المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 192 - بتاريخ: 08 - 03 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٩٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 192

- بتاريخ: 08 - 03 - 1937

ص: -1

‌جميل صدقي الزهاوي

بمناسبة ذكراه الأولى

من حق الزهاوي على (الرسالة) وهي ديوان العرب وسجل الأدب أن تقف على ذكراه العظيمة الأليمة وقفة الذاكر بالجميل تحي بنثير الورد خلود مجده، وتحي بنثير الدمع مصاب فقده: فلقد ساعد على إنهاض العرب بوثوب فكره. وعلى إحياء الأدب بوميض روحه، وعلى إنعاش (الرسالة) بعيون شعره. ومن حق الزهاوي على صاحب الرسالة أن يقوم في هذه المناسبة فيفرغ في سمع الزمان الواعي هذا الحديث الذي يتسم على ما اضن بخبرة الصديق وثقة المطلع ونزاهة المؤرخ؛ فإني ما ذكرت العراق ألا ذكرت في أول أشيائه فندق (كارلتون)، وفي أول أشخاصه شخص الزهاوي؛ ذلك أن أول مكان لقيت فيه العراق هو هذا الفندق، وأول إنسان سمعت منه العراق هو هذا الرجل!

كنت جالساً في بهو هذا الفندق صباح اليوم الثاني لقدومي بغداد، أروض قلبي على روعة الفراق، وأذني على لهجة العراق، وعيني على غرابة الصور، وإذا بأحد الندل يلقي إلي بطاقة كتب عليها (جميل صدقي الزهاوي)، ولم تكد تلوح في مخيلتي صورة الشاعر التي صورها السماع والقراءة، حتى رأيت على باب البهو شيخاً في حدود الثمانين قد انخرع متنه وثقلت رجله ورعشت يده فلا يحمل بعضه بعضاً إلا بجهد

اقبل علي يتخلج على ذراع غلامه وقد انبسطت أسارير جبينه العريض وانفرجت شفتاه الذابلتان عن ابتسامه نضرة عذبة، ثم سلم علي تسليم البشاشة بيد مرتجفة، ورحب بي ترحيب الكرم بصوت متهدج، ثم انطلق يشكو جحود الأمة وإغفال الدولة وكيد الخصوم وإلحاح المرض، وتطرق إلى خصومته عامئذ مع الأستاذ العقاد فذكر - والأسف المر يكسبه لهجة المظلوم وهيئة الشهيد - كيف استغلها من سدد خطاه في الشعر، وارجف بها من تولاه بالرعاية؛ وحمد الله على أني جئت بدله فقد كان وجوده كما كان يظن تأليباً متصلاً على فضله، وإزعاجاً مستمراً لسكنته

لم يدع لي الزائر الكريم فرجة بين كلامه الدافق ادخل عليه منها بالتخفيف والتسرية، فان الزهاوي - كما علمت بعد - ديدنه أن يتكلم، كالبلبل خاصته أن يغرد، والزهر طبيعته أن يفوح؛ فهو في مجلس الصداقة شاك أو شاكر. وفي مجلس الأدب محاضر أو شاعر، وفي

ص: 1

مجلس الأنس مفاكه أو محدث.

كان الشيخ يتكلم أو ينشد ونبراته المؤثرة، وقسماته المعبرة، ولحيته الخفيفة المرسلة، ووجهه المسنون الأعجف، وشاربه النائم على فمه الأهرت، وعينيه البراقة ترأرئ من خلف المنظار، وشعره اشمط يتهدل على نتوء الصدغ، تخيل إلي أن طيفاً من أطياف الجدود، أو نبياً من أنبياء اليهود، قد انشق عنه حجاب الزمن فجأة في هذا المكان الصامت والنور القاتم والجو الغريب؛ ولكن الحيوية التي تنبض في حركاته، والشبيبة التي تفيض في كلماته، والعزيمة التي تضطرم في نظراته، كانت تطرد هذا الخيال وتجعلني وجهاً لوجه أمام (كتلة) من الأعصاب القوية المشدودة تتكلم وتتألم، وتثور وتهدأ، وتسخط وترضى، وموضوع مقالها وانفعالها لا يخرج أبداً (الأنا) إذا صح هذا التعبير

دأبت (عربانة) الشيخ بعد ذلك على أن تقف أمام منزلي صباح يوم الجمعة من كل أسبوع. فكنت استقبله استقبال العابد المتحنث للكاهن الملهم، ثم نقضي ضحوة النهار معاً يحدثني فاعجب أو ينشدني فاطرب؛ وقد تكون أذني إلى فمه وليس معنا ثالث ولكنه يجاهر بالإلقاء، ويصور المعنى بالصوت والإيماء، حتى يدهش المنزل وينصت الشارع. وهو بين الفترة والفترة يعود إلى شكاته وشكواه، وأظل أنا أمام هذا الجيشان الروحي ساهماً حالماً أفكر في الذهن الذي لا يكل. واللسان الذي لا يفتر. والزهو الذي لا يتطامن، والطموح الذي لا يتقاصر، والقلق الذي لا يسكن، والتمرد الذي لا يهن، والشباب الذي يلبس رداء الشيخوخة. والحياة التي تتخذ هيئة الموت

كنت ألقاه في خلال الأسبوع مع الناس في منتداه بشارع الرشيد. أو على ضفة دجلة جالسا على الدكة الخشبية ينشد الأبيات الرائعة، أو يرسل النكتة البارعة، أو يروي الخبر الطريف، في بشاشة جذابة، وقهقهة ساذجة، ويده المرتعشة لا تنفك تعبث بمسبحته الصغيرة، أو تصعد وتهبط بسيكارته العراقية، أو تمتد (بالآنة) إلى نادل القهوة كلما طلب الشاي إلى

صديق وكنت أزوره في مثواه (بالصابونجية) فأراه في مباذله قاعداً يشكو الوسط لأنه قضى الليل ساهداً يقرأ، أو ذاهلاً ينظم، فالقصص والمجلات منتثرة على سريره وعلى مقعده، والمسودات مدسوسة تحت مخدته أو في ثيابه، فلا يتمالك حين يراني ان يصيح:

ص: 2

انظر كيف أذيب عمري في شعري والأمة تقذفني بالبهتان، والحكومة تخرجني من مجلس الأعيان، والملك يستكثر على أن أكون شاعر البلاط! (إني سأذهب، وستبقى أشعاري معبرة عن شعوري وناطقة بآلامي، فهي دموع ذرفتها على الطرس، وهي خليقة أن تبعث من عيون قارئها دمعة هي كل جزائي من نظمها)

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الطين الضعيف

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

سألني صديق عن شيء لماذا افعله أو اتركه - فقد نسيت - فكان مما اذكر أني قلته له أني أعيش الآن كما احب لا كما يجب، فقد جاوزت الأربعين، والذي بقي لي من العمر ستفسده الشيخوخة المتهدمة لا محالة حين ترتفع بي السن فلا يبقى لي حينئذ من لذة الحياة إلا الوجود بمجرده لو إن هذا يفيد متعة، فمن حقي في هذه الفترة - التي أرجو أن تطول قبل أن يدركني الذوى والذبول - أن اعتصر من الحياة كل ما يدخل في الطوق اعتصاره من المتع واللذاذات، فأنا أقرأ ما اشتهي، وأذهب إلى حيث أريد، وأجالس من آنس به، ولا أبالي من غضب ممن رضى، فما في الحياة صحة لمبالاة ذلك؛ وأطلق نفسي على السجية كلما وسعني ذلك، وليس للناس على اكثر من أن أؤدي واجباتي فيما عدا هذا

ودخل علي وأنا أقول هذا لصديقي شاب مهذب فحيا وقال انه يقرأ الآن ديواني، ففزعت ولكني ابتسمت له وقلت (كان الله في عونك. ومن الذي ابتلاك به. .)

فأهمل السؤال وجوابه واقبل علي يسألني: (انك تكتب بسرعة) فقلت (إن الذي اعرفه أني اكتب في غرفة تحيط بها جدران من الحجارة لا تنفذ العين منها على خلاف ما كان يصنع ديماس الذي كان يكتب على ما يقال في دكان فيجيء الناس وينظرون إليه من وراء الزجاج. . أريد أن اعرف يا صاحبي ماذا تعني بالسرعة)

قال (اعني انك تكتب إلى مجلات كذا وكذا وكذا. . وتكتب في صحيفة يومية أيضاً. . هذا كثير. . فمتى تستطيع أن تكتب كل ذلك. . انه نشاط عجيب. .)

فقلت (جواب السؤال أني اكتب وأنا نائم، فالذي تقرأه لي هو أضغاث أحلامي. . وأما النشاط يا صاحبي فذاك أني مازلت في شبابي)

فتركني وهو يقول انه يدرس ما اكتب وانه ينوي أن ينشر بحثاً، فاستعذت بالله وحاولت أن اصرفه عن هذا العناء الباطل فما أفلحت، فتوجهت إلى الله عسى أن يصرف عني هذا السوء بطريقة ما. . وهل كثير على الله أن يشاء أن تشب النار في كتبي التي عند هذا الشاب، أو تنقلب الدواة كلما هم بالكتابة، أو تجمد أصابعه أو يحدث له غير ذلك من أسباب التعويق والتعطيل.؟

ص: 4

وانفض هذا المجلس، ولكن خاطراً ثقيلاً ألح علي وظل يدور في نفسي، ذلك أن كل من ألقاهم من إخواني يذكرون هذا النشاط. ولا يكتمون تعجبهم. فلم يسعني إلا أن أتعجب مثلهم وإلا أن أسائل نفسي:(أكان هذا يبدو لهم مني مستغرباً لو انهم كانوا يرونني شاباً في العشرين من عمري مثلاً؟ أتراهم يستغربون لأني في ظنهم خلفت شبابي ورائي فالمنتظر من مثلي في اعتقادهم هو الفتور. .) ولم يعجبني هذا التأويل فانه ثقيل على النفس، وآثرت أن أقول انهم هم معدومو النشاط ولذلك يتعجبون لي. ثم أني لا أحس إلا أنى مازلت شاباً. والعبرة بالإحساس لا بهذه الشعرات البيضاء التي يقول عنها ابن الرومي أنها تزيد ولا تبيد فهي مثل نار الحريق. . وما قيمة هذه الشعرات. . لقد ابيضت وأنا في العشرين من عمري، وكنت يومئذ بها فرحاً مزهواً، وكنت أعدها مظهراً للرجولة ومدعاة للاحترام، فماذا حدث حتى صرت حتى ابغضها. . أو لا ابغضها وإنما انظر إليها في المرآة فأزوم، وتقول شفتاي (هممممم). . ثم أني أراني اجلد من أبناء العشرين، واصبر على العناء والجهد، واقدر على العمل والحركة، واحسن تلقياً للحياة، وأسرع استجابة لدواعيها، فما قيمة هذا الذي تطالعني به المرايا؟. وما حاجتي أنا إلى المرايا؟. ومتى كنت انظر فيها حتى انظر فيها اليوم؟. كلا. . إن أمامي بإذن الله حياة طويلة، وليست الحياة أن أظل باقياً في الدنيا والسلام، وإنما هي أن أظل قادراً على العمل وكفؤاً للأعباء، وهذا ما اعتقد انه سيكون شأني فما اشعر بدبيب الفتور ولا أرى أية علامة على ابتداء النضوب.

وضحكت وأنا أقول ذلك فقد تذكرت أني قلت مرة لصاحب كان يحدثني في هذا الموضوع أو يسألني على الأصح (هل تعرف حكاية الذي أراد أن يتزوج بنت السلطان. . لقد زعموا أن رجلاً من الغوغاء زعم انه سيتزوج بنت السلطان، فلما سألوه كيف يتسنى له ذلك، قال أن المسألة بسيطة، فقد رضيت أنا بزواجها ولم يبق إلا أن يرضى السلطان. وكذلك أنا فقد عزمت أن أعيش إلى التسعين والمائة أيضاً وأنا موافق على ذلك وراض بهذه القسمة وليس باقياً إلا أن يمالئني الحظ ويساعفني القدر. . .)

ويتفق لي كثيراً أن أقف بالسيارة حيث يطيب لي الوقوف. ويسرني حين أفعل ذلك أن أنظر إلى الناس وهم يروحون ويغدون وأن أتأمل ما يكون مهم وكيف يمشون وكيف يتحدثون ويميل بعضهم على بعض وكيف يذهلون عما يكون أمامهم لأن ما هم فيه من

ص: 5

الحديث يستغرقهم فيصطدمون أو يحدث غير ذلك مما يضحك ويشرح صدر المتفرج. وأنظر أيضاً إلى الفتيات الناهدات وهن يمشين متخلعات متثنيات متقصعات وعيونهن دائرات في الرجال فإذا نظروا إليهن أغضين كأنما كن ينظرن عفواً. إلى آخر ما لا يسع المرء إلا أن يراه في الطريق. فحدث يوماً أني اشتريت شيئاً من دكان ثم دخلت السيارة وقعدت فيها وشرعت أدخن وأجيل عيني في الناس فكان الرجال يمضون ويمرون بي ولا يعيرونني الفاتاً؛ أما الشبان فكانت عيونهم ترمقني خلسة. وأما الفتيات فكن يحدقن في وجهي صراحة، فكنت ابتسم مسروراً بهذه المناظر. فمرت بي فتاتان بارعتا الجمال فلما بلغتا حيث كنت وافقاً مالت إحداهما على الأخرى جداً وهمست وهي تنظر إلي: ده عجوز، ومن الغريب أني سمعت الهمسة الخافتة على بعد مترين، وأحسب أني ما كنت لأسمع ما تقول لو أنها صاحت بأعلى صوت (ما أحلاه وأجمله وأبرع شبابه) وأكبر الظن أن الترام كان يمر حينئذ فيغرق هذا الثناء بضجته فيفوتني ما يسرني. أو تسقط عمارة فيفزع الناس ويذهلون ويشغل الخلف بذلك وأنا في جملتهم. . . وأنا أتكلم أولاً ثم أفكر بعد ذلك؛ والأولى العكس، ولكن هذا ما أصنع غير عامد. فلما سمعت الهمسة الثقيلة رأيتني أصيح بالفتاتين (فشرتِ. فشرتما. فشرتن) فضحكتا وتثنتا وذهبتا تعدوان

ولم يسؤني قول الفتاة إني (عجوز) فما كانت سنها تزيد على الرابعة عشرة وأنا فوق الأربعين بسنوات فهي طفلة بالقياس إلي وليس في وسعها إلا أن تحس هذا الفرق. وغير منتظر أن تدرك أن صباها صبى جسم لا أكثر. وان شبابها الذي تزهى به طراوة ولين ملاسة ونعومة. وعزيت نفسي بلهجة المتشفي به بأنها ستفقد ذلك كله حين تناهز الأربعين وأنها لن تجد يومئذ عوضاً عما فاتها وأن نفسها ستسبق جسمها إلى الذوى. على حين أظل أنا فيما أرجو شاب النفس لا يضيرني أن الزمن يكون قد حفر على وجهي وجلدي أخاديد عميقة. ومن العدل أن تباهي الفتاة وتزهى بما لا عوض عنه وليس من الإنصاف أن أنكر عليها ذلك أو أكرهه منها

ثم رجعت أقول لنفسي ولكن ما قيمة شباب النفس وحده. .؟ ما جدواه إذا فقد الجسم شبابه. .؟ وتذكرت أبياتاً من قصيدة طولية كنت قلتها منذ عشرين عاماً ولم أنشرها - بل نشرت بضع مئات منها في صحيفة أسبوعية -

ص: 6

أيها الطينُ ما ترى بك أبغي

لستَ - فيما أرى - لشيء كفاء

إن طلبتُ السماء قلت ليَ الأر

ض - أو الأرض كنتَ لي عصَّاء

إلى آخر هذا الهراء. . . ولم يكن هذا الطين يستعصي عليه شيء يومئذ. وما قلت ذلك إلا في ساعة فتور شديد جعلني كاليائس أو انسياقاً مع المعاني التي ولدتها روح القصيدة وأنا انظمها. ولم يكن يخطر لي أني سأذكر هذه الأبيات التي رميتها وأهملتها حتى مرت الفتاتان بعد عشرين عاماً ونظرت إحداهما - وأحلاهما - إلى الشيب في فودي وقالت وهي تميل على صاحبتها (ده عجوز)

إيه يا فتاتي الصغيرة أما والله إني لأشتهي أن أفتح ذراعي وأضم كل فتاة خود مثلك - أضم ملايينكن دفعة واحدة في عناق مفرد كما أراد من نسيت اسمه - نيرون إذا كانت الذاكرة لم تخني - أن يضرب أعناقكن جميعاً بضربة سيف واحدة. . ولعله استسهل هذا واستخف مئونته واستضأل كلفته. وإني لأرفق بكن منه - أو لعلي أقسى فما أدري - ولكنكن ملايين والطين ضعيف واه. . وإني لأراني كما يقول ابن الرومي:

ضعيفاً جباناً - اشتهي ثم أنتهي

بلحظي جنابَ الرزق لحظَ المجانب

وإني لأحس الحياة ثقيلة الوطأة على كاهل الصبر. . وإني لعود في الليل إلى داري فتقول لي زوجتي ألا تستريح؟ فأقول كلا. . لا راحة لحي. . وأمضي إلى مكتبي وأجلس إليه وأهم بالكتابة فأرى النعاس يثني رأسي على صدري، فأنهض متبرماً، ساخطاً على هذه البلادة، وأقول لنفسي وأنا أرتمي على الفراش أترى لو كنت في مجلس لهو وطرب أكنت أفتر هذا الفتور؟ ويغلبني النوم قبل أن أسمع جواب النفس. . وإني ليكون أمامي الطعام الجيد المشتهى فأمد إليه يدي محاذراً وأتناول منه مترفقاً وعلى قدر مخافة الكظة أو الانتفاخ، ولم أكن أبالي ذلك قبل سنوات. . وإني لأهم بزيارة الصديق فيصدني أن درجات سلمه كثيرة فأرتد وألعن أصحاب العمائر الذي لا يتخذون المصاعد. .

ولم يرضني هذا السخط على نفسي فقلت وأين هذا الفتور؟ ومن ذا الذي لا يكل أحياناً؟. إني أعمل كالحمار بالليل والنهار وأكتب في اليوم الواحد فصولاً ثلاثة أو أربعة لأكثر من صحيفة واحدة. وأقطع بالسيارة أكثر من خمسين كيلو في نهاري، واسهر إلى منتصف الليل، ثم أقوم في الفجر مع الديكة والعصافير وأقصد إلى مكتبي وأروح أدق على آلة

ص: 7

الكتابة حتى لقد غير جاري غرفة نومه لكثرة ما أزعجه وأطير النوم عنه في الصباح الباكر. وأنا أجالس الناس وأحادثهم وأفعل ما يفعله المرء بشبابه ولا أراني أكل أو أهي أو أمل أو أفتر. . وإن رأسي لدائب لا يكف عن العمل في يقظة أو نوم؛ ولو كنت أقيد ما يدور في نفسي لوسعني أن أملأ الدنيا كلاماً، ولكن المصيبة أني لا أقيد شيئاً وأني أنسى، فالذي يبقى لي لا يعدل جزءاً من مائة مما يخطر لي، وإذا كانت لي شكاة فتلك أني لا أفتر ولا أراني أقنع بما أستطيع وما يدخل في وسعي. ولقد قال لي مرة طبيب حاذق شكوت إليه أني لا أهدأ - إن بنائي كله من الأعصاب، وأن جسمي ليس أكثر من شبكة أعصاب ركبت لها العظام لتمسكها ووضع لي هنا قلب وهناك معدة إلى آخر ذلك، ثم كسي هذا كله جلداً رقيقاً ليمكن أن يقال إن هذا جسم إنسان، ولكن المهم هو هذه الأعصاب؛ فإذا كنت أشكو شيئاً في بعض الأحيان فيحسن بي أن أعرف أنه من الأعصاب ليس إلا (فأرحها حين تتعب تعد كما كانت فإنها متينة. وأكبر الظن أن هذه ليست أعصاباً وإنما هي (جنازير من الحديد) ويكفي أنها تتحملك) كذلك قال. ودليل صدقه أني لم أشك شيئاً قط مذ سمعت منه هذا؛ ولو كان بي شيء غير هذه الأعصاب لما نفعني كلامه. ولقد خرجت من عنده إلى صيدلة فيها ميزان فوقفت عليه فإذا بي - بثيابي الشتوية لا أزن أكثر من سبعة وأربعين كيلو، فضحكت وقلت: (كم ترى يكون وزني في الحمام. . بغير هذه الثياب. . أو في الصيف الذي يستدعي التخفيف. . صدق الطبيب الحاذق فما هذا بجسم إلا على المجاز. . ولكن هذا البناء الواهي يحتمل النوم على الرمال وتوسد الحجارة. نعم فإني كثيراً ما أخرج إلى الصحراء فأرتمي على رمالها ساعة وساعتين وتحت رأسي حجر صلد كبير. وفي بيتي أترك الفراش الوثير إلى الكراسي الخشنة التي لا راحة لمخلوق عليها. . وأفتح النوافذ واقعد أو أنام بين تيارات الهواء ولا أرى ذلك يضيرني. وأحسب هذا وراثة فقد كانت أمي رحمها الله تنام وأنفها إلى النافذة المفتوحة - صيفاً وشتاء. نعم أزكم أحياناً ولكن الفيل يزكم. . وساقي مهيضة ولكني لا أتعب من المشي وإنما أتعب من الوقوف. . ولم أتخذ المدافئ قط، فإذا أوقدوا في بيتنا ناراً تركت لهم الغرفة إلى أخرى لا نار فيها. . وما لبست معطفاً إلا في أعقاب مرض وعلى سبيل الوقاية إلى حين. وإني لأرى مناعة جسمي تزداد عاماً فعاماً وأراني كلما علت سني أحس إني صرت أقوى واصح بدناً واقدر

ص: 8

على العمل والحركة والجهد. . فلست بعجوز يا فتاتي الصغيرة وإني وحياتك لأصبى من ابني. وان الذي في عروقي لنار سائلة لا دماء جارية، وقد أحسنت بالانصراف بعد تلك الضحكة الفضية التي ستظل في مسمعي تذكرني بك وتصيبني إلى أترابك والسلام عليك والشكر لك. والى الملتقى (وأين مني يهرب الهارب؟). . .

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 9

‌4 - صعاليك الصحافة.

. .

تتمة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وجاء أبو عثمان وفي بروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيئاً كعلامتي تعجب ألقتهما الطبيعة في هذا الوجه. وقد كانوا يلقبونه (الحدقي) فوق تلقيبه بالجاحظ، كأن لقباً واحداً لا يبين عن قبح هذا النتوء في عينيه إلا بمرادف ومساعد من اللغة. . . . وما تذكرت اللقبين إلا حين رأيت عينيه هذه المرة.

وانحط في مجلسه كأن بعضه يرمي بعضه من سخط وغيظ، أو كأن من جسمه ما لا يريد أن يكون من هذا الخلق المشوه، ثم نصب وجهه يتأمل، فبدت عيناه في خروجهما كأنما تهمان بالفرار من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيا الهم في القلب؛ ثم سكت عن الكلام لأن أفكاره كانت تكلمه.

فقطعت عليه الصمت وقلت: يا أبا عثمان رجعت من عند رئيس التحرير زائداً شيئاً أو ناقصاً شيئاً فما هو يرحمك الله؟

قال: رجعت زائداً أني ناقص، وههنا شيء لا أقوله، ولو أن في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين. لوقفوا على عمك وأمثال عمك من كتاب الصحف يتعجبون لهذا النوع الجديد من الشهداء

وقال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد. فأنشدته:

ومن يشتري من ملوك مُخَرّم

أبعْ (حَسنَاً وابني هِشامٍ) بدِرْهم

وأعطي (رجاَء) بعد ذاك زيادة

وأمنحُ (ديناراً) بغير تندُّم

قال أبو عثمان:

فإن طلبوا مني الزيادة زدتُهم

(أبا دُلفٍ والمستطيلَ بنَ أكثم

ويلي على هذا الشاعر. اثنان بدرهم، واثنان زيادة فوقهما العظم الدرهم، واثنان زيادة على الزيادة لجلالة الدرهم؛ كأنه رئيس تحرير جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتاباً. ولكن ههنا شيئاً لا أقوله

ص: 10

وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة فأعجب بها وأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت له شيرين: أمرت الصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرت بها لرجل من الوجوه، قال: إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد. فقال كسرى: كيف أصنع وقد أمرت له؟

قالت: إذا أتاك فقل له: اخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ فإن قال أنثى. فقل له: لا تقع عيني عليك حتى تأتيني بقرينها، وإن قال غير ذلك فقل له مثل ذلك.

فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ قال: بل أنثى. قال الملك: فأتني بقرينها. فقال الصاد عمر الله الملك، إنها كانت بكراً لم تتزوج بعد. . .

قلت: يا أبا عثمان فهل وقعت في مثل هذه المعضلة مع رئيس التحرير؟

قال: لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكراً، فإنما يريدون إخراجه من الجريدة وما بلاغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلاغة التلغراف وبلاغة الخبر وبلاغة الأرقام وبلاغة الأصفر وبلاغة الأبيض. . . ولكن ههنا شيئاً لا أريد أن أقوله.

وسمكتي هذه كانت مقالة جودتها وأحكمتها وبلغت بألفاظها ومعانيها أعلى منازل الشرف وأسنى رتب البيان وجعلتها في البلاغة طبقة وحدها. وقبل أن يقول الأوربيون (صاحبة الجلالة الصحافة) قال المأمون: (الكتاب ملوك على الناس). فأراد عمك أبو عثمان أن يجعل نفسه ملكاً بتلك المقالة فإذا هو بها من (صعاليك الصحافة).

لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجلوة على محبها، ما هي إلا الشمس الضحاية، وما هي إلا أشواق ولذات، وما هي إلا اكتشاف أسرار الحب، وما هي إلا هي. فإذا العروس عند رئيس التحرير هي المطلقة، وإذا المعجب هو المضحك، ويقول الرجل: أما نظرياً فنعم، وأما عملياً فلا، وهذا عصر خفيف يريد الخفيف، وزمن عامي يريد العامي، وجمهور سهل يريد السهل، والفصاحة هي إعراب الكلام لا سياسته بقوي البيان والفكر واللغة، فهي اليوم قد خرجت من فنونها واستقرت في علم النحو وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي: إنك أنت لا تلحن وهو يلحن

قال أبو عثمان؛ وهذه أكرمك الله منزلة يقل فيها الخاصي ويكثر العامي فيوشك ألا يكون بعدها إلا غلبة العامية، ويرجع الكلام الصحافي كله سوقياً بلدياً (حنشصياً). وينقلب النحو

ص: 11

نفسه وما هو إلا التكلف والتوعر والتقعر كما يرون الآن في الفصاحة، والقليل من الواجبات ينتهي إلى الأقل، والأقل ينتهي إلى العدم، والانحدار سريع يبدأ بالخطوة الواحدة ثم لا تملك بعدها الخطى الكثيرة

لا جرم فسد الذوق وفسد الأدب وفسدت أشياء كثيرة كانت كلها صالحة، وجاءت فنون من الكتابة ما هي إلا طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. ولو كان في قانون الدولة تهمة إفساد الأدب أو إفساد اللغة، لقبض على كثيرين لا يكتبون إلا صناعة لهو ومسلاة فراغ وفساداً وإفساداً. والمصيبة في هؤلاء ما يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم. ونحن إنما نعمل في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجودنا السياسي عدماً؛ ثم لملء الفراغ الذي جعل نصف حياتنا الاجتماعية بطالة. وهذا أيضاً مما جعل عمك أبا عثمان في هذه الصحافة من (صعاليك الصحافة) وتركه في المقابلة بينه وبين بعض الكتاب كأنه في أمس وكأنهم في غد.

ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .

فما شككت أنهم سيطردونه فإن الله لم يرزقه لساناً مطبعياً ثرثاراً يكون كالمتصل من دماغه بصندوق حروف. . . ولم يجعله كهؤلاء السياسيين الذي يتم بهم النفاق ويتلون، ولا كهؤلاء الأدباء الذي يتم بهم التضليل ويتشكل.

ورجع شيخنا كالمخنوق أرخي عنه وهو يقول: ويلي على الرجل. ويلي من الكلام الظريف الذي يقال في الوجه ليدفع في الفقا. . . كان ينبغي ألا يملك هذه الصحافة اليومية إلا مجالس الأمة، فذلك هو إصلاح الأمة والصحافة والكتاب جميعاً. أما في هذه الصحف فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه، ولو أن عمك في خفض ورفاهية وسعة، لكان في استغنائه عنهم حاجتهم اليه، ولكن السيف الذي لا يجد عملاً للبطل، تفضله الإبرة التي تعمل للخياط. وماذا يملك عمك أبو عثمان؟ يملك مالاً ينزل عنه بدول الملوك، ولا بالدنيا كلها، ولا بالشمس والقمر، إذ يملك عقله وبيانه. على أنه مستأجر هنا بعقله وبيانه يعقل ما شاءوا ويكتب ما شاءوا

لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية. إن الكاتب حين يخرج من صحيفة إلى صحيفة، تخرج كتابته من دين إلى دين. . .

ص: 12

ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثل البارود في دماغه ثم أشعله. فأردت أن أمازحه وأسري عنه، فقلت: اسمع يا أبا عثمان. جاءتني بالأمس قضية يرفعها صاحبها إلى المحكمة، وقد كتب في عرض دعواه: إن جار بيته غصبه قطعة من أرض فنائه الذي تركه حول البيت، وبنى في هذه الرقعة داراً، وفتح لهذه الدار نافذات، فهو يريد من القاضي أن يحكم برد الأرض المغصوبة، وهدم هذه الدار المبنية فوقها، و. . و. . وسد نافذاتها المفتوحة. . .!

فضحك الجاحظ حتى أمسك بطنه بيده وقال: هذا أديب عظيم كبعض الذين يكتبون الأدب في الصحافة؛ كثرت ألفاظه ونقص عقله. (وسئل بعض الحكماء: متى يكون الأدب شراً من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه؛ كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض

والأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب. ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ. وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد تأكل منه ولا تعطيه شيئاً.

ثم يأبى من تترك له هذه الصفحة إلا أن يجعل نفسه (رئيس تحرير) على الأدباء، فما يدع صفة من صفات النبوغ ولا نعتاً من نعوت العبقرية إلا نحله نفسه ووضعه تحت ثيابه؛ وما أيسر العظمة وما أسهل منالها إذا كانت لا تكلفك إلا الجراءة والدعوى والزعم، وتلفيق الكلام من أعراض الكتب وحواشي الأخبار

وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عبته بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يكتب؛ قال: هذا ما يلائم القراء. وقد يكون من أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول به لتقوية شأنه وإصغار من عداه، فإذا كذبه من يعرفه قال: هذا ما يلائمني. وهو واثق أنه في نوع من القراء ليس عليه إلا أن يملأهم بهذه الدعاوى كما تملأ الساعة، فإذا هم جميعاً يقولون: تك تك. . تك تك. . . . .

فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل؛ جعل الفصاحة واللكنة والخطأ

ص: 13

والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرب، كله سواء وكله بياناً (وكان المكي طيب الحجج، ظريف الحيل، عجيب العلل. وكان يدعي كل شيء على غاية الإحكام ولم يحكم شيئاً قط من الجليل ولا من الدقيق. وإذ قد جرى ذكره فسأحدثك ببعض أحاديثه. قلت له مرة: أعلمت أن الشاري حدثني أن المخلوع (أي الأمين) بعث إلى المأمون بجراب فيه سمسم، كأن مخبره أن عنده من الجند بعدد ذلك، وأن المأمون بعث له بديك أعور، يريد أن طاهر بن الحسين يقتل هؤلاء كلهم كما يلقط الديك الحب؟

قال: فإن هذا الحديث أنا ولدته، ولكن انظر كيف سار في الآفاق. . .

ثم قال أبو عثمان: وقد زعم أحد أدبائكم أنه اكتشف في تاريخ الأدب اكتشافاً أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون، فنظر عمك في هذا الذي ادعاه، فإذا الرجل على التحقيق، كالذي يزعم أنه اكتشف أمريكا في كتاب من كتب الجغرافيا. . . .

وما يزال البلهاء يصدقون الكلام المنشور في الصحف لا بأنه صدق ولكن بأنه (مكتوب في الجريدة). . . . فلا عجب أن يظن كاتب صفحة الأدب - متى كان مغروراً - أنه إذا تهدد إنساناً فما هدده بصفحته بل بحكومته. . . .

نعم أيها الرجل إنها حكومة ودولة؛ ولكن ويحك: إن ثلاث ذبابات ليست ثلاث قطع من أسطول إنجلترا. . . . . .!

وضحك أبو عثمان وضحكت فاستيقظت

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 14

‌من التاريخ

المهديون المنتظرون

لأستاذ كبير

قال الأستاذ محمد عبد الله عنان في مبحثه البارع (ضوء جديد على مأساة شهيرة) في الجزء (188) من هذه المجلة: إن رجعة الحاكم قد بنيت على المقالة المهدوية، وذكر ثلاثة من الجماعة المنتظرة. وقد رأيت أن أطرف قراء (الرسالة) أقوالاً موجزة في (المهديين المنتظرين) مما خطه مؤرخو النحل الإسلامية ونقله رجال الأثر. وأنا في ذلك راوٍ لا ينقد مقالة فرقة، ولا يجادل جماعة مذهب، ولا يضيف شيئاً من عنده إلى نقله. وروايتي هي عن هذه الكتب: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري، الفرق بين الفرق للبغدادي، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، الملل والنحل للشهرستاني، فرق الشيعة للنوبختي، سنن أبي داود، صحيح الترمذي، المحصل للرازي، شرح مواقف الأيجي للجرجاني. شرح الدرة المضية للسفاريني.

1 -

علي بن أبي طالب

قالت السبئية: (إن علياً لم يقتل، ولم يمت، ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه. ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وهو المهدي المنتظر دون غيره)

2 -

ابن الحنفية (محمد بن علي)

قالت الكربية الكيسانية: (إن محمد بن الحنفية حي لم يمت، وإنه في جبل رضوي، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، يأتيه رزقه غدوة وعشية، وعن يمينه أسد، وعن يساره نمر، يحفظانه من أعدائه؛ وهو المهدي المنتظر)

3 -

عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب

(زعمت الجناحية (فرقة من الكيسانية) أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حي بجبال أصبهان لم يمت ولا يموت، ولا بد أن يظهر حتى يلي أمور الناس، وهو المهدي الذي بشر به النبي)

4 -

محمد بن علي (الباقر)

(قالت الباقرية: إن محمد بن علي (الباقر) هو المهدي المنتظر بما روي أن النبي قال لجابر

ص: 15

بن عبد الله الأنصاري: (إنك تلقاه فأقرأه مني السلام) وكان جابر آخر من مات بالمدينة من الصحابة، وكان قد عمي في آخر عمره؛ وكان يمشي في المدينة ويقول: يا باقر، يا باقر، متى ألقاك؟)

5 -

محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب

(قالت طائفة من الجارودية الزيدية: إن محمد بن عبد الله حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وهو مقيم بجبال ناحية الحاجر، وهو المهدي بالحديث الذي يقول فيه: يوافق اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي)

6 -

جعفر بن محمد (الصادق)

(قالت الناووسية: إن (الصادق) حي لم يمت ولا يموت حتى يظهره أمره، وهو القائم المهدي. رووا عنه أنه قال: لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدقوا فإني صاحبكم صاحب السيف)

7 -

إسماعيل بن جعفر الصادق

(قالت فرقة من الإسماعيلية الواقفية والناووسية: إن إسماعيل بن جعفر لم يمت إلا أنهم أظهروا موته تقية، وعقد محضر وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة، فهو حي لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. فالجماعة منتظرة لإسماعيل بن جعفر)

8 -

محمد بن اسمعيل بن جعفر

(قالت القرامطة: إن محمد بن اسمعيل لم يمت ولا يموت حتى يملك الارض، وإنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به، وهو في بلاد الروم وهو القائم المهدي؛ ومعنى القائم عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد، واعتلوا في نسخ الشريعة (شريعة محمد) أنه قال: لو قام قائمنا علمتم القران جديداً)

9 -

موسى بن جعفر (موسى الكاظم)

(قالت الواقفة (الموسوية، المفضلية، الممطورة): إن موسى ابن جعفر لم يمت ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وهو المهدي المنتظر)

10 -

جعفر بن علي الهادي

ص: 16

(غلت النفيسية في جعفر بن علي الهادي وفضلته على علي بن أبي طالب، واعتقدت أنه أفضل الخلق بعد رسول الله، وادعت أنه القائم)

11 -

محمد بن القاسم

(قالت طائفة من الجارودية إن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين (القائم بالطالقان أيام المعتصم) حي لم يمت ولا قتل، ولا يموت ولا يقتل حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً)

12 -

يحيى بن عمر

(قالت طائفة من الجارودية: إن يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (القائم بالكوفة أيام المستعين) حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً)

13 -

الحسن العسكري بن علي الهادي

(قالت فرقة: ان الحسن لم يمت وهو القائم، ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهر. وقد ثبت عندنا أن القائم له غيبتان، وهذه إحدى الغيبتين، وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى

وقالت فرقة ثانية: إن الحسن مات لكن سيجيء وهو المعنى بكونه قائماً أي يقوم بعده (بعد الموت))

14 -

محمد بن الحسن العسكري

(قالت الفرقة الثانية عشرة وهي الإمامية: لله في الأرض حجة من ولد الحسن بن علي، وأمر الله بالغ، وهو وصي لأبيه. ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة؛ ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها. فنحن مقرون بوفاة الحسن وأن خلفه هو الإمام من بعده حتى يظهر ويعلن أمره. والإمام عليه السلام أعرف بنفسه وزمانه منا)

(لقبه المهدي والمنتظر

والقائم المكرم المطهر

أكثر من سبعين شخصاً شاهدوا

جماله ولاحت الشواهد

وغاب غيبتين (صغرى) امتدت

وكانت الشدة فيها اشتدت

قريب سبعين من الأعوام

كان اختفى عن أكثر الأنام

ص: 17

كان له من الموالي سفراً

إذ غاب واختفى ورام السفرا

وغيبة أخرى إلى ذا الآن

وأنه لصاحب الزمان

لكنه لابد من أن يخرجا

وبعد شدة نلاقي الفرجا)

15 -

محمد بن عبد الله. محمد المهدي، الفاطمي

روى الترمذي وأبو داود (عن ابن مسعود أن رسول الله قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني، أو قال من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)

ومن الفرق التي تنتظر رجعة زعيمها فرقة الخلفية من الخوارج. فهم ينتظرون قيس بن مسعود وقد غرق في واد منهزماً من الخوارج الحمزية

وممن - كانوا - ينتظرون منجدين ومغيثين - وإن لم يسموا بالمهديين - القحطاني والسفياني. ومصدقو المقالة المهدوية يرتقبون هذين الرجلين وغيرهما (قبل الفاطمي) مفسدين في الأرض وعائثين لا مغيثين

(ومن أقوى علامات خروج المهدي خروج من يتقدمه من الخوارج: السفياني والأبقع والأصهب والأعرج والكندي. أما السفياني فاسمه عروة واسم أبيه محمد، وكنيته أبو عنبة. قال الشيخ مرعي في فوائد الفكر، وفي عقد الدر: إن السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان، ملعون في السماء والأرض، وهو أكثر خلق الله ظلماً. قال علي: السفياني رجل ضخم الهامة بوجهه أثر جدري، بعينه نكتة بياض، يخرج من ناحية دمشق، وعامة من يتبعه من كلب فيقتل حتى يبقر بطون النساء، ويقتل الصبيان، ويخرج إليه رجل من أهل بيتي في الحرم فيبعث إليه جنداً من جنده فيهزمهم، فيسير إليه السفياني بمن معه حتى إذا جاز بيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو إلا المخبر عنهم. أخرجه الحاكم في مستدركه وقال هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه. والأبقع يخرج من مصر، والأصهب يخرج من بلاد الجزيرة، ثم يخرج الجرهمي من الشام، ويخرج القحطاني من بلاد اليمن. قال كعب الأحبار: فبينما هؤلاء الثلاثة قد تغلبوا على مواضعهم إذ قد خرج السفياني من دمشق من واد يقال له: وادي اليابس.

وفي الحديث: لا تحشر أمتي حتى يخرج المهدي يمده الله بثلاثة آلاف من الملائكة،

ص: 18

ويخرج إليه الأبدال من الشام، والنجباء من مصر، وعصائب أهل الشرق حتى يأتوا مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ثم يتوجه إلى الشام وجبريل على مقدمته وميكائيل على يساره، ومعه أهل الكهف. فيفرح به أهل السماء والأرض والطير والوحوش والحيتان في البحر، وتزيد المياه في دولته، وتمتد الأنهار، وتضعف الأرض أكلها فيقدم إلى الشام فيأخذ السفياني فيذبح تحت الشجرة التي أغصانها إلى بحيرة طبرية)

وهناك فرقة تنتظر نبياً (لا مهدياً فقط) عجمياً (لا عربياً) وهي اليزيدية من الخوارج أصحاب يزيد بن أنيسة (قالوا: سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد إلى ملة الصابئة المذكورة في القران)

أحد القراء

ص: 19

‌داعي الدعاة ونظم الدعوة عند الفاطميين

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت الدعاية من اعظم العوامل التي عاونت على ظفر الحلفاء في الحرب الكبرى؛ وللدعاية في عصرنا أعظم شأن في تكوين الرأي العام. وفي توجيهه إلى النواحي والغايات التي يراد توجيهه إليها، ولا يخفى ما للرأي العام اليوم من القوة والنفوذ حيثما تتاح له فرص الظهور والإعراب؛ ففي الأمم الديمقراطية التي مازالت الحريات العامة فيها قائمة مكفولة يتمتع الرأي العام بكل قوته ونفوذه، ويحسب حسابه، ويحدث أثره في توجيه الحوادث والشؤون؛ وحتى في الأمم التي تسودها النظم الطاغية، وتسحق الحريات العامة، ويسلب الرأي العام والخاص كل حرية في القول والإعراب، تتبوأ الدعاية أهميتها كوسيلة قوية لتكوين رأي الكافة، ومحاولة التأثير على الخاصة والمستنيرين، وإخفاء ما يراد إخفاؤه من عيوب النظم الطاغية والإشادة بما تدعيه من الفضائل والمزايا وتحقيق الإصلاح والخير العام؛ وفي سبيل هذه الغاية تعتمد النظم الطاغية على هيئات قوية محكمة للدعاية الشاملة تسيطر على جميع وسائل الدعوة كالصحافة والأدب والراديو والتمثيل والسينما وغيرها مما تلمس أثره في تكوين الرأي العام وتوجيهه وتثقيفه

وتبدو هذه الهيئات المحدثة للدعاية كأنها بدعة في النظم الجديدة، وكأنها ابتكار لم يسبق مثوله في غيرها، وقد بلغت في بعض الدول مرتبة الوزارة الخاصة، وأضحت من دعامات الحكم الجديد التي يحسب حسابها في حشد الرأي العام وفي توجيه حيثما شاءت السياسة العليا. بيد أنا سنرى في هذا الفصل أن تنظيم الدعاية الرسمية على هذا النحو ليس ابتكاراً جديداً، ولم تنفرد به تلك الدول والنظم التي تفاخر به وتعتمد عليه، وأنه قد عرف في الدول الإسلامية قبل ألف عام، واتخذ كما يتخذ اليوم أداة قوية لغزو الأذهان وتوجيه رأي الكافة، وكان دعامة من دعائم الحكم والخلافة

أجل عرفت الدولة الإسلامية قيمة الدعاية ولجأت في مختلف الظروف والحوادث لتحقيق غايات الدين والسياسة: بيد أنها لم تدمج في هيئة خاصة، ولم تنظم أصولها ووسائلها بصورة رسمية إلا في الدولة الفاطمية. ففي ظل هذه الدولة القوية المدهشة نجد الدعوة تتخذ وسيلة من أنفذ الوسائل لحشد الأولياء والكافة وتوضع لها نظم هي آية الطرافة والبراعة،

ص: 20

ونجد هذه الهيئة الرسمية التي تضطلع بهذه المهمة الخطيرة ترتفع إلى مرتبة الوزارة، فتجعل الخلافة الفاطمية منها سياجاً منيعاً لإمامتها وزعامتها الدينية

لما استقر الفاطميون بمصر وغدت مصر منزلهم ومثوى ملكهم ودولتهم شعرت الخلافة الفاطمية بالحاجة إلى مضاعفة جهودها المذهبية، ذلك أنها لم تجد في مصر كما وجدت في قفار المغرب الساذجة مهداً خصباً لدعوتها، بل ألفت في مصر مجتمعاً متمدناً عركته الأحداث الدينية والسياسية والفكرية؛ ولم يكن اعتماد الخلافة الفاطمية في بث دعوتها على سلاح التشريع قدر اعتمادها على الدعاية السرية، وغزو الأذهان بطريقة منظمة، لأنه إذا كان التشريع وسيلة لسيادة الكافة وتحقيق الطاعة الظاهرة فإن الدعاية المنظمة هي خير الوسائل لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها لتأييد الدعوة المنشودة. وقد كانت الدعوة السرية أنفذ وسائل الفاطميين إلى تبوء الملك، فلما جنوا ثمار ظفرهم الأولى، كانت الدعوة السرية وسيلتهم إلى حمايتها وتدعيمها، فكان لهم دعاة في سائر الأقطار الاسلامية؛ وكانت مصر منزل ملكهم وخلافتهم منبر هذه الدعوة ومركزها ومجمعها، تنساب منه إلى جنبات الإمبراطورية الفاطمية الشاسعة والى سائر الأقطار الإسلامية الأخرى

وكانت هذه الدعوة المذهبية تتخذ منذ البداية صبغة رسمية، ومذ قامت الخلافة الفاطمية بالقاهرة، نراها تنتظم في القصر الفاطمي وتتخذ صورة الدعوة إلى قراءة علوم آل البيت (علوم الشيعة) والتفقه فيها، وكان يقوم بإلقاء هذه الدروس قاضي القضاة وغيره من أكابر العلماء المتضلعين في فقه الشيعة، وكانت تلقى أحياناً في القصر وأحياناً في الجامع الأزهر؛ وينوه المسبحي مؤرخ الدولة الفاطمية بإقبال الكافة على الاستماع لهذه الدروس والجلسات المذهبية فيقول لنا إنه في ربيع الأول سنة 385هـ جلس القاضي محمد بن النعمان بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد فمات في الزحام أحد عشر رجلاً، فكفنهم العزيز بالله. بيد أن هذه الدعاية المذهبية الظاهرة التي بدأت في صورة الدروس الفقهية المذهبية، وهي دروس كان يطلق عليها مجالس الحكمة، كانت ستاراً لدعوة أخرى بعيدة المدى، كانت تحاط بنوع من التحفظ والتكتم) هي الدعوة الفاطمية السرية التي كانت الخلافة الفاطمية تجد في بثها وسيلة لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها في حظيرتها المذهبية، الدينية والسياسية؛ وكان من عناية الخلافة الفاطمية بتنظيم هذه الدعوة وبثها أن

ص: 21

أنشأت لها خطة دينية تضارع في المرتبة والأهمية خطة الوزارة ذاتها؛ وكان هذا المنصب الخطير من أغرب الخطط الدينية التي أنشأتها الدولة الفاطمية وانفردت بها؛ وكان متوليه ينعت بداعي الدعاة وهو أيضاً من أغرب الشخصيات الرسمية التي خلقتها الدولة الفاطمية؛ وكان داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيا بزيه ويتمتع بمثل امتيازاته، وينتخب من بين أكابر فقهاء الشيعة المتضلعين في العلوم الدينية وفي أسرار الدعوة ويعاونه في مهمته اثنا عشر نقيباً وعدة كبيرة من النواب يمثلون في سائر النواحي؛ وكانت هذه الدروس والمحاضرات الخاصة التي يشرف عليها داعي الدعاة، تلقى بعد مراجعة الخليفة وموافقته في إيوان القصر الكبير؛ وتعقد للنساء مجالس خاصة بمركز الداعي بالقصر، وهو المسمى (بالمحول)، وكان من أعظم الأبنية وأوسعها فإذا انتهت القراءة أقبل الأولياء والمؤمنون على الداعي فيمسح على رؤوسهم بعلامة الخليفة ويأخذ العهد على الراغبين في دخول المذهب، ويؤدي له النجوى من استطاع، وهي رسم اختياري صغير يجبى من المؤمنين للإنفاق على الدعوة والدعاة، وكانت ثمة مجالس أخرى تعقد بالقصر أيضاً لبعض الهيئات والطبقات الممتازة من أولياء المذهب - ورجال الدولة والقصر - ونساء الحرم والخاص، ويسودها التحفظ والتكتم، ويحظر شهودها على الكافة؛ وتعرض فيها الدعوة الفاطمية على يد دعاة تفقهوا في درسها وعرضها؛ وكان تلقين هذه الدعوة، هو أخطر مهمة يقوم بها الدعاة، بل كان في الواقع أهم غاية يراد تحقيقها؛ وكان للكافة أيضاً نصيب من تلك المجالس الشهيرة، فيعقد للرجال مجلس بالقصر، ويعقد للنساء مجلس بالجامع الأزهر ويعقد مجلس للأجانب الراغبين في تلقي الدعوة؛ وكان الداعي يشرف على هذه المجالس جميعاً إما بنفسه أو بواسطة نقبائه ونوابه، وكانت الدعوة تنظم وترتب طبقاً لمستوى الطبقات والأذهان فلا يتلقى الكافة منها سوى مبادئها وأصولها العامة، ويرتفع الدعاة بالخاصة والمستنيرين إلى مراتبها وأسرارها العليا

وقد انتهت إلينا وثيقة رسمية هامة هي سجل فاطمي بإقامة داعي الدعاة، وبيان مهمته واختصاصاته وما يجب عليه اتباعه لإذاعة الدعوة، وقد جاء فيه بعد الديباجة شرحاً لمقاصد الدعوة ما يأتي: (وإن أمير المؤمنين بما منحه الله تعالى من شرف الحكمة، وأورثه من منصب الإمامة والأئمة، وفوض إليه من التوقيف على حدود الدين وتبصير من اعتصم

ص: 22

بحبله من المؤمنين، وتنوير بصائر من استمسك بعروته من المستجيبين، يعلن بإقامة الدعوة الهادية بين أوليائه، وسبوغ ظلها على أشياعه وخلصائه، وتغذية أفهامهم بلبانها، وإرهاف عقولهم ببيانها، وتهذيب أفكارهم بلطائفها، وإنقاذهم من حيرة الشكوك بمعارفها، وتوفيقهم من علومها على ما يلحب لهم سبل الرضوان، ويفضي بهم روح الجنان وريح الحنان، والخلود السرمدي في جوار الجواد المنان. . .)

ومنها في شرح واجبات الداعي وطرق تلقين الدعوة: (وخذ العهد على كل مستجيب راغب، وشد العقد على كل منقاد ظاهر، ممن يظهر لك إخلاصه ويقينه، ويصح عندك عفافه ودينه، وحضهم على الوفاء بما تعاهدهم عليه. . . ولا تكره أحداً على متابعتك والدخول في بيعتك. . . ولا تلق الوديعة إلا لحفاظ الودائع. ولا تلقي الحب إلا في مزرعة لا تكدي على الزارع، وتوخ لغرسك أجل المغارس، وتوردهم مشارع ماء الحياة المعين، وتقربهم بقربان المخلصين، وتخرجهم من ظلم الشكوك والشبهات إلى نور البراهين والآيات؛ واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات، في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع بالمعزية القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقها، ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمله ولا تستقل أفهامه بتقبله، واجمع من التبصر بين أدلة الشرائع والعقول، ودل على اتصال الممثل بالممنون؛ فإن الظواهر أجسام، والبواطن أشباحها، والبواطن أنفس. والظواهر أرواحها. . .)

وفي هذه العبارات ما يلقي الضياء على غايات السياسة الفاطمية الدينية والمعنوية وعلى وسائلها في غزو الأذهان وحشدها من حولها؛ ومن المعروف أن الخلافة الفاطمية كانت تتخذ الإمامة الدينية شعارها، ومرجع زعامتها الدينية في العالم الإسلامي، وشرعية ملكها السياسي، فالدعوة الفاطمية التي كانت تلقى في مجالس الحكمة إلى الكافة والى الخاصة متدرجة في مراتب من السرية والتحفظ طبقاً لمكانة الأشخاص وأحوالهم الفكرية والاجتماعية، كانت رغم صفتها الدينية، ترمي في النهاية إلى أغراض سياسية؛ ذلك أن الخلافة الفاطمية كانت ترى أن تحشد جمهور أوليائها ومؤيديها عن طريق الدين، ومتى اجتمعوا في ظل الإمامة وتحت لوائها، استطاعت أن تحركهم وأن توجههم وفق مصالحها

ص: 23

وغاياتها، وأن تعتمد على تأييدهم ونصرتهم كلما اقتضت الظروف والأحوال

والدول المحدثة التي تعتمد في عصرنا على سلاح الدعاية ترمي إلى مثل هذه الغاية؛ فهي تتوسل بما لديها من أسلحة حديثة لغزو العقول والأذهان كالصحافة والراديو والسينما وغيرها لفرض مذاهبها السياسية والاجتماعية والدينية أحياناً على جمهور الشعب والحصول على تأييده ونصرته. ولم تكن الخلافة الفاطمية، وهي من دول العصور الوسطى، تتمتع بشيء من هذه الوسائل القوية المحدثة، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تنظم دعوتها بأساليب ووسائل مدهشة، وأن تجني كثيراً من الثمرات المادية والمعنوية، بل لقد كان قيام الدولة الفاطمية ذاته نتيجة من نتائج الدعوة الفاطمية. وذيوع هذه الدعوة في قبائل إفريقية البربرية هو الذي جمع كلمة القبائل حول عبيد الله المهدي، وهو الذي مهد لقيام الدولة الجديدة

والخلاصة أن فكرة الدعاية التي تتبوأ في النظم السياسية والاجتماعية الحديثة، ولا سيما نظم الطغيان الفاشستية، مكانة خاصة، وتعتبر من أقوى أسلحة الطغيان في عصرنا، ليست جديدة في ذاتها أو غاياتها، وإن كانت جديدة في وسائلها، وقد عرفتها الدول الإسلامية قبل ألف عام، واتخذت على يد الخلافة الفاطمية أذكى وأبرع وأنفذ أساليبها

محمد عبد الله عنان

ص: 24

‌في الأدب المقارن

الرومانسية والكلاسية في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

ينشأ أدب الأمة المتبدية ساذجاً بسيطاً صريح التعبير قريب المتناول، مطلق السجية في الإعراب عن الشعور الإنساني، وتظل له هذه السمة حيناً، حتى تتحضر الأمة وينتقل الأدب من جو الطبيعة الطلق إلى حياة المدينة. بما تشمل من وسائل الحضارة المادية وأسباب الثقافة الذهنية، فيرتقي الأدب لذلك كله وتتسع جوانبه وتبعد أغواه، بيد أن الحضارة المادية التي توفرها المدينة لساكنيها ولا توفرها الطبيعة للمتبدين، ربما طغت فأفسدت على القوم حياتهم؛ وكذلك الثقافة العقلية التي في ظلها يرتقي الأدب رقياً عظيماً ربما زيفت على الإنسان شعوره، وتعاونت مع تلك الحضارة المادية على إفساد الأدب بتغليب الصنعة والتكلف فيه على الحساس الصادق، وتكبيله بالتقاليد والأوضاع، وتضييق حدوده وسد آفاقه، وإيلاء الألفاظ فيه المكانة الأولى دون المعاني

إذا بلغ الأدب هذا الطور الصناعي التقليدي انحط ولم يعد يسير إلا من تدهور إلى تدهور. وصار الأدب المتبدي على سذاجته أرقى منه واصدق، ولم يعد للأدب الذي غلبت عليه الصناعة من سبيل للنهوض، إلا الرجوع إلى الطبيعة والاقتباس من الأدب البدوي المرسل الطبع. والاطلاع على آداب الأمم الأخرى التي لم يرهقها التكلف ولم تفسدها الصنعة، بهذا وحده يتأتى له معاودة الحياة وأن يعود ترجماناً صادقاً مبيناً لها، وبغير تلك العوامل الخارجية هيهات أن ينهض الأدب العاثر من سقطته، وإنما يزداد إمعاناً في التكلف السمج جيلاً بعد جيل، وإغراقاً في اختراع كاذب الأخيلة والأحاسيس ومزجها بألاعيب الألفاظ، والخروج بكل ذلك عن كل ما يسيغه ذوق أو بقبله عقل

فحياة الطبيعة المطلقة في أعنتها، وحياة المدينة ذات الحضارة والثقافة، تتنازعان الأدب وتؤثر كل منهما فيه تأثيراً خاصاً، ولكل منهما مزايا هي قادرة على إيداعها الأدب: تمنحه الطبيعة شتى مناظر جمالها وصدق شعورها وبعيد آفاقها ورائع أسرارها ومخاوفها، وتمنحه المدينة وسائل التفكير العميق والنظر الثاقب والطموح إلى المثل العليا، وأسباب الإنشاء الأدبي الفني والجهد الأدبي المتصل، والتفنن في ابتكار صور الأدب وأوضاعه،

ص: 25

والخير كل الخير أن يأخذ الأدب من كلتا الناحيتين بنصيب، والأدب الذي اجتمع له رحب الطبيعة وحرارة شعورها وجمالها، إلى ثقافة المدينة ووسائل التوفر الأدبي فيها، أدب لا شك بالغ من الرقي غاياته؛ أما الدب المتبدي فيظل على صدقه وجماله قاصراً ساذجاً، وأما أدب المدينة الذي بلغ في الانغمار في جوها وأهمل جانب الطبيعة، فسائر إلى الفساد والانحلال لا محالة

والرومانسية هي الصفة التي ينعت بها عادة الأدب الذي يؤثر جانب الطبيعة، ويحفل بمظاهر عبادتها والتأمل في ظواهرها ووصف مشاهدها والسبح في آفاقها، يؤثر كل ذلك على اللفظ فلا يهتم بهذا إلا بقدر ما يستخرجه في إيضاح أغراضه. وعلى حياة المدينة فلا تستغرق شؤون السياسة وعلاقة رجاله برجالها ورجال البلاط والحرب كل جهده والتفاته، ولا يصرفه الحاضر عن الولوع بالماضي والتأمل فيه وفي المستقبل، ولا ريب إن ذلك لا يعني إهماله لجانب الحضارة والثقافة، بل هو بهما شديد الولوع ويدرس ماضيهما ومستقبلهما شديد الشغف؛ والكلاسية هي النعت الذي يطلق على الأدب الذي استغرقته حياة المدينة وشغل بها عن جانب الطبيعة وانغمر فيها رجاله، في مجتمعها ومندياتها ومعاركها السياسية والحزبية والشخصية، وآثر التألق في اللفظ والشكل الأدبي وكفكف العاطفة فحل محلها الذكاء والبراعة واللباقة، وضيق مجالات القول وحدد أغراضه، وكل هاتيك صفات ولوازم تعلق بالمجتمع المترف وتنعكس عنه في الأدب

وقد كانت الصبغة الرومانسية هي الغالبة على الأدب الإغريقي في عهد عظمته، لأنه ترعرع في مجتمع قريب من البداوة، وفي حياة شديدة النشاط مطردة الحركة، تجيش بالمغامرة والجلاد، وفي حرية في الفكر والسياسة. أما الأدب اللاتيني فكان اكثر اصطباغاً بالكلاسية لأنه لم يبلغ ذروته إلا في ظل الملكية المطلقة والإمبراطورية الموطدة المستقرة. فكان أدب مدينة وثقافة متانقة، واشتهر أعلامه كفرجيل بإحكام الأسلوب والتشبث بمبادئ وتقاليد أدبية خاصة، وما زالت إلياذة هومير وأنياد فرجيل موضوع مقابلة من هذه الناحية. وكان أدباء الإنكليزية اكثر احتفالاً باللانينيير وإقتداء بهم في العصر الكلاسي في الأدب الإنكليزي، كما كانوا في عهده الرومانسي أميل إلى اليونان واكثر تغنياً بآثارهم، وبعدم اطلاع الأدب العربي على الأدب اليوناني فقد هذا العصر الرومانسي الذي اصبح في حاجة

ص: 26

إليه، حين انتقل إلى المدينة وشغل بآثار الحضارة والثقافة

وقد كانت الرومانسية هي الصفة الغالبة على الأدب الإنكليزي في العصر الإليزابيثي؛ ففي ذلك العهد كانت البساطة والخشونة تسودان المجتمع والبلاط؛ والحركة والنشاط والتطلع تتجلى في شتى نواحي الحياة: في العلم والأدب والكشف والمخاطرة والحرب. كان عهد نهضة تتحفز وتستشرف إلى الجديد وترمي إلى التوسع، لا تقنع بالقليل الحاضر ولا تقبل القيود والحدود؛ وزمن شباب يولع بالقوة والجلاد ويبرم بالأنيار والأقياد، فهو لا يرضاها في الأدب؛ ومن ثم جاء أدب ذلك العصر غزير المادة متلاطم العباب مترامي الأفاق، جياشاً بشتى العواطف والمعاني، حافلاً بمختلف الأوضاع الأدبية والمذاهب الفنية، لم يتقيد رجاله بتقاليد فنية غير معقولة: فعلى حين تقيد أدباء الفرنسية بالوحدات الثلاث التي أثرت عن الدرامة الإغريقية، انتفع الأدب الإنكليزي بخير ما في تلك الدرامة وضرب بتلك الوحدات عرض الحائط؛ ولم يتقيد بألفاظ خاصة في الشعر، مما اصبح فيما بعد يسمى (الألفاظ الشعرية) بل زاد على استعمال كل ما في لغة الكتب أن اقتبس من لغة العامة واصطنع بعض ألفاظ اللغات الأجنبية، واشتق ما راقه من ألفاظ. واخرج هذا العصر الحافل كبير شعراء الإنكليزية شكسبير، وانجب بجانبه أحد كبراء شعرائها سبنسر، وامتد هذا العصر حتى انتهى بظهور علم ثالث من أعلامها هو ملتون

تصرم ذلك العهد المملوء بالحرية والنشاط والجرأة والفتوة، وتلاه عصر كلاسي طويل، بين أواخر القرن السابع عشر وأواخر القرن الذي يليه، خمدت فيه روح المغامرة والتطلع التي كانت متنبهة في عصر إليزابيث، واستراح الناس إلى حياة المدينة ومنتدياتها، وانغمر الأدباء في المعارك الأدبية فيما بينهم، فكان نزاع بين كل من دريدن وأديسون وستيل وديفو وسويفت ومعاصريهم، محتدم حيناً ومترفق حيناً، ومعلن تارة ومستتر أخرى؛ وانغمروا كذلك في المشادات السياسية وانضووا تحت ألوية الأحزاب، وشجعهم رجال تلك الأحزاب على الانخراط في سلوكهم والذود عن مبادئهم بأقلامهم، فكان سويفت في صف المحافظين، وادسون في جانب الأحرار، وكان ستيل يختلف من هؤلاء إلى أولئك. وخلا أدب ذلك العصر أو كاد من ذكر الطبيعة ومجاليها، وحتى أولئك الأدباء الذين كانوا يرحلون إلى الأقطار الأجنبية، لم تكن تحرك نفوسهم مناظرها الجديدة، فكانوا يتناولون في رسائلهم إلى

ص: 27

أصدقائهم في الوطن شتى المواضيع ماعداها. واهتم أدباء ذلك العهد باللفظ كل اهتمام وقدموه صراحة على المعنى، وجعلوا للشعر ألفاظاً لا يتعداها ومواضيع لا يتخطاها، واتخذوا للشعر وزناً واحداً مزدوج القافية لم يكد أحد ينظم في سواه، وقلدوا الأقدمين من أدباء الإغريقية واللاتينية ونقادهما. وانصاعوا لمبادئهم انصياعاً أعمى؛ وبهذا كله ضاقت حدود الأدب ضيقاً شديداً، وأرهقه التكلف وفدحته القيود، فسار إلى الانحلال

وزعيم هذا المذهب الكلاسي الذي بلغ اوجه على يديه هو بوب الذي نال الغاية من إحكام اللفظ، وقد قال عنه بعض مترجميه إن شعره ليس إلا نثراً جيد النظم، وذلك حق: فهو يتناول في شعره مواضيع هي أقرب إلى النثر وأبعد عن الخيال والشاعرية؛ وكان يسمي بعض قصائده (مقالات) ومنها مقالته في النقد التي نظم فيها مبادئ المذهب الكلاسي في الأدب ونقده، فظلت مرجعاً لمن تلاه من شعراء المذهب، ومنها يقول:(تعلم إذن التقدير الحق لمبادئ الأقدمين، فمحاكاتها هي محاكاة للطبيعة، فتلك المبادئ القديمة - التي إنما اكتشفت ولم تخترع - إن هي إلا الطبيعة؛ غير أنها الطبيعة منظمة مهذبة)، وقد ترجم بوب إلياذة هوميروس ترجمة قدسها معاصروه، ولكنها قلما تذكر الآن أو يعتمد عليها أو تعد صورة صحيحة لشعر هوميروس، إذ كان من المستحيل على أديب مشبع بالروح الكلاسي أن يخلص إلى روح الشاعر الإغريقي الرومانسي؛ ثم دبت في المجتمع الإنجليزي روح جديدة، وانتعش الأدب الإنجليزي من خموله باطلاعه على آداب الأمم الأخرى الناهضة كالأدب الألماني، والعودة إلى صدر الطبيعة الرحب الحافل بالأسرار والحياة والوحي. تمخض كل ذلك في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل الذي يليه عن نهضة رومانسية جديدة فكت الأدب من عقاله ونبهت الشعر من غفوته، ورحبت آفاقه وبسطت جوانبه، وسبحت به في آماد الكون والطبيعة والإنسانية، وأنجبت هذه النهضة جمهرة أخرى من أفذاذ الأدب الإنجليزي؛ أنجبت وردزورث وبليك وكولردج، ثم بيرون وشلي وكيتس، ثم تنيسوت وبراوننج، عدا من أخرجت من أفذاذ النثر الذين جاء نثرهم حافلاً بمظاهر النهضة الجديدة؛ ولا غرو: ففي العهود الرومانسية يتجلى الروح الشعري حتى في النثر، وفي العصور الكلاسية يفيض الروح الشعري حتى في النظم؛ وما تزال تلك النزعة الرومانسية ملحوظة في الأدب الإنجليزي، على ما داخله من نزعة واقعية. وإقبال على

ص: 28

درس مسائل المجتمع كافة

والعصر الرومانسي في الأدب العربي هو ولا شك عصر الجاهلية والعهد الراشدي وصدر العصر الأموي: في تلك العهود وكان المجتمع العربي أدنى إلى البساطة والتبدي، وكان الأدب مرسل السجية صادق التعبير عن خلجات النفوس: من حزن وطرب ولذة وألم، وحب وبغض وحماسة ووصف، خالياً في أكثر نواحيه من مظاهر التكلف اللفظي أو التعمل في المعنى أو التصنع في الموضوع. وما تزال لحكم بعض الأعراب والأعرابيات ومراثيهم، وحماسيات قطري بن الفجاءة وغزليات جميل وقيس، روعة في النفوس وغبطة شاملة، لصدورها عن طبع سليم وشعور صميم؛ هذا على رغم بساطة ذلك الأدب وخلوه من مظاهر التثقف والتعمق في التفكير

تجرم ذلك العصر بطول عهد العرب بالحضارة والثقافة، ومهدت حضارة المدينة وثقافتها من أسباب القول ودواعي النظم ووسائل التفنن الأدبي ما لم يتوفر في البادية، فنشأ من ذلك أدب جديد يفوق أدب العصر السالف تعدد مواضع وعمق نظرة ووفرة محصول، وتجلى ذلك في خير آثار ابن الرومي والطائي والمتنبي والمعري، والجاحظ والبديع والجرجاني وأضرابهم. على أن الأدب في طوره هذا انغمر في جو المدينة انغماراً تاماً، فكان هذا عهداً كلاسياً صميماً: فيه تزايد ولوع الأدباء تدريجاً باللفظ. واحتفاؤهم به، ثم استعبادهم أنفسهم له وللأوضاع والمبادئ الموروثة عن المتقدمين. وضاقت مواضيع القول رويداً رويداً وكبلها التكلف والإغراب، وتجمع الأدباء حول موائد الأمراء ورجال السياسة والحكم والحرب، وخاضوا غمار مشاحناتهم، وتشاحنوا هم أنفسهم فيما بينهم، وهي مشاحنات تذكرنا بحملات سويفت ودريدن على الوزراء والقواد في عصرهما، وحملاتهما على غيرهما من الأدباء، فمن هجاء الوزراء قول دعبل في وزير المأمون:

أولي الأمور بضيعة وفساد

أمر يدبره أبو عباد

يسطو على جلاسه بدواته

فمضمخ بدم ونضح مداد

ومن تهاجي الشعراء قول ابن الرومي في البحتري:

أف لأشياء يأتي البحتري بها

من شعره الغث بعد الكد والتعب

البحتري ذنوب الوجه نعرفه

وما عهدنا ذنوب الوجه ذا أدب

ص: 29

وقول المتنبي في معاصريه:

أفي كل يوم تحت ضبني شويعر

ضعيف يقاويني، قصير يطاول؟

وكم جاهل بي وهو يجهل جهله

ويجهل علمي أنه بي جاهل

وفي ذلك العصر الكلاسي الطويل أعرض الشعراء إعراضاً يكاد يكون تاماً عن الطبيعة وحديثها ومجاليها، وأقبلوا على حياة المدينة أي إقبال. وما منهم من له عمل أبعد من أن ينال النجاح فيما تهيئه لأبنائها من أسباب اللذة والمتعة والشهرة، فكان منهم طامح إلى الملك كالمتنبي والشريف الرضي، وحريص على الوزارة كالصاحب وابن العميد، وراغب في الولاية حظي بها كالطائي وقصر عنها كابن الرومي، ومغتبط بالحظرة والمنادمة كأبي العتاهية والبحتري، وغير هؤلاء وأولئك ممن سعوا سعيهم ولم ينالوا مثل شهرتهم؛ وممن طمحوا فيما هو دون ذلك من متعات الحياة. ونظير ذلك كله تراه في العصر الكلاسي الإنجليزي سالف الذكر: فقد تقلب دريدن بين الأحزاب وحرص على الحظوة في البلاط. وتدرج أديسون في المناصب حتى صار وزيراً للخارجية، ولم يقنع سويفت بما تولى من مناصب في الكنسية، وكان إخفاقه في مطامعه البعيدة أحد أسباب نقمته وتشاؤمه

وتجلت هذه الصفة الكلاسية في الأدب ذاته: حددت مواضيعه وقصرت على ما اتصل بالحاضر القريب من شؤون الحياة في المدينة، وأهملت المواضع الرومانسية الصبغة، كالالتفات إلى الماضي واستعراض حوادثه الطريفة واتخاذها مادة للنظم والنثر، ومعالجة خرافاته واستلهامها ما بها من معاني الجمال والعظمة والبطولة، وأهملت أحاديث الرحلات وأوصاف البلاد البعيدة والأصقاع المجهولة، ما وجد منها في الحقيقة وما يتخيله الشاعر، وكفكف الخيال ونبذت آثاره من عالم الأدب.

خلا الأدب العربي في ذلك العهد من كل هذه المواضيع، وهي من صميم الشعر ولباب الفن وجوهر الأدب إذا ما تحضر أهلوه وانتفعوا بالثقافة، وإنما تركت هذه المواضيع الجليلة للأدب العامي، فظل الأدب الفصيح أدباً كلاسياً وصار الأدب العامي هو الممثل للرومانسية

دام ذلك العصر الكلاسي الطويل في الأدب العربي طوال عهد ارتقاء الأدب، أي زهاء ثلاثة قرون، ثم طوال عهد انحطاطه أي إلى العصر الحديث، لم تعقبه خلال تلك الأجيال المتوالية نهضة رومانسية تخفف من غلوائه وتصلح من فساده، وتقيم ما اعوج من مبادئه

ص: 30

الأدبية، وتعود به إلى الطبيعة التي هجرها واستغرق في النوم في أحضان المدينة: لم تنبعث فيه تلك النهضة التي انبعثت في الأدب الإنجليزي في أعقاب القرن الثامن عشر، حين بلغ العهد الكلاسي مداه من التحكم في أساليب الأدب. وبلغ الأدب الدرك من الإسفاف والأمحال؛ ذلك لأن الأدب العربي كانت تعوزه تلك العوامل التي تساعد على النهضة وتعاون على الرجوع إلى الطبيعة وتنبت الميل الرومانسي، فكان استمرار النزعة الكلاسية المحتدمة في الأدب اكبر أسباب تدهوره الطويل.

فالأدب العربي لم يكن على اتصال بآداب أجنبية فيأخذ عنها حب الطبيعة وإيثار البساطة، ويلتفت باطلاعه عليها إلى حقائق الحياة الكثيرة التي أهملها، وهو لم يكن يتنازل فيتصل بآداب العامة وأقاصيص الزراع والرعاة، التي تنسم فيها نسائم الطبيعة والبساطة والشعور الصميم، وهو لم يكن يرجع إلى ماضيه الرومانسي الذي سبقت الإشارة إليه، فينظر فيه نظرة حرة مميزة، تستخلص اللباب وتنظر من خلاله إلى حقائق الحياة، إنما يرجع إليه طلباً للأسلوب واللفظ، دون المعنى والموضوع، كان يعده كنز لغة فصيحة الأساليب والألفاظ لا كنز حقائق منتزعة من الحياة الصميمة. فإذا نظر إلى المعاني حاول حكايتها وتقليدها تقليداً كاملاً على ما هي عليه، أي حاول الأديب أن يحيا في أدبه حياة البدو ويشعرهم بشعورهم كله، وكان الأجدر أن ينبذ ذلك جميعاً، ولا يهتم إلا بصدق تعبير أولئك المتقدمين عن شعورهم، ووجوب صدقه في تعبيره عن شعوره الصحيح، في عصره وحياته المخالفين لما كان قبله

ظل هذا المذهب الكلاسي التقليدي سائداً الأدب العربي، يقلد المتأخر المتقدم ويزيد عليه تقييداً وتضييقاً في مجالات القول وأوضاعه، مادام الأدب محجوباً عن غيره من الآداب بعيداً عما جهله أو تجاهله من حقائق الحياة والأدب، حتى أتيح له الاتصال بالآداب الغربية في العصر الحديث، فصحا من غفوته ونفض عنه تدريجاً غبار التقليد والتقييد اللفظي والمعنوي، وفتن بحقائق الكون ومحاسن الطبيعة التي كان عنها في شغل، وتناول شتى المواضيع التي كان حرمها على نفسه، وبالجملة تقشع عنه عصره الكلاسي الطويل، وأشرق عليه فجر نهضة رومانسية جديدة

فخري أبو السعود

ص: 31

‌فوائد قياس الذكاء في التربية

للأستاذ علي محمد فهمي

مدرس التربية التجريبية المساعد بمعهد التربية

تقدم قياس الذكاء منذ الحرب العظمى فذاع استعمال المقاييس في المدارس حتى أصبحت ضرورية لكل مدرسة تعنى بجعل التعليم ملائماً للأطفال. وهذه هي أهم فوائد مقاييس الذكاء والتي لها أثر في تعليم الأطفال وإرشادهم: -

أولاً - قياس الذكاء والتعليم المدرسي

تعالج عيوب الامتحانات القديمة بجعلها موضوعية بواسطة المقاييس الدراسية التي تعتبر أحسن وسيلة لقياس معلومات الطلبة وما يحصلونه من العلم والمعرفة. ومقدار التحصيل المدرسي هذا يتوقف إلى حد كبير على الذكاء، يدلنا على ذلك التجربة التي أجراها الأستاذ سيرل برت على 689 طالباً تتراوح أعمارهم بين السابعة والرابعة عشرة لإثبات العلاقة بين الذكاء والتحصيل المدرسي فوجد أن معامل الارتباط بينهما 74 في المائة؛ وهذا معامل عال جداً يدل على شدة الاتصال بين الذكاء والتحصيل. ومن هذا كانت معرفة ذكاء التلميذ من الأمور التي تساعد المختبر على تفهم أسباب تقدمه وتأخره. فإذا فرضنا أن تلميذاً ضعيفاً في دروسه فإن قياس ذكائه يبين لنا إذا كان ضعفه نتيجة غباوة طبيعية أو نتيجة عوامل أخرى كإهمال التلميذ أو عدم ميله للدروس أو عدم ملاءمة البيئة المنزلية للدراسة. الخ

ولأهمية مقاييس الذكاء وضرورتها تستعمل بدل الامتحانات القديمة في بعض الأحيان وتساعد الامتحانات الجديدة في بعض الأحيان الأخرى، وعلى هذا نجد أن مقاييس الذكاء والمقاييس الدراسية يكمل كل منهما الآخر. من أجل ذلك يتحتم على من يريد قياس التلميذ قياساً مضبوطاً ألا يكتفي بقياسه بالاختبار الدراسي فقط بل يقيسه أيضاً باختبار الذكاء ويبني حكمه على نتيجة هذين الاختبارين فيتعرف أولاً ميول الطفل الطبيعية ثم يقيس ثانياً ما اكتسبه هذا الطفل عن طريق هذه المواهب

على أنه ليس من الضروري أن نقيس ذكاء الطفل في كل مرة نقيس فيها تحصيله

ص: 33

الدراسي، بل يكفي أن نقيسه عند أول عهده بكل مدرسة يلتحق بها فتساعدنا هذه المعرفة على الحكم عليه.

ولقد استعاضت بعض كليات الجامعات عن امتحانات القبول باختبارات الذكاء فتستعمل الآن كلية كولومبيا اختبار ثورنديك بدل امتحان القبول الذي كانت تعقده في أول كل عام دراسي للطلبة الذين يرغبون الالتحاق بالكلية. ولقد نجحت هذه الطريقة نجاحاً كبيراً يدل على ذلك ما قاله الأستاذ هوكس عميد الكلية من أن الطريقة الجديدة (تبين بوضوح ودقة أعظم مما عهدناه في أية طريقة أخرى ما إذا كان الطالب سينجح في جامعة كولومبيا أم لا)

ثانياً - التوجيه التعليمي

يرجع ازدياد نسبة فشل الطلبة في الامتحانات لعدة أسباب منها عدم ملاءمة الدراسة لكل الأفراد، إذ أن ما يلائم شخصاً لا يلائم الآخر، ولقد دعت نفس هذه الفكرة في البلاد الأوروبية والأمريكية إلى امتحانات التحصيل المقننة واختبارات الذكاء إذ يمكن من نتائج هذه الاختبارات الحكم على ملاءمة الدراسة للتلميذ أو تغييرها ثم إدماجه في دراسة أخرى أكثر موافقة لمواهبه الطبيعية

وليس هناك شك كما قلنا في أنه يوجد ارتباط وثيق بين مقدار تحصيل الطفل الدراسي وذكائه، فالطفل الذكي هو الذي يستمر في دراسته بنجاح مطرد، بينما الطفل الغبي هو الذي يفشل فيها، ويرجع هذا الارتباط إلى أن الدراسة في الفرق العليا تحتاج لدرجة ذكاء عالية، وهذا مما يجعل الأغبياء في الغالب يقفون عند حد لا يتعدونه مهما حاولوا التغلب وبذلوا من جهد. ولقد قدر الأستاذ ترمان بأن الذين يقل مستوى ذكائهم عن 80 في المائة لا يتمكنون من أن يدرسوا بعد الدراسة الابتدائية، فإذا ما انتقلت هذه الفئة إلى دراسة تحتاج لمستوى ذكاء اكبر من هذا المستوى تكرر فشلهم، وعلى هذا يجب أن يوجهوا إلى دراسات أخرى، وهذا هو السر في بعض حالات لا يتيسر لسوى المشتغلين بالذكاء أن يكشفوها. فكم من طالب مثلاً كان في دراسته الابتدائية ناجحاً لا يفشل في سنة من سنيه الدراسية حتى يعتقد والداه والمتصلون به أنه ذكي، ومثل هذا الصنف من الطلبة إذا ذهب إلى المدارس الثانوية وجد صعوبات كثيرة في الدراسة خصوصاً الدروس المجردة والتي تحتاج إلى تفكير عميق كالجبر والرياضة. الخ إذ في الغالب تتطلب هذه المواد ذكاء اكبر من

ص: 34

ذكائه فيتكرر رسوبه ووالداه من ذلك في دهشة، ولكن الاختبارات كفيلة ببيان السر في ذلك

وقد أجرى الأستاذ ترمان اختباراته الكثيرة لتعيين المستويات التي تتطلبها الدراسات المختلفة فوجد أن الدراسة الثانوية تحتاج لنسبة ذكاء لا تقل عن 90 في المائة أما لدراسة العليا فتحتاج إلى نسبة ذكاء لا قل عن 100 % وهناك تقسيم أدق من هذا للأستاذ إسماعيل القباني؛ فمن تتراوح نسبة ذكائهم بين 70 و80 يتأخرون في دراسة التعليم الابتدائي ولا يمكنهم إتمام الدراسة الثانوية، وما بين 80، 90 يمرون في الدراسة الابتدائية في مدة أقل من الفريق الأول ويرجح ألا يمروا في الدراسة الثانوية، وما بين 90 و110 عاديون يتممون الدراسة الابتدائية بسهولة ويستطيعون أن يمروا في الثانوي بصعوبة، وما بين 110 - 120 يمرون في الدراسة الثانوية بسهولة، ومن 120 فأكثر يسهل عليهم الدراسة العليا.

ثالثاً - التوجيه المهني

يجب أن نميز بين الاختبار المهني والتوجيه المهني، فالأول هو اختبار الشخص المناسب لمهنة ما والتوجيه المهني هو اختبار المهنة المناسبة لشخص ما أو هو تسيير الشباب بنين وبنات نحو المهنة التي تتفق أكثر ما يكون ومؤهلاتهم الفطرية، وأهمية هذا التوجيه في تقدم البلاد وإسعادها لا تنكر. وليس معنى التوجيه في المهنة أنه يبدأ عند انتهاء التلاميذ من دراستهم، إذ أن الإرشاد التعليمي هو أول خطوة للتوجيه المهني كما أن ما ينادي به علماء العصر الحاضر هو تدريب الطالب على المهنة التي سيزاولها في المستقبل أثناء مدة الدراسة

قيمة التوجيه المهني والفائدة من وضع الفرد في العمل الذي يليق به وبمواهبه الطبيعية لا تقتصر على الفرد نفسه بل تعود عليه وعلى الأمة بالنفع الجزيل، وإن الحاجة للتوجيه المهني أصبحت حاجة العصر الحديث بعد الاختراعات الحديثة وانتشار الصناعة التي تتطلب الآن صفات خاصة

كيف نقوم بالتوجيه المهني: تختلف المهن من حيث ما تتطلبه من ذكاء كما دلت على ذلك الأبحاث الحديثة فيقسمها الأستاذ ترمان إلى ثلاثة أقسام: (1) مهن تحتاج لمقدار كبير من الذكاء (2) مهن تحتاج لذكاء متوسط (3) مهن لا تحتاج لذكاء. ومن الأبحاث القيمة التي

ص: 35

تهمنا في هذا الموضوع بحث فقد أوجد العلاقة بين مراتب الذكاء المختلفة والمهن المتعددة وقال إن النجاح في مهنة ما لا يتيسر لكل شخص إذا كان الذكاء دون المستوى المعين. ومن هذا يتبين قيمة التوجيه المهني وكيف أنه يعمل لمصلحة الفرد والمجتمع في آن واحد. ولقد اهتم بإيجاد مستويات الذكاء للمهن المختلفة كثير من العلماء. ولقد ذكر الأستاذ ترمان أنه يجب ألا يشجع أي شخص إذا كانت درجة ذكائه أقل من 100 لأن يمتهن مهنة من المهن الراقية التي ذكرها وهي تشمل الأطباء وقادة الرأي والمربين والمهندسين وأصحاب المشروعات والكتاب. فالنجاح في مثل هذه المهن لا يمكن أن يحصل عليه إلا من كانت درجة ذكائهم أعلى من 115 - 125 ولقد أجرى الأستاذ فلاندر عدة تجارب استخلص منها أن من كان ذكاؤهم يتراوح بين 70 و80 يمكنهم أن يتخذوا الأعمال الآلية مهنة لهم؛ فعلاقة الذكاء بالتوجيه المهني حينئذ تقع في تحديد مستوى الذكاء المهني الذي يمكن الفرد من النجاح. وهكذا نجد أن اختبارات الذكاء تفيد في تحديد العمل الذي يمكن أن يؤديه الشخص على أحسن ما يمكن. على أن هناك أشياء أخرى يجب دراستها لتوجيه الفرد توجيهاً مهنياً وهي: (1) القدرات الخاصة (2) التحصيل المدرسي (3) البيئة المنزلية (4) الميول والمزاج (5) الصحة والقدرات الجسمية (من حيث القوة والسرعة والدقة)

رابعاً - تقسيم التلاميذ إلى فرق وفصول

يقسم بعض نظار المدارس في مصر التلاميذ إلى فصول مراعياً ترتيب أسمائهم حسب ترتيب الحروف الأبجدية، ويراعي البعض الآخر أجسام التلاميذ ويرتبهم حسب أطوالهم فيضع الصغار في فصول والكبار في أخرى، ويقسمهم البعض الآخر حسب ترتيب أعمارهم الزمنية. وقد ظهر فساد هذه الطرق بعد أن قسنا ذكاء عدد كبير من التلاميذ وتبين لنا أن القوة العقلية لبعض التلاميذ في فصل من فصول السنة الثانية الابتدائية كانت تعادل قوة التلميذ المتوسط الذي عمره 13 سنة في حين أن القوة العقلية لتلاميذ آخرين أقل من قوة الطفل الذي عمره 7 سنين. وفي فصل من فصول السنة الثالثة بمدرسة أخرى وجدنا تلاميذ تعادل قوتهم قوة الطفل المتوسط من سن 8 سنوات وآخرين قوتهم العقلية تزيد على قوة التلميذ المتوسط من سن 14 سنة وهكذا في سائر الفصول

ولا يخفى ما في هذا من الأثر السيئ على كل من التلاميذ الأذكياء والأغبياء الذين

ص: 36

يضطرهم اجتماعهم في فصل واحد إلى السير إما حسب سرعة الأول ومقدرته فيعجز الأغبياء عن متابعتهم، وإن أجهدوا أنفسهم فلن يستمروا في ذلك طويلاً حتى يضنيهم الإجهاد فتثبط هممهم؛ وإما حسب سرعة الآخرين ومقدرتهم فلا يجد الأذكياء ما يستعملون فيه قواهم العقلية فتثبط هممهم أيضاً، والنزعة الحديثة في التربية تميل إلى جعل المدرسة ملائمة لعقول التلاميذ وكفايتهم فلا يصح أن يجمع في الفصل الواحد تلاميذ أقوياء ومتوسطون وضعاف إذ يلزم أن يكون تلاميذ الفرقة متجانسين حتى يمكنهم أن يقوموا بعمل مجد. وعلى ذلك فخير طريقة لتقسيم التلاميذ إلى فصول أن نقسمهم حسب نسبة ذكائهم: فنقسم التلاميذ إلى قسمين أو أكثر حسب العمر الزمني ثم نقسم كل قسم إلى فصول حسب العمر العقلي، فمن كان عمرهم العقلي متقارباً وضعوا في فرقة واحدة. فإذا عملنا بهذا نقصت نسبة الرسوب في الامتحانات إلى أدنى حد، وبذلك نقضي على أهم عوامل الشكوى. هذا ولنلاحظ أن تقسيم الطلبة إلى فصول مهم جداً في القسم الابتدائي، وتقل أهميته في الثانوية، وهو غير مهم في القسم العالي، وإن كانت نسبة الذكاء شرطاً هاماً في الدخول. ويتخذ التقسيم في القسم العالي حسب الملكات الخاصة.

خامساً - انتقاء ضعفاء العقول

واضح من الأبحاث السيكولوجية أنه إذا اختبرنا ذكاء عدد من الأشخاص نجد ثلاثة أرباع هذا العدد يقع تقريباً في وسط المنحنى العادي ويتوزع الباقي على الجانبين، فالذين على الجانب الأيسر من المنحنى هم ضعفاء العقول والذين على الجانب الأيمن هم الأذكياء.

وضعف العقل يقسم إلى ثلاثة أقسام: (1) عته: وعقلية المعتوه عبارة عن عقلية طفل عادي لا تزيد سنه على ثلاث سنوات (2) بله: والأبله عبارة عن شخص وقف نمو نوعه عند سن 7 سنوات (3) موروث: وهم الأفراد الذين وقف نمو مخهم عند سن 12

ويرجع ضعف العقل إلى: (1) عوامل وراثية (2) وعوامل مكتسبة (3) وعوامل خارجية. والوراثة هي أهم العوامل المسببة لضعف العقل. فمثلاً إذا كان الأب أو الأم مجنوناً فليس من الضروري أن يرث الشخص الجنون، بل يجوز أن يرث رذيلة من الرذائل أو ضعف العقل - ولقد استقصى بعض الأخصائيين ما للوراثة من تأثير في أبناء الأسرة الواحدة، فبذل الأستاذ جودار جهداً كبيراً في تتبع حياة أفراد أسرة واحدة هي أسرة كاليكاك. وقد كان

ص: 37

مارتن كاليكاك شاباً سليم العقل من أسرة كبيرة تطوع في الحرب الأهلية الأمريكية، وكان يتردد على حانة تختلف إليها فتاة ضعيفة العقل توددت إليه فحملت منه سفاحاً وولدت له ولداً ضعيف العقل. وفي سنة 1912 استطاع الأستاذ جودار أن ينتهي من عمله فأحصى أفراد هذه الأسرة فبلغ عددهم 480 فرداً جاءوا من ذلك الزواج غير الشرعي. وتتبع أحوالهم فوجد أن معظمهم (99 % منهم) عاهر أو فاسق أو سكير أو لص. على أن تلك الحرب لم تكد تنتهي حتى تزوج مارتن بفتاة أخرى سليمة العقل شريفة النسب، وتتبع الأستاذ جودار 496 شخصاً من أفراد هذه الأسرة فلم يعثر فيها على شخص ضعيف العقل وإنما وجد أن الأسرة كلها مكونة من أطباء ومحامين ومدرسين ومهندسين وتجار وغيرهم ممن لهم يد عاملة في الحياة.

وضعاف العقول هؤلاء يربكون نظام التدريس في المدرسة ويعطلون سير الدراسة، وذلك لأنهم يختلطون في الفرق المختلفة مع العاديين والأذكياء. أما في المجتمع فقد اتضح لنا من نتائج الأبحاث التي قام بها الأستاذ جودار في إصلاحية الأحداث في الولايات المتحدة بأن سبب سلوكهم الشاذ هو كونهم ضعاف العقول. ومن هنا نجد أن ضعاف العقول يهددون كيان المجتمع، ولذلك يجب أن نهتم بأمر تربيتهم حتى تخف وطأتهم؛ وبقياس الذكاء يمكننا فصل هؤلاء في فصول خاصة وتعليمهم تعليماً يتلاءم مع درجة ذكائهم

ونسبة الذكاء هي الأساس السيكولوجي الذي يبني عليه المربي تعليمه لضعفاء العقول، ويجد على المربي الذي يقوم بأمر تربيتهم أن يعين ذكاء كل واحد حتى يستطيع وضع طريقة تتفق مع قدرة كل منهم العقلية، ويستطيع أن يعين الموضوعات التي يمكن أن يتعلمها ضعيف العقل في هذا العمر المعين

ولا يمكن أن يعلم هؤلاء الضعفاء أي عمل يحتاج إلى درجة من الذكاء أعلى من مستواهم. وقد حاول كثير من المدرسين ذلك فلم يستطيعوا. وكذلك فكرة تعليم هؤلاء الضعفاء حتى ترتقي عقليتهم إلى المستوى العادي فكرة خاطئة، ولكن توصل بعض الأطباء إلى إعادة بعض ضعفاء العقول إلى المستوى العادي، وذلك في الحالات التي لا تنتمي إلى ضعف عقلي وراثي، وإنما ترجع إلى وقوف النمو عندهم بعامل من العوامل الخارجية. ومع كل فإن هذه الحالات نادرة جداً، كما أنه لا يمكن للمربي أن يضيف شيئاً إلى نسبة ذكاء

ص: 38

ضعيف العقل وإنما كل ما يستطيعه المربي من تعليم ضعيف العقل هو تكوين عادات خاصة حتى لا يكون شراً ووبالاً على المجتمع؛ وهنا نجد ضرورة تحديد نسبة الذكاء اللازمة لكل عمل أو موضوع يضعه المربي ليتأكد من أن استعداد ضعيف العقل يتمشى مع طبيعة هذا العمل الموضوع له؛ وقد توصل بعض العلماء أخيراً إلى ذلك. وعلى العموم يجب أن يكون نظام الدراسة في مدارس ضعاف العقول قائماً على اختيار المواد العملية النافعة والتعليم الحسن، أما العلوم التي تستدعي التفكير المجرد النظري، وفهم الرموز فلا فائدة ترجى لهم منها

سادساً - انتقاء التلاميذ الموهوبين

من النوابغ من إذا وضع في فصول عادية نجدهم متأخرين في عملهم الدراسي؛ ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة: منها الكسل مثلاً، أو عدم الاهتمام بالدروس لسهولة المادة وطول الشرح. والواجب يقضي علينا أن نبحث عن هؤلاء النوابغ وندرسهم درساً وافياً حتى يتسنى لنا تربيتهم بطرق تناسب قواهم العقلية وتهيئة الظروف لهم لإيقاظ نواحي النبوغ فيهم وذلك لأنهم هم الأسس التي تبني الأمة عليها مدنيتها، فمن بين الأطفال النوابغ توجد الأرواح الحية الفعالة التي تتولى زمام المدنية وقيادتها فيما بعد، وعلى ذلك فتربية الطفل النابغة يجب أن تفصل عن غيره حتى نتمكن من توجيهه إلى ما فيه خيره وخير المجتمع الذي سيعيش فيه.

ومقاييس الذكاء هي من الاختبارات التي تكشف لنا عن هذه الفئة فلا يختار لفصول الأطفال النوابغ من كان أقل من 140. ويقول الأستاذ هورن إن التلاميذ النوابغ يحنون كثيراً إذا ما ساروا في كل المواضيع إلى مستوى أعمق وبطرق مفصلة أكثر من التلاميذ المتوسطين، فالنابغة لا يقبل الحقائق والمعلومات كما هي وإنما يحاول أن يرجعها إلى أصولها ومسبباتها والى النتائج المشتقة منها كما أنهم يميلون أكثر إلى المواد المعنوية.

وقد كان الرأي السائد أن الموهوب يكون عادة ضعيف الجسم أو عصبي المزاج أو يمتاز بشذوذ في الناحية الخلقية أو العقلية، ولكن الأستاذ ترمان كان أول من خطأ هذا الرأي بإظهاره أن الأطفال الموهوبين لا يقلون عن إخوانهم العاديين سواء أكان في الصحة أم في الحالة العصبية.

ص: 39

علي محمد فهمي

ص: 40

‌16 - تاريخ الأدب العربي

للأستاذ رينولد نيكلسون

الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها

ترجمة حسن حبشي

ومع ذلك فلا يجرؤ شيوخ العشيرة على فرض أوامرهم فرضاً، أو إنزال العقوبات برجالها، إذ كان كل منهم ولي نفسه وسيدها. وله الحق أن يقتص ممن يناله بسوء:

فإن كنْتَ سَيِّدَنَا سُدتنَا

وإنْ كنْتَ للخَالِ فاذْهَبْ فَخَلْ

ولم يكن معنى الوفاء عند العربي الوثني الخضوع لرؤسائه، ولكن المساعدة الصادقة لمساويه وأنداده، وكان قوي الصلة بفكرة القرابة، وإن القبيلة أو العائلة التي تشتمل على غرباء عاشوا في ظلها، واستظلوا بحمايتها، فإن الذب عن هؤلاء أفراداً أو جماعات من أقدس الواجبات اللازم احترامها. كما كان الشرف يقضي على الرجل منهم أن يقف بجانب قومه فيما جل من أمرها أو حقر

وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غزَيَّة إن غوَت

غَوِيتُ وَإنْ تَرْشُدْ غزَيَّةُ أرْشُدِ؟

كما يقول دريد بن الصمة الذي تابع عشيرته بالرغم من رأيه المصيب في غزوة كلفته رأس أخيه (عبد الله) وإذا نشد رجال القبيلة العون من أقاربهم فسرعان ما يلبى نداؤهم دون اهتمام بقيمة الأمر الذي يقدّمون من أجله المعونة، فإذا أسيء التصرف فيها تحملوا مغبة ذلك طويلاً قبل أن يعودوا إلى مكانتهم السالفة وإن انتفاعهم بالصداقة ليتضح بجلاء من هذه الأبيات التالية:

فَآخِ لِحَالِ السَّلْمِ مَنْ شِئْتَ وَاعْلَمَنْ

بأنَّ سِوَى مَوْلاكَ في الحرْبِ أجْنَبُ

وَمَوْلاكَ مَوْلاكَ الذِي إن دعوْته

أجَابَكَ طَوْعاً وَالدِّمَاءُ تَصَبَّبُ

فلَا تخذُلِ المَوْلى وإنْ كانَ ظالِماً

فَإنَّ بِهِ تُثأى الأمورُ وترْأبُ

وبالرغم من ذوقهم الجاف، فليس ثمت ما هو أخص في العرب الجاهليين والمسلمين على السواء من روح الفروسية والتضحية بالنفس لنجدة الصديق حتى ولو لم تكن هناك أية فائدة شخصية من وراء هذه التضحية. ويقدم لنا الشعر القديم البراهين الجمة على أنهم

ص: 41

كانوا يمقتون نكث العهد الذي اتفق عليه بين التاجر وعميله. أو الضيف ومضيفه، وأدب العرب زاخر بالشواهد الجمة على صدق هذا الفضل. وأقرب مثال إلى ذلك قصة السموأل الذي يضرب به المثل في الوفاء فيقال هو (أوفى من السموأل) أو (وفاء كوفاء السموأل) ويقال إنه كان صاحب الحصن المعروف بالأبلق، واحتفر فيه بئراً عذبة، وكانت العرب تنزل به فيضيفها، وتمتار من حصنه. ويقال إن امرأ القيس لما سار إلى الشام يريد قيصر نزل على السموأل ومعه أدراع كانت لأبيه ورحل إلى الشام فوجه ملك الحيرة جيشاً تحت إمرة الحرث بن ظالم ثم قال للسموأل (أتعرف هذا؟) قال نعم هذا بني. قال:(أفتسلم ما قبلك أم أقتله؟) قال: (شأنك. فلست أخفر ذمتي ولا أسلم مال جاري) فضرب الحرث وسط الغلام، فقطعه قطعتين، وانصرف عنه فقال السموأل:

وَفيتُ بأدرع الكندِي إني

إذا ما ذُمَّ أقوام وَفيت

وأوصي عادياً يوماً بألا

تهدُم يا سَموأل ما بَنيت

بنى لي عادياً حِصناً حصيناً

وماء كلما شِئت استقيتُ

كما أن المثل البدوي الأعلى للكرم والسخاء هو حاتم طيء، الذي يروى عنه كثير من الأقاصيص المستطرفة، ويمكننا أن نعرف نظرة البدوي إلى هذا الموضوع مما ذكره الأغاني من أن أم حاتم وهي حبلى رأت في المنام من يقول لها: أغلام سمح يقال له حاتم أحب إليك أم عشرة أغلمة كالناس، ليوث ساعة البأس، ليسوا بأوغال ولا أنكاس؟ فقالت حاتم، فولدت حاتماً، فلما ترعرع جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له: إلحق بالإبل، ووهب له جارية وفرساً وفلوهاً، فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم. ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحداً، فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم فقالوا: يا فتى هل من قرى؟ فقال تسألونني عن القرى وقد ترون الإبل؟ وكان الذين بهم عبيد بن الأبرص وبشر بن حازم والنابغة الذبياني، وكانوا يريدون النعمان فنحر لهم ثلاثة من الإبل فقال عبيد:(إنما أردنا بالقرى اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لابد متكلفاً لنا شيئاً) فقال حاتم (قد عرفت ولكنني رأيت وجوهاً مختلفة وألواناً متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحدة، فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه) فقالوا فيه أشعاراً امتدحوه بها وذكروا فضله فقال حاتم:

ص: 42

(أردت أن أحسن إليكم فكان لكم علي الفضل، وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب الإبل عن آخرها أو تقسموها) ففعلوا، فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيراً ومضوا على سفرهم إلى النعمان. وأن أبا حاتم سمع بما فعل فأتاه فقال له: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر

كما نسمع أن ابنة حاتم قد اقتيدت أسيرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت له: (يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي؛ كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضعيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط: أنا بنت حاتم طي) فأجابها الرسول (يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عنه. خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق)

وكان حاتم شاعراً معروفاً، وفي أبياته التالية يخاطب زوجه ماوية:

أيا ابنة عبد الله وابنة مالك

ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد

إذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالتَمِسي لَه

أكِيلاً فَإنِّي لَسْتُ آكلُهُ وَحْدِي

أخاً طارقاً أوْ جارَ بيت فإنني

أخافُ مذَمَّات الأحاديث من بعدي

وإني لَعَبد الضيف ما دام نازلاً

وما فيَّ إلا تلك مِن شِيمة العبدِ

(يتبع)

حسن حبشي

ص: 43

‌شخصية الزهاوي

بمناسبة مرور عام على وفاته

بقلم السيد احمد المغربي

لسنا نقرر شيئاً جديداً إذا قلنا بأن الزهاوي كان شخصية فذة متعددة النواحي، تشهد على مدى نبوغه وعبقريته، ذلك لان الزهاوي لم يكن شاعراً مجدداً، دقيق الحس مفتوح القلب مرهف السمع، متقد العاطفة، ثائر القلب فحسب، بل كان إلى هذا كله فيلسوفاً تعمق في دراسة الفلسفة ونفذ إلى ما وراء المادة والطبيعة، فخبر أحوالها وتفهم ما دق من أسرارها وخفاياها. وكان في فلسفته متأثراً بأبي العلاء المعري، مترسماً خطاه، متبعاً أساليبه؛ ونظرة في ملحمته (ثورة في الجحيم) ومعارضتها برسالة الغفران، تؤيد ما نذهب إليه. ولا غرو فإن كلاً من الشاعرين الفيلسوفين كان يسخر من التقاليد الموروثة؛ ولماذا نذهب بعيداً والزهاوي نفسه يعترف بتلمذته عليه وإعجابه به وهو يشكو إليه ما أصابه من ظلم وحيف:

وإن أكبرَ شيء فيك يُعجبني

سُخرية بتقاليد وعصيانُ

وأنكروا فيك إلحاداً وزندقة

وعلَّ ما أنكروه فيك بُهتانُ

إني تتلمذتُ في بيتي عليك وإن

أبلَتْ عظامَك أزمان وأزمانُ

أصابني في زماني ما أصابك من

حيفٍ فما رد هذا الحيفَ إنسانُ

أما شعره فحر طليق، لا يتقيد بالسلاسل والأغلال، ينزع فيه نحو الطبيعة المطلقة، مخترقاً التقاليد التي ورثها الأبناء عن الآباء، خالياً من الصناعات اللفظية والخيالات الوهمية، نزَّاعاً إلى التجدد، ثائراً على النظام، متمرداً على الأوهام

إذا الشعر لم يهززك عند سماعه

فليس خليقاً أن يقال له شعر

ما الشعر إلا شعوري جئت أعرضه

فانقده نقداً شريفاً غير ذي خللِ

الشعرُ ما عاش دهراً بعد قائله

وسار يجري على الأفواه كالمثلِ

والشعرُ ما اهتز منه روحُ سامعه

كمن تكهرب من سلك على غَفَلِ

فيه إلى اليوم ما قلدتُ من أحد

وما على غير نفسي فيه متكلي

أفعمته حكماً تعلو، وأمثلة

تحلو، فسُرَّ به شعب وصفَّق لي

وقد أعود به إبان أنظمُه=إذا تذكرت أيامي إلى الغزل

ص: 44

فالزهاوي كان كالبحتري شديد الزهو والإعجاب بشعره لأنه مرآة حقيقية تنعكس عليه نفسه الشفافة وقلبه الطيب:

إنني إن بكيت أبكي بشعري

ولقد أهديه إلى الأحقابِ

كل بيت منه إذا عصروه

دمعة ثرَّة على الآدابِ

بين شعري، وما يجيش بصدري

من شعور وشائج الأنسابِ

أنا عنه محدث وهو عني

وكلانا في القول غيرُ محابِ

أما قريضي هذا

فإنه نفاثُ

شعر له من شعوري

والصدقِ مستنداتُ

وإنما صقلته

الخطوبُ والنكباتُ

والزهاوي، بالرغم من إعجابه بشعره وأيمانه بأنه شاعر الأجيال وأن شعره خالد لا يموت يعترف بأنه لم يكن دائم التحليق، بل أنه كثيراً ما كان يُسِف تبعاً لحالته النفسية. . .

يا شعرُ أنت سماءٌ

أطير فيها بفكري

طوراً أسِف وطوراً

أعلو كتحليق نسرِ

إن لم تصور شعوري

فلست يا شعر شعري

من بعد موتي بحين

سيعلم القومُ قدري

فقد وقفت حياتي

لهم وأفنيتُ عمري

ويكاد يخلو شعر الزهاوي من الغزل التشبيب، والتغني بمحاسن الحبيب، وتبيان ما يقاسيه المحبون من ضروب الآلام والأسقام، ووصف ما يتكبدونه من عذاب الهجر، وألم الحرمان ولوعة الأسى وحلاوة الوصل، وأكبر الظن أنه لم يتح له أن يدخل في شبابه في زمرة المحبين، لانشغاله في نشر رسالته، وأما ما نقرؤه في هذا السبيل فقلما يثير إعجابنا أو يستدر عطفنا ورحمتنا، وإذا ما تغزل بغادته (ليلى) فإنما كان يتغزل بوطنه

ولعل خير قصائده الغرامية هي القصيدة التي يصف فيها الحب. . .

أولُ الحب في القلوب شرَاره

تختفي تارة وتظهرُ تاره

ثم يرقى، حتى يكون سِراجاً

لذويه، فيه هدى وإناره

ثم يرقى، حتى يكون مع الأي

ام ناراً حمراء ذاتَ حراره

ص: 45

ثم يرقى، حتى يكون أتوناً،

بحراراته تذوبُ الحجاره

ثم يرقى، حتى يكون حريقاً

فيه هَلكْ لأهله وخساره

ثم يرقى، حتى يمثل بركا

ناً يرى الناس من بعيد نارَه

ثم يرقى، حتى يكون جحيماً،

عن تفاصيلها تضيق العباره

فأنت تلاحظ أن هذه القصيدة نفسها تغلب عليها روح التحليل العلمي الفلسفي، وما الحب إلا عاطفة هوجاء صاخبة عاصفة، تتبرأ من العلم، وتتهرب من الفلسفة!!

الزهاوي العالم

وناحية أخرى من شخصية الزهاوي تحتاج إلى عنايتنا واهتمامنا هي الناحية العلمية، فالزهاوي كان عالماً عبقرياً شُغِفَ بالأبحاث العلمية، ولاسيما فيما يتعلق بالجاذبية. وله في هذا الصدد نظريات وآراء، إن لم تحُز موافقة العلماء المحدثين، فهي على الأقل تشهد على سعة اطلاعه ومدى نبوغه، ذلك لأن الزهاوي لم ينشأ في بيئة علمية، ولم يتلق العلم في جامعات معروفة بل أن ما توصل إليه، كان نتيجة بحثه وتفكيره. . .

وفي وسعنا أن نوجز رأي الزهاوي في الجاذبية، بأن المادة لا تجذب المادة، بل إن المادة تدفع المادة. وعلى هذا فإن الحجر الذي يسقط على الأرض، لا يسقط لجذب الأرض إياه، بل لدفع الموادِ في السماء إلى الأرض.

وهو يعلل أنواع الجاذبيات بناموس واحد، وهو دفع المادة للمادة بسبب ألكتروناتها التي تشعها بكثرة. وهو يفسر بأن الحرارة والنور في الشموس يتولدان من الأثير المنعكس عن مراكزها، بعد جريانها إليها، حفظاً للموازنة التي لا تزال تختل بطرد الإلكترونات له من بين الجواهر في كل جسم، مبيناً أن هذا الأثير الجاري إلى الأجرام هو الذي يدفع الأجسام إليها: فيزعم العلماء هذا الدفع الخارجي جذباً داخلياً.

ثم يشرح الزهاوي بمبدئه سبب حدوث الزلازل، وحالات ذوات الأذناب فيميط اللثام عن توجه أذنابها إلى خلاف جهة الشمس وعن سبب ابتعادها عن الشمس بعد أن تدور حولها دورة ناقصة، وعن بقاء القوة، وعن حقيقة الشمس وهو ينكر انحلال الشموس إلى السدم منكراً تولدها منها.

فلسفة الزهاوي - تحليل (ثورة في الجحيم)

ص: 46

لعل فلسفة فقيدنا الكبير أظهر ما تكون في ملحمته الشهيرة (ثورة في الجحيم)، وهي تحفة فنية خالدة أثبت فيها آراءه الفلسفية ومعتقداته الدينية ونزعاته الإصلاحية، ولسنا نغالي إذ نقرر بأنها صورة حية صادقة للمبادئ السامية والمثل العليا التي وقف الزهاوي حياته على تحقيقها غير مكترث لما يعترض سبيله من العقبات، بل إن هذه العقبات ما كانت إلا لتزيد عزيمته مضاء وإيمانه إيماناُ بتلكم الرسالة المقدسة التي عمل على نشرها بين قومه.

وتتلخص هذه الرسالة في التحرر من التقاليد البالية والعادات الموروثة التي وقفت سداً منيعاً دون تقدم الشرق العربي فجعلته يرسف في أغلال من الأوهام وقيود من الأحلام، هي ثورة على القديم، وانتصار للجديد في مختلف نواحي الحياة. . . والثورة تتطلب الهدم. . والزهاوي كان ثائراً هداماً

ثورة الزهاوي في الجحيم: -

يتخيل شاعرنا نفسه ميتاً قد احتواه القبر وإذا بمنكر ونكير يوقظانه من رقاده البدي فيعود إليه شعوره ويشاهد أمامه نسرين هائلين تتطاير النار من عيونهما وتبدو ملامح الشرَّة على وجهيهما. لكل منهما أنف غليظ وفم واسع وبأيديهما أفاع غلاظ تتلوى وتدور

فيخور عزمه وتهن قواه ثم ما يلبث أن يستعيد جرأته، ويتمالك جأشه ويجيب على الأسئلة التي كان يوجهها إليه الملكان، فيعترف بأنه لم يأت في حياته أمراً خطيراً فقد مارس الشعر دفاعاً عن الحق وهو يفتخر بأنه كان يخالف جمهرة الناس في الرأي والمعتقد فيثير عليه نقمتهم فيمعنون في ازدرائه واضطهاده حتى إنهم ليهمون مرة بقتله. مع أنه كان يعتقد بالوحي، ويؤمن بالأنبياء والمرسلين ويقوم بما يعرضه الإسلام على المؤمنين من صلاة وصوم وزكاة وحج وجهاد

ثم يسأله أحد الملكين عن الحشر والميزان والحساب والصراط والجنان والجحيم، فيجيبه الزهاوي بأنه كان في شبابه مؤمناً كل الإيمان فإذا بالشكوك تهب تلاحيه فيتعمق في العقائد إلا نفسه لا تزال مضطربة حائرة، فهو تارة مؤمن، وهو تارة ملحد، وهو يخشى الجحيم ولجج النار، ويرجو من الله أن يرفق بعباده فإنهم ضعاف لا حول لهم ولا صبر على العذاب.

وهو يبدي ارتيابه في كل ما عجز العقل عن تأويله إلا أنه لا يشك مطلقاً بوجود الله فهو

ص: 47

في الجبال والوديان، في البر والبحر، وهو واجبُ الوجود وواهب الوجود قد استوى على عرشه في السماء إن أراد شيئاً قال له كن فيكون

فيتهمه الملكان بالإلحاد ويمضانه بالمقامع ضرباً وهو يستعطفهما فلا يعطفان عليه. وهو يسترحمهما فلا يرحمان دمعه الغزير وجسده الدامي بل يصبان فوق رأسه قطراناً فائراً شوى رأسه ووجهه ويطيلان عذابه حتى يغيب وعيه فإذا ما عاد إليه صوابه ألفى نفسه موثق اليدين بحبال مفتولة لا يستطيع حراكاً فيحمله الملكان ويطيران به في الفضاء إلى الجنة حتى يزداد عذاب ضميره من حرمانه إياها، ويبيح لهما رضوانُ دخول الجنة. وهنا تتجلى روعة الزهاوي الشعرية في الوصف الدقيق الجذاب فيحلق في سماء الفن ما شاء له التحليق، ويسمو في عالم الخيال الرفيع سمواً ليس بعده من سمو: -

كلُّ ما يرغبونَ فيه مُباح

كلُّ ما يشتهونه ميسورُ

وعلى تلكم الأسرة حور

في حُلى لها ونعمَ الحورُ

ليس يخشين في المجانة عاراً

وإن اهتز تحتهن السرير

وكأن الولدان حين يطوفو

ن على القوم لؤلؤ منثور

إئت ما شئته ولا تخش بأساً

لا حرام فيها ولا محظور

فإذا ما اشتهيت طيراً هوى من

غصنه مشوياً وجاء يزور

وإذا ما رمت أن يحول لك التين

دَجَاجاً أتى إليك يطير

ليس فيها موت ولا موبقات

ليس فيها شمس ولا زمهرير

لا شتاء ولا خريف وصيف

أترى أن الأرض ليست تدور

ولقد رمتُ شربة من نمير

فتيممته ففرَّ النميرُ

وكأن الماء الذي شئت أن أش

ربه بابتعاده مأمور

ويتذكر بأنه مطرود ملعون، لا يحق له أن يتمتع بما وُعد به المؤمنون المتقون، فيرجو من الملكين أن يعودا به من حيث أتيا لأن ما يشاهده من النعيم يثير أشجانه ويهيج أحزانه فيخرجانه من الجنة ويشدان وثاقه ويقذفان به في جوف الجحيم

وكأنَ الجحيم حفرة بركا

ن عظيم له فم مفغور

تدلعُ النارُ منه حمراءُ تلقِي

حمماً راح كالشواظ يطيرُ

ص: 48

وأشدُّ العذاب ما كان في الها

وية السفلى حيث يطغى السعيرُ

الطعامُ الزقومُ في كل يوم

والشراب اليحمومُ واليحمورُ

ولهم فيها كلَّ يوم عذابٌ

ولهم فيها كل يوم ثَبورُ

ثم فيها عقاربٌ وأفاعٍ

ثم فيها. ضراغمٌ ونمورُ

وقدت نارُها تئزُ فتغلِي

أنفس فوق جمرها وتخورُ

ولقد كانت الوجوهُ من الصا

لين سوداً كأنهن القيرُ

ولقد كانت الملامحُ تخفى

ولقد كانت العيونُ تغورُ

لستُ أنسى نيرانها مائجاتٍ

تتلظى كأنهُن بحورُ

ولقد صاح الخاطئون يريدو

ن نصيراً لهم وعز النصيرً

وتساوى أشرافهم والأداني

وتساوى غنيهم والفقيرً

ثم يعدد لنا الزهاوي العلماء والشعراء والأدباء والفلاسفة الذين رآهم في الجحيم، فيذكر لنا الفرزدق وجرير والأخطل والمتنبي والمعري وبشاراً وأبا نواس والخيام ودنتي وشكسبير وامرئ القيس.

أما بشار فكان حانقاً ثائراً مهتاجاً وأما أبو نواس فكان كئيباً حزيناً، على أن الخيام لم يشغله عذاب الجحيم عن التغني بالخمرة بصوت شجي يطرب له أهل الجحيم

حبذا خمرة تعين على الني

ران حتى إذا ذكتْ لا تضيرُ

اسقني خمرة لعلي بها أر

جع شيئاً مما سبتني السعير

أنت لو كنت في الجحيم بجنبي

لم ترعني نار ولا زمهرير

وكان سقراط أثبت القوم جأشاً يلقي خطبه على أصحابه وأخدانه وعلى مقربة منه أفلاطون وأرسطو وكوبرنيك الذي أثبت بأن الأرض تدور حول الشمس، ودروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء، وهيكل وبجنر وسبنسر ورنان وروسو وفولتير وزرادشت ومزدك والكندي وابن سينا وابن رشد والحلاج وغيرهم كثيرون

لم أشاهد بعد التلفت فيها

جاهلاً ليس عنده تفكير

إنما مثوى الجاهلين جنان

شاهقات القصور فيها الحور

وكأن أهل الجحيم قد شعروا أخيراً بما يحيق بهم من العسف والحيف فعقدوا النية على

ص: 49

الثورة لتقويض دعائم الاستبداد، فاخترعوا الآلات المدمرة والأدوات الهدامة واخترق صفوف الملايين أحد الشباب ووقف فيهم خطيباً يبين لهم بصوت جهوري زعزع عاصف ما يقاسونه من الآلام، ويدعوهم إلى مقاومة القوة الغاشمة بالقوة الغاشمة دفاعاً عن حقوقهم المهضومة وذوداً عن كرامتهم المثلومة. فهاج أهل الجحيم وماجوا وعلا منهم الضجيج. فأطفئوا جمرة الجحيم وزحفوا ثائرين هائجين ونشبت حرب ضروس بينهم وبين زبانية النار عاضد فيها الشياطين أهل الجحيم وأنجدت الملائكة زبانية جهنم ورموا بالصواعق والرياح والإعصار، والبروق والرعد، والبحار والجبال والبراكين. وكانت الحرب بادئ ذي بدء سجالاً، إلا أنها أسفرت في النهاية عن انتصار أهل الجحيم، فطاروا على ظهور الشياطين يطلبون الجنان، فاحتلوها وطردوا منها البله المساكين

ومن الإنصاف للعلم والحقيقة قبل الإنصاف للزهاوي أن نقرر هنا بأن الزهاوي لم يقصد من ثورته في الجحيم الشك بوجود الله عز وجل كما ظن السواد الأعظم من بني قومه وإنما كان مسلماً قوي الإيمان إلى أقصى حدود الإيمان والأمثلة على صحة ما نذهب إليه وافرة نورد منها ما يتسع له النطاق الذي حددناه لهذه الكلمة:

قال ما دينك الذي كنت في الدنيا

عليه وأنت شيخ كبير

قلت: كان الإسلام ديني فيها

وهو دين بالاحترام جدير

قال من ذا الذي عبدتَ فقلت

الله ربي وهو السميع البصير

مذهبي وحدة الوجود فلا كا

ئن غير الله القديم القدير

أنا هذا، فلا أبالي إذا ما

أجمعت ثلة على تكفيري

أهل عصري لا يفقهون حديثي

حبذا لو أتيت بعد عصور

أنا ما كفرت بكل عم

ري بالكتاب المنزل

أنا لم أزل أشدو بنع

تِ للنبي المرسل

يسائلني عن مذهبي وعقيدتي

فريق من الأشياخ ما أنا منهم

فقلت لهم أما السؤال فبارد

وأما جوابي فهو أني مسلم

ولكنني ما كنت يوماً مقلداً

يرى أن حكم العقل في الدين مأثم

فما القلب مني بالسخافات مولع

ولا الرأس مني بالخرافات مفعم

ص: 50

لا دَرَّ دَر الجاهلين فإنهم

يرمون بالإلحاد من لا يلحد

إن كان من يبدي الحقيقة ملحداً

فليشهد الثقلان أنيَ ملحد

أحمد الباري الذي يتساوى

عنده إيماني به وجحودي

كلنا مؤمن يسبح للرحم

ن في ظل عرشه الممدود

إنني ما سجدت يوماً لغير الله

فالله وحده معبودي

(البقية في العدد القادم)

احمد المغربي

ص: 51

‌5 - دعابة الجاحظ

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

. . . والآن فلننظر إلى الجاحظ في ضحكه، ولقد كان الجاحظ ضحوكاً طلقاً تستخفه النادرة فيقهقه ملء شدقيه، ويقصد إلى الإضحاك فيبلغ من ذلك غايته. وإنك لتجده في ضحكه وإضحاكه - كما كان في تهكمه وسخره - مطبوعاً موهوباً خفيف الروح. لطيف الإشارة، ظريف الأداء، طريف المقصد، فهو في إضحاكه يسلك السبيل اللاحب إلى القلب، ويصل إلى قرارة النفس في ملاطفة وسهولة. وخفة وبراعة، وإنه ليهز المشاعر بالنادرة يبتدعها، ويشفي القلب بالملحة يرسلها، ولقد تصرمت السنون وخلت القرون وما زالت نوادر الرجل ومضاحيكه في بطون الكتب إذا ما وقع عليها القارئ فلا يستطيع الإمساك مهما كان في وقاره، ومهما اعتورها بالنظر ورددها في اللسان. وعلى أن النادرة لا يكون لها في الإضحاك مكتوبة كمثل ما يكون لها إذا ما جرت تحت المعاينة، فإن المكتوب لا يصور لك كل شيء. ولا يأتي لك على كنهه وعلى حدوده وحقائقه. وأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك فإنه ينطلق في غير احتشام، ويجري في الشوط إلى أبعد غاية. حدث عن نفسه قال: صحبني محفوظ النفاش من مسجد الجامع ليلاً، فلما صرت قرب منزله وكان أقرب إلى المسجد من منزلي، سألني أن أبيت عنده، وقال أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة وليس معك نار، وعندي لبأ لم ير الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة، فلمت معه فأبطأ ساعة ثم جاءني بجام لبأ وطبق تمر، فلما مددت قال يا أبا عثمان: إنه لبأ وبه غلظة، وهو الليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً، وما زال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء، فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ، كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك، ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك، وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك، ولفم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً، وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً كان وكان، والله قد وقعت بين نابي الأسد، لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك، قلت: بخل به وبدا له فيه، وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت لم يشفق علي ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً، وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة!! فما

ص: 52

ضحكت قط كضحكي تلك الليلة، ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فما أظن، ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضي علي ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب

فانظر يا رعاك الله إلى أي حد كان يغرق الجاحظ في الضحك والمرح، والى أي حد كانت النادرة تستخف وقاره، وتهيج نشاطه، وتجلب له كل هذا من البشر والسرور. وماذا تقول في رجل لو وجد من يساجله الضحك ويجاذبه السرور لما أمن على نفسه الموت سروراً وضحكاً؟! على أن ما قاله صاحبه لمن يكن ليحمل على كل هذا ولا يدعو إليه، فيا ليت شعري أكان الجاحظ يعيش في الحياة بقلب فارغ من الهموم والمشاغل، بعيد من الأحداث والأوصاب؟ أم كان ذلك الرجل يضحك عن فلسفة وراي، فهو يعتقد أن هذه الحياة الفاجرة أحقر وأهون من أن يسفح الدمع في الحرص عليها، وأن يسجن القلب في سبيل الودادة إليها، وأن يتكلف لها ما يتكلفه بعض الناس من التزمت والوقار، وكزازة النفس، وضيق العطن، أولئك الذين ابتعدوا من المرح لأنهم زعموه ينافي المروءة، وحرموا أنفسهم نعمة الضحك لأنهم استقبحوه بالوقار!! قال الجاحظ ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبني كأنه يضحك ضحكاً وقد قال الله جل ذكره: وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، والله تعالى لا يضيف إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص، وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع وفي أساس التركيب، لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته. ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمي أولادها بالضحاك وببسام، وبطلق وبطليق. وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وفرح. وضحك الصالحون وفرحوا؛ وإذا مدحوا قالوا هو ضحوك السن، بسام العشيات وذو أريحية واهتزاز؛ وإذا ذموا قالوا هو عبوس وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا. وهو مكفهر أبداً وهو كريه وبغيض الوجه، وكأنما وجهه بالخل منضوح

فالجاحظ إنما كان يقصد إلى الضحك والإضحاك: لأنه ذلك في رأيه (يكون موقعه من

ص: 53

سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في اصل الطباع وفي أساس التركيب، وهو أول خير يظهر من الصبي)، وإذن فليأخذ الجاحظ في الضحك والإضحاك ما استطاع حتى يغتنم هذا الخير فيسر نفسه ويصلح طباعه، وما أحوجه إلى ذلك. ومن ذا الذي لا يضحك على هذا الشرط. ويسبق إلى الإضحاك إذا ما صح عنده هذا الاعتقاد الذي كان يعتقده الجاحظ؟ وكأن الله قد أراد أن يسعد الرجل في هذه الغمرة، وأن يعده لأداء هذه المهمة، فبرأه مرح النفس أو على حد تعبيره - ذو أريحية واهتزاز كما برأه في منظر جهم، وشكل هو المثل السائر في القبح والدمامة، فكان الرجل لا يتورع ولا يتحرج من أن يجعل من ذلك مصدر ضحك وإضحاك، فيتفكه بقبحه ودمامته، ويتندر بما فيه من شذوذ الوضع وجهامة الشكل، بل لقد كان يحلو له ذلك ويتعمده ويسوقه إلى الناس وهو قرير العين، طيب الخاطر، حتى لتحسبه في تلك الناحية ممثلاً هزلياً وقف على الخشبة ليضحك الجمهور، ويدلهم على مواضع الدمامة في شكله، والنقص في خلقته وماذا ترى في رجل يحدث عن نفسه بهذه الصراحة فيقول: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده. فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني!!

وقال فيما قال عن نفسه: ما غلبني أحد قط إلا رجل وامرأة فأما الرجل فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا برجل قصير بطين كبير الهامة طويل اللحية مؤتزر بمئزر وبيده مشط يمشطها، فقلت في نفسي: رجل قصير بطين ألحى! فاستزريته فقلت: أيها الشيخ: لقد قلت فيك شعراً!! فترك المشط من يده وقال: قل فقلت:

كأنك صعوة في أصل حش

أصاب الحس طش بعد رش

فقال اسمع جواب ما قلت، فقلت هات! فقال:

كأنك جندب في ذيل كبش

تدلدل هكذا والكبش يمشي

وأما المرأة فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا أنا بامرأتين رأيت إحداهما في العسكر وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت لها: انزلي كلي معنا! فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا!! فهو يعرض بطولها وهي تعرض بقصره

وأما الأخرى فإنها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي! فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا!! ثم تركتني وانصرفت،

ص: 54

فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت ألي بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان! فقلت لها ما رأيت الشيطان حتى يمكن أن أصوره، فأتت بك وقالت ما سمعت!!

وقد لا يخجل من أن يتندر على نفسه بالبلاهة وبالغفلة، ومن ذلك ما ذكره عن نفسه إذ قال: جلست إلى المرآة وقد أمسكت بالمقراض أريد أن أقرض من لحيتي ما زاد على القبضة من تحت ولكني نسيت فقرضت ما فوق القبضة، وتلك من اختراعات الجاحظ وتلفيقاته. وللرجل من أمثال هذه كثير، وكلها من هذا الطراز الذي يطل منه الجاحظ صريحاً في الضحك على نفسه، جريئاً في الإضحاك بما يمسه في سمته، فلا يخجله أن يتحدث عن بشاعة منظره الذي أفزع المتوكل فصرفه عن تأديب أولاده، وجعل المرأة تقدمه إلى الصائغ على أنه شيطان، والأخرى تعرض بقصره، والثالثة تخجله بالنادرة، والشيخ يمثله بالجندب في ذيل الكبش. . . فأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك على غيره من الإخوان والأصدقاء، والحمقى والنوكى والموسومين والمدخولين، وأهل العي والحصر والنجلاء والأطلة، والمكدين وأصحاب التطفيل، فإنه يكون أصرح وأجرأ، وأحلى، وأملح، وقد عني الرجل بأخبارهم واهتم بالحديث عنهم، وما أعرف له كتاباً يخلو من ذكرهم، وإذا كان من الإطالة أن نسرد ما للرجل في كل ذلك فلا بأس من أن نسرد بعض ما له في مقال آت

(له تابع)

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 55

‌إلى شباب العرب

للشاعر القروي

ثبْ يا شباب العُرب ثب

مشت الشعوب وأنت نائم

ثبْ فالعلى نار تأجج

في العروق وفي العزائم

ورِد المجرَّة بالضر

اغم تحت أجنحة القشاعم

وأردد مجاهل هذه ال

أكوان واضحة المعالم

حطمت قيدك فانطلق

في حلبة العمل العظيم

واستغن بالعز الطر

يف عن التغني بالقديم

إن لم تجلَّ عن الرميم

بنهضة تحيي الرميم

ما أنتَ بالخلف الكريم

لذلك السلف الكريم

اليوم تجني ما سقي

ت بذروه العلق الثمينا

فاحرص على ما قد وجد

ت بمن فقد بميسلونا

حاشاك بعد بزوغ مج

دك أن تخون وأن تهونا

ما نلت الاستقلال إلا

بعد أن ذقتَ المنونا

الناس حولك للوثو

ب إذا غفت عين انتباهك

يتراقصون على أنينك

شاربين كؤوس آهك

لم تغنك الصلوات إن

سطت الذئاب على شياهك

الحرب من سنن الحيا

ةِ أأنت أحكم من إلهك

ليس الفتى العربي بالذ

ئب الخطوف ولا الخروف

لكنه البطلُ الشري

ف القادر البطلَ الشريف

نحن الأولى فخروا الأنا

م بكل جبَّار لطيف

لا يستبد بغير طا

غٍ مستبدٍّ بالضعيف

مازلت في بدء الجها

د فلا تقل بطلَ الجهاد

اليوم يومك للسبا

ق اليوم يومك يا جواد

فانهد إلى حوماته

لا بالمهندة الحداد

ص: 56

بل بالتساهل والمحبَّ

ة والوئام والاتحاد

عش للعروبة هاتفاً

بحياتها ودوامها

وامدده يمين الحب با

لبنانها لشآمها

أنظر إلى آثارها

تنبئك عن أيامها

هذا التراث يمتُّ مع

ظمه إلى إسلامها

ما لي أراك برئت من

دمها ومن أوطانها

أنسيت أنك ليث نه

ضتها ونسر بيانها

أتقول لست من الشآ

م وأنت في أحضانها

أتهد ناطحة النجو

مِ وأنت من أركانها

إن فاتك الرأي السدي

د فخذ برأي ذوي العقول

ودعِ الغبيَّ يقول ما

شاء التعصب أن يقول

الحق بشاعرك الأبي

وفيلسوفك يا جهول

من سار خلف (الديك) يع

لم أين آخرة الوصول

هلا ذكرت فتوحهم

بالمشرفيَّة والقلم

أيام هزوا للعلى

والعلم في الغرب العلم

جمعوا الذكاء إلى الوفا

ء إلى الإباء إلى الشمم

قهروا العدى نشروا الهدى

رضعوا الندى بدعوا الكرم

قل لي بربك هل ربح

ت من الغريب سوى المحن

وفروغ جيبك واليدين

وقتل روحك والبدن

كانت تدر الشهد أر

ضك والسلافة واللبن

فغدا الوقوف على ربو

عك كالوقوف على الدمن

سيجرّ عزرائيل فو

ق ربوعهم ذيل العفاء

ويطير الشيطان ما اخ

ترعوا بما اخترعوا هباء

ويطهر الأجواء من

عقبانهم نسر القضاء

من كان يأباه الجح

يم فكيف ترضاه السماء

ص: 57

شيد على أنقاضها

مدنيَّة الخلق المتين

فلأنت بالتمدين دو

ن الناس أجمعهم قمين

مثل المهند أن يهز

فإن يهزَّ بك الحنين

فالغصن، فالنسمات، فال

ورقاء، فالماء المعين

وآهاً على عهد السذا

جة والحماقات العذابِ

ما ضرَّ لو غادرتهن

وطرت وحدك يا شبابي

خير الصحاب تركتني

وتركت لي شر الصحاب

بعد الأماني العذا

ب أمر ألوان العذاب

عش للتفاؤل يا شبا

ب وللبشاشة والخلابه

عش للخيال وللجما

ل وللغرام وللصبابه

عش للطموح وللجها

د وللمناعة وللصلابه

قيل المهابة للشيو

خ وأنت أجدر بالمهابة

سر في فتوح الخالدين

وطرْ إلى أقصى مطارك

الكهرباء على يمي

نك والبخار على يسارك

طرْ لابساً إكليل غا

رك رافعاً علم انتصارك

رحب الفضاء فناء دا

رك والعوالم باب دارك

الشاعر القروي

من العصبة الأندلسية

ص: 58

‌حديث الأزهار

للكاتب الفرنسي ألفونس كار

- 3 -

زهرة التذكار

وسقطت زهرة من طرتها، فانحنى ليرفعها عن الأرض. استوقفته بنغمة من صوتها الشجي قائلة: - دعها، دع الزهرة التي صدمها الهواء، وخذ هذه، بدلاً عنها.

أخرجتني من بين نهديها وأهدتني لحبيبها.

سمعته ينشد وهو يضمني إلى صدره: أيتها الزهرة المحبوبة

ابقي معي إلى الأبد، أنت زهرة التذكار.

وذهب بي إلى غرفته المنفردة، حيث بللت فمي بكأس البلور.

كان ينظر إلي، فيراها. ويهمس في وريقاتي قائلاً: -

يا زهرة محبوبتي، ما أقوى عبيرك وما أشد فعله في قلبي!

لقد لمستك بيدها وتركت أنفساها تهب على وريقاتك، لو فقدتك بين آلاف الأزهار لما ضل عنك تذكاري.

شربت كثيراً من الكأس البلورية فلم أرتو، ذبلت ككل شيء ينفصل عن أصله، علا الاصفرار تويجي فانحنيت على نفسي، رأيته يتقدم إلي والدمعة في عينيه، يحدجني بنظراته الرائعة، ثم قال: - ما أوجع احتضارك على مشهد مني يا زهرة التذكار! سيسطو عليك ملك الموت ولكنه لن يدنو من روحك الخالدة روح التذكار الدائم. تعالي لأدفنك في القبر المقدس حيث دفنت آمالي فيضمك وحياتي كفن واحد.

أخذني إلى خزانته وألقاني بهدوء بين أكفان الطروس، بين رسائل من يهوى.

وكان مقري بين النار الكامنة في الكلمات، والكلمات صامتة في الحروف السوداء

لقد زارني مراراً في قبري، فكنت عاكساً أميناً لخياله، تنطبع نضارة تذكراه على اصفرار وريقاتي، ويهب عبير غرامه من جفاف عروقي، فيراني صبية رائعة الشباب تنفخ الفتوة في كهولة قلبه.

ص: 59

وما عدت أراه إلا من حين إلى حين.

ومنذ أيام أخذ كفني دون أن يلقي علي كلماته نظرة واحدة ودفع به إلى اللهيب. ثم لحت لعينيه جافة صفراء فحدجني ملياً كأنه يفتش على ذكر لا يهتدي إليه.

أمسكني بأطراف أنامله وتقدم ببطء إلى النافذة.

شعرت بمصادمة الهواء لوريقاتي النحيلة فارتجفت.

أنكر جميلي وأي إنسان ليس جاحداً؟

أنا الزهرة المأخوذة من بين نهديكن، أنا زهرة التذكار؛ لفح الهواء وريقاتي الجافة فتبددت في الفضاء.

(ف. ف.)

ص: 60

‌أقصوصة

الخداع

مترجمة عن الفرنسية

بقلم الأستاذ فليكس فارس

بين الوهاد والجبال أمام روعة الطبيعة لم تدنسها يد الإنسان كانت العساكر الفرنسية والإنكليزية تتحين الفرصة للهجوم، وكل منها يتوقع الفوز بوفرة عدده وضخامة عدده. وكان قائد الجملة الفرنسوية شيخاً بلته الأيام فما زادته إلا صلابة وعزماً. وقد ملئ تذكاره بالوقائع الكبرى وعقد له النصر ألوية وسجل له التاريخ صفحات المجد خالدة.

حمي وطيس الحرب فتوالت الهجمات وتفجرت الدماء على تلك الأرض الجرداء مثمرة الترمل والثكل واليتم. وما لبث أن أحاط الإنكليز بأعدائهم إحاطة السوار بالمعصم فكادت تدور على هؤلاء الدائرة لو لم يتدارك القائد الشيخ خطورة الموقف بعزمه وإقدامه

وكان هذا القائد ممتطياً صهوة جواده يفكر في إيجاد وسيلة تمكنه من اختراق صفوف الأعداء. فشاهد أحد أتباعه يتقدم إليه بخطوات ثابتة. وعندما وصل القادم إلى مقربة منه عرف أنه هنري الذي تبناه بعد أن سقط والده قتيلاً في موقعة كان هو قائدها أيام الصبا. وحاط القائد هذا الطفل بكل رعايته حتى بلغ أشده فاتخذه معيناً له، وكان يستصحبه في جميع معاركه وكان هذا الفتى الجميل قد عاد مرات من الحروب مثخناً بالجراح فضمدتها يد قرينة القائد الشيخ وهي فتاة في ريعان الصبا كانت تزوجته بالرغم من تقدمه في السن وبالرغم من أقوال الناس وتكهناتهم

وحدق القائد بفتاه معجباً بجمال طلعته وبسالته وقال له: - لا خلاص لنا من هذا المأزق إذا نحن لم نخترق دائرة الأعداء المحيطة بنا، فعليك أن تقوم بهذا العمل، اختر من تشاء من الشجعان وسر في مقدمتهم. فالواجب يدعوك إلى التضحية من أجل الوطن والمليك

وانتضى الفتى سيفه ونادى: ليحيى الملك

فرددت نداءه فرقة من الجند لمعت سيوفهم في الفضاء وتقدموا منضمين إلى قائدهم الجديد منتظرين إشارة الهجوم

ص: 61

وارتمى هنري بين يدي مربيه يضمه إلى صدره قبل أن يقتحم المخاطرة الكبرى، فتمازج دمعا الفتى والشيخ وكل منهما موقن بأن لا لقاء بعد هذا الوداع

وفي تلك اللحظة شق الصفوف فارس آت من باريس، ترجل عن فرسه وقد علاه الغبار وأضناه التعب وتقدم إلى القائد الشيخ مقدماً له رزمة رسائل مختومة بالشمع الأحمر حاملة عنوان هنري بأحرف منمقة، ولم يكد يفض القائد الختم ووقعت أبصاره على السطور حتى جمد الدم في عروقه وارتسمت على وجهه أمارات حزن عميق وحدق في ربيبه ملياً وقد جفت دموعه فجأة بين جفنيه

وكانت الرسائل من عقيلة القائد الشيخ موجهة إلى هنري. في كل كلمة منها شرارة شوق وفي كل سطر شعلة غرام وجنون

وأدار الشيخ وجهه عن ربيبه وسرح أبصاره على ميدان المعركة كأنه يفتش عن هاوية تنفتح فيه فيذهب إليها ببقية حنان كانت تختلج في قلبه لربيبه وبشبح غرام نورت أزهاره على غصن هرم ففاحت منا رائحة القبور

مزق الرسائل الواحدة تلو الأخرى على مهل وهو مصغ من أعماق روحه إلى هتفة ما كان يعلم أمنها أم من روح الوجود مصدرها: - ويل للعقوق، ويل للخائنة

وانتبه الشيخ كمن يستفيق من حلم وقال لهنري: - ابق هنا وقم مقامي، فلسوف أقود مخترقي الصفوف بنفسي

فصاح الفتى: - ولم تريد حرماني هذا الشرف، يا أبي؟

فأدار القائد رأسه ليخفي ما ارتسم عليه من الحنق والألم وقال بهدوء: - ذلك أمر تلقيته الآن

واختنق صوته، فاندفع نحو الخطوط وتبعته فرقة المستبسلين

وعلا دخان البارود وملأ الفضاء أزيز الرصاص، فلم يسمع أحد ما هتف به القائد الشيخ وهو يرتمي قتيلاً عن صهوة جواده.

