في الليل والأسود ابيض في النهار، ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟
قال: بلا نعم الشاهد هو وأمثاله. إنهم مصدقون حتى في تاريخ حفر زمزم
قلت: وكيف ذلك؟
قال: شهد رجل عند بعض القضاة على رجل آخر، فأراد هذا أن يجرح شهادته، فقال للقاضي: أتقبل منه وهو رجل يملك عشرين ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشاهد: بلا قد حججت. قال الخصم: فأسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد: لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها. . .
قال أبو عثمان: فهذه هي طريقة بعضهم فيما يزكي به نفسه؛ ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعوا عن مثل هذا التعبير؛ إذ كانت الحياة السياسية جدلاً في الصحف لنفي المنفي وإثبات المثبت، لا عملا يعملونه بالنفي والإثبات. ومتى استقلت هذه الأمة وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها على الصدق فلا يكون الشأن حينئذ في إطلاق الكلمة الصحافية إلا من
معناها الواقع.
والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة لا يترخص فيها مادام أساسها إيجاد القوة وحياطة القوة وأعمال القوة، ومادامت طبيعتها قائمة على جعل أخلاق الشعب حاكمة لا محكومة. وقد كان العمل السياسي إلى الآن هو إيجاد الضعف وحياطة الضعف وبقاء الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطة، ومن ثم كان الخلق القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفترة بعد الفترة؛ وذلك هو السبب في أن عندنا من الكلام المنافق أكثر من الحر، ومن الكاذب أكثر من الصادق، ومن المماري أكثر من الصريح؛ فلا جرم ارتفعت الألقاب فوق حقائقها وصارت نعوت المناصب وكلمات باشا وبك من الكلام المقدس صحافياً. . . .
يا لعباد الله! يأتيهم اسم الأديب العظيم فلا يجدون له موضعاً في (محليات الجريدة)؛ ويأتيهم أسم الباشا أو البك أو صاحب المنصب الكبير فبماذا تتشرف (المحليات) إلا به؟ وهذا طبيعي، ولكن في طبيعة النفاق، وهذا واجب ولكن حين يكون الخضوع هو الواجب. ولو أن للأديب وزناً في ميزان الأمة لكان له مثل ذلك في ميزان الصحافة، فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عامية الشعب ليس غير. . . ومن ذا الذي يصحح معنى الشرف العامل لهذه الأمة وتاريخها - وأكثر الألقاب هي أغلاط في معنى الشرف. . .؟
ثم ضحك أبو عثمان وقال: زعموا أن ذبابة وقعت في بارجة (أميرال) إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القائد العظيم وقد نشر بين يديه درجاً من الورق وهو يخطط فيما رسما من رسوم الحرب. ونظرت فإذا هو يلقي النقطة بعد النقطة من المداد ويقول: هذه مدينة كذا، وهذا حصن كذا، وهذا ميدان كذا. قالوا فسخرت منه الذبابة وقالت: ما ايسر هذا العمل وما أخف وما أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي وَنِيمَها هنا وهناك وتقول: هذه مدينة، وهذا حصن. . .
والتفت الجاحظ كأنما توهم الجرس يدق. . . فلما لم يسمع شيئاً قال:
لو أنني أصدرت صحيفة يومية لسميتها (الأكاذيب)، فمهما أكذب على الناس فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النفاق تحت عنوانه
قال: ثم أخط تحت أسم الجريدة ثلاثة أسطر بالخط الثلث هذا نصها:
ما هي عزة الأذلاء؟ هي الكذب الهازل
ما هي قوة الضعفاء؟ هي الكذب المكابر
ما هي فضيلة الكذابين؟ هي استمرار الكذب
قال: ثم لا يحرر في جريدتي إلا (صعاليك الصحافة) من أمثال الجاحظ. ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العاملين، وعلى رجال الشرف فأعظم العمال المساكين، وعلى أصحاب الألقاب فأقدم الأدباء والمؤلفين. و. . .
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .
لها بقية
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي الفونس كار
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
(2)
زهرة السلوان
حذار من زهرة السلوان! إنها زهرة يصيبك بهاؤها ويقتلك عبيرها. إنها لزهرة تتشح الجمال وتتكلف الابتسام، تحدجك بلفتات ساحرة وتستهويك وتقول لك: - تعال إلي، ففيَّ الإخلاص وفيَّ العزاء.
رأيت رجلاً اقتطف زهرة السلوان من حقول الحياة بعد أن عرفته هائماً تتقد في قلبه النار التي لا تنير دون أن تحرق، فأصبح خليًّ البال يحدق فيمن كان يهواها فلا يفرح ولا يحزن، لا يلذه شيء ولا يتألم لشيء
ولكن السلوان لا يدخل وحده إلى القلب، بل يجر معه رفيقه الملازم له: يجر معه الضجر والملال. ومن اقتطف زهرة السلوان يسير حزيناً مطرقاً بالأرض لأنه لن يحب بعد. . .
من سطا السلوان عليه فهو طريد لا قرار له
من ينس مرة فلن يحب أبداً
أرى الخليَّ يقطع السهول ويتسلق الروابي فيقف متضجراً ينصت إلى تغريد الأطيار ويسرح الطرف في أزهار الخمائل وجداول المروج متسائلاً أمام الطبيعة العاشقة عما أفقده عشقه، فتجيبه الطبيعة: لأنك قطفت زهرة السلوان
ويبكي هذا الطريد زماناً كان يبكي فيه إذ كان شقياً، ولكن قلبه لم يكن ساكناً لا حرارة فيه ولا خفوق
إن من الأمراض ما يفوق ألم شفاؤها آلام استفحالها
دلني على منابت زهرة السلوان لأجتنبها، قل لي أين تنور لأحول طريقي عنها
هي زهرة صفتها أسم لها؛ تنبت في الأماكن الموحشة المقفرة وقد تنمو في المدن بين الحركة والضجيج، غير أن جرثومتها عالقة في عالم الخيال في أسرار حياة الموت وموت
الحياة
هي زهرة الضجر والملال والعذاب، زهرة السلوان
في الأدب المقارن
الرحلة
في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
كان الإنسان رحالة قبل أن يكون ذا وطن: كان يهجر جماعات جماعات بقاع الأرض الشحيحة ويقصد أصقاعها الخصيبة ووديانها الكريمة، طلباً للقوت والتماساً للغنم؛ فلما استقر في الأوطان والمساكن لم يستغن في حياته عن الرحلة، بل ظل يحفزه إليها ابتغاء الرزق تارة، وحب الاستطلاع والمتعة أخرى، وشهوة الغلب والفتح طوراً، ونشدان العلم آنة، وأداء مناسك دينه حيناً، والفرار من الظلم أو الذل أحياناً؛ وامتازت عصور نهضاته خاصة باشتداد حبه للرحلة: فإذا ما مشت نسمة الحياة بين الأمة، وتنبهت فيها ثقتها بنفسها، وامتلأت روحها بحب العمل والإقبال على أسبابه، تطلعت دولتها إلى الخارج تبسط سلطانها عليه، وراح أفرادها في أثر جنودها يبتغون الرزق ويتوسمون وجوه المعرفة، ويهجمون على ظواهر الكون وخفاياه
تلك النهضة الروحية التي تهب ريحها بين الأمة، وتدفع أبناءها إلى الارتحال وطلب المغامرة والمجد والعلم، وابتغاء الجديد والطريف، تصحبها عادة نهضة أدبية تعبر عن هذا الروح الوثاب، وتنعكس فيها آثار تلك الرحلات وما تبهر به الأذهان من روعة الكون وعظمته ورحب أقطاره، وما تحدث في العقائد الدينية والعلمية من ثورة، وما توسع به آفاق التفكير من حقائق جديدة وما تدخل في الأدب من عناصر أجنبية تخالط عناصره المحلية، من قصص وأوصاف وألفاظ؛ فيفيد الأدب بذلك كله فائدة كبرى، وينبغ فيه من أعلام النظم والنثر أنداد من ينبغون من أفذاذ المغامرة والقتال والرحلة
عرف قدماء المصريين هذه النهضة المصحوبة بحب المغامرة والاستطلاع على عهد إمبراطوريتهم في آسيا، فامتلأ أدبهم إذ ذاك بقصص الهجرة والمخاطرة والتجوال؛ وإلى أدب ذلك العهد ترجع القصة التي مازالت تتشكل على توالي الأجيال، حتى انتهت إلينا في شكل حكاية علي بابا واللصوص الأربعين. ومشت بين الإغريق روح المغامرة تلك أبان
نهضتهم قبيل الحروب الفارسية وبعدها، فكان كثير من أفذاذهم وعلماءهم أمثال لكرغ وصولون وهيرودوت وطاليس وأفلاطون رحالين جابوا مهود الحضارة الشرقية، وأخذوا عن المصريين والبابليين علومهم، وكتبوا مشاهداتهم في رحلاتهم، واصفين جغرافية تلك البلاد وتاريخها، وهبت ريح المغامرة شديدة على الممالك الأوربية في عهد إحياء العلوم، فدفعتهم إلى ارتياد العالم المعروف واكتشاف العالم المجهول، وبسط حضارتهم وثقافتهم في أطراف العالمين القديم والجديد. وكان من رادة هذه النهضة مركوبولو وداجاما وكولمبس
وقد كان أكثر العرب في جاهليتهم رحالين لا ينزلون أرضاً إلا ريثما يتحولون عنها، يطلبون الكلأ أو يبتغون القتال أو ينقلون التجارة؛ ومن ثم شغفوا حباً بإبلهم وجيادهم، وترنموا بوصفها، وكثرت في لغتهم أسماؤها وأسماء سيرها، وقدموا الحديث عنها بين يدي قصيدهم، وأدمنوا ذكر ارتحال أحبتهم، وتمدحوا بطول التنقل وإنضاء الرواحل وإباء المقام بأرض الذل. وكان بعض سادتهم يسفرون إلى ملوك الروم والفرس؛ وإلى تلك الرحلات المختلفة الأغراض يرجع الفضل في انتشار بعض أسباب الحضارة والرقي الفكري والكتابة الخطية بين العرب قبيل الإسلام. ولا ريب إن الرحلات التي قام بها الرسول الكريم كانت من أهم عوامل تكوينه الروحي والعقلي، حتى تهيأ له أن يضطلع برسالته العلوية؛ فالرحلة عادة من أهم العناصر المكونة لشخصية العظيم؛ كما أن الرحلات التي قام بها في الجاهلية أفذاذ القواد أمثال عمرو بن العاص إلى الممالك المجاورة كانت عظيمة النفع للجيوش العربية حين توجهت لغزو إمبراطوريتي الفرس والروم. ومن تمدح العرب بالرحلة عن موطن الهوان قول الشنفري:
ولولا اجتناب الذام لم يلف مشرب
…
يعاش به ألا لدي ومأكل
ولكن نفساً حرة لا تقيم بي
…
على الذل ألا ريثما أتحول
وقول الشاعر الإسلامي أوس بن معن:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن خاف القلى متعزل
ونهض العرب نهضتهم الحربية العظيمة فرأوا من أقطار الأرض وصنوف الخلق ما لم يكن يخطر لهم ببال وكان لذلك كل الأثر في أذهانهم وآدابهم، والتقت تحت رايتهم شتى الحضارات والأجناس، وشدت الرحال من أقصى إمبراطوريتهم إلى أقصاها: وهدأت
ضجة الحرب فمشى التجار حيث مشى الجنود من قبل، وسار العلماء والأدباء في شرقي الأرض ومغربها يطلبون العلم والأدب، ويلتمسون الرزق والحظوة، وأظهر العرب من حب الرحلة لشتى الأغراض ما لا تبذهم فيه أمة أخرى: هاجروا جماعات فأنشئوا الأساطيل يفتحون بها سواحل البحر وجزره، وأفراداً فبثوا الدعوات وأنشئوا الدول، وسافروا تجار فنشروا الإسلام وحضارته في الأطراف والمجاهل التي لم تبلغها سنابك خيول الفاتحين، وتجشم علماؤهم متاعب الأسفار طلباً لتحقيق العلم والمشاهدة والتثبت من صحة الأحاديث الشريفة. وحرص الكثيرون على حج بيت الله الحرام مهما بعد، وزيارة عاصمة الإسلام حيث كانت
وظهر من أعلام الرحالين الذين طافوا أنحاء الإمبراطورية الإسلامية وجاوزوها إلى الأقطار الأجنبية شغفاً منهم بحب الاستطلاع والتجوال، أو ولوعا بعلم تقويم البلدان وطلباً لغرائبه، أمثال المسعودي وابن جبير وابن بطوطة، طوف أولئك الرحالون تدفعهم الروح التي كانت تدفع هيرودوت وديودور قديماً، والتي حثت ماجلان وكوك وأضرابهما فيما بعد، وما تزال تدفع العلماء إلى قرع أبواب العلم المغلقة، وطرق سبله المجهولة، ودون أولئك الرحالون المسلمون مشاهداتهم، فنالت كتبهم الذكر والأهتمام، ودرست لا في البلاد العربية وحدها، بل في أوربا حيث ظلت زماناً من أكبر مراجع التاريخ والجغرافيا؛ ولم تكن رحلات كولمبس غرباً وداجاما شرقاً في الحق إلا إتماماً لما بدأه العرب وحذقوه من التجوال في البحار وارتياد الأقطار. وقد انتفع كلا ذينك الكاشفين وغيرهما بآثار العرب في الرحلة والجغرافية، واستفادوا بخبرة الملاحين المسلمين
كان لكل هاتيك الكتب والرحلات والأخبار أثاراها في الأذهان والآداب؛ غير أنه لما كان الأدب العربي قد نفى من حضيرته القصة وازدرى الخرافة، وزهد في كثير من منادح القول، فقد أهمل الكثير من ثمار تلك الأسفار وطرائف تلك الأخبار التي تحوي أنفس المواد لخيال الأديب وفنه، فلم تبد آثار الرحلات والمخاطرات في الأدب العربي الفصيح إلا ضئيلة متفرقة: ففي المقامات شيء منها، إذ تدور المقامة حول أفاق يذرع الأرض ويهبط كل يوم بين قوم؛ وإنما استأثر بالتحدث عن الرحلة والمخاطرة والبلاد البعيدة الأدب العامي: تجمعت أقاصيص الأمم القديمة، وأضيفت إليها أخبار الرحلات الجديدة، وذاع كل
ذلك في العامة، ودون بعضه في قصص ألف ليلة وأشباها، وظل بعضه غير مدون يتداول شفاها
ولم يكن الأدباء أنفسهم أقل من العلماء والتجار حباً للتجوال وجوباً للأقطار، بل كانت الرحلة عندهم جزءاً من منهاج الدرس والتأدب لا غنى عنه. فكانوا يشدون الرحال إلى العواصم، ويشخصون إلى العلماء والأدباء المتقدمين ويقصدون دور الكتب التي أولع بإنشائها الأمراء، فإذا ما قضوا من ذلك وطراً التفتوا إلى طلب الحظوة والنوال، فنصوا المطايا إلى أبواب الملوك والخلفاء. فإذا تمت لهم الحظوة وأضواهم الملك تحت ظله صحبوه في قليل أو كثير من رحلاته وغزواته، كما صحب عباس بن الأحنف الرشيد وابن هانئ الأندلسي المعز. فحظ أدباء العربية عامة من الرحلة لم يكن بالضئيل حتى أبو العلاء الكفيف لم يقعده عماه عن ركوب مشاق الأسفار والشخوص إلى العواصم
