الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 191
- بتاريخ: 01 - 03 - 1937
ثقافة مصر المستقلة
يجب أن تقوم على أسس جديدة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
مصر في مفتتح عهد جديد، لا يتناول مركزها السياسي فقط، بل يتناول أيضاً كل شيء في حياتها العامة. ذلك أن التطورات السياسية العميقة تحدث أثرها دائما في سائر نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية لأمة من الأمم؛ وقد كان تكوين مصر الاجتماعي في العصر الحديث وليد تطورات وأحداث سياسية خاصة، تختفي اليوم من الأفق ليحل محلها عهد جديد بكل معاني الكلمة؛ وسيحدث العهد الجديد أثره في حياتنا الاجتماعية والفكرية؛ وستتوقف آثاره ونتائجه على مبلغ ما تبديه مصر ذاتها من استعداد وطموح
ومن المعروف أن العوامل المعنوية في تقدم الأمم تسبق العوامل المادية دائما؛ ومصر الآن في مستهل المرحلة الأولى من العهد الجديد أي في طور التكوين المعنوي الذي يلائم هذا العهد. ولما كانت هذه المرحلة من أدق المراحل في حياة الأمم الناهضة، فإنه يجب على مصر أن توليها أفور عناية حتى تستطيع أن تشيد خلالها تكوينها المعنوي الجديد على خير الأسس التي تمهد لها طريق التقدم والنهوض
ولا ريب أن الثقافة القومية هي أقوى دعامة يقوم عليها كيان الأمة المعنوي؛ وقد قطعت مصر بالفعل في هذا الميدان خطواتها الأولى، حتى قبل أن تحقق استقلالها السياسي؛ ولكنها مازالت في مفترق الطرق تنقصها عناصر الاستقرار في توجيه ثقافتها الجديدة. وهذا التردد طبيعي في تكوين الثقافات القومية الناشئة؛ بيد أنه يجب ألا يطول عهده، ويجب أن تحل مكانه عوامل الاستقرار المنشود بسرعة؛ وعندئذ يبدأ بناء الصرح المعنوي الذي يقوم عليه كل شيء في حياة الأمة الجديدة
ومصر تتمتع اليوم بثقافة حسنة، ولكن ينقصها كثير من العناصر القومية الحيوية. ومن الصعب أن نحدد لون هذه الثقافة أو نوعها، فهي اليوم مزيج متباين من ثقافات مختلفة يرجع تكوينه إلى ظروف مصر السياسية والاجتماعية في العصر الأخير. ولقد قيل في مناسبات كثيرة إن مصر تتمتع بنوع من الثقافة اللاتينية وإن هذا النوع من الثقافة، أعني اللاتينية، هو خير ما يلائم عقلية مصر ومشاعرها، كأمة من أمم البحر الأبيض المتوسط
الذي تغمر هذه الثقافة ضفافه الشمالية منذ العصور الوسطى، وإن الأمر يتعلق هنا بعوامل جغرافية واجتماعية لا سبيل إلى إنكارها؛ بيد أننا نشك في صواب هذه النظرية؛ والواقع أنه إذا كانت الثقافة اللاتينية أو بعبارة أخرى الثقافة الفرنسية قد غلبت على الثقافة المصرية في القرن التاسع عشر، فإن ذلك يرجع بالأخص إلى حوادث وظروف تاريخية طارئة، أخصها مقدم الحملة الفرنسية إلى مصر، وما بذلت خلالها مقامها القصير بمصر من مجهودات علمية وثقافية محمودة، وما كان من اعتماد محمد علي بعد ذلك على نصح المستشارين والعلماء الفرنسيين في تنظيم ثقافة مصر الجديدة؛ هذه هي الظروف والعوامل الحقيقية التي نشأ فيها لون ثقافتنا اللاتيني، ولا دخل هنا للعوامل الجنسية والجغرافية في هذا التطور الثقافي الطارئ؛ والدليل على ذلك أن طابع ثقافتنا الفرنسي قد ضعف في العصر الأخير، وقوي فيها الطابع السكسوني نظراً لتغلب النفوذ الإنكليزي في شؤون التربية والتعليم، وتسرب العوامل الثقافية الجديدة إلى المجتمع المصري
والآن ومصر في مستهل عهد جديد من تاريخها يمتاز بآفاقه الحرة المستقلة، نرى أنه يجب على مصر أن تعمل، كما تعمل جميع الأمم المستقلة الناهضة على أن تطبع ثقافتها الجديدة بطابع قومي واضح؛ وأول ما يجب عليها في ذلك هو أن تجانب اصطفاء ثقافة أجنبية بعينها، وأن تنظر إلى مختلف الثقافات والحضارات نظرة واحدة تأخذ منها جميعاً ما يصلح لإنشاء ثقافتها الخاصة، وان تنسق ذلك المزيج المستخلص من الثقافات المحدثة وتدعمه بالعناصر القومية التي تسبغ عليه طابعه القومي المنشود
والمعروف أن الثقافات القومية تعتمد دائماً على أمور جوهرية منها إذكاء الروح والتقاليد الوطنية، وتقوية اللغة القومية، وتدعيم المثل الأخلاقية، والعناية بالتاريخ القومي، وتقديم الشؤون والدراسات القومية على غيرها. ولا مرية في أن ثقافتنا الحالية ضعيفة في معظم هذه النواحي، فهي بعيدة أولا عن ذينك التخصيص والاستيعاب اللذين تأخذ بهما جميع الثقافات المستقلة في الدراسات القومية، بل يلاحظ بحق إن ثقافتنا الحالية تعتمد على المعلومات والدراسات السطحية العامة، فتقتبس القليل السطحي من كل شيء، ولا تتجه إلى التخصص والإتقان في شيء؛ وهذا عيب جوهري يجب تداركه بأسرع ما يستطاع، ثم إن ثقافتنا لا تكفي بصورتها الحالية لتغذية الروح الوطني الناشئ، لأن أنظمتها وبرامجها
الحالية وضعت في جو خانق من الريب والحجر على العواطف والأماني الوطنية، فوجب أن تبحث من جديد في ظل العهد الجديد، وأن تفسح مجالا لكل ما يعاون في تنمية الروح الوطني؛ ومن جهة أخرى فقد لبثت اللغة القومية، أعني اللغة العربية، عصراً ضحية هذه السياسة القديمة، ولولا أنها استطاعت أن تقاوم ضغط الأجنبي بكل ما فيها من حيوية، وأن تشق لنفسها طريقها المستقل خارج المعاهد الحكومية في الآفاق الحرة، لما استطاعت أن تنهض كما تنهض اليوم؛ بيد أنه لا يزال علينا أن نحررها من شوائب المؤثرات والمنافسات الأجنبية التي تعرقل نهضتها، والتي هي من بقايا عهد طويت صفحته، فاللغة العربية يجب أن تتبوأ مقامها الأول في كل معاهدنا ودراساتنا كلغة أصلية لا تنافسها في هذا المقام أية لغة، ويجب أن تكون لغة التربية والتعليم في كل مراحل الدراسة، إلا ما اقتضته مصلحة الدراسة ذاتها؛ ويجب أن يختفي من معالم حياتنا العامة ذلك المزيج المؤلم من لغات أجنبية يستعمل بلا ضرورة في كثير من دوائرنا ومصالحنا الحكومية، بل وفي بعض بيئات مجتمعنا الرفيع، فقد حان الوقت الذي يجب أن تختفي فيه هذه الآثار الأخيرة التي ترمز إلى سيادة فكرية أو اتفاقية أجنبية لا وجود لها اليوم
أما عن دراسة التاريخ القومي التي هي اليوم من دعامات الروح الوطني في جميع الأمم المستقلة، فمن الأسف أنها انتهت في العصر الراحل إلى حالة يرثى لها؛ ومازال التاريخ القومي يغمط حقه من جميع النواحي، ومازلنا نتلقى عن تاريخ الأمم والحضارات والشخصيات الأجنبية أضعاف ما نتلقى عن تاريخنا وتاريخ شخصياتنا وحضارتنا، ولم يكن ذلك غريبا في عهد السيادة الأجنبية لأنها تعرف بخبرتها في طبائع الشعوب ومشاعرها أن الأمم ذات التواريخ الحافلة المجيدة، تهتز في عصور الضعف والانحلال لذكرياتها القديمة، وتستمد منها الوحي والقوة في مغالبة الخطوب وشحذ الشعور الوطني؛ وقد كانت أساليب التربية القديمة ترمي إلى محاربة ذلك الشعور وإضعافه، وكان التاريخ القومي من العناصر الثقافية التي قضي عليها بالمسخ والمحو تقريباً؛ أما اليوم فإن الاستقلال الوليد في أشد حاجة لأن نحيطه بسياج من تاريخنا القومي، وان توطد دعائمه بما يبعثه إلى نفوسنا استعراض هذا التراث الحافل من اعتزاز وطموح إلى استئناف تاريخنا المجيد، وربط مستقبلنا بماضينا، وهذا عنصر في تغذية الشعور القومي تعرفه الأمم
المستقلة وتعنى به اشد عناية
وأخيراً يجب ألا ننسى ما للناحية الخلقية في تكوين الثقافة القومية من أهمية خاصة. ولسنا بحاجة لأن ندلل على أن المثل الأخلاقية الرفيعة يجب أن تكون غاية الغايات في كل ثقافة عظيمة؛ فإذا كان الماضي قد طوى بسيئاته ومثالبه المعنوية فمن ألزم واجباتنا في العهد الجديد أن نعمل على إخراج جيل جديد يتمتع بالجرأة والصراحة واستقلال الرأي وسلامة التفكير والتقدير؛ فهذه القوى المعنوية والأخلاقية ضرورية لحماية الاستقلال القومي ضرورة الجيوش ذاتها
والخلاصة أن ثقافتنا الجديدة يجب أن تكون وليدة ثورة حقيقية، سواء في نظمها أو روحها أو مادتها؛ يجب إلا تكون ثقافتنا المستقبلة كما كانت في الماضي، معتركا لتنافس الثقافات والمؤثرات الأجنبية المختلفة. بل يجب أن تكون ثقافة مصرية خالصة، حرة من كل تيار غير مرغوب فيه؛ ويجب أن تكون ثقافاتنا غزيرة عميقة في نفس الوقت، تأخذ بالتخصص في جميع الدراسات والشؤون الجوهرية، ولا تخلو مع ذلك من التعميم النافع؛ وأخيراً يجب قبل كل شيء أن يتبوأ الطابع القومي مقامه الأول في صوغ ثقافتنا وفي توجيهها.
محمد عبد الله عنان
النحو
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
النحو علم لا أعرف منه إلا اسمه. وما أكثر ما أجهل وأضأل ما أعرف! ولو كنت وجدت من يعلمنيه لتعلمت وما قصرت. وكيف بالله تنتظر مني أن أعرفه بالفطرة والإلهام. . . كان أول من قيل لنا إنه معلم نحو رجلا قاسياً سيئ الطباع سريع البادرة، وكانت له عصا قصيرة من الخيزران يدسها في كمه، حتى إذا أمن أن يراه الناظر أخرجها وسلطها على أجسامنا الصغيرة وأهوى بها على أيدينا وجنوبنا ورؤوسنا فلا يتركنا إلا بعد أن ينقطع نشيجنا وتخفت أصواتنا وتذهب عنا القدرة على الصراخ والاستنجاد، فلم يكن ابغض إلينا من درسه. ومن المضحك أن ذلك لم يكن يخيفنا منه ولا يزيدنا إلا إلحاحاً في معابثته. وكنت أنا أثقل التلاميذ عليه وأبغضهم إليه، لأني كنت - وأحسب أني مازلت - شيئاً صغيراً جداً وخفيفاً مستدقاً لا استقر في مكان. ولا أزال أنط من هنا إلى هنا ولا يكف لساني عن الدوران. فكان نصيبي من هذه العلقات النصيب الوفر وحضي هو الأجزل. وكان الناظر فيه سذاجة عجيبة لم تفتنا نحن الأطفال. وكيف كان يمكن أن يفوتنا التفطن إلى سذاجته ونحن مئات من الأطفال لنا مئات من العيون نفحصه بها، ومئات أخرى من الآذان والرؤوس تسمعه وتتدبر أمره وتجسه وتختبره. . . فكنت أذهب إليه وأقول له على سبيل الملق والدهان:(يا سعادة البك) فيلتفت بوجهه الكبير إلي ويقبل علي بابتسامته البلهاء، فقد كانت الرتبة جديدة وفرحه بها عظيما. ويسألني (مالك يا امن (بالميم فقد كان أخن) عبد القادر) فأقول له:(يا سعادة البك. الشيخ فلان يا سعادة البك معه عصا يخفيها في كم القفطان ويضربنا بها يا سعادة البك) وكنت صادقاً ولكنه لم يكن يعرف أني صادق؛ غير أنه كان يسمع (سعادة البك) تصافح أذنه مرات عديدة في نصف دقيقة فيطرب، ويصرفه الطرب عن التثبت فيقول لي - متآمراً معي - (طيب. رح إلى الفصل وعاكسه) أي والله كان يحرضني على معاكسة الشيخ المسكين ليضبطه - كما يقال - متلبساً بالجريمة، أو كان يكتفي بأن يأمرني بالعودة إلى الفصل ثم يدخل هو ويفاجئ الشيخ بانتزاع العصا من كمه ويوبخه أمامنا وينصرف. فتصيح أربعون حنجرة جديدة (هيه) فيكاد الشيخ يجن وينهال علينا ضرباً باليدين والرجلين فتنكشف سراويلاته فيعلو الصياح من جديد، ولكنه
يكون قد تعب وأضناه الجهد وبهر أنفاسه العدو وراءنا فيقف وهو ينهج ويخرج المنديل من جيب القفطان ويمسح به العرق المتصبب ونحن جميعاً نتكلم وليس بيننا واحد يصغي إلى ما يقال
هذا كان أستاذنا في النحو. ولو أنه كان موفقاً في التعليم لكان الناظر وحده كفيلا بإفساد الأمر عليه. فقد كان يتظاهر بالعلم بكل شيء وهو لا يعرف شيئاً. فإذا تورط ولم يسعه إلا الاعتراف بجهله قال: (جاهل جاهل. لكن إداري تمام) ومن ظريف ما اذكره من نوادره أنه دخل علينا في درس ترجمة وكان المعلم غائباً. ولم يكن هو يعرف ذلك وان كان فيما يزعم إدارياً حاذقاً. ولكنه سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له إن هذه الفرقة ليس فيها معلم، فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه وبطوله وعرضه وسألنا:(ما لكم يا أولاد؟) قلنا (يا سعادة البك المعلم غائب) قال (الدرس إيه) قلنا (ترجمة يا سعادة البك) فانشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظل يسمع منا ما يسره فقال: (طيب وايه يعني؟) فقلنا (يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك) فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا فقلنا له انه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكنا لم نفهم عنه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه لوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم لتلاميذ، وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئاً. ثم قال أن المسألة بسيطة وأن النفي سهل جداً وأن أدواته في اللغة العربية معروفة وهي (لا ولم ولن الخ) والأمثلة سهلة ومعروفة، وشرع يسوق الأمثلة. فلما بلغ (لم) قال (مثلا. . لم كتب. لم ضرب. لم ذهب) فانفجرنا ضاحكين وكان لنا العذر. وكيف لا نضحك من (لم كتب ولم ضرب) فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا:(تضحكون؟. . ابكون. . ابكون. .) فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك. ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل
هذا في التعليم الابتدائي. أما في التعليم الثانوي فقد كان أول معلم لي فيه مصابا بالربو، فكان لا ينفك يسعل ويتفل حتى توجعنا بطوننا، ولهذا كنا ننام في درسه أو نهرب منه اتقاء لوجع البطن. ثم صار لنا معلم آخر وكان سياسيا ولكنه كان في هذا نسيج وحده، فكان يغلق
النوافذ ليأمن أن يسمع أحد ما ينوي أن يقول - أعني ما ينوي أن يفضي إلينا به من الأسرار. ثم يشرع في الحديث فيصف لنا كيف كان الحكم المصري على عهد الخديو إسماعيل ظالما، فنجادله وينقضي الدرس كله في هذا الجدل العجيب. ولست أدري لماذا كان يجشم نفسه إغلاق النوافذ. ولو أن الناظر الإنجليزي سمعه لكان حقيقا أن يسر لا أن يغضب، ولكني أحسبه كان يفعل ذلك ليكون تأثير كلامه في نفوسنا ابلغ. والعجب بعد ذلك أن تلاميذه كلهم صاروا وطنيين متطرفين في وطنيتهم لا خونة لبلادهم كما كان يشتهي هو أن يكونوا
فممن كنت أتعلم النحو بالله؟. وما الذي كان يمكن أن يغريني أن أتعلمه وحدي؟. ثم ما فائدة هذا النحو الذي لم أتعلمه ولم أحتج إليه. . وعسى من يسأل: (وكيف كنت تصنع في الامتحانات؟ فأقول إني كنت أقرأ ورقة الأسئلة واترك النحو إلى آخر الوقت ثم أتناوله وأروح أجمع طائفة من الأمثلة أستخلص منها القاعدة فأجعل هذا جوابي. ولاشك أنه كان لا يخلو من نقص ولكنه لم يكن خطأ كله. هذه كانت طريقتي وقد استغنيت بها عن حفظ ما في كتب النحو. وأراني الآن أصبحت كاتباً - وقد كنت في زماني شاعرا كذلك - وقد وسعني هذا وذاك بغير معونة من النحو. بل من غير أن أتعلم العروض. وأذكر أني وأنا في مدرسة المعلمين العليا كان الشيخ حمزة فتح الله هو الذي يتولى امتحاننا في اللغة العربية - على الأقل في إحدى السنين - وكان من أعضاء اللجنة التي هو رئيسها الشيخ عبد العزيز شاويش وفتح الله بركات بك وأستاذنا في المدرسة؛ وكنا ندخل على اللجنة واحداً واحداً كما هي العادة فأخبرني الذين سبقوني إلى أداء الامتحان أن الشيخ حمزة عليه رحمة الله يفتح كتاب النحو والصرف ويأمر الطالب أن يسمعه الباب الفلاني، وكانت هذه مبالغة ولكنا صدقناها، فأيقنت أني مخفق ووطنت نفسي على معركة. وجاء دوري فدخلت، فناولني مقدمة ابن خلدون وقال افتحها في أي موضع واقرأ، ففعلت، فأمرني أن أضع الكتاب وشرع يسألني عن كلمة (العدوان) ما فعلها الثلاثي ولماذا يقال (اعتدينا) - بفتح الدال للماضي - واعتديا (بكسرها للأمر. فلم أعرف لهذا جوابا، فقلت: (هكذا نطق العرب وعنهم أخذنا). فألح في طلب الجواب المرضٍي فقلت (إن اللغة نشأت قبل القواعد. وأنا أنطق وأكتب وأقرأ كما كان العرب يفعلون من غير أن يعرفوا قاعدة أو حكما) فساءه
جوابي ونهرني وخشي الشيخ شاويش العاقبة فقال له: (يا مولانا. العصر وجب) فنهض الشيخ حمزة لصلاة العصر وتركني لزملائه فأسرعوا في امتحاني قبل أن يفرغ الشيخ ويعود
وأحسب أن ما وسع العرب الأولين من معرفة العربية بلا نحو لا يعجز عنه أبناء هذا الزمان. ومن الميسور فيما أعتقد أن تحل قراءة الأدب العربي محل النحو. وليس يعجز رجال العربية عن وضع مختارات صالحة لكل سن. وإذا كان لابد من النحو فليكن ذلك عرضا وأثناء القراءة وعلى سبيل الشرح وللاستعانة به على الفهم، وعلى إلا يكون ذلك درسا مستقلا يؤدى فيه امتحان. أما الطريقة التي يتعلم بها أبناؤنا العربية فإني أراها مقلوبة لأنها تبدأ بما يجب الانتهاء إليه. ومن ذا الذي يتصور أن صبياً صغيراً يستطيع أن يفهم ما الفعل وما الاسم وما الحرف. وأن هذا يكون حكمه كيت وكيت وذاك يجري عليه كذا وكذا من. . وإن هذه الفتحات والضمات والكسرات علامات إعراب أو لا أدري ماذا هي، وأن لفظا يكون مسندا ولفظا يكون مسندا إليه إلى آخر هذه الألغاز التي لا يعقل أن يدركها طفل صغير. بل إني أنا الكبير أردت منذ بضعة أيام أن أراجع شيئا في النحو ففتحت وقرأت فيه شيئا ثم وضعته يائسا من الفهم ولجأت إلى وسيلة أخرى كانت أجدى علي من هذا الكلام الذي أراه يفهم، وذلك أني كتبت الوجهين اللذين حرت بينهما واختلط علي الأمر فيهما فلم أعد أدري أيهما الصواب وأيهما الخطأ، ثم ذهبت أنظر إليهما فالذي سكنت إليه نفسي أخذت به وتبنيت بعد ذلك أن ما أخذت به كان هو الصحيح وأن عيني لم تخدعني وأن نفسي إنما اطمأنت إلى ما طال عهدها به من الصواب. أما ما لم تألفه أثناء مطالعاتي فقد رفضته. والطريقة التي أشير بها تجعل العربية سليقة على خلاف ما هو حاصل الآن فإن أبناءنا يتعلمون العربية كما يتعلمون الإنجليزية أو أية لغة أجنبية أخرى لا يشعرون بصلة بينها وبين نفوسهم. وكثيرا ما يتفق أن يخرج التلميذ وهو أعرف باللغة الأجنبية منه بالعربية. وليس بعد هذا فشل والعياذ بالله. وأسأل من شئت فلن تجد أحداً لا يقول لك إن اللغة العربية انحطت - أعني ضعف العلم بها - في هذا الجيل. ولست أعرف لهذا سببا إلا أن التلاميذ لا يتعلمون اللغة وإنما يحفظون نحوا وصرفا وبلايا كثيرة أخرى مثل البلاغة الخ لا تعلمهم اللغة وإنما تبغضها إليهم. فإذا كان التبغيض هو الغاية المنشودة فلا
شك أن المعلمين قد وفقوا إلى ما لا مزيد عليه. أما إذا كان الغرض هو تعليم اللغة فخير الأساليب هو الأسلوب الطبيعي الذي يتعلم به الطفل الكلام
إبراهيم عبد القادر المازني
3 - صعاليك الصحافة.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ولم يلبث أن رجع أبو عثمان في هذه المرة وكأنه لم يكن عند رئيس التحرير في عملٍ وأدائه، بل كان عند رئيس الشرطة في جنايةٍ وعقابها. فظهر منقلب السحنة انقلاباً دميماً، شوّه تشويهه وزاد فيه زيادات. . . . ورأيته ممطوط الوجه مطّاً شنيعاً، بدت عيناه الجاحظتان كأنهما غير مستقرتين في وجهه، بل معلقتان على جبهته. . .
وجعل يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: هذا باب على حِدَةٍ في الامتحان والبلوى، وما فيه إلا المئونة العظيمة والمشقة الشديدة؛ والعمل في هذه الصحافة إنما هو امتحانك بالصبر على اثنين: على ضميرك، وعلى رئيس التحرير. (وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ فقال: الجزء الذي لا يتجزأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام. . . فقال له أبو العيناء محمد: أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره؟ قال: بلى. حمزة جزء لا يتجزأ. . . قال: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أبو بكر يتجزأ. . . قال: فما تقول في عثمان؟ قال: يتجزأ مرتين، والزبير يتجزأ مرتين. . . قال: فأي شيء تقول في معاوية؟ قال: لا يتجزأ
فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الأنام أجزاء لا تتجزأ إلى أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إلا أن يكون أبو لقمان كان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ، هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة. وأن الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ)
قلت: ورجع بنا القول إلى رئيس التحرير. . .
فضحك حتى أسفر وجهه ثم قال: إن رئيس التحرير قد تلقى الساعة أمراً بأن الجزء الذي لا يتجزأ اليوم هو فلان؛ وأن فلانا الآخر يتجزأ مرتين. . . وأن المعنى الذي يبنى عليه رأي الصحيفة في هذا النهار هو شأن كذا في عمل كذا؛ وأن هذا الخبر يجب أن يصور في صيغة تلائم جوع الشعب فتجعله كالخبز الذي يطعمه كل الناس وتثير له شهوة في النفوس كشهوة الأكل، وطبيعةٌ كطبيعة الهضم. . . وقد رمى إليّ رئيس التحرير بجملة الخبر؛ وعليّ أنا بعد ذلك أن أضرم النار وأن أجعل التراب دقيقاً أبيض يعجن ويخبز ويؤكل
ويسوغ في الحلق وتستمرئه المعدة ويسري في العروق
وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من الترقيع والتمويه، ومن التدليس والتغليط، ومن الخِبّ والمكر، ومن الكذب والبهتان - إلى مثل ما يحتاج إليه الزنديق والدهريُّ والمعطل في إقامة البرهانات على صحة مذهب عرف الناس جميعا أنه فاسد بالضرورة إذ كان معلوماً من الدين بالضرورة أنه فاسد. وأين ترى إلا في تلك النّحل وفي هذه الصحافة أن ينكر المتكلم وهو عارف أنه منكر، وأن يجترئ وهو موقن أنه مجترئ، ويكابر وهو واثق أنه يكابر؟ فقد ظهر تقدير من تقدير، وعمل من عمل، ومذهب من مذهب؛ والآفة أنهم لا يستعملون في الإقناع والجدل والمغالطة إلا الحقائق المؤكدة؛ يأخذونها إذا وجدت ويصنعونها إن لم توجد، إذ كان التأثير لا يتم إلا بجعل القارئ كالحالم يملكه الفكر ولا يملك هو منه شيئاً، ويلقى إليه ولا يمتنع، ويعطى ولا يرد على من أعطاه
قلت: ولكن ما هو الخبر الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقيقاً أبيض؟
قال: هو بعينه ذلك الشأن الذي كتبت فيه لهذه الصحيفة نفسها، أنقضه وأسفهه وارد عليه وكان يومئذ جزءاً يتجزأ. . . فإن صنعت اليوم بلاغتي في تأييده وتزيينه والإشادة به، ولم يكن هذا كاسراً لي، ولا حائلا بيني وبين ذات نفسي - فلا أقل من أن يكون الجاحظ تكذيباً للجاحظ. آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحرير ليسمع الناس. . .
قلت: يا أبا عثمان. هذا كقولك: لو وضع الرديو في غرف قواد الجيوش أو رؤساء الحكومات
قال: ليس هذا من هذا فإن للجيش معنى غير الحذق في تدبير المعاش والتكسب وجمع المال؛ وفي أسراره أسرار قوة الأمة وعمل قوتها؛ وللحكومة دخائل سياسية لا يحركها أن فلانا ارتفع وأن فلانا انخفض، ولا تصرّفها العشرة أكثر من الخمسة؛ وفي أسرارها أسرار وجود الأمة ونظام وجودها
قال أبو عثمان: وإنما نزل بصحافتنا دون منزلها أنها لا تجد الشعب القارئ المميز الصحيح القراءة الصحيح التمييز، ثم هي لا تريد أن تذهب أموالها في إيجاده وتنشئته. وعمل الصحافة من الشعب عمل التيار من السفن في تحريكها وتيسير مجراها، غير أن المضحك أن تيارنا يذهب مع سفينة ويرجع مع سفينة. . . ولو أن الصحافة العربية وجدت
الشعب قارئاً مدركا مميزاً معتبراً مستبصراً لما رمت بنفسها على الحكومات والأحزاب عجزاً وضعفاً وفسولة، ولا خرجت عن النسق الطبيعي الذي وضعت له، فإن الشعب تحكمه الحكومة، وإن الحكومة تحكمها الصحافة، فهي من ثم لسان الشعب؛ وإنما يقرأها القارئ ليرى كلمته مكتوبة. وشعور الفرد أن له حقاً في رقابة الحكومة وأنه جزء من حركة السياسة والاجتماع هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم
قال أبو عثمان: فالصحافة لا تقوى إلا حيث يكون كل إنسان قارئاً، وحيث يكون كل قارئ للصحيفة كأنه محرر فيها، فهو مشارك في الرأي لأنه واحد ممن يدور عليهم الرأي، متتبع للحوادث لأنه هو من مادتها أو هي من مادته، وهو لذلك يريد من الصحيفة حكاية الوقت وتفسير الوقت، وأن تكون له كما يكون التفكير الصحيح للمفكر، فيلزمها الصدق ويطلب منها القوة ويلتمس فيها الهداية، وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله الساكنين في داره
وفي قلة القراء عندنا آفتان: أما واحدة فهي القلة التي لا تغني شيئاً، وأما الأخرى فهم على قلتهم لا ترى أكبر شأنهم إلا عبادة قوم لقوم، وزراية أناس بآخرين، وتعلق نفاق بنفاق، وتصديق كذب لكذب. وآفة ثالثة تخرج من اجتماع الاثنتين: وهي أن أكثرهم لا يكونون في قراءتهم الصحيفة إلا كالنظارة اجتمعوا ليشهدوا ما يتلهون به، أو كالفراغ يلتمسون ما يقطعون به الوقت، فهم يأخذون السياسة مأخذ من لا يشارك فيها، ويتعاطون الجد تعاطي من يلهو به، ويتلقون الأعمال بروح البطالة، والعزائم بأسلوب عدم المبالاة، والمباحثة بفكرة الإهمال، والمعارضة بطبيعة الهزء والتحقير. وهم كالمصلين في المسجد؛ فمثل لنفسك نوعا من المصلين إذا اصطفوا وراء الإمام تركوه يصلي عن نفسه وعنهم وانصرفوا. . .
قال أبو عثمان: بهذا ونحوه جاءت الصحف عندنا وأكثرها لا ثبات له إلا في الموضع الذي تكون فيه منافعه ووسائل منافعه؛ ومن هذا ونحوه كان أقوى المادة عندنا أن تظهر الصحيفة مملوءة حكومة وسلطة وباشوات وبيكوات. . . وكان من الطبيعي أن محل الباشا والبك والحوادث الحكومية التفهة لا يكون من الجريدة إلا في موضع قلب الحي من الحي.
ثم استضحك شيخنا وقال: لقد كتبت ذات يوم مقالة أقترح فيها على الحكومة تصحيح هذه
الألقاب، وذلك بوضع لقب جديد يكون هو المفسر لجميعها ويكون هو اللقب الأكبر فيها، فإذا أنعم به على إنسان كتبت الصحف هكذا: أنعمت الحكومة على فلان بلقب (ذو مال).
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .
فلم يلبث إلا يسيرا ثم عاد متهللا ضاحكا وقد طابت نفسه فليس له جحوظ العينين إلا بالقدر الطبيعي، وجلس إلي وهو يقول:
بيد أن رئيس التحرير لم ينشر ذلك المقال، ولم ير فيه استطرافاً ولا ابتكارا ولا نكتة ولا حجة صادقة، بل قال كأنك يا أبا عثمان تريد أن يأكل عدد اليوم عدد الغد، فإذا نحن زهدنا في الألقاب وأصغرنا أمرها وتهكمنا بها وقلنا إنها أفسدت معنى التقدير الإنساني وتركت من لم ينلها من ذوي الجاه والغنى، يرى نفسه إلى جانب من نالها كالمرأة المطلقة بجانب المتزوجة. . . وقلنا أنها من ذلك تكاد تكون وسيلة من وسائل الدفع إلى التملق والخضوع والنفاق لمن بيدهم الأمر، أو وسيلة إلى ما هو أحط من ذلك كما كان شأنها في عهد الدولة العثمانية البائدة حين كان الوسام كالرقعة من جلد الدولة، يرقع بها الصدر الذي شقوه وانتزعوا ضميره، إذا نحن قلنا هذه وفعلنا هذا، لم نجد الشعب الذي يحكم لنا، ووجدنا ذوي المال والجاه والمناصب الذي يحكمون علينا، فكنا كمن يتقدم في التهمة بغير محام إلى قاض ضعيف.
يا أبا عثمان إنما هي حياة ثلاثة أشياء: الصحيفة، ثم الصحيفة، ثم الحقيقة. . . فالفكرة الأولى للصحيفة والفكرة الثانية هي للصحيفة أيضاً. ومتى جاء الشعب الذي يقول: لا. بل هي الحقيقة، ثم الحقيقة، ثم الصحيفة - فيومئذ لا يقال في الصحافة ما قيل لليهود في كتاب موسى: تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا. .
قلت: أراك يا أبا عثمان لم تنكر شيئاً من رئيس التحرير في هذه المرة، فشق عليك إلا تثلبه، فغمزته بالكلام عن مرة سالفة.
قال: أما هذه المرة فأنا الرئيس لا هو، وفي مثل هذا لا يكون عمك أبو عثمان من (صعاليك الصحافة). إن الرجل اشتبه في كلمة: ما وجهها أمرفوعة أم منصوبة؟ وفي لفظة: ما هي: أعربية أم مولدة؟ وفي تعبير أعجمي: ما الذي يؤديه من العربية الصحيحة؟ وفي جملة: أهي في نسقها افصح أم يبدلها؟
إن المعجم هنا لا يفيدهم شيئاً إلا إذا نطق. . .
ولقد ابتليت هذه الأمة في عهدها الأخير بحب السهولة مما أثر فيها الاحتلال وسياسته وتحمله الأعباء عنها واستهدافه دونها للخطر، فشبه العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفي طريقها إنما هو صورة من سهولة تلك الحياة، وكأنه تثبيت للضعف والخور، وأنت خبير أن كل شيء يتحول بما تحدث له طبيعته عالياً أو نازلاً، فقد تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية في كتابة أكثر المجلات وفي رسائل طلبة المدارس، حتى لتبدو المقالة في ألفاظها ومعانيها كأنها القنفذ أراد أن يحمل مأكلة صغاره، فقرض عنقوداً من العنب، فألقاه في الأرض وأتربه وتمرغ فيه، ثم مشى يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكه.
ثم مد أبو عثمان يده فتناول مجلة مما أمامه وقعت يده عليها اتفاقاً، ثم دفعها إلي وقال: اقرأ ولا تجاوز عنوان كل مقالة. فقرأت هذه العناوين:
(مسئولية طبيب عن فتاة عذراء)، (مودة الراقصات الصينيات)، (تخر مغشياً عليها لأنهم اكتشفوا صورة حبيبها)، (هل يعتبر قبول الهدية دليلا على الحب، وإذا كانت ملابس داخلية. . . فهل تعتبر وعدا بالزواج؟)، (هل يحق للأب أن يطالب صديق ابنته. . . بتعويض إذا كانت ابنته غير شرعية)، (بين خطيبتين لشاب واحد)، (بعد أن قص على زوجته أخبار السهرة. . . لماذا أطلقت عليه الرصاص؟)، (عروس تأخذ (شبكة) من شابين ثم تطردهما)، (زوجة الموظف أين ذهبت)، (لماذا خطفت العروس في اليوم المحدد للزفاف؟)، (في الطريق - حب بالإكراه)، (فلانون وفلانات، زواج وطلاق، وأخبار المراقص، وحوادث أماكن الدعارة الخ الخ.
فقال أبو عثمان: هذه هي حرية النشر؛ ولئن كان هذا طبيعيا في قانون الصحافة إنه لأثم كبير في قانون التربية؛ فإن الأحداث والضعفاء يجدونه عند أنفسهم كالتخيير بين الأخذ بالواجب وبين تركه، ولا يفهمون من جواز نشره إلا هذا. (وباب آخر من هذا الشكل فبكم أعظم حاجة إلى أن تعرفوه وتقفوا عنده، وهو ما يصنع الخبر ولاسيما إذا صادف من السامع قلة تجربة، فإن قرن بين قلة التجربة وقلة التحفظ - دخل ذلك الخبر إلى مستقره من القلب دخولا سهلا، وصادف موضعاً وطيئاً وطبيعة قابلة ونفساً ساكنة، ومتى صادف
القلب كذلك رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته
ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيات في وقت الغرارة وعند غلبة الطبيعة وشباب الشهوة وقلة التشاغل و. .)
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .
(لها تتمة)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
في الأدب المقارن
موضوعات الأدب
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يعبر الأدب عن شتى خوالج النفس وخواطر الذهن، ويصف تأثر النفس بمختلف صور الحياة وظواهر الكون وصروف الدهر، وكلها أمور لا يحد مداها ولا تحصى مذاهبها، ومن ثم لا تحد ولا تحصى أشتات الموضوعات التي يعالجها أدب أمة من الأمم في مختلف عصوره، فأدب الأمة الحي يشمل أطراف حياتها المترامية، مما يوحي به التدين والورع إلى ما يمليه التبذل والاستهتار، وما يمليه الحزن والألم إلى ما توحي به الغبطة والسرور، وما يدعو إليه التفكير والتأمل الرزين أو يحمل عليه التفكه والتندر، ومن كل ما يبعث إعجاب الإنسان ورهبته وخشوعه أو يثير احتقاره أو نفوره، ومن كل ما يوقظ حب الاستطلاع والدرس والمعرفة المركب في طبع الإنسان، ويمتد مجال الأدب حتى يختلط بشتى فروع العلم في بعض أطرافها
على أن موضوعات الأدب وإن تعذر استقصاؤها يتجمع أكبرها وأخطرها شأنا حول مواضيع رئيسية يكثر طرقها ويعزى إلى واحد منها كل أثر من آثار رجال الأدب، كالنسيب والرثاء مثلا؛ كما أن أدبا قد يختلف عن أدب في فن يحتفي به ولا يكاد يوجد في غيره، أو فنون يدمن طرقها دون غيرها، بل يختلف الأدب الواحد في عصر من عصوره عنه في عصر آخر من حيث فنون القول التي يحتفي بها ويقدمها على غيرها. فالبيئة والعصر يتركان أثرهما في فنون الأدب التي تحظى بالرواج والإقبال: ففي عصور الجهاد والصراع مثلا تسود أشعار الحماسة وتمجيد الحمى والأبطال؛ وفي عصور النزاع بين المادية والترف وبين الدين والتقاليد، تكثر آثار المجون والزيغ من جهة، وآثار الوعظ والزهد من جهة أخرى؛ وعصور البداوة تتسم آثارها بالسذاجة والعاطفة المتدفقة، وعصور الثقافة تمتلئ آدابها بآثار التأمل والأزمات النفسية؛ وكلما ارتقى المجتمع وصدق أدبه في التعبير عن حياته كثرت فنونه التي يطرقها، وطال طرقه للفنون الرئيسية التي تمت إلى
النفس الحية والفكر المهذب بأوثق الأسباب، واختلف أدباؤه كل منهم يخص فنا أو فنونا منها باحتفائه. أما في عصور التدهور والركود فتضيق دائرة تلك الفنون ويتعلق كثير منها بالسطحي والتقليدي من الأقوال، ويتفق أكثر الأدباء في طريقة تناول تلك الفنون المحصورة
والأدبان العربي والإنجليزي قد تناولا أشتاتا من فنون القول، وعبرا عما لا يحصى من أفكار الإنسان ومشاعره، واتفقا في كثير من ذلك لاتفاق الطبيعة الإنسانية في كل مكان، واختلفا في مدى الاحتفال ببعض الفنون والأعراض عن بعضها لاختلاف بيئات الإنسان من إقليم إلى آخر، وظهرت في كل منهما على تعاقب العصور مواضيع لم تكن معروفة من قبل، وحظيت مواضيع دون أخرى بالحفاوة والصدارة؛ فالشعر الحماسي كان في العصر الجاهلي هو الفن الرئيسي، لما كانت تتطلبه الحياة القبلية من التعبير عن صفات القوة والغلب، ثم حلت الخطابة السياسية في صدر الإسلام محل الشعر، ثم احتل الصدارة في العصر الأموي النسيب والمهاجاة، وهلم جرا. وفي الأدب الإنجليزي بلغت الخطابة الدينية الوعظية شأوها في عهد المظهرين، وملكت الطبيعة جل اهتمام الشعراء في العصر الرومانسي، وفاز التحليل القصصي النفسي والاجتماعي بالصدارة في العصر الحديث
ولعل النسيب أحظى فنون الأدب باحتفال الأدباء في شتى الأمم، لما يصدر عنه من عواطف وغرائز متأصلة في النفس الإنسانية على اختلاف البيئات. وقد بلغ من احتفاء العرب به أنهم لم يقتصروا على الحديث عنه في مكانه، بل استهلوا به منذ عهد الجاهلية قصيدهم. ولم تخل من حديث الحب أكثر روايات شكسبير في القديم وقصص هاردي في العصر الحديث. فوسع الأدبان شتى الأوصاف لحالات الحب الراضية وأطواره الغاضبة. وإلى الحب يرجع الفضل في كثير من الآثار الأدبية وفي تكوين نفوس كثير من الأدباء، وحول حديثه يدور جانب عظيم من كل أدب؛ وقد غلا قوم فعدوه مصدر كل أدب وفن
والرثاء فن معدود من فنون الأدب في العربية والإنجليزية، يمتاز كثير من آثاره بالصدق وحرارة العاطفة وعمق التأمل. وذاك لأن حلول الموت ينقض الشمل وينغص المسرة ويذهب بالإلف، فيبعث في نفس الأديب ثورة، ويدفعها إلى مراجعة التأمل في الحياة، ويستخرج خير ما في النفس من صفات الوفاء والمودة وعذب الذكريات وخلجات الحنين.
ومن غرر المراثي في العربية رثاء مهلهل لأخيه، ودالية المعري ورثاء البحتري للمتوكل ورثاء ابن الرومي لأوسط صبيته ورثاء التهامي لولده. ومن روائع المراثي في الإنجليزية مرثية ملتون المسماة ليسيداس ومرثية شلي المسماة ادونيس ومرثية تنيسون المسماة الذكرى. وقد نظم منهم قصيدته في رثاء صديق له رفيق لصباه مات معتبطا ومن بدائع المراثي الإنجليزية أيضاً خطبة مارك انطوني على جسد قيصر في رواية شكسبير الذائعة الصيت، ومرثية جراي التي نظمها في مقبرة قرية
والتدين والوعظ فن يشترك فيه الأدبان، يتمثل في العربية في خطب الرسول الكريم وكثير من خلفائه، وكثير من أشعار أبي العتاهية وأبي نواس وابن عبد القدوس وابن الفارض وأصحاب المدائح النبوية؛ وفي الإنجليزية في كثير من شعر ملتون ودن ونثر هوكروبنيان ونيومان، وأكثر ما كتب من ذلك في الإنجليزية إنما كان بأقلام رجال الدين المنتمين إلى الكنيسة. أما العربية حيث لم تكن للدين هيئة رسمية ذات نفوذ كالكنيسة فجاء أدب التدين متفرقا يستوي في معالجته رجال الدين المتفقهون فيه ورجال الدنيا غير المتوفرين عليه. ومن أنبغ رجال الدين في الأدب العربي الإمام الشافعي الذي يمتاز شعره برصانة ونقاء رائعين، ومن آثاره قوله:
ثلاث هن مهلكة الأنام
…
ودعاية الصحيح إلى السقام:
دوام مدامة ودوام وطء
…
وإدخال الطعام على الطعام
وقوله:
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة
…
تجرع ذل الجهل طول حياته
حياة الفتى والله بالعلم والتقى
…
إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
والميل إلى الصداقة طبع في الإنسان لا يكاد يقل عن الحب تمكنا وقوة، فما يزال الإنسان في حنين إلى الأليف الروحي الذي يبادله الفهم والشعور، ويقاسمه الحزن والسرور؛ ومن ثم تشغل الرسائل والقصائد الإخوانية في الأدبين العربي والإنجليزي مكانا معدودا، بين تخاطب في شتى الأمور وبين تعارف وتقاطع، وبين تعاتب وتقريع. ومن آثار الصداقة في الإنجليزية كثير من مقطوعات شكسبير، وما كان بين بوب وكوبر وليدي منتاجيو وبعض معاصريهم من تراسل، وما كان بين جونسون وجولد سمث وبوزويل وجماعتهم من
أحاديث دونها الأخير في كتابه عن الأول، وما كان بين جراي وشلي وبيرون وكثيرين غيرهم وبين أصدقائهم في الوطن من مراسلات، حين كان أولئك الشعراء يطوفون في ربوع أوربا. وللجاحظ والبديع والصابي وابن العميد رسائل إلى أصدقائهم بارعة تعد في صميم الأدب العربي. ولم تكن رسالة الغفران إلا رسالة بين صديقين. ومن قصائد التعاتب المشهورة لامية معن ابن اوس التي مطلعها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل
…
على أينا تعدو المنية أول
وهمزية ابن الرومي الطويلة التي مطلعها:
يا أخي أين عهد ذاك الإخاء؟
…
أين ما كان بيننا من صفاء؟
ونقد الأدب موضوع مهم من مواضيع الأدب، تلذ قراءته كما تلذ قراءة آثار الأدب الأخرى، لما يحوي من عام النظرات وخاصها في مختلف الأدباء وعصور الأدب. ومما يزيد أكثر كتب الأدب في العربية ككتاب الصناعتين وكتاب الوساطة إمتاعاً حفولها بالكثير من بدائع المختارات والمقتبسات. وفي الإنجليزية يحتفي بعض النقاد أمثال ماكولي وماثيو أرنولد وإديسون بأسلوبهم الأدبي في نقدهم لآثار غيرهم، حتى ترى آثارهم النقدية مضاهية لما ينقدونه لذة وإمتاعاً. ويمتزج بنقد الأدب في الإنجليزية نقد الفنون الجميلة عامة، والإشارة إلى القواعد التي تشملها هي والأدب؛ ففي مقاله عن بيرون مثلا يوضح ماكولي آراءه بأمثلة من الفنون الأخرى من موضع إلى آخر.
وأحوال المجتمع وأحداث السياسة ليست مما يمر بالأديب المثقف دون أن يكرثه، بل لابد أن يترك ذلك أثره الواضح في أدبه. وقد كان شعر الجاهليين سجلا موجزاً لكبريات أحداثهم، فلما خضع العرب للملكية بعد الإسلام كفكفت تلك النزعة كثيراً؛ وقل نقد الأنظمة الاجتماعية والسياسة في الأدب والتعليق على الحوادث إلى حد كبير، إلا أن يكون في ذلك مجاراة ومظاهرة لأصحاب السلطان. وقد قتل المنصور ابن المقفع الذي رفع إليه رسالة في شؤون الحكم وإن عزي مقتله إلى سبب آخر وأحيط بالغموض. إنما أثر السياسة والحوادث في الأدب بعد الإسلام باد في الرسائل الديوانية التي كان يتأنق الوزراء الكاتبون أمثال سهل بن هرون والقاضي الفاضل وابن زيدون في كتابتها إلى عمال الأمير وأنصاره وأعدائه والخارجين عليه، كما أن في كتابات الجاحظ ومقامات البديع تصويراً واضحاً
لكثير من أحوال مجتمعهم وأنبائه. ومن أشعار الأحداث السياسية قصيدة يزيد المهلبي في رثاء المتوكل وقصيدة ابن الرومي في ثورة الزنج التي منها يقول:
بينما أهلها بأحسن حال
…
إذ رماهم عبيدهم باصطلام
صبحوهم فكابد الناس منهم
…
طول يوم كأنه ألف عام
وهذا الفن أوسع محيطاً واحفل بالآثار في الإنجليزية، حيث مهدت الحكومة الديمقراطية السبيل للنظرات الحرة والنقدات الصادقة. وكان استقلال الأمة الإنجليزية عن غيرها واعتزالها سواها إلى حد بعيد داعياً إلى اشتداد الشعور القومي والإحساس بوحدة المجتمع والاهتمام لشؤونه كأنها شؤون كل فرد الخاصة. وقد قال الإمام علي: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. وما أسماه مبدأ إنسانياً ومذهباً ديمقراطياً وحكمة عمرانية؛ بيد أنه كان شعار المجتمع الإنجليزي أكثر منه شعاراً للمجتمع العربي، ومن ثم كانت لأكثر أدباء الإنجليزية نظراتهم الإصلاحية الخاصة، التي تتراوح بين الخطرات العارضة وبين الرغبة في الانقلاب الكلي، وظهرت القصة نتيجة هذا الاندماج الاجتماعي تصور المجتمع تصويراً دقيقاً لا يغادر منحى ولا مذهباً.
ولكن الحياة ليست كلها جداً مرا، ولا النفس الإنسانية تحتمل الجد المواصل، وإنما يميل الإنسان بطبعه إلى الترفيه عن نفسه بالتفكه والنظر إلى الجانب الهزلي من الحياة. والأدباء لدقة إحساسهم ونفاذ نظراتهم سريعون إلى ملاحظة مواطن التناقض ومواضع الفكاهة في أخلاق الناس وأعمالهم؛ ومن ثم يحفل الأدبان العربي والإنجليزي بصور عديدة من صور الفكاهة، تتراوح درجاتها بين العبث البريء في أيدي شكسبير وجولد سمث واديسون والجاحظ، وبين السخر المرير في أيدي سويفت وبوب وابن الرومي والمعري، ويتناول بها الأدباء منافسيهم ومعاصريهم ويفندون حماقات المجتمع
وهناك مواضيع احتفى بها الأدب العربي حفاوة بالغة تفوق ما نالته في الإنجليزية، وأولها الحكمة: فأدباء العربية كانوا منذ الجاهلية يعشقون الحكمة ويحبون نظمها والاستماع إلى أشعارها، بل كانوا كما قيل لا يعترفون لشاعر بالفحولة حتى يوفق إلى شيء منها. وظل الأعشى مزوياً عن مصاف الفحول حتى قال في مدحه سلامة ذا فائش:(والشيء حيثما جعلا)، فجمع صدق النظرة إلى إيجاز اللفظ وهما سمتا الحكمة عند العرب. ولما اطلع
العرب على ثقافات الأمم كان أهم ما احتفوا بنقله من آدابهم الحكمة. ومن كتب الحكمة مؤلفات ابن المقفع ومقصورة ابن دريد والخطب المنسوبة إلى قس ابن ساعدة والإمام علي، والجم الغفير من أشعار المتنبي التي سارت مسير الشمس؛ وليس من محض الصدفة أن كان أكبر شعراء العربية وأسيرهم ذكراً حكيما مكثراً لصوغ الحكم وضرب الأمثال. وبالحكمة الصادقة البليغة الموجزة كان الأديب العربي يستغني عن فنون وأشكال من الأدب ازدهرت في الإنجليزية، كالقصة والرواية التمثيلية والملحمة، فالعبرة التي تنطوي عليها إحدى هذه يجمعها الشاعر العربي في بيت واحد يلقيه إليك وخلاه ذم
واقتباس الحكمة والمثل والاستشهاد بأقوال السلف أقل حدوثا في الإنجليزية منه في العربية، لأن الحكم الموجزة التي تغزر في الأخيرة قليلة في الأولى. وكثيراً ما يلجأ المقتبس في الإنجليزية إلى الأدبين الإغريقي واللاتيني، وحتى هذا يبطل تدريجياً في العصور الحديثة. واكثر أدباء الإنجليزية حظوة لدى المقتبسين والمستشهدين شكسبير، وليس ذلك لأنه كان يتعمد صوغ الحكمة أو يحرص على التكثر منها، بل لأن رواياته من جهة قد أحاطت بشتى أحوال الحياة والنفس الإنسانية، بحيث يجد فيها كل كاتب شيئاً مقاربا لما هو بصدده، ولأن مقدرته اللغوية العظيمة من جهة أخرى كانت تهديه إلى صوغ أفكاره صياغة موجزة ممتنعة؛ ويليه سيرورة أقوال بوب، زعيم الأسلوب المحكم الرصين الذي كان شعاره في الأدب التعبير (عما قيل من قبل كثيرا، ولكن لم يقل أبدا بهذا الإحكام)، فسار كثير من أبياته المحكمة الموجزة على الأقلام والأفواه
ومما يتصل بالحكمة في الأدب العربي ويمتاز هذا الأدب به التمدح بحميد الخصال كالجود والشجاعة وحمي الذمار وحسن الجوار وحفظ السر وكظم الغيظ ومداراة السفيه، إلى غير ذلك من الدساتير الخلقية التي كان كثير من أشراف العرب الأدباء يسنونها لأنفسهم، وامتداح تلك الصفات في الغير والحث عليها، وهذا من أنبل مواضيع الأدب العربي، ولحاتم الطائي ومسكين الدارمي والمقنع الكندي والشريف الرضي والإمام الشافعي آثار في ذلك، تروع برصانة أسلوبها ومتانة أسرها وعظمة خلقها؛ فلما غلب التقليد على الأدب، ودخل الشعر في طور التقهقر انقلب مثل هذا التمدح المحبوب الصادق المقرون بالفعال فخرا عاجزا أجوف، بمآثر وهمية وعزائم مزعومة، وتيها على النجوم ودلا على الزمان،
كقول السري الرفا:
وإنك عبدي يا زمان وإنني
…
على الرغم مني أن أرى لك سيدا:
والغريب أن أحد أولئك الشعراء المتشدقين بالفخر ربما قرنه في القصيدة الواحدة بشكوى سوء الحال وقعود الجدود وخيبة الآمال. والشكوى موضوع من مواضيع الأدب العربي كانت أقرب إلى متناول أدبائه منها إلى أدباء الإنجليزية؛ وقد فشت خاصة في آثار المتأخرين. والأدب العربي من جهة أخرى أحفل بوصف آثار الترف ومظاهره: من القصور والمحافل ومجالس الشراب وآلات الطرب ودواعي المجون. وللخمر خاصة منزلة في الأدب العربي لا نظير لها في الإنجليزية، وقد حظيت من جزالة أسلوب الأخطل وأبي نواس وابن الرومي بما خلد أوصافها وأعلى ذكرها، وقلما يرد ذكر الخمر في الأدب الإنجليزي إلا تظرفا وتشبها بالإغريق الأقدمين وإشارة إلى باخوس إله الخمر عندهم
وراج في الأدب العربي فنان ليسا من صميم الأدب في شيء، ومازالا يرقيان حتى احتلا مكان الصدارة من الأدب، وموضع الحفاوة من الأدباء، وهما المدح والهجاء اللذان استفحل أمرهما من عهد الأمويين فنازلا، حتى استبدا بأجزاء كبيرة من دواوين بشار وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، وكادا يشغلان كل دواوين آخرين غير هؤلاء. وما كان ارتفاع شأنهما هكذا إلا نتيجة فساد تقاليد قديمة، كانت في الجاهلية تقاليد محمودة لا ضير فيها، ثم استمرت بعد ذهاب عصرها واندثار بيئتها بظهور الإسلام وقيام الدولة المتحضرة المركزية ففسدت تلك التقاليد وصارت بلاء على الأدب الصحيح
كان العرب الجاهليون يحرصون على حسن الأحدوثة، ويتمدحون بكريم الصفات، وينافحون خصومهم بالشعر، ويجزون من فعل ذلك عنهم، وكان ذلك كله وليد بيئتهم البدوية، فلما كان الإسلام والدولة والحضارة لم يعد لمثل ذلك التفاخر والتهاجي موضع، ولكن الشعراء استبقوا ذلك التقليد طلباً للنوال، والأمراء قبلوا منهم ذلك الأحياء المفتعل لتقليد غبر عصره طلباً للمجد الزائف. ومن العسير أن تحصى المساوئ التي جرها هذان الفنان من القول على الأدب العربي: مواضيعه ومعانيه وأساليبه
ولم يكن في الإنجليزية شيء من هذين الفنين يقاس بما كان في العربية، وحتى القليل من المدح الذي كان في بعض الفترات يستفز الأدباء الأباة إلى مثل قول بوب: (فلأعبر عن
رأيي في الأمر في كلمة: إن وصف الرجل بأكثر مما نعلم فيه عمل بعيد عن الأمانة إذا قصد من ورائه الربح، وعمل أخرق إذا لم يقصد، وكل من نجح في مثل هذا العمل لابد أن يعتقد في قرارة نفسه أنه هو نفسه دجال لأنه فعل ذلك، وأن ممدوحه أحمق لأنه صدق ما قيل فيه)
وعلى حين احتفى شعراء العربية بهذين الفنين الزائفين من فنون القول، أهملوا إلى حد بعيد فناً هو من صميم الأدب والحياة، وهو والوصف الطبيعي: فديوان المتنبي الذي يعج بمعاني المدح والهجاء المخترعة لا يضم إلا أبياتاً معدودة منثورة في التغني بمباهج الطبيعة. أما في الإنجليزية فالطبيعة وحي ما لا يعد من قصائد بين مقطوعات ومطولات، ووصفها يتخلل أشتات المنظوم والمنثور في مختلف الأغراض، وهي المنظر الخلفي لكثير من روايات العصر الأليزابيثي وملاحم ملتون وسبنسر ومطولات تنسيون وقصص هاردي، بل بلغ من دقة دراسة تنيسون إياها أن اصبح شعره يقتبس في كتب الجيولوجيا والجغرافيا أحياناً، وبلغ من معرفة هاردي بطبيعة الإقليم الذي أجرى فيه حوادث قصصه، أن كان يخصص الصحائف الطوال لوصف المنظر الواحد في قصصه بدقة العالم لا القصصي
وهناك مواضيع أدمن أدباء الإنجليزية ورود مناهلها وغزرت آثارها في أدبهم، فكانت فيه مادة فن وإمتاع وغبطة: كالتحدث عن المغامرات وروائع القصص وعجائب الرحلات، وجسام حوادث الماضي وعظائم أبطال الأمم، وممتع خرافات الأجيال وأغنيات طبقات الشعب وأقاصيصهم، كل هاتيك وجد فيها أدباء الإنجليزية منادح للفن والخيال ومعارض لميول النفس الإنسانية وطباعها وسجاياها المرسلة؛ أما الأدب العربي فيمتاز بكفكفة غلواء الخيال والتجافي عن البعيد من الأمكنة والأزمنة والازورار عن الأمم الأخرى والترفع عن العامة وثقافتهم المتواضعة، واحتقار الخرافة وأساطير الماضين.
واتخذ الأدب الإنجليزي التاريخ الواقعي مادة لموضوعاته: منه اتخذ الأليزابثيون مواضيع بعض رواياتهم، وفيه جال جيبون وسوذي وماكولي وكارليل، يدرسون كبريات الوقائع وعظماء الرجال وإليه رجع الشعراء والقصصيون، وقد صور سكوت في قصصه حوادث التاريخ تصويراً يفوق كتب التاريخ أحياناً دقة ووضوحاً، ولم يكد يلتفت إلى التاريخ من
أدباء العربية ويتناوله في أسلوب أدبي جزل سوى الجاحظ.
فالأدبان العربي والإنجليزي قد تناولا مواضيع مشتركة بينهما، وطرق كل منهما مواضيع لم يحتف بها الآخر. على أن الأدب الإنجليزي أغزر موضوعات وأكثر شغلا بأسباب الحياة؛ والأدب العربي لم يظل دائماً ترجماناً لكل عواطف المجتمع العربي، وكانت روح المحافظة التي سببت عدم تطور أشكاله سبباً في قلة تطور مواضيعه أيضاً، فأهمل مواضيع شتى تمت إلى الطبع الإنساني بأوثق الأسباب وتدخل في حظيرة الأدب أول داخل، وتناول غيرها لا تمت إلى الفن بسبب، ومرجع ذلك ما خالطه من نزعة تقليد جامدة، وما اعتمد عليه من رعاية الأمراء، على حين كان الأدب الإنجليزي دائماً حر النزعة حر الحركة والنمو
فخري أبو السعود
بين تلستوي وماكس نوردو
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قرأت تلستوي قبل أن أقرأ نقد ماكس نوردو لآرائه. وكنت أشك فيما شك الناقد الألماني، ولكني عندما قرأت نقده لتلستوي لم يقنعني تعليله، أو على الأقل رأيت أنه لم يتتبع كل احتمال يمكن أن تصير إليه النفس الحائرة في بحث معضلات الحياة، ولم يقف كل موقف من الجائز أن تقفه في أثناء بحثها؛ فكان تعليله لما ينقد من الآراء بالشذوذ الجثماني في صاحب الرأي، ولم يدر أن كل إنسان شاذ وأن كل مفكر مصحوب بشيء من الشذوذ الجثماني، وأن الشذوذ الجثماني قد يكون في غير المفكر أكثر منه المفكر، وأن الإنسان حيوان شاذ. وأن الرأي الذي ينقده قد يكون قد دخل عليه الخطأ بسبب رفض صاحبه لخطأ آخر في أثناء بحثه الحياة واختيار مسالك الرأي فيها. ولو أن ماكس نوردو قد فسر سبب رفض تلستوي لنقيض ما رأى من الآراء لكان قد وصف رحلة نفس تلستوي في عالم الإحساس والوجدان، ولكان قد وصف رحلة فكره في عالم الأفكار، ولكان قد وصف من تلك المسالك ما هو كالتيه ذي الطرق المتشعبة وما يحسبه ماكس نوردو طريقا معبدا بالخرسان والقطران والإسفلت
خذ مثلا رأي تلستوي في الامتناع عن الإجرام حتى قتل المجرم للدفاع عن النفس أو عن طفل بريء، فهو يقول لك انصح المجرم وعظه والتجئ إلى الجانب الخير من نفسه وحاول أن تمنعه من ارتكاب جريمة القتل، ولكن أحذر أن يكون منعك إياه عن الجريمة بأن تأتي أنت جريمة كأن تقتله؛ فإذا رأيت مجرماً يريد أن يقتل طفلا فضع نفسك بينه وبين الطفل وعظه، ولكن لا تقتله لأنه يريد أن يقتلك أو أن يقتل إنساناً آخر حتى ولو كنت قادراً على قتله
يأخذ ماكس نوردو هذا الرأي فيفنده ويسخر به ويهزأ منه. وله أن يفنده وأن يظهر مواطن الضعف فيه، وله أن يسخر منه ما شاء أن يسخر، وله أن يقول أن هذا رأي يؤدي إلى موت الأبرار وتحكم الأشرار. إذا أخذ به بعض الناس ولن يأخذ به كل الناس إلا إذا انمحى الشر من النفس الإنسانية فلا يكون إذن للرأي معنى ولا ضرورة، وإذا مات الأبرار الأخيار بسبب أخذهم بهذا الرأي وتحكم الأشرار رجعت الحالة إلى ما كانت عليه قبل
الشروع في تحقيق هذا الرأي وانعدم هذا الرأي من عالم الأفكار والأحياء. فإذا قال ماكس نوردو كل هذا كان مصيباً في قوله، وإن كنا لا نقطع بحدود فجاءات النفس البشرية وحدود عدوى المحاكاة كمحاكاة الانقطاع المطلق عن الشر. ولعل تلستوي قد قدر كل ما قدره ماكس نوردو من شر يعود به الانقطاع عن الشر حتى في الدفاع عن الخير أو عن النفس أو عن الأحياء، ولكن لعله كان يؤمن بالنفس البشرية أكثر من إيمان ماكس نوردو بها فقدر أيضاً ذيوع الأخذ برأيه وانتشار عدوى محاكاة الانقطاع عن الشر حتى تعم الناس قاطبة بعد ويل يكون للبادئين بالأخذ به، والبادئون دائماً ضحية في كل رأي ومذهب. ولعله قدر أيضاً أنه لو أخطأ في إيمانه بالنفس الإنسانية فإن الويل والضرر اللذين يكونان نتيجة الأخذ برأيه مقبولان في سبيل تجربة قد تعود على الإنسان بالخير الآجل إن لم يكن عاجلا؛ ولعله قدر أيضاً أن المرء قد لا يأخذ برأي الانقطاع عن الشر المطلق دائما، ولكن هذا الرأي قد يبعد به عن الشر أحياناً أو قد يقلل من غلواء شره كما قللت رواد المسيحية من قسوة من اعتنقها من التيوتون الذين غزوا الدولة الرومانية وإن لم تقض على قسوتهم كل القضاء. ولم يكن تلستوي أول من فكر هذا الفكر، فأنه فكر تلتجئ إليه النفس الإنسانية المعذبة كلما حاولت التهدي إلى وسيلة تخلصها من شرور الحياة كما فعل البوذيون قديماً عندما دهمتهم قبائل المغول والتتر والتركمان في الهند، وكما فعل المسيحيون القدماء عندما كانوا مضطهدين في الدولة الرومانية الوثنية قبل اعتناقها للمسيحية
ثم لعل تلستوي قد قدر أيضاً أن دفع الشر بالشر يؤدي إلى خلود حب الانتقام والأخذ بالثأر؛ وكثيراً ما فنيت أسر وقبائل وشعوب بسبب خلود حب الانتقام والأخذ بالثأر جيلا بعد جيل. ونحن نرى الآن كيف يهدد الخراب عالم العمران بسبب دفع الشر بالشر والمباراة فيه.
فترى أن خطأ تلستوي ليس بالخطأ الذي يتهم صاحبه من أجله بالانحطاط والجنون كما فعل ماكس نورداو الناقد الألماني، ولم يكن هناك من داع في هذه الحالة لنظرية الانحطاط التي بنى عليها ماكس نوردو كتابه (الانحطاط) ولو انه اكتفى بإبراز الحيرة الفكرية التي أدت بهروب تلستوي من نظرية دفع الشر بالشر إلى نظرية إلا يدفع الشر بالشر وأوضح خطأ هذه الحيرة لكان أقرب للتقوى
وعرض ماكس نوردو مذهب تلستوي في العاطفة الجنسية؛ وله أن يفنده وأن يسخر منه، ولكن كان من تمام الحكمة والفلسفة والتفكير أن يعرض شرور الحلول الأخرى التي تحل بها معضلة العاطفة الجنسية لكي يفسر الحيرة التي أدت إلى هروب تلستوي منها، فإن حل معضلتها ليس طريقا ممهودا بالإسفلت والقطران كما حسب ماكس نوردو؛ وهو إن كان كذلك فهو أيضاً كثير الحفر والمهاوي، وهي التي أدت إلى ذلك الرأي الغريب الذي ارتآه تلستوي وجعله يطلب رفضها رفضاً باتا حتى في حالة الزواج؛ وهو في هذه الناحية أقل إيماناً بالنفس الإنسانية من ناقده، ولكن كان يجدر بناقده أن يبرز الشرور والآثام التي تكثر، سواء أكان حل معضلة العاطفة الجنسية بغلبة القيود والغيرة، أو بضعف القيود والغيرة أو بانعدامها كلها؛ فلعل تلستوي قد نظر طويلا إلى كل حالة من هذه الحالات؛ ولعل طول نظره في كل حالة هو الذي حيره ودعاه إلى رفض العاطفة الجنسية رفضا باتا. فالحيرة ليست دائما دليلا على كلال الذهن وقصر نظره وغموضه وانحطاطه؛ وهي تذكرني برجل جليل فاضل مفكر كان يجيد لعب الشطرنج ويفكر في كل تفكير يصح أن يفكر فيه الذي يلاعبه، فكان لا يفكر في لعبة إلا فكر في طريقة ضدها تهزمها فينتهي به الحال إلى أن يلعب أول لعبة تخطر على ذهن اللاعب وتستدعي سخر الناظرين وضحكهم
ونظر ماكس نوردو إلى موقف تلستوي من العلم، وكان ينبغي لو حاول الاتزان في النقد أن يفسر سبب الحيرة التي دفعت بتلستوي إلى رفض أكثره، وأن يميز بين حيرة الجاهل الغبي وبين حيرة الذكي التي هي أشبه بحيرة لاعب الشطرنج الذي وصفته، وأن يفرق بين خطأ الغافل الذي لا يفكر وخطأ المفكر الذي يحيره كثرة الفكر وتشعب مسالكه والتواؤها حتى يراها مثل حارات القاهرة القديمة التي ليس بها منفذ ولكنها حيرة لا تستدعي أن يتهم صاحبها بالانحطاط حتى ولو كان صاحبها مخطئاً، وإلا كان الإنسان حيوانا كثير الانحطاط، وكأن الانحطاط الذي يعنيه هو من النقص المحتوم في الطبيعة البشرية ولعل تلستوي قد قدر عواقب العلم الحديث في النظم الاقتصادية وفي النظم والمخترعات الحربية وهي عواقب أدت إلى كوارث الحرب العظمى وأهوالها، وإلى الأزمة الاقتصادية ومعضلاتها، وهي إلى الآن تهدد العالم بالخراب؛ فلا غرابة إذا أدركته الحيرة، ولا غرابة إذا أخطأ فلم يصب أحد بعد في حل تلك المعضلات. ولعل تلستوي قد فكر أيضاً فيما فكر
فيه اللورد بالفور عند ما قال في وصف أثر العلم الحديث في تغير نظر الإنسان إلى الحياة: (إن العلم الحديث يعلم الإنسان أن الدنيا لم تخلق من أجله، وأنه ليس تاج الخليقة ولا أنه من سلالة من سكن الجنان قديماً، وأن حياته جاءت عفوا، وأن تاريخه قصة عار وحادثة لا تشرف من حوادث أحقر نجم سيار، وأنه مملوء بالأسقام والآثام والمجاعات والقتل والقسوة، وأن الإنسان بعد آلام لا تحصى قد صار له من الضمير ما يعرف به حقارة نفسه، ومن العقل ما يدرك به أنه مخلوق تافه، وأنه بعد عصور طويلة في ذاتها قصيرة بالنسبة إلى ما مضى من العصور الجيولوجية سينمحي بهاء الشمس ورونقها، ولا تسمح الأرض ببقاء ذلك المخلوق الذي أقلق هدأتها، فيفنى الإنسان وتفنى معه آراؤه وأفكاره كلها، فكأنما كان عمله وذكاؤه وإيمانه وآلامه وجهاده في عصور حياته الطويلة عبثاً ومن غير جدوى)
ثم إن العلم الحديث يقول أيضاً إنه على فرض تحقق السلم والخير الشامل، وعلى فرض انمحاء الشر، فإن هذه حالة تؤدي إلى تدهور الإنسانية، لأن الخير في مقاتلة الشر، والذكاء مستنبط من الخوف والحذر من الجوع ومن اعتداء القوي، فإذا انمحى الخوف والحذر والشر والاعتداء ضعفت الإنسانية وتدهورت وتردت في هاوية الفناء
ولعل تلستوي قد نظر أيضاً إلى ما نظر إليه ادن فلبوتس القصصي الإنجليزي في وصف أثر هذه الآراء كلها في المجرمين في أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما. فإذا كان تلستوي بعد ذلك النظر قد رفض أكثر هذه الآراء العلمية فليس رفضه دليلا على الانحطاط كما قال ماكس نورداو بل هو من حيرة المفكر الذي يتهدى.
ولعل تلستوي في استعراضه تاريخ العاطفة الجنسية ومحتملاتها ونفاقها وأكاذيبها وآثامها ونظمها على اختلاف تلك النظم ولعله أيضاً عند استعراض تلك الآراء والنظم العلمية الحديثة قد نظر إلى قول القائلين إن العاطفة الجنسية والعلم الحديث هما كالماء الذي تضعه في الإناء القذر فيصير قذراً، وتضعه في الإناء النظيف فيكون نظيفاً، والآنية تختلف كاختلاف النفوس واصل الماء واحد سواء الذي وضع في الإناء القذر والذي وضع في الإناء النظيف.
ولكن لعل تلستوي أيضاً قد فطن إلى أن هذا تشبيه لا اقل ولا أكثر، وأنه عند امتحان
النفوس وتطبيقه عليها يتلاشى ويتضاءل إذا أعوز الإناء النظيف من آنية النفوس البشرية
عبد الرحمن شكري
في الصحراء
للأستاذ عبد النعم خلاف
عشقتها منذ أن عاش جسمي بين يديها أربعا وعشرين ساعة في الخريف الماضي كذرة من رمالها في وهج ظهيرتها، وأفياء آكامها، وطَفَل أصائلها، وأشباح دياجيها، ورهبوت عوالمها. . . ومنذ أن لمست يدا قوية من طبيعتها تمتد إلى قلبي فتضربه بشعلها وتعصره برهبتها، وتحمله في أجوائها مع الهبوات، وتسقيه من آلها وسرابها أمواجاً تظمئ ولا تروي، وتتلف ولا تسعف، لأنها أحلام الأرض الظامئة والأكباد الحرَّى. .
واستقبلت العودة إليها في ظرف موات استقبال المتطلع إلى عالم مسحور ناطق بالصمت محيِ بالموت، مثير بالهدوء، منظر بالشوك، مُروٍ بالجفاف مؤنس بالوحشة، يضج القلب فيه ضجيج الدنيا وإن صمت هو صمت الآخرة، ويحوم الفكر فيه حول العقدتين: الأزل والأبد، فتختلط الحواس ويتداخل فعلها فتسمع العين وترى الأذن وتلمس الأضواء والألوان!
سلام عليك أيتها الذرات المتشابهة الراقدة على مهاد الأزل حالمةً بالنقلة على جناح الرياح إلى عوالم الأنهار والأزهار والحيوان. . سأمانة من طول الرقاد على بساط الديموم، تمثلين العقم والبساطة والصورة الأولى للأجسام. . . تنظرين إلى الذرات العليا المضيئة الدائرة في فضاء ربي والراقدة أيضاً على صدر الفراغ. . تحلم بالقرار كما تحلمين أنت بالانطلاق والفرار. .
في قلبي ذرة صغيرة معربدة لذاعة وددت لو استحالت إلى جمودك! إذن لأراحت واستراحت من روح الحياة. . إنها ذرة تحلم بالرياح كما تحلمين. فهي ثائرة تريد الانطلاق من ضيق المكان. . وهي دائبة عن ذلك حتى يفنى الزيت من السراج، وتخمد الوَقْدة التي وضعت شرارتها يد الله في ذراتي الأولى!
نحن ركب مسيرون لا سائرون أيتها الذرات. . مسيرون بعواصف خفية فهي أهول، مكبوتة فهي أعنف، متنافرة فهي أسرع في تحطيمنا ونقض بنائنا. فلا إرادة ولا خيرة في النقلة وإنما هي رياح من نوع آخر، وما أكثر جنود ربي!
سألتُ: كم مضى من دهرك أيتها الديموم. . .؟ فأجابت: طفلة أنا لا أعي دورات الفلك، ولا أشيخ على الدوام. . . وإنما تقاس الأزمان وتعرف الأعمار بجفافٍ في ورقة، أو تجعيدةٍ
على وجه. وأنا كما تراني علامة ابتداء. . .
وسألت: لمن خُلِق ليلك والنهار، وشمسك والقمر؟ ومن يسمع تناوح رياحك وعزيفها على شعاف جبالك، وصفيرها في كهوفك؟ ومن يسمر مع نجومك، ويشهد تقاتل عناصر الطبيعة على صدرك؟ لمن وشائع الغيوم على صفحات سمائك، وألوان جددك وظرابك وآكامك؟ وأين كل ما صبته الشمس والكواكب على أديمك من أضواء وألوان؟ أللعابرين فيك كالنسمات والطائرين عليك كالخطرات؟! أكل هذه الأكوان للشياه والبعران والرعيان؟! ويح الجمال من غير عيون تجتليه، والجلال من غير قلوب تستوحيه، والسطور من غير قارئ!
فأجابت: سري وسحري أن أكون آبدةً عقيماً متفردة لأني أرض الخفاء والمجهول والجن. . . الجن الذين ملأوا آفاقي بتهاويلهم كما ملأتم دياركم بالشواخص والأجرام. . . وقد خلقت لهم، وإن منهم قلوب الشعراء والمتأملين، السائرة مع الأضواء والظلمات ترقبها في الشفق والغسق، الخافقة مع الهبوات والنسمات ترصد فعلها في المدر والوبر والدوح والورق، النائمة في حضن جبل أو على ذراعي موجة أو في عين نجم، أو في عش، أو على زهرة منضورة نقطها الندى، أو في ناي راعٍ، أو في قبر مهدم متفرد!
يا أم الفطرة! أريد أن أقبض قبضة من ذراتك البسيطة التركيب، البريئة من الدنس، المطهرة من الرجس، فأحصب بها وجوه المصانع وناطحات السحاب لعل أحجارها تذكر المهد الأول فترعى ذممه، وتوشج رحمه، وتزيح عنها دخان البارود لترى السماء وتسمع خبرها. . .
يا أم الفطرة ودينها، انبهامُك ترك عقل (محمد) في حيرة غداة شب عن الطوق يرعى. ومجالي الفتنة والروعة فيك نادته إلى العزلة في شعفة من شعفات جبالك يسأل الدنيا عن سرها وأزلها وأبدها ومللها ونحلها حتى حدثته السماء خبرها، ولم ينزل خبر السماء إلا فيك أو على حَوافيك، لأنك القدس والمطهر، تسجد الطبيعة فيك بالإصباح والإمساء، والنجوم والجبال والشجر والدواب. . . وإن أهل الأرض مدينون لك بالظل الذي يجدون برده على قلوبهم وامتداده على أرواحهم؛ ولقد نشرت (كتابك) على الدنيا مرة فطبعت كلماته على الآفاق كلها؛ ولكن ركاما من الغيوم يكاد يخفيها، فأرسلي رياحك الحارة تذيب الركام وتجلو كلمات النبوة. . تريد الأرض موجة جديدة منك أيتها الصحراء، فاهتزي!
ضَحِكَت بالقَتاد والأشواك
…
ضِحكةً خِلتُها بشاشةَ باكِ
أرسلتها في الصمت هَمْساً ولكن
…
رَنَّ في مسمعي صداها الحاكي
فَرْحةً بالربيع دَبَّ على الأر
…
ض وليدا يثيرِها لِحراك
فرَشت في طريقه الشوكَ والحَم
…
ض ووشّت رمالها بالأراك
عجزت أن تجارَي الخَصبَ بالحب (م)
…
وفَرش الرُّبى ونفح الزواكي
فأنالت جُهدَ المقلِّ، وما يُطْ
…
لَبُ من عاجز بلوغُ السماك
القاهرة
عبد المنعم خلاف
2 - عمر بن الخطاب
للأستاذ علي الطنطاوي
- 6 -
كان المسلمون في مكة - فكانت الخصومة بينهم وبين الكفار من قريش - خصومة فردية، شخص يناوئ شخصاً، وجماعة تقاتل جماعة. فلما كانت الهجرة وأستقر الإسلام في (يثرب) وفتحت له صدرها، وقدمت لنصرته أبناءها وفلذات كبدها، استحالت الخصومة إلى شبه (خلاف دولي) بين القرشيين المقيمين على الشرك، العاكفين على الأصنام، المدافعين عن الباطل، وبين أهل (المدينة المنورة) بنور التوحيد - (أنصار) الإسلام وحماة الدين وجنود الله؛ واتسع الخلاف وخاب مع الكفار المنطق وتعذر الصلح ولم يبق بد من الحرب
ومهما يقل اليوم (دعاة السلام) في شناعة الحرب ويصفوا من أهوالها وينفروا منها، ومهما يألفوا في ذلك من كتب ويصنفوا من أصناف، فإن مما لا ريب فيه إن هناك (حرباً مقدسة) مشروعة فاضلة، هي الحرب التي تشب نارها دفاعاً عن الحق وذباً عن الفضيلة وتأديباً للمجرمين. . . ومن ينكر على الجند أن يحاربوا اللصوص والمجرمين ويمنعوهم أن يعيثوا في الأرض فساداً؟ ومن يمنع القاضي أن يقتل القاتل ليشتري بموته حياة أمة، ويحبس الجاني ليضمن بحبسه حرية شعب؟
كذلك كانت (معركة بدر) حرباً مقدسة، أثيرت من أجل الحق والفضيلة والسلام والإسلام. . . فمشت إلى بدر (عصابة المجرمين) من قريش، مزهوة زهو اللصوص، شامخة بآنافها شموخ القتلة، مستكبرة استكبار قطاع الطرق. . . ومشت فرق الجنود المسلمين متواضعة لله خاضعة له، لا قوة لها إلا قوة الحق، ولا سلاح إلا سلاح الإيمان، ولا غرض لها إلا تطهير الأرض من أدران الشرك واوضار الظلم ومحو الأرستقراطية السخيفة العاتية. .
والتقتا في (بدر) - فالتقى الحق بالباطل - والنور بالظلام، ووقف الجنود والحراس وجهاً لوجه. . . ووقف التاريخ على الطرق يرقب النتيجة - فإما أن ينتصر المسلمون فيمضي صعداً ويرقى في مدارج العلاء متوشحاً بوشاح الحضارة، وإما أن يندحروا فينحدر إلى الهاوية. . فلم ينجل الغبار حتى خرجت راية محمد صلى الله عليه وسلم خفاقة منصورة
وخرج اللصوص بين قتيل ملقى للسباع والطير قد خسر الدنيا والآخرة، وأسير في عنقه حبل يساق إلى (المحكمة)!
وانعقدت أشرف محكمة وأعدلها - برئاسة سيد العالم - وأفضل النبيين صلى الله عليه وسلم وعضوية شيخي المسلمين، وخليفتي النبي الأمين - الصديق والفاروق - وكان في كرسي (النيابة العامة) شاعر الإسلام، وعلم الأنصار، البطل الشهيد: عبد الله بن رواحة. . .
وافتتحت الجلسة. . . وثبت الجرم. وكان (جرماً مشهوداً) وطلب (النائب العام) أن يعود المتهمون على حياة جهنم التي كذبوا بها، واقدموا عليها - فيكون جزاؤهم جزاء نارياً: يلقون في واد كثير الحطب - ثم يضرم عليهم ناراً
دخلت المحكمة (للمذاكرة) فسأل الرئيس الأعضاء آراءهم، فلان أبو بكر (أرحم الأمة بالأمة) ورأى أن تؤخذ منهم الفدية فتكون قوة للإسلام ولا يقتلوا لأنهم بنو العم والعشيرة والإخوان، وخالفه عمر (أشد الناس في دين الله) وطلب (إعدامهم) جميعاً: هؤلاء أئمة الكفار وصناديدهم وقادتهم؛ إنهم يعترضون سبيل الدعوة الجديدة - إنهم قطاع الطريق - فيجب أن تسلم الطريق إلى الله - يجب أن تمضي الدعوة في سبيلها آمنة مطمئنة
وسكت صلى الله عليه وسلم ووازن بين الرأيين - ثم نطق بالحكم فكان كما رأى أبو بكر. . .
غير أن الحكم قد (استؤنف) ونزل (الاستئناف) من السماء: (ما كان لِنبيٍّ أنْ يكونَ لهُ أَسْرى حتى يُثْخِنَ في الأرْض. تريدون عَرَضَ الحياة الدنيا والله يريد الآخرَةَ والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سَبَق لمسّكم فيما أخذتم فيه عذاب عظيم)
- 7 -
وسمت منزلة عمر في الإسلام. فلم يكن فوقه إلا الصديق الأعظم. وكان عمر بطل الدعوة وفتاها وحارسها. ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد ساعة اضطراب الجيش وفداه بنفسه، واختاره صلى الله عليه ليجيب أبا سفيان باسم الإسلام، فأجابه جواب القوي الظاهر. . . حسب أبو سفيان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل. وقتل صاحباه، واستراحت قريش من هذه البدعة فهي ذاهبة إلى حلقاتها حول الكعبة - التي تحدق بها
الأصنام - تتحدث حديثها وترويها أبناءها ليعتبروا بها فلا يحاولوا الخروج عما ألفوا عليه آباءهم. . . حسب أبو سفيان أن الإسلام غمامة صيف جاءت ثم انقشعت. لم يدر أن الإسلام أثبت من الأرض، وأخلد من الزمان، وأنها تزول السموات والأرض ولا يزول، فما هُبل، وما هذه الأباطيل؟ أقطعة من الحجر وفلذة من المعدن، تصنعها بيدك، وتدوسها برجلك، تسويها برب العالمين؟ ما هذا العقل يا أبا سفيان؟
كانت أحد فكان عمر عظيما ظافراً فيها. كما كان في بدر وهما لعمري سواء، ما غلب المسلمون في أحُد. وما غلب فيها المشركون. . . ذلك أنهم ما ساروا خمسمائة كيل، من مكة إلى المدينة ليصيح قائدهم: اعل هبل. . . أعل هبل. . . ثم يرجع من حيث جاء، ولكن ساروا ليفتحوا المدينة، ويقتلوا محمداً، ويجتثوا الإسلام من أصله، فكيف يدعون المدينة وما بينهم وبينها إلا مسيرة نصف ساعة، وما فيها حامية تذكر ولا يدخلونها ولا يحتلونها ولا يغيرون عليها فينهبونها؟ وكيف ينظر قائدهم العام محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه وهم قواد العدو، ويكلمهم ويحادثهم ولا يقتلهم ولا يأسرهم، وهو ظافر بهم ظاهر عليهم؟ وكيف يعد جيش المسلمين منهزماً، وقواده ثابتون، وضباطه مستقرون في أماكنهم، وقلبه باق ورايته مرفوعة؟
أما إن الحق أن جيش المسلمين، قد اضطرب بعد أن غادر الرماة أماكنهم، وأغار عليه خالد - قائد فرسان المشركين، وانهزمت بعض فرقه، مذعورة خائرة - ولكن القادة، وفرق القلب بقيت ثابتة في أماكنها. تمنع العدو من الوصول إلى المدينة حتى يئس فارتد على أعقابه من حيث جاء، ونجح الجيش الإسلامي في خطته الدفاعية نجاحا باهرا، ذلك أن الجيش الإسلامي كان مدافعا، وأكبر نصر يناله الجيش المدافع، هو أن يرد العدو وينقذ الوطن. وهذا ما قام به الجيش الإسلامي على أتمه ولكنه خسر كثيرا من الضحايا. . .
فمعركة أحد إذن نصر للإسلام، وعمر من أعلام هذه المعركة وأبطالها
- 8 -
واقرأ (السيرة) كلها، فهي سيرة عمر - وإذا لم يظهر اسمه في كل موطن - ولم يبد ذكره في كل موقع - فلأن النبي صلى الله عليه وسلم شمس تسطع في سمائها - فتكسف النجوم مهما كانت وضاءة متلألئة
على أن عمر رضي الله عنه لقوة شخصيته ومضاء عزيمته لا يكاد يخفى، فقد كان يمثل الجانب القوي المغامر الطماح، من الجبهة الإسلامية، لا يرضى بالهوادة ولا يعرف اللين، ولا تأخذه في الله شفقة ولا ملامة
كان يأبى أن توقع معاهدة الحديبية، ويلح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمد إلى الحرب: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؛ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا
فيشتد عليه الأمر، ويضيق به صبره، فيذهب إلى أبي بكر وقد عجز الصحابة كلهم عن احتمال المحنة - إلا أبا بكر. فيقول له: يا ابن الخطاب. انه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. . .
فلا يقنع عمر ولا يرضى، ولكنه يسمع مكرهاً ويطيع، حتى إذا مرت الأيام، ووضحت حكمة النبوة، وكان الفتح، أدرك عمر سمو رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فمازال يتصدق ويصوم ويصلي ويعتق، مخافة كلامه يومئذ، حتى رجا أن يكون خيراً. على أن عمر لم يعارض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعصه ولكنه رأي رآه واجتهاد اجتهده؛ فكان يأمل موافقة ربه سبحانه وتعالى، كما سبق له أمثالها، وقد كانت طاعته للنبي صلى الله عليه وسلم معروفة، وكان يؤثر رضاه على رضاه، ولقد أقسم عمر - باراً - أن إسلام العباس يوم أسلم كان أحب إليه من إسلام أبيه الخطاب لو أسلم، لأن إسلام العباس أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أهله وولده، ومن نفسه التي بين جنبيه
- 9 -
أنجز الله وعده. فظهر الإسلام وغلب وعم الجزيرة، ودان له العرب كلهم، واجتمعوا في عرفات، في المؤتمر الأعظم، فأنزل الله آخر آية من القرآن، آخر مادة من الدستور الخالد:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فاحتفلوا بكمال الدين، وتمام النعمة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً مودعاً، وأعلن (حقوق الإنسان)
كاملة: الحرية والعدالة والمساواة.
وعاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يلبث أن مرض
جزع الصحابة، وشغلهم مرضه عن أولادهم وأنفسهم، فكانوا لا يهنأون بمنام ولا يسيغون طعاماً، ولا يقبلون على عمل، ولا يرون وجه الدنيا قلقاً عليه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يودون لو يفتدى بكل ما في الأرض من شيء ليفتدوه، وكانوا يسألون عنه في كل ساعة ولحظة، ويعلمون علمه. فلما قيل قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم طارت العقول، وخفت الأحلام، وزلزل الناس زلزالا شديداً، وأصابتهم حيرة وعراهم ذهول، فلم يدروا ما يصنعون، وكانت ساعة من يوم الحشر. ولا عجب فقد كانوا أمواتاً قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول مطلع حياتهم، وأول دنياهم، فلم لا تكون وفاته خاتمة الحياة، وآخر الدنيا، وأن يكون يوم قبضه كيوم القيامة؟
وجزع عمر وهزت الرزية نفسه، وغلبه حبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أن يتصور أنه قد مات، ولم يقدر أن يتخيل الحياة بدونه، فهو أساسها ومصدرها، وهو شمسها المنيرة، وهل حياة من غير شمس؟ وهو روح هذا الكون، وهل يعيش جسم بلا روح؟ ولم يطق أن يسمع أنه قد مات، فوثب مخترطا سيفه، تنطقه عاطفته، وحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمنع الناس أن يقولوا: مات رسول الله انه لم يمت ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران وقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات!
وكان أبو بكر رضي الله عنه غائباً في منزله في السُّخ، وكان أبو بكر العقل الثابت الذي لا تقلقله الحادثات ولا تحركه النوائب، وكان عمر يومئذ القلب الحساس الذي يفيض بالعاطفة وينبثق بالشعور، فلما قدم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ثم خرج وعمر يتكلم، فاستنصته فلم ينصت، ومضى يتكلم، لا مخالفة لأبي بكر، ولكن الحس الذي طغى على نفسه، والحب الذي غمرها لم يدع فيها سبيلا لغيره. . حتى إذا تكلم أبو بكر فقال كلمته العظيمة:
أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا
يموت، وتلا قول الله عز وجل:
(ومَا محمد إِلاّ رَسول قَدْ خَلَتْ منْ قبلْهِ الرسلُ، أَفَإنْ ماتَ أَوْ قتلَ انْقَلَبْتمْ علَى أعقْابِكمْ، وَمَنْ ينَقْلَبْ عَلى عقِبَيهْ فَلنْ يَضُرَّ الله شيْئاً وَسَيَجْزي اللهُ الشاكِرِينَ) وسمعها عمر، أفاق كم استيقظ من حلم، فرأى أنه كان مخطئاً، وتحقق الرزية وأدرك أنه لن يرى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخارت قواه ولم تحمله رجلاه، فسقط على الأرض
دمشق:
علي الطنطاوي
4 - دعابة الجاحظ
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
. . . ولعل أهم ما وصلنا من أساليب الجاحظ في السخر والتهكم، تلك الرسالة التي وضعها في التنادر على صاحبه أحمد بن عبد الوهاب الكاتب، وهي الرسالة المعروفة برسالة التربيع والتدوير وقد تعرف أيضاً برسالة الطول والعرض، والتوسع والتدوير، ورسالة المفاكهات، ولكنها ذاعت ونشرت بين الناس وطبعت في مصر ولندن بهذا الاسم الأول، قال الجاحظ:(وقد كان احمد بن عبد الوهاب هذا مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول، وكان مربعاً وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدوراً، وكان جعد الأطراف قصير الأصابع وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه، أخمص البطن معتدل القامة تام العظم؛ وكان طويل الظهر قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعى أنه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة عظم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم؛ وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد؛ وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها؛ وكان كثير الاعتراض لهجاً بالمراء شديد الخلاف كلفاً بالمجاذبة متتابعاً في العنود مؤثراً للمغالبة مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة، والخطرفة عند قصر الزاد، والعجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء، ومغبة فساد القلوب. . . وكان قليل السماع غمراً، وصحفيا غفلا، لا ينطق عن فكر، ويثق بأول خاطر، لا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق، يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لأسم الأدب. . .)
فالرجل - على ما يصف الجاحظ - كان دعياً يبالغ في قدره، ويشتط على نفسه، فيجري في حلبة العتاق وهو كودن، ويطاول السماء وأسبابه لاصقة بالأرض، فكأنه الهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد، فهو يزور على الناس مخبره، ويدلس في حقيقته، ويزعم لنفسه دعوى عريضة لا يد له فيها ولا رجل. . والظاهر أنه بالغ في دعواه وأمعن. وأصر عليها وتهور، قال الجاحظ: (فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا، رأيت أن أكشف قناعه، وأبدي صفحته للحاضر والباد، وسكان كل ثغر وكل مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ
فيها وأعرف الناس مقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به. . .) ولقد استطاع الجاحظ أن يبدي صفحة الرجل حقا، وأن يهزأ به ويبلغ منه، فأخذه بأسلوب لاذع، وغمره بفيض من السخر والتهكم والتعريض، وتندر عليه في منظره ومخبره، وعلمه ومعرفته، وغروره وادعائه، وكذبه وتدليسه، وكل ما زعمه لنفسه. وقد استهل الجاحظ القول في براعة فائقة فقال يغمزه وكأنه يدعو له: (أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك! قد علمت حفظك الله أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج. . . ثم أخذ الجاحظ يناقشه في طوله وقصره، وعرضه واتساعه، وتربيعه وتدويره، وقده وخرطه. . . ثم أورد عليه شيئاً من آراء الناس عنه واختلافهم فيه، وحسدهم له!! ثم ابتدأ فقال: فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل وأنت المتقارب، فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول، ما يهمك من أقاويلهم. ويتعاظمك من اختلافهم؟. وهل في تمامك ريب حتى يعالج بالحجة؟ وهل رد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة؟ وهل لك خصم في العلم، أو ند في الفهم، أو مجار في الحكم، أو ضد في العزم؟ وهل بتبلغك الحسد أو يضرك الغبن، وتسمو إليك المنى، أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل يطمع فاضل أن يفوقك، أو يأنف شريف أن يقصر دونك، أو يخشع عالم أن يأخذ عنك؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك؟ وهل زين البليغ إلا مدحك؟ وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟ وهل يقدر الملهوف إلا غباءك؟ وهل للغواني مثل غيرك، وهل للماتج رجز إلا فيك؟ وهل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب، أو عالم أديب، إلا وظلك أكبر من شخصه؟! وظنك أكثر من علمه، واسمك افضل من معناه، وحلمك اثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليم سواك؟ وهل أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق منك؟ وهل حملت النساء أجمل منك؟ فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وهي تشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تنقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك ولا غيور إلا وقد شقي بك!
وكم من فتاة معذبة قد افرج قلبها الحزن، وأجهد عينها الكمد،. . . فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد ظرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساحر، وبعد أن كانت ناراً تتوقد، وشعلة تتوهج!! وليس حسنك أبقاك الله بالذي تبقى معه توبة أو تصح معه عقيدة أو يدوم معه عهد أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه التثبت، أو يتسع للتخير، أو ينهنهه زجر أو يهذبه خوف!! ولكنه شيء ينقض العادة، ويفسخ المنة، ويعجل عن الروية وننسى معه العواقب ولو أدركت ابن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر ابن حجاج)
ثم أمعن الجاحظ في التنادر على الرجل، وراح يتفنن في السخر من حسنه وجماله وخلقه وتركيبه، وبعد أن اقتحمه بنظرة إجمالية على نحو ما قدمنا لك أخذ ينظر إليه في كل عضو من أعضائه فقال:(وما ندري في أي الحالتين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أو إذا جمعنك، وإذا ذكرنا كلك، أو إذا تأملنا بعضك. فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها! وما ندري الكأس في يدك أحسن أم القلم، أم الرمح الذي تحمله أم المخصرة، ام العنان الذي تمسكه، أو السوط الذي تعلقه؟! وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن وأيها أجمل وأشكل؟ آللمة أم مخط اللحية، أم الإكليل، أم العصابة، أم التاج، أم العمامة، أم القناع أم القلنسوة؟! وأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم، ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى أنها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم؛ وأما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي نتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل؟ الحديث أم الشعر، أم الاجتماع أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف؛ وعلى أننا ما ندري أي ألسنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى؟ أقلمك أم خطك، أم لفظك أم إشارتك أم عقدك؟ وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد. . . وقد علمنا أن القمر هو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال، وهو مع ذلك يبدو ضئيلا نضواً، ومعوجاً شختا، وأنت أبداً قمر بدر فخم غمر، ثم هو مع ذلك يحترق في السرار ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحساً كما يكون سعداً، ويكون نفعا كما يكون ضرا، ويقرض الكتان ويشحب الألوان، ويخم فيه اللحم، وأنت أبداً دائم اليمن ظاهر السعادة، ثابت الكمال شائع النفع، تكسو من أعراه وتكن من أشحبه. . .)
وانطلق الجاحظ بعد ذلك يندد بالرجل فيما يدعيه لنفسه من طراوة الشباب ونضارة الإهاب
على أنه كبير السن قد شابت شواته وتخدد أديمه، وسلخ من العمر غايته. وتجد الجاحظ ظريفاً طريفاً إذ يقول:(جعلت فداك ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر؟! كانا ينبهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن، وبأن الدهر يحدث لهما الجدة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما، وغمر طول عمرك أعمارهما، ذلا بعد العز، وهانا بعد الكرامة. . فيا عقيد الفلك كيف أمسيت؟ ويا فوه الهيولي كيف أصبحت؟ ويا نسر لقمان كيف ظهرت؟ ويا أقدم من دوس، ويا أسن من لبد، ويا صفي المستقر، ويا صاحب المسند، حدثني كيف رأيت الطوفان؟ ومتى كان سيل العرم؟ ومنذ كم مات عوج؟ ومتى تبلبلت الأنس؟ وكم لبثتم في السفينة؟ وما حبس غراب نوح؟ هيهات! أين عاد وثمود؟ وأين طسم وجديس؟ وأين أمم ووبار؟ وأين جرهم وجاسم؟ أيام كانت الحجارة رطبة وإذ كل شيء ينطق! ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن النجف، وأي هذه الأودية أقدم: أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة، أم جيحان أم سيحان أم مهران؟. . . أبقاك الله! وليس دعائي لك بطول البقاء طلباً للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول: أطال الله بقاءك فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك فإلى هذا المعنى أذهب. وفيك أمران غريبان، وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور الزيادة والنقصان إياك، جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء، ومع دليل الفناء، فأنت علة للمتضاد، وسبب للمتنافي! فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك، فإن للشيطان في مثلك أطماعاً لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللا لا يجدها في غيرك، ولست - جعلت فداك - كإبليس وقد تقدم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه، ولولا الخبر لما قدمته عليك ولا ساويته بك، وأنت أحق من عذر، وأولى من ستر، ولو ظهر لي لما سألته كسؤالي إياك وإن كان في التجاذب مثلك فهو في النصيحة على خلافك، ولأنك إن منعت شيئاً فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن منع منع بالغش والأرصاد، وأنت على أية حال شكل، ونحن نرجع إلى أصل ونلتقي إلى أب ويجمع بيننا دين)
ويزداد الجاحظ ظرفاً وملاحة، ويشتد تهكما وسخرية إذ يدخل على صاحبه من ناحية علمه، أو قل من ناحية جهله! فقد أورد عليه كثيراً من الخرافات والمحالات وتلقف له جملة مما
هو شائع عند العامة من الأكاذيب والأخبار، وجعل هذا كله من باب المسائل ورؤوس المعضلات، فأخذ يعاييه بها ويسأله عنها: فسأله عن الشقناق والشيصبان، ومن قيرى ومن عيرى ومن جلندي، ومن أولاد الناس من السعالي، ومتى تخزعت خزاعة، ومتى طوت المناهل طي، وما القول في هاروت وماروت، وما عداوة ما بين الديك والغراب، وما صداقة ما بين الجن والأرضة، وما علة خلق الخنزير؛ وكيف اجتمع في الذبابة سم وشفاء، وكيف لم تقتل الأفعى سمها، وكيف لم تحرق الشمس ما عند قرصها، ومذ كم كان الناس أمة واحدة ولغاتهم متساوية، وبعد كم بطن اسود الزنجي وابيض الصقلبي، وما عنقاء مغرب، وما أبوها وما أمها؟ وهل خلقت وحدها أم من ذكر وأنثى؟ ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى. إلى آخر ما تلقفه الجاحظ من الطرائف وبلغ به مائة مسألة كلها من هذا الطراز وعلى هذا النمط، ولعل من المعلوم أنه لم يكن يطمع في الإجابة من صاحبه بل إنه ليقول له:(وقد سألتك وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلا ولا كثيراً؛ فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها وما فيها خرافة وما فيها محال، وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي وابتد بنفي التشبيه والقول بالنداء، واستبدل بالرفض الاعتزال، وان أتنكر منعك بعد التمكين والبذل وبعد التقريع والشحذ فلا يبعد الله إلا من ظلم!)
ولاشك أن الجاحظ قد ابتدع رسالته هذه ابتداعاً، وأتى بها على غير مثال سابق في الأدب العربي، ولاشك أنها قد جاءت قوية رائعة تعلن عن فن الرجل في بابها، واقتداره على أمثالها. ولقد كان الجاحظ على اعتزاز بها غاية الاعتزاز، فأشار إليها بالإكبار، وأحال عليها بالأقدار، واقتبس منها في بعض ما كتب. وقد تأثر بها بعض الكتاب فحاول الخوارزمي أن يحذو حذوها فقلدها في رسالة كتبها إلى أحد أصحابه الشعراء يعرف بالبديهي فبلغ أربا، ولكن دون ما بلغ الجاحظ بكثير. ثم جاء البديع الهمذاني فانتهج الطريق في بعض مقاماته إذ كان يهاجي بعض أصحابه ولكن يظهر أنه نظر إلى الخوارزمي أكثر مما نظر إلى أبي عثمان فسلبه كثيراً من تعبيراته، وخرج من التعريض إلى الشتم، ونزع عن التهكم إلى السب، وبدل التلميح بالتصريح، والمرح بالتجهم، وهذا كله غير ذلك كله، فتعرف الصنفين، وافرق بين الطريقين. . . .
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف
شقية
للسيد عمر أبو ريشة
حثثت خطاي الحمر عن هيكل القدس
…
وفي حمأة الأرجاس كفرت عن رجسي
وما استعذبت نفسي الشقاء وإنما
…
وجدت عزاء النفس أقتل للنفس
دعوني أعب السم من أكؤس الملا
…
وأقضي على تلك البقية من حسي
كفاني نفضت الكفَّ من يانع المنى
…
وبعت صباي الغض بالثمن البخس!!
وما من ضحايا النار، حسناء كاعب
…
عليها جلال الحسن في العري واللبس
تمشت ونفحات المحاجر حولها
…
ومن خلفها الكهَّان خافتة الجرس
ولما ذكت في المذبح النار تمتمت
…
مصليَّة والضرس يقرع بالضرس
وزجَّت بها عريانة فتفجرت
…
جراح وقطرات الدما صبغة النفس
وفي كل جرح فوهة من جهنم
…
تولول كالريح المؤججة البأس
بأهلك مني عند فضٍ مآزري
…
على المذبح الشهوات للمصبح الممسي!!
يؤرقني الماضي فأنشر طرسه
…
وألسنة الآلام تقرأ في الطرس
وأهجس والأشباح تعتام ناظري
…
فيرتد إشفاقاً فأقصر من هجسي
وأزجر دمعي أن يثور وزفرتي
…
فلا دمعتي تسلي، ولا زفرتي تنسي
تغرُّ ابتساماتي عيون أخي الهوى
…
وخلف ابتساماتي جراح من البؤس
طلعت على الأيام والطهر حارسي
…
يحيك على عطفيَّ جلبابَه القدسي
تشيعني الأبصار أين توجهت
…
خطاي فأمشي مشية الرجل النكس
وضج بأعطافي الغرور فلم ألِنْ
…
لصرخة ولهان تَمخضُ باليأس
كنرجسة في الحقل تلثم ساقَها
…
ثغور من الأزهار طيبة الغرس
ولكنها. . . والكبرياء تهزها
…
أبت أن ترى في غيرها رفعة الجنس
حنت رأسها كيما تقبل ظلها
…
غرورا فماتت وهي محنيَّة الرأس!!
ولما رأيت الفقر أزبد فكه
…
وكشَّر عن أنياب منهرت طلَس
صحوت فلم ابصر حواليَّ راحما
…
يخفف من بؤسي ويطرد من تعسي
وألقتني الأقدار في كف أرعن
…
كما قبضت كف البخيل على الفلس
يبثُّ لي النجوى فيطربني بها
…
فأبني من الآمال أساً على أس
فكنت كشاة ألفت العيش زاهرا
…
تروح على أنس وتغدو على أنس
يهش لها الراعي فترقص حوله
…
فيلقمها الأعشاب بالأنمل الخمس
يسمنها. . . للذبح وهي تظنه
…
رحيما يقيها صكة الناب والضرس
فولَّت أمانيَّ العذابُ تلاشياً
…
كما يتلاشى الثلج من قُبلة الشمس
وضاقت بي الدنيا فهمتُ طريدة
…
أفتش عن سعدي فيلطمني نحسي!
فما لاح لي إلا دم متلاطم
…
ففي لجه أغدو وفي لجه أمسي
أرى عنده للانتقام من الورى
…
مناهل تنسي ما أجرَّع من بؤس
فرب فتى ما دنَّس الخزي قلبه
…
نصبت له سهم الإساءة في القوس
تمطيت لاستغوائه فتثاءبت
…
بعينيَّ أفواه الدعارة والرجس!
وما خفَّ للَّذَّات حتى تركته
…
يصارع داءً قد تحفَّز للغرس
إذا أنّ هزَّت رعشة الأنس أضلعي
…
وأفرحني إن لاح في صفرة الوَرْس
فصرت إذا ما اشتدَّ دائي تركته
…
ليعدي وإن أبصرت من خلفه رمسي!
كما النحلة الغضبى لدى وخز خصمها
…
تموت. . . ولكن وهي مرتاحة النفس!!
(حلب)
عمر أبو ريشة
أترانا فراشتين؟
للأستاذ خليل هنداوي
أتراها فراشةً سبحت في
…
مائج الكونِ، والخيالُ الجناح؟
دأَبها أن تهيم فوق الروابي
…
يلتقيها منها الشذا الفواح
عيشها بسمة تشع، وفيض
…
من سنا اللهوِ ساطع وضَّاح
الصباحُ النديُّ يحنو عليها
…
كل ما حولها ندى وأَقاح!
ليلها دفقة من النور تمشي
…
والليالي - مع الغرام - صباح
وتراني فراشةً حثها الشو
…
ق وهمت فلم يطعها جناح
فترامت. .! ولا تسل إذ ترامت!
…
كان أدري بحالها المصباح
خليل هنداوي
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 3 -
لم يقف ابن سينا عندما تقدم في إثبات وجود النفس ومغايرتها للبدن، بل افترض فرضاً آخر هو من أبدع حججه وأكثرها ذيوعاً، ونعني به فرض الرجل المعلق في الفضاء. فلو تصورنا أن شخصاً ولد مكتمل القوى العقلية والجسمية، ثم غطى وجهه بحيث لا يرى شيئاً مما حوله، وعلق في الهواء أو بالأولى في الخلاء كي لا يحس بأي احتكاك أو اصطدام أو مقاومة، ووضعت أعضاؤه وضعاً يحول دون تماسها أو تلاقيها، فإنه لا يشك بالرغم من كل هذا في أنه موجود وأنه كان يعز عليه إثبات وجود أي جزء من أجزاء جسمه، بل قد لا تكون لديه فكرة ما عن الجسم والوجود الذي تصوره مجردا عن المكان والطول والعرض والعمق، وإذا فرض أنه تخيل في هذه اللحظة يداً أو رجلا فلا يضنها يده ولا رجله، وعلى هذا إثباته أنه موجود لم ينتج قط عن الحواس ولا عن طريق الجسم بأسره؛ ولابد له من مصدر آخر مغاير للجسم تمام المغايرة وهو النفس. يقول ابن سينا:(يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا، ولكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى في هواء أو خلاء هوياً لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته فلا يشك في إثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا. ولو أنه أمكنه في تلك الحال أن يتخيل يداً أو عضواً آخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطا في ذاته؛ وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت، والمقر به غير الذي لم يقر به، فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم يثبت)، وواضح أن هذه البرهنة قائمة على أن الإدراكات المتميزة تستلزم حقائق متميزة تصدرعنها، وان الإنسان قد يستطيع أن يتجرد من كل شيء اللهم إلا
نفسه التي هي عماد شخصيته وأساس ذاته وماهيته. وإذا كانت الحقائق الكونية كلها تصل إلينا بالواسطة فهناك حقيقة واحدة ندركها إدراكا مباشراً ولا نستطيع أن نشك فيها لحظة، لأن عملها يشهد دائما بوجودها. وما أصدق سقراط حين قال: اعرف نفسك بنفسك. ولئن كنا نستدل على وجود جسم ما بالحيز الذي يشغله فالتفكير الذي هو خاصة النفس الملازمة لها دليل قاطع على وجودها
وقد سبق إلى هذا المعنى أغسطين فيلسوف المسيحية في القرن الخامس الميلادي وسلك في البرهنة على وجود النفس سبيلا تشبه من بعض الوجوه السبيل الآنفة الذكر، فذهب إلى أن الجسم والنفس حقيقتان متميزتان تمام التميز، ففي حين أن الأول يشغل حيزاً وله طول وعرض وعمق لا حيز للثانية مطلقا، وخاصيتها الوحيدة هي التفكير؛ ومن أجل هذا كان شعورنا بها وإدراكنا لها إدراكا مباشراً، فإن الفكر لا يحتاج إلى واسطة في فهم ذاته، ومادامت النفس تفكر فهي موجودة، لأن تفكيرها يساوي وجودها تمام المساواة. وقد يستطيع الإنسان أن يتجرد عن جسمه وعن العالم الخارجي في كل مظاهره، وأن ينكر الحقائق على اختلافها وأن يشك في كل شيء إلا نفسه التي هي مصدر شكه ومبعث تفكيره فإنه لا يجد إلى الشك فيها سبيلا
وهنا نتساءل: هل تأثر ابن سينا بأغسطين أم الأمر مجرد توافق خواطر؟ لم يثبت مطلقا أن مؤلفات الأخير نقلت إلى العربية، ولا نجد أية وسيلة سمحت لابن سينا بالأخذ عنه، ويرجح الأستاذ جلسن أنهما معا صدرا عن أصل إسكندري ولاسيما وهما شديدا التعلق بأفلوطين وتعاليمه، بيد أنا لم نقف على شيء مما وصل إلينا يشهد بأن رجال مدرسة الإسكندرية حاولوا البرهنة على وجود النفس على النحو السابق. ولسنا ندري ما المانع أن يكون برهان الرجل المعلق في الفضاء من ابتكار ابن سينا واختراعه، خصوصا وهو قد عودنا صوراً فرضية أخرى كثيرة كحديث حي بن يقظان ورسالة الطير التي تدل على خيال خصب ومهارة في التصوير. وعلى فرض أنه عالة على من قبله في بعض عناصر برهانه، فليس هناك شك في أن الصورة الجذابة التي صوره بها من بنات فكره وإنتاجه الشخصي، ويخيل إلينا أنه كان مغتبطا بفنه معجبا بتصويره، ولا أدل على هذا من أنه أبرزه مرتين في كتاب الشفاء وعاد إليه مرة ثالثة في إشاراته
وهذا التصوير هو الذي ميز برهنته من برهنة أغسطين وان كانتا تلتقيان في الغاية والمرمى. وهو الذي استلفت أنظار فلاسفة القرون الوسطى المسيحيين واستولى على نفوسهم، فأعاده الكثيرون منهم بنصه أحياناً، وخاصة أتباع أغسطين مثل غليوم الأقرني وحنا الروشيني، وكأن هؤلاء ازدادوا تعلقاً بالفيلسوف العربي حين رأوه يقترب من أستاذهم اللاتيني.
ولا نظننا في حاجة إلى أن نشير إلى أن كتاب الشفاء ترجم إلى اللاتينية. وكان للجزء المتعلق بالنفس منه أكبر الأثر في رجال الفلسفة المسيحية، ولم يكد دومينقوس جندسالينوس يترجمه في القرن الثاني عشر الميلادي حتى اقبلوا عليه يتدارسونه ويأخذون عنه مختلف الآراء، ولا يرون على أنفسهم غضاضة في أن يعزوا البرهان الذي نتحدث عنه إلى صاحبه ومبتكره ابن سينا
ويظهر أنهم استمروا يرددونه فيما بينهم إلى عصر النهضة وإلى أن جاء ديكارت فنادى بمبدئه المشهور الذي ينطوي على أفكار أغسطين وسينويه، ففي بحثه عن الحقيقة عاهد نفسه على أن يرفض كل ما يتطرق له الشك، لأن حواسنا في حال اليقظة تخدعنا وتنقل إلينا العالم الخارجي نقلا مشوها، ومخيلتنا أثناء النوم تغدق علينا صوراً وأوهاماً لا أساس لها. وأخذ يشك في كل شيء إلى أن انتهى به شكه إلى حقيقة ثابتة هي أنه يفكر؛ ومادام يفكر فهو موجود، وفي مقدور الشكاك واللاأدريين أن يهدموا الحقائق على اختلافها إلا هذه الحقيقة التي تحمل معها برهانها.
يقول ديكارت: (قد أستطيع أن أفترض أن لا جسم لي وأن لا عالم ولا مكان أحل فيه، ولكني لا أستطيع لهذا أن أفترض أني غير موجود، بل على العكس ينتج قطعاً وفي وضوح من شكي في حقيقة الأشياء أني موجود. . . فقد عرفت إذن أني جوهر ذاته وطبيعته التفكير، ولا يحتاج في وجوده إلى مكان ولا يخضع لشيء مادي، وعلى هذه الصورة الأنا أو النفس التي هي أساس ما أنا عليه متميزة تمام التميز من الجسم، بل هي أيسر معرفة منه، حتى في حال انعدامه لا تنقطع هي عن أن توجد مع كل خصائصها).
هذا هو الكوجيتو الديكارتي القائل: (أنا أفكر فأنا إذن موجود). وهذه هي البرهنة عليه. ولا يجد القارئ صعوبة في إدراك وجوه الشبه بين هذه البرهنة والبرهنتين السابقتين
الأغسطينية والسينوية، وقديماً لاحظ أرنولد أن ديكارت يحاكي أغسطين تمام المحاكاة في إثباته وجود النفس وتميزها من البدن ولم يبق مجال للشك في أن أبا الفلسفة الحديثة قرأ مؤلفات أغسطين وخاصة ما اتصل منها بالنفس وخلودها وحديثاً استطاع المسيو ليون بلنشيه أن يبين في سعة وتفصيل جديرين بالإطراء الأفكار التي سبقت الكوجيتو الديكارتي ومهدت له، غير أنه فاته أن يشير إلى الصلة بينه وبين برهان الرجل المعلق في الفضاء. وقد حاول أخيراً المستشرق الإيطالي فورلاني أن يتلافى هذا النقص، فكتب في مجلة فصلا عنوانه (ابن سينا والكوجيتو الديكارتي). وفيه يعرض برهان الفيلسوف العربي وترجمته اللاتينية القديمة، ثم يقارنه بما جاء به ديكارت موجها عنايته الكبيرة إلى بيان أثر الحواس والمخيلة لديهما، وينتهي بعد كل هذا إلى النتيجة الآتية: وهي أنه يستبعد أن يكون ديكارت قرأ ابن سينا رأسا لقلة المطبوعات وعدم تداول مؤلفاته في الأيدي، ويرجح أن يكون قرأه عن طريق غليوم الأقرني
ولكنا نلاحظ أن ترجمة كتاب الشفاء اللاتينية، أعيد طبعها في فينيس ثلاث مرات بين سنة 1496 وسنة 1546. فتكون آخر طبعة منها ظهرت قبل ميلاد ديكارت بخمسين سنة فقط. ونحنن نعلم كيف أثيرت مشكلة النفس وخلودها لعهده، فمن المحتمل أن يكون الباحثون قد لجأوا إلى كل المصادر الممكنة لحلها. وابن سينا من أطول الناس حديثا فيها وأكثرهم غراما بها. وقد أبان رينان من قبل مقدار تعلق السربونيين ورجال الدين في باريس بالفلسفة الإسلامية بوجه عام ومناقشتهم لها وردهم عليها وبحثهم عن أصولها ومصادرها، فلا يمكن أن تكون قد فاتتهم مطبوعات فينيس المتقدمة وفي مكتبة باريس الأهلية أكثر من نسخة من هذه المطبوعات، ويغلب على الظن أنها وصلت السربون منذ ذلك التاريخ: وإذا كان أرنولد قد أشار إلى أغسطين فقط ليبين أن ديكارت عالة على من قبله. فلعل ذلك راجع إلى أنه تخير شخصية معروفة من العالم المسيحي المحيط به
على أن ديكارت لم ينتبه إلى ابن سينا بواسطة غيوم الأقرني فقط، بل يغلب على ظننا أنه اهتدى إليه أيضاً في ثنايا مؤلفات روجير بيكون التي قرأها وتأثر بها في نواح مختلفة. ومهما يكن فسواء أقرأ ديكارت ابن سينا مباشرة أم عن طريق غير مباشر فكل الدلائل قائمة على أن برهان الرجل المعلق في الفضاء جدير بأن يعد بين الأفكار التي سبقت
الكوجيتو الديكارتي ومهدت له. وإذا كان ديكارت مديناً لأغسطين بشيء في صوغه وتصويره فهو مدين بدرجة لا تقل عن هذا لابن سينا كذلك، خصوصاً وإلى الأخير يرجع الفضل في بعث أفكار أغسطين من مرقدها وتوجيه اللاتينيين من جديد نحوها توجيهاً نشيطاً في الأربعة قرون السابقة لديكارت. وهو مع زميله ابن رشد قد أثارا في العالم الغربي منذ القرن الثاني عشر مشكلة العقل والنفس ونظرية المعرفة بوجه عام إثارة امتد صداها إلى عصر النهضة.
وغني عن البيان أنه لا يعيب الكوجيتو مطلقاً أن يكون بعض الباحثين قد اهتدى إليه من قبل عن طريق آخر، فإن اتفاق الآراء على أمر من الأمور يزيده قوة فوق قوته ويقيناً إلى يقينه. وليس ثمة داع لأن نجهد أنفسنا، كما صنع هملان وغيره في أن نثبت بأي ثمن أن ديكارت مبدعه الأول، فإن هذه محاولة فاشلة ولا تتفق مع روح البحث العلمي الحديث. ولا يعيب ديكارت نفسه أن يكون قد سبق إليه في صورة غير الصورة التي أظهره فيها، وثوب غير الثوب الذي البسه إياه، فإن الفكرة الواحدة تتشكل بأشكال مختلفة تبعاً للمذاهب الفلسفية التي تبدو فيها
يتبع
إبراهيم مدكور
15 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
ومن المحتمل أن يكون فجر العصر الذهبي للشعر العربي هو هذه السنوات العشر الأولى من القرن السادس بعد الميلاد. فحوالي هذا الوقت كان قد اشتد ضرام حرب البسوس التي سجلت سنيها عاما فعاماً أشعار معاصريها إبان ذلك الوقت، كما أن أول قصيدة عربية أنشئت - كما تذكر أخبارهم - قصيدة نسج بردتها المهلهل بن ربيعة التغلبي في رثاء أخيه كليب الذي كان مصرعه سببا في إشعال نار الوغى واشتجار رماح قبيلتي بكر وتغلب. وعلى كل حال ففي خلال القرن التالي لهذه الحادثة يجد كثيرا من المنشدين في جميع أصقاع شبه الجزيرة العربية ظلوا مقتفين لهجة شعرية واحدة في معانٍ مشتركة ضلّت محترمة لم تمسسها يد التغيير والتبديل حتى نهاية العصر الأموي (750م) ومع ذلك فقد سادت الأدب أيام الخلافة العباسية روح جديدة سرعان ما ثبتت قوائم سلطانها الذي ظل على قوته حتى اليوم تقريبا، وكان هذا النمط يتمركز في القصيدة التي تعد الصورة - أو بتعبير أدق - المثل الأعلى لما يمكن تسميته بالعصر الرائع للأدب العربي. وتختلف القصيدة في عدد الأبيات لتي تتألف منها، لكنها قلما تقل عن خمسة وعشرين أو تربو على المائة، ولا يكون التصريع إلا في المطلع، ثم تجري القافية على روي واحد حتى نهاية القصيدة. أما الشعر المرسل فغريب عن العرب الذين لا يرون الإيقاع حلية وتنميقا أو تقييدا منهكا بل يعدونه روح القصيدة وجوهرها. وأغلب ما تكون القوافي رقيقة فيها أنوثة كقولهم سخينا، تلينا، مهينا، مخلدي، يدي، عوّدي، رجامها، سلامها، حرامها. وإنّ تذليل عقبات القافية الواحدة ليتطلب مهارة فنية كبرى حتى في لغة يكون من أشد خصائص تكوينها تعدد القوافي وكثرتها، وأن أطول المعلقات لأقصر من مرثية جراي، أما من ناحية الوزن فللشاعر الحرية في اختيار أي بحر إلا الرجز الذي يعد أتفه من أن يستعمل في القصيدة. بيد أن حريته لا تصل إلى اختيار الموضوعات أو إلى طريقة استغلالها بل نرى عكس ذلك، إذ أن مجرى أفكاره مقيد بشروط قاسية لا يستطيع الفكاك منها، وفي ذلك يقول ابن قتيبة: (وسمعت بعض أهل العلم يقول أن مقصد القصيد إنما ابتدئ فيها بذكر الديار
والدمن والآثار، فشكى وبكى وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها إذ كان نازل العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه المدر لانتجاعهم الكلأ، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الشوق وألم الوجد والفراق وفرط الصبابة ليميل نحوه القلوب لأن النسيب قريب من النفوس لما جعله الله في تركيب العباد من محبة للغزل وألف للنساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقا منه بسبب، فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل وانضاء الراحلة، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه على السماح وفضله على الأشباه)
وهناك مئات من القصائد لا تخرج عن هذا الوصف الذي لا يجب على كل حال أن يعتبر النموذج الثابت على الدوام إذ يتجاوز الشاعر في بعض الأحيان عن المقدمة الغزلية وخاصة في المراثي، وإذا لم تقده على الفور إلى الغرض المنشود تلاها وصف دقيق صادق لبعير الشاعر أو حصانه الذي يحمله خلال القفار في سرعة الظبي النافر أو الحمار الوحشي أو الظليم. وشعر البدو يفيض بالدراسة الجميلة لحياة الحيوان ووصفها؛ ولاشك أنهم كانوا يولون المديح همهم وعنايتهم، كما كان أحب شيء إلى نفوسهم. وقد استطاع الشاعر أيام الجاهلية أن يرضى نفسه فلم تكن القصيدة وحدة قائمة بذاتها، ولكنها أشبه ما تكون بمجموعه صور رسمتها يد واحدة أو كما يقول الشرقيون مكونة من لآلئ مختلفة الحجم والقيمة، ثم ألف منها عقد
قد يمكن وصف الشعر العربي القديم بأنه نقد تصويري للحياة الجاهلية وأفكارها، إذ نجد الشاعر في هذه البيئة بعيداً عن التكلف والميوعة والبهرجة. وليست تسمية مجموعة أبي تمام (بالحماسة) من قبيل الصدف. أو لأن ذلك عنوان من عناوين الكتاب أو فصل من فصوله يشغل قرابة نصفه. بل لأن الحماسة تشير إلى أجل فضيلة عظمها العربي، فقد امتدح البسالة في القتال والصبر عند اشتداد البلاء، والجد في طلب الثأر، وحماية الضعيف والازدراء بالأهوال، أو كما قال تنيسون (كافح واطلب تجد ولا تخضع)
ومن صور المثل الأعلى للبطل العربي الشنفري الأزدي، وقرينه في الغزو والسلب (تأبط شراً) فقد كانا قاطعي طريق طريدين، كما كانا شاعرين مبدعين، أما عن الأول فيروى أن
بني سلامان اختطفوه طفلا وربوه فيهم، ولم يعرف اصله حتى نما عوده فاقسم لينتقمن من خاطفيه وعاد إلى قبيلته الأولى، ونذر أن يفتك بمائة رجل من بني سلامان فمثل بثمانية وتسعين ثم نجح مطاردوه في أسره، وبتر إحدى ذراعيه في دفاعه عن نفسه فشد على أعدائه بيده الأخرى وقتل واحدا منهم ولكنهم تكأكأوا عليه فغلب على أمره وقتل وقد بقى على إيفاءه نذره رجل واحد، وبينما كانت أقحوفته ملقاة على الأرض مر بجوارها رجل من أعدائه فركلها بقدمه فدخلت فيها شظية من جمجمته ونغل الجرح ومات الرجل، ومن ثم قتل المائة، وفي قصيدته الموسومة بلامية العرب يذكر طرفاً من صور بطولته وبسالته وعناء حياة السلب:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لِمَن خاف القِلى متحوَّلُ
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضِيق على امرْئ
…
سَرَى رَاغباً أو راهِباً وَهْوَ يعْقِلُ
ولي دونكم أهلْون سيد عَملَّس
…
وأرْقط زُهْلول وعرفاءٍ جَيْألُ
هُمُ الأهْلُ لا مُسْتَوْدَعُ السِّر ذائعِ
…
لذّيهمْ وَلا الجَاني بما جَرَّ يخْذَلُ
وكلّ أبيّ باسِل غيرَ أنَّنيِ
…
إذا عَرَضَتْ أولَى الطّرَائِدِ أبْسلُ
وإنْ مُدَّت الأيدْيِ إلى الزَّادِ لم أكن
…
بأعْجلِهِمْ إذْ أجْشَعُ القَوْمِ أعْجلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل
…
عليهم وكان الأفضل المتفضلِّ
وإني كفاني فقدُ من لستَ جازياً
…
بحسنَى ولا في قربة متعلّل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع،
…
وأبيض إصليت، وصفراء عَيطلُ
هتوف من الملس المتون يزينها
…
رَصائع قد نيطت إليها ومحمل
إذا زال عنها السهم حنَّت كأنها
…
مرزّأة ثكُلى ترِن وتعوْلُ
ثم يأخذ في الكلام عن قبيلته التي تلفظه لفظ النواة وتتركه هائما على وجهه حينما يتكالب عليها الأعداء مطالبيها بثأر تلك الدماء المهراقة ويقول:
فلا تقبروني إنّ قَبري مُحَرَّمُ
…
عليكم ولكن أبْشِري أمَّ عامرٍ
إذا احتملوا رَأسِي ففي الرَّأسِ أكثْرِي
…
وَغودِرَ عنْدَ الملتْقَى ثَمَّ سَايري
هنالك لا أرْجُو حيَاة تسرُنِي
…
سَجِيسَ الليالي مُبسْلاً بالحرايرِ
أما ثابت بن جابر بن سفيان فهو من قبيلة (فهم) ويسمى تأبط شراً، وسبب ذلك أن أمه
أبصرته ذات يوم خارجا من الخباء إلى الخلاء متأبطاً سيفاً فسألها أحدهم (أين ثابت؟) فقالت: (لست أدري، لقد تأبط شرا وخرج) وهناك قول آخر بأنه قد خرج في بعض أموره فالتقى بغولٍ فشدّ عليه وجزّ رأسه ثم حمله إلى بيته على هذه الحال، فقيل له تأبط شرا. وإن الأبيات التالية التي يصور بها خاله شمس بن مالك لكفيلة بتصوير طبيعة الشاعر ونفسه تماما وهي انعكاس لعاداته:
قليلُ التَّشكي لِلْمهم يصيبُهُ
…
كثيرُ الهوى شتى النَوَى والمسالك
يّظل بِمَوْمَاة ويمسي بغَيرها
…
جَحيِشاً ويَعْرَوْرى ظُهور المهالِك
ويَسبْق وقْدَ الرِّيح من حيث ينتحي
…
بمنْخَرقٍ مِنْ شده المتَدَارِك
إذا حاصَ عَيْنيِه الكرى النَّوْم لم يزل
…
له كالئٍ مِنْ قلب شيَحْان فاتك
ويجعلُ عينيه ربيئة قلبه
…
إلى سلةٍ من حدِّ أخلق صائِك
إذا هَزَّه في وجه قِرن تَهللتْ
…
نوَاجذِ أفوَاهِ المنايا الضَّوَاحِكِ
يَرَى الوَحشة الأنس الأنيس ويهتدي
…
بحيث اهتدت أمُّ النجوم الشوائك
وهذه الأبيات السالفة تصف في دقة وتلم كل الإلمام بالفضائل الأولية العربية من شجاعة وخشونة وبأس. وهنا نرى لزاما علينا أن ننتقل بالقارئ إلى ناحية بعيدة بعض الشيء عن الناحية الأدبية، تلك هي الناحية الخلقية التي تعد من الأسس المهمة التي قام عليها كيان المجتمع الوثني الذي ليس لدينا من مرجع عنه سوى الشعر الجاهلي. لم يكن للعرب قانون مكتوب أو مرجع ديني أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان هناك ثمة قوة أجل من هذه وأعلى شأنا وأنفذ تأثيراً في نفوسهم، تلك هي (الشرف)، ولكن ما هي خصائص الشرف البارزة وميزاته الواضحة التي تنطوي عليها فضيلة المروءة كما كان يفهمها عرب الجاهلية؟ لقد أشرنا إلى أن شجاعة العرب تشبه تمام الشبه شجاعة الإغريق (يولدها ثوران النفس ولكنها تتلاشى إزاء الإبطاء أو التراخي ومن ثم كان البطل العربي رجل جلاد يقتحم الأهوال، ويزدري الأخطار، كثير الفخر كما يظهر لنا ذلك من معلقة عمرو بن كلثوم، وإذا رأى أن ليس لما يفوته بالهرب خطر عظيم أسرع غير مليم، ولكنه يحارب ويناضل حتى آخر رمق فيه ذابّا عن نسائه اللائي كنّ إذا جد الجد واشتبكت الرماح، صحبن القبيلة ووقفن خلف صفوف القتال:
لما رأيْتُ نِسَاءنا
…
يفْحَصن بالمغراءِ شدَّا
وبَدَتْ لميسُ كأنَّها
…
بَدْرُ السماء إذا تَبَدَّى
وبَدَتْ محَاسنُها التي
…
تخفَى وكان الأمْرُ جَدَّا
نَازلْتُ كبْشَهُمو ولمْ
…
أرَ مِنْ نِزَال الكبش بدَّا
وكانت الديمقراطية دستور القبيلة يتولى الإشراف على تطبيقه شيوخها الذين استحقوا السيادة بما لهم من شرف النسب، ونبل الأخلاق، وسعة الثروة، وحكمة الرأي، وكمال التجربة كما أشار إلى ذلك شاعر بدوي بقوله:
لا يَصلْح الناس فوْضى لا سراة لهم
…
وَلا سَرَاة إذا جَهَّالهم سادوا
والبَيْتُ لا يبتَنى إلا لهُ عمدُ
…
ولا عِمَاد إذا لمْ ترْسَ أوتادُ
وإن تجمع أوتادٌ وأعمدة
…
يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
(يتبع)
حسن حبشي
الفنون
الفن المصري
العقيدة الدينية أصل الباعث على الفن
للدكتور أحمد موسى
انظر إلى خريطة وادي النيل الطبيعية، تجد أن مصر واد جميل منبسط، لا تتخلله ارتفاعات ولا انخفاضات خصوصاً في المناطق المأهولة بالسكان، أما الأمطار فهي نادرة فيه، فضلا عن أن الشمس تسطع عليه طوال أيام السنة
وتفكير الناس وتكوين إحساسهم وليد البيئة التي يعيشون فيها. ولما كان الفن وليد دقة الإحساس وسمو التفكير، وجب أن يكون الفن المصري بسيطا سهلا، نظراً لبساطة الخيال المصري ولين شاعريته، على عكس الخيال الإغريقي مثلا
وكان المصري ولا يزال قليل الاستمتاع بجمال الطبيعة لندرة تغيرها، على حين نرى الإغريقي عظيم الإحساس بالجمال والاستمتاع به سريع التأثر بمظاهر الطبيعة المتقلبة، كثير السعي والبحث وراء ما فيها من جمال وفن. كل هذا راجع إلى اختلاف الطبيعي بين مصر وهي البلاد المنبسطة المكونة من قطعة واحدة غير منفصلة، وبين اليونان وهي جزائر سواحلها كلها تضاريس، فضلا عن كثرة الارتفاعات والانخفاضات في سطحها
وقد أوضحت شيئا يسيراً عن الفن المصري قبل التاريخ، وقلت إن الالتفات إلى الدين كان قبيل عهد الأسرات، وأن هذا الالتفات نما وأزداد حتى عصر مينا، الذي وحد بين الوجهين البحري والقبلي مكونا مملكة واحدة
وإذا استطعنا أن نفهم شيئا عن تطور العقيدة الدينية، فإنه يمكننا أن ندرك الفن المصري إلى حد الاستمتاع
أنعم المصريون النظر في الموجودات والمرئيات، واتجهوا بنظرهم إلى السماء، فتصور بعضهم أن القبة السماوية شيء أشبه ببقرة كبيرة رأسها متجه نحو الغرب، وأن بلادهم بين أرجلها، كما تخيلوا أن النجوم لا تخرج عن كونها زينة تتحلى بها
وتصور غيرهم أن السماء على هيئات امرأة انحنت متجهة بيديها ورأسها نحو الغرب،
وبأرجلها نحو الشرق، وأن النجوم حلى منثورة على بطنها وصدرها
وإذا فكرنا قليلا نجد التشابه في الفكرة عظيما، ولاسيما وأن الذين تخيلوا السماء على هيئة بقرة ظنوا أن الشمس تولد (تشرق) على هيئة عجلة صغيرة؛ وأما الآخرون الذين تخيلوها على شكل امرأة فقد ظنوا أنها تشرق على هيئة طفلة تسير من الشرق إلى الغرب، فلا تلبث أن تصير عجوزاً عند غروبها
ظل الحال كذلك حتى اتصل أهل مصر العليا بأهل مصر السفلى وتم التعارف بينهم، وتبادلوا التجارة وتفاهموا في شؤون الحياة وفي شؤون الدين
وكانت نتيجة هذا التعارف والتفاهم أن وجدنا أن هناك من رأوا الصقر يطير بسرعة، فتخيلوا الشمس مثله، تطير بجناحين من الشرق إلى الغرب. وكان أثر هذا الخيال عميقاً في الفن المصري، فترى الشمس قد رسمت بجناحين في مناسبات مختلفة
ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل نظر المصري إلى الماديات وأولها وادي النيل، فتخيله رجلا منبسطاً على الأرض، ظهره إلى السماء وعليه نمت النباتات، وعاش الإنسان والحيوان مستمدين الحياة من الشمس. وظنوا أن الدنيا تبدأ حيث بدأ النيل من ذلك المحيط اللانهائي جنوباً، وتنتهي حيث يصب شمالا
واعتقدوا أن هناك آلهة للماء وللأرض وللهواء، وتوسعوا في تصوراتهم فجعلوا للحياة إلها وللموت آخر، وللمسرات والحب غيرها وهكذا
وكانت عبادتهم للشمس قوية باعتبارها مصدر الحياة والنور، فاختاروا لها مدينة خاصة أسموها عين شمس (هليوبوليس) كما أسموا الشمس (رع) عند الشروق و (اتوم) عند الغروب.
ونظراً لدقة ملاحظتهم للقمر وإعجابهم بانتظام سيره الزمني، جعلوا منه منظما لزرعهم واعتبروه إلها للعلوم والآداب، واتخذوا بلدة الأشمونين (قريبة من المنيا) مقراً لعبادته
ورمزوا للسماء ببقرة رسموها في معبد درندرة (بالقرب من قنا) وبقطة في صا الحجر (بالقرب من كفر الزيات) وبلبؤة في ممفيس (بالقرب من البدرشين)
وكانت مصوراتهم التي رمزوا بها للآلهة بسيطة في أول الأمر، مما يدل على بساطة معيشتهم في ذلك الحين، كما أن رسوماتهم لها لا تدل على انهم أحبوا حيواناتهم حباً عظيماً
جعلهم يصورون رؤوس هذه الآلهة بصور تلك الحيوانات نفسها عند تدهور المدنية المصرية
وإذا دهشنا للعقلية المصرية من ناحية العقيدة الدينية، فإننا لا نندهش عندما نجد الكهنة يتركونهم مسترسلين في عقائدهم حتى بذلك يدوم لهم السلطان
وكانت هذه العقيدة، رغماً عن عدم انسجامها مع العقلية المصرية خير دافع للفن المصري بل وإلى الحضارة المصرية إجمالا، فكل ما وصل إليه المصريون من أبهة وعظمة كان عن طريق هذه العقيدة، وكل ما تركوه من آثارها لا يخرج عما شيدوه للدين
فإنشاؤهم المقابر والأهرام والمعابد، كل هذا لم يكن إلا لرسوخ العقيدة الدينية في أنفسهم. ولا يعنينا الآن وصف شيء من مقابرهم أو أهراماتهم؛ أما معابدهم فكانت إجمالا عبارة عن حوش محدود بحوائط تنتهي بصالة مستطيلة ذات أعمدة، وعلى يمينها ويسارها غرف لحفظ الأثاث والأدوات والهدايا، وضمن هذه الغرف مساكن الخدم
وخصصوا غرفة وضعوا في وسطها حجراً من الجرانيت المنحوت جيدا، جعلوه قاعدة لتمثال المعبود الذي كان أحيانا من الخشب المطعم بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، وبارتفاع يتراوح بين نصف متر ومترين
وكانت احتفالاتهم الدينية في أول الأمر بسيطة، ولكنها أخذت شكلا عظيما فيما بعد، فبدأوا يقيمون حفلاتهم الدينية التي كانت تتخللها الموسيقى والغناء والرقص
وقام الكل بتموين هذه المعابد بالمأكل والمشرب، ووصل بهم الحال إلى جعل الاشتراك في هذه الاحتفالات إجباريا فاشتركت البلاد من أقصاها إلى أدناها، وقدموا هداياهم إرضاء للمعبود لينالوا بذلك سعادة الدنيا والآخرة. وكان فرعون، وهو الحاكم المطلق للبلاد يقوم علاوة على مهمته المدنية بمهمة الكاهن الأكبر، وقد عين لنفسه نائبا في كل معبد، يقوم بتقديم القربان للمعبود: وبرئاسة المصلين الذين يدعون لفرعون بدوام الملك والأبهة. وكان من شأن الكاهن أن يقوم بالمحافظة على المعبد بمشتملاته وبمراقبة حساباته من إيراد ومصروفات
من كل هذا نرى أن الدين المصري دفع المصريين في إخلاصهم المتناهي له، إلى بناء المعابد والاهتمام بشأنها وتنميتها وزخرفتها. وكل هذا لا يخرج عن كونه الفن المصري
إجمالا، لأننا إذا ألقينا النظر على وادي النيل كله، وتأملنا ما تركه المصريون قديما، لا نجد إلا أهراما ومعابد ومدافن، وما بداخلها لا يخرج أيضاً عن متروكات ارتبطت بحياة الناس أو بموتهم
ويتلخص تاريخ الفن المصري كدراسة خاصة، في التوسع في وصف هذه الآثار ووضع قواعد لنماذجها وتطوراتها ورقيها وانحطاطها، وعلاقة ذلك بالحياة الاجتماعية في ذلك الحين، مع الاستعانة بما وجد على الجدران والسقف من كتابات ونقوش وزخارف، وما وجد من تماثيل وتحف ومحفوظات دلت بدرسها على ما وصلت إليه المدنية المصرية من مستوى يجعلها وحيدة فريدة بذاتها بين أمم العالم
ولاعتقاد المصريين في عودة الحياة إلى الجسم بعد الموت (البعث) فضل عظيم في إيجاد التقدير الهائل نحو الموتى الذين تمتعوا أثناء حياتهم بمشاهدة مقابرهم التي سيدفنون بها بعد موتهم
وفكرة شروق الشمس واعتقادهم بأنها تأتي معها بالحياة، وفكرة غروبها واعتقادهم بأنها تذهب ومعها الحياة، جعلتهم يدفنون موتاهم على الضفة الغربية للنيل في معظم الأحيان، ليمثلوا بذلك الموت في اظهر معانيه
وكانت هناك عقائد خاصة بحال الروح بعد الموت؛ فمن المصريين من اعتقد أنها تسكن عالماً آخر اسفل هذه الدنيا؛ ومنهم من ظنها تتحول إلى طير يطير بعد مفارقة الجسم إلى قرص الشمس ليعيش بجواره
وحرصهم على جثث موتاهم التي ستعود إليها الروح في وقت ما، جعلهم يمهرون في فن التحنيط، كما تفننوا في طريقة المحافظة على الموميات، فتراهم دفنوها دفناً منيعاً، بعد وضعها في تابوت من الخشب وضع في تابوت آخر من الصوان أو الحجر الجيري. وكانت مدافنهم على شكل الأهرام أو على المصاطب أو في جبانات عملت خصيصا
وكان الغرض من التحصين الحيلولة بين اللصوص وبين العبث بالجثث، وبما دفنوه معها من أدوات وجواهر وتماثيل الخ.
واشتملت حوائط غرف الأهرام والمصاطب والمقابر على كتابات ونقوش، كما اشتملت على رسومات تبين صاحب القبر يراقب الخدم أثناء اشتغالهم بخدمته والمحافظة على
راحته بعد موته.
وكانت العناية ببناء المقابر فائقة في كل أجزائها التكوينية والشكلية، وسهر نفر معين من الناس للمحافظة عليها نظير أجر معلوم حصلوا عليه من أصحابها.
أحمد موسى
من هنا ومن هناك
أونجين
لعل هذه التحفة النادرة هي أبدع ما نظم بوشكين الشاعر الروسي طول
حياته، وقد بدأها سنة 1823 وأتمها سنة 1831. وهي خيال طريف
لقصيدة بيرون ببو وإن تكن في صدقها وروعة فنها خيراً من ببو
ومن كل ما نظم بيرون على الإطلاق. ونلخص اليوم تحفته أونجين
التي تبذ كل ما كتب الأدباء الروس فنقول:
(بوجين أونجين أحد أبناء الطبقة المتوسطة من سكان بطرسبرج، حسن البزة، منسق الهندام، عنى أبوه بتربيته تربية رفيعة، وتوجيهه في الحياة وجهة خاصة، إذ وصله بالأستاذ لابيه فتفقه في الفرنسية حتى ثقفها وأصبح يتكلمها كواحد من أهلها. وكان مشغوفاً في ملبسه بالطراز الإنجليزي من نسق لندن. وأجاد بضع رقصات كان أحبها إليه (المازورقا) - وكان متأنقاً في عبارته، يتخير اللفظة الرنانة، ويصقل الحروف صقلا أرستقراطياً يزيد في فخامتها، ويضاعف موسيقاها. وطالما كان ينثر في حديثه أبياتاً من الأنييد (فرجيل) أو يستشهد بالحكمة اليونانية، والمثل اللاتيني، كأنما يريد أن يلفت السامع إلى تبحره في الأدب، ورسوخ قدمه في التاريخ، وإلمامه بعلوم الأولين. . . . . . والآخرين! وفي مشيته، بل في طعامه، بل في جلسته، بل في الإيماءة الصغيرة بطرفه، كان يتعمل تعملا ملحوظاً، وكأنما أورثه تعمله هذا رذيلة الاضطغان، والتبرم بجميع المخلوقات!. . . وكان أبوه رجلا متلافاً مبذراً، لا يكفي دخله المتوسط للمظهر الذي كان يبدو به بين الناس، وكان لذلك الاستدانة قليل السداد. . . يقيم في داره المراقص والمراقص. . . وهو في إفلاس وضيق ليس وراءهما إفلاس وضيق. فلما مات خلف تركة ثقيلة من الديون الفادحة، أتت على أخضره ويابسه
واشتد الضيق على أونجين فارتحل إلى عمه في الريف فوجده قد انتقل إلى الآخرة هو الآخر. وثمة تعرف إلى شاب ألماني حَدَث، واسع أفق الفكر، متشعب المعرفة، درس كانت وشيللر وهجل وأدباء الألمان، حتى ما يكاد ينطق إلا بكلامهم ولا يفيض إلا عنهم. ويقدمه
هذا الشاب (لنسكي) إلى عائلة مجاورة قوامها أرمل وابنتان، صغراهما أولجا، فتاة يافعة ممشوقة ساحرة اللفتات، رشيقة الحركات، علقها لنسكي من كل قلبه، وشغفه حبها حتى ما يفكر إلا فيها. والكبرى، تاتيانا، أقل جمالا من أولجا، وإن تكن أرجح عقلا، وأثبت جناناً، وأكمل أنوثة. ترى أونجين فتحس بزائر جديد يحتل قلبها دون أن يستأذن، وتشعر بانعطاف إليه يقرب أن يكون ولوعاً. وتكتب إليه بعد أن يكون التعارف قد اشتدت أواصره، وتعترف له بما تحس نحوه في أعماقها، في أسلوب صارخ، وعبارة مجلوة منتقاة، وكلمات تكاد تتوهج وتلتهب. وليس في أشعار العالم شيء يشبه ما نظمه بوشكين في رسالة تاتيانا هذه، بل ليس في فلسفة الحب صورة هي أروع ولا أصدق مما جاء في خطابها إلى أونجين. لقد كان قلبها يتكلم ويتضرم، وكانت نفسها الملتاعة الوامقة تسيل دماً على شباة القلم. ولقد قرأنا درة شللي (أبييسيكيديون) في الحب، ولكنا لم نلمس هذه الروح التي هبطت من وحي بوشكين في رسالة تاتيانا، ولم نلمح هذا القبس المقدس الذي أججه بوشكين العظيم في شعره العظيم. . .
ويرد أونجين على هذه الرسالة العلوية بخطاب فاتر بارد فيدعي فيه أنه لم يخلق للحب، ولا يفكر في الزواج. وأنه غير جدير بها، لأنه لم يشعر نحوها إلا بما يشعر به الأخ نحو أخته.
وإنهم جميعاً لفي مرقص، فتدعو أولجا الصديق أونجين إلى رقصة اختارتها، فينهض ملبياً طلبها، وما تنتهي الموسيقى إلا وقد جن جنون لنسكي من الغيرة، فينهض إلى أونجين وينتهره، ويتحداه تحدياً يهيجه، فتكون بينهما مبارزة هائلة يقتل فيها لنسكي - وتسود الدنيا في عيني أونجين، فيرحل عن هذا البلد ويتنقل في أطراف البلاد. . وتنتقل الأرمل بابنتيها إلى العاصمة حيث يتفتتن أحد أغنيها بتاتيانا، فيخطبها إلى أمها، وسرعان ما يصبحان زوجين سعيدين
ويلتقي بها أونجين فجأة في إحدى حدائق بطرسبرج، فتثور في نفسه الذكريات القديمة، ويهيج به ميله الماضي، فيبثها حبه ولكن. . ولكن. . الفتاة تدمع قليلا. ثم تصارح الفتى قائلة:
(أونجين! لقد أحببتك من صميمي، ولكنك استكبرت ورفضت حبي. . . وهأنا الآن زوجة.
وعلي واجبات. . . ولزوجي شرف، وله كرامة. . . وهو بحبه لي خير منك بعبثك عليَّ. . . أونجين. . . وداعاً!)
هذا ملخص مقتضب لهذه القصة الرائعة التي يخطئ مؤرخو الآداب فيقرنونها بدون جوان لبيرون
فن راسين (1639 - 1699)
يعتز الفرنسيون براسين اعتزاز الإنجليز بشاكسبير. ولكل من راسين وشكسبير ميزة يفضل بها أخاه، فراسين يحكم العقل في العاطفة ويسخرها له وبعكسه شاكسبير الذي يجعل العاطفة مسيطرة على العقل سيطرة تامة ويترك لها القياد فوق المسرح فتنتقل بالنظارة في آفاق شعرية جميلة صاخبة لا وجود لها في عالم الحقيقة. ولا يدري أحد أيهما يفضل أخاه ولا يستطيع أحد أن يحكم لأحدهما على الآخر
والذي يلفت النظر في فن راسين أنه مشيد على دعائم يونانية من فن سوفوكليس ويوريبيدز في حين تفيض فيه روح مسيحية عليها طابع قوي من جماعة الـ (أو الطهريين الفرنسيين) ثم يزين ذلك كله رواء من أبهة لويس الرابع عشر وفخامته.
ولكن يوريبيدز أقوى أثراً في راسين من كل شيء آخر. ولا غرو، فقد كان راسين يسير على درب الأديب البوناني الكبير ويمشي على منهاجه فلا يحيد قيد أنملة، اللهم إلا فيما يجعل دراماته ملائمة لعصر لويس العظيم. ففي (أندروماك) و (إفجنيا) و (فيدر) نلمس يوريبيدز في الأدب الفرنسي وتكاد المقارنة بينهما، وإن كان راسين قد لون فن أستاذه بمثل الألوان التي كان رافائيل يضيفها على صور لداته فيخلقها خلقاً آخر.
وليس شك في أن (أندروماك) خير درامات راسين جميعا. ولا نبالغ إذا قلنا إن أية درامة أخرى لم تجمع أشخاصاً ذوي عواطف شتى وأحاسيس متناقضة كما جمعت أندروماك. ولا نستطيع أن نعلل الأسباب التي إليها يرجع عدم نجاح هذه الدرامة العنيفة على المسرح المصري، إلا أنها قطعة كلاسيكية لم يعتدها الذوق المصري بعد. وهذا ما يؤسف له! وإذا كانت أندروماك قد جمعت كل هذه الشخصيات المتناقضة فبعكسها (فيدر) التي ازدحمت في قلب بطلتها متناقضات من عواطف غريبة ما برحت تتنقل وترتفع وتنخفض وتخبو وتشتعل حتى ختام المأساة. فقد أحبت فيدر ابن زوجها حبا شهوانيا اختلط بلحمها وخامر
قلبها، ثم جعلت تتلطف إليه، ثم أعلنت إليه أنها تحبه، وطفقت تراوده، ولكن الفتى أبى أن يخون أباه أو يغمس شرفه في الوحل، فتضرعت إليه، وانقلبت الضراعة فأصبحت مذلة وهواناً، فلما اشتط الفتى في تمنعه انقلبت المذلة فصارت حقدا وغيظا، ثم اضطرم الغيظ فصار شرا تضمره فيدر ويمزق فؤادها. . . ثم اتهمت الفتى لدى أبيه أنه يراودها عن نفسها. . . فوقعت المأساة! فأنت ترى - إن كنت قد قرأت أندروماك أو شهدتها على المسرح - أن العواطف المتناقضة التي توزعت على أبطال أندروماك قد اكتظت كلها في نفس فيدر؛ وهذا عمل فتي خالد لم يتح لكاتب مثل راسين.
كذلك قد قلد راسين الشاعر الكوميدي اليوناني أرسطوفان في ملهاته التي احتذى فيها الكوميدية اليونانية (الزنابير!) والتي أضحكت لويس الرابع عشر حتى ذهبت بوقاره المعروف عنه!
البريد الأدبي
وثيقة فرعونية عن المعاملات الشخصية
اقتنى متحف شيكاجو أخيراً وثيقة مصرية قديمة يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد بنحو مائة عام، أعني إلى أواخر عهد البطالسة تدل على أن المصريين القدماء كانوا يجرون في القروض الشخصية على قواعد وأوضاع اقتصادية صارمة. وإليك خلاصة ما نصحت عليه الوثيقة المذكورة التي حل رموزها الدكتور ناتانيل ريش العلامة الأثري، على لسان المقترض:
(أنا العبد انسناكومني التابع لمقبرة زيمي، قد اقترضت من المرأة نخوتسي 22. 5 إردباً من القمح. وأتعهد برد هذا القرض مع أداء مثله بصفة ربح ليكون المجموع 45 إردباً.
(وأن يكون الأداء من قمح حسن لا غش فيه، ويكال بنفس الكيل الذي استعمل في القرض، كما أتعهد بأن أحمل القمح المذكور إلى منزل المرأة نخوتسي متحملا نفقات الإرسال، وذلك في آخر يوم من الشهر التاسع من السنة التاسعة دون طلب امتداد الميعاد، فإذا لم استطع أن أؤدي القمح في الميعاد المذكور فأتعهد بأن أدفع في الشهر التالي عن كل إردب ستين قطعة من الفضة
(ولا حق لي مادام هذا الإيصال في يد نخوتسي أن أدعي الوفاء كله أو بعضه، هذا مع إقراري بأن كل ما أملكه الآن أو أملكه في المستقبل يكون رهناً لذمة نخوتسي حتى أؤدي الدين كاملا، فإذا اضطرت نخوتسي إلى مقاضاتي من أجل الوفاء فإني أتحمل كل ما يترتب على ذلك من التعويضات، هذا مع اعترافي باتباع كل ما يأمر به وكيل نخوتسي في كل وقت بلا معارضة ولا ممانعة).
نقول: فهل يستطيع رجل القانون المعاصر أن يكبل المدين لمصلحة الدائن بأوثق من هذه القيود؟
ذكرى بوشكين عميد الشعر الروسي
احتفلت حكومة جمهورية اتحاد السوفيت، وروسيا كلها، في اليوم الحادي عشر من فبراير بالذكرى المئوية لوفاة الشاعر بوشكين أعظم شعراء روسيا الحديثة، وأطلق اسم الشاعر بهذه المناسبة على متحف الفنون الجميلة في موسكو، وعلى مسرح لننجراد كما أطلق اسمه
على عدة من الشوارع الهامة في العاصمتين، وأطلق أيضاً على مدينة (دتسيكو زيلو) التي نشأ فيها الشاعر وتلقى تربيته. ويعتبر اسكندر سرجيفتش بوشكين في الواقع شاعر روسيا القومي كما يعتبر شكسبير شاعر إنجلترا، وجيته شاعر ألمانيا. وكان مولد الشاعر سنة 1799 في موسكو، ولما انتهى من دراسته القانونية في عين وظيفة بوزارة الخارجية، وفي سنة 1822، ذهب إلى جنوب روسيا وزار القوقاز، وألهمته هذه الزيادة موضوع روايته الشعرية الشهيرة (سجين القوقاز)، ثم أخرج قصيدته الرائعة (ثناء نابليون) وكتاباً شائقاً في حياة النور. واتهم بوشكين في تلك الآونة في عدة مؤامرات سياسية، ولكنه استطاع أن يفلت من العقاب نظراً لمكانة أسرته. وفي سنة 1824 استقال من وظيفته لخلاف بينه وبين رؤسائه وتفرغ للكتابة والنظم. وأخرج في العام التالي مأساته الشهيرة (بوريس جودونوف) وهي القطعة الخالدة التي حررت المسرح الروسي من نفوذ المسرح الفرنسي، ودفعت التأليف المسرحي في روسيا إلى وجهة قومية جديدة، وفي سنة 1828، ظهرت (بولتاوا) وهي قصة شعرية عن أيام بطرس الأكبر، ثم وصف شائق لرحلته الثانية في القوقاز، وعاد بوشكين إلى سلك الوظائف سنة 1831، وكتب تاريخاً للثورة القوقازية التي وقعت يومئذ، ثم أخرج بعد ذلك قصته الرائعة (ابنه الكبتين)، ثم قصيدة (أوجين أونجين) وهي في نظر النقدة أبدع ما نظم. وهي مزيج من الفكاهة والتهكم والقصص، يبدو فيها أثر اللورد بيرون واضحاً جلياً، وهو أثر يبدو في كثير من قصائد بوشكين الأخيرة. وفي فبراير سنة 1837 وقعت بين بوشكين وبين البارون ذايتس الذي اقترن بأخت زوجته تاتاليا جورشاروف مبارزة جرح فيها بوشكين جرحاً أودى بحياته، وبذلك انتهت حياته القصيرة الباهرة.
حول التاريخ الألفي للأزهر
كتب كاتب في جريدة الجهاد الغراء مقالا يستعرض فيه قصة اللجنة التي أنشئت منذ ثلاثة أعوام لكتابة تاريخ شامل للجامع الأزهر لمناسبة عيده الألفي الذي تقرر الاحتفال به عند حلوله في أوائل سنة 1359هـ؛ وذكر الكاتب أن اللجنة المذكورة قد عقدت بضعة اجتماعات، وأن لجنة فرعية من بعض الأعضاء ألفت لوضع برنامج لتاريخ الأزهر، ثم لم يسمع بعد ذلك شيء عن اللجنة ولا عن أعمالها
وما ذكره الكاتب عن اللجنة صحيح في مجموعه، بيد أن هنالك بعض حقائق غابت عنه ولا بأس من ذكرها بهذه المناسبة، ذلك أن إنشاء هذه اللجنة كان نتيجة للقرار الذي اتخذته مشيخة الأزهر في عهد شيخه السالف بالاحتفال بالعيد الألفي للأزهر؛ فلما تغيرت المشيخة بعد ذلك بقليل، رأى فضيلة الشيخ الحالي أن يرجئ جميع الأعمال الخاصة بالعيد الألفي لأنه في رأيه لا يزال ثمة فسحة كبيرة من الأجل، وبذا تعطل عمل اللجنة دون حلها، هذا في حين أن اللجنة كانت قد قطعت بالفعل مرحلة تذكر في سبيل إنجاز برنامجها، وكانت اللجنة الفرعية التي ألفت لوضع برنامج العصر الفاطمي قد وافقت على البرنامج الذي وضعه أحد أعضائها الأستاذ محمد عبد الله عنان، ووزعت مواده بالفعل على بعض أعضاء اللجنة العامة، وأنجز بعض الأعضاء ما عهد إليهم بكتابته وفي مقدمتهم الدكتور حسن إبراهيم حسن، والأستاذ عنان، ثم وقفت اجتماعات اللجنة واجتماعاتها عند هذا الحد
وقد ظهرت أثناء مباحث اللجنة ومناقشاتها حقائق تلفت النظر؛ من ذلك أن أقطاب المشيخة قد لمحوا أكثر من مرة إلى أن التاريخ المراد وضعه للأزهر يجب أن يكون في مجموعه وفي روحه نوعاً من التاريخ الرسمي، وأنه يراد أن تخص منه عصور معينة دون غيرها، وأن العناصر السياسية أو المذهبية التي يحفل بها تاريخ الأزهر يجب إلا تمثل فيه، وكانت هذه التلميحات والرغبات داعية دهشة أعضاء اللجنة (المدنيين) ولاسيما المتخصصين منهم في التاريخ، وقد علقوا عليها بأكثر من مرة بأنه يجب إذا أريد أن يوضع تاريخ ألفي للأزهر فيجب أن يكون تاريخاً بالمعنى الصحيح، وعلى هذا سارت اللجنة الفرعية في عملها
وثمة حقيقة أخرى كانت موضع النضال، وهي أنه ظهر خلال المناقشة أن المشيخة تريد أن تنتفع بجهود العلماء المتخصصين في التاريخ، لينسب المؤلف فيما بعد في مجموعة إلى (مشيخة الأزهر)؛ ولكن هذه النقطة كانت موضع الاعتراض الشديد إذ أصر الأعضاء المدنيون على أن ينسب كل فصل إلى صاحبه على طريقة المؤلفات العلمية الأخرى
هذه بعض حقائق عن لجنة التاريخ الألفي للأزهر تجدر إذاعتها؛ وإذا كان لنا أن نعلق على هذا الموضوع بشيء، فهو أن تأليف اللجان الحاشدة ليس وسيلة لكتابة التاريخ، وأن كتابة التاريخ الصحيح قد أصبحت في عصرنا علماً حقيقيا لا يستطيع أن يضطلع به إلا
المتخصصون فيه
هذا وإنا لنأمل أن يكون لمشيخة الأزهر في عهدها الجديد في هذا الموضوع نظرة أوسع آفاقاً، وأوفر سداداً وتوفيقاً
الذكرى السنوية الأولى للزهاوي
ستقيم وزارة المعارف العراقية حفلة تأبينية للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي ببغداد يوم الجمعة 12 مارس سنة 1937، دعت إليها نفراً من كبار الأدباء في البلاد العربية، ثم أرسلت لجنة التأبين إلى جمهرة أخرى من الكتاب هذا الكتاب:
وبعد فإني أتشرف بإخباركم بأن حفلة تأبينية كبرى ستقام في بغداد يوم الجمعة المصادف 12 مارس1937 إحياء للذكرى السنوية الأولى لوفاة شاعر العرب الكبير الفيلسوف الحكيم السيد جميل صدقي الزهاوي الذي خدم الأدب العربي مدة نصف قرن
ولما كنا نعتقد بأن حضرتكم ترغبون في الاشتراك في رثاء الفقيد الطيب الذكر نرجو أن تتكرموا بما تجود به قريحتكم في هذا الشأن ليتلى في الحفلة التأبينية أو يثبت في الكتاب المزمع نشره تخليداً لذكرى الراحل الكبير. . .
تأبين الزهاوي في وزارة المعارف ببغداد
الكتب
المتنبي مع طه حسين
للدكتور محمد عوض محمد
إن الذين يطالعون الكتاب الذي بين أيدينا على أنه كتاب لطه حسين في المتنبي سيخطئون القصد ويفوتون على أنفسهم اللذة الحقيقية والمتعة العظيمة التي يستطيعون أن ينالوها من مطالعة هذا الكتاب على الوجه الصحيح: أي على أنه كتاب أدبي أو قصة أدبية شائقة لها بطلان المتنبي وطه حسين معاً. فليس الكتاب بحثاً تاريخياً جافا، أو نقداً موضوعياً، بل قصة ممتعة تشترك فيها شخصية المؤلف الأديب وشخصية المتنبي المدهشة. . . ولهذا يجمل بنا أن ندعو الكتاب طه حسين مع المتنبي، أو المتنبي مع طه حسين؛ كما ينادون في بعض المطاعم على الأصناف اللذيذة بأن يقولوا فراخ مع الأرز، أو كوارع مع الفتة. . .
فالكتاب الذي نحن في حديثه الآن اسمه الصحيح إذن هو المتنبي مع طه حسين. . . .
والمتنبي مع طه حسين مظلوم!. . فقد كان طه حسين معرضاً عنه إعراضاً تاماً؛ وظل معرضاً عنه زمناً كدنا إلا نعرف له آخر. . وقد قرر طه حسين أن يعرض عن المتنبي كل هذا الأعراض، منذ أن كان يطلب العلم في الأزهر الشريف. ثم لم يزل معرضاً عنه ممعنا في الإعراض. لا يستمع لصوته القوي، ولا يستجيب لندائه العذب. وهو يستعين على هذا الإعراض بضروب من الوسائل؛ فجعل يضع القطن الغليظ في أذنيه، ويقيم الحجب والجدران بينه وبينه، ويقول له: ابعد عني! لا أريد أن أصغي إليك. . .
وهكذا ظل المتنبي يهيب بالأديب الكبير، والأديب الكبير ليس له - كما تقول العامة - سوى أذن من طين وإذن من عجين
ولكن لم كل هذا الإعراض، أو التجني، أو التمتع؟
سيقول لك خلطاؤه الذين لا ينظرون إلا إلى ظاهر الأمور إن إعراض طه حسين يرجع إلى الخصومات التي تنشأ بين الطلبة، وتذهب بهم في التشيع الأدبي مذاهب مدهشة، فكان يكفي أن ينادي زيد بأن الطائي شاعر كبير، لكي يخاصمه في ذلك عمرو وبكر وخالد؛ وكان يكفي أن يشتد إعجاب بكر بشعر المتنبي ويسرف في مدحه، حتى يتألف عليه الآخرون، ويقاطعوا المتنبي المسكين من غير جريرة ولا ذنب
أقول إن هذا ما يزعمه الزاعمون. وقد يكون هذا ما يزعم طه حسين نفسه إذا سألته عن سبب إعراضه الطويل. ولكن الحقيقة أعمق وأبعد غوراً من هذا كله: وقد خفيت حتى على المؤلف نفسه. ذلك أن طه حسين كان يحس - إحساساً مبعثه الإلهام الذي لا حول له فيه ولا قوة - أن شعر المتنبي متعة هائلة أولى به أن يدخرها، وأن يؤجل التمتع بها كما يترك المرء أطيب الثمار إلى آخر الوجبة، بادئاً بالفج الثقيل منها. قال لي بعض الناس مرة: هل رأيت إيقوسيا؟ قلت: لا! قال فإني أحسدك على هذا اشد الحسد. إني لأعطي كل ما عندي لكي أرى إيقوسيا للمرة الأولى!
ومن هذا الجامد البخيل الذي لا يعطي كل ما عنده لكي يدرس شعر المتنبي للمرة الأولى؟
ذلك هو السبب الحقيقي لهذا الإعراض الطويل؛ وكان لابد لصاحبه إذا سأله لماذا لا تعنى بدراسة المتنبي أن يجيبك بأعذار ينتحلها انتحالا، وإذا هو يصطنع خصومة بينه وبينه، وقد ينتهي به الأمر إلى تصديق هذه الأعذار والإيمان بأن تلك الخصومة المفتعلة تقوم على أساس أو شبه أساس.
إلى أن جاء الوقت، واستطاع المتنبي أن يرغم طه حسين على أن يسهر مع الساهرين من اجل شوارد شعره التي كان ينام عنها هو ملء جفنه. وأن يكب على دراسة المتنبي انكبابا عجيبا، وأن يقيم للمتنبي أسبوعا كان من أجل وأروع أسابيع الجامعة المصرية، وأن يصطحب المتنبي معه إلى أوربا، وأن ينزله معه في الباخرة وفي القطارات وفي مختلف الفنادق والديار!!
وهكذا اضطر طه حسين إلى أن يرى نفسه - على كره منه كما يقول - منصرفا إلى دراسة المتنبي، وأن يبادر إلى المتعة التي ادخرها لنفسه هذا الدهر الطويل، وأن يسلط على هذه الدراسة ما وهبه الله من ذكاء خصب، واطلاع واسع، وملاحظة دقيقة، وقدرة على استنباط الحقائق من ايسر المعلومات التي يمر بها الناس مرا دون أن يروها. . ثم استطاع بعد ذلك أن يصور لنا المتنبي، فإذا نحن نحسه وإذا نحن نلمسه، وإذا نحن نراه ماثلا أمامنا، وإذا نحن نسير وإياه جنبا إلى جنب، وإذا شخصية المتنبي تبرز لنا من وسط هذه الصفحات بروزا غير محاط بلبس ولا إبهام
وطه حسين الذي أبدع هذه الصورة يقول لنا مع إنه ليس من المعجبين بالمتنبي،
المشغوفين بشخصه وفنه، ولكنه لحسن الحظ لا يطلب منا أن نصدق كلامه هذا بل يقول لنا إننا مخيرون في أن نرى أن هذا الكلام يصدر عن تفكير أو هذيان أو شذوذ وجموح (ص70). . وأنا أفضل الرأي الأخير. . ومن الممكن للمصور البارع الذي أبدع الصورة وجلاها للناظرين أن يزعم أنه لا يحب صاحب هذه الصورة ولكنه لم يجد بين الناس من يصدقه
ليقل طه حسين إذن في علاقته الشخصية بالمتنبي ما يشاء. فإن القراء قد ظفروا منه على كل حال بكتاب ممتلئ حياة وقوة. ليس المتنبي فيه اسما يذكر وأشعارا تتلى وجدالا يسرد، بل شخصا حيا يسعى ويعمل، ويحس ويشعر، ونحن نشاركه كل هذه الحياة. واستطعنا بسبب هذا كله أن نزداد حبا للمتنبي وعطفا عليه. وهي نتيجة لم يكن المؤلف يريدها أو يفكر فيها. كذلك استطعنا أن نعجب بالمؤلف حين ينصف المتنبي، ويبرز الخفي من أركان هذه الحياة الثائرة العجيبة. واستطعنا أيضاً أن ننظر شزرا حين نرى المؤلف يحمل على المتنبي حملات أقل ما يقال عنها إنها لا تتفق مع ما يذكره المؤلف نفسه عن المتنبي حين يتناسى ما بينهما من الحزازات القديمة
ليس من الممكن هنا أن نعدد محاسن هذا الكتاب الذي قلما خدم شاعر في العربية كما خدم به أبو الطيب. وسيرى القارئ من غير مشقة كيف استطاع المؤلف أن يزيد لذتنا ومتعتنا بأشعار المتنبي أضعافا مضاعفة، فقصيدة مثل (وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه) ونحوها. أصبحنا بعد أن صورت لنا حياة المتنبي والظروف المعقدة التي أنشدت فيها تلك القصائد - نرى فيها حياة وقوة وعمقا لم نكن نحس له وجودا
ومع هذا - وبعد هذا كله - فالمتنبي مع طه حسين مظلوم. لأن طه حسين لم يستطع دائما أن ينسى ما بينه وبين المتنبي من خصام، بل يتذكر هذا الخصام أحيانا فيعود إلى ظلم المتنبي، ويمعن في التشنيع عليه. أنظر إليه حين يريد أن يوهمنا بأن المتنبي مداح كسائر المداحين وأنه ينكر نفسه كلما اقتضت منه المنفعة العاجلة إنكارها. ويريد منا أن نصدق هذا، وهو نفسه الذي يرينا في صراحة وجلاء كيف أعرض المتنبي عن مدح اسحق بن كيغلغ ولم يعبأ بتهديده ووعيده. مع أن المنفعة العاجلة كانت تقضي من غير شك بإنكار النفس وبذل المدح
ونحن نرى المتنبي لا يكتفي بهذا بل يهجوه هجاء مراً، ذلك لأن المتنبي كان غاضباً من هذا الرجل الذي أبى أن يقبل منه المدح فيما مضى، فجازاه المتنبي على إعراضه بأن أعرض عنه يوم أضحى شاعرا مشهوراً.
هذا كله لا يمكن أن يذكر للمتنبي إلا بالخير. فانظر كيف يصور لنا المؤلف هذا الحادث: (فلا تسل عن كبرياء الشاعر وما امتلأت به نفسه من الزهو والغرور، وإذا هو يمتنع على الأمير ويأبى أن يجيبه إلى المدح الذي رغبه فيه، ويحتال الأمير في ذلك فلا يوفق. وتشق عليه هذه الإهانة فيمسك الشاعر في طرابلس، ولا يخلي بينه وبين السفر، وإنما يمسكه سجيناً كالطليق، وطليقا كالسجين)
والمنطق السليم يقضي بأن مسلك أبي الطيب هذا ينطوي على كثير من العزة والشمم، ولا يدل مطلقاً على أنه يطلب العاجلة، فينكر نفسه. ولابد للمنصف أن يرى أن عبارة المؤلف في وصف ذلك الحادث قاصرة لم يمهلها الإنصاف، بل أن للحزازات القديمة أثراً فيها
وفي حياة أبي الطيب أمثلة من الوفاء والإخلاص، استطاع المؤلف أن يحولها إلى أمثلة من التزلف والخوف. انظر مثلا إلى الحادث الشهير يوم أن غضب أبو العشائر على أبي الطيب وأرسل غلمانه وراءه فرماه أحدهم بسهم وقال خذها وأنا غلام أبي العشائر. فأنشد أبو الطيب هذه الأبيات العجيبة الساحرة:
ومنتسب عندي إلى من أحبه
…
وللنبل حولي من يديه حفيف
فهيج من شوقي وما من مذلة
…
حننت ولكن الكريم ألوف
وكل وداد لا يدوم على الأذى
…
دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً
…
فأفعاله اللائي سررن ألوف
ونفسي له - نفسي الفداء لنفسه،
…
ولكن بعض المالكين عنيف
فإن كان يبغي قتلها يك قاتلا
…
بكفيه فالقتل الشريف شريف
وليس هنا مجال لسرد الحادث كله، ولكن العجيب أن سرد المؤلف له يضع الذنب كله على المتنبي، لأنه أهمل مدح أبي العشائر وكأنه يلتمس العذر لهذا الرجل في غدره بأبي الطيب
لقد قرر المؤلف في نوبة من نوبات الظلم التي كانت تعاوده وهو يملي كتابه هذا: أن المتنبي (عبد للطمع والمال، لا للجمال والفن.) ولم يجد من الحوادث والأشعار مساعداً له
على تأييد هذا الرأي، فاضطر إلى أن يصبغ الحوادث بالصبغة التي تتفق مع هذا الظلم، وأن يلتمس للشعر الخالص البريء أسباباً غير خالصة ولا بريئة
وقد وجد الأستاذ المؤلف نفسه في مأزق حرج أمام قصيد المتنبي (وا حر قلباه ممن قلبه شبم) فقد رأى المؤلف إنها قصيدة لا يمكن أن تصدر عن رجل خلقه الأساسي أنه عبد للطمع والمال لا للجمال والفن. فماذا يفعل بهذه القصيدة التي إن دلت على شيء فإنها تدل على أن المتنبي رجل خلقه الأساسي الشمم والأباء. لم يكن للمؤلف بد من أن يمر بهذه القصيدة مراً، وأن يختصر الكلام عنها، وعن الحادث الذي تدل عليه اختصاراً. وأن يعتذر عن ذلك بأن الناس قالوا فيها فأكثروا. . أما ما اشتملت عليه القصيدة من الفن الهائل فأنه لا يظفر من المؤلف إلا بالعبارة الآتية: نلاحظ مسرعين أن المتنبي قد وفق فيها إلى حظ لا باس به (كذا) من الإجادة الفنية. . سلك طريق ابن الرومي فألح في العتاب حتى كاد يبلغ الهجاء. وأسرف في المدح ليصلح ما أفسده بالعتاب.)
هذا كل ما يقوله عن هذه القصيدة هذا المؤلف العجيب الذي يخصص ست صفحات من كتابه لقصيدة (كفرندى فرند سيفي الجراز)
ونحن نلاحظ هنا أمراً مدهشاً قد ساق المؤلف إليه إصراره على تجاهل هذه القصيدة. .
ولنمر أولا - مر الكرام، على قوله أن بها حظا لا باس به من الإجادة الفنية، ولكننا نقف قليلا عند قوله إن المتنبي أسرف في المدح ليصلح ما أفسده بالعتاب)
إن أقل إلمام بهذه القصيدة يرينا أن ما اشتملت عليه من المدح ليس من النوع الذي يوصف بالإسراف. ومهما يكن من شيء فإن هذا المدح مقدم في أول القصيدة، لا لإصلاح ما أفسده العتاب، بل توطئة للعتاب القاسي واللوم المر؛ والقصيدة تزداد شدة وعنفا كلما اقتربنا من النهاية؛ حتى تنتهي فعلا بتهديد سيف الدولة بالانصراف عنه والرحيل من دياره
وهذه القصيدة تدل على براعة فنية هائلة، وعلى خلق متين وعر. ولذلك لا نتفق مع الدعوى بأن المتنبي عبد للطمع والمال، ذليل للملك والسلطان، ولذلك تجاهلها المؤلف ومر بها مرا سريعاً. . .
وبعد فليست بي حاجة لأن أدلي بأمثلة أخرى يظهر فيها ما بين المؤلف والمتنبي من خصومة قديمة. . ففيما ذكرناه كفاية لأن يرى القارئ أن المتنبي مع طه حسين مظلوم.
ولكن من العدل أن نقرر أن طه حسين كثيراً ما كان ينسى هذه الخصومة. والكتاب ممتلئ بقطع عديدة، استطاع المتنبي أن يثأر بها لنفسه، وأن ينال من المؤلف كل إنصاف وتقدير بالرغم منه
والمواقف الظالمة التي وقفها المؤلف من الشاعر هي من الوضوح والظهور بحيث لن يخطئها القارئ؛ ونحن لا نشك في أنها البقية الباقية من أيام العهد القديم حين كان بعضنا يتعصب للمتنبي وبعضنا يتعصب عليه، وكان طه حسين دائما من الفريق الثاني. .
ولكننا برغم هذا التحامل - بل لسبب هذا التحامل - سنجد في مطالعة هذه الفصول متعة شائقة، بحيث لا يمكن أن نتناول الكتاب ثم نلقيه قبل أن نفرغ منه
يجب أن نطالع هذا الكتاب لا على أنه تاريخ أو نقد، بل على أنه قطعة أدبية فنية، تمثل صورة وتقص قصة. ولك أن تطالعه إذا شئت على أنه كتاب لطه حسين عن المتنبي. ولكنك بهذا ستضيع على نفسك لذة عظيمة ومتعة فائقة. فالوجه الصحيح للتمتع بهذا الكتاب هو أن تقرأه على حقيقته التي كشفت لك عنها في أول هذا المقال. فالموضوع الصحيح هو المتنبي مع طه حسين. أو إذا شئت اصطلاحا حسابيا فقل:(المتنبي مضروبا في طه حسين) فالكتاب هو حاصل هذا الضرب
وبهذا الاعتبار أو ذاك ستجد في مطالعة الكتاب لذة جديدة لم تكن تتاح لك من قبل. ولو كان في هذا الزمان إنصاف لشكرني الناس على الكشف الذي كشفت والهدي الذي هديت، ولكنا في زمن كما يقول صاحبنا:
إنا لفي زمن ترك القبيح به
…
من أكثر الناس إحسان وإجمال
والآن فبالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن عشاق المتنبي أسجل هنا ما أحرزناه من النصر بانضمام عدو عنيد إلى صفوفنا.
محمد عوض محمد
العالم المسرحي والسينمائي
على مسرح الأوبرا
موسم الدرامة الإنجليزي
لناقد (الرسالة) الفني
كان للمظهر الفني البديع الذي ظهرت فيه فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية في العام الماضي ما جعل وزارة المعارف العمومية تستقدمها في هذا العام أيضاً لتحي موسم الدرامة الإنجليزي على مسرح الأوبرا الملكي
ويذكر قراء الرسالة أنه سبق لنا الحديث عن هذه الفرقة وعن مقدرة مخرجها المستر (هلتن ادواردز) الذي يعمد في إخراج رواياته إلى الطريقة الإيمائية إذ يراها وسيلة لأشغال بال رواد المسرح وتفكيرهم فيكونون بذلك عنصرا من عناصر الرواية والتمثيل. وعنده أن من يقصد المسرح يجب أن يجلس منتبه الحواس لكل كلمة وكل حركة أو إشارة تبدو من الممثلين في حين أن من يقصد السينما يجلس في مكانه هادئ البال مرتاح الفكر يرى الأشياء تعرض أمامه عرضا سهلا لا يكلفه عناء لأن المدير الفني يجعل عدسة التصوير تحصر أمامه ما يريد أن يوجه الأنظار إليه.
وليس من شك في أن طلبة البكالوريا هذا العام سيقصدون دار الأوبرا لمشاهدة رواية (لابورنم جروف) المقررة عليهم فنرجو أن ينتبهوا إلى طريقة المخرج وفكرته في الإخراج: من استعمال المنظر الواحد لتمثيل مشاهد ومناظر متعددة مستعينا بالإضاءة وبالنظارة في تخيل المنظر المتجدد وما إلى هذا من الطرق التي لم يألفوها في المسرح المصري؛ فعليهم إلا يضيقوا بما يرون وأن يحاولوا إدراك مرامي هذا المخرج وأن يتتبعوا الممثلين فيستمتعوا بالقصة والتمثيل
وممثلو الفرقة ليسوا في حاجة إلى أن أتحدث عنهم، فهم على جانب عظيم من النبوغ والمقدرة لاسيما الممثل الأول المستر ميكائيل ماك ليمور الذي نال إعجاب النقاد ورواد المسرح في العام الماضي عندما مثل هملت وروميو في روايتي شكسبير وكذلك المستر
هلتن ادواردز الذي أبدا مهارة فائقة في أداء دور الملك في روايات هملت والكابتن شاتوفا في رواية (بيت القلوب المحطمة) لبرناردشو.
وقد ضمت الفرقة إلى مجموعتها السابقة ممثلا كبيرا هو المستر (آنيوماك ماستر) الذي يزور مصر للمرة الأولى وقد اشتغل في أكبر مسارح الوست اند بلندن وقام بتمثيل كثير من الأدوار الرئيسية منها عطيل في رواية شكسبير
هذا وستمثل الفرقة مجموعة طيبة من الروايات التمثيلية لأكبر الكتاب الأيرلنديين والإنجليز والإيطاليين منها: (مدرسة النميمة) لشريدان، (أهمية انتحال اسم إرنست) لأوسكار وايلد (صورة في الرخام) لهازل إليس، (عطيل)، (الليلة الثانية عشرة) لشكسبير، (لابورنم جروف) لبريستلي، (ملاك الموت في إجازة) لالبرتوكاسللي وغيرها.
ملاك الموت في إجازة
هي مهزلة خرافية ألفها الكاتب الإيطالي (البرتوكاسللي) ونقلها إلى الإنجليزية (والتر فريس) فكرته عجيبة وطريفة حببت رجال السينما إلى إخراجها على الشريط وقد عرضت في موسم القاهرة الماضي.
لاحظ ملاك الموت أن الناس يخشونه ويفزعون منه فأراد أن يعرف سر هذا الفزع وسر بغض الناس له وأن يدرك بنفسه ما يحبب الناس في الحياة والخلود.
نزل إلى الأرض كظل أو طيف يرى، وبينما هو يطوف إذ يشاهد قصرا للدوق (لامبرتو) عامرا بالضيوف فيمر بالحديقة ويلتقي بفتاة جميلة تدعى (جرازيا) من اللواتي يعشقن الخيال والجمال والشعر فتفزع منه
ويظهر الموت لرب الأسرة ويفصح له عن حقيقته وأنه سوف يتجسد في صورة إنسان ويأتي إلى القصر باسم الأمير (ساركي) حتى يستطيع في معاشرته للضيوف أن يلمس السر الذي أتعبه وأقلقه كثيرا ويطلب إلى الدوق أن يكتم السر خلال أيام ثلاثة يقضيها بينهم عاطلا لا يموت فيها إنسان ولا تسقط ورقة من شجرة أو تذبل زهرة.
اختلط الأمير ساركي بين الضيوف فأحسوا بشيء من التغيير في حياتهم، فهذا شيخ عجوز أحس بدم الشباب يجري في عروقه وعاد له النشاط والمرح وتذكر الحب، وهذه فتاة تحب الأمير وتختلي به، فلما يحدق فيها وتحدق فيه ترى في عينيه عمقا يفزعها وتكاد تلمس
سره فتصرخ خائفة، فيقول لها إنها لم تحبه وأن كل ما تحس به هي (عاطفة الساعة) وأحب ملاك الموت (جرازيا الصغيرة) وأحبته هي ورأى أنها تختلف عن الفتاة الأخرى تماما. ولما أخبرها أنه سيرحل بعيدا عن هذه البلاد طلبت إليه أن يأخذها معه، فلما بين لها صعوبة ذلك عليه وعليها قالت له إن الحياة بدون الحب لا تساوي شيئا.
ويعرف رب القصر بحبهما ويضطر أن يصرح لضيوفه بالسر الرهيب فيتبدل مظهرهم ويفزعون، وهذا الشيخ المرح قد عادت إليه الكآبة وثقل السنين، وهذه الزهور تذبل، ولكن أم الفتاة والدوق يخشيان أن تذهب الفتاة الصغيرة مع ملاك الموت دون أن تدري حقيقة أمره فيطالبونه أن يصرح لها بالحقيقة كاملة، ولكنه يخشى أن يفقدها إذا هي عرفت ولكن أمام الواجب يفهمها رويدا رويدا ومع ذلك لا تفزع. فيتغير من إنسان إلى طيف فلا ترى فيه هذا التغير وترجوه أن يأخذها معه حتى إلى الفناء وتسير إليه فيفتح لها ذراعيه وتسقط أوراق الأشجار ويستأنف الموت مهمته في الحياة). وهكذا أراد الموت أن يهزأ من الناس فهزأ الناس منه)
استطاع المخرج أن يصور الطيف والظلال التي تسقط على الحجرات في صورة بديعة كان لها الأثر المطلوب في نفوس النظارة، وكانت الإضاءة غاية في السرعة، وقام المستر ميكائيل ماك ليمور بدور ملك الموت فكان بديعا كما أجادت الآنسة شبيلا ماي أداء دور جرازيا في سذاجتها وروحها الشعرية
عطيل
هي تراجيدية شكسبير المشهورة التي نقلها إلى العربية الأستاذ خليل مطران ومثل عطيل الأستاذ جورج أبيض ومثل ياجو أمامه عدد من كبار الممثلين منهم منسي فهمي وزكي طليمات ويوسف وهبي
والرواية تصور لنا كيف أحب البطل المغربي (عطيل) الفتاة النبيلة (ديدمونه) وكيف استطاع ياجو أن يدوي في أذني عطيل بأن امرأته تخونه ويحيك خطة جهنمية تساعده على الوصول إلى أغراضه فيثور المغربي ويصرخ ويصل في ثورته إلى حد الجنون والقتل
يقتل ديدمونة التي أحبها والتي أحبته وفضلته على كل النبلاء من أهل جنسها وتزوجت
منه برغم والدها، وأخيرا وبعد فوات الفرصة يعرف أنها كانت بريئة فيطعن ياجو ويغمد خنجره في صدره ويجود بأنفاسه على قبلة من فم من أحبها)
عمد المخرج إلى طريقته المعروفة في الاعتماد على المنظر الواحد مستعيناً بالإضاءة بين فصل وآخر، وكان موفقا إذ اختار ستارا خلفيا يمثل السماء كان له أثر كبير في توضيح حركات الممثلين كلما كان الضوء خافتا في مقدمة المسرح.
مثل المستر (آنيوماك ماستر دور عطيل فأعطى صورة قوية لهذه الشخصية. كان متطرفا في البدء كعادة المحب ولكنه انقلب في الفصل الثاني إلى رجل هائل ثائر.
كان بديعا في إلقائه في حركاته التي تعبر عما يضطرم في نفسه عند كل كلمة يلفظها ياجو، وكان عظيما في ثورته في الفصل الثاني وفي الفصل الأخير بعد ما قتل ديدمونة وأحس أنه فقدها.
ومثل المستر ادوارد دور ياجو فأعطى صورة طبيعية من الشخصية ولم يلجأ إلى المغالاة، وكانت الممثلة (آن كلارك) بديعة في دور ديدمونة
يوسف تادرس