ص: 62

‌الفنون

الفن المصري

1 -

العمارة

للدكتور احمد موسى

دفع الدين والإخلاص له إلى الفن الذي بدأ به المصريون مبكرين. نظروا إلى السماء فقدسوها والى الشمس فعبدوها، والى النيل فعرفوا أنه مصدر حياتهم فجعلوا منه إلهاً للخير، ورأينا فيما سبق كيف كانت عبادة المصريين لمعبوداتهم، وكيف دفع بهم الدين إلى حضارة هي مثار الإعجاب للدارس الباحث على مر القرون

وإذا كانت قواعد تاريخ الفن تشير بتقسيم التراث المجيد إلى أقسام معينة؛ فذلك لكي نحسن الفهم فيتم التقدير الذي يؤدي بنا إلى الاستمتاع بجمال الوجود، فضلاً عما نستطيع وضعه من أصول نتمكن بها من ربط نهضتنا الحالية بالحضارة القديمة، في انسجام وبغير خروج على الذوق العام.

بنى المصريون المقابر والأهرامات لثقتهم بعودة الحياة إلى الجسد بعد الموت، وبعد حساب عسير، ولن تتمتع بقسط من النعيم إلا بقدر ما قدمت من عبادة وتقديس للآلهة، فدفعهم هذا إلى تشييد المعابد التي لم يكن مستطاعاً لهم في غيرها القيام بالواجب الأسمى

فكان بناء المقابر والمعابد أول أقسام الفن، وأجدرها بالدرس لمن يريد معرفة الفن المصري من بناء ونحت وتصوير، والوقوف على ما فيها جميعاً من جمال أدى إليه الشعور بالوجدان وسمو المشاعر ونبل العاطفة

استغرق تاريخ مصر عدة آلاف من السنين، وشمل أسرات بلغت الإحدى وثلاثين، ولذلك ينبغي بتقسيم عصر البناء (والفن من نحت وتصوير) إلى أقسام أولها عصر المملكة القديمة، حيث تم تشييد الأهرامات بالجيزة وغيرها. ثم عصر المملكة الوسطى وبعدها المملكة الحديثة

ويرى الدارس للأهرام سر العظمة البنائية متجلياً فيها، كما يلاحظ الأبهة في إخراجها والدقة المتناهية في تكوينها العام، بجانب ما يستطيع الوصول إليه بالفحص والتحليل من

ص: 63

معرفة بعض ما بلغه المصريون في علمي الهندسة والرياضيات، ولا غرابة إذا اعتبر العلماء المعاصرون، الأهرام أعظم نموذج عملي لعلم الهندسة المعمارية إطلاقاً

ولم تدم مرحلة بناء الأهرام طويلاً، بل إنها لم تكن إلا في عهد الأسرات الأولى فقط، أما المعابد فإنها بدأت معها ولكنها ظلت تشيد طوال عصور الحضارة المصرية القديمة

وأهم الأهرام ثلاثة، أولها وأعظمها هرم خوفو البالغ ارتفاعه حالاً 137 متراً وطول ضلع قاعدته 227 متراً، كله من الأحجار الضخمة التي استحضرت من محاجر طرة والمقطم ومن محاجر أسوان أيضاً. وبلغ حجمه الهائل حوالي مليونين وثلث مليون من الأمتار المكعبة، له مسالك للسير في داخله والوصول إلى حجرات الدفن، كما أن له منافذ للهواء

أما هرما خفرع ومنقرع فهما أصغر قياساً وحجماً، كما أنهما نسبياً أقل أهمية من الهرم الأكبر. وتوجد بمصر أهرامات كثيرة في أبي رواش وأبي صير وسقارة ودهشور وميدوم وغير ذلك، لبعضها مميزات واضحة منها التدرج (كهرم سقارة المدرج) ومنها عدم استقامة أضلاع الزوايا (كهرم ميدوم) الذي كان في الأصل مكوناً من سبع طبقات بعضها فوق بعض لم يبق منها إلى الآن سوى ثلاث. كل هذه الأهرام كانت مقابر للملوك. ولعل ما تشعر به النفس من رهبة أثناء دخول الهرم الأكبر خير دليل على مبالغة الملوك في الحرص على أجسادهم بعد موتهم الذي نظروا إليه بكل اعتبار وبكل تقدير

أما المعابد فقد اختلفت عن الأهرام اختلافاً ظاهراً واختلافاً معنوياً، فبينما كانت الأهرام مقابر للملوك. كانت المعابد أماكن للعبادة. فضلاً عن اختلاف الوضع والتصميم

والناظر إلى المعابد المصرية إجمالاً يرى أنها تنقسم من ناحية طراز أعمدتها التي هي أبرز ما يلفت نظر الزائر لها إلى قسمين: أولهما المعابد ذات الأعمدة الشاملة لقنوات سارت مع طولها، من قاعدتها إلى نهايتها، حيث تحمل السقف مع تجردها من التيجان. وثانيهما ذات أعمدة لها حيناً قنوات وحيناً آخر خالية منها، علاوة على وجود التيجان في أعلاها. أما التيجان نفسها فكانت على هيئة زهرة اللوتس أو زهرة البردي أو على شكل نهاية النخل (العمود النخلي) أو كانت أحياناً عبارة عن مكعب على نهاية العمود الأسطواني حفرت على كل وجه من أوجهه الأربعة رؤوس نساء (ش 6) وبمقارنة المعابد المصرية المهمة بعضها ببعض، يمكن أن نعرف أن عصر نهضة فن بنائها انحصر في عهد المملكة

ص: 64

الحديثة (1555 - 712 ق. م.) وأثناء حكم البطالسة وقياصرة الرومان (332 ق م. وما بعدها)

والدارس لتصميماتها يرى أنها شابهت إلى حد بعيد قصور الملوك والمساكن الخاصة؛ فالمدخل العام للمعبد أنشئ بحيث يؤدي دائماً إلى فناء فسيح غير مسقوف، وجوار ثلاثة جوانب منه وضعت أعمدة تشترك مع الجوانب في حمل السقف، الذي كان بعرض كاف لتظليل الممر أسفله. أما الهيكل حيث اجتمع المصلون حوله لتقديم قربانهم، فقد توسط المعبد. وكان الفناء ينتهي عادة بردهة ذات أعمدة وضعت بنظام يقسمها ثلاثة أقسام، الأيمن والأيسر متشابهين من حيث مساحة الفراغ المحصور بين الحائط والأعمدة، وأما الأوسط فكان عرضه مساوياً لفراغ الاثنين معاً نظراً لأنه طريق المرور. وفي النهاية ثلاث غرف، الوسطى منها خصصت للإله المعبود، وأما اليمنى واليسرى فكانت لزوجة الإله ولأولاده أحياناً. وكانت هناك غرفة لحفظ أدوات التقديس والأطعمة وما إليها

وأقام المصريون أمام المدخل العام لمعابدهم أعمدة شاهقة ذات أوضاع متناظرة، والى جوارها مسلات وتماثيل، ووضعوا على جانبي الطريق العمومي المؤدي إلى المدخل تماثيل لأبي الهول رابضاً أو تماثيل للكباش

وكثيراً ما أدخل الملوك المتعاقبون تحسينات أو تغييرات كثيرة على مباني المعابد التي شيدها من قبلهم. ولعل خير مثل لهذا معبد الكرنك، فأول من أمر ببنائه سيزوستريس الأول، أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، حوالي عام 1950 ق. م، خصيصاً لآمون إله طيبة، وكانت مساحته عندئذ ضئيلة، ولم يشمل سوى بعض ردهات وستة أعمدة، كانت خالية من الزخرفة، إلى أن جاء توتموزيس أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة فبنى غرفاً عدة أمام هذا المعبد. وحذا ملوك هذه الأسرة (1545 - 1350 ق. م.) حذوه فأدخلوا على معابد كثيرة شيئاً من التوسع جديراً بالذكر

ونهجت الأسرة التاسعة عشرة على منوال أدق (1350 - 1200 ق. م.)، فأضافت إلى معبد الكرنك الصالة الرائعة، التي بلغت مساحتها مائة متر في خمسين متراً، بأعمدة ارتفاعها اثني عشر متراً وربعاً، علاوة على بناء غرفتين صغيرتين، وفي عهد الأسرة الثانية والعشرين (945 - 745 ق. م) ثم عمل السور العظيم حول هذا المعبد الفذ

ص: 65

وأهم وأجمل المعابد المصرية راجع إلى المملكة الحديثة (1580 - 1090 ق. م) تحت إشراف ملوك عظام، لا يزال التاريخ يذكرهم أمثال توتموزيس الثالث والرابع، وأمينوفيس الثاني والثالث والرابع ورمسيس الأول والثاني والثالث، وسيتي الأول. ممن شيدوا القصور والمعابد التي لا يزال بعضها رمزاً لأعظم حضارة وأقدمها.

فمعابد الكرنك ش 2 و3، وأبي دوس، والأقصر ش 4، والقرنة، ومدينة جالو، والدير البحري ش 5، وأبو سنبل ش 6، وفيلا ش 7، ودندرة ش 8، وجرف حسين، كل هذه مشيدات لم تغالب الدهر فحسب، بل تحدث كل ما جاء بعدها عن مظاهر الأبهة والمدنية، ولا تزال إلى اليوم رمزاً خالداً يوحي بالعظمة الجلال. لو كان لشعب غير الشعب المصري لواصل الليل بالنهار للعود بالمجد التالد إلى عالم الوجود

ومهما يكن من شيء، فأني لم أف الموضوع حقه من العناية في سطور ضئيلة قد لا تكفي إلا لإعطاء فكرة شاملة عن المعابد المصرية إجمالاً، غير أن هذا لا يمنع من التنويه بوجوب معرفتنا لآثار بلادنا، تمهيداً لإيصال الحاضر بالماضي، حتى نكون قد أدينا رسالتنا نحو أنفسنا ونحو الوطن، ونكون قد لمسنا بعض ما ببلادنا من نواحي ووجوه للتثقيف والاستمتاع، التفت إليها الأجانب قبل أبناء مصر

احمد موسى

ص: 66

‌البريد الأدبيّ

الصحافة المصرية في معرض باريس

أذاع مندوب مصر العام في معرض باريس بياناً قال فيه (إنه لما كانت مصر ستشترك هذا العام في معرض باريس الدولي. ولما كان يحرص على أن يكون تمثيل مصر كاملاً من جميع الوجوه، فأنه لم ينس مكانة الصحافة المصرية كدعامة كبرى من دعائم رقي مصر الحديث، ولهذا فقد احتفظ لها بمكان في القسم العام المخصص لمعرض الصحافة وإذا كان لنا أن نلاحظ على هذا البيان بشيء فهو أنه جاء متأخراً، وقد كان يحسن التفكير في أمر الصحافة قبل ذلك كي تستطيع من جانبها أن تستعد للمثول في المعرض بالصورة اللائقة بها. بيد أن الفرصة ما زالت قائمة على أي حال، ولا يزال بيننا وبين افتتاح المعرض زهاء شهرين؛ وهذه فرصة حسنة لتعريف أمم العالم بالخطوات الباهرة التي استطاعت الصحافة المصرية الفتية أن تخطوها في العهد الأخير، خصوصاً وأن التبادل الصحفي بيننا وبين الأمم الغربية يكاد يكون معدوماً من الناحية المصرية، لأن اللغة العربية ليست من اللغات التي يعنى بها في مكاتب الصحافة الأوربية، وبينما تبذل صحافتنا جهوداً متواصلة لتقف قراءها على سير التطورات والحوادث الأوربية، وعلى أقوال الصحف الخارجية بصورة سخية واضحة إذا بالصحافة الأوربية لا تكاد تذكر عن مصر وأحوالها شيئاً مستقى من مصادره الأصلية اللهم إلا ما يبعث به إليها مراسلوها من وقت لآخر: فعلى صحافتنا أن تستعد لانتهاز هذه الفرصة للمثول إلى جانب الصحافات الغربية الكبرى. والتعريف عن نفسها وعن مكانتها. ويجب عليها أن تنتهز الفرصة لتوثق روابطها مع دوائر الصحافة الغربية بصورة تلفت النظر إليها، وفي أهميتها باعتبارها مصدراً لأخبار مصر والأمم الشرقية ومرآة صادقة لتطوراتها وأحوالها يحسن الاعتماد عليها من جانب الصحافة الغربية والانتفاع بمعاونتها وجهودها

كتاب ألماني جديد عن مصر الفرعونية

ما زالت حضارة مصر القديمة تثير دهشة العالم وطلعته وتحفز العلماء والمنقبين إلى مضاعفة الجهود في سبيل الكشف عن حقائق تلك الحضارة العجيبة وأسرارها. ولعل حضارة من الحضارات العالمية الخالدة لم تظفر بمثل ما ظفرت به حضارة الفراعنة من

ص: 67

البحوث والتآليف الجليلة، ففي كل عام تصدر عنها سلسلة حافلة من الكتب في مختلف أقطار الأرض. وقد صدر منذ أسابيع قلائل كتاب جديد بالألمانية عن حضارة مصر القديمة عنوانه (العالم من وادي النيل صور من مصر القديمة)

بقلم أدولف ايرمان والدكتور ايرمان من أشهر علماء ألمانيا الأثريين، وهو اليوم في الثمانين من عمره وقد أنفق معظم حياته في المباحث المصرية القديمة ولا سيما قراءة أوراق البردي وحل رموزها وأودع كتابه الجديد الذي وضعه في مغرب حياته خلاصة جهود علمية وفنية شاقة. ويقدم إلينا ايرمان في كتابه عرضاً وافياً لأحوال مصر الفرعونية الجغرافية والتاريخية والثقافية؛ ويبدي دهشته من أن هذه الأرض الفياضة بكنوز الفن القديم والمدنية القديمة لبثت منسية حتى نهاية القرن الثامن عشر؛ ولولا نابليون وحملته لبقيت عصراً آخر في غمارها المجهولة، ويستعرض ايرمان جهود العلماء الأثريين خلال القرن التاسع عشر وما كشفت مباحثهم من الحقائق الجليلة عن حضارة مصر الفرعونية وعن تاريخها المجيد، وعن آثارها وكنوزها المدهشة، ويعني ايرمان بنوع خاص بالنواحي العقلية والاجتماعية لمجتمعات مصر الفرعونية، ويحاول أن يصور لنا هذه المجتمعات في حياتها المنزلية والاجتماعية والدينية، وفي طقوسها ورسومها وتفكيرها، وفي سائر نواحي حياتها المادية والروحية كما يصور لنا الملوكية المصرية القديمة في مواكبها وفي روعتها، في عصور الحرية. وفي عصور السلام

ويعتبر كتاب ايرمان من الوجهة العلمية ثروة جديدة في تراث المكتبة المصرية الفرعونية

مجموعة ثمينة من رسائل جيته

تحتفظ مدينة فيجساك الألمانية الواقعة على نهر ويزر بمجموعة ثمينة. من رسائل الشاعر الألماني الأكبر جيته كتبها بخطه، وأرسلها جميعاً إلى صديقه نيقولا مايير من أهل مدينة بريمن، وكان مايير قد زار في شبابه مدينة - فينا ودرس في جامعتها، وزار الشاعر مراراً في مقامه في فيمار، وعقدت بينهما أواصر صداقة متينة استطالت زهاء ثلاثين عاماً. واستمرت مراسلاتهما بانتظام إلى ما قبل وفاة الشاعر بنحو عامين فقط، وهذه المجموعة مما كتب جيته إلى صديقه تبلغ وحدها خمسين رسالة، تحتفظ بها مدينة فيجساك في متحفها

ص: 68

الصغير، وهناك مجموعة أخرى من الرسائل أرسلها مايير إلى زوجه وولده. وكانت هذه الرسائل تحفظ منذ مدة طويلة في مكتبة شتراسبورج، ولما كان يهم ألمانيا أن تجمع هذه المراسلات كلها في مجموعة واحدة، فقد بذلت على يد سفيرها لدى الحكومة الفرنسية السعي اللازم لاستعارة رسائل مايير من شتراسبورج وكلل سعيها بالنجاح أخيراً، وحملت الرسائل إلى متحف فيجساك

معرض لتاريخ الدخان

مذ عرفت شجرة الدخان في سنة 1550 على يد طبيب ومكتشف أسباني يدعى ريكاردو ديلافونتي، حمله إلى أسبانيا مع النارجيلة التي كان يدخنه فيها الهنود يومئذ، وأمم العالم كلها مقبلة على تدخينه، واليوم يدخنه الشرق والغرب والشمال والجنوب والشبان والشيب، والرجال والنساء، ويرون فيه جميعاً وسيلة للترويح عن النفس ومطاردة الهموم. وقد أقيم أخيراً في باريس معرض شرح فيه تاريخ الدخان منذ اكتشافه إلى يومنا، وهو معرض (جالييرا) ويضم المعرض المذكور في واجهاته الزجاجية طائفة كبيرة من الغلايين المصنوعة من مختلف المواد في مختلف العصور، وبعضها محلى بالذهب، مما كان يملكه بعض الملوك، ومشاهير السادة، وكذلك مجموعة مختلفة من العلب التي يوضع فيها الدخان، وتشكيلة عظيمة من مختلف السجائر في مختلف أنحاء العالم.

جيل نموذجي في ألمانيا الهتلرية

إن فكرة النسل المختار التي يدعيها ويدعو إليها زعماء ألمانيا النازية لم تعد فقط فكرة نظرية، بل خرجت إلى طور التطبيق العملي، فقد رأت ألمانيا الهتلرية أن تنشئ بالفعل جيلاً نموذجياً من الناس، وتحقيقاً لهذه الغاية أنشأت في مدينة يوناس دورف من أعمال باوتسن في سكسونيا مستعمرة خاصة بالشبان الراغبين في الزواج من أعضاء فرق الحرس الأسود، ومن المعروف أن هذه الفرق تضم الشبان الأقوياء الذين يمتازون ببسطة الجسم وحسن التكوين والملامح، ومن الجهة الأخرى فقد رئي أن ينشأ في نفس الوقت معسكر للبنات النموذجيات اللائي يصلحن ليكن زوجات لهؤلاء الشبان فأنشئ في يوناس دورف مستعمرة من مائتين وخمسين فتاة يشترط فيمن تنتظم فيها أن تكون من الآريات

ص: 69

الخلص وأن تثبت أن الدم اليهودي لم يتسلل إلى أسرتها حتى سنة 1800، ويوقع على الراغبات خمسة كشوف طبية متعاقبة للتحقق من سلامتهن وصلاحيتهن للنسل السليم. كذلك يمتحن كل من الفريقين في مبادئ الحزب الفكري ومراميه السياسية والاجتماعية. ويزول أولئك الشابات والألعاب الرياضية المهجدة ويدربن على الأعمال المنزلية وشؤون الأمومة تدريباً حسناً، ويراعى في اختيارهن التناسب في الجسم بينهن وبين الشبان الذين يتقدمون لخطبتهن. والمفهوم أن ولاة الأمر في ألمانيا الهتلرية يفكرون في مضاعفة هذه المستعمرات تدريجياً، تحقيقاً لمشروعهم في ترقية النسل والجيل

إحياء ذكرى حافظ إبراهيم في دار الأوبرا

الآن والرسالة تتهيأ للصدور تقيم لجنة إحياء ذكرى حافظ إبراهيم حفلتها الأولى بدار الأوبرا الملكية في الساعة الثالثة والدقيقة 45 بعد ظهر يوم السبت 6 مارس سنة 1937 تحت رعاية صاحب الجلالة الملك ورياسة صاحب المعالي وزير المعارف وهذا برنامج الحفلة

قرآن كريم الشيخ محمد الصيفي

كلمة الافتتاح لحضرة صاحب المعالي وزير المعارف

1 -

حياة حافظ: للأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه

2 -

قصيدة: للأستاذ أحمد الزين

3 -

الاجتماعيات في شعر حافظ: للأستاذ أحمد أمين

4 -

قصيدة: للأستاذ أحمد الكاشف

5 -

أثر حافظ في القومية: للأستاذ أمين الغريب

6 -

قصيدة: للأستاذ حسين شفيق المصري

7 -

الغزل والنسيب في شعر حافظ: للأستاذ السباعي بيومي

8 -

قصيدة: للأستاذ حليم دموس الشاعر اللبناني

9 -

شكوى الزمان: للأستاذ حفني بك محمود

10 -

قصيدة: للأستاذ خليل مطران بك

11 -

حافظ والنقد: للدكتور زكي مبارك

ص: 70

12 -

قصيدة: للشاعر علي محمود طه المهندس

13 -

حافظ الكاتب: للأستاذ عباس محمود العقاد

14 -

قصيدة: للأستاذ محمد الأسمر

15 -

حافظ في السودان: للدكتور سعيد كنعان

16 -

ذكريات شخصية: للأستاذ السيد محمد كرد علي بك

17 -

قصيدة للأستاذ محمد الهراوي

18 -

الوصف في شعر حافظ: للدكتور عبد الوهاب عزام

19 -

حافظ العروبة: للدكتور عبد الرحمن شهبندر

20 -

قصيدة للأديب محمود حسن إسماعيل

21 -

السياسات في شعر حافظ: للأستاذ عبد المجيد نافع

الحفلة الثانية

وهذا برنامج الحفلة الثانية التي تقام في الساعة 3: 45 بعد ظهر يوم الأحد 7 مارس في دار الأوبرا الملكية.

قرآن كريم الشيخ محمد الصيفي

1 -

حافظ واللغة: للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

2 -

قصيدة: للدكتور إبراهيم ناجي

3 -

الوطنيات: للدكتور محمد حسين هيكل بك

4 -

قصيدة: للأستاذ أحمد محرم يلقيها عبد القادر المسيري

5 -

شخصية حافظ وفكاهاته: للأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري

6 -

قصيدة: للأستاذ بشارة الخوري شاعر لبنان

7 -

لمحة عن حافظ الشاعر: للأستاذ فؤاد صروف

8 -

قصيدة: للأستاذ أمين ناصر الدين الشاعر اللبناني

9 -

مزايا شعر حافظ: للأستاذ عيسى إسكندر المعلوف

10 -

قصيدة: للأستاذ أبي الإقبال اليعقوبي الشاعر الفلسطيني

11 -

حافظ الراوية: للأستاذ محمد هاشم عطيه

ص: 71

12 -

المديح والرثاء والتهاني: للأستاذ محمود البشبيشي

13 -

قصيدة: للأستاذ فليكس فارس

14 -

قصيدة: للأستاذ عبد اللطيف النشار

15 -

حافظ القصصي: للأستاذ محمود تيمور

16 -

قصيدة: للأستاذ احمد الغزاوي شاعر الحجاز

17 -

حافظ الصديق الوفي: للأستاذ محمد فريد وجدي

18 -

قصيدة: للأستاذ عزيز بشاي

19 -

قصيدة: للأستاذ محمد الشريقي شاعر شرق الأردن

20 -

حافظ شاعر الشرق: للأستاذ قدري حافظ طوقان

21 -

قصيدة: للأستاذ محمد سعيد العباسي الشاعر السوداني

22 -

مختارات لبعض الكتاب والشعراء في مصر والشرق يلقيها الأستاذ ضياء الدين الريس.

ص: 72

‌الكتب

سبأ ومأرب

رحلة في بلاد العربية السعيدة

تأليف الأستاذ السيد نزيه المؤيد العظم

للدكتور عبد الرحمن شهبندر

لقد قصر الأواخر عن الأوائل تقصيراً معيباً في وضع المدونات الجغرافية ووصف المسالك والممالك وصفاً علمياً مبنياً على ملاحظاتهم الخاصة وقائماً على وجهة نظرهم ولا سيما وصف الأقطار التي يهمنا شأنها ولنا ارتباط بها خاص؛ ومن هذه الأقطار التي تكاد تكون غفلاً من الذكر في مدوناتنا الحديثة القطر اليماني أو العربية السعيدة حتى صرنا إذا أردنا أن نلم بشيء من أخبارها وشؤونها اضطررنا إلى مراجعة ما دونه السياح الغربيون عنها أو إلى مؤلفات كتابنا من أهل القرون الوسطى. لذلك يعد هذا السفر الذي وضعه الرحالة الأستاذ نزيه المؤيد العظم تحفة ثمينة قد سدت ثغرة عظيمة في تاريخ نهضتنا الأدبية السياسية العلمية

والكتاب مكتوب بطريقة قصصية سهلة وبأسلوب سلس خال من التعقيد والتكلف يكاد من يقرأه يظن أن مؤلفه يحادثه وجهاً إلى وجه ولاسيما من عرف المؤلف معرفة شخصية وتعود سماع حديثه والطريقة التي يدلي حججه بها. وهو لم يبسط فيه أحوال اليمن بسطاً حيادياً مجرداً بل يتحين الفرص ليدلي بآرائه الشخصية ونظرياته الدينية والاجتماعية ويشير من حين إلى آخر إلى أغراض الدول المستعمرة في تلك الأرجاء

ومما استوقف نظري كثيراً ملاحظة منه سبق لي أن تجرعت منها الصاب وأنا واقف على أسكلة عدن في أوائل سنة 1916، فقد حدث يومئذ أنني كنت قادماً من الهند إلى مصر وكانت معنا في الباخرة سيدة إنكليزية أرلندية ملمة ببعض الشئون السياسية فذكرت لها النهضة العربية وكيف أن العرب يعملون لإعادة مجدهم الغابر واستقلالهم المنشود، فلما رست باخرتنا على عدن رأيت خليطاً من الغوغاء بألبسة قذرة وأصوات منكرة وحركات همجية مزرية يتقدمون إلينا على زوارق كبيرة لنقل البضائع. فصاح بعض الإنجليز من

ص: 73

على ظهر السفينة (عرب عرب) فجاءتني السيدة الإنكليزية مستفسرة بشيء من التعجب: (هل هؤلاء هم العرب الذين يغارون على مجدهم السابق واستقلالهم المنشود)؟ فبينت لها خطأ التسمية من إطلاق اسم جزء خاص على كل عام وأن حفاة أرلندة - وكانت أرلندة يومئذ تتحفز للثورة - ليسوا كل الأرلنديين. قال الأستاذ نزيه في ملاحظته (ومما يؤسف له أن أكثرية الوطنيين العرب - في عدن - أصبحوا خداماً للأجانب فلا يتعاطون من الأشغال إلا الدنيئة كالخدمة في المنازل وصيد السمك والحماقة ومسح الأحذية ونقل البضائع وخصوصاً الفحم والغاز من السفن التجارية إلى البر؛ وكذلك في مصر من الفرنجة والمتفرنجين من يطلق كلمة (عرب) على هذه الطبقة من الناس

وفي الكتاب ملاحظات قيمة عن الزراعة في البلاد وخصب الأرض وخدمتها والطرق الابتدائية المستعملة في استنباتها وهو يقول أن محصولات اليمن تشمل البن والتنباك والقطن، وذكر لي أن جلالة الإمام استحضر من مصر بزر (السكالاريدس) فنجح هناك نجاحاً ظاهراً ومن أغرب ما جاء في هذا الكتاب مما يخالف المألوف ولا ندري له سبباً أن تضع الحكومة المتوكلية مكساً أو رسماً جمركياً اثنين ونصفاً في المائة على الصادرات ولا تضع شيئاً على الواردات (ص 27)

وأن تعجب فعجب أن تكون اليمن وهي موطن أفخر بن لا تشرب القهوة المعمولة من ثمره وإنما تشرب مغلي قشره مما يذكرني ببلاد النمسا فهي تصنع أفخر الطرابيش لا ليلبسها النمسويون بل لتصديرها إلى بلاد الشرق. واليمنيون إذا أرادوا إكرام ضيوفهم بهذا المغلي سألوهم أتتقشرون أي أتريدون أن تشربوا القشر على قول أتتفكهون

وقد عرفنا قديماً أن نساء اليمن في الأرياف يلبسن القبعات القش ولكن المؤلف رآهن في حفلة عرس سافرات (وبعضهن كن عاريات إلا من مئزر بسيط، وبعضهن كن لابسات أكماماً قصيرة - ديكولتيه - وبعضهن وضعن على رؤوسهن حجاباً أسود، وبعضهن وضعن فوق هذا الحجاب قبعة مصنوعة من قش القمح أو الشعير ذات حجم كبير لترد أشعة شمس تهامة المحرقة وهي من صنعهن، وقد علمتهن الحاجة التي هي أم الاختراع ألا يتقيدن بعادة وقانون بل يلبسن ما يوافق محيطهن واحتياجهن)

ويخيل إلى من يقرأ هذا الكتاب أن البلاد تحت نوع من الأحكام العرفية أو أن أهاليها في

ص: 74

مدرسة ليلية أو في سجن إصلاحي لأن السير في طرقاتها من بعد ساعة معينة من الليل محظور، فقد جاء في الصفحة 49 (وفي هذه الساعة الرهيبة - يعني بعد تناول العشاء - لا يسمع المرء في بلاد اليمن من أقصاها إلى أقصاها إلا نداء الجنود في ثكناتهم وقلاعهم وحصونهم (وامتوكلاه) - على طريقة بادشاهم جوق باشا في الدولة العثمانية - وبعدئذ يضرب بوق النوم فيذهب جميع أهل المدن إلى النوم ويصبح الخروج من المنازل إلى الأزقة والشوارع محظوراً على الجميع عدا الجند)

وأعجبني جد إعجاب إلغاء الرق في بلاد اليمن ومنع الأتجار بالعبيد فلم يجد المؤلف لهذا الوضع أثراً في تلك الأنحاء بل قال في الصفحة 50 (إن الإمام حفظه الله منع هذه التجارة منذ تولى الحكم، وكان عنده عبد يدعى صمصام فأعتقه لوجه الله وزوجه من فتاة كانت في خدمته ووظفه في إحدى الوظائف)

وكل كتاب عن اليمن لا يذكر النبات المخدر الذي يدعى (قاتاً) لا يكون مستوفياً للشروط، فالقات عند اليمنيين لا يقل شأناً عن الوسكي عند الإنكليز والبوزه عند السودانيين، وهو له مجالس خاصة ينهمك المجتمعون فيها بمضغه، وأمام كل واحد منهم رزمة كبيرة منه والى جانبها إبريق من فخار ومبصقة من فضة؛ أما الإبريق فيستعملونه لغرغرة أفواههم من حين إلى آخر، وأما المبصقة فلطرح أوراق القات بعد مضغه. ويدوم هذا المجلس من بعد الغداء حتى المساء، ويسمى هذا النبات بالإنكليزية (كانا أديوس) وفيه مادة مخدرة تؤثر في الأعصاب فيشعر من يمضغه براحة وبسط وانشراح

ثم ذكر الأستاذ نزيه أضراره فقال (أنه يقلل من شهية الإنسان للطعام ويزيد فيه الميل إلى شرب الماء ويضر بالأسنان ويسودها، وبالمعدة فيقلل من عصيرها وبالنسل فيضعفه. وبالرغم من جميع هذه المضار وبالرغم من علم أهل اليمن بها فهم يمتدحونه وينشدون القصائد في مزاياه ويستعملونه بأجمعهم ماعدا صاحب الجلالة الإمام يحيى فقد منعه طبيبه الخاص من استعماله منذ عدة سنوات ولا يزال جلالته ممتنعاً عنه إلى اليوم)

ومن دواعي الأسف أن يضيع اليمنيون ثروتهم وصحتهم في هذا المخدر الضار حتى أن الذي يشتغل منهم في نهاره كله بفرنك واحد يصرف معظمه على القات. ويغرس شجره كما يغرس البن في الأودية المرتفعة التي لا تتعرض لحرارة الشمس الحادة إلا بضع

ص: 75

ساعات في اليوم، وهو أثمن نبات في اليمن على الإطلاق؛ وتساوي الرزمة الصغيرة من أغصانه نحو ثلاثة فرنكات

ولا يفوتها أن نذكر هنا ما لحظناه من وجود إيطاليين موظفين في الحكومة المتوكلية من أطباء وغيرهم فالأطباء الموجودون هناك الآن من الطليان وقد أتوا إلى اليمن عقب زيارة والى أسمرة السنيور غاسبريني إليها وعقد المعاهدة مع الإمام وهم يتناولون رواتب تبلغ ستين جنيهاً شهرياً للواحد منهم وبيدهم مستشفى الحديدة ومستشفى صنعاء وكذلك التلغراف اللاسلكي في صنعاء فهو بيدهم ومن تأسيسهم بأمر الإمام منذ بضعة أعوام.

وذكر حاخام اليهود الأكبر في صنعاء واسمه يحيى اسحق للمؤلف أنه كان لليهود مملكة عظيمة في اليمن إلى الشرق من صنعاء أسسها سليمان بن داود وربما كانت هذه المملكة في نجران وأن اليهود في صنعاء ذكوراً وإناثاً يبلغون زهاء عشرين ألف نسمة لهم 15 مدرسة و19 كنيساً وهم يمارسون شعائرهم الدينية كما يشتهون ويطبقون شريعتهم الموسوية كما يرغبون ويعلمون أبناءهم العبرية دون العربية. وعرف المؤلف أن للصهيونيين مخابرات طويلة عريضة مع صنعاء وأن لهم صناديق للإعانة في كل دار من دور اليهود في معظم مدن اليمن والإسرائيلي الذي يريد أن يتصدق بشيء مهما كان زهيداً يضعه في هذا الصندوق، ورب الدار ليس مأذونا بفتحه بل يفتحه وكيل الجمعية في كل شهر ويخرج ما فيه ويرسله إلى صندوق الجمعية الصهيونية في القدس واسمه صندوق الأمة، قال المؤلف:(حبذا لو كان زعماء الحركة الوطنية في الشرق يقتدون باليهود ويأخذون هذا الدرس عنهم.)

هذه لمحة مستعجلة عن الجزء الأول من هذه الرحلة المباركة ولكن العمل الخطير والاكتشاف الأثري العظيم هو في الجزء الثاني حيث يدون المؤلف رحلته إلى بلاد سبأ وسد مأرب فيذكر كيف حصل على الإذن من جلالة الإمام بالسفر إلى تلك الأنحاء المحفوفة بالمهالك والمخاطر ويذكر الجنود الذين ساروا لحمايته من التعدي مما لم يسبق له مثيل ولم يحصل عليه أحد قبله. وكانت بداءة هذه الرحلة إلى مأرب في اليوم السادس والعشرين من يناير سنة 1936 إذ ترك صنعاء وسار مشرقاً فدخل في واد يدعى (وادي السر) ومنه سار إلى قرية (القمعة) فقرية (آل الوزير) فوادي (حريب) فصرواح فقرية تدعى محترجة وهي

ص: 76

آخر قرية يسكنها اليهود في شرق صنعاء وهكذا حتى وصل سد مأرب، ووصف ما رأى في طريقه من آثار ومعادن ونباتات وأشجار فقال عن المعادن مثلاً والحديد من جملتها أنها كثيرة ومتنوعة، ونقل الكتابة الحجرية الموجودة حول جدران قصر (صرواح) بخط يده وعرضها على من ترجمها له من المستشرقين الألمان ومن الأخصائيين المصريين في القاهرة وكان وصوله إلى مأرب في اليوم التاسع والعشرين من يناير سنة 1937 بعد الظهر أي بقي على الطريق نحو أربعة أيام كأن المسافة كلها بين صنعاء ومأرب 120 كيلو متراً، ولما وصل إلى مدينة مأرب هو وعامل الإمام يحيى والجنود استقبلهم الأهلون بالطبول والأناشيد. وبعد ذلك نرى في الكتب صوراً ثمينة للسد وجدرانه القائمة وأبوابه الواسعة والخطوط الموجودة على أحجاره وصفاً دقيقاً لمجاري المياه وكيف تتجمع وتتوزع ومن أين تأتي، والجنتان اللتان كانتا تشربان منه والأشجار الباقية من خمط وسدر وائل مما ينطبق كل الانطباق على ما ورد في القران الكريم

وقصارى القول أن هذه الجولة الأثرية في بلاد مجهولة عندنا هي ذات قيمة علمية من الطراز الأول يهنأ عليها الأستاذ نزيه المؤيد العظم ولا سيما أن بعض الأوربيين الذين وصلوا إلى تلك الأرجاء لم يتمكنوا من رؤية جزء صغير مما رآه سائحنا العربي بالنظر إلى المخاوف التي كانوا معرضين لها؛ ونعد عمله بادرة من بوادر نهضتنا العلمية العملية المباركة

عبد الرحمن شهبندر

ص: 77

‌العالم المسرحي والسينمائي

على مسرح الأوبرا الملكي

صورة في الرخام

لناقد (الرسالة) الفني

هي باكورة أعمال الآنسة (هلزل اليس) الممثلة الإيرلندية تنبئ عن مستقبل باهر واستعداد طيب للنبوغ وليست القصة في المستوى العالي من التأليف ولكن حوارها قوي بديع يدل على أن الكاتبة تلم بأمور المسرح إلماماً تاماً وإن كانت بعض الشخصيات غير كاملة التصوير لأن الكاتبة لم تترك إلى جانب شخصية اللورد بيرون فراغاً تكتمل فيه الشخصيات الأخرى

والقصة التمثيلية تصور حياة اللورد بيرون الشاعر الإنجليزي العظيم بين النساء وتشرح بعض نزواته وأخلاقه ونظرته في الحياة وما أحاط باسمه من إشاعات لم يكن يبالي بدفعها عنه بل يترك الأمور تتفاقم حتى يجري اسمه على كل لسان؛ كما تصور حبه لبلاد اليونان التي مات محموماً أثناء الدفاع عن حريتها

موجز القصة

اللورد بيرون ثائر ساخط متبرم بكل شيء لا يعبأ بأحد وأصدقاؤه في بيته يتحدثون عن تصرفاته مع العظماء، فهذا رئيس مجلس اللوردات يأتيه راجياً أن يكتب فيه بيتين من الشعر في عمل مجيد أداه فيرده خائباً لأنه يرى أن الإنسان لا يستحق المديح على واجب أتاه. ويدخل بيرون ويتحدث عن حياته ويقول إنه سوف يجعل اسمه يجري على كل لسان ويحدث أصدقاءه عن بلاد اليونان وعن حبه لها وألمه لأنها لا تتمتع بحريتها. وما يكاد يتم أقواله حتى تأتيه رسالة بموت أحب أصدقائه إلى نفسه فيصدم وينفجر مقهقهاً

فإذا كان المنظر الثاني رأينا حفلة راقصة يغشاها أشهر النساء وأجملهن ويجيء بيرون متأخراً قليلاً ويعتذر، وإذ يقف بعيداً إلى جانب الباب تقدم ربة الدار ضيوفها إليه فيذهب

ص: 78

النساء إليه في مكانه كأنه ملك. هذا التصرف يغيظ السيدة (كارولين لامب) التي ما تكاد تتقدم إليه حتى ترتد راجعة فيفهم بيرون كبرياءها ويهمس في أذن إحدى صديقاته بأن سيجعل هذه السيدة تركع عند قدميه قبل انقضاء يوم واحد

ويدخل الجميع يستمتعون بالرقص عدا الليدي كارولين ويعود بيرون إلى لقاعة وتدور مناقشة حادة بين الاثنين؛ وهنا تبرز قوة الكاتبة موهبتها في الحوار وتنتقل من موضوع إلى موضوع، وفجأة يطوقها بيرون بذراعيه ويقبلها فلا تمانع وهكذا يبدأ حب هذه السيدة لبيرون وهو في الحقيقة لا يحفل بها!!

فإذا كان الفصل الثاني رأينا أصدقاء بيرون في بيته يتحدثون عن سلوكه غير المرضي فهو جعل السيدة (كارولين لامب) تجن به حباً وتجري وراءه، ويرى أحدهم أن الذنب ليس ذنبه فهو قد قطع كل علاقة بها ولكنها تلاحقه في الطرقات. ويجيء بيرون فيحدثونه في أمر هذه السيدة فيقول إنه أرسل إليها خطاباً يقطع كل علاقة له بها ويخبرهم أنه نوى الزواج بالآنسة (أنا بل ميلبانك) فيسأله صديق عما إذا كان يحبها فيقول:(ليس حباً عميقاً)

ويجيء الخادم يعلن أن سيدة تصر على مقابلة اللورد فيرفض أن يستقبلها ولكن أمام الإلحاح يخرج إليها ويعود بعد لحظة يرجو أصدقاءه أن ينتظروه في غرفة مجاورة حتى يفرغ من حديثه مع هذه السيدة. وتدخل كارولين لامب وتحاول أن تعيده إليها فيرفض ويصرح لها بأنه ينوي أن يتزوج من الآنسة (ميلبانك) ويطلب إليها أن تذهب إلى بيتها فلا تتحرك وإذ هو يستدعي الخادم ليحضر لها عربة تهجم عليه تريد أن تطعنه بخنجر ولكنه يتمكن من أن يمسك يدها ويثور فيقدم الخادم والأصدقاء

وفي المنظر الثاني نرى زوجة بيرون تشكو إلى صديقة لها سلوك زوجها وأنها تنوي الانفصال عنه فتنصحها هذه بالتريث من أجل ابنتها وأن عملاً كهذا يهدم حياة الشاعر العظيم ويقضي عليه، وتصرح الزوجة بأنها سمعت إشاعة مخزية عن علاقة اللورد بيرون بأخته (أوجستا) ولكن الصديقة تتمكن من تبديد شكوك الزوجة ويدخل بيرون، وسرعان ما يقوم الشجار بينه وبين زوجه، فتراها تبكي وتنتحب فيتأثر ويتقدم إليها مدللاً وبعد قليل يراجع البريد وتستوقفه رسالة من شقيقته ويخبر زوجه أنها تنوي القدوم إليهما لقضاء بضعة أسابيع فتثور الغيرة في نفس الزوجة وتطلب منه أن يرفض قبولها في بيته فيحاول

ص: 79

أن يعرف السبب فتمتنع أولاً ولكنها تشير في النهاية إلى الإشاعة التي ترد على الألسنة وتطلب إليه أن يكذب هذه الإشاعة فتصدقه. وكعادته يرفض ويجيب بأنه ليس في حاجة إلى تصديقها فتريد الاطلاع على الخطاب فيرفض فتحاول أن تختطفه فيصرخ في وجهها ويحرق الخطاب ويلقيه في المدفأة.

فإذا كان الفصل الثالث رأينا بيرون واقفاً إلى جانب النافذة يرى الجماهير محتشدة أمام بيته ثائرة ويشير عليه أحد أصدقائه بالابتعاد عن النافذة حتى لا تصيبه أحجار الغوغاء ويبدي بيرون عجبه من الشعب فهو لم يؤذه ولم يسئ إليه ومع ذلك يريد هذا الشعب أن يفتك به. ويطلب بيرون إلى الخادم أن يحمل رسالة إلى زوجته في بيت والدها ويذهب الخادم ويجيء أصدقاء بيرون ويقولون أنهم شقوا طريقهم وسط كتل بشرية ويحدثهم بيرون بأن بلاده هي اليونان ويتحدث عن جمالها وعن آماله في أن تثور وتحطم القيود التي تغلها. ويجيء الخادم يقول أن الزوجة رفضت أن تجيب على الرسالة وأنها تطلب من بيرون ألا يحاول مقابلتها أو الكتابة إليها فيصدم بيرون وتسمع بعد قليل أصوات باعة الصحف ويعرف بيرون من خادمه أن اليونان ثارت على تركيا مطالبة بحريتها.

وفي المنظر الثاني من الفصل الثالث نرى بيرون في بيته يستعد للرحيل ويأتي أصدقاءه فيخبرهم بأنه سيسافر إلى اليونان متطوعاً ليحارب في صفوفهم ويتركهم إلى تلك البلاد التي أحبها والتي قضى نحبه محموماً أثناء الدفاع عن حريتها.

الإخراج والتمثيل

لم يعمد المخرج في هذه الرواية إلى الطريقة الإيحائية التي ألفناها منه بل عمد إلى تركيز إخراجه في منظر واحد وجعل أجزاء من حوائط هذا المنظر تتبدل فيتبدل المنظر بها، وهكذا استطاع أن يخلق من المنظر الواحد مناظر متعددة. والإضاءة كانت غاية في الدقة والروعة ولون المنظر أزرق داكن يلتئم مع جو الرواية

مثل المستر ميكائيل ماك ليمور اللورد بيرون فسما به وكان بديعاً جداً، وإنني أعد هذا الدور من خير أدواره التي رأيتها خلال هذا الموسم والموسم الماضي ولقد شاهدت كثيراً من الإنجليز يهنئون الممثل على إجادته، وبين هؤلاء المستر سكيف الأستاذ بالجامعة المصرية فقد كان إعجابه بالتمثيل أكثر من إعجابه بالرواية نفسها. ومثلت الآنسة (ميريل

ص: 80

مور) السيدة كارولين لامب فأدته بنجاح، ووفق بقية الممثلين في تأدية أدوارهم وهكذا رفع التمثيل والإخراج هذه الرواية.

مدرسة الفضائح

ريتشرد برينسلي شريدان وأوليفر جولد سمث من أعلام الكوميدي الإنجليزي القديم وقد رأت فرقة دبلن جيت أن تخرج هذه الرواية لأن مؤلفها إيرلندي ولأنها من أحب الروايات إلى شعب الإمبراطورية. فهي تصور ناحية من نواحي المجتمع الإنجليزي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وكيف كانت المجتمعات بؤراً تفرخ فيها الإشاعات وتنتشر على الألسنة وكيف كانت المخازي والفضائح تدبر وكيف كان الناس يخدعون بالظواهر فالرجل الذي يرون في سلوكه ما لا يرضيهم يعد شقياً سيئ السلوك في حين أن من يأتي النقائص في الخفاء يكون موضع التجلة والإكبار، فالشعب كان يخدع ويحكم على الأمور بظواهرها

والرواية ليست جديدة على المصريين إذ سبق للمسرح المصري أن أخرجها باسم (مدرسة النميمة) في مستهل النهضة المسرحية فلاقت نجاحاً كبيراً. وأعتقد أن مثل هذه الرواية التي تقوم على المفاجئات والمواقف الكوميدية يفسدها التلخيص ويمسخها

أخرج الرواية المستر إدواردز وقام بدور بيتر تيزل فكان خفيف الظل عذب الروح مما جعل رواد المسرح يضجون بالضحك؛ ومثل المستر ماك ماستر دور شارلز سيرفيس فملأ الشخصية حياة وكان بديعاً في أكثر مواقفه كما أجادت الآنسة (آن كلارك) دور لادي تيزل.

يوسف تادرس

ص: 81