وقد ضرب كبير شعراء العربية المتنبي في الرحلة بسهم وافر: قضى شطراً من شبابه في البادية، وجاب أطراف العالم العربي، وقصد الأمراء ما بين فارس ومصر، وصحب سيف الدولة في حروبه، ومات وهو على سفر، وامتلأ شعره بذكر الرحلة والشغف بها والتمدح بتعوده إياها، ووصف الخيل والإبل وذكر الليل والفلاة وتفضيل النياق على الغواني. وقد كان يحب الرحلة حباً أصيلا لا تكلف فيه ولا ادعاء للبأس والفروسية: كان دوام التأهب والنقلة يشفي من نفسه الطامحة إلى جلائل الأعمال صداها، ويستوعب نشاط جسمه المتحفز للنضال وحمل الأعباء. لم تتهيأ له الفرصة لمجالدة الأبطال وتضريب أعناق الملوك فاعتاض عن ذلك مجالدة قوارع الطبيعة ومجابهة شدائدها. ومن رصين أشعاره في ذلك قوله:
ذراني والفلاة بلا دليل
…
ووجهي والهجير بلا لثام
فإني استريح بذا وهذا
…
واضوي بالاناخة والمقام
وقوله:
غني عن الأوطان لا يستفزني
…
إلى بلد سافرت عنه إياب
فحب الرحلة كان أمراً شائعا في الدولة العربية، يدعو إليه توطيد الملك وبسط السلطان وابتغاء الرزق، ونقل التجارة ونشدان العلم والأدب وتأدية مشاعر الدين. وقد أدلى الأدباء
في ذلك بدلوهم، وقل منهم من لم يرحل عن وطنه ولم يتغرب في بعض الأغراض؛ واثر ذلك ملحوظ في الأدب، غير أنه ضئيل محصور في مواطن قليلة: كوصف الرحلة إلى بلد الأمير الممدوح يقدم في صدر المدحة، وكالحث على الارتحال في طلب العلم والرزق والمنفعة وصحبة الماجدين في أشعار مشهورة سار كثير منها أمثالاً: يشبه فيها المرء في وطنه بالأسد في غابة لا يصيد، والماء في مستقره يأسن، والعود في أرضه لا ينفق ولا يزكو، والشمس في دارة الحمل لا يغني عنها شرف المحل؛ ومن جيد ما قيل في ذلك قول أبي تمام:
ولكنني لم أحو وفرا مجمعا
…
ففزت به إلا بوفر مبدد
ولم تعطني الأيام نوما مسكنا
…
ألذ به إلا بنوم مشرد
وطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة
…
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
وكثير مما قيل في الرحلة في هذا الباب متشابه لا يمتاز بعضه من بعض إلا في قوة الأسلوب أو ضعفه، وكثرة ما به من محسنات أو قلته، وكثير منها يتفق في تداول نفس المعاني والاستعارات، جرياً على عادة المحافظة على تقاليد المتقدمين الأدبية، التي أتبعها الأدباء في كثير من فنون القول. أما الوصف المسهب لروائع المشاهدات التي تمتع بها الأديب في سفراته، وأثرها في ذهنه وقلبه، وتحويلها لنظرته إلى الحياة والكون، وما أثارته فيه من تأمل طويل، وما نازعه من حنين عميق إلى أوطانه، وما استرعى نظره من محاسن الطبيعة، وراع نفسه من آثار الأقدمين وبدائع فنون الإنسان؛ أما الوصف المسهب المفصل لكل ذلك، وتصوير أثر الرحلة في تكوين شخصية الأديب - فهي من أم عناصر ذلك التكوين - فقلما يبدو في الأدب العربي، فهذا باب آخر من أبواب الأدب الصميمة تغاضى عنه الأدب العربي، وتركه بين أيدي كتاب التاريخ وتقويم البلدان، وتخلى للأدب العامي
فالرحلة عن الموطن في نظر الأديب المثقف ليست فقط وسيلة لابتغاء الرزق أو اصطحاب الماجد أو قصد الملوك، ولا هي وسيلة لطلب العلم والأدب المدون والمحفوظ فحسب. بل هي قبل هذا وذاك وسيلة للمشاهدة واكتشاف الجديد والاطلاع على المجهول والوصول إلى
البعيد. فطول مقام المرء في الحي لا يبغضه إلى معارفه ولا يحرمه من الوفر المجمع فقط، بل هو يضيق أفق ذهنه ويخمد قوى نفسه ويكفكف وثبات مطامحه؛ والرحلة تثير عزيمته وتزيد نشاطه وقدرته على التفكير والإنتاج، وتطلعه على أحوال الأمم الأخرى التي تزيده بصراً بأحوال أمته ومجتمعه ونفسه، وتشهده بدائع الطبيعة التي تتجدد حلاها في كل خطوة، وتتبدل محاسنها من بقعة إلى بقعة، وتبدي من أسرار جمالها صورة في أثر صورة، وفي ذلك من متعة النفس وغذاء الخيال والفن ما فيه. كما أن الوحدة التي هي نصيب الغريب في كثير من أوقاته تعوده الوقوف عن العالم المضطرب بنجوة، وإدمان الفكرة فيما يشاهد من أمور بنيه، وبالكثير من هذا يعج الأدب الإنجليزي
كان الإنجليز كما كان العرب في أول أمرهم رحالة دائبي التجوال والهجرة والمقاتلة، بيد أنهم كانوا منصرفين إلى البحر مزاولين للملاحة، فلما استوطنوا الجزيرة جنحوا إلى حياة الاستقرار رويدا رويدا، وإن لم ينفكوا عن حبهم للبحر وركوب أثباجه، وساهموا في النهضة الأوربية فأولعوا بالرحلة والمغامرة والكشف في عهد اليزابيث وما يليه، ونبغ من رحاليهم ومغامريهم أمثال رالي ودريك من رفعوا مكانة إنجلترا في البحر وما وراءه، وتلاهم التجار ورجال الأعمال والمهاجرون اتباع المذاهب الدينية المضطهدة، وانتشر الشعب الإنجليزي شرقا وغربا، وانتشر العلماء والأدباء في اثر ذلك يكثرون معارفهم ويستقصون مباحثهم، وصار من تقاليد خريجي الجامعات أن يطوفوا في بعض أنحاء القارة الأوربية عقب إتمام دراستهم، ليعرفوا أحوال الأمم ويزوروا خاصة إيطاليا واليونان مهدي الحضارة القديمة، وفرنسا التي ظلت زعيمة الثقافة والمدنية في أوربا مدى حين
وكان لأكثر أدباء الإنجليزية ولع بالرحلة لا ينقضي، وشغف بالبعيد لا يهدأ، وغرام بالاستطلاع لا يحد، واشتغال بمظاهر الطبيعة المتجددة ومحاسنها المتعددة، وتطلع إلى أحوال الأمم قاصيها ودانيها حاضرها وماضيها، ومن ثم أولعوا بالرحلة يقضون بها مآرب أرواحهم: فطوفوا في أنحاء جزيرتهم ولاسيما منطقة البحيرات ومرتفعات اسكتلندا وجزرها، وشخصوا إلى أصقاع أوربا المشهورة كباريس وإسبانيا ورومة والبندقية وأثينا، وجول بعضهم مثل كنجليك ولين بول في الشرق، وأودعوا أوصاف رحلاتهم تلك مذكراتهم أو رسائلهم إلى أصدقائهم في الوطن أو قصصهم أو قصيدهم
ومن أدبائهم الذين طوفوا كثيراً ديفو الأفاق صاحب روبنسون كروزو. وجولد سمث الذي ضرب في أنحاء أوربا على قدميه وهو لا يملك شروى نقير، وكان يتكسب بالعزف على مزمار، وسبنسر الذي قضى ردحا طويلا في أرلندة، وبيرون الذي جول مراراً في أواسط أوربا وسواحل البحر الأبيض، وانتهى به المطاف إلى اليونان حيث استشهد في حرب الاستقلال، وشلي الذي قصد إلى إرلندة ليقودها إلى الحرية ويحقق فيها مجتمعه الفاضل، ثم آب إلى إنجلترا ومازال في ترداد بينها وبين أوربا إلى أواخر أيامه، تركت هذه الرحلات آثارها واضحة في الأدب، فمن سفراته اتخذ بيرون مادة لقصيده ولاسيما قصيدتيه الطويلتين:(تشايلد هارولد) و (دون جوان)، وفيهما يصف مشاهداته براً وبحراً وأثرها في ذهنه. وكتب شلي وكيتس وبروننج وهاردي الكثير عن آثار رومة وفنون إيطاليا عامة. وكان تنيسون في رحلاته يدون ملاحظاته لدقائق المناظر الطبيعية كي يعود إليها وقت النظم. وهيهات أن تتتبع آثار الرحلة ومظاهر الشغف بها في الأدب الإنجليزي، فهي مبثوثة في كل موضع منه
لم يقنع أدباء الإنجليزية بتدوين أوصاف رحلاتهم في آدابهم تدويناً مسهبا نابضا بالحياة، بل عمدوا - ولاسيما من قعد بهم الجد عن القيام بالرحلات الطوال التي يحلمون بها - إلى تخيل الأقطار البعيدة والمشاهد الغريبة والأمم العجيبة والحوادث الجسيمة وأودعوا كل ذلك قصصهم وأشعارهم ليشفوا غليل نفوسهم الظامئة إلى الجدة والحركة والجمال الطبيعي، فتخيل شكسبير وقائع رواياته في شتى بقاع الأرض والبحر، وتخيل كولردج مشاهد (الملاح القديم) في جهة من المحيط نائية مملوءة بالأسرار والألغاز، وتصور ستيفنسون في قصصه الحوادث الجسيمة في أقاصي الجزر والبحور، وهي الحوادث والمناظر التي كان يقعده الداء الممض عن مباشرتها بنفسه
ولجأ الأدباء إلى تاريخ ملاحيهم وجوابيهم يقصونه، وإلى الخرافة القديمة يستعينون بها على تصوير نزوعهم إلى الرحلة والمشاهدة في شتى الطور، كما استعانوا بتلك الخرافة في الكثير من فنون الأدب. ومن أبدع آثار ذلك قصيدة تنيسون المسماة يوليسيز باسم البطل اليوناني الذي تقص الأوديسا أخبار مغامراته، وقد أصبحت قصيدة تنيسون تلك عنوانا في الإنجليزية على حب الرحلة. تبدأ القصيدة ويوليسيز ملك في جزيرة إيثاكا، يتململ من
الإقامة، ويتذكر سالف مخاطراته ومشاهداته ووقائعه حول طروادة، ويحن إلى معاودة حياة التجوال في البر والبحر واكتساب المعارف بلا انقطاع، فيعول على ترك ابنه تليماك ملكا مكانه، ويهيب بصحبة الأقدمين الذين شيبتهم الأهوال في صحبته، أن يأخذوا مقاعدهم من السفينة، ويهووا بمجاديفها على الأمواج المصطفقة، فتنطلق بهم إلى حيث لا يعلمون، إما إلى الردى وإما إلى جزائر الفردوس حيث يلقون البطل أخيل. يصف تنيسون كل ذلك في أسلوبه الشعري الممتاز، وفي خيال معجب أخاذ، ويرصعه بوصف مطرب لمناظر الطبيعة جملا وفرادى، من سهول طروادة إلى أثباج اليم وهبوط حواشي الليل عليها، إلى تلألؤ النجوم على صخور الشواطئ البعيدة، وصعود القمر منها وئيداً.
ومن أجمل أشعار الحنين إلى الوطن ومناجاته قول جولد سميث في (القرية المهجورة): (قد كنت آمل دائماً - في جميع جولاتي في هذا العالم الرحب المملوء بالمتاعب وفي جميع أشجاني، وقد حباني الله نصيبي منها - أن أتوج ساعاتي الأخيرة بالقرار بين هذه المغاني البسيطة المتواضعة؛ وكنت آمل - إذا ما تقشعت همومي - أن أعود إلى الوطن، وفي الوطن أقضي نحبي، كما يعود الأرنب البري الذي تجد الكلاب والأبواق في أثره، إلى الجحر الذي أنطق منه أول مرة)
ومن أعذب الأشعار المترجمة عن حب الرحلة في الأدب الحديث مقطوعة الشاعر المعاصر جرالد جورلد: (الشمس طالعة في المشرق وفي المغرب البحر، وسيان أن كنت في الشرق أو في الغرب فهذا الظمأ إلى الرحلة لن يدعني أقر، بل يعصف بي كالجنون، ويحملني على توديع موطني، فالبحار تدعوني، والنجوم تدعوني، ويا شد ما تدعوني السماء! ولست أدري أين ينتهي الطريق الأبيض، أو اعلم ما تلك الجبال الزرقاء، ولكن كفى للمرء بالشمس زميلا، وبالنجم دليلا، ثم لا آخر للمطاف إذا ما هتف الصوت، إذ الأنهار تدعوني، والطريق يدعوني، ويا شد ما يدعوني الطائر! ذلك هو الأفق ممتدا، وهناك ليل نهار تعود السفن القديمة إلى أوطانها، وتنطلق السفن الصغار، وربما أعود أنا، ولكن لابد أن أذهب. فإن سألك سائل ما السبب، فالق اللوم على النجوم، والشمس، والطريق الأبيض والسماء!)
فحب الرحلة كان أمراً شائعاً في الأمتين، وقد نال أدباؤهما منها بنصيب، وظهر أثرها في
أدبيهما؛ بيد أنها في الأدب الإنجليزي أظهر أثراً، وأدباء الإنجليز بها اشد شغفاً وأكثر تغنياً، ونظرتهم إليها أوسع أفقاً من نظرة أدباء العربية: فهؤلاء كانوا ينظرون إليها نظرتهم (الاجتماعية) إلى شتى الأمور، يرونها وسيلة من وسائل فهم المجتمع الذي يعيشون فيه ويطلبون الرزق في مضطربه، وذريعة من ذرائع استيعاب معارفه والتذرع باسبابه، على حين كانت نظرة أدباء الإنجليز إليها كنظرة الإغريق إنسانية شاملة، وفنية حرة خالصة من كل غرض خارجي: كان يريدون بها المعرفة المطلقة بشؤون الكون والإنسان، وإن لم تجدهم تلك المعرفة في معركة الحياة فتيلا، ويريدون ري غريزة الاستطلاع الكامنة في الإنسان والتي تظل متيقظة مادامت النفس مقبلة على الحياة، ويبغون إرضاء نشاط جسومهم وأرواحهم والتثبت من بقاء نشاطها وحيويتها، ويسعون لاستجلاء محاسن الطبيعة التي لا تفنى مجاليها ولا تحد آفاقها
فخري أبو سعود
من الأدب التركي
أبناء المجرم
القاضي الشاعر:
فؤاد بك خلوصي أحد رؤساء محكمة النقض والإبرام في الجمهورية التركية الآن وهو مولود في طرابلس الشام، رجل فذ من رجال القانون وشاعر من أرق الشعراء عاطفة وأروعهم بيانا. ولهذا القاضي الشاعر ديوان باللغة التركية وقفت فيه عند قصيدة ممتعة من خالد الشعر يصف فيها تنفيذ حكم الإعدام على مجرم يترك في الحياة أرملة وأطفالا، وقد كان الشاعر أحد قضاة المحكمة العسكرية التي حكمت بإعدام المجرم في ثورة البلقان، فاخترت تعريب هذه الأبيات لما فيها من حكمة وعواطف، ولعرضها مشكلة كبرى من مشاكل العدل الإنساني تجاه سر الحياة
ف. ف
وكانت من شهر ديسمبر أواخر أيامه القارصة، وكان آخر الليل؛ سواد يربط على صقيع وديجور أربد ملفع بالجمود
في كل خطوة أوحال متحجرة بالجليد وزمهرير يسفع الوجوه فيلفحها كالسعير.
تجهم وجه السماء كجمرة تطفئ، وشرارها بقية كواكب الليل، حكمها الملال فأطبقت على أنوارها وتراجعت إلى الأفول
وساد الآفاق ارتعاش صامت، ونعق البوم مقلقلاً سكون الظلمة العميق
أمامك ووراءك حلك الظلام، وفوق رأسك سماء متألمة واجمة، فإلى أين مسيرك يا فؤاد، مضطرباً معقود اللسان؟ إلى أين تتجه في آخر هذا الليل، أيها الرجل؟
هو قاتل أنزل القضاء عليه الحكم بالرفع إلى المشنقة، وأمام قصر الجند المجلل بالرهبة بين المعاقل الحصينة ركزت يد الانتقام بل يد العدل آلة الإعدام، وهناك سينزل القصاص بمن أردى أحد الجنود شهيدا
هبوا من رقادكم أيها الشجعان وأسرعوا إلى المشهد، ذلك حكم الأمة عادلاً وهي تنتظر تنفيذه في المجرم المهين! أيتها الرقة الحديدية سارعي لإطلاق رصاصك على الجاني.
ولكن لا، إنما رصاص بنادقك شريف يضيع في هذا الخائن. اتركوا للحبل فريسته، إن للموت المعلق قلادة القنب وقساوة الجلاد
أيها القضاة المقسمون بوجدانكم! أفما أنتم الحاكمون بالإعدام إجابة لاختيار مجرد فيكم، فعلى مَ ارتعاشكم، وما هذا السهم النافذ الآن إلا سهمكم الذي شددتم له القوس وسددتم له المرمى. .؟
لن أنسى ما حييت ما أرى
بين لجج الظلمات المطبقة على كل منظور، كان نور المشعل واحد تجهمت أشعته على صفحة الأوحال لتزيد في روعة المشهد، وكان هنالك جذعان من الأشجار مرتكزان على الأرض وفوقهما عارضة أفقية تدلى منها حبل تجسم الموت فيه وارتجف الروع برجفانه
أفما تعجب لهذا الانقلاب فيك؟ علام حزنك واضطرابك وأنت الشاجب والقاضي؟ لقد عددت هذا الجاني عدواً للإنسانية ورآه وجدانك مستحقاً للإعدام، وما يجديك افتكارك الآن شيئاً. اثبت أو تردد، اضطرب أو تجلد، لك ما تشاء، فمشيئتك عبث وقولك لن يسمع، ارجع إلى الوراء وقف إلى جانب، اهرب وتوار عن الأنظار، إن يد الجلاد هي التي تقبض الآن على زمام الأقدار
- ما أسمك وما أسم أبيك؟
- فلان وأبي فلان على قيد الحياة
سئل هل له أولاد، فترجم المترجم: إن له طفلين
وشعرت إذ ذاك أن اللجة قد فغرت فاها تحت رجلي
ارتفع الأنين من صدري فاختنق، وربط الروع بشهقة الألم على أنفاسي، وانتصبت أمامي الضحية المقربة لليتم طفلين متشحين السواد، وصرخ من فوف المشنقة: عفوك أيها الإله! وخمدت أنفاسه
وغشت عيني ظلمة خفقت من ورائها الأشياء. نفدت قولي وامتنع الاستجلاء عليّ، فتلاشى أمام ناظري القاتل والمقتول وانتصب مكانهما خيال عيالٍ باكية مصدوعة القلوب دامية الصدور
ذلك أب يبكي أرملة ويتيمين يجولون تائهين بالفقر والمسكنة في فيافي المستقبل الأدكن.
ويلاه ما جنت هذه العيال لتقتسم الجزاء مع الجاني؟ معضلة، من يسبر غورها؟ ومسألة، من يحل عقدتها؟
لو أن هذا المشهد أحلام لبدده انفلاق الصباح وانعتق القلب من روعه وآلامه، ولكن هي الحقيقة الهائلة، ليتها كانت طيفا أو خيالا. . .
فؤاد خلوصي
تعليق على مقال
أثر المرأة في حياة الشيخ محمد عبده
للأستاذ عثمان أمين
كتب أستاذنا الكبير الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك في مجلة (الشباب) مقالا عنوانه (أثر المرأة في حياة الشيخ محمد عبده). ونحن مع إعجابنا بما حوى هذا المقال من طرافة ودقة بحث، هما شأن أستاذنا فيما يسطر قلمه البارع، نرجو أن يسمح لنا في التعليق عليه بعض ملاحظات
ذكر أستاذنا كيف كان قصر الأميرة نازلي فاضل مجتمعاً للعظماء وقادة الرأي في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأشار كذلك إشارات لطيفة إلى ما اتصفت به الأميرة من صفات شخصية عالية جعلتها تميز قيم الرجال وتخص الشيخ محمد عبده بمكانة تجمع بين الحب والإجلال
ونحن من جانبنا نوافق أستاذنا مصطفى بك فيما ذهب إليه من أمر تلك المودة الصادقة التي قامت بين الشيخ محمد عبده وبين الأميرة نازلي والتي كان لها - من غير شك - أثر عميق في حياة الشيخ وفي نفسه الكبيرة الحساسة.
ولقد وقع لنا - أثناء بحثنا عن آثار الأستاذ الإمام - خطاب يشهد بوجود تلك الصداقة التي ذهب إليها حضرة صاحب المقال؛ والخطاب بالفرنسية كتبته الأميرة بخطها إلى الشيخ محمد عبده تدعوه فيه إلى القدوم لرؤيتها. وهذا نصه:
7
'
وإليك ترجمة الخطاب:
السبت
صديقي العزيز:
أرجوك أن تحضر لرؤيتي هذا المساء بعد الساعة السابعة
أنا آسفة إذ فاتتني رؤيتك أمس
صديقتك المخلصة:
نازلي
فأمر الصداقة إذن حق. واختلاف الشيخ محمد عبده إلى قصر الأميرة أمر مقرر. ولعلنا الآن لا نبالغ إذا قلنا إن عناية الشيخ محمد عبده بإتقان اللغة الفرنسية ربما كان نفحة من نفحات الأميرة التي كانت تتكلم بالفرنسية كإحدى بنات (السين) ذوات الثقافة العالية والأدب الرفيع. ونظرة إلى مجموعة الكتب الفرنسية التي وجدت بمكتبة الأستاذ الإمام، والتي تعالج منها شؤون الأدب الفرنسي بنوع خاص، تؤيد ما ذهبنا إليه من أثر الأميرة في ميول الأستاذ الإمام واطلاعاته.
أراد أستاذنا الفاضل مصطفى بك أن يبين أثر الأميرة في حياة الشيخ محمد عبده من ناحية أخرى، فذكر في آخر مقاله أن الشيخ كان يجهر أول أمره بعداوته لإنجلترا ويكتب في ذلك فصولا ضافية، ثم قال:(أما بعد اتصاله بالأميرة نازلي التي كان هواها مع إنجلترا، وكانت صديقة للورد كرومر، فقد تلاشت عداوة إنجلترا من صدر أستاذنا (محمد عبده) وأصبح يجهر في كتاباته ودروسه أن بريطانيا العظمى أحسن الدول استعماراً).
فهل يسمح لنا فضيلة الأستاذ أن نبدي في هذه النقطة رأياً آخر؟
إذا كان الإمام محمد عبده، أول أمره، قد حمل على الإنجليز حملات شديدة، فقد كان ذلك في جريدة (العروة الوثقى) أيام اتصاله بأستاذه السيد جمال الدين الأفغاني. فكان يكتب وهو في باريس، مدفوعاً بحماسة الشباب، ومرارة المنفى بعيداً عن وطنه، ومتأثراً بآراء أستاذه الأفغاني، وقد كانت على ما يعلم الجميع - ترمي إلى الثورة سواء بتأليف الجمعيات السرية، أو الإذاعة بالقلم واللسان. أو استعمال العنف والقتل، وبالجملة القيام في وجه الظالمين المستبدين سواء أكانوا شرقيين أم غربيين. وكان محمد عبده، أول الأمر يعتنق أكثر آراء أستاذه الأفغاني، لكنه بعد عودته من باريس وحبوط الدعوة وانفصاله عن أستاذه،
عدل آراءه الأولى، ومال إلى الأخذ بالاعتدال والتدريج متوخياً الإصلاح، لا من طريق السياسة والثورة، بل من طريق التعليم والتربية الاجتماعية والدينية، وكان الأستاذ المصلح يتحدث عن هذا فيقول:
(علينا أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بعض سنين. وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع، وأن نبدأ بترغيبها في استشارة الأهالي في بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات، ويكون ذلك كله تمهيداً لما يراد من تقييد الحكومة. وليس من اللائق أن تفاجئ البلاد بأمر قبل أن تستعد له فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد: يفسد المال ويفضي إلى التهلكة).
أما عن الإصلاح الديني فهو يقول في رده على هانوتو: (إن الغرض الذي يرمي إليه جميعه (أعني المصلحين من المسلمين) إنما هو تصحيح الاعتقاد وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، وتهذبت الأخلاق بالملكات السليمة. ولم يخطر ببال أحد ممن يدعو إلى الرجعة إلى الدين سواء في مصر أو غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أو غيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين.) فلما أراد محمد عبده تطبيق وجوه الإصلاح على الأزهر بإدخال العلوم الحديثة في برامجه - وكانت أولى محاولاته الإصلاحية في عهد الخديو توفيق - قام في وجهه شيوخ جامدون على ما ألفوا من تقليد، ولم يفطنوا إلى مدى إصلاحه، وبعد ذلك نظر الشيخ عبده إلى السلطات العليا يتلمس عندها التأييد، فوجد من الخديو عباس الثاني مناوأة له ومناصرة لخصومه، ولقي الإمام في ذلك من الأذى كثيراً. ولسنا اليوم بحاجة إلى بيان ما كان فيه خصومة الخديو للأستاذ الإمام من شدة، فذلك أمر مشهور. وحسبنا أن نشير إلى تلك الوثيقة التاريخية الخطيرة التي نشرها أخيراً أحمد شفيق باشا والتي أرسلها الخديو إلى شفيق باشا - وكان إذ ذاك رئيساً للديوان العالي - يؤنبه فيها على السير في جنازة الشيخ محمد عبده إزاء الدسائس المتوالية والحملات المنكرة التي كانت توجه من كل صوب إلى رجل الإصلاح، لم يكن للأستاذ الإمام بد أن يدير وجهه إلى السلطات الإنجليزية فعرف (لورد كرومر) وأقنعه بوجهته في الإصلاح، ووجد محمد عبده المفتي من العون عند كرومر ما أخطأه عند عباس الثاني وعند شيوخ الأزهر. ومن اطلع
على التقارير السنوية التي كان يقدمها لورد كرومر إلى حكومته وجد فيها ذكراً طيباً للشيخ محمد عبده وتقديراً لأعماله. وعميد الإنجليز في مصر يذكر لنا في نفسه إن مناصرته محمدا عبده لم تكن بالأمر اليسير نظراً لما كان يلقاه الإمام المصلح من خصومة المحافظين له وكراهة الخديو إياه، بل لولا كرومر ما بقي محمد عبده في منصب الإفتاء طويلا
نرى مما تقدم أن الشيخ عبده لم يصادق الإنجليز عفواً ولا إرضاء لهواه، بل ألجأته إليه الظروف: كان يريد الإصلاح حقاً، ولم يكن بمقدوره أن يمضي في إصلاح وأهل الجمود والتقليد يقيمون في وجهه العراقيل، ويحيكون من حوله ضروب الدسائس، فكان طبيعياً إذن أن يلتمس موافقة الإنجليز. وكان لهم حينذاك النفوذ الفعلي في البلاد
على أن رضاه عن سياسة بريطانيا في مصر لم يكن ينسيه واجبه كوطني، بل كأول من حاول بث الفكرة الوطنية في نفوس المصريين. ولم تكن تفوته فرصة دون أن يطالب فيها بقيام دستور للحكم العادل في البلاد، ووضع حد للتدخل الذي كان يدعيه لأنفسهم الموظفون الإنجليز كالمستشارين وغيرهم (بحيث لا يكون الموظفون المصريون مجرد ألعوبة في أيديهم) كما كان الحال في ذلك الزمان
ونحب في ختام هذا التعليق أن ننبه إلى إننا ما قصدنا إلا أن ندلي بتعليق جديد للموقف الذي اتخذه المصلح الكبير إزاء الإنجليز؛ وما أردنا مما ذكرنا من وقائع أن نتعرض بالنقد لرأي أستاذنا الجليل مصطفى عبد الرزاق بك. فنحن أول من يعترف بفضله، ونجل فيه شدة وفاءه لأستاذه الإمام محمد عبده وعمله الدائم على إحياء ذكراه
ويخيل إلينا أن الأستاذ الإمام قد توسم علائم هذا الإخلاص في تلميذه الشيخ مصطفى فكتب إليه سنة 1904 يقول: (ولقد عرفت مني على حداثة سنك ما لم يعرفه الكبار من قومك. فلله أنت ولله أبوك)
عثمان محمد خليل
مبعوث الجامعة المصرية بباريس
14 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الفصل الثالث
الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها
ترجمة محمد حسن حبشي
يقول أبن رشيق القيرواني: (وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهن، وذب عن أحسابهم، وتخلد لمآثرهم، وإشادة لذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج)
وفي خلال هذا الزمن لم يكن هناك سوى أدب منطوق حفظته الرواية الشفهية، ولم يشرع في كتابته إلا بعد ذلك بزمن طويل. أما عصر الجاهلية فيشمل قرنا ونيفا من السنوات، أعني منذ سنة 500 بعد الميلاد حينما نظمت أول قصيدة وصلت إلينا حتى عام هجرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة سنة 622م تلك السنة التي تعد نقطة انتقال ومستهل عهد جديد في التاريخ العربي. وكان أثر هذه المائة والعشرين سنة كبيراً وخالداً، فقد شهدت نشأة تدهور نوع من الشعر اعتبره أغلب المسلمين الناطقين بالضاد مثالا للإبداع لا يتأتى الوصول إليه، فهو شعر قد سار مع حياة القوم جنبا إلى جنب. ووحد بينهم قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم بزمن طويل من الناحيتين الخلقية والروحية، وقبل أن يؤلف الرسول بين أهوائهم المتشعبة وقبل أن يجعلهم أمة تسعى من أجل غاية مشتركة، وترمي إلى مقصد واحد. في هذه الأيام لم يكن الشعر من الكماليات للأقليات المثقفة بل كان الوسيط المفرد في التعبير الأدبي، وكان لكل قبيلة شعراؤها يعبرون بحرية عمّا يختلج في النفوس ويصورون أفكارهم، وكان كلامهم الشفهي هذا ينطلق في رحاب الصحراء أسرع من انطلاق السهم، ويجد آذانا صاغية وقلوبا واعية عند جميع من يستمعون إليه. وفي وسط هذا الصراع الخارجي والتفكك كان هناك مبدأ يربطهم جميعا: ذلك أن الشعر أحيا وعمم المثل الأعلى ألا وهو: (المروءة) ولو أنها كانت تقوم على عصبية الدم القبلية،
ونرى أن روابط الدم مقدسة؛ بيد أنها غدت رباطا غير واضح تماما بين القبائل المختلفة. وأوجدت عرضا أو اتفاقا أساس اتحاد قومي في الشعور
ولقد حاولت في الصفحات التالية أن أتعقب أصول الشعر العربي، وأصف طبيعته وعناصره وخصائصه العامة، وأن ألم بأبرز شعراء الجاهلية، ومجاميع شعر هذه الفترة، ثم أنتهي من ذلك إلى عرض الوسيلة التي حفظت بها حتى وصلت إلينا
كان العرب القدماء يعدون الشاعر كما يدل عليه أسمه - ذا صلة بالغيبيات، وساحرا يؤاخي الجن والشياطين ويستمد منهم العون فيما يعرضه من مقدرة رائعة. وتتضح هذه النظرة إلى شخصيته ومكانته التي يتبوأها مما يروى عن شاب أبت حبيبته الزواج به لأنه لم يكن شاعراً أو كاهنا أو عرافا، وارتقت بعد ذلك فكرة الشعر كفن إذ كان الشاعر الوثني في الجاهلية كاهن قبيلته ومرشدها في السلم والحرب، وبطلها في معمعان القتال، تستشيره إذا ما بحثت عن مرعى جديد، ولا تضرب طنبها إلا حسب إشارته. وإذا عثر راودها المجهدون الظامئون على بئر نهلوا من مائها واغتسلوا به، وقادهم إليه رافعين جميعا عقيرتهم بالغناء كما فعل إسرائيل من قبل:(انبثق أيها الماء، ويا هؤلاء غنّوا له)
ولابد أن تكون قد وجدت في العصور الأولى ضروب أخرى من الشعر عدا أغاني الينابيع والحرب والتراتيل الدينية للأصنام - هذه الضروب كالتشبيب والرثاء، كما كانت مواهب الشاعر تستغل أيما استغلال في الهجاء الذي كان في أقدم صورة (يبعث القبيلة على طلب الثأر، ويعد باعثا من بواعث الحرب لا يقل عن الطعن والنزال) كما يعد وعيده للعدو وتهديداته إياه دليل خطب جسيم، أما منظوماته التي لا تقل عن السهام فتكا فكان أثرها أثر اللعنات الصارمة يجريها الوحي على لسان نبي أو كاهن، وكان الشعراء يتناشدون أشعارهم في حلقات خاصة ذات طقوس وأنظمة خاصة، كدهنهم أحد جانبي الرأس، وإسدالهم العباءة، وانتعالهم (خفا) واحدا من الصندل. وقد أبقى الهجاء على شيء من هذه العادات المستهجنة إلى عصر متأخر، حينما تخلى منطق الشاعر الساحر عن مكانته للهجاء والقذع الذي كان يكيل به الشاعر لخصومه السب ويسمهم بميسم العار
وإن الطلائع الأولى المبهمة للشعر العربي (التي غطت عليها حيويته الساحرة المعروفة) لم تترك وراءها أثراً في هيكل الأدب، ولكن المهمة قد تكون سهلة نسبيا حينما نواجه قوماً جدّ
محافظين مستمسكين بالقديم كالعرب. وقد يمكن القول بأن أقدم صورة للكلام الشعري في بلاد العرب كانت السجع أو كما ينبغي تسميته (النثر المقفى) وإن وصف مناهضي محمد عليه السلام إياه بأنه شاعر لما جاء به القرآن من صور له حتى بعد معرفة الموازين الشعرية واستنباطها ليظهر لنا أن هذه النظرة كانت لا تزال حتى ذلك الحين قوية ثابتة
وتطور السجع أخيرا - كما سنرى - فأصبح حلية لفظية فقط، والميزة البارزة لكل فن من فنون البلاغة سواء في الخطابة أم في الكتابة، ولكن كان له في الأصل مرمى بعيد يتصل عن قرب بالناحية الدينية، ويختاره الشعراء والكهنة ومن على شاكلتهم ممن كانوا يعتبرون ذوي صلات بالقوى الخفية ليفسروا به للدهماء كل ما يحز بهم من مسائل عويصة لا يدرون لها تأويلاً ولا يعرفون لها حلا. وتفرع من السجع فن آخر يجري على وزن يعد أقدم موازين الشعر العربية ذلك هو الرجز، وهو بحر شاذ العروض والتفاعيل يحتوي في الغالب على تفعيلتين أو ثلاث. ومن أوضح مميزات الرجز التي تظهر صلته القوية بالسجع أن نهايات شطراته تجري على قافية واحدة، مع أنه في معظم البحور لا يحدث التصريع إلا في مطلع القصيدة. وزيادة على ما ذكرنا، نجد ميزة أخرى للرجز، هي أنه على الدوام يكون مرتجلا، فينشد الرجل الأرجوزة عند المفاجآت يفسر بها بعض مشاعر الشخصية أو عواطف أو تجارب، ومثل هذا ما ارتجله دويد بن زيد بن نهد القضاعي وهو يتهيأ للموت:
اليُوْمَ يُبْنَى لِدُوَيد بَيْتُهُ
…
لَوْ كَانَ لِلدَّهْرِ بِلًى أَبْلْيَتْهُ
أوْ كانَ قِرْنِي وَاحِداً كفَيتهُ
…
يَارُب نَهْبٍ صَالحٍ حَوَيْتهُ
وَرُبَّ عَبْلٍ خَشِنٍ لَوْيْتهُ
ويحسن أن نأتي في هذا المقام على ذكر بعض البحور الهامة في الشعر العربي كالكامل والوافر والطويل والبسيط والخفيف وغيرها. وإيثاراً للاختصار أحيل القارئ إلى البحث الوافي عن هذا الموضوع في مقدمة سير شارلز لييل في كتابه (ص45 - 52). وكل البحور قياسية كما هو الحال في الإغريقية واللاتينية. وقد استنبط قواعد العروض من القصائد القديمة لأول مرة ونظمها ورتبها الخليل بن أحمد اللغوي (791م) الذي يقال إن الفكرة طرأت له حينما شاهد حداداً يضرب بمطرقته على السندان
ولابد لنا الآن من أن نبحث في نظام وموضوع هذه الأشعار التي تعد أقدم ما في التراث العربي، فبين هاته النصوص البالغة حد الإتقان والروعة وبين شواهد السجع أو الرجز التافهة بون شاسع ليس من اليسير تحديده. وأول من نعرف من الشعر هؤلاء الذين تلوح في آثارهم إجادتهم لصناعتهم وإبداعهم فيها (وإن عدد الموازين التي يستعملونها وتعقدها وقوانينهم الثابتة عن الكمية، والطريقة المألوفة التي كانوا يستهلون بها قصائدهم بالرغم من الفترة التي بين كل ناظم وآخر، هذه تحتاج إلى دراسة طويلة واندماج تام في تعرف فن التعبير للغة واتساع نطاقها وطلاقتها، وهي دراسة قل أن نجد بين أيدينا اليوم ثبتا يساعدنا عليها)
(يتبع)
محمد حسن حبشي
إليها!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
حبيبي! إنْ بدا الفجرُ
…
ورفَّ كثغركَ الزَّهرُ
وغنَّى الطيرُ مخموراً
…
لحوناً كلُّها خمرُ
فلا تأسَ على أيا
…
منا الفَرحى ولا تعتبْ
هو الدّهْرُ! ومن للدَّه
…
ر إن أخطأ أو أَذنبْ؟
حبيبي! إِنَّ في قلبي
…
ظلاماً ما لهُ فجرُ
ولولا طيفُكَ الخَطَّا
…
رُ ما شعَّ به كوكبْ!
حبيبي! بان لي الكونُ
…
ولمْ أكُ مدركاً بعضْه
عرفتُ نجومهُ الحَيْرى
…
عرفت زهورَه الغَضَّه
عرفت النسمةَ الفرحى
…
عرفت البلبلَ الشادي
عرفت الحلمَ الزاهي
…
عرفت الأمل الحادي
نشيدَ الروح! هل كنّا
…
سوى طيرينٍ في روضَه؟
فمن ظلٍّ إلى ظلٍّ
…
ومن وادٍ إلى وادِ. . .
أأيامَ الهوى البَرِّ
…
وأمسياتهِ الحْلوَهْ!
جفَوْتِ ولم يذقْ طفلا
…
كِ بعدُ لذاذة الصَّبوه
حبيبي! يا ترى هل تس
…
عدُ الأيّامُ قلَبينا؟
فنأسو الجرحَ والذكرى
…
ونسلو الغمَّ والبَينا. . .
ألسنا في الشّبابِ الحل
…
وِ زَنْبقَتَيْنِ في ربوه؟
فما للعاصفِ المجنو
…
نِ يفرِقُ بينَ غُصنينا؟
حبيبي! إن دجا اللَّيلُ
…
وطافتْ بكَ أشباحُهْ
وأورى طرفك الساجي
…
جوى البعدِ وأتراحه
فإنَّي بينَ أترابي
…
وأصحابي وإخواني
غريب مُلْهَبُ الأجفا
…
ن واري القلب كالعاني!
حبيبي! إنَّ ليل الحبَّ
…
جرحُ القلب مصباحُهْ
وهل يعبق نشر العو
…
د إلا وسْطَ نيران
من زوايا النسيان
زهرات ذابلات
لشاعر معروف
أحاذر في نجواك بث شكاتي
…
فأكتم ما في القلب من حسرات
ويُضرعني وجدي فألقاك شاكيا
…
ولابد للمصدور من نفثاتِ
لقد علمت أخت الملائكِ أنني
…
من الهّم والآلام في غمراتِ
وأن هواها مستبدّ بمسمعي
…
وفي كل حسن مالئٌ نظراتي
وملء فؤادي والأمانيِّ كلِّها
…
يبرّح بي في يقظتي وسُباتي
أروم اصطبارا عن لقاك فأنثني
…
إليك بملء القلب من لذعات
والتمس السلوى لديك فانثني
…
بزاد من الأشواق مستعراتِ
إذا ما دجا بالغمّ قلبي أضاءه
…
كواكب من ذكراكِ والخطرات
وإن جنحت للشر نفسي هديتها
…
بذكرك فارتدّت إلى الحسنات
وإن أخلدت يوما إلى الأرض ردها
…
هواك إلى الأفلاك في لمحات
وذكرك قد يجلو عن القلب رَينه
…
فيسطع فيه النور حين صلاتي
على إنني يعتادني من تذكري
…
لواعج همّ مشعَل الزفرات
هي النور وهي النار والسلم والوغى
…
بقلبي، ومنها غبطَتي وشكاتي
وأمني وخوفي، وهي أنسي ووحشتي
…
وظلمة أيامي وضوء حياتي
فيا قمر إن غاب عنّيَ نوره
…
فقلبي ليل موحِش الظلمات
ويا شمس حسن إن تغِب فجوانحي
…
بها شفق في وقده الجمرات
ويا فلكا للحسن والحب دائرا
…
يبارك ربّي هذه الدوَرات
فلو كان ما بيني وبينك فرقة
…
لقطع بحار أو لطيّ فلاة
ولكنه الدهر المُشتُّ يُقيمنا
…
على قربنا في فرقة وشتات
تمنّيت أنا طائران بدوحة
…
تظلّل نبعا ثَرَّ في الفلوات
أصوغ لك الأزمان شعر وبهجة
…
وأسمع منك الخلد في نغمات
ويُمسِك هذا الدهر عن حركاته
…
فلا هو بالماضي ولا هو آت
أناظمة الأشعار أنت قصيدة
…
جلَتها يد الخلاّق في قَسَمات
يطالعها قلب من الشعر مُجدب
…
فينبت فيه الشعر أيّ نبات
وينشدها من قدّ في الصخر قلبه
…
فيُنبِض منه الحبُّ قلبَ صَفاة
أرى وجهِكَ الوضّاء شعرا مصوَّرا
…
تحاوله الأبيات في كلمات
كأن يراعا في يمينك إبرة
…
تردّد ما في الوجه من نغمات
يقولون (شعر شاعر): هل عنَوا به
…
بديعةَ حسن تنظم الشطرات
يُحيّي بهذا الشعر قلبيَ فاقبلي
…
وإن كنت روضا، هذه الزهرات
سقتها دموعي واصطلت حرّ زفرتي
…
فلا تهزئي إن لم تكن نضرات
(شاعر)
وحي الشاطئ
أيها البحر. . .
للأديب أحمد فتحي مرسي
سهرت عَيْنُهُ مَلَالاً وسُهْدَا
…
هَدَأ اللّيْلُ مالهُ ليْسَ يَهْدَا
يرتمِي لا غِباً على بُسُطِ الشَطِّ
…
م ويُولِي الرِمالَ ميلْاً وصَدَّا
وكأنَّ الأمَوَاجَ كفَّا بَخِيلٍ
…
رَامَ أن يَرْفِدَ - العَشِيَّة - رِفْدَا
كلَّما مَدَّ بالعَطَاءِ يَدَيْهِ
…
غَلَبَ البُخْلُ نَفسَه فاسترَدَّا
ما أحبَّ الشطآنَ تَهْدِرُ في اللَّيْ
…
لِ ومَا أبْهَجَ الرِمَالَ وأنْدَى
وكأنَّ الأمْوَاجَ أوْفَتْ عَلَيها
…
حَاسِب جَدَّ في الحِسَاب وكدَّا
سَطَّرَتْ كفُّهُ الرِمَالَ سُطوراً
…
وصَفَا ذِهنُهُ وراقَ وجَدَّا
مفْكرِ - في السكونِ - حتَّى إذا مَا
…
خَذَلَتْهُ النُهى، وأخْطأ عَدَّا
عَادَ لِلَّوْحِ حَانِقاً فَمَحَاهُ
…
وأعَادَ الحِسَابَ فيهِ وأبْدَا
سَرِّحْ الطّرْفَ أيها العَاشق الحُسْ
…
نَ. هنا الحُسْنُ رَائِع يَتَبَدَّى
وتَأمَّلْ في ذَلكَ الغَاضبِ الحَا
…
نقِ يَطوي الفَضَا مَرَاحاً وَمغْدَى
وكأنَّ الأموَاج ترغى على الشُّطآ
…
ن شَيْخ يَميلُ أيناً وَجَهْدَا
شَيَّبَتْ صَوْلة المقاديرِ فُودَي
…
هـ وهُدَّتْ قوَاهُ في الدَهْرِ هَدَّا
مدْلِج طالَ في الظَلامِ سُرَاهُ
…
كلمَا جَدَّ في خُطَاهُ تَرَدَّى
أيها البحرُ. . . ما لأمَوَاجِكَ الحَيْ
…
رَى ترامى وترْعِدُ - اليومَ - رَعدا
فرّقتْ بَيْنَنَا المقاديرُ يا بَحْ
…
رُ وَوَدَّ الزَمانُ ما لمْ يودَّا
أتُرَى أنَتَ ذَاِكرِ طِيْبَ ما وَلّى
…
(م) وما غابَ في الزَمانِ وأوْدَى
يومَ كنَّا والليلُ مُرخىً علينَا
…
نتساقى من أكْؤُسِ الوِدِّ شهدا
ساعة للصفاءِ مَرَّتْ من الدَهْ
…
رِ، وللصفوِ ساعة لنْ تُردَّا
كم نَرَجى لو عاد ما فاتَ منها
…
وَسُدىً نرتجي لما فاتَ عودا
أحمد فتحي مرسي
3 - دعابة الجاحظ
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
ولكن ليس كل هذا ما فقدناه من أحاديث الجاحظ وآثاره في المرح والدعابة فأن له كثيراً من الطرائف والملح التي ضاعت بين سمع الأرض وبصرها، وطوتها الأحداث بين أجواء العصور الخالية، فلم يبق منها إلا معالم كأنها معالم الطود قد استبد به الزمن ومحقته العواصف القاسية. وهانحن أولاء نكتب عن دعابة الجاحظ وليس بين أيدينا من مصادر البحث إلا وشل من معين، فكل ما هنالك جملة من النوادر المبعثرة في بطون الكتب يتلمسها الباحث بشق النفس، مع أن الرجل قد جرد في ذلك كتبا ورسائل تدل أسماؤها على أنها قد ضمنت ألواناً من الدعابة والمزاح، وأترعت بفنون من النوادر والمضاحيك. وتلك الكتب على ما ذكر الجاحظ نفسه وعلى ما قال بعض الباحثين: هي كتاب الملح والطرف، وما حر من النوادر وبرد، وما عاد بارده حاراً لفرط برده حتى أمتع بأكثر من إمتاع الحار ثم كتاب المزاح والجد، وكتاب خصومة الحول والعور. وكتاب المضاحيك، ورسالة في فرط جهل الكندي يعقوب بن إسحاق أول من اشتهر في الإسلام بالعلوم الفلسفية وما إليها. والظاهر أن الجاحظ قد ساق هذه الرسالة في التندر على هذا الرجل والتهكم به كمثل صنيعه مع أحمد بن عبد الوهاب في التربيع والتدوير. . . ثم أين نحن بعد هذا كله مما كتبه الجاحظ إلى إخوانه وخلطائه (من مزح وجد، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن ملح تضحك، ومواعظ تبكي. . .)، بل أين نحن مما أفرغه في جميع كتبه ومؤلفاته من النوادر والمعابث، وقد كانت تلك طريقته وذلك صنيعه، وهو الذي يقول في وصف الكتاب:(ومن لك بوعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحاً وجداً، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه. . .)
فيا لها من ثروة كبيرة تلك التي وفرها الجاحظ في باب المزاح والدعابة. ولو أن الزمن قد أبقى لنا على كل هذه الثروة لفزنا بكثير، ولوقفنا باليقين على اتجاهات الرجل وما كان له من قدم في مسالك هذا الفن وضروبه؛ أما وقد خسرنا هذه الصفقة، فليس إلا أن نسير في البحث على قدر تلك الإثارة التي بقيت لنا من أماليح الجاحظ على الرغم من مغالبة المحن
وقسوة الأحداث، وأن فيها ما قد يجدي في البحث، ويغني في الوقوف على مقاصد الرجل من دعاباته. ولعل أهم تلك المقاصد وأجلها إنما هو التهكم؛ ولعل الجاحظ لم يبرع في ناحية من مناحي الدعابة كما برع في تلك الناحية وتفنن، فهو عجيب في تهكمه؛ تنظر إلى إحدى غمائزه فلا تدري إلى أي جو قد نقلك الرجل، ولا ما ثم من أشتات المعاني التي قد أوردها على ذهنك وأثارها في نفسك، فهو يحاور ويداور. ويصطنع أسلوبا ملتوياً له ظهر وله بطن، وفيه لين وفيه قسوة، وبه طرافة وبه جفوة؛ وقد يقف من القارئ موقف المتسائل، ويسير معه سير المتجاهل، فكأنه يريد أن يتهكم أيضاً بالقارئ على غفلة. وليس هذا كله إلا علامة القدرة ودليل الطبع؛ وإنما كان الجاحظ موهوباً في تهكمه، ساخراً بطبعه؛ ومن ثم لم يقف في تهكمه عند حد الدعابة والعبث، بل لقد كان يتناول ذلك في كثير من نواحي فنه، فهو أداته في الهجاء والتقريع، والنقد والتعريض، والجدل والمناظرة، وما إلى ذلك من مواضع الأخذ والرد والنظر والبحث. ألا تراه وهو ينتقد الخليل بن أحمد إذ صنف في علم لم تجتمع له أداته، ولم يتوفر له شرطه فيقول:(والخليل بن أحمد من أجل إحسانه في النحو والعروض وضع كتابا في الإيقاع وتراكيب الأصوات وهو لم يعالج وتراً قط، ولا مس بيده قضيباً، ولا كثرت مشاهدته للمغنين. وكتب كتاباً في الكلام ولو جهد كل بليغ في الأرض أن يتعمد ذلك الخطأ والتعقيد لما وقع له ذلك. ولو أن ممروراً استفرغ قوى مرته في الهذيان لم يتهيأ له مثل ذلك، وما يتأتى مثل ذلك إلا بخذلان من الله الذي لا يقي منه شيء. ولولا أن أسخف الكتاب، وأهجن الرسالة، وأخرجها من حد الجد إلى حد الهزل، لحكيت صدر كتابه في التوحيد، وبعض ما وضعه في العدل!)
فهذا أسلوب من النقد الساخر الذي كان يصطنعه الجاحظ وإنه لأسلوب شديد الوطأة، وإنه بالهجاء لأشبه. فهو كما ترى يطلب (أولا) مرتبة لتصنيف الخليل هي أحط مراتب الضعف والتهافت، فيضعه دون الخطأ (يتعمده) كل (بليغ) في الأرض (جهده) ولكن هذه المرتبة الدون لا تقنع الجاحظ، فيعود (ثانيا) فيجعله عدلا (لهذيان) الممرور قد (استفرغ) كل مرته في الهذيان؛ وهذه أيضاً لا تقنع الجاحظ ولا تشبع نفسه، فنجده (أخيراً) يحكم على صنيع الرجل بأنه ضرب من الضعف لا يتأتى لطبيعة بشرية إلا (بخذلان) من الله، ثم زاد فجعله سخفاً وهجانة لو حكاه لخرج بالقارئ من حد الجد إلى باب الهزل. وهذه مداورة من
الجاحظ فيها ما فيها من التهكم المر، والتقريع اللاذع، والتعريض الذي لا يطاق استهزاء وسخرية!!
ولقد كان هذا التهكم هو سلاح الجاحظ أيضاً وعدته في التقريع الحشويين وأهل التزيد، والذين يفترون الأخبار الغثة، ويلفقون الأحاديث الكاذبة، ويروجون القصص التافهة، ثم هم يحشرون ذلك في الدين، ويلصقونه بالأخبار النبوية الشريفة، ويسندونه في الرواية إلى الأصحاب الأخيار، والرواة الثقاة، كمثل ما زعموه عن كبد الحوت، وقرن الشيطان، وتنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه في رأسه فأنتنت ريحه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، ودخول إبليس إلى سفينة نوح في جوف الحمار، وما أسندوه إلى ابن عباس من أن الحجر الأسود قد نزل من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك، ثم ما تحدثوا به عن السيدة عائشة بشأن الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع فأكلتها داجن للحي حين شغلوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان الجاحظ يستنكر هذه الأخبار وأشباهها، ويحكيها في سخر بالغ، وتهكم قارص. وتستطيع أن تقف على ذلك وأمثاله في كتابه (الحيوان) في كل موضع يفرغ فيه الرجل لبعض خرافات القوم ومزاعمهم. وقد تجده لا يعنى بتفنيد هذه المزاعم ولا يهتم بأدحاضها لأنها ظاهرة السخافة والبطلان، ثم هو يعقب عليها بكل تهكم واستهزاء، ويختمها بالعبارة القصيرة الموجزة تأتي عليها من القواعد. فمثلا تجده يحكي أقوال (صاحب المنطق) عن التزاوج والتلاقح بين بعض الحيوانات وبعضها، فيسترسل الجاحظ في الحكاية، ثم ينتهي إلى التعليق عليها فيقول:(وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الإمتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء، وما عندنا في معرفة ما ادعى إلا هذا القول!) ثم يخرج بعد ذلك إلى بعض خرافات القوم التي تتعلق بالحيوانات، ثم يتهكم بها فيقول:(ولولا أني أحببت أن تسمع نوعاً من الكلام! ومبلغ الرأي، لتحدث لله تعالى شكراً على السلامة، لما ذكرت لك شيئاً من هذا الجنس.)
فبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يتذرع الجاحظ في كثير من نواحي فنه؛ وبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يأخذ في دعابته ومزحه فيبلغ الغاية من إرضاء الفن، ويسمو إلى الذروة في إمتاع القارئ. وعجيب أمر بعض أبناء العربية الذين يشدون من الأدب إذ تراهم
يطيرون بفن الكاتب الفرنسي (فولتير) فيبالغون في سخريته، ويمتدحونه بلذاعته، ويثنون على عبقريته في التهكم، وما أحسبهم يعرفون ذلك للجاحظ أو يعترفون به، وأنهم لو علموا لتعجبوا من جهد كاتب العربية واقتداره، ولراحوا يتلمسون تلك الناحية من فنه فيما له من كتب وآثار، وهم لاشك واجدون متاعهم ولذتهم، واقعون على أربهم ومبتغاهم، ثم هم لا جرم سيعترفون له بما يعرفون (لفولتير) وأضرابه. وسنرى الجاحظ في أحاديثهم وكتاباتهم منعوتا بالكاتب الساخر، وما يجري مجرى هذا النعت
وتعال إلى الرجل في شيء من دعاباته الساخرة. فإنك واجده على ما ذكرنا - حلوا مستساغا، قويا قادراً قد تمكنت في طبعه ملكة السخر، وتمت له موهبة التهكم، فإذا أخذ بعض الأشخاص بالتصوير (التهكمي) فهو يقدم لك صورة الدقيقة الرائعة التي تثير في نفسك كل ما يمكن من معاني الضحك والفكاهة، والسخر والتهكم، والعطف والإشفاق، والنفور والبغض. ألا تراه وهو يتندر على سهل بن هرون في بخله وشحه فيقول:(قال دعبل الشاعر: أقمنا عند سهل فلم نبرح حتى كدنا نموت جوعا. فلما اضطررناه قال: يا غلام ويلك غدنا! قال فأتانا بقصعة بها مرق فيه لحم ديك، وليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحز فيه سكين ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطلع في القصعة وقلب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلب جميع ما في القصعة حتى فقد الرأس من الديك، ثم رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرأس؟ قال لم أضنك تأكله. قال: ولأي شيء ظننت أني لا آكله؟ فوالله إني لأمقت من يرمي برجليه، ولو لم أكره ما صنعت للطيرة والفأل لكرهته! فإن الرأس رئيس، وفيه الحواس، ومنه يصدح الديك؛ ولولا صوته ما أريد؛ وفيه قرنه الذي ينبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء فيقال. شراب كعين الديك؛ ودماغه عجيب لوجع الكلية. ولم أر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه. فهلا إذ ظننت أني لا آكله ظننت أن العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله فإن عندنا من يأكله. أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق ومن العنق، فانظر أين هو؟ قال والله ما أدري أين رميت به. قال: لكني أدري: إنك رميت به في بطنك والله حسيبك)
وقد تكون هذه النادرة من مرويات دعبل حقاً، وقد تكون من اختراع الجاحظ وابتداعه، وإنما حمله على تلفيقها ما كان بينه وبين سهل من الشنآن، ثم عزاها لدعبل ليخلص من
تبعتها ولتكون أبلغ في المؤاخذة. ومهما يكن من شيء فإن الرجل هو الذي عرضها هذا العرض وجلاها في هذا الثوب، فجاءت على ما ترى من السخر والتهكم والضحك والمرح، والغمز واللمز. وأنها لصورة دقيقة رائعة مهما بلغ كاتب من القدرة في التصوير فما أحسبه سيبلغ في وصف بخل سهل وتصوير شحه وإقتاره ما بلغ الجاحظ في هذه النادرة وهيهات!
(للبحث صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف
الفنون
الفن المصري
للدكتور أحمد موسى
تمهيد
سل من شئت من المصريين عن تاريخ مصر الفني وعما في تراث الأجداد من مميزات، وعن الناحية الجميلة الممتعة فيه؛ بل سل أغلبية الناس في مصر ممن زاروا أهرام سقارة، وممن تطرف في حب المشاهدة للآثار المصرية وسافر إلى الأقصر، وشاهد معبد الكرنك وطيبة ووادي الملوك والملكات وتمثالي ممنون؛ سل كل هؤلاء عما شاهدوه وعما استفادوه، وعن ناحية الجمال فيما عاينوه، فلا تسمع إلا تخبطا يكاد لا يختلف عما تسمعه من أمي يعيش بجوار هذه الآثار طوال أيام حياته!
ثم شاهد مدينة القاهرة - على اعتبار أنها عاصمة القطر وأهم مدينة فيه - وما فيها من ضورب الخروج على أبسط مبادئ الذوق العام، وأخطر في أحسن شوارعها يستوقفك شذوذ الانسجام في مبانيها وظاهرة انحطاط الذوق في كل ما فيها؛ ثم تفلسف قليلا لمعرفة السبب في ذلك تجده دون شك ينحصر في جهل الناس معنى الجمال ومعنى الذوق ومعنى الفن. وهم في ذلك سواء، يستوي الجاهل مع العالم، والفقير مع الغني، والشيخ مع الأفندي
بيوت عالية شاهقة، وأخرى واطئة حقيرة، كلها متجاورة. وإذا صادفت عشر عمارات كبار الواحدة ملتصقة بالأخرى، ترى لكل منها شكلا ولكل منها منهجاً؛ كل هذا بجانب دكاكين كتب في أعلى مداخلها باللغة الإغريقية مرة وبالعبرية أخرى وبالأرمنية ثالثة، دكاكين كتب أعلى مداخلها بالفرنسية حينا وبالإيطالية أو الإنجليزية حينا آخر، كما تصادفك أخرى كتب عليها بالعبرية لغة الوطن، لغة البلاد!
تأمل كل هذا، ثم عرج على آثار الأقدمين تر أنها منسجمة، كلها من طراز واحد سمي الطراز المصري القديم. وإذا شاهدت المساجد جميعها رأيتها من طراز سمي (الأرابسك) فيه روح الانسجام، دون حاجة - في هذه أو تلك - إلى دقة الفحص لمعرفة عصر الآثار، وهل هي من مباني الأسرات الأولى أو المتوسطة أو الأخيرة، كما أنك لا تضطر إلى
فحص نقوش مسجد أو كتاباته أو تفاصيل مبانيه لتعرف أن كان من الطراز الطولوني أو الفاطمي أو طراز المماليك البحرية أو الشراكسة، وما ذلك إلا لأن الأول مصري والثاني إسلامي
هذا ما سار عليه الناس أيام كانوا أميين، أما اليوم حيث كثر المتعلمون، وأصبحوا يلبسون كما يلبس الجنتلمان في أوربا، فنرى أنهم مع مزيد الأسف قد تجردوا من الذوق وبعدوا بعدا شاسعا عن المعرفة الحق، والثقافة الكاملة المؤدية إلى حسن التقدير والاستمتاع عن طريق التذوق
لعل قائلا يقول: وما ذنبنا نحن في هذا؟ الواقع أن الذنب راجع إلى مناهج التعليم المصرية، لأنها تجردت من كل المشوقات للدرس، وخلت مما يمهد لحب الفحص والنقد، فضلا عن بعدها عن كل ما ينتمي إلى الذوق العام بصلة
وفي أيامنا هذه كثر اللغط حول معارض الفن وحول التصوير والنحت وحول الموسيقى ووجوب تدريسها بالمدارس الابتدائية والثانوية، على أني أعتقد أن كل هذا لا يخرج عن معالجة الأعراض، أما الأسباب فهي عند أولي الأمر في المؤخرة
قرروا تدريس الموسيقى في المدارس، فهل قرروا إلى جانب ذلك تحسين الموسيقى وجعلها تخرج عن الوحدة الملائمة للرقص الخليع ورقص الخيل؟
وهذا نفسه ينطبق على نوع التثقيف الفني. فمنذ أن كانت لنا مدارس ابتدائية وثانوية وفن الرسم والتصوير باقيان على ما هما عليه لم يتغيرا ولم يتطورا، حتى كتب التاريخ العام لا ترى فيها أثراً لمعنى تاريخ الفن أو تاريخ الآثار تفصيلا أو إجمالا، مع أن التاريخ في جوهره يعتمد عليهما إلى أبعد حد
وهذا لم يكن سبباً كافيا لمن أولى الأمر على الاهتمام بدراسة تاريخ الفن، ليغرسوا في نفوس النشء شيئاً من التذوق والمعرفة الفنية
كان تاريخ الفن ضمن مواد الدراسة في كلية الهندسة عندما كانت مدرسة عالية، أما الآن فقد تقرر إلغاء تدريس هذه المادة للثقة التامة في عدم نفعها أو على الأقل لعدم الحاجة إليها في المستقبل العملي للمهندسين. أما كان الأجدر بكلية الطب إلغاء مادة الصوت والضوء من علم الطبيعية ومادة التشخيص الباطني لمن سيكون طبيباً للعيون. وإذا كان الأمر كذلك
فلم يدرس طلبة كلية الحقوق القانوني الروماني؟ ولم يدرس طلبة كلية الآداب شيئاً من الأدب الإغريقي مثلا مع أنه لا ينفعهم في مستقبل حياتهم؟ (وهذا غير صحيح) الحق أننا نتخبط ولا نعرف إلى أي اتجاه نسير. فالثقافة العامة لن تكون كاملة ما لم تشمل أيضاً المعرفة بأصول الفن عن طريق دراسة تاريخه ولو إجمالا! إن الرسم والتصوير والنحت فنون ليست من شأن الرسامين والمصورين والنحاتين وحدهم، بل هي من شأن المجموع، إذا علمنا أن الفنان لا يعيش لنفسه، كما أن خلقه الفني لا يسجله هو بشخصه، بل أيضاً بعصره الذي عاش فيه، وبوطنه الذي شب على أرضه
وهذا ما يحتم علينا أن نعنى عناية خاصة بتاريخ الفن المصري والفن الإسلامي، وإذا كان مقال اليوم منصبا على الفن المصري وحده إجمالا، فأني أبدأ هنا بالتمهيد والتقديم له لأني لا أقصد بالكتابة مجرد الكتابة، ولا بنشر الصور مجرد التحلية، وإلا فما كان أهون عليّ من أن أتخير أجزل العبارات وأجمل المصورات، ولكني كما ترى أذهب بك ثمانية آلاف سنة إلى الوراء. لكي أستطيع أن أوضح في بساطة كيف نشأ الفن المصري وكيف نما وازدهر
والناظر إلى خريطة العالم يرى أن القطر المصري يتوسطها تقريبا إذا أراد أن يقسم الكرة الأرضية إلى قسمين متكافئي المساحة والتكوين، كما يرى أن وادي النيل أهم بقعة في القارة الأفريقية، ومن أهم مواقع الاتصال بين القارات جميعا.
وإذا كان هيرودوت قد قال بأن مصر هبة النيل ، 4 ، 351 - 355.) فلأنه كان ثاقب الفكر بعيد النظر، لتوقف حياة مصر على النيل مباشرة حيث نشأت في واديه أقدم مدينة عرفها التاريخ ولا يزال العالم أجمع يعجب بعظمتها في كل نواحيها
سارت هذه الحضارة والمدنية سيراً بطيئا طبيعياً ككل الحضارات الأخرى، مع فارق واحد هو التبكير العجيب، وإن علمنا أنها بدأت منذ خمسة آلاف سنة، فإن ثلاثة آلاف قد سبقتها لتمهد لها أعني منذ أصبحت أرض مصر الواقعة على ضفتي النيل صالحة للزراعة
هب إلى وادي النيل جماعات من تلك التي كانت تعيش في الأراضي القاحلة بصحراء ليبيا، والدارس لمقابر هؤلاء وما وجد فيها من متروكات، يستطيع أن يقف على طرق معيشتهم وأحوالهم رغما عن قلة ما تبقى منها (ش1) فيرى أنهم صنعوا العصي من سيقان
الأشجار بمقابض من الحجر، كما زينوا أوانيهم الفخارية بأشكال متناظرة الرسم، متكررة الوضع لا تخرج عن خطوط مستقيمة متقاطعة أو منحنية أو دائرية، رسمت داخلها خطوط أخرى أقرب إلى الهاشور في أبسط مظاهره
وبمشاهدة مجموعات الأواني الفخارية يمكن ملاحظة التقدم التدريجي الذي طرأ عليها؛ فترى أنها اكتسبت شكلا تكوينياً أجمل (ش4) وزودت برسومات صغيرة مثلت شيئاً من حياتهم، فضلا عن التقدم الفني الذي نستطيع ملاحظته بمقارنة الأواني في (ش3) وفي (ش4) بعضها ببعض. والناظر إلى الآنية الوسطى من (ش4) يرى على سطحها الدائري رسوما ضعيفة، تمثل أناساً يحمل أحدهم إلى أقصى اليسار وعاء على رأسه، كما يرى على الجانب الأيمن للوعاء نفسه رسم النعام. أما الأواني الأخرى فهي أجمل شكلا وأكثر زخرفة. مما لا يزال مستعملا إلى اليوم في مصر وبشمال أفريقية ببلاد الجزائر والمغرب، وهذا يدل على وجود صلة قديمة بهؤلاء.
ووجدت ببعض المقابر أمشاط للشعر، زينوها من أعلاها بأشكال كانت غالبا تمثل رؤوس حيوانات أو طيور أو رأس إنسان.
وصنعوا أسلحتهم من الصوان (ش2)، وكانت هذه خطوة لا يستهان بها، خصوصا لصلابته وصعوبة نحته وما يتطلبه ذلك من مجهود وعناية.
ولبس المصريون النعال المصنوعة من الجلد، وجعلوا لها أربطة (ش5) من الجانبين لتثبيتها على القدم.
وأخذوا يلتفتون تدريجيا إلى الزينة، فعملوا العطور ووضعوها في أوعية صغيرة كانت بأشكال مختلفة. واستمروا في تقدمهم فراجت مصنوعاتهم وانتشرت تجارتهم. وازدادت صلتهم بالبلاد المجاورة وازداد عددهم. كما عرفوا المعادن واستخدموها في مختلف أغراضهم وأدخلوها في صناعة أدوات الزينة والتحلية، فعملوا الأساور والعقود بعضها من الذهب ومن الحديد الأزرق الجميل الذي زادها رونقا، وأعطانا فكرة صادقة عن ندرته وغلائه.
وبدأت العقيدة الدينية تدب إلى نفوسهم نتيجة شعورهم بالوجدان والاجتماع، وأخذت نظرتهم إلى الحياة تتطور، فعملوا تعاويذ لجلب الرزق ولصد العين. وكانت هذه التعاويذ
عبارة عن طيور وحيوانات عبدها المصريون أيام تحضرهم، ورسموا بعضها في مناسبات كثيرة.
واعتقد المصريون بخلود الروح، فوضعوا في مقابرهم كثيرا من الحبوب والتمر والتحف السابقة لعصر التاريخ.
وعندما وصل المصريون إلى هذا المستوى، في وقت كان العالم فيه لا يزال في ظلمات الجهل، أخذوا يشعرون بحاجتهم إلى القانون وإلى الاتحاد لصد هجمات البلدان المجاورة، فقام فيهم الملك مينا موحدا البلاد، جاعلا من مصر السفلى والعليا مملكة واحدة ابتدأ بتأسيسها، فبدأ بذلك عصر مصر التاريخي أو عصر الأسرات.
(يتبع)
أحمد موسى
القصص
على كف القدر
للأديب السيد محمد زيادة
الحياة لغز معقد أعجب ما فيه أن يشقى من لا يستحق الشقاء وأن يهنأ من لا يستحق الهناء؛ ولكن رحمة الله قريب. . .
التف الولدان والبنتان حول أمهم في أول الليل يسألون عن العشاء، وراحت هي تعللهم وتشاغلهم بما يلذ لهم من الحديث ليغمى على طفولتهم فيناموا. .
ثم ما لبثت صغرى البنتين أن استلقت على حجر أمها نصفها يقظان ونصفها هاجع، فحدبت عليها الأم ومالت تقبلها وتهز أعطافها برفق لتصرف عنها بقية يقظة وتسرب إليها بقية نعاس.
ثم نامت الفتاة طاوية تشيع على وجنتيها حمرة صفراء فيها معنى الطوى، وترقد بين أجفانها نظرة موهونة فيها معنى الألم، وتجول على شفتيها ابتسامة حزينة فيها معنى اليأس!!
ورأتها أمها نائمة لا يستقر على ملامحها الكرى، فحدقت في وجهها وأطالت التحديق. . . فأي حزن أبلغ من حزن أم فقيرة تنظر إلى وجه ابنتها النائمة فترى الجوع والفقر يتصالحان لتذبل في صلحهما زهرة ناضرة؟.
وسقطت من عين الأم على خد الفتاة قطرة من الدمع. . . ثم نهنهت المسكينة دمعها، ورفعت رأسها إلى أعلى وقالت: يا رب!
ونظر الولد الأصغر إلى أمه بعد إذ تنهدت وقال: هاهي ذي قد نامت فلم يبق إلا نحن الثلاثة. . . أما لديك طعام لنا؟
قال الولد الأكبر: إذا كان لديها طعام فماذا كان يمنعها أن تقدمه؟. انتظر يا مجنون حتى يعود أبونا فأنا لا نملك الطعام أو ثمن الطعام إلا بعد عودته.
قال الولد الأصغر لأمه: وهل يحضر معه ما وعدني وهو خارج في الصباح بإحضاره يا أماه؟ أم يخلف ما وعد كما فعل بالأمس وكما يفعل كل يوم؟.
قالت الأم: سيأتيك بكل ما تطلب يا ولدي والله معينه.
قالت البنت الكبرى: إنه تأخر الليلة عن موعده يا أماه.
قال الولد الأكبر: أنا أعرف إنه تأخر ليملأ جيبه بالمال، وسوف ترون كيف يوسع علينا الليلة فتشبع بطوننا بكل ما نشتهيه.
وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الرجل يتحامل على نفسه فيتقدم به شيء ويتأخر به شيء. . . يتقدم به الحنين إلى أولاده وتتأخر به الحسرة عليهم. . . فهو بين الماشي والواقف، يحمل على كتفه صندوقه وفيه تجارته يجوب بها الطرقات.
ورآه الأولاد مقبلاً فجنوا جنون الفرح، واستيقظت النائمة على أصواتهم، ونهضوا جميعاً يهللون ويصيحون: جاء أبونا. . جاء أبونا. . . أما هو فقد لقيهم بوجه كاسف مغبر، فكان كمن توقع مصيبة فوافته مصيبتان. وأسلم لهم يديه وجسمه يتعلقون به ويتواثبون حوله، وأبقى لنفسه رأسه بما حوى من فكر وما حمل من هم.
أما زوجته فقد علقت بصرها به فعرفت ما به، وبادلته نظرات مستصرخة بنظرات صارخة ثم تنفست وقالت: يا رب.
ووضع الرجل صندوقه وجلس إلى جوارها مكبكباً مخذولاً؛ والتأم الأولاد حولهما وقال الولد الأصغر: هل نكثت بوعدك يا أبي كعادتك؟. قال الرجل: لا يا بني. سأفي إن شاء الله
قال الولد: ومتى يشاء الله؟. كل يوم تقول هذا ولا تفعل شيئاً!!
قالت البنت الصغرى: لقد تأخرت يا أبي للآن ولم نأكل، ألم تدر أنني جائعة؟ إني سأخاصمك ولكن بعد العشاء
فضحك الرجل ضحكة باكية ثم قدم لزوجه ما في جيبه وقال: خذي هذا فهو كل ما رزقته في مطافي. . .
وما الذي كان في جيبه؟.
قرش ونصف قرش جناها الرجل من سعيه طول يومه، فهل تكفي لقوت أسره لا أدم عندها ولا خبز؟ يا رحمة الله بالمساكين! يا رحمة الله! أي فقر هذا؟
أطفال أبرياء يرهقهم الجوع وليس لديهم مما يحمله غير الصياح والتوجع، وليس حولهم مما يدفعه غير تسلية أمهم ووعودها وأم حسرى ممزقة الكبد، ترى أولادها وهم فتات قلبها نوحاً يتكلم الجوع بألسنتهم. ويتكلم ألم الجوع بعيونهم، وهي حيرى تسمع كلامهم بأذنها
وتحس آلامهم في قلبها. ولكنها لا تملك لهم شيئاً فلا تستطيع أن تفعل شيئاً، فهي محتوم عليها أن تظل صابرة على ما تسمع وما ترى. وأن تنسى نفسها بأولادها فتحمل كربتهم على كربتها، وأن تنظر دامعة ما يفلت من بين يدي القدر إلى يدي زوجها من رزقه الحبيس.
ووالد بائس يعلم أن ورائه أربعة أطفال يمرغهم الجوع بين أحضان أمهم البرّة فلا يغنيهم حنانها عن الطعام. . . ويعلم إنهم يحيون في غير الحياة، وينتظرون عودة الحياة في عودته!! فيندلق في الطرقات ناحية فناحية يتبع شيئاً ممنوعاً، هو رزقه، ويصل شيئاً مقطوعاً هو حظه، ويقطع شيئاً موصولاً هو فقره. . .
ولكنه لا يبلغ بسعيه وجهاده غير ما يقدر له. . . وماذا يقدر للفقير غير الفقر؟ يا ويلتا!! يا ويلتا لهم!!
وجعل الرجل والمرأة يتشاوران، وراح كل من الأولاد يطلب شيئاً بينما لا يكفي القرش ونصف القرش لشراء شيء. . .
قالت البنت الصغرى: أريد أن آكل سمكاً فأنا أشتهيه من شهر وكلما طلبته تؤخرونه إلى يوم بعد كل يوم. وقد رأيت بنت الجيران تأكل منه بالأمس، ولولا إنني خفت أن تضربوني لشحذت منها؛ وكانت هي تنظر إلي مختالة ونظراتها تقول لي ما تقول. وكنت أنا أنظر إليها حزينة ونظارتي تقول لها ما تقول أيضاً
فتبللت أجفان الأم وصرخ قلبها صرخة وقالت: عزيز علي يا ابنتي - فاصبري لعل الله يرحمنا
قال الولد الأصغر: وأنا أريد أن آكل أرزاً. . .
قالت الأم: آه يا ولدي!! غداً أعمل لك الأرز
قال الولد: يا طالما تقولون غداً وما يأتي الغد بشيء. . . أريد أن آكل الآن أرزاً، وإلا فسأبكي. . .
وجهش الولد إلى أمه المسكينة، ثم بكى فبكت له وضمته إلى صدرها وعيناها مدرار تميح من قلبها الدموع
وبكت البنت الأخرى فبكى الولد الآخر. . .
أما الرجل. فكان مطرقاً واجماً لا يطيق أن يرى موقف البكاء في منظر الفقر بين زوجه وأولاده؛ وكان تائها في دنياه يرى بخياله ماضيه الرخي الناعم فيهز رأسه، ويرى بعينه حاضره الشقي المظلم فيزفر، ويرى بفكره مستقبله الحالك المقطب فيرتعد
ثم ضاقت به نفسه فخرج على حكمة الرجولة وهوى من ثبات الإيمان إلى خور اليأس. . . وبكى. . . وبكى بكاء رجل، وما أمر بكاء الرجال!!
ثم رفع المسكين رأسه وقال: يا رب ما ذنبي وذنب صغاري؟ ماذا يطعم هؤلاء الليلة وماذا يطعمون كل ليلة؟
قالت الزوجة: خفف عنك حملك. . . إن الله لم يخلقنا لينسانا. . . إنه يرانا. . . إنه قادر رحيم. . .
ثم قالت: سأخرج الآن لأشتري بالقرش خبزاً وبالنصف قرش جبناً ليأكل هؤلاء. وغداً يفعل الله بنا ما يريد
ورضي الأولاد أن يمسكوا رمقهم بالجبن، فشيء خير من لا شيء. . وخرجوا تصحبهم أمهم لتهون عليهم في الطريق مشقة انتظار الطعام، ومشوا حولها يتناقشون. . . يقول هذا: أنا الذي أحمل الخبز، وتقول هذه: لا. . أنا التي أحمله. . . ويقول هذا: أنا الذي أصون الجبن، وتقول هذه: لا. . . أنا التي أصونه. . . ثم يقول هذا: أنا الذي أجلس إلى جنب أمي وقت الأكل، وتقول هذه: لا. . . أنا التي أجلس إلى جنبها. . .
حتى إذا كانوا على بعد خطوات من البدال كان النقاش بينهم على اشده، فعثرت أمهم بأحدهم فكادت تسقط على الأرض وسقطت النقود من يدها. .: فقفزت لترد القضاء ولكن القضاء أسبق!! حمل القرش والنصف إلى الطين ثم إلى الخفاء
يا لله!! يا لله!! ما هذه الدنيا؟ إنها لا ترحم ولا تعرف ألين في القسوة. نكبت هذه الأسرة بالفقر ثم لم يرضها هذا حتى نكبتها بفقر الفقر! يا أيها الأغنياء. . . كيف يحل لكم عيشكم الرغيد وفي الحياة مثل هذه الأسرة؟
ومدت المسكينة يدها في الطين تبحث فلم تجد شيئاً. . . وجعلت تبحث فلا تجد. . . ثم وقفت ذاهلة وعيناها تذرفان ما سال من حشاها
ثم جمعت أولادها الباكين وعادت. . . ولكن كيف عادت؟
عادت محطومة يستغلق على إحساسها كل ما حولها. . . فلا تسمع شيئاً مما ترى، ولا ترى شيئاً مما تسمع؛ وكأنما انفضت من حولها الدنيا فلم يبق إلا هي وأولادها، وما بينها وبينهم إلا أنين وأنين. . .
وإنهم ليقتحمون ظلمة الطريق بظلمة اليأس إذ أفلت الولد الصغير من بينهم فتأخر. . .
ثم صاح وهو يجري ليلحقهم: أماه. . . لقد وجدت قرشاً!
وأخذت الأم ما في يده فإذا في يدها قطعة فضية بعشرين قرش. . . يا أرحم الراحمين. . . ودارت الأم، ودار أولادها معها ومضوا. . . ومضوا إلى السوق
طنطا
السيد محمد زيادة
البريد الأدبي
التعاون الأدبي بين الشرق والغرب
ليس من ريب في أننا ندين بكثير من تكويننا العقلي الحديث للغرب
ولآثار الثقافة والآداب والغربية. فنحن ننقل عنها وننتفع بها منذ أجيال،
ولها أكبر حظ من قراءتنا واطلاعنا. بيد أننا نستطيع من جهة أخرى
أن نقول أن الأمم الشرقية بدأت تكوينها الأدبي الحديث، وأخذت تسير
في طريق الإنتاج المستقل وأخذ الغرب من جانبه يعنى بآدابنا كما
نعنى بآدابه وإن كانت هذه العناية لا تزال محدودة. ولقد ترجمت إلى
كثير من اللغات الأوربية بعض الآثار الشرقية الرائعة المحدثة، وكانت
الهند أوفر الأمم الشرقية حظاً من ذلك؛ فآثار تاجور مثلا تعرف في
الغرب كما تعرف آثار أعظم كتابه العالميين، وقد كانت الآداب العربية
المحدثة أقل حظاً في هذا الميدان، فلم يعن الغرب بها عناية كافية إما
لأنها لا تستحق في نظره أن يعنى بها، وإما لتقصير من جانبنا في
التعريف عنها؛ بيد أنه يلوح لنا أنه قد تتاح في المستقبل القريب فرص
جديدة للتعاون الأدبي بين الآداب العربية والغربية، فقد أثيرت مسألة
النقل والترجمة في أكثر من مؤتمر دولي في الأعوام الأخيرة، وأدلت
مصر بصوتها في هذه المؤتمرات على يد نادي القلم المصري؛ وقد
بدت أخيراً نتائج هذه الحركة بصورة عملية؛ فقد تقدمت بعض هيئات
النشر الإنكليزية إلى نادي القلم المصري تطلب معاونته في التعريف
عن بعض الآثار العربية المصرية التي تصلح للنقل إلى الإنكليزية،
وذلك لتترجم وتنشر بالإنكليزية، والمعروف أن هذه الهيئات قد وضعت
مشروعاً كبيراً لترجمة الآثار الشرقية النموذجية إلى الإنكليزية،
وأفسحت فيها مجالاً كبيرا للآثار العربية؛ وسوف يعنى نادي القلم
المصري ببحث هذه المسألة واختيار الآثار النموذجية الصالحة؛
والمرجو أن يسفر هذا التعاون في القريب العاجل عن أثره المحمود
في التعريف عن طائفة من كتابنا وآثارنا، وأن يتسع نطاقه مع الزمن
حتى يغدو تبادلا حقيقيا بين الآداب الشرقية والغربية.
مهرجان أولمبي للآداب والفنون:
وقفنا في الصحف الفرنسية الأخيرة على نبأ مشروع طريف تبحثه اليوم بعض الدوائر الأدبية في مدينة مونبلييه، ذلك هو السعي إلى إقامة مهرجانات دولية أولمبية تمثل الحركة العقلية والفنية. ولقد قيل في ذلك إن المهرجانات الأولمبية التي تقام في عصرنا لا تمثل إلا ناحية واحدة هي الثقافة الرياضية، وهذه الناحية لا تمثل كل ما رتبه القدماء على إقامة الاحتفالات الأولمبية، فقد كانت هذه المهرجانات الشهيرة تضم عدا الرياضيين عدداً كبيراً من المفكرين والموسيقيين والفنانين يعرضون ثمرات قرائحهم إلى جانب الألعاب الرياضية ويمثلون بذلك القوة العقلية والمهارة الفنية كما تمثل الألعاب القوة البدنية والمهارة الرياضية. ويرى أصحاب هذه الفكرة أن ينظم كل أربعة أعوام مهرجان أولمبي عقلي وفني في إحدى مدن أوربا التي اشتهرت بتراثها الفني أو الثقافي مثل أوكسفورد وفلورنس وهيدلبرج ومونبلييه ورومة وأثينا وغيرها. وتختار كل أمة من الأمم المشتركة في المهرجان وفداً يضم بعض المفكرين والشعراء والموسيقيين والفنانين يعرضون في المهرجان ثمرات الحركة العقلية والفنية في بلادهم في شكل قطع شعرية أو موسيقية أو تمثيلية أو محاضرات يلقيها أو يمثلها الأخصائيون كل في ناحيته، وأن يقع الاختيار بالأخص على كل ما يصلح للعرض أو الإلقاء التمثيلي، ويختص كل وفد بيوم يعرض فيه ما لديه على ممثلي الأمم الأخرى، ويشمل البرنامج إقامة حفلات تمثيلية وموسيقية وراقصة عامة تتبارى فيها مختلف الوفود، ويقترح أصحاب الفكرة أن تكون مدينة مونبلييه مركزاً
لأول مهرجان أولمبي عقلي إذ هي مهد قديم من مهاد الثقافة من الجنوبية. ثم يعقد المهرجان بعد ذلك كل أربع أعوام في إحدى المدن التي اشتهرت بتراثها العقلي أو الفني والتي لها طابع عالمي
نقول وهذا مشروع بديع بلا ريب، ومن المحقق أنه يلقى تأييداً من المفكرين والفنانين في أنحاء العالم، ومن المحقق أن تنفيذه يعاون في تقارب الشعوب وتعاونها معاونة لا تحققها المهرجانات الأولمبية الرياضية
أثر الفراعنة في الفن السينمائي
هل تصدق أن الأفلام الفكاهية التي تعرف باسم (مكي ماوس) والتي غدت من أشهر المناظر السينمائية في عصرنا إنما ترجع إلى أصل فرعوني؟! هذا ما يقوله العلامة الأثري البلجيكي الأستاذ جان كابار نزيل مصر الآن؛ فهو يقول لنا أنه انتهى في مباحثه إلى أن هذه المناظر والصور المحدثة قد عرفت في مصر الفرعونية قبل أربعة آلاف عام، وأنها وجدت مرسومة على القبور الفرعونية قبل أن تظهر على شعار السينما؛ ويستدل العلامة المذكور على صدق نظريته بما يأتي:
أولا - يوجد في متحف القاهرة صورة للملكة ماكيت وهي تشبه ميكي ماوس شبهاً عجيباً، وقد صورت وهي تتلقى احترام رعاياها
ثانيا - يوجد في متحف بروكسل الملكي وفي متحف التاريخ صورة لهذه الملكة ترى فيها وهي تتناول طعامها وأمامها قطة تقوم بخدمتها
ثالثا - توجد في متحف تورينو لوحة من ورق البردي صورت عليها صورة جوقة موسيقية من عدة حيوانات: حمار بيده معزف، وأسد ينفخ في مزمار، وتمساح بيده قيثارة، وقرد يقود الفرقة بحركاته وينفخ في مزماره؟ وهذه الصورة تماثل شريطاً من أشهر الأشرطة الفكاهية من نوع مكي ماوس التي عرضت أخيراً في دور السينما
ففي ذلك كله ما يدل على أن المصريين القدماء مع تمسكهم بالرسوم الدينية العميقة، وتعلقهم بالشعائر المقدسة، كانوا في نفس الوقت يمزجون فنونهم الرصينة ونقوشهم المقدسة، بنوع من الفكاهة، وعلى إنهم قد عرفوا قبل آلاف السنين أن يتخذوا من الحيوانات رموزاً لتمثيل الأفكار الفكاهية والسخرية الإنسانية على نحو ما يبدو الآن في الأفلام التي اتخذ أبطالها من
الحيوانات وهي المعروفة بميكي ماوس
كتاب جديد عن مصر:
صدر أخيراً بالألمانية كتاب جديد عن مصر وضعه أستاذ مجري كان مديراً لمتحف فؤاد الزراعي وعنوانه: الاقتصاد الزراعي في مصر المعاصرة وفيه أبحاث مستفيضة في كل ما يتعلق بشؤون مصر الإقليمية والزراعية والصناعية، مثل تربة الأرض والنيل وطرق الري وخزان أسوان، والمواسم الزراعية، والمحاصيل، وزراعة القطن ونسجه، والقروض الزراعية والتعاونية واستغلال المصايد والملاحات وشئون الموصلات والتجارة الخارجية وغيرها مما يتصل بموضوع الاقتصاد الزراعي، ويختتم المؤلف كتابه ببحث قيم في وسائل تنمية الاقتصاد الزراعي المصري، ويبدي في بحوثه خبرة واطلاعاً واسعين، وقد تولت نشره مطبعة (شوليه) في فينا
رنيه بنجامان
قدم القاهرة منذ أيام قلائل الكاتب الفرنسي الكبير رنيه بنجامان، وقد ألقى محاضرة شائقة عن (رسائل بلزاك الغرامية) وسيلقي محاضرة أخرى في الخامس والعشرين من هذا الشهر عن (موليير وشخصيته) بقاعة يورت التذكارية. ومما يؤثر عن الكاتب الكبير إنه من أقدر المحاضرين في فرنسا، فهو يتمتع في الإلقاء بمواهب ساحرة، وأسلوبه جذاب رائع، وقد اشتهر بمحاضراته الأدبية والتاريخية الشائقة
كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء المعري
هذا الكتاب الغريب في بابه العجيب في أسلوبه قد وضعه أبو العلاء في الوعظ وتمجيد الله فزعم بعض أعدائه إنه يعارض به القرآن. وقد فقد هذا الكتاب فيما فقد من آثار هذا الفيلسوف حتى عثر على جزئه الأول الأستاذ محب الدين الخطيب وأهداه إلى المرحوم تيمور باشا، ثم قيض الله له صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي أمين الخزانة الزكية سابقاً فأخذ يقدم له ويعلق عليه ويشرحه ويصححه، وسيقدمه إلى الطبع عما قليل وهي بشرى نزفها إلى أصدقاء أبي العلاء من أعيان الأدباء والعلماء
الكتب
شعراء مصر وبيئاتهم
في الجيل الماضي
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
أحوج ما يحتاج إليه أدبنا سواء في ذلك قديمه وحديثه، معرفة مكانة الأدباء والشعراء، لا من حيث البلاغة والفحولة والمعاني الشعرية في ذاتها فحسب، بل من حيث الخاصية النفسية لكل منهم ونوع مزاجه ووشائجه الإنسانية ونظرته إلى الطبيعة وفلسفته في الحياة إن كانت له نظرة وفلسفة
وقد تناول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في كتابه الأخير شعراء الجيل الماضي يتخللهم بلحظه الناقد وطبعه القويم، فإذا الرعيل المحشود في صعيد واحد تتبين له ألوان وشيات مهما خفتت وتقاربت، وتتميز له ملامح وسمات مهما خفيت وتشابهت، وإذا بكل شاعر من شعراء ذلك الجيل مبيت في حيزه، وكل أمر من أموره مقرر في نصابه. وقد انتظم الكتاب بين دفتيه الساعاتي وعبد الله فكري وعبد الله نديم وعلي الليثي ومحمد عثمان جلال ومحمود سامي البارودي وعائشة التيمورية وحفني ناصف وإسماعيل صبري والسيد توفيق البكري ومحمد عبد المطلب وحافظ إبراهيم وشوقي ثم كلمة ختام عن مدارس الشعر بعد شوقي
والأستاذ العقاد في كلامه عن هؤلاء لا يرسل القول إرسالاً، بل يدعمه كعادته بما أحاط به تحصيله الواسع وأدركه تفكيره العميق من بحوث عالية في رسالة الأدب للحياة وموازينه الصحيحة والفروق الفاصلة بين شعر الصنعة وشعر الطبع وبين الذوق الخاص والذوق العام
(فالذوق ذوقان: فأما الشائع منهما فهو الذوق الذي يتملى الجمال ويستحسنه حين يراه معروضا عليه. وأما النادر منها فهو الذوق الذي يبدع الجمال ويضفيه على الأشياء ولا يكون قصاراه أن يتملاه حيث يلقاه أو يساق إليه.
فالذين يحبون محاسن الطبيعة كثيرون يحسبون بعشرات الألوف وكل من يخرجون إلى
الرياض ويجلسون على الجداول ويسهرون في القمراء ويستمعون إلى شدو العصافير ويبتغون منازه الأرض في المواسم وأيام البطالة - هم محبون للطبيعة يشغفون بها كما يشغفون بالفرجة والاسترواح. وقد يشبههم في هذا بعض الأحياء التي تغرد على الشجر كلما آن الأوان أو تأوي إلى الظلال والأمواه كلما حنت إلى الراحة وبرد الهواء.
ولكن هذا هو الذوق الشائع كما قلنا، وليس هذا هو الذوق الخالق المحيي الذي يضيف من عنده شيئاً إلى شعور الناس بما يراه ويصفه ويحكيه
إنما صاحب الذوق الخالق المحيي هو الذي ينقل إليك إحساسه بالشيء القديم الموجود بين جميع الناس، فإذا بك كأنك تحسه أول مرة لما أودعه فيه من شعور وما أضفاه عليه من طرافة. فإذا وصف البحر أو السماء أو الصحراء أو الروضة فكأنما هو يجعلها بحره وسماءه وصحراءه وروضته لفرط ما مزج بينها وبين مزاجه وشعوره. وتسري إلى القارئ هذه الجدة فيرى هذه المناظر بعين غير التي كان يرى بها مألوفاته
ومن ذاك المعين الفياض نبع وصف الأقدمين للطبيعة ومحاسنها ومخاوفها فتمثلوها - لفرط شعورهم بها - عرائس وحوراً وأطيافاً وأرواحاً وبعثوها جنة وشياطين وأغوالا. لأنهم عاشوا فيها وعاشت فيهم فمزجوها بدمائهم ولم ينظروا إلى الطبيعة كأنهم ينظرون إلى (سجادة) منسقة الخيوط مزبرقة الألوان مريحة لمن يمشي فوقها أو ينام عليها كما يستريح العديد الأكبر من رواد الرياضة في منازه الخلاء
فالرياض - عند الشاعر من هؤلاء - والخمائل والجداول والأنهار والسماوات هي بعينها رياض زوار (المواسم والآحاد) وخمائلهم وجداولهم وأنهارهم وسماواتهم لا تزيد ولا تنقص. . . . وأن بيتاً واحداً كبيت البحتري الذي قاله في الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
…
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
ليساوي كل ما نظم شاعرهم في ربيعياته وريحانياته: لأن الطلاقة والاختيال والبشاشة والحسن الذي يهم بالكلام هي علامات الربيع المبثوث في النفوس. وكل كلمة من هذه الكلمات تدل على النفس الحية التي تشاهد الربيع أكثر من دلالتها على الربيع الظاهر فيما يبدو للعيان أو على (السجادة) المزخرفة بالأصباغ والنقوش والدوائر والخطوط. . . ولو لم يكن البحتري قد أحس بشاشة الطلاقة وزهو الاختيال وفرح الحياة النامية ونجوى الحسن
المتكلم حين شهد ربيعه لما كان لزاما أن يذكر هذه الكلمات ويجمع بين هذه الصفات. ولكانت له مندوحة عنها بوصف الأحمر أو الأخضر يبحث له عن أحمر أو أخضر مثله في محفوظات المشبهين، وبوصف العطر يطلق حوله الند والبخور، وكلمة من هنا وكلمة من هناك عن الخدود والعيون والوجد والهيام على نحو ما يفعل شعراء الصنعة
وشعر الصنعة ليس على نهج واحد كله، فمنه ما هو زيف فارغ لا يمت إلى الطبيعة بواشجة ولا صلة. وليس فيه إلا لفظ ملفق وتقليد براء من الحس والذوق والبراعة. ومنه ما هو قريب إلى الطبيعة ولكنه - كما قدمنا - منقول من القسط الشائع بين الناس. فليس فيه دليل على شخصية القائل ولا على طبعه ولا تتبين فيه لمحة من الملامح ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان بين سائر الناس
وليس هذا بشعر النفس الممتازة ولا بشعر النفس (الخاصة) إن أردنا أن نضيق معنى الامتياز. وليس هو من أجل ذلك بالشعر الذي هو رسالة حياة ونموذج من نماذج الطبيعة. وإنما ذلك ضرب من المصنوعات غلا أو رخص على هذا التسويم
والفرق بينه وبين شعر (الشخصية) إن الشخصية تعطيك الطبيعة كما تحسها هي، لا كما تنقلها بالمجاورة والسماع من أفواه الآخرين. فهذه هي الطبيعة وعليها زيادة جديد مطلوبة أبداً، لأن الحياة والفن على حد سواء موكلان بطلب (الفرد) الجديد أو النموذج الحادث، أو موكلان بطلب (الخصوص) والامتياز لتعميمه وتثبيته والوصول منه إلى خصوص بعد خصوص وامتياز بعد امتياز
واقرب ما يمثل به لذلك زارع يستنبت صنوف الثمار لينقي منها (المميز) في صفة من الصفات المطلوبة. فإذا عثر بالثمرة الواحدة التي وصل فيها إلى غرضه قومها وحدها بعشرات الأفدنة من الثمرات الشائعة عند غيره، لأنه بهذه الثمرة الواحدة ليستأثر بالطلب والإقبال ويعفي على ثمرات الشيوع والعموم
وهكذا الشخصية الممتازة في عالم الشعر أو في عالم الحياة عامة: (هي عندنا وعند الحياة التي أنشأتها أقوم من جميع المتشابهات الشائعات وإن كن جميعاً مطبوعات غير مقلدات ولا زائفات
وإنما يستحق الشعر أن يسمع ويحفظ حين يكون كهذا الشعر - وقد أورد الأستاذ أروع
الأمثال عليه - الذي يرينا ما في الدنيا وما في نفس إنسان، ونعرف فيه الطبيعة على لون صادق ولكنه أيضاً لون بديع فريد لأنه لون القائل دون سواه، فتجتمع لنا غبطة المعرفة من طرفيها، ويتسع أمامنا أفق الفهم وأفق الشعور، إذ يتكرر الشعور الواحد باختلاف الشعراء كأنه مائة شعور، ويتكرر فهم الحقيقة الواحدة كأنها مائة حقيقة، وتلك هي الوفرة التي تتضاعف بها ثروة الحياة، ونصيب الأحياء منها)
وفي هذه الصفحات التي أدمجناها ما يجعل الإضافة والتعقيب فضولاً منا. وإن القارئ بعد هذا الذي قدمناه لاشك مؤثر أن يخلو بالكتاب ونفسه
(ص)
أحلام الصبا
للأديب إدوار حنا سعد
130 صفحة من القطع المتوسط
طبع بمطبعة مصر بالإسكندرية
قليل من أدباء الشباب في مصر من يجمع فن القصة إلى جانب الشعر، فالأديب الناشئ في طور التثقيف عادة أما أن يقتصر على قرض الشعر ويتجه إليه بكليته حتى يجعله يطغى على غيره من فنون الأدب، وإما أن يقتصر على القصة فتملك عليه زمامه وتشغله عما عداها من أغراض الأدب الأخرى، وأما أن يجمع بين الاثنين فيغلب أحدهما على الأخر ويطغى عليه
وبين يدي الآن مجموعة من الشعر والقصص أهداها إلي صديق أديب جمعها في كتاب أسماه (أحلام الصبا). وقد قدم الأستاذ فخري أبو السعود للكتاب بمقدمة قصيرة، تناول فيها شخصية المؤلف ببعض التحليل ثم تكلم عن القصص وتحدث عن استقلال الكاتب في موضوعاته ومتانة صياغته للقصة، وربط أجزائها وحسن نسجها. وختم الأستاذ مقدمته بالكلام عن الشعر مستدلاً ببعض بيوت المؤلف في معرض حديثه
ننتقل بعد ذلك إلى قسم القصص في الكتاب. . . فنرى إن قصص المؤلف وإن كانت تدور
حول موضوعات مطروقة من قبل إلا إنها حسنة السبك متينة الصياغة، تسيغ عليها البساطة روعة الحقيقة. وأذكر منها هنا قصة (أحلام الصبا) وقصة (رقصة شيطان)
وأما الشعر فهو يشغل النصف الثاني من الكتاب، وللمؤلف نزعة شعرية وطابع خاص فهو يميل إلى الشعر الغنائي، ولذا كثيراً ما نراه يختار لذلك البحور القصيرة، وهو لا يهتم بجانب المعنى قدر اهتمامه بموسيقية الألفاظ، فكثيراً ما يخرج القارئ من بعض قصائده دون أن يلفت نظره معنى جديد. أما شعره في جملته فسهل الألفاظ، رقيق الديباجة، موسيقي التوقيع. . ومن جيد شعره قصيدة (أنت وأنا) وقصيدة (لقاء الحبيبين)
والمؤلف من أدباء الشباب الذين جمعوا بين القصة والشعر، وغلب أحدهما على الآخر، فنرى القصة غالبة عليه، وأغلب الظن إنه لو والها وصرف فيها بعض عنايته لكان له فيها مستقبل زاهر
أحمد فتحي مرسي
طلعت حرب
للأدباء: حافظ محمود. مصطفى الفلكي، محمود فتحي عمر
180 صفحة من القطع الكبير طبع بمطبعة مصر.
كثيراً ما يطالعنا كتاب الغرب وأدباؤه بدراسات تحليلية طويلة، وبحوث فائضة في حياة زعمائهم، اعترافاً بفضلهم وإشادة بذكرهم وحثاً لغيرهم على الاقتداء بهم والنسج على منوالهم
وهذه الناحية التحليلية التي نراها بين أدباء الغرب قلما نجد لها أثراً ظاهراً في الأدب الشرقي. . . . فأدباء الشرق لا يعنون بدراسة زعيم ما، مادام بين ظهرانيهم، ومادامت تجري فيه دماء الحياة، حتى إذا ضمه القبر وواره التراب، بدءوا يجمعون شتات أخباره، ونثير آراءه وأفكاره، فيما يسمونه ببحث في حياة الراحل، أو تحليل لشخصية الفقيد
وبين يدي الآن كتاب أعده منوالاً يجب النسج عليه، وثمرة فكرة طيبة يجب اقتفاء أثرها، وضعه ثلاثة جمعتهم بزعيم مصر الاقتصادي (طلعت حرب باشا) صلة وثيقة، فألموا بدقائق حياته عن قرب، ودرسوا شخصيته عن كثب، ثم كشفوا لنا في كتابهم عن صفحات
ناصعة من حياة ذلك الرجل العظيم، ودرسوا ماضيه وحاضره، وبينوا لنا آراءه وأفكاره لا في الناحية الاقتصادية فحسب، بل في غيرها من نواحي المجتمع، مستدلين بصفحات من مؤلفاته ونبذ من خطبه
وقد وفق الأساتذة المؤلفون إلى متانة نسج الكتاب وحبك خيوطه، مما لا يجعل الملل يتسرب إلى نفس القارئ أو يدركه الضيق من طول الكتاب
(ف)
ثورة العرب الكبرى
تأليف السيد عبد الحميد راضي
120 صفحة. ورق صقيل. مطبعة الجزيرة ببغداد
من بواعث الغبطة والسرور، أن نرى تلك النهضة الأدبية التي يحمل لواءها شباب العراق، والتي تنتظم ربوع دجلة والفرات تنشط يوماً بعد يوم، فتعيد إلى الأذهان سيرة السلف الصالح وذكريات الماضي المجيد. . .
وأمامي الآن قصة شعرية طريفة وضعها أديب عراقي، وتناول بها موضوع الثورة العربية الكبرى، فبسط لنا دقائقها وصور حوادثها. وقد بدأت القصة بتمرد العرب على الأتراك، وانتهت بوفاة الملك حسين بعد أن تنازل عن العرش لولده الملك علي
وقد راقني موضوع القصة بقدر ما راقني أسلوبها، فالمؤلف في كتابه قوي الصياغة، متين النسج، غير متكلف النظم يرسل الشعر إرسالاً على سجية الشاعر المطبوع دون تصنع أو تكلف
ولا يسعني هنا إلا أن أهنئ المؤلف بكتابه الفريد كما أهنئ العراق بأدبائه النابهين وشبابه الناهض
أ. ف
كتاب الشهر
تتقدم دار الثقافة العامة، وقوامها جماعة من شباب الجامعة وخيرة رجالها، وكبار أصدقائها
إلى قراء العربية في أقطارها بمشروعها الجديد (كتاب الشهر) وهو سلسلة من المؤلفات. يخرج كل مؤلف منها في موضوع مستقل يكتبه عالم أو مؤرخ أو أديب أو بحاثة متخصص، وتكون غاية هذه الكتب تلخيص وتيسير مباحث العلم والتاريخ والأدب والسياسة وتقريبها في أسلس أسلوب إلى أذهان قرائها، مراعية إلى جانب الدقة في اختيار المواضيع حسن العرض، ورخص الثمن حتى تكون في متناول الجميع. وقد اختيرت طائفة من فروع المعرفة العامة لتصدر بها السلاسل الأولى من كتب الشهر، وهي السياسة الدولية في أشخاص قادتها العالميين المحدثين. والتاريخ الإسلامي يمثله ستة من عظمائه لكل كتاب على حدة، وتاريخ مصر الحديث في كتب ستة، وتاريخ العقائد الشرقية القديمة يبحث تاريخ آلهتها وأنصاف آلهتها في أبديتها
وبين يدي القراء الآن، كتاب الشهر الأول عن هتلر وسيتبعه في الشهر التالي كتاب ثان عن موسوليني ثم ديفاليرا ثم مصطفى كمال ثم ستالين
فاقتناء هذه السلاسل، والحرص عليها، يكون لدى أصدقائها بعد مدة وجيزة، مكتبة نفسية لن تقل قيمة عن مكتبات كتب الجيب والست بنسات وغيرها التي عرفت في اللغات الأوربية. ولتيسير اقتناء السلاسل، وضعنا نظاماً للاشتراك فيها، وهو عشرة قروش لكل سلسلة، أي أنها تكون ثمناً لستة كتب (وتتضاعف القيمة للخارج)
ويسر دار الثقافة العامة، أن تجد لغيرتها على مستوى الفكر المصري العربي صدى يكون المكافأة الحقة لجهودها بعد أن اتضح من رخص أثمان الكتب، وقيمة الاشتراك في سلاسلها إلى جانب جودة الطبع، ما ينفي كل فكرة عن غايتنا هي مجرد الاتجار أو الكسب
محمد صبيح
العالم المسرحي والسينمائي
روميو وجولييت لشكسبير
إخراج ايرفنج تالبرج
لناقد (الرسالة) الفني
استطاع المرحوم (ايرفنج تالبرج) أن يخلد اسمه في عالم السينما كمخرج قوي وعظيم بإخراجه رواية روميو وجولييت. وتالبرج هذا كان من كبار مخرجي شركة مترو جلدوين ماير الذين يشار إليهم. كان جريئاً مجدداً، عمد إلى اقتباس أشهر المسرحيات العالمية الحديثة وإخراجها على الشريط. وتاريخه جليل حافل ولكنه في إخراجه البديع لهذه الرواية أضاف مجداً إلى مجد، وكان هذا الفلم خير عمل يختم به مخرج حياته الحافلة.
لم يكن تالبرج أول من اقتبس أعمال شكسبير للسينما الناطقة، بل سبقه إلى هذا المخرج المسرحي والسينمائي العظيم (ماكس رينهارت) إذ أخرج رواية (حلم ليلة صيف) ' وهي أصعب روايات شكسبير في الإخراج السينمائي، ولكن ذلك الفنان العبقري استطاع أن يبرزها على الشاشة في أجمل الصور وأحبها إلى النفس، فله في هذا فضل السبق إلى جانب الروعة التي لم يدركه أو يدانه فيها أحد. على أن أهم ما يمتاز به إخراج تالبرج هو الصدق وعدم المغالاة، والدقة في إبراز حوادث الرواية والمحافظة على روحها واستعمال الحوار الشعري الذي وضعه شكسبير نفسه
يعرف القراء أن اقتباس سيناريو من رواية مسرحية عمل من الصعوبة والدقة بمكان، لأن الكاتب يعمد إلى ترجمة الحوار إلى صور، وليس كل حوار يمكن أن يترجم إلى صور، والمسرحية مقيدة بزمان ومكان، ولكن روايات شكسبير تشذ عن هذه القاعدة، فالمسرح في عهد شكسبير لم يعرف المناظر التي تتغير، لأن الستار لم يكن قد عرف بعد، وكانت الحوادث تمثل على مسرح مرتفع ويُكتَفى بإبراز لوحة صغيرة مكتوب عليها أسم المكان الذي تجري فيه الحادثة، وعلى رواد المسرح أن يتخيلوا المنظر أمامهم، ولهذا لم يتقيد المؤلف بالمكان فكثرت المناظر في الرواية الواحدة وكانت نتيجة ذلك تتابعاً مستمراً في الحوادث دون انتقال مفاجئ أو انقضاء فترات طويلة بين فصل وآخر؛ وهذا يشبه في
نواح كثيرة القصة السينمائية. ولهذا كان الطريق أمام كاتب سيناريو هذا الفلم ممهداً فلم يلق صعوبة تذكر في عمله وجاء الفلم مطابقاً للمسرحية في كل نواحيها
ولقد أمكن المخرج ومساعديه أن يبرزوا الفلم في جمال وقوة وروعة، وللمدير الفني (جورج كيكور) فضل كبير في نجاح الفلم وظهوره في هذه الصورة الكاملة: من إتقان في المناظر والإضاءة والتصوير مما يليق برواية الحب الخالدة التي يحفظ كل شاب وفتاة حوادثها
لم تكن المناظر عظيمة ولا ضخمة ولا ذات ترف كبير وما إلى هذا مما يعمد إليه المخرج الأمريكي سيسيل دي ميل للتأثير في رواد أفلامه، فالمناظر بسيطة وفي حدود ضيقة، ولكنها تتسق مع القصة وحوادثها. ولقد أدت مهمتها في معاونة الممثلين على الوصول إلى قرارة النفوس
إن من يتتبع الفلم باهتمام لا يكاد يلمس للمخرج أو المدير الفني خطأ يحصيه عليه منذ بدء المعركة الأولى بين آل منتاجو وآل كابيوليت حتى موت روميو وجولييت وتصافح الزعيمين أمام قبرهما اللهم إلا موقفاً واحداً عندما تلتقي عينا جوليت بروميو وتنسى نفسها فالحوادث هنا تجري أسرع مما ينبغي
لعل أول ما خطر ببالي عندما سمعت بتوزيع الأدوار في الفلم أن نورما شيرر تكبر في السن عن الحد الذي يليق بجولييت وقدرت لها السقوط، ولكن الواقع كان عكس ما ظننت، فهذه الممثلة استطاعت أن تؤدي الدور على خير ما يكون وأن ترتفع به إلى أعلى درجات النجاح، فصورت الطفولة والسذاجة في جولييت الصغيرة حتى أحس رواد الفلم أن الممثلة التي أمامهم فتاة في الحلقة الثانية لا امرأة في الحلقة الرابعة، ولكنها مع هذا كانت تمثل بحذر وترقق من نبرات صوتها حتى تبدو صغيرة، فنجحت في التمثيل ولكنها لم تستطع أن تحيي الدور، وهنالك فرق كبير بين أن يحيي الممثل الدور وبن أن يجيد تمثيله
وليسلي هوارد شاب توافق سنه سن روميو وقد نجح في أداء الدور ولكن ليس إلى الحد الذي قدرناه. كانت حركاته ثقيلة وصوته خشناً أجش وإن كان يعبر وجهه تعبيراً حسناً موقفه في الفلم عكس موقف نورما شيرر فهو مع صغر سنه بدا كبير السن في الفلم
مثل جون باريمور دور (ماركيشيو) وكان بديعاً إلا أنه غالى في تصوير الشخصية، وهذه
المغالاة تبدو لمن قرأ الرواية أو رآها على المسرح، ولكنه وهو يموت من أثر الطعنة التي أصيب بها كان بديعاً وقد وصل إلى القمة
والقسيس كان خشناً وقسمات وجهه قاسية ولم تبد منه نواحي الحنان والشفقة التي تحبب الإنسان إلى رجل الدين وتجعله يبوح له بمكنون سره، وأجاد بقية الممثلين أدوارهم ولاسيما المربية مما جعل الاتساق يسود الرواية ويجعل التمثيل في قوة الإخراج
عرضت سينما ديانا بالقاهرة ترجمة عربية للحوار ولكنها مع الأسف كانت ترجمة سخيفة، وكان ظهورها على الشاشة يتأخر دائماً، ونرجو لو تعنى إدارة السينما باللغة العربية وبرواد السينما من المصريين وعواطفهم أكثر من هذا.
يوسف تادرس