المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 193 - بتاريخ: 15 - 03 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٩٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 193

- بتاريخ: 15 - 03 - 1937

ص: -1

‌جميل صدقي الزهاوي

بمناسبة ذكراه الأولى

(2)

ولد الزهاوي في يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر يونيو سنة 1863 ببغداد لأبوين كرديين كريمين تميزت أسرتهما بالدين والفقه والأدب، فقد كان أبوه محمد فيضي الزهاوي مفتياً لدار السلام وأخوه فقيها من فقهائها، فنشأ بين أبيه وأخيه يرتاض عقله ليتثقف، ويرتاش خياله ليطير؛ ولكن أخاه كما حدثني جميل، كان حثر اللسان لا يتذوق الأدب؛ فكان يذوده عن رواية الشعر، ويصده عن دراسة اللغة، ويأبى عناده هو وتسامح أبيه إلا أن يديم النظر في الأدب، ويروض القريحة على القريض. كان هم أخيه وأمل أبيه أن يستقيم على عمود أسرته فيكون صاحب قضاء وفقه، ولكنه استقام على محتوم طريقته فكان صاحب دعوة وفلسفة. والاستعداد الموهوب في الطبع هو مشيئة الخالق في الخلق، جعل من الزهاوي أبا العلاء فقد كان أهله يريدونه أبا حنيفة؛ وجعل من الرصافي أبا نواس وألالوسي رحمه يريد أن يبعث في معروف الرصافة معروف الكرخ!

كان العراق أيام نشأ الزهاوي تركي السلطان سني الحكومة، فالتعليم المدني فيه كان تابعا في لغته وطريقته وغايته لسياسة الأجنبي وهواه، فلم يخرج إلا رجال جيش يخضعون للنظام، أو رجال إدارة يذعنون للحكم. أما التعليم الديني فقد ظل في صحون الجوامع على ما عهده الناس، عربي اللسان حر النزعة طريق الفكرة مستقل الغاية. وطبيعة هذا النوع من التعليم الجدلي المطلق أن يخلق المجاهل لشعور البليد فيظل، ويكشف الآفاق للفكر النافذ فيبلغ، ويساعد الجبلة في الإنسان على حسب الاستعداد فتعلوا أو تهبط؛ فهو يساعد الهمة القاعدة على السقوط، والنفس القانعة على القنوط، والذهن المبطئ على التخلف، كما يساعد العقل الحائر على التزندق، والطبع القلق على التمرد، والإدارة المستقلة على الزعامة. ورجال الثورة والإصلاح في تاريخنا الحديث كانوا جميعا من أهل هذه الثقافة، كالأفغاني، وعرابي، ونديم، ومحمد عبده، وسعد زغلول، والكواكبي، والزهراوي، والزهاوي، ومن إليهم. والنابهون من أهل هذه الثقافة لا ينفكون دائبين على القراءة والتتبع والمشاركة ليدفعوا عن أنفسهم معرة القدم. وهم عسيون إذا جددوا أن يفسروا في التجديد

ص: 1

كذا العاهة يدفعه النفور من ذلة الضعف إلى الإفراط في العسف والتجبر.

فالزهاوي الجريء بطبعه، الطموح باستعداده، تثقف بهذه الثقافة، ثم تنفست على أعصابه الشاعرة أمواج العروبة ترسلها على بغداد الصحارى الملهمة؛ ثم نزعه عرق العم والخال من الكردية فجاهد وجالد وغامر؛ والكرد كالعرب إن لم يكونوا من العرب؛ ثم ابتلى وهو في الخامسة والعشرين من عمره بداء في النخاع الشوكي لازمه بقية حياته، ورما بعد ذلك بالشلل في رجله فبرم واكتأب وتشاءم؛ ثم مني من عصره بفساد السلطان واستطالة الجهل وانحلال الخلق، فدفعته هذه العوامل كلها إلى موقف المصلحين من الإنذار والتضحية.

رأى وهو في الأستانة عبد الحميد يلقي الأحرار مغلولين في غيابة السجن أو في قاع البحر فأرسل إليه مع رسبوتينة أبي الهدى قصيدة منها:

أيأمر ظل الله في أرضه بما

نهى الله عنه والرسول المبجل

فيفقر ذا مال وينفى مبرأ

ويسجن مظلوماً ويسبى ويقتل

تمهل قليلا لا تغظ أمة إذا

تحرك فيها الغيضل لا تتمهل

وأيديك إن طالت فلا تختر بها=فإن يد الأيام منها أطول

فسجنه حيناً ثم نفاه.

وسمع وهو عضو في (مجلس المبعوثان) عن بغداد مقرر الميزانية يذكر في وزارة الحربية مبلغاً جسيما من المال جعلوه لقراءة البخاري في الأسطول. فقال: أنا أفهم أن يكون هذا المبلغ في ميزانية الاوقاف، أما في الحربية فالمفهوم أن الأسطول يمشي بالبخار لا بالبخاري. فثار عليه المجلس وشغب عليه العامة.

ورأى ما تعانيه المرأة من عنت الاستعباد والاستبداد والجهل، فهب لإيقاظها ونصرتها، حتى كتب في (المؤيد) مقاله المشهور:(المرأة والدفاع عنها) فزلزل الناس في بغداد وفي غير بغداد، فسعوا به إلى ولاة الأمر ليعزلوه، وحرشوا عليه دهماء الشعب ليقتلوه، فاضطر إلى لزوم داره.

ونظم في أعقاب عمره (ثورة في الجحيم) ففزع المتزمتون من شرها إلى الملك فيصل؛ فلما كلمه في ذلك قال: ماذا اصنع يا مولاي؟ عجزت عن إضرام الثورة في الأرض فأضرمتها في السماء!

ص: 2

لم يخلد الزهاوي إلى التبطل، ولم يعش على مروءات الناس كأكثر أهل الشعر، وإنما غامر في خطير الأمور، وطمح إلى بعيد المدارك، فملأ حياته بالأمل الدافع والعمل المثمر: عيين في بغداد عضواً في مجلس المعارف، ثم مديراً لمطبعة الحكومة، ثم محرراً للجريد الرسمية، ثم انتخب عضوا في محكمة الاستئناف. ودعاه الخليفة حين نبه ذكره إلى الأستانة فحرك فيها لسان النقد، واقض بها مضاجع الجاسوسية، فانتقض أمره وساء مقامه. فلما أعلن الدستور عين أستاذاً للفلسفة الإسلامية في (المكتب الملكي)، ثم مدرساً للآداب العربية في (دار الفنون)؛ ثم عاد إلى بغداد فعين أستاذاً للشريعة في مدرسة الحقوق، ثم انتخب نائباً عن العراق في مجلس المبعوثان؛ وهو في خلال ذلك كله حركة ذهنية دائرة، وجملة عصبية ثائرة، لا يفتر ليله عن الشعر أو القراءة، ولا يكل نهاره عن الحديث أو الكتابة، حتى غُلب الترك وأديل منهم في بغداد للعرب، فكان الشأن لأصحاب الجيش وأقطاب السياسة؛ أما الزهاوي وأمثاله من رجال الفكر والشعر فاتخذوا طريقهم على الهامش. وكان الشاعر قد ألقى للمجد معاذيره من السراق القوى واستحكام العلل، فبات يرسل الأقباس والأضواء من جسمه المتهدم وقلبه المتضرم حتى خمد.

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌أبو حنيفة

ولكن يغير فقه

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قد انتهينا في الأدب إلى نهاية صحافية عجيبة، فأصبح كل من يكتب ينشر له، وكل من ينشر له يعد نفسه أديبا، وكل من عد نفسه أديبا جاز له أن يكون صاب مذهب وأن يقول في مذهبه ويرد على مذهب غيره

فعندنا اليوم كلمات ضخمة تدور في الصحف بين الأدباء كما تدور أسماء المستعمرات بين السياسيين المتنازعين عليها، يتعلق بها الطمع وتنبعث لها الفتنة وتكون فيها الخصومة والعداوة، منها قولهم: أدب الشيوخ وأدب الشباب؛ ودكتاتورية الأدب وديمقراطية الأدب، وأدب الألفاظ وأدب الحياة، والجمود والتحول، والقديم والجديد. ثم ماذا وراء ذلك من أصحاب هذه المذاهب؟

وراء ذلك أن منهم أبا حنيفة ولكن بغير فقه، والشافعي ولكن بغير اجتهاد، ومالك ولكن بغير رواية، وابن حنبل ولكن بغير حديث. أسماء بينها وبين العمل أنها كذب عليه وأنه رد عليها. وليس يكون الأدب أدباً إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يصرفه النوابغ من أهله حتى يؤرخ بهم فيقال أدب فلان وطريقة فلان ومذهب فلان، إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسط ونزل إلا على إبداع غير تقليد، وتقليد غير اتباع، واتباع غير تسليم؛ فلا بد من الرأي ونبوغ الرأي واستقلال الرأي حتى يكون في الكتابة إنسان جالس هو كاتبها، كما أن الحيَّ الجالس في كل حي هو مجموعه العصبي، فيخرج ضرب من الآداب كأنه نوع من التحول في الوجود الإنساني يرجع بالحياة إلى ذرات معانيها، ثم يرسم من هذه المعاني مثل ما أبدعت ذرَّاتُ الخليقة في تركيب من تركيب، فلا يكون للأديب تعريف إلا أنه المقلد الإلهي.

وإذا اعتبرنا هذا الأصل فهل يبدأ الأدب العربي في عصرنا أو ينتهي؛ وهل تراه يعلو أو ينزل؛ وهل يستجمع أو ينفض؛ وهل هو من قديمه الصريح بعيد من بعيد أو قريب من قريب أو هو في مكان بينهما؟

هذه معان لو ذهبتُ أفصلها لاقتحمت تاريخاً طويلا أمر فيه بعظام مبعثرة في ثيابها لا في

ص: 4

قبورها. . . ولكن موجز مقتصر على معنى هو جمهور هذه الأطراف كلها، وإليه وحده يرجع ما نحن فيه من التعادي بين الأذواق والإسفاف بمَنَازع الرأي والخلط والاضطراب في كل ذلك؛ حتى أصبح أمر الأدب على أقبحه، وهم يورنه على أحسنه، وحتى قيل في الأسلوب أسلوب تلغرافي، وفي الفصاحة فصاحة عامية، وفي اللغة لغة الجرائد، وفي الشعر شعر المقالة، ونجمت الناجمة من كل علة، ويُزَيَّن لهم أنها القوة قد استحصفت واشتدت، ونازع الأدب العربي إلى سخرية التقليد وإلى أن يكون لصيقاً دَعياً في آداب الأمم، واستهلكه التضييعُ وسوء النظر له على حين يؤتى لهم أن كل ذلك من حفظه وصيانته وحسن الصنيع فيه ومن توفير المادة عليه

أين تصيب العلة إذا التمستها؟ أفي الأدب من لغته وأساليب لغته، ومعانيه وأغراض معانيه؟ أم في القائمين عليه في مذاهبهم ومناحيهم وما يتفق من أسبابهم وجواذبهم؟

إن تقل إنها في اللغة والأساليب والمعاني والأغراض، فهذه كلها تصير إلى حيث يراد بها، وتتقلد البليَّة من كل من يعمل فيها؛ وقد استوعبت واتسعت ومادَّت العصور الكثيرة إلى عهدنا فلم تؤت من ضيق ولا جمود ولا ضعف. ثم هي مادة ولا عليها ممن لا يحسن أن يضع يده منها حيث يملأ كفهُ أو حيث تقع يده على حاجته

وإن قلت إن العلة في الأدباء ومذاهبهم ومناحيهم ودواعيهم وأسبابهم، سألناك: ولمَ قصروا عن الغاية، ولم وقعوا بالخلاف، وكيف ذهبوا عن المصلحة، وكيف اعتقمت الخواطر وفسدت الأذواق مع قيام الأدب الصحيح في كسبه مقام أمة من أهله أعراباً وفصحاء وكتَّاباً وشعراء؛ ومع انفساح الأفق العقلي في هذا الدهر واجتماعه من أطرافه لمن شاء؛ حتى لتجد عقول نوابغ القارات الخمس تحتقب في حقيبة من الكتب، أو تُصَندَقُ في صندوق من الأسفار

كيف ذهب الأدباء في هذه العربية نشراً متبددين تعلو بهم الدائرة وتهبط، فكل أعلى وكل اسفل. هذا فلان شاعر قد أحاط بالشعر عربيه وغربيه وهو ينظمه ويفتن في أغراضه ويولد ويسرق وينسخ ويمسخ، وهو عند نفسه الشاعر الذي فقدته كل أمة من تاريخها، ووقع في تاريخ العربية وحدها ابتلاء ومحنة؛ وهو ككل هؤلاء، المغرورين يحسبون أنهم لو كانوا في لغات غير العربية لظهروا نجوما، ولكن العربية جعلت كلا منهم حصاة بين

ص: 5

الحصى. وتقرأ شعره فإذا هو شعر تتوهم من قراءته تقطيع ثيابك، إذ تجاذب نفسك لتفر منه فراراً.

وهذا فلان الكاتب الذي والذي. . . والذي يرتفع إلى أقصى السموات على جناحي ذبابة.

وهذا فرعون الأدب الذي يقول: أنا ربكم الأعلى. وهذا فلان وهذا فلان.

أين يكون الزمام على هؤلاء وأمثالهم ليعرفوا ما هم فيه كما هم فيه، وليضبطوا آراءهم وهواجسهم، وليعلموا إن حسابهم عند الناس لا عند أنفسهم، فالواحدة منهم واحدة وإن توهموها مائة وتوهمها بعضهم ألفاً أو ألفين. ومتى قال الناس: غلطوا فقد غلطوا، ومتى قالوا: سخفاء فهم سخفاء.

وأين الزمام عليهم وقد انطلقوا كأنهم مسخرون بالجبر على قانون من التدمير والتخريب، فليس فيهم إلا طبيعة مكابرة لا إقرار منها، باغية لا إنصاف معها. نافرة لا مساغ إليها. متهمة لائقة بها، طبيعة يتحول كل شئ فيها إلى أثر منها كما يتحول ماء الشجر في العود الرطب المشتعل إلى دخان أسود.

يرجع هذا الخلط في رأيي إلى سبب واحد: هو خلط العصر من إمام بالمعنى الحقيقي يلتقي عليه الإجماع ويكون ملء الدهر في حكمته وعقله ورأيه ولسانه ومناقبه وشمائله، فان مثل هذا الإمام يُخَصُّ دائما بالإرادة التي ليس لها إلا النصر والغلبة، والتي تعطي القوة على قتل الصغائر والسفاسف؛ وهو إذا ألقى في الميزان عند اختلاف الرأي، وُضع فيه بالجمهور الكبير من أنصاره والمعجبين بآدابه، وبالسواد الغالب من كل الفاعليات المحيطة به والمنجذبة إليه؛ ومن ثم تتهيأ قوة الترجيح ويتعيَّن اليقين والشكر. والميزان اليوم فارغ من هذه القوة فلا يرجح ولا يعيَّن

ومكانة هذا الإمام تحدُّ الأمكنة، ومقداره يزن المقادير، فيكون هو المنطق الإنساني في اكثر الخلاف الإنساني: تقوم به الحجة فتلزم وإن أنكرها المنكر، وتمضي وإن عاند فيها المعاند، ويؤخذ بها وإن أصر المصر على غيرها. لن بالإجماع على القياس يَبين التطرف في الزيادة أو التقصير؛ والإجماع إذا ضرب ضرب المعصية بالطاعة، والزيغ بالاستقامة، والعناد بالتسليم؛ فيخرج من يخرج وعليه وَسمُهُ، ويزيغ من يزيغ وفيه صفتُه، ويصرُّ المكابر واسمه المكابر ليس غير وإن هو تكذَّبَ وتأولَّ، وإن زعم ما هو زاعم

ص: 6

ولكل القواعد شواذّ ولكن القاعدة هي إمام بابها؛ فما من شاذٍّ يحسب نفسه منطلقاً مخلّى، إلا هو محدود بها مردود اليها، متصّل من أوسع جهاته بأضيق جهاتها؛ حتى ما يعرف إنه شاذ إلا بما تعرف به أنها قاعدة؛ فيكون شأنه في نفسه بما تعّين هي له على مكرهته ومحبته

والإمام ينبث في آداب عصره فكراً ورأياً، ويزيد فيها قوة وإبداعاً، ويزين ماضيها بأنه في نهايته، ومستقبلها بأنه في بدايته، فيكون كالتعديل بين الأزمنة من جهة، والانتقال فيها من جهة أخرى؛ لأن هذا الإمام إنما يختار لإظهار قوة الوجود الإنساني من بعض وجوهها ولإثبات شمولها وأحاطتها كأنه آية من آيات الجنس يأنسُ الجنس فيها إلى كماله البعيد، ويتلقى منه حكم التمام على النقص، وحكم القوة على الضعف، وحكم المأمول على الواقع، ويجد فيه قومه كما يجدون في الحقيقة التي لا يكابر عندها متنطع بتأويل، وفي القوة التي لا يخالف عندها مبطل بعناد، وفي الشريعة التي لا يروغ منها متعسف بحيلة. ولن يضل الناس في حق عرفوا حده، فان ما وراء الحد هو التعدي؛ ولن يخطّوا في حكم أصابوا وجهه، فإن ما عدا الوجه هو الخلاف والمراء.

وقد طبع الناس في باب القدوة على غريزة لا تتحول، فمن انفرد بالكمال كان هو القدوة، ومن غلب كان هو السمت، ولابد لهم ممن يقتاسون به ويتوازنون فيه حتى يستقيموا على مراشدهم ومصالحهم، فالإمام كأنه ميزان من عقل، فهو يتسلط في الحكم على الناقص والوافي من كل ما هو بسبيله، ثم لا خلاف عليه إذ كانت فيه أوزان القوى وزناً بعد وزن، وكانت فيه منازل أحوالها منزلة بعد منزلة.

هو إنسان تتخير بعض المعاني السامية لتظهر فيه بأسلوب عملي، فيكون في قومه ضرباً من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحة بهذا المثال نفسه، فإليه يرد الأمور في ذلك وبتلوه يتلى وعلى سبيله ينهج، فما من شئ يتصل بالفن الذي هو إمام فيه، إلا كان فيه شئ منه؛ وهو في ذلك متصل بقوى النفوس كأنه هداية فيها لأنه بفنه حكم عليها. فيكون قوة وتنبيهاً وتسهيلا وإيضاحاً، وإبلاغاً وهداية، ويكون رجلا وإنه لمعان كثيرة، ويكون في نفسه وإنه لفي الأنفس كلها. ويعطى من إجلال الناس ما يكون به أسمه كأنه خلقَ من الحب طريقهُ على العقل لا على القلب.

ولعل ذلك من حكمة إقامة الخليفة في الإسلام ووجوب ذلك على المسلمين، فلا بد على هذه

ص: 7

الأرض من ضوء في لحم ودم، وبعض معاني الخليفة في تنصيبه كبعض معاني (الشهيد المجهول) في الأمم المحاربة المنتصرة المتمدنة: رمز التقديس، ومعنى المفاداة، وصمت يتكلم، ومكان يوحى، وقوة تستمد، وانفراد يجمع، وحكم الوطنية على أهلها بأحكام كثيرة في شرف الحياة والموت بل الحرب مخبوءة في حفرة، والنصر مغطى بقبر، بل المجهول الذي فيه كل ما ينبغي أن يعلم.

فعصرنا هذا مضطرب مختل إذ لا إمام فيه يجتمع الناس عليه، وإذ كل من يزعم نفسه إماما هو من بعض جهاته كأنه أبو حنيفة ولكن بغير فقه.

ولعمري ما نشأ قولهم (الجديد والقديم) إلا لأن ههنا موضعا خاليا يظهر خلاؤه مكان الفصل بين الناحيتين ويجعل جهة تنحاز من جهة، فمنذ مات الإمام الكبير الشيخ محمد عبده رحمه الله جرت أحداث، ونتأت رؤوس، وزاغت طبائع. وكأنه لم يمت رجل بل رفع قرآن.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 8

‌جيلان

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(ألا تعرفني ما هذا الجديد؟)

ولم يكن كلامنا في الأدب أو الفنون وإنما كانت المساكن والأحياء هي مدار الحديث. وكان الرجل يناهز الستين ولكنه في نشاط ابن العشرين، وأنا آنس به وأسكن إليه، ويسرني أن أجلس بين يديه وأصغي - أو لعل الأصح أن أقول أنظر - إلى عباب حديثه المتحدر فقد كان يذكرني بالبحر ويروعني مثله بمثل فيضه الزاخر

فقلت له (يا سيدي، العارف لا يعرف. . ولكني أستأذنك في أن أقول لك إنكما جيلان - أنت وبنوك - ومن حقك أن تتبرم بهم وتسخط على نزعتهم في الحياة وتستخف مطالبهم فيها وغاياتهم منها. . أنت حر في ذلك ولكن من حقهم أيضا أن يضجروا منك لأنهم ينزعون غير نزعتك وأن يطلبوا من الحياة غير ما تطلب، لأن وجوهها اختلفت. وأظن أن هذا عدل،

فصاح بي: (عدل؟. كيف تقول؟. عدل أن يخرجوني من بيتي ويحملوني إلى حي أنا فيه غريب لا أشعر إلا بالوحشة؟. ويقصوني عن أحبابي وأصحابي وعشراء الصبى وأخدان العمر كله؟. ما عيب بيتنا بالله؟. إني لست متعنتا. . أنت تعرف بيتنا فهل تعرف فيه عيباً؟.)

قلت (كلا. . وأشهد أن لا عيب فيه. . واسع وصحي وأسباب الراحة فيه موفورة. . نعم لا عيب فيه ولكنى أعترف بأني لو كنت ابنك لما فعلت إلا ما فعل بنوك. . أي لخرجت منه)

فقال (أنت كنت تفعل ذلك؟. حاشا. . لله إنك عاقل.)

قلت: (المسألة ليست مسألة عقل. . وإنما هي مسألة حياة تغيرت وجوهها وزمن اختلفت المطالب فيه)

قال: (إني أجادلهم كل يوم. . الكلام في هذا لا ينتهي بيننا)

قلت (وهذا حسن. . وجدتم على الأقل موضوعاً للكلام لا تخشون أن ينضب معينه)

قال: (اسمع. إني رجل كبير وقد أديت واجبي وربيت أبنائي وهم الآن رجال يعتمدون على أنفسهم ولا يحتاجون إلي. . فرغت من هذا الأمر. . وأحب أن أقضي ما بقي من عمري

ص: 9

في بيتي. . بيتي أنا. . البيت الذي ورثته عن أبي وقضيت فيه خير عمري. . بل عمري كله. . وحولي جيراني. . أعرفهم ويعرفونني وأستطيع أن أجدهم عند الحاجة. . لقد رفسني مرة حمار في الطريق فأغمى علي فلما أفقت ألفيتني في بيتي على سريري. . هل تعرف من حملني؟. جيراني. . عرفني أهل الحي فحملوني إلى بيتي. لو وقع لي هذا في الحي الجديد الذي نقيم فيه الآن لجاء الإسعاف وحملني إلى مستشفى. .)

قلت (معقول. . أنت تفضل أن يحملك جيرانك وأهل حيك إلى بيتك في مثل هذه الحالة ولكن بنيك يفضلون في مثل هذه الحالة أن يحمل المرء إلى المستشفى. . زمنك لم يكن يعرف المستشفيات فأنت تنكرها وتشفق من أن تحمل إليها ولعللك تتطير من دخول المستشفى، وعسى أن يكون أسم المستشفى مقروناً في ذهنك بفكرة الموت. ولكن الزمن تغير. والرأي في المستشفيات اختلف، وأبناء هذا الزمن الجديد يؤثرون العلاج في دوره المجعولة له على العلاج في البيوت؛ فالذي تعده أنت مزية يرونه هم نقصاً، والذي تراه أنت شراً يعتقدون هم أنه خير. . وهذا بعض الفرق بين الزمنين)

قال: (ولكني كبرت يا سيدي. . ماذا يضرهم لو تركوني أقضي الأيام الباقية لي كما أحب؟)

قلت: (إنه لا يضرهم. وثق إنهم لا يأبون عليك ولا يكرهون لك أن تحيا حياتك على هواك ولكن تيار الزمن حملهم - وحملك معهم - إلى حيث لا تشعر إلا بالقلق وعدم الرضى؛ والذنب للزمن لا لهم)

قال: (إنهم يضحكون مني حين أقول لهم إن بيتنا قريب من المساجد فأنا أستطيع بلا عناء أن أزور السيدة نفيسة أو السيدة زينب وأن أصلي المغرب في سيدنا الحسين ثم أشرب الشاي المغربي البديع هناك في قهوة من القهوات القديمة. وأنتظر حتى أصلي العشاء ثم أعود إلى البيت. . يضحكون يا سيدي ويجعلون هذا موضوعاً لفكاهتهم. . لا يعجبهم إلا جروبي وشارع عماد الدين والسينما. .)

قلت: (أنت محق وهم غير مخطئين. . لقد فرغت من حياتك أو من واجبك فيها، فأنت تريد أن تفرغ لربك. ولكنهم هم في بداية الأمر وأول مراحل الحياة، ولكل حياة بداية ونهاية؛ ومن العنت أن تفرض عليهم في البداية الحالات النفسية التي لا تكون إلا في

ص: 10

النهاية. وأنت لا تشعر بالحاجة إلى السينما مثلا لأنك لم تعتدها إذ لم يكن لها في زمنك وجود، وقد عشت بغيرها أكثر عمرك ففي وسعك بسهولة أن تعيش بقية العمر من غير أن يخطر لك أن السينما لازمة أو أنها ملهاة مستحبة، ولكنهم هم نشأوا في ظلها فصارت من وجوه حياتهم المألوفة، وأحسبهم حين تعلو بهم السن ويفرغون من أمور الدنيا سيظلون يذهبون إلى السينما كما تذهب أنت الآن إلى المساجد للعبادة، ولن يكونوا حينئذ أقل منك زهداً في الدنيا أو انصرافاً عن باطلها أو ابتغاء لرضى الله. ومن يدري؟. . عسى أن تكون هناك يومئذ أشياء جديدة غير السينما يرتادها أبناؤكم فينكر أبناؤك على أحفادك هذا الشغف بالجديد الذي جاء به الزمن كما تنكر أنت اليوم على بنيك كلفهم بالسينما. لكل زمن يا سيدي حكمه، ولكل جيل روحه. . ويحسن بالمرء أن يوطن نفسه على ذلك)

قال: (نعم نعم. . إني لست جامداً ولا متعنتاً بل أنا أدرك ذلك كله)

قلت: (إن الإدراك وحده لايكفي، والمعول في مثل هذه الأمور على العادة لا على الإدراك)

قال: (صحيح. . ولكني مظلوم. . تصور أني لا أشعر برمضان في هذا الحي. . لا نسمع المدفع، ولا يدق الباب علينا أحد ليوقظنا للسحور. . ولا نسمع الطبلة القديمة. . ولا المؤذن. . لا. . لا شيء من ذلك. وقد احتجنا إلى المنبه لنستيقظ على صوته حتى لا يفوتنا السحور. . تصور هذا. . الحق أقول لك إني كنت لا أشعر أن هذا هو رمضان، ولا أكاد أصدق أن صيامي مقبول. . أهذا هو رمضان. .؟ من يقول هذا؟. . أين الأولاد الذين يطوفون بالمصابيح فيها الشموع الموقدة. . أين صيحات فرحهم وسرورهم بليالي رمضان. . أين السهرات اللذيذة. . سهرات الإخوان في البيوت. . إني أحس في هذه الشقة الضيقة التي نسكنها أني يتيم. . صحيح)

قلت: (أو لست يتيما. .)

قال (أعني أني أشعر بوحشة. . والباقي من عمري قليل، وكنت أرجو أن يتركوني أقضيه في بيتي وبعد أن أموت يمكنهم أن يصنعوا ما شاءوا. . وأظن أن هذا عدل)

قلت (عدل؟. . من يدري؟. . هل من العدل أن تفرض على ثلاثة أو أربعة ضربا من الحياة لا يوافق إلا واحد هو أنت؟. . ربما كان العدل أن تحتمل أنت ما يوافق الأربعة. . على الأقل هذا أقرب إلى العدل أو أشبه به. . العدل؟. . من يدري يا سيدي. .)

ص: 11

قال (إني أنظر إلى فائدتهم. . نحن الآن نخسر خمسة جنيهات كل شهر أجر للسكنى، ولو كنا في بيتنا لاستطعنا أن نقتصد هذا المبلغ أو أن ننفقه فيما هو أولى وألزم. . ألست توافقني؟)

قلت (تسألني الآن فجوابي نعم، ولو سألتني قبل عشرين سنة لكان جوابي لا. . الشباب يفعل ما يعجبه لاما ينفعه. . ينفق بلا حساب لأنه يشعر بفيض من الحيوية ولا يشعر بالحاجة إلى التدبير والاقتصاد. . مليونير. . كيف يبالي بالقروش والملاليم؟؟)

قال (ولكن ألا ينبغي أن يفكروا في المستقبل ويعدوا العدة للضعف؟.)

قلت (إن هذا يكون أحجى ولكن الشباب رأسه مثل التليفون. . أعني أنه يستطيع أن يقصي السماعة عن أذنه ويضعها فلا يسمع إذا هم صوت النذير بالكلام الثقيل. .)

قال: (يا شيخ لا تقل هذا. . إنه جنون)

قلت (صدقت. . إنه جنون. . ولكنه جنون القوة. . والشباب ينفض عن نفسه الهموم كما تنفض عن ثيابك التراب بإصبعك. . بلا عناء ولا اكتراث. . في وسعه ذلك لأنه عباب القوة زاخر. . والعقل يجئ. . مع الضعف. . والحساب له وقته. . أوانه، عندما يحس المرء بأنه بدأ ينفق من رأس ماله. . يا سيدي هل تعرف مهندسا استطاع أن يوصد بوابات الخزان في إبان الفيضان. . إنما يكون الخزن ويتيسر التدبير عندما تفتر قوة الماء الدافق ويؤمن شر اندفاعه على كيان الخزان. . كذلك الإنسان. . هل كنت تنفق بحساب دقيق في شبابك؟. .)

فأطرق، فقلت (إنك تنسى أنك كنت كذلك. . لو استطاع الكهول أن يذكروا كيف كانوا في شبابهم ولم يستغرقهم الإحساس بالحاضر وحده. . لعذروا. .)

قال (يعني انك موافق على ظلمي)

قلت (أسمع. . لو كان أبي حيا لما صبرت على معاشرته ولا أطقت الحياة معه في بيت واحد وتحت سقف واحد. . فأبناؤك خير مني ألف مرة)

قال (إن لك أبناء؟)

قلت (نعم ولا أسف ولا سرور. . وسأعنى بأن أدعهم يحيون حياتهم وحدهم وعلى هواهم حين يستغنون عن هذه التكأة التي هي أنا. .)

ص: 12

قال (إني لا أضيق على أبنائي. . أنا معهم كأخيهم)

قلت (ليس في وسعك أن تضيق عليهم. وحسبك أنهم أكرم من أن يضيقوا عليك. . المثل يقول: إنك لا تستطيع أن تأخذ زمانك وزمان غيرك. . ولو استطاع الإنسان ذلك لما كان عدلاً)

قال (صحيح. . بس مشوار من العباسية إلى السيدة)

قلت (ألا تعلم أن الله خلق الترام)

قال (ولكني أحب المشي. . مفيد)

قلت (في وسعك بفضل أبنائك أن تستفيد الآن جداً من المشي)

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 13

‌البزيع

أعوذ بالله!

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

كانت الصحف قد ذكرت أن أحد أعضاء (مجمع اللغة العربي الملكي) أختار (البزيع) لفظة عربية (للجنتلمان) وروت (البزيع) بالذال لا بالزاي - فأمليت هذا القول:

في (قاموس المحيط): (البذع الفزع، والمبذوع المذعور المفزع، وصبح بن بذيع محدث خراساني)

والخراساني (والله) مخيف، وما سمي (بذيع) بذيعاً إلا لأنه كان يبذع الناس، أو جاء يوم قبلته القابلة مشيَّئاً هولة

فهل غزا (عضو مجمع اللغة العربية الملكي) هذه الكلمة المبذعة أم أراد (البزيع) بالزاي وهو الغلام الظريف الذي يتكلم ولا يستحي؟ ففي (اللسان): (بزُع الغلام بزاعة فهو بزيع وبزاُع: ظرف وملح، والبزيع الظريف، قال أبو الغوث: غلام بزيع: أي متكلم لا يستحي، وغلام بزيع وجارية بزيعة ولا يقال إلا للأحداث)

فبزيع ليست لجنتلمان، وإن كان هؤلاء (الجنتلمنات) الإنكليز قد عادوا يقولون ويفعلون ولا يستحون!

أجل، قد جاء في (اللسان) أيضاً:(والبزيع السيد الشريف) لكن ليس من (أدب النفس) أن تسوء الرجل (السرى) أو الكامل أو الفتى المهذب أو السيد الشريف بصفة شركه فيها الغلام الحدث

وفي (تهذيب الألفاظ) لابن السكيت: (البزيع الظريف الحلو المجزئ، والحلو الذي يستخفه الناس يكون خفيفا على أفئدتهم)

وتعريف (التهذيب) - وإن لم يكن فيه قلة حياء - فيه الخفة، ووصف (السرى) - بأنه حلو خفيف - مؤلم مر ثقيل عليه

وما أرى هذه الكلمة البزيعة الباذعة إلا من طغام الكلام ولن يحسبها الأدباء العربيون في قبيل (اللسان المبين) والجزيرة أقاليم، والعربية لغات، والعرب أمم

وبزيع الجماعة يذكرنا بقصة (بوزع) وهي فوعل من البزيع، وقد رواها أبو الفرج في

ص: 14

كتابه، والبغدادي في خزانته، وهذا بعضها وهو المهم المقصود في الحكاية:

(قال جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية لحماد الراوية:

أنشدني لجرير، فأنشده:

بان الخليط برامتين فودعوا

أو كلما اعتزموا لبين تجزع؟

واندفع ينشده إياها حتى انتهى إلى قوله:

وتقول بوزع:

قد دببت على العصا

هلا هزئت بغيرنا يا بوزع؟

قال حماد: فقال لي جعفر: أعد هذا البيت، فأعدته، فقال: بوزع إيش هو؟ قلت: اسم امرأة.

فقال: امرأة اسمها بوزع؟ هو برئ من الله ورسوله ونفي من العباس بن عبد المطلب أن كانت بوزع الأغوالا من الغيلان. تركتني (والله) يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع. . يا غلمان، قفاه. .)

وإني لو سمعت أعضاء (مجمع اللغة العربية الملكي) يتجادلون في (ديوانهم) في (بزيع وجنتلمان) لصحت: يا قوم، انبذوا (البزيع) وخذوا (الجنتلمان) فما (فلان) وإضراب (فلان) بأقرب إلى مصر والعربية من (جورج لويد) و (برسي لورين)!

محمد اسعاف النشاشيبي

ص: 15

‌في أفق السياسة الدولية

السلام المسلح

بقلم باحث دبلوماسي كبير

السلام المسلح هو بلا ريب شعار السياسة الدولية هذا العام فالدول العظمى تتسابق كلها في ميدان التسليح بحماسة لم يسمع بها في التاريخ، ومع ذلك فالدول تؤكد نياتها السلمية، وتدعي جميعاً أنها تقوي أهباتها الدفاعية دفعاً للاعتداء وتقريراً للسلم؛ وقد كانت إنكلترا إلى ما قبل أشهر قلائل أقل الدول العظمى تأثرا بهذه الحمى في سبيل التسليح، ولكنها اليوم تنزل إلى نفس الميدان ببرنامج للتسليح يفوق بضخامته كل ما عرف حتى اليوم، وترصد لهذا البرنامج اعتماداً يبلغ ألفاً وخمسمائة مليون من الجنيهات، وهو إسراف لم يسبق أن عرفته الإمبراطورية البريطانية في تاريخها الحافل رغم اهتمامها دائماً بشؤون التسليح والدفاع، وفي نفس الوقت الذي تتقدم فيه السياسة البريطانية بهذا البرنامج العسكري الهائل تتقدم إلى العالم بنفس التأكيدات السلمية التي لم تنقطع عن ترديدها طيلة الأعوام الأخيرة، وتعلن أنها لا تتسلح إلا دفاعاً عن نفسها وحفظاً لكيانها ومصالحها، وتأييداً للسلام العالمي الذي كانت قوة بريطانيا العظمى دائماً عاملا كبيرا في تعزيزيه وتأييده

والسياسة البريطانية لا تخفي أنها كانت مسرفة في حسن الظن بالعهود والمواثيق الدولية، وفي الاعتماد على مبادئ السلم وحسن التفاهم بين الأمم، وأنها كانت مقصرة في مجاراة الأمم الأخرى في التسليح بالدرجة التي يقتضيها مركزها الدولي، ومصالحها الإمبراطورية العظيمة، فهي الآن تجري على نفس سياسة السلم المسلح التي جرت عليها الدول الأخرى، بعد أن أيقنت أن التخلف في هذا المضمار يعتبر خطراً على هيبتها الدولية وعلى سلامتها وسلامة إمبراطوريتها المترامية الأطراف، وبعد أن لمست عن قرب هذا الخطر جاثماً يتربص بها ويحاول أن يجد فرصة في نقص أهباتها الدفاعية، وهي تعود اليوم فترى أن الوسيلة العملية الوحيد لاسترداد مكانتها الدولية، وتأييد كلمتها وإرادتها وحفظ سلامتها وطمأنينتها، هي أن تضاعف أهباتها في التسليح حتى تستطيع أن تسحق أية قوة في العالم تفكر في مناوأتها والاعتداء عليها

وليس من العسير أن نستشف بواعث هذا التطور الحاسم في السياسة البريطانية الحالية

ص: 16

وتحولها إلى خطة السلام المسلح، بعد أن كانت تعتمد على المواثيق الدولية والسلامة المشتركة والجهود السياسية، ففي حوادث العام الماضي تفسير شاف لهذه البواعث، وأولها وأهمها بالطبع هي المسألة الحبشية التي فتحت عيون السياسة البريطانية إلى حقائق لم تحسن تقديرها، فقد دبرت إيطاليا اعتداءها على الحبشة عامدة متعمدة، وغزتها واستولت عليها بوسائل عنيفة وحشية هي أدنى إلى القرصنة منها إلى الحرب الحقيقية، ولم تعبأ بالمعاهدات المعقودة والمواثيق المقطوعة ولا بكون الحبشية من أعضاء عصبة الأمم؛ وحاولت السياسة البريطانية أن تحشد دول العصبة ضد إيطاليا في جبهة أدبية اقتصادية تقاومها بالاستنكار والمقاطعة، فلم تحفل إيطاليا بهذا السلاح السلبي وسخرت منه كما سخرت من السياسة البريطانية ومحاولتها، وانتهى الأمر باستيلائها على الحبشة، ووطدت بذلك سلطانها الاستعماري في شرق أفريقية بجوار السودان ومنابع النيل وكنيا وشرق أفريقية البريطاني، ولم يكن موقف السياسة البريطانية يومئذ دفاعاً عن الحبشة ذاتها، وإنما كان وسيلة للدفاع عن مصالح الإمبراطورية، لأن قيام العسكرية الفاشستية في الحبشة على هذه الصورة المتحفزة يهدد سلامة الأملاك البريطانية ويهدد مواصلات الإمبراطورية في البحر الآحمر، وتوطد سلطة إيطاليا الاستعمارية يهدد سياسة بريطانيا البحرية في البحر الأبيض المتوسط، ولم تستطع بريطانيا العظمى يومئذ أن تلجأ إلى سلاح العنف لمقاومة المشروع الإيطالي. ولم تحاول أن تغلق قناة السويس في وجه القوات الإيطالية لأنها أدركت يومئذ أنها ليست مستعدة للطوارئ تمام الاستعداد، وأن من الخطر أن تدخل مع العسكرية الفاشستية المتوثبة في معركة لا تؤمن عواقبها لهذا كله اكتفت بمراقبة الحوادث، وشهدت على كره منها ومضض ظفر الفاشستية بغزو الحبشة وقيام الإمبراطورية الإيطالية الاستعمارية، وشهدت انهيار سياستها القائمة على تحريك العصبة؛ ولم يخف على السياسة البريطانية ما أحدثه ذلك الفشل من صدع لهيبتها ونفوذها الدولي، ولم يخف عليها أنها كانت قصيرة النظر حينما اعتمدت على فكرة السلامة المشتركة، وتخلفت في مضمار التسليح حتى تفوقت عليها فيه أمم أخرى أصبحت تناوئها الآن وتشاكسها

وفي نفس الوقت الذي نفذت فيه إيطاليا اعتداءها على الحبشة على هذا النحو المثير، أعلنت ألمانيا نقضها لميثاق لوكارنو الذي يكفل سلامة حدود الرين، كما أعلنت نقضها

ص: 17

لآخر النصوص العسكرية في معاهدة الصلح المتعلقة بتحريم التسليح في منطقة الرين. وإنكلترا من الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو. ومع أنها لم تتأثر بتصرف ألمانيا قدر ما تأثرت فرنسا فإنها رأت في انهيار هذا الميثاق الذي كان يعد ضماناً قوياً للسلام في غرب أوروبا نذيراً سيئاً بانهيار فكرة السلام المشتركة وتقويض صرح السلام الأوربي، ورأت فيه بالأخص ضربة أليمة لشرعية العهود والمواثيق تنذر بانهيار سلطان القانون الدولي، وتبعث إلى الريب في قيمة العهود الدولية، وتحمل على عدم الاطمئنان إليها، ما لم تكن من ورائها القوة الكافية لتأييدها وضمان تنفيذها

ثم كانت المشكلة الأسبانية، وتدخل ألمانيا وإيطاليا فيها إلى جانب الثوار الأسبانيين لإقامة حكومة عسكرية فاشستية في اسبانيا؛ وقد لمحت إنكلترا منذ البداية شبح الخطر الذي يجثم من وراء هذا التدخل، وأدركت في الحال أن قيام حكومة فاشستية في أسبانيا تؤيدها إيطاليا وألمانيا، وكلتاهما تضطرم طموحا إلى الفتوح الاستعمارية. مما يهدد سيادتها في غرب البحر الأبيض المتوسط، وهي سيادة تحرص عليها بالسهر على مدخل هذا البحر من مضيق جبل طارق، وهو توجس لم تلبث أن حققته تطورات الحرب الأسبانية، وتدفق الجنود الإيطالية والألمانية إلى أسبانيا. وما قامت به الدولتان من المناورات الاستعمارية المزعجة في جزر البليار ومراكش الأسبانية

إزاء ذلك كله شعرت إنكلترا بحقيقتين بارزتين، الأولى أن هناك خطرا حقيقيا على سيادتها في البحر الأبيض يتفاقم يوما بعد يوم، وان إيطاليا الفاشستية تبذل جهودا جبارة لتحطيم هذه السيادة؛ والثانية أن سلام أوروبا لم يعد مكفولا، وأن ألمانيا وإيطاليا المدججتين بالسلاح أصبحتا بما لهما من القوة العسكرية تتحكمان في سلام القارة، وتهددانه في كل لحظة بنزاعاتهما وأطماعهما العنيفة، وأنه أضحى من العبث أن تعتمد السياسة البريطانية على سياسة العهود والمواثيق والسلامة الاجتماعية، وأنه لابد من اعتمادها على القوة للدفاع عن سلامتها ومصالحها الإمبراطورية الواسعة؛ ومع أن إنكلترا عقدت في يناير الماضي مع إيطاليا اتفاقا باحترام الحالة القائمة في البحر الأبيض، والاعتراف بالمصالح المتبادلة وهو ما يسمونه باتفاق (الجنتلمان) فان السياسة البريطانية لم تكن ترى فيه على ما يظهر أكثر من وسيلة لتهدئة الحالة وتسكين الأعصاب المضطربة واكتساب الوقت؛ بل يلوح لنا أن

ص: 18

هذا الاتفاق الذي علقت عليه يوم عقدت آمال كبيرة، ينهار اليوم من أساسه، لأن إيطاليا رأت في برنامج التسليح البريطاني، وفي دعوة الحكومة البريطانية للنجاشي إلى حفلات التتويج، ما يسوغ لها الارتياب في موقف السياسة البريطانية، والسير في سياستها العسكرية المطلقة دون تردد أو تقيد

وقد كان لهذا التحول في السياسة البريطانية، والتجاء بريطانيا إلى سياسة التسليح الشامل وقع عميق في ألمانيا وإيطاليا؛ ومما يلاحظ أنه وقع على أثر إثارة ألمانيا لمسألة المستعمرات ومطالبتها بمستعمراتها القديمة بصورة رسمية، ورد إنكلترا على مطالبها بالرفض المطلق؛ وقد أكد مستر ايدن وزير الخارجية البريطانية في عرضه لسياسة بريطانيا الخارجية، إن بريطانيا لا ترمي بالتسلح إلى أية غاية أعتدائية، ولاتفكر مطلقا في تعكير السلم، وكل ما ترمي إليه هو الدفاع عن سلامتها وسلامة أملاكها ومصالحها الإمبراطورية، ولم يخف الوزير أن ما شعرت به بريطانيا من خيبة الأمل في قيمة العهود والمواثيق الدولية وقيمة السلامة المشتركة كان من أعظم بواعث هذه السياسة، ولم يخف إن إخفاق العصبة في المسألة الحبشية كان صدمة أليمة للعصبة ولجميع الدول التي تؤمن بمبادئها، بيد أن السياسة البريطانية ما زالت تؤمل في مستقبل العصبة ومستقبل مبادئها السلمية الحرة. على أن هذه التصريحات الملطفة لم تخف الحقيقة البارزة في تسليح بريطانيا، وهي أنه رد عملي على تسليح ألمانيا وإيطاليا، ورد القوة على القوة، واعتزام التذرع بالعنف لرد العنف. ولم يستطيع منصف أن يلوم السياسة البريطانية على هذا التحول الذي اضطرت إليه لمثل هذه البواعث الحيوية القاهرة، ولكن برلين ورومة لا تريان هذا الرأي، أما برلين فلا تؤمن بما تقوله السياسة البريطانية في تبرير هذا التسلح، بل ترى فيه تحديا وتهديدا خفيا لها لتأيد السياسة التي ترمي إلى حرمانها من مستعمراتها ومطامعها الاستعمارية والاقتصادية المشروعة، وأما رومة فلا تشك أنه موجه إليها توجيها مباشرا لحرمانها من ثمرات تفوقها العسكري وانتصارها في الحبشة وتهديد سلامة إمبراطوريتها الاستعمارية التي كسبتها بسيفها، ولذلك رأينا المجلس الفاشستي الأعلى يجتمع بسرعة ويقرر مواصلة تسلح دون هدنة أو توقف، وأن يترك فكرة الاتفاق على تحديد التسليح نهائيا، وسيقترن هذا القرار بإجراء مناورات بحرية وجوية كبرى في مياه

ص: 19

المضيق الواقعة بين طرابلس وصقلية، وهو المضيق الذي قد تفكر إيطاليا في إغلاقه في حالة الحرب لتقطع المواصلات البريطانية في البحر الأبيض المتوسط

وهكذا نرى معركة تسليح تضطرم بين الدول الكبرى. ولا ننس أن فرنسا قد أقرت كذلك برنامجا هائلا للتسليح، وأن روسيا السوفيتية قد دججت سلاحا وأضحت أقوى دول القارة. بيد انه مما لا ريب فيه أن للتسليح البريطاني آثارا يغتبط لها أنصار السلام، ذلك أن بريطانيا لا تطلب مزيداً في السلطان والملك، ولا تفكر في فتوحات أو غزوات استعمارية جديدة، وإنما تريد الدفاع عن إمبراطوريتها القائمة، ومقاصدها الدفاعية ظاهرة لا ريب فيها، وفي وسع بريطانيا متى أتمت تسليحها واستكملت قوتها أن تغدوا بما لها من الكلمة النافذة والقوة المرهوبة عاملا حاسما في استتباب السلم العالمي

(* * *)

ص: 20

‌في الأدب المقارن

الحرب

في الأدبين العربي والإنكليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

حب الحياة والإقبال على متعاتها والرغبة في التكثر من خيراتها مركب في طبائع الأحياء. وليس لحاجات الحي ورغباته ومطامحه نهاية، بل تبقى له حاجة ما بقى كما قال الشاعر؛ والنزاع بين الأحياء على خيرات الحياة من اجل ذلك متصل لا يفتر، وهيهات يفتر وحب الخلاف والنزاع والجلاد ذاته بعض طبائع الأحياء، والشغف بالقلب والتخايل بالقوة والزهو بالسيادة من اكبر مطامع الأحياء والإنسان خاصة ومن ثم عرف الإنسان الحرب من أول عصوره واشتغل منذ همجيته بمكافحة الأحياء من الوحوش ومن أبناء جنسه، وتم له النصر من قديم على أمة الوحوش، وما تزال معارك الإنسان مع أخيه - أو عدوه - الإنسان متصلة تشب بين حين وحين

وقد كابد الإنسان في شتى العصور أهوال الحروب وعلم علم اليقين عواقبها الوخيمة؛ بيد أنه لم يستطع بعد أن ينبذها، لقيامها على غرائز في طبعه راسخة متأصلة، ولما تليح به أمام عينه من مزايا النصر ومغانمه ومجده ولألائه، ومن ثم كانت مهمة دعاة السلم من أشق المهام ومطالبهم من أبعد المطالب، وقد هبوا في الفترة بعد الفترة ينددون بالحرب وبلاياها ومغباتها. فكانت صيحاتهم تترك صداها في نفوس الكثيرين، ولاسيما في أعقاب الحروب الطاحنة التي أهلكت الحرث والنسل، ثم لا تلبث غرائز الإنسان الفطرية أن تعاوده على أشدها، وتبدأ الأمم سيرتها الأولى من الطمع والتفاني وتحكم القوة التي لا يفصل سواها بين المطامع المتضاربة

وللحرب آثارها المشهودة في أدب كل أمة بلا استثناء. ولتلك الآثار ثلاث نواح: فالحرب أولا من أهم وسائل اتصال الأمم واختلاط الأفكار وتلاقح الثقافات؛ وهي ثانياً وحي الجم الغفير من نظم الشعراء ونثر الكتاب الواصفين لوقائعها وسلاحها ورجالها، الممجدين لأبطالها وانتصاراتهم، المفاخرين بما كان دحر الأعداء وحماية الدمار وسلامة الشرف

ص: 21

الرفيع من الاذى؛ والحرب من جهة ثالثة أوحت بآثار أدبية شتى في تبغيض القتال، وتسفيه اعتداء الإنسان على الإنسان، والحض على السلم والدعوة إلى الإخاء والصفاء وأن كان أثر هذه الدعوة في الأدب اقل كثيراً مما فيه من الترنم بمجد الانتصار والتغني بالعز والغلب، ولم تكثر آثار تلك الدعوة في الأدب إلا في العصر الحديث

وكل هاتيك الآثار بينة في الأدبين العربي والإنجليزي، فقد خبت الأمتان وأوضعتا في مجال الحروب. وكان بين كل منهما وبين جيرانها وأعدائها ملاحم ومواقع جسام، وشهد أدبها قيام نهضة حربية عظيمة وتشييد إمبراطورية واسعة، وأنجبت كل منهما عظماء القادة وحازت مشهود الانتصارات، وأذاقت أحيانا مرارة الهزيمة، ووقفت مراراً حيال الأخطار الجائحة التي تهدد كيانها وحريتها وتقاليدها، وشهدت الكثير من أمثال هذا كله يجري بين الدولة المجاورة والأمم المعاصرة لها، وعلى كثرت ما يحتويه الأدب العربي من اكثر، وذلك لأسباب عديدة:

فأولى ارتقى الأدب العربي وتوطد والأمة العربية ما تزال منشقة متناضلة، تتفاخر قبائلها بأيامها وانتصارتها، أما الأدب الإنجليزي فلم يبلغ عظمته إلا في ظل القومية الموحدة، ولم تنشق الأمة على نفسها ويمتشق بعضها الحسام لقتال البعض إلا مرة واحدة في عهد الصراع بين الملكية المطلقة والنظام الدستوري، وهي الفترة التي أنجبت القائد العظيم كرومل، وفيما عدا ذلك يمتاز التاريخ الإنجليزي بحروبه من الحروب الأهلية

وثانيا كانت الحروب اكثر طروءاً في تاريخ العرب منها في تاريخ الإنجليز حتى بعد توطيد الإمبراطورية: فان تلك الإمبراطورية ظلت - مادامت لها قوتها - تجالد أعدائها في الدين من روم ووثنيين، حتى إذا ما وهنت قوتها انقسمت على نفسها، وكثرت في داخلها الدويلات والحروب

وثالثا لأن كثيراً من أعلام الأدب العربي كعنترة وقطري بن الفجاءة والمتنبي وأبي فراس، كانوا جنوداً يشهدون الوغى ويمتدحون بمآثرهم فيها، وقلة من أدباء الإنجليزية من كان كذلك، بل لقد ذكر أن المقاتلة في عهد التلاحم بين علي ومعاوية والخوارج كانوا إذا تهادنوا ليلا تقابلوا تقابل الأصفياء يتناشدون الأشعار

ورابعاً كان جل شعراء العربية المتأخرين متصلين بالأمراء والقواد فلم يكن لهم ندحة عن

ص: 22

وصف أعمال ممدوحيهم الحربية

كان العرب في الجاهلية في قتال لا يكاد يهدأ، وكانت بين قبائلهم وأشرافهم ثارات وعداوات لا تكاد تنتهي حتى اضطروا أن يتخذوا لهم موضعاً حراما ووقتاً حراماً ما تهدأ فيه الخصومات وتغمد الصوارم وتتصل أسباب الحياة والتعاون، وبالتمدح بالنصر في تلك الحروب والتفاخر بأيامها والتوعد والتربص، كان أكثر ما قيل من شعر في الجاهلية. وظلت لهذا الباب من الشعر المسمى بالحماسة مكانته بعد انقضاء عهد الجاهلية بطويل، وبه بدأ أبو تمام مختاراته الشعرية وبه سماها، وكثر في الشعر الجاهلي ذكر السيوف والرماح والخيول وغيرها من وسائل الحرب، وكثرت في العربية أسماؤها وأوصافها، وارتقى بين العرب البصر بالحروب وتأصلت فيهم ملكاتها، حتى أخرجت الجزيرة صناديد الإسلام الذين اصطلموا كتائب قيصر وآل ساسان، ومن الشعر الذي يعرض صور حروب ذلك العهد ومعلقة عمرو بن كلثوم الذي يقول منها:

على آثارنا بيض حسان

نحاذر أن تقسم أو تهونا

وكنا الأيمنين إذا التقينا

وكان الأيسرين بنو أبينا

وكانت الرسالة النبوية، وكان صاحبها يجمع إلى عبقرياته العظيمة المتعددة التي لم تجتمع لإنسان، البصر بالحرب والبلاء فيها فتخلف من أشعار ذلك العهد ولاسيما شعر حسان أثر ما كان بين المسلمين والكفار من كفاح؛ حتى إذا ما وحد الإسلام قلوب العرب انصرفوا إلى جهاد أعداء الدين، ومن عجب أن عصر الفتوح الباهر الذي تلا ذلك لم يترك في الأدب العربي إلا أثراً ضئيلا. وليس امتلاء النفوس برهبة الدين هو كل السبب في ذلك، بل يرجع ذلك أيضاً إلى جدة الحالة التي وجد العرب بها أنفسهم: من قتال أمم مخالفة لهم في الجنس واللسان والمسكن ووسائل القتال، ولعلهم لم يجدوا من اللذة والغبطة ودواعي الفخار في اجتياح تلك الجيوش المرتبة، ما كانوا يجدونه في مصاولاتهم البدوية المملوءة بالكر والفر والمساجلات الفردية.

وأهم من هذا وذاك أنهم لم يتعدوا الفخر بالأعمال القومية، التي يشترك في فخارها المضرى والبكري والتغلبي، ولم يتعودوا أن ينضموا القصيد في الفخر على أعجمي، وإنما هم كانوا يترفعون على الأعجمي ترفعاً بديهياً بسيطاً لا يتكلفون له عناء النظم، ولا يحتفون

ص: 23

بالقول، وآية ذلك حكاية الأعرابي الذي سئل: أتحب أن تكون ابن أعجمية ولك قصر في الجنة؟ فقال: لا أحب اللؤم بشيء. قيل: فإن أمير المؤمنين ابن أمة، قال: أخزى الله من أطاعه!

إنما كان الفخر كل الفخر عند العربي في الظفر بعربي مثله، من قبيلة معادية لقبيلته، قد توارثت قبيلتهما العداوة والتراث جيلا بعد جيل. وما هي إلا أن دبت الفتنة من جديد بين العرب حتى ظهر أثرها في الشعر: فمهدد لمعاوية وحزبه، ومناصر لبني هاشم أو مناصب لهم. ومفاخر بكلب أو بتغلب أو معير لهذه أو لتلك، إلى عهد بشار الذي يتمدح - على كونه من الموالي - بل غضب المضرية التي تهتك حجاب الشمس؛ وظل الشعراء الذين يمتدحون الخلفاء والأمراء والقواد ويمدحون بلائهم في الحروب، لا ينسون أن يذكروا مفاخر قبائلهم من قبل وبلائهم في الوغى، فإذا ما مدح الشاعر الحجاج ذكر ثقيفاً أو عبد الملك ذكر أمية، وظل الشعر العربي دائماً يردد ذكر بني مظر وبني شيبان وبني تنوخ وبلاء كل أولئك في الحروب، وكان التساجل بين الشعوبيين وأنصار العربية فلم يكد يترك أثراً في الشعر العربي، وحتى المتنبي يحفل شعره بذكر قبائل من مدحهم على التوالي، رغبة تعصبه للعربية، وطول تألمه من أن يرى عرباً ملوكها عجم

بجانب تلك العاطفة القبلية تمت تدريجا عاطفة أخرى هي الرابطة الإسلامية، إذ تمكن الإسلام من نفوس معتنقيه ومجتمعهم تمكنا احله محل القومية، وترددت تلك العاطفة في أشعار الشعراء الممجدين لبلاء الخلائف والأمراء في دفاع أعداء الملة، وكان للإسلام في أول ظهوره عدوان كبيران: الوثنية وزعيمتها فارس، وقد فرغ من شانها عاجلا، والنصرانية وممثلتها الدولة الرومانية، وقد ظل جهادها دائما من أول مهمات الخلفاء وولاة الثغور، وظلت حربها مكن أهم ما يشغل بال المسلمين ويغذي عاطفتهم المشتركة وشعورهم القومي؛ ويتجلى اثر تلك الحروب بين الدولتين، أو بين الديانتين، في أشعار أبي تمام والبحتري والمتنبي؛ ولما أعيت الدولة الرومانية الحيل استنجدت بغيرها من أمم النصرانية، فكانت الحروب الصليبية، التي ظهر أثرها في شعر شعراء مصر والشام، ومن ذلك قول البهاء في السلطان الأيوبي:

فابلغ رسول الله أن سميه

حمى بيضة الإسلام من نوب الكفر

ص: 24

وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى

فلا حلمت إلا بإعلامه الصفر

وبلغ المسلمون المبالغ في الحرب البرية والبحرية وعنهم اخذ الصليبيون، ومن لغتهم نقل الغربيون كلمة الأميرال أو أمير البحر وغيرها من مصطلحات القتال، وحفل شعرهم بوصف المعارك والجيوش وما توقعه بأرض العدو من دمار، كوصف أبي تمام لتخريب عمورية؛ ووصف الاساطيل؛ والمتنبي هو اصدق وصافي الحرب في المتأخرين وأروعهم لأنه كان يصف ما يميل إليه بطبعه وما يمارسه ويشاهده بنفسه، ولا تكاد ترتوي منه لهفته، ومن ثم لا تقل أشعاره الحربية عن أشعار الجاهليين والإسلاميين صدقا وفطانة وتفوق بعضها جزالة وتجويدا، ومن جيدها وصفه لخيل سيف الدولة الذي منه:

رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا

وما علموا أن السهام خيول

شوائل تشوال العقارب بالقنا

لها مرح من تحته وصهيل

كتائب يمطرن الحديد عليهم

فكل مكان بالسيوف يسيل

ومن جيد وصف الأساطير قول ابن هانئ الأندلسي:

أنافت بها آطامها وسمالها

بناء على غير العراء مشيد

وليس بأعلى كبكب وهو شاهق

وليس من الصفاح وهو صلود

إذا فرت غيظا قد ترامت بماوج

كما شب من نار الجحيم وقود

ولم يقتصر ذكر الحرب على مواضعها الخاصة بها، ومناسباتها بين الحين والحين، بل كان أمرها من الشمول والاتصال والحضور في أذهان الناس بحيث تسرب ذكرها في شتى أبواب الأدب، واستعيرت صفائها وأحوالها لمختلف الأغراض: ففي النسيب استعيرت السيوف والسهام للجفون واللواحظ، والقتل لشدة التتيم، وبالسيف شبه الممدوح صقلا ومضاء وبه جرت الأمثال فقيل: سبق السيف العذل، وشبه المتنبي المنون بعدو لا تجدي المشرفية والعوالي في قتاله، ولا تجني السوابق المقربات من خببه، وقرن التمدح بالبلاء في الحرب بالتشبيب، كما يفعل عنترة، وكما قال أبو عطاء السندي وهو البيت الذي تمثل به صلاح الدين الأيوبي في بعض رسائله:

ذكرتك والخطى يخطر بيننا

وقد نهلت منا المثقفة السمر

وفي الأدب الإنجليزي أوصاف رائعة للحروب، وتمجيد شائق لأبطالها، وتفاخر

ص: 25

بانتصاراتها وما كسبته الأمة من اعتزاز وهيبة، ولملتون ومارفيل وكامبيل وتينيسون وكبلنج في ذلك أشعار مأثورة. وقد كان مجال القول أمام أمثال أولئك الشعراء ذا سعة: فتاريخ الإمبراطورية حافل بعظائم جنودها. نعم كانت سياسة بناتها دائماً سلمية لا تلجأ إلى الحرب إلا في الحالة القصوى. ولا تندفع إلى ميدان القتال لمجرد الرغبة في الظفر والافتخار. ولكن الدولة دائماً عزيزة في وطنية أبناءها. وقوة اسطولها، وقد كسب لها جيشها وأسطولها انتصارات باهرة خالدة، ودوخ أبطالها أمثال كرومويل وملبرا ونلسن وولنجتون الأمم، واعلوا كلمتها فوق كل كلمة.

ولا يستأثر الشعر دون النبر بحديث الحرب ووقائعها وأبطالها بل هناك كتاب سوذي عن نلسن ومقالات ماكولي عن كليف وهستنجر وفردريك الأكبر، وتاريخه وتاريخ جيبون، كل هاتيك حافلة بالوصف الدقيق البليغ لشتى المواقع والحروب، هذا إلى ما في مختلف القصص من ذلك، ولا يكاد يكون في العربية من مثل ذلك سوى بعض خطب الإمام علي بن أبي طالب، ورسائل في بعض الخلفاء إلى ولاتهم ينهوهم أن يؤذوا المسالمين أو يعيثوا في الحرث والنسل وخطب بعض القواد كتلك المنسوبة إلى طارق بن زياد والتي تفيض بلاغة وشجاعة. ولا غرو فقد كان للشعر دائماً التقديم على النثر، وقد ظل طويلا يستأثر دونه بالحفاوة

ولم يقتصر شعراء الإنجليزية على نظم القصيد في تمجيد انتصارات وطنهم وعظائم أبناءه، بل التفوا - كدأبهم في كل فنون القول - إلى الماضي وإلى الخارج، ونظموا في المواقع التاريخية والخرافية، إرضاء للفن وتسريحاً للخيال وتنشيطا للفكر، فوصف تينيسون آخر معارك الملك آرثر وصفا اصبح من ذخائر الأدب المعدودة وآثاره السائرة، أودعه كل مقدرته على تجسيم الوصف وخلق المنظر الكامل بدقائقه وألوانه وأصواته، ونظم هاردي قصائد شتى في حروب نابليون والثورة الفرنسية، وكان له بحروب نابليون غرام كبير لقرب عهدها منه واشتراك بعض أقربائه فيها، وفي تلك الحروب نظم ملحمته الكبيرة التي تعد اكبر آثار الشعر الإنجليزي الحديث، وفيها ينتقل بين شتى المناظر والأوصاف والنظرات والتأملات

ولم يخل الأدب العربي من ذم للحرب ودعوة إلى الإخاء، ومن آثار ذلك أبيات زهير بن

ص: 26

أبي سلمى المعروفة، ومن معلقته حيث يمدح السيدين اللذين اصلحا بين عبس وذبيان بعد ما تفانوا، ويستطرد إلى قوله:(وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم)، غير أن ذلك قليل نادر. وقد كان الجهاد دائماً شعار الدولة الإسلامية، وكان النزاع والغلاب دأب أمرائها، وبذلك تفاخر فرسانها وبه امتدحهم مادحوهم من الشعراء، وظل السيف والرمح والبنود والخيول في شعر الشعراء العربية مرادفات للعز والمجد والغلب والسيادة، ولم يخل الأدب الإنجليزي من محبذين للحرب متغاضين عن مغاباتها كتنيسون الذي كان يرى الحرب وسيلة لا غنى عنها من وسائل العمران وتطهير النفوس من شوائب المادية والترف والأنانية، غير أن الأدب الإنجليزي أغنى بآثار النظرة الإنسانية، التي تغض الحرب وتصور بشاعتها وبلاياها.

ففي قصيدته (البطولة) يقول كوبر معرضاً بملوك فرنسا: (أيها الملوك الذين يستهويكم المجد وتؤيدون بالدم دعواكم، وتهوون بالضربة ثم تبررونها بالدفاع عن النفس، المجد بغيتكم والحق ذريعتكم، تسكن عبر النهر الذي يحد ملككم الحق، ويريكم مدى ما يجوز لكم أن تنشروا عليه حكمكم، أمة لا مطمع لها في تاجكم، حريصة على السلام، سلام جيرانها وسلامها، ولكن يا لشؤم طالع تلك الأمة! ويا شد ما تتقاضاها جريرتها الوحيدة، جريرة مجاورتها إياكم، أما هي إلا أن تنطلق الأبواق حتى تزحف كتائبكم إلى الخارج شاقة طريقها وسط المحصول الناضج، يطئون في كل خطوة حياة جماهير وخبز أمة، فالأرض أمامهم جنة يانعة، وهي خلفهم يباب بلقع)

وفي قصيدته عن موقعة بلنهايم التي كسبها القائد النابغة ملبرا يصف سوذي شيخاً المانيا جالسا ذات مساء أمام كوخه في أرباض البلدة التي دارت حولها رحى المعركة، بعد جيل من حدوثها وحفيداه يلعبان حوله، فإذا الطفلة ترى أخاها يدحرج شيئا مستديرا قد عثر به بجانب الجدول، فتناول الشيخ ذلك الشيء والطفلان مشرئبان إليه يريدان أن يعلما ما هو، حتى هز الجد رأسه قائلا هذه جمجمة مسكين سقط يوم النصر العظيم، وكثيرا ما أعثر بهذه الجماجم في الحديقة) وحين أحرث الحقل كثيرا ما يثيرها المحراث من التربة، ولا غرو فقد سقط آلاف مؤلفة في ذلك النصر العظيم، فيتساءل الطفلان بفارغ الصبر عن تلك الحرب وسبب تناحر الفريقين، فيقول جدهما: شتت الإنجليز صفوف الفرنسيين، أما سبب

ص: 27

ذلك فلا أعلمه، بيد أن الجميع يقولون أنه كان نصراً عظيما، ويمضي واصفا كيف أحرقت مزرعة أبيه وألجئ إلى الفرار وكيف هلكت الحبالى والرضع، ثم يردف قائلا: ولكن مثل هذه الأشياء يا ابني تحدث في كل نصر عظيم، فالمجد لدوق ملبرا ولأميرنا الطيب بوجين، فتصيح الطفلة: كيف؟ لقد كان ذلك أمراً إداً! فيراجعها الشيخ. كلا يا بنيتي بل كان نصرا عظيما. وكل إنسان أطرى الدوق الذي كسب تلك الموقعة، فيصيح الطفل: وماذا كانت فائدة كل ذلك؟ فيسلم الشيخ تسليم العاجز قائلا: أما ذاك فلا علم لي به، بيد أنه كان نصراً عظيما.

فآثار الحرب وأحاديثها على مختلف ضروبها ظاهرة محسوسة في جوانب الأدبين، ولا ندحة من أن تكون ظاهرة محسوسة فالحرب ناحية من نواحي حياة المجتمع الإنساني جليلة الخطر حاضرة الأهمية دائما، تتصل برفاهية الأفراد ومستقبل الجماعات ومصائر الدول والمدنيات، وبالحرب تتعلق كل معاني القوة والحرية والذود عن الحقيقة، وقد كانت الحرب أحيانا ممهدة لانتشار الحضارة وازدهار الثقافة، كما كانت إذا استفحلت وبالا على العمران وبلاء على الإنسان بيد أنها قد تركت في الآداب تلك الأوصاف الممتعة لملابسات الحروب ومشاهدها وأعقابها، وقد خلدت هذه الآثار الأدبية الرائقة عبرة ومتاعا للألباب، بعد أن غبرت تلك الحروب وهدأت تلك المطامع والثارات، وذهب مسعروها ومن اصطلوا بها واستوى في الترب القاهر منهم والمقهور.

فخري أبو السعود

ص: 28

‌إسكندر بوشكين

أمير الشعراء الروس

ترجمة الأستاذ عبد الكريم الناصري

في يوم 10 فبراير احتفل الروس في بلادهم وفي خارجها بمرور مائة عام على وفاة شاعرهم الأكبر إسكندر بوشكين

وقبل خاتمته الفاجعة ببضعة شهور كتب يقول: (لقد أقيم لذكرايَ نُصبٌ لم تصنعِهُ يد. . . ولسوف يذاع اسمي في كلِّ أرجاء روسيا، ولسوف يجري ذكري على كلِّ لسان، ولسوف يتغنَّى بشهرتي كلُّ روسيّ. . .)

وقد أدهشت هذه النبوءة مريديه والمعجبين به، فما عرفوهُ قطُّ من قبل يتحدث عن نفسه على هذا النحو، وإنما عرفوه حيياً متواضعاً على ما أصاب من شهرةٍ ومجد. بَيدْ أنه كان مصيباً في قوله، فإن شعره الآن جزء لا يتجزأ من العقلية الروسية، وشهرته قد تجاوزت حدود بلاده، حتى أن بعض البلدان، ٍكصربيا، وتشيكوسلفاكيا، وفارس، احتفلت رسميا بذكراه المئوية، هذا فضلا عن الاحتفالات التي أقامتها شتى أقطار الأرض. ومع ذلك لم يصب بوشكين في خارج روسيا ما هو حقيق به من الشهرة والتقدير، ولم ينل منهما في إنجلترا ما ناله في فرنسا وألمانيا، بالرغم من أن المجلات الأدبية الإنجليزية ذكرته سنة 1822، ووصلته بقرائها، وبالرغم من أن جماعةً من الشعراء والأدباء، ومنهم جورج بورو، تصدوا لترجمة قصائده

وقد كتب الشاعر الإنجليزي المعاصر (موريس بيرنج) فصولا في تقويم أدبه، وتقدير شعره، تعد من أحسن ما كتب عنه في أية لغة من اللغات بما فيها الروسية، كما أنه ترجم بعض قصائده الوجدانية ترجمة تدعو إلى الإعجاب على الرغم من قوله:(إن التصدٍّي لترجمة أشعار بوشكين محاولة فاشلة، وعمل يائس، يشبه تصديك لتمثيل ألحان موزار بالرسوم والتماثيل، وتحويلها إلى الألوان والأحجار.)

ولد (الكساندر بوشكين) في موسكو، في الثامن من يونيو سنة 1799، وتوفي في

ص: 29

بطرسبورج، في العاشر من فبراير سنة 1837، وهو سليل أسرة من الأشراف، كان من شأنها الإعجاب بكل ما يتصل بفرنسا والفرنسيين ولا سيما آدابهم.

وكان الفتى إسكندر يحفظ عن ظهر قلب كثيراً من بدائع موليير وفولتير، ولم يكن الحفظ عسيراً عليه، لما أوتيه من ذاكرة قوية ممتازة، وقد ظل طوال حياته قارئاً نهماً، حتى روي أنه لما حضره الموت شخص ببصره إلى الكتب المرصوفة على الرفوف وقال:(وداعا يا رفاقي الأعزاء).

وأجداد بوشكين من جهة أمه أفريقيون، ويحتمل أنهم أحباش، وقد جُلب جده (أبرام هانيبال) إلى بطرسبورج - من القسطنطينية - هدية إلى البطرس الكبير، ثم صار سكرتيره الخاص، وكان بوشكين يفتخر بجده الأسود، وكان متأثراً بدمه الافريقي، ولعل في هذا الدم يداً في نُضجه المبكر، وفي هذه الحرارة التي تفيض بها أغانيه، على أن هذا التأثير لم يبلغ من الشدة بحيث يظن كثيرا من الناس

وفي سنة 1811 دخل الليسيه في تسارسكوي سيلو، وهي مدرسة داخلية أسسها القيصر المتحرر الفكر إسكندر الأول، وشيد بنايتها في جانب من بلاطه؛ وهناك أنفق بوشكين ست سنوات سعيدات، طبعت أثناءها أولى قصائده، وكان عمره عندئذ أربعة عشر عاماً

ولما ترك المدرسة التحق بوزارة الخارجية، ولكنه لم يحبر قط بلاغا رسميا، وما كان ينتظر منه لك، وما بلغ الثامنة عشرة حتى كان باعتراف شيوخ الأدب، من أمثال كارامازين وجوكوفسكي، زعيما لشعراء عصره، وحتى كان شعره بغية الشبان يدرسونه ويحفظونه

وقد لعبت السياسة دوراً مهما في حياته، فمع أنه لم يكن عضواً في الجمعية السرية التي تشكلت سنة 1818، ثم سحقها الجيش في فتنته التي شبَّ أوارها سنة 1825، فانه عبر في قصائده عن أغراضها - وخلاصتها تأليف حكومة دستورية وتحرير الفلاحين - تعبيراً أقوى وأشد إقناعا من برامجها الطويلة ولكن ما لبث الرأي العام أن اشتد في مطالبته بالإصلاح والتحرير فقلَّ تسامح القيصر وفترت همته الإصلاحية، وكان بوشكين أول من نزلت به عاقبة هذا الخلاف بين الإمبراطور ورعيته وذلك أنه نشر في ذلك الوقت قصيدته الموسومة (بالحرية)، وقصيدتين أخريين في هجو أرا كتشيف فنفي على أثرها إلى جنوب

ص: 30

روسيا

وقد هيأ له منفاهُ - الذي لم يك قاسياً جداً - فرصة لمشاهدة بلاد القوقاس والقرم وبراري صربيا، حيث عاش تلك العيشة التي التمستها بيرون ثم ظفر بها في ألبانيا، وكان بوشكين مسحورا ببيرون، وما سحره منه أسلوبه الشعري، بل بساطته وإخلاصه وعنف عواطفه. وفي سنة 1819، دخلت الترجمة الفرنسية لكتاب بيرون روسيا، فرحب بها هو وطائفة من أصدقائه الأدباء ترحيبا حماسيا، بالرغم من سقمها وركاكتها، وبلغ من إعجاب الشاعر الروسي العظيم بالشاعر الإنجليزي أنه أخذ نفسه بتعليم الإنجليزية ليقرأه بلغته الأصلية، ولكن أسرار النطق الإنجليزي كانت تحيره وتربكه، حتى أن أصدقاءه الذين تعلموا الإنجليزية منذ طفولتهم كانوا إذا سمعوه يقرأ عليهم شكسبير لا يملكون أنفسهم من الإغراق في الضحك لأنه ينطق بالألفاظ الإنجليزية كأنها لاتينية!

تأثر بوشكين ببيرون ولم يقلده - فما كان مقلداً وإنما كان مستعدا على الدوام لأن يتعلم ليس غير - وظهر هذا التأثير في قصيدتيه (سجين القوقاس) و (نافورة باختشيساراي). على أن التشابه قليل والفرق واضح بين الشاعرين: فبوشكين أرق وأودع، وفكاهته النادرة أعمق، في غير إيلام، وفهمه لطبائع الشعوب وخصائص البلدان أوسع وأبعد مدى.

بيد أن تأثير بيرون زايل شاعرنا بالتدرج حتى إذا بدأ بتأليف قصته الشعرية (إفجيني أونيجن) لم يكن بقي منه شئ. وتعد هذه القصيدة أول ما ألف من القصص الروسي الجيد، وكان ترجنيفا يقول إن أربعة أبيات من مقدمتها تفضل آثاره جميعاً، وكان يجد لينين في صفحاتها مريحاً من عناء العمل، وقد سمى القيصر نقولا الثاني ابنتيه الكبريين - تاتيانا وأولغا باسمي الأختين في الرواية

ومع ذلك كان بوشكين يفضل عليها قصيدته (بوريس جودونوف)(1825). و (بولتافا)(1828)، والأخيرة قصيدة تاريخية تصور النزاع بين بطرس الكبير وتشارلس الثاني عشر ملك السويد

أما الأولى فقد نظمها في (ميخيلو فسكوى) وهي بيعة لأبيه، كان الشاعر نفي إليها بعد عودته من منفاه الأول لوقوع السلطات على رسالة له فيها ما يكرهون. وفي هذه الأعوام اشتد تركيز ذهنه وتمت له السيطرة على صناعته، وقوى فيه الشعور بقيمة اللفظ في

ص: 31

الشعر، حتى كان لا ينشر القصيدة إلا بعد أن ينحى عليها بالتصحيح والتنقيح أعواما

كان بوشكين حين نظم (جودونوف) تحت تأثير شكسبير. وهو من أوائل الروس الذين عرفوا شكسبير وقدروه حق قدره. قال في رسالة إلى بعض أصدقائه: (أي رجل شكسبير هذا!! وما أصغر بيرون، كتراجيدي، بالقياس إليه. . إن بيرون لا يقدر أن يصف إلا شخصية واحدة، هي شخصيته. فهو يعطي لهذه كبرياءهُ، ولتلك بغضه، ولأخرى مزاجه السوداوي؛ وهكذا ينتزع من شخصيته القوية النشيطة شخصيات كثيرة لا قيمة لها، وليس هذا من الفن التراجيدي في شئ)

وقد خلصه النفي من الاشتراك في الثورة التي قام بها أصحابه المعروفون بال ولما أذن له القيصر نقولا الأول في العودة من المنفى سنة 1826، واستدعاه إلى موسكو، سأله (ماذا يكون موقفك في يوم 14 ديسمبر في موسكو.) فأجابه بوشكين:(كنت أشترك مع إخواني العصاة)

وكان اجتماع القيصر بالشاعر خطة مدبرة أريد بها التأثير فيه وفي جمعيته التي استثار غضبها إعدام خمسة من الثوار. ولم يكن بوشكين - على قوته العقلية العظيمة - ليختلف عن الطفل في سذاجته وسرعة تصديقه وانقياده، ولذلك لم يجد القيصر صعوبة في اختلابه واجتذابه وإقناعه بأن الهدنة قد عقدت أخيراً بينه وبين الحكومة. ولم يكتشف كيف عبث به القيصر بمساعدة رئيس البوليس - كونت بنكيندورف - إلا بعد سنين

لم يكن بوشكين يتصور وهو في منفاه مدى الشهرة التي نالها بين قومه. فلما عاد إلى الاشتراك في الحياة الاجتماعية أذهلته مقابلتهم له. فقد كتب بعض الكتاب يقول: (موسكو السعيدة تحتفل اليوم بتتويجين: تتويج القيصر وتتويج الشاعر)

وفي الثلاثين من عمره تزوج من فتاة جميلة في الثامنة عشرة تدعى (نتالي جونخاروفا) ولم يجلب عليه هذا الزواج سعادة بل ولا هدوءاً، وما كان بيت الزوجية أكثر من خان باهظ النفقات. كان الشعر آخر شئ تحفل له الزوجة الشابة، على أنها نجحت في المجتمع نجاحاً كبيراً. وفي هذه الفترة من حياة بوشكين ساءت أحواله. فقد تراكمت عليه الديون، وتغير ذوق الجمهور فلم يعد يتحمس ذلك الحماس لروائع آثاره، وتزايد حقد بعض فرق الأرستقراطية عليه، فعزم على الخروج بزوجه وأطفاله الأربعة إلى إحدى ممتلكات والده،

ص: 32

حتى يتفرغ لمشاريعه الأدبية الكثيرة، ولكن القيصر عارض الفكرة. فاضطر إلى البقاء، واستمر في الكتابة فاتر الهمة مكتئب النفس: وحدث أن شاباً فرنسياً جميلا يقال له البارون دانت ' تعرف بزوجته وأخذ يتودد إليها في إلحاح شديد، فدعاه بوشكين إلى المبارزة، فبارزه وجرحه جرحاً بليغاً، أودي بحياته بعد يومين. وبموته تمت نبوءة عراف قال له سنة 1819. إنه سيصير معبود قومه، وينفى مرتين، وبأن عليه أن يحذر رجلا جميلا قد يقتله حين يبلغ السابعة والثلاثين

اعتبر الشعب موت بوشكين رزية وطنية، واشتد حزنه عليه حتى خشيت الحكومة أن يؤدى إلى قيام مظاهرات عدائية فأمرت بنقل الجثمان سرا إلى مقبرة (سفياتيجيورسكي) - القريبة من ميخيلوفسكوي - وهناك دفن

في أول ترجمة ظهرت بالإنجليزية لحياة بوشكين - وهي ترجمة رائعة نشرتها مجلة (بلاكوود مجازين) سنة 1845 - كتب صاحبها توماس أستاذ الإنجليزية في كلية (ليسيه) تسارسكوى سيلو، يقول:(يمكن أن يقال أن قصيدة (إفجيني أونجين) أصبحت جزءاً من لغة الشعب الروسي) ولا يزال هذا القول - وقد تقضت مائة عام - صحيحاً ملموساً

إن أسم (بوشكين) يرن في أسماع الروس رنين الأغاني والأغاريد. وقد تأصلت شخصيته في أعماق العقلية الروسية؛ وإن الروسي ليعجز، إن سألته، عن تفسير حبه لبوشكين، عجزه هن تفسير حبه للبحر أو لنور الشمس وقد يكون جوابه ابتسامة سعيدة يشرق بها وجهه

(بغداد)

عبد الكريم الناصري

ص: 33

‌جولات في الأدب الفرنسي الحديث

تطور الحركة الأدبية

في فرنسا الحديثة

العلم في القصة - القصة التحليلية العلمية

بول بورجيه 1852 - 1935

التحليل العلمي عند بورجيه، التحليل الحي، المثالية الرواية

التقليدية أو آثار بورجيه الأخيرة

تختلف بيئات الأشخاص - عند بول بورجيه - عن بيئات المدرسة الواقعية، فأرواح أشخاص تكاد تحيا منعزلة عن أجسادها، وهي ليست مختارة من الأشخاص المرضى أو المنحطين. وبالإجمال لا يحيا أشخاصه في بيئة تلك المدرسة. وليس أشخاصه من سواد الناس ولا بموسرين سئموا الحياة، وان منهم النساء الكبيرات والعاطلين، مفكرين أو فنانين. وقد عد أرباب المدرسة الواقعية رواياته من نوع (السنوبينم) لأنها في أجزائها الأولى قد تجسدت من ذلك الأيمان بالعلم الذي كان مذهب زولا

وقد علم بورجيه أن أبرز صفة للشباب الحديث هي صفة (القلق العلمي). وهذا القلق هو الذي كان يهيمن عليه يوم كتب رواياته، وكان معلموه منهم (ستندال) الذي قرن فعل الخيال إلى الدراسة النفسية، و (تين) الذي ابتكر علم النفس، والذي بين أن في النفوس بعض أسباب وعلل تجر بالضرورة إلى بعض أفعال، وهذا علم النفس هو الذي وضع لرجال التشريح النفسي مبادئ وقوانين خارقة، وهكذا لم تعد القصة وضعاً ولا تحليلا وإنما أصبحت إيضاحاً

إن الدرس العلمي في إمكانه أن يولد تحليلا جذابا وجدلا عميقا يجعل من صاحبنا مؤلف (تجاريب نفسية حديثة) نقاداً واجتماعيا أكثر مما يجعل منه قصصيا، لان القصة ما هي إلا التعبير عن الحياة، والحياة لا تكون حياة إلا إذا ظلت محافظة على ظواهرها في حريتها واختيارها، أما التحليل العلمي فقد لا يكون إلا ضربا من التشريح، وكما يعلم بورجيه (أن

ص: 34

كل ما يشرح هالك) على أن من حسنات عبقريته أنه وجد في (ستندال) وفي (تين) وفي عبقريته الشخصية شيئا لم يقف عند التنقيب عن الأسباب والأعمال فانه تعلم - من وراء ذلك - حال تركيب العلل والاسباب، وهو القائل (إن العقل المدرسي الذي يجدي في المخاصمة الخطابية يجدب حين يريد أن يخضع لقوانين قوة النمو - المخنوقة والمتبدلة - في الحياة، والدرس العلمي ينبغي له ألا يقنع بتوضيح هذه القوات المشوشة، وإنما ينبغي له أن يعمل على إظهار التبدل فيها، والدوافع والحياة، ومن هذه الناحية وحدها تصبح آثار بورجيه روايات - لا مناقشات - كل شخص فيها عالم مستقل بذاته - عالم لا قانون - هذه خلاصة قصته (قلب امرأة) - وهي خير ما سطره يراعه، لا تقف رواياته على التحليل المنطقي فحسب، وإنما هي توليد وإحضار وبعث للنفوس.

أما المثالية العلمية عند بورجيه فقد اختلفت جد اختلاف عن مثالية (تين) فهو لا يجحد المذاهب العلمية، حتى إذا حاول أن يذود مثلا عن مذاهب سياسية تراه يجرب أن يجعلها قواعد تجريبية ترتكز على أعمال في المجتمع وأعمال في التاريخ ولكنه - في عالم الإيمان - نراه اخذ يتحرى عن شجرة غير شجرة العلم، وعنه يقول النقادة (جول ليمتر): إن رجل اليوم هو عقلية مزيجة من العقل العلمي، والشعور الرقيق الكئيب، والقلق الخلقي، والرقة العطف، والتصوف. الروح العلمية - عنده - لم تنجح إلى عمارة الدين والأخلاق ولكنها تركتهما قليلا قليلا يعملان على فرض قواعد الحياة، وقبل أن يغدوا بورجيه رسول دين وسياسة تحول عن حلقة العلم الضيقة.

وهو القائل: إن إنسان الرغبة والأنانية، الذي لا يحيا إلا ليحلل نفسه، ولو كان من جزاء ذلك تعاسة الآخرين، هذا الإنسان قد مات بنفسه) وهو القائل: (بألا حياة حقيقية إلا في مثل أعلى للإخلاص والتزهد، مثل أعلى في الدين، إذ لا تمكن الحياة مطلقة تحت رحمة الأهواء وتقلباتها المستمرة.

هنالك فئة من الأدباء حاربت أدب الديمقراطية والاشتراكية حربا عنيفة. ولقد عالج بورجيه في روايته (التلميذ) المذهب المادي، وتطرق إلى قواعد تين وبرتلووريبو. والقصة ترى أن المذهب المادي خطأ، ولا يمكن في كل الأطوار البرهنة على أنه مذهب حق. على أنه إذا كان حقا فلا يمكن نشر ذلك والجهر به، إذ أن هذا التعليم يمكن أن يخلق تلاميذ كهذا

ص: 35

(التلميذ) يرتكب جرائم خلقية ثابتة، يكون المعلم فيها هو الضامن الكفيل. فرجل الآداب والمفكر لا يحق لهما أن يكتبا كل شيء، ولكن واجبهما أن يكونا نافعين. وهكذا تعلم قصص بورجيه أن الفرد ورضا الفرد وإرجاع العدل إلى الفرد كلمات فارغة. إذ يرى أن المجتمعات هي أعضاء منظمة مرتبة، ملاجئها الحية هي الأسرة، فكل ما يضر ببقاء الأسرة وخصبها وتنظيمها يفنيها كما هو الحال في الجرائم التي تودي بالكائن الحي. ومنها الطلاق والانهماك في الفسق والزنى، وهجر الأولاد قبل البلوغ. والمجتمعات حالها كحال الأعضاء في استطاعتها أن تتحرك ولكنها لا تستطيع ذلك إلا ببطء. وكل تبديل فجائي يجر معه المرض والموت. وهذه الأخيلة الباطلة التي تبشر بها المساواة والديمقراطية تؤول إلى هذه التغيرات والفساد، فان الطبقات الاجتماعية لا تجوز (مرحلتها) إلا على مهل، خارجة من الحياة العالمة إلى اكتساب الثقافة العقلية وحسن استعمال الثروة ومعنى السلطة. ومن اجل هذا ينبغي إجلال (سياسة محافظة أرستقراطية) وديانة توحي إلى الإنسان احترام الأسرة واحترام نظامها. وهكذا تبدل بورجيه في نهاية ايامه، واصبح رجل وغظ في السياسة والدين.

فشل العلم

نقد الفلاسفة

كان لبورجيه كما كان لبرتلوتين وغيرهما، إيمان لا يتزعزع بالعلم. . . والعلم وحدة لا يكذب أصحابه، وهو ينطوي على اسمي الآمال، ولكن بورجيه لم يكن وحده حين هجر نبوءته، وهجر الآمال الخادعة التي يذيعها فإن الفلاسفة قبله قالوا: ليس للعلم مستقبل فيما وراء الطبيعة، إذ انه لا يقدر أن يعطي إلا يقيناً علمياً عملياً اصطلاحياً، ولا يقدر أن يعطي اليقين ذاته. وقد قال:(اميل بوتروس) في إحدى مقالاته المنطقية: (إن المذاهب العلمية لا تأتينا واضحة إلا لأن مقاييسنا غير واضحة. ولا توضح الحوادث إلا بحوادث اصطلاحية قد لا تكون صميم الأشياء ولكنها - صك تحكيم - بين العقل والأشياء) على أن هنالك عدداً من الفلاسفة الذين درسوا العلم وقالوا بأنه لا يعطي الحقيقة المطلقة. وهذا (هاملان) دون أن يجحد تأثير العقل قال: بأنه لا يستطيع أن يفهم الحقيقة العميقة إلا إذا أولها وفسرها،

ص: 36

وأخيرا جاءت فلسفة هنري برجسون جاحدة بالفلاسفة والعلم الذي آمن به (تين وبرتلو) من قبل

هنري برجسون

نقد العقل

ولد سنة 1859 واشهر تصانيفه (معلومات الشعور المباشرة، مادة وذاكرة، والقوة المبدعة) ويذهب برجسون في (كتابه الأول إلى القول بأن الشعور المنطلق عن العقل، الشعور الفطري فيه لا يتلاءم أبداً مع ما استخرجه العلماء من العقل المتحول المتبدل - كما أراده وسهلوه -. فالعلماء هم في حاجة إلى قياس الفضاء وهو سهل عندهم، وإلى قياس الزمان وهذا أقل سهولة. لأن قياس الزمان معناه الافتراض بأن الزمان تتألف أجزائه من طبيعة واحدة وأن اللحظات المتتالية على حادث قد تكون من بعض وجوه متشابهة متطابقة، تطابق طول متر مع طول متر آخر. ولكن هذا ما هو إلا افتراض، إذ حين نتأمل نرى أن زمان هؤلاء العلماء هو زمان مجرد أو هو التجريد. أما الذي يوجد فهو الدوام، والشيء الذي يدوم يختلف - في لحظة ملحوظة - عما كان عليه قبل اللحظة السابقة، ولهذا ينطوي هذا الشيء على شئ هو (دوامه). فالدوام هو متألف من أجزاء مختلفة طبيعتها. تختلف عن ذاتها بدون نهاية ولكي ننكر صفة (الدوام) التي قال بها زينون ولم ينكرها عليه أحد، نرى أن الشيء يمكن أن يكون ساكناً ومتحركا في وقت واحد، وأن (أشيل) العادي وراء سلحفاة لا يستطيع - عقلياً - إدراكها. وهكذا نرى العلم المبني على الاصطلاح لا يمكن أن يكون إلا اصطلاحياً

وقد أتم برجسون في كتابه (مادة وذاكرة) برهانه هذا، فالإنسان - بوهم عميق الجذور فيه - آمن بأن عقله يبسط له الحقيقة، إن عين الحيوانات ليست موضوعة لتعرف أصحابها بحقائق الأشياء، وإنما وظيفتها وظيفة عملية تهدي أصحابها إلى الانتظام بين الأشياء. فلو عاشت هذه الحيوانات على غير الأرض لاختفت لأنها تصبح عديمة النفع. وكذلك لكي نستطيع أن نحيا بين الحوادث، قادرين على استخدامها على وجهها الأحسن المستطاع، نجد هذا لا يطلب إلينا أن نعرفها بحقيقتها كما هي. وإنما يطلب إلينا أن نختار - بصورة عملية

ص: 37

- الوجه الأحسن استعمالا وفائدة لنا، لأن عقلنا لا يلمح إلا هذه الناحية العملية. إذ ليس هنالك عقل أو عقل شاعر إلا حيث يمكننا أن نمسك جزءاً من الشيء الذي نفكر فيه. والعقل والفكر الشاعر ليسا بوسيلتين للمعرفة وإنما هما وسيلتنا للعمل. والعلم الذي أوجداه وشيدا أركانه ما هو إلا نظام جديد لوسائل العمل. وفن مستقيم لاستخدام الحقيقة في سبيل حاجاتنا. فهو لا يعلمنا الحقيقة ولا يكشف لنا أسرار الوجود كما هو الحال في أن الأرنب لا يكشف لنا طبيعة السرعة والخفة.

نقد العلماء

وأما العلماء أنفسهم فقد قلبوا وجوه العلم ودققوا مسائله. فانتهوا إلى القول بان العلم إنما هو مذهب ووسيلة إلى استخدام الاشياء، والعلم لن يصل أبداً إلى (المطلق) وقد عملت بعض مدارس الطبيعيين على رد علوم الطبيعة إلى مذهب رياضي صرف غايته الأرقام التي تأتي نتائجها صحيحة. وخلاصة هذا النقد توجز في أبحاث الرياضي الكبير (هنري بوانكاريه) فهو في كل ما كتبه أعطى الأدلة القاطعة على بيان فضل العلم. ودافع عن نفسه بأنه رجل شاك. وهو يرى أن التمحيص العلمي ليس عملا عبثاً. بل إنه عمل اقل عبثاً من غيره من أعمال الإنسان. وهو في الغالب يكون مذهباً مطلقاً. وكل العلوم - مثلا - هي علوم الحركة، على أن من المحال أن نثبت حركة مطلقة، وأن نبرهن - بقياس منطقي - على حركة الأرض

وهكذا نجد الفلاسفة والعلماء ينضم بعضهم إلى بعض للاتفاق على هذه الخلاصة، وهي أن هنالك حقيقة مركبة متحركة بدون انتهاء، وعقلا وعملا - من اجل إدراكها واستخدامها - على فرض بساطتها واتحاد فكرتها وقوانينها ولكنه بعمله هذا غير الثوب وأفسد الحقيقة.

الفلسفة الشاكة والنقد الشاك!

رينان في عهده الأخير

جمع رينان عام 1890 كتابه (مستقبل العلم) وأنجز تاريخه في أصل المسيحية. وقد كان ذلك المعلم الذي يعلم (بألا تقبل الحقيقة في التاريخ الإنساني والعلوم أيضا إلا ما شهد العقل عليه مرفوقا بالأعمال على انه حقيقة) أما آثاره الأخيرة فقد جاءت تعلمه بان ليس في

ص: 38

القدرة التثبت من أية حقيقة. وان هذا العجز قد يكون ضروريا في بعض الأحيان. إن محاوراته الفلسفية تعلمنا أن الحقائق المطلقة، الحقائق الفلسفية، لا يمكنها أن تكون هدف البراهين! وقد يكون هذا خيراً. إذ من يعلم أن الحقيقة ليست بدافعة إلى الحزن؟ من يعلم أن الأخطاء والأوهام ليست بنافعة أو ضرورية؟ لقد كان الشعب حيوانا ضارياً مولعا بالاعتقادات الباطلة. فذللت صرامته ومشادته باعتقادات باطلة مثلها. ما عسى يغدو الإنسان إذا أصبح واقعيا؟ إنه يصبح سيداً صارما أحمق! من يعلم بأن حكمة سليمان لم تكن على حق، تلك الحكمة القائلة:(كل شئ باطل، باطل الأباطيل، وكل شئ باطل تحت الشمس) وإذا لم يكن كل شئ باطلا فان الفلسفة الحقيقية قد تكون فلسفة الصراصير والقبرات التي لم تشك أبدأ في أن نور الشمس ليس جميلا، وأن الحياة ليست هبة سنية، والأرض ليست معقلا حسناً للأحياء. إن خير ما نصنعه على هذه الأرض هو إلا نستغرق في تعليل الأشياء والتحقيق فيها. وإنما نعمل على محبتها. فان سر الحياة لا يقف على العلم ولكن على الحب، وبهذا عمل رينان على تهذيب شكه وتشذيبه، وشهد على أن اكثر الأشياء ضمانا وجداً، مهما ذهب الظن، هو العلم، وهنالك فئة كبيرة ذهلت من شك رينان الذي غمرها، وكان ذلك لعمر قصير، ولكن عادت هذه الفئة إلى التأثر بمؤثرات جديدة أخرى

النقد المنفعل

(جول ليمتر) 1853 - 1914

إن رينان قد أكمل دورة العلم قبل أن يناقشه ويحاكمه. وجول ليمتر لم يذهب إلى أبعد من ذلك. إنه أكمل دورة النقد وحده. وقد لقي في المنابر والنوادي والصحف الكبيرة نقداً له فذهب من مزاعمه انه يهذب الرأي باسم الذوق السليم والعقل. فسانت بوف - برغم عبقريته - لم يترك في النقد مدرسته، وتين لم يأخذ عنه النقد إلا دساتيره، وقد ألفى جول ليمتر أن هذا النقد عمله أن يحكم على بولدير وفلوبير وفرلين وهنري بيك وسواهم. ووجد فيه ما يبعث على السأم فشهد على أنه نقد فيه غش ومداهنة لأنه مبني على أصول ومذاهب، ولكي يتم اليقين بهذه المذاهب ينبغي أن تبدل بمذاهب غيرها. وغيرها أيضا إلى ما لا انتهاء. لأن هذه المذاهب ما بين جيل وجيل إما أن ينقض بعضها بعضا، وإما أن

ص: 39

تتلاشى، إذ ليس هنالك في الحقيقة إلا ارتياح أو ضجر، إلا انفعالات وتأثير. وقال أناطول فرانس في كتابه (الحياة الأدبية): الحقيقة هي ما لا تخرج عن نفسها أبدا وفي هذا أكبر بلائنا. فلنتحمل إذن بخلوص نية هذا البلاء، ولا نصدر أحكامنا على الآثار، ولنصدر انفعالاتنا!

لقد كان جول ليمتر صادقا ولكنه كان اقل اهتداء مما راح يزعم، فلقد انتمى في أواخر أيامه إلى مذاهب سياسية، وكان زعيم الحزب الوطني، وهو - في فترات راحته - لا تشعر منه بذلك الرجل الذي يتحدث للتحدث وحده، ولكن تحس ذلك القاضي الذي يحكم ويدين، على انه يبقى رجلا عالمياً ببعض آثاره العالية، ومذهبه الانفعالي قد ترك له مجال الخوض واسعاً. فهو يستطيع أن يخوض حقولا مختلفة في الأدب والفن لا يصرفه عن ذلك شيء، وقد عمل على تجديد الأدب القديم وكانت له فيه محاولات لاستنقاذه من قيود الفصاحة التقليدية المدرسية لكي يندمج مع الحياة الراهنة. وإذا كان النقد الانفعالي لم يجعل همه التحقيق والإقناع فهمه إذن أن يسر، وهكذا أراد جول ليمتر أن يسر! ولقد كان هذا الناقد ممن أوتي روحاً وخفة وفناً ومتزناً مستقيما، فكان تأثيره عظيما وأعظم آثاره (المعاصرون)

ريمي دي كورمون 1858 - 1915

لا يمكن الخوض كثيراً في الحديث عن (ريمي دي كورمون) فلقد كان له قراء أمناء، لكن عددهم قليل. إذ كان يمقت الفوز والجماعات والمجد المدرسي، على أنه كان معلماً، معلم صفوة مختارة من القراء، اتبعت تعاليمه ومذاهبه. وكانت تجد فيها فكرة رائعة متنوعة، لا تقف على الأدب وحده، لقد كان يفتش في الآداب خاصة عن ترجمة صادقة للحياة، وكان يرى أن ليس في الإمكان تفهم الحياة بغير العلماء والفلاسفة، ولذا تناول في بحوثه شخصيات مختلفة، أرباب علم وأدب وطبيعة وطب وأرض واجتماع، وتحدث عنها كما يتحدث عن شعراء وروائيين، ولكنه لم يحمل في كل هذا علم اليقين. إذ لا يقين - عنده - في العقل الذي لم يبلغ إلا ذرة من الحقائق الظاهرة! إلا ذرة واحدة! ولا في القلب الذي لا يمثل لنا إلا فصولا مختلفة، لا هم له منها إلا إلقاء السدول على العقل، ولا في نظريات (ما وراء الطبيعة) ولا في الأديان التي تطفح بعوامل التعصب.! نراه يجنح إلى الشك. لاشك التشاؤم: هنالك فلسفة السعادة. . . ينبغي أن تحيا سعيداً! وأن تكون فوق كل شئ وأن

ص: 40

تحتقر كل شئ وأن تحب كل شئ. وأن تدرك بأنه لا يوجد شئ، وإن هذا اللاشيء في الإمكان أن يكون كل شئ، والحياة بعد هذا كله - مشهد، يكفر ما فيها من اللذة عما فيها من عناء وشقاء، وأن في الجهود المصروفة إلى تعرفها وتفهمها معنى قد يرفع العقل إلى ما فوق حدود الفناء.

وقد وضع في حياته الأدبية سلسلة أفكار قيمة، وقد ظل يؤمن بأن هنالك كتابا صعاليك وهم من يدعون (بالمدرسين)، وكتابا لبقين دأبهم أن يتحروا عن الأساليب الجديدة والتعابير الحية في الفن، وقد حارب بشدة في سبيل المدرسة الرمزية وناوأ خصومها أشد مناوأة.

خليل هنداوي

ص: 41

‌شخصية الزهاوي

بمناسبة مرور عام على وفاته

بقلم السيد أحمد المغربي

بقية ما نشر في العدد الماضي

الزهاوي والمرأة

الحديث عن المرأة، مهما اختلفت نواحيه وتباينت مناحيه حديث لذيذ يسترعي الأسماع، ويستلفت الأنظار، ويستهوي الأفئدة، وهو حديث، لا نكون بعيدين عن الصواب إذا ما قررنا بأنه يلذ للمرأة اكثر مما يلذ للرجل، ولاسيما إذا كان صادراً عن الرجل نفسه، فهي تتلهف شوقاً إلى الاطلاع على ما يضمره فؤاده وما يكنه ضميره، وهي تبذل ما ملكت يمينها وما لا تملكه يمينها لاستماع حديثه عنها، سواء أكان هذا الحديث مدحاً أم قدحاً، ثناء أم ذماً؛ بل ربما كانت إلى استماع حديث الذم والقدح اشد شوقاً وأقوى رغبة منها إلى حديث الثناء والمدح!

ذلك لأن المرأة كانت ولا تزال، وستبقى ما بقيت المرأة، سراً غامضاً كلما خيل للرجل أنه توصل إلى سبر غوره، واجتلاء حقيقته، أسلمه هذا السر إلى سر آخر، وهكذا حتى يقف مكتوف اليدين، مطأطئ الرأس معترفاً بعجزه مقراً بضعفه.

ومن اجل هذا كان التضارب بين آراء الفلاسفة، والأدباء والشعراء، كل يصفها كما عرفها بنفسه؛ ففريق يقول بأنها ملاك تذيع السلام وتنشر الوئام، وفريق آخر يقول بأنها شيطان تسبب الأحزان والأسقام، وتثير الأضغان والخصام، فينهض الفريق الثالث، فيعارض الاثنين بقوله، إنها بين بين!.

ولقد كان فقيدنا الكبير يعتقد بسمو منزلة المرأة ويؤمن بإخلاصها إخلاصا تاماً يحملك على الإيمان بالسعادة الزوجية التي كانت تهيمن في جو بيته، حتى انه ليؤثر أن يبقى بدون ذرية على أن يجرح عاطفة زوجه بالبناء على غيرها.

والمرأة في اعتقاده، لا تقل عن الرجل ذكاء وفهماً وإدراكا، فهي أهل للحفاوة والتكريم، جديرة بالاحترام والتعظيم.

ص: 42

وهي تجلو بابتسامها الحلو وحديثها العذب، الكآبة والملل عن نفس الرجل، وتخفف عنه آلام الحياة ومتاعبها، وتبث فيه روح الجرأة والإقدام، فيقتحم في سبيلها الاهوال، ويستقبل الأرزاء بوجه باسم ونفس مطمئنة.

ويمثل لك الزهاوي مدى وفاء المرأة في فتاة شاهدها بين أهل الجحيم قد اخضلت عيناها من شدة الأسى ولوعة الجفاء ومرارة النوى، بشعر هو السحر الحلال: -

قلت ماذا يبكي الجميلة قالت

أنا لا يبكيني اللظى والسعير

إنما يبكيني فراق حبيبي

وفراق الحبيب خطب كبير

هو عني ناء كما أنا عنه

فكلانا عمن أحبَّ شطير

فرقوا بيننا فما أن أرى اليو

م سميراً ولا يراني سمير

ولو أنا كنا جميعاً لخف الخط

ب في قربه وهان العسير

لا أبالي ناراً وعندي حبيبي

كل خطب دون الفراق يسير

ولقد وقف الزهاوي حياته على الدفاع عن حقوق المرأة المشروعة والذود عن كرامتها الضائعة، وكان يقصد من مناصرته المرأة، المرأة المسلمة، فصور لنا ما تلاقيه من ضروب الذل والهوان، في بيت أهلها الذي وصفه بالسجن والقبر محرومة من رؤية النور، وبين لنا ما للحجاب من مساوئ فادحة وأضرار بالغة حالت دون تقدم الشرق العربي ودعا إلى السفور حتى يتاح للمرأة أن تعاضد الرجل في تحقيق الأماني والآمال التي تختلج في نفسه.

قال هل في السفور نفع يُرَجَّى

قلتُ خير من الحجاب السفورُ

إنما في الحجاب شلُّ لشعب

وخفاء وفي السفور ظهور

كيف يسمو إلى الحضارة شعب

منه نِصفٌ عن نصفهِ مستور

ليس يأتي شعب جلائل ما لم

تتقدم إناثه والذكور

قد عزوْتم إلى السفور غروراً

طائشاً قد يفضي إلى الهفوات

هل يحول الحجاب بين التي لم

تتثقف والطيش في الرغبات

بل أرى في الحجاب تسهيل ما تخ

شونه من نُكْرٍ على الفتيات

وقد تحمل الزهاوي، في سبيل المرأة الأذى والهوان، وعرض حياته لخطر الاغتيال، وذلك

ص: 43

أن قصائده أثارت عاصفة من الاستياء الشديد في العالم الإسلامي، فهاج الناس لها في بغداد واتهموه بتحامله على الشريعة الإسلامية الغراء وطلبوا من وإلى بغداد، ناظم باشا في عام 1326هـ أن يقيله من منصبه، وازدادت نقمة الناس عليه حتى اضطر إلى ملازمة داره. . .

الزهاوي الوطني

لئن عُدَّ احمد شوقي شاعر الإسلام فإن الزهاوي كان، بلا جدال، شاعر العرب. فهو ينزع في شعره نزعة عربية، فيفتخر ببني قومه العرب ويتغنى بذكرهم، ويشيد بمحاسنهم

وهو يدعو إلى نبذ التعصب الديني فهو مدعاة إلى التفرقة، والتفرقة تستتبع الضعف، وهذا العصرُ هو عصرُ القوة، هو عصرُ التنازع على البقاء؛ الضعيفُ فيه مقضيٌّ عليه بالموت

أصلُ العروبةِ قد رسا

كالطودِ في البلد الحرام

والفرعُ منها في العرا

قِ ومصرَ يسمو والشآم

بغدادُ منذ تأسستْ

عُرِفَتْ بعاصمة السلام

عاش النصارى واليهو

دُ ومسلموها في وئام

في وَحْدَةٍ عربيةٍ

ليست تُهَدّدُ بانفصام

تبني سعادتها الشعو

بُ على اتحاد وانضمام

لا خير في شعب يعي

شُ من التعاسةِ في انقسام

كونوا جميعاً سادةً لنفوسكم

فالعصرُ هذا سيدُ الأعصارِ

أما تهاونكم فيجرح أمرهُ

في القبرِ عِزةَ يعرُبٍ ونزارِ

ليس الحياةُ سوى نزاعٍ دائمٍ

يا للضعيفِ به من الجبار

الفوزُ للجَلَدِ الجريء فؤادُه

والويلُ كلُ الويلِ للخوَّار

ولقد رافق الزهاوي سير القضية العربية في جميع أدوارها وجاهد في سبيلها جهاد الأبطال البواسل، وكان هذا الجهاد يحذُر العرب من عاقبةِ التهاون والتكاسل، ويبث في نفوسهم روح الجرأةِ والإقدام، ليعيدوا مجد أجدادهم شم الأنوف، أباةِ الضيم: -

والدهر للرجل القوى

على صلابته ظهيرُ

والدهر يخذل من يني

والدهر يصفع من يخورُ

ص: 44

إن هدَّمَ العربي حوضَ حدوده

سخطت عليه يعربُ ونزارُ

لا يرفع الوْطنَ العزيز سوى امرئ

حرٍ على الوطن العزيز يغارُ

لقد صح أن الضعف ذل لأهله

وأن على الأرض القوىَّ المسيطرُ

وأن اقتحامَ الهولِ أقصر مسلكٍ

إلى المجدِ إلا أنه متوعرُ

يا قوم إن أذعنتم

للذل أغضبتم نزارا

أنتم أحق الناس إن

ترعوا لأنفسكم ذمارا

هل تقبلون لنفسكم

عاراً وللأعقاب عارا

والاستقلال، في نظر الزهاوي، يؤخذ بالقوة، ولا يعطى. . فعلى العرب، إذن، أن يريقوا دماءهم الزكية ويتقدموا للموت بقلوب لا تهاب الموت، أما اعتمادهم على الوعود والعهود فلن يحقق لهم استقلالهم المنشود!

ذكت دماء لأجل الحق سائبة

فإنها وحدها للمجد أثمان

وكل شعب على الأوعاد معتمد

فحظه في عراك الدهرِ خذلان

إن لم تكن قوة للمرء بالغة

فكل حق به قد لاذَ بُطْلانُ

وهو يدعو الأمة العربي إلى خدمة العلم، إلى رمز الحرية والاستقلال، فهو السياج الوحيد الذي يدرأ عنها الأخطار

وعلى الجند إنه

كسياج يقي الحرم

وبه يُستقلُ بالرغ

م من عصبة الأمم

لا يجوسُ العدوُ مم

لكةً جيشها انتظم

نم قرير العين، يا جميل، فإن في بلادك نفوساً أبية، وأنوفاً شماء، تكره الذل وتأبى الاضطهاد!.

نم هادئ البال، يا جميل، فإن الشباب، يتقد حماساً، وإنه في حماسه ليغلى، ليثور ثورة البراكين. . . أنظره. . . ها هو ذا قد أجاب داعي الوطن، اسمعه. ها هو ذا قد أصاخ لصوت الله. إن المدرسة ومتاعب المدرسة لم تثنه عن خدمة علمه المفدى. أتعلم أين هم الآن. إنهم يتدربون. إنهم يحملون البنادق.

نم قرير العين، يا جميل، فأن في البلاد مليكا، هو رمز الشباب وأمل الشباب، إنه غازي،

ص: 45

غازي القلوب، ابن فيصل، ابن الحسين!.

أحمد المغربي

ص: 46

‌الزهاوي

للأستاذ أكرم زعيتر

كنت في عداد اللذين احتشدوا لتأبين الكاظمي الشاعر في بغداد وأرهفوا آذانهم يستمعون إلى الزهاوي الشاعر المتفجع المتوجع.

جاء الزهاوي يومئذ يتوكأ على عصاه في جسم متهدم يصارع العلل ويناجز الأدواء وصعد إلى مرزح الخطابة وجلس على كرسي ووقف خلفه شابان حرصا حين شرع يلقي قصيدته على أن يمسكا بذراعيه إمساك الشفيق الذي يحذر أن تجمح العاطفة بالشاعر فيثور وينهض من مقعده وهو لا يقوى على الوقوف فيصيب الجسم الذي يحذر أن تجمح العاطفة بالشاعر فيثور وينهض من مقعده وهو لا يقوى على الوقوف فيصيب الجسم الذي ترادفت عليه الأسقام أذى شديد

راح الزهاوى يلقي قصيدته بصوته المتهدج، ونغمته التي انفرد بها، واضطرابه الجسماني حتى وصل إلى قوله:

الكاظمي قد اعتني ببلاده

وبلاده بحياته لم تعتن

فنهض، وهاج، وتلظى قلبه الفتي يوشك أن يودي بجسمه المتهدم لولا حذر الشابين. ثم أنهى الزهاوي نشيده:

يا بلبل الشعراء مالك صامتا

من بعد تغريد بشعرك مشجن

قد سرت قبلي للردى متعجلا

ولعلني بك لاحق ولعلني!

وردد الشطر الأخير نشيجاً مؤثراً: ولعلني بك لاحق ولعلني! التفت إلى صديق يجلس بجانبي فإذا بدمعه يترقرق وقلت: أرأيت يا صديقي؟ إن الزهاوي يرثي نفسه في قصيدته، إن هواجسه تنم عن دنو أجله!! قال: صدقت ولكن شعره اليوم فيه فتوة وفيه حياة! قلت: إنها خفقة الذبالة الأخيرة كمنذر بانطفاء السراج؛ أنني مزمع على مغادرة بغداد قريبا وأحس برغبة ملحة تهيب بي إلى زيارته غداً زيرة الوداع الذي لا لقاء بعده. فماذا تقول؟ قال: ذلك ما أبغي

وانطلقنا في اليوم التالي إلى بيت الشاعر، ودخلنا عليه فإذا به جالس على فراش يتكئ على وسادتين، فرحب بنا وسر بزيارتنا؛ وكان أول ما حادثنا سألنا عن وقع قصيدته في

ص: 47

رثاء الكاظمي، فاعربت له عن أثرها فينا وقلت: إنني عائد إلى فلسطين وأود أن أدون في مفكرتي ما يدور في هذه الزيارة من حديث! قال الزهاوي: حسن وهل اطلعت على (الأوشال)؟ كنت أظن أن عظمي رق وان زمني لن يمتد بي كثيراً فسميت مجموعة قصائدي (الأوشال) ولكنني نظمت بعدئذ بعض القصائد وهي آخر ما أنظم، وجمعتها في ديوان صغير سميته (الثمالة)، والثمالة آخر ما أنضم في هذه الدنيا التي أراني تاركها قريبا. قلت: وهل غير الثمالة للأستاذ شعر لم يطبع؟ قال: أجل إنه ديوان في. . . وأحسب أنه لن ينشر في القرن العشرين؟ قلت وما عمر الأستاذ؟ قال: أنا في السنة الثانية والسبعين بالحساب الشمسي وفوق الأربعة والسبعين بالحساب القمري!

وهنا أحس الشعر بالألم وأخذ يئن، فوجمنا، ولكنه قطع وجومنا بقوله: لكل جريح أنة، وصمت قليلا ثم قال: نظمت قصيدة لتتلى في تكريم الدكتور حسين هيكل لمناسبة تأليفه (حياة محمد)، ونادى خادمه فناوله كيساً انتزع منه القصيدة وتلاها علينا ثم أستأنف الحديث: وطالما كنت أنشر قصائدي في السياسة الأسبوعية وحدثني طالب أن مئات النسخ من السياسة كانت تباع في دار العلوم بمصر حين تنشر لي فيها قصيدة؛ وطالما احتدم الجدل وتعارك الطلاب (وتباسطوا) بسبب انقسامهم إلى فئتين: واحدة تؤثر شوقي عليّ، والأخرى تؤثرني على شوقي! قلت:

وتطرق الزهاوي في حديثه إلى بعض أدباء بغداد الذين يحاولون انتقاصه فندد بهم وحمل عليهم حملة شعواء، ثم تحدث عن صفات الشاعر التي هي في نظره استعداد ذاتي ومادة تتألف من ثقافة ولغة ثم طول ممارسة. وسألته عن خير قصائده فقال: أكو (يوجد) أكثر من أربعين قصيدة كلها (زينات)؛ خذ مثلا قصيدتي (هواي) ومطلعها: أذكرى إذ كنا صغيرين نلعب! وخذ قصيدتي في الغروب وقصيدتي في الطلوع إنهما عصريتان جديدتان، أما التصوير المؤثر الجميل ففي قصيدتي:

ومتى تخر أم لا؟ ومطلعها:

يا ابنة الهم إن عرفتك القل

ب فلا تخرجي إلى الأبواب

إن هذه القصيدة بديعة، بديعة!

وحدثنا عن رأيه في بعض الشعراء، فإيليا أبو ماضي يحلق أحياناً في السماء عالياً ويهبط

ص: 48

اخرى، أما أحمد محرم فيمتاز شعره بجزالته ولكنه مشوب بالتقاليد، وأما الصافي فحبذا لو أتسع اطلاعه اللغوي وارتقت ثقافته. قلت له: وفي العراق؟ قال: الرصافي ماضيه خير من حاضره بكثير، بكثير؛ والشيخ رضا الشبيبي قل أن يحلق، والجواهري عربيته ضعيفة، ولقد لازمني سنتين أو ثلاثا وكان في أثناءها. . . سامحه الله! ولكن أملا قد يعقد على حسين الظريفي وابن أخي إبراهيم الزهاوي

وسألته عن قصيدته في رثاء الكاظمي فقال: تقرؤها في (الرسالة) ثم تحدث عن صاحبها وقال: والزيات هو الكاتب الذي تقرأ أخلاقه فيما يكتب

ودار الحديث حول المجمع الملكي اللغوي الذي تأسس في مصر فأبدى تشاؤمه منه: وقال إنه لن يدوم اكثر من سنوات لجموده!

وحدثنا عن المرحوم الملك فيصل وإعجابه بشعر الزهاوي ومما قال: ورأى فيصل رسمي وأنا نائم فاعجب به وأمر بتكبيره، فنظمت بيتين كتبا تحت الرسم، وانشدهما الزهاوي، واذكر أن شطرهما الأخير هو: ولكني عن مدحك لا أنام، وودعت الزهاوي وأنا موقن انه الوداع الأخير

(نابلس)

أكرم زعيتر

ص: 49

‌حديث الأزهار

للكاتب الفرنسي ألفونسو كار

- 4 -

بين القهوة والشاي

خطر يوماً لزهرة البن أن تجتاز الجبال والبحار من سهول الحجاز إلى الصين لتزور أختها زهرة الشاي، فاستقبلت هذه زائرتها بكل ترحاب إلا أنها كانت مغرورة بنفسها تتكلف الود تكلفاً ككل مخلوق لا يعترف بفضل أحد

وكانت ابنة الصين تباهي بحضارة بلادها القديمة وتحسب ابنة الحجاز حديثة نعمة خرجت من قفار لا مدنية فيها ولا مجد

وما كانت ابنة العرب لتخدع بغرور صديقتها فثارت العزة العربية في نفسها فقالت لزهرة الشاي: - أراك مغترة بنفسك يا ابنة الصين وما أنا ممن يتقلد المنة من أحد. جئتك زائرة لا مستجدية فلست اعرق مني نسباً ولا ارفع حسباً

وهزت زهرة الشاي رأسها باحتقار وقالت: - إن حسبي عريق يتصل بمن أسسوا مملكة الصين منذ ستين قرناً

- وما تقصدين بهذا؟

- أقصد تذكيرك بما يجب عليك من احترامي

وكانت الزهرتان تتحدثان وهما جالستان إلى مائدة صفت عليها أواني القهوة والشاي، وكل زهرة تتناول من خلاصتها لتنبه قواها؛ فقالت زهرة البن: - أنت كريهة الطعم، ولو لم تكوني كذلك لما هجرك الصينيون لاجئين إلى الأفيون، فما أنت بالمخدر يفتح أبواب الأحلام الجميلة

فانتفضت زهرة الشاي وقالت: - لقد غزوت الشعب الذي تغلب على الصين فأنا سيدة بلاد الإنجليز

- وأنا أسود بلاد الفرنسيس

- لقد أنزلت الوحي على ولتر سكوت وبيرون

ص: 50

- وأنا بعد أن ألهمت وطني أروع الأفكار ألهمت مولير وفولتير

- أنت سم بطئ قتال

- أنا دواء للهضم

وساد السكوت لحظة، فقالت زهرة الشاي: - أنك لتسمعين من غليان مائي ما يشبه حفيف أجنحة الارواح، وما ظفائر الفاتنات بأجمل من أوراقي، أنا شعر الشمال يتدفق حزناً وحناناً

فقالت زهرة البن: - لي سمرة بنات الصحراء، ولي لفتات عيونهن السوداء، فأنا اخترق الأعصاب باللهب الخفي. أنا سحر الشرق وأنا غرامه

- أنت تحرقين، أما أنا فأستنزل العزاء على قلوب الموجعين

- أنا أعطي القوة، أما أنت فتنزلين الضعف بالجسوم

فقالت زهرة الشاي: - لي القلب

فقالت زهرة البن: - أما أنا فلي الرأس

واحتدم الجدال بينهما دون أن تذعن إحداهن للأخرى، فقررت الزهرتان أخيراً أن تلجآ إلى مجلس محكمين يألفه شاربو القهوة وشاربو الشاي.

قدمت القضية لهذا المجلس ومرت الأجيال والخلاف قائم بين أعضاءه وهو لم يصدر حكمه حتى اليوم

(ف. ف)

ص: 51

‌تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

الجاهلية، شعرها، وعاداتها، ودياناتها

ترجمة حسن حبشي

ولندع هذه الناحية برهة قصيرة لنلقي نظرة عابرة نلم فيها بمكانة المرأة ونلتمس أثرها في المجتمع ليرى القارئ كيف كانوا ينظرون إليها في المجتمع الجاهلي، وذلك إنهن كن في مرتبة سامية ذوات أثر ملموس، يخترن أزواجهن بأنفسهن، ويرجعن إلى منازلهن الأولى إذا سيئتْ معاملتهن أو لم يجدن الراحة المنشودة في حياتهن الجديدة، وكن في بعض الأحيان هن اللائي يطلبن الزواج وفي أيديهن العصمة، وما كن جواري أو متاعا بل كن مساويات لأزواجهن يلهمن الشاعر القصيدة، ويثرن نخوة المحارب في القتال، ويبعثنه على الاستماتة والقوة، ولعل اصل فروسية القرون الوسطى يرجع إلى بلاد العرب الوثنية، وإن الفروسية وامتطاء متن الصافنات حبا في المخاطر وتخليص الأخيذات وإغاثة الملهوف والنساء اللواتي أحاقت بهن المصائب، كل هذه الأمور هي من الطبائع الجوهرية للعربي الصحيح؛ وان لفظ (الفروسية) ليشير إلى راكب الحصان ذو الطبع الشريف، كما أنه لا ينال لقب (فارس) إلا من كانت تجري في عروقه دماء النبل. ولكن نبل النساء لا يظهر أثره من احترام الرجال إياهن وبطولتهم من أجلهن فحسب، بل تنعكس صوره أيضاً في الأغاني والأقاصيص وفي التاريخ؛ من ذلك أن فاطمة بنت الخرشب كانت إحدى ثلاث عرفن يالمنجبات، وكان لها سبعة أبناء، ثلاثة منهن يسمون (بالكلمة) وهم ربيع وعمارة وأنس. وفي ذات يوم أغار حمل بن بدر الفزاري على بني عبس وهي القبيلة التي تنتمي إليها فاطمة، ثم أسرها، ولما أخذ بخطام البعير وابتعد بها عن الحي وأهله صاحت به:(أي رجل ظل حلمك، والله لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة التي أمامنا بي وبك - وراءنا لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبداً، لأن الناس يقولون في هذه الحالة ما شاءوا. وحسبك من شر سماعه) قال: (إني أذهب بك حتى ترعي إبلي) فلما أيقنت انه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من البعير، فماتت خوف أن يلحق ببنيها عار فيها. ومن بين الأسماء

ص: 52

التي غدت مضرب المثل في الوفاء بين النساء فكيهة وأم جميل، أما عن فكيهة فيروى أن السليك بن السلكة أغار على بني عوار (بطن من بطون مالك) فلم يظفر منهم بفائدة، وأرادوا مساورته فقال شيخ منهم (إذا عدا لم يتعلق به شئ، فدعوه حتى يرد الماء فإذا شرب ثقل ولم يستطع العدو وظفرتم به) فأمهلوه حتى شرب ثم بادروه، فلما علم أنه مأخوذ جاملهم وقصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم وهي فكيهة فاستجار بها فمنعته وجعلته تحت درعها واخترطت السيف وقامت دونه، فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها وصاحت بأخواتها فجاءوا ودافعوا عنها حتى نجى من القتل ولولا ضيق المقام لكان من أمتع البحوث أن نسرد تفاصيل أوفى عن القصص التي وردت في ذكر نبيلات النساء في الجاهلية، ولقد صورت شعورهن المرهف بالشرف والوفاء، ولكن لعليّ أكون قد وفقت في اختيار أمثلة تصور الشرف العريق والذكاء الحاد والعاطفة العنيفة. وكان الكثيرات منهن ينظمن الشعر الذي ينشد في المآتم ويصغنه قلائد في رثاء موتاهن، ومن أسطع البراهين على سمو أخلاق المرأة في الجاهلية ورفعة نفسها أن ترى أم البطل وأخواته يقضين على أنفسهن بملازمة الحزن عليه والإشادة بمحامده.

أما مدح العاشق لمحبوبته فكانت له لهجة أخرى، وذلك أن القصيدة لا تدع ناحية من نواحي المحاسن الجثمانية إلا وتصفها وصفا شاملا، وقل أن نجد اهتمام أو تقديراً للجمال الخُلقي، ولا يشذ عن هذا سوى مطلع قصيدة للشنفري، أما سير شارلز ليبل الذي يهم كل مشتغل بالأدب العربي التعرف إلى رأيه لعطفه على الشعر العربي القديم ودقته في نقل صوره، فيقول عنها (إن هذه القصيدة أمتع صورة ترسم لنا الأنوثة التي خلفتها لنا الوثنية العربية، وقد رسمتها نفس اليد التي خطت اللامية المنقطعة النظير، وأدت خلالها المثل الأعلى لقوة الرجولة وصلابة البطولة)

لقد أعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها

إذا ما مشَت ولا بِذاتِ تَلَفُّتِ

تبِيتُ بُعَيدَ النومْ تهدِي غَبوقَها

لِجارتِها إذا الهَدِيَّة قَلَّتِ

يَحُل بِمَنجَاةِ منَ اللوم بَيتُها

إذا ما بُيُوت بالمَذمّةِ حَلَّتِ

أمَيْمَة لا يُجزى نَثاها حَليلها

إذا ذكرَ النِّسوانْ عَفَّتْ وَجَلَّتِ

إذا هُوَ أمسى آبَ قُرَّة عَينه

مَآبِ السَّعيد لم يَسل أينَ ظلتِ

ص: 53

فدقت وِحلَّتْ واسبكرَّت وأكملتْ

فَلَو جُن إنسَان من الحُسنِ جُنَّتِ

وإن مثل هذا الخلق لا يمكن أن ينضج إلا في جو طليق حر بعيد عن التكلف والقيود المعدوم أثرها في الصحراء. وإذا نظرنا إلى هذه الأبيات وما توحيه من المعاني تجد أنها كافية في الرد على أولئك الذين يزعمون أن الإسلام قد رفع منزلة المرأة الاجتماعية، وإن يكن من بعض الوجوه قد رفع مستواها الأدبي في الحضارة إلى حد عظيم ولكن يوجد بجانب هذا أمر آخر ذلك أنه في بلاد كهذه حيث القوة هي الحق، وحيث نرى أسلوب الحياة الأولى يحيز للأيد امتلاك ما يريد، ومن استطاع مقاومته احتفظ بنفسه، في مثل هذه البلاد كان عجيباً ألا يندثر الجنس الضعيف (النساء)

أما عادة الجاهلية في وأد البنات أحياء فترجع - كما يظهر لنا - إلى المجاعات الجمة التي كثيراً ما تمنى بها بلاد العرب نظراً لقلة سقوط الأمطار، وكذلك إلى محافظة موهومة على الشرف، وكان الآباء يظنون أن يطعموا أفواهاً ليس لها من قيمة الحياة كما كانوا يخشون أن يجلبن لهم العار إذا سُبين في حرب، ومن ثم كانوا يعدون ولادة الأنثى خطباً كما نتبين ذلك مما ورد في القرآن (ويَجعَلونَ لله البنات سُبحانهُ ولهُم ما يشتَهوُن، وإذا بُشِّرَ أحدُهُم بالأنثى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَداً وهوَ كظيم، يتَوارى منَ القومِ مِن سُوء ما بُشِّرَ بِه، أيُمسكه عَلى هُونٍ أم يَدُسهُ في التَراب، ألا ساءَ ما يَحكمون)

ويقال في أمثالهم (تقديم الحرم من النعم) وقولهم (دفن البنات من المكرمات)

(يتبع)

حسن حبشي

ص: 54

‌ذكرى حافظ إبراهيم

للعالم الشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين

أفي كل حين وقفة إثر ذاهبِ

وصوغ دم أقضي به حقَّ صاحِب

أودِّعِ صحبي واحداً بعد واحد

فأفقد قلبي جانباً بعد جانب

تَساقط نفسي كلّ يوم فبعضُها

بحوف الثرى والبعض رهنُ النوائب

فيادهر دع لي من فؤادي بقية

لوصل ودود أو تذكر غائبِ

ودع لي من ماء الجفون صُبابة

أجيب بها في البين صيحة ناعب

وهل صيغ قلبي أو ذخرتُ مدامعي

لغير وفاء أو قضاء لواجب

فقارب أخاك الدهر والعيش مسعف

فسوف تُرَى بالموت غير مقارب

حياة الفتى بعد الأخلاء زفرة

تَرَدَّدُ ما بين الحشا والترائب

رعى الله فتياناً وفوا حق شاعر

وفيٍّ على مَض الخطوب الحوازب

وفيّ لمصر لم يدنس قريضه

بحمد خؤون أو بإطراء كاذب

وفيّ وفاء الرسل بين معاشر

نصيب الحمى منهم وفاء الثعالب

يدورون بالأمداح يبغون مأرباً

فياضيعة الأوطان بين المآرب

فبينا ترى حمداً ترى الذم بعده

يريك فصول العام شِعرَ الأكاذب

فدع عنك شعر الحمد والذم إنني

نصحت بما قد أقنعتني تجاربي

وكن أمّة لم تُعنَ إلا بأمَّة

فنفسك لم تخلق لسخر الألاعب

متى تخلص الأقلام للنيل وحدهُ

فمن شاعر عالي الشعور وكاتب

إذا الشعب بالنواب عز مكانُه

فشعرك إن تنصفه أبلغ نائب

وهل نائب زكيتموه كنائب

يزكيه صوت الله أعدل ناخب

وشتّان بين اثنين نائب أمة

ونائب إنسانية في المصاعب

فهذا إلى وقت من الدهر ينقضي

وذاك عن الأجيال آت وذاهب

لقد فقدت مصر بفقدان حافظ

لسانا كوقع المرهفات القواضب

فسل عنه في الموتى (كرومر) إنه

سقاه بكأس الشعر سمّ العقارب

ألم يرمه في دنشواي بضربة

سرى وقعها في شرقها والمغارب

ص: 55

أطار صواب اللورد صاعق هولها

فولى على أعقابه غير آئب

وشد على قصر الدبارة شدة

تبين منها اللورد سوء العواقب

تداعت بها أركانه وتجاوبت

مقاصيره تبكي بكاء النوادب

وكاد يقول القصر للورد: أخلِني

فلو دام هذا القذف لاندك جانبي

ظلمت فما ذنبي تعرِّض ساحتي

عناد الليث مرهف الناب غاضب

فلو كان لي في ساكني متخيَّرُ

لأغلقت بابي دون إيواء غاصبي

وسل بعده غورست ما فعلت به

بَواتِر أمضى من نصال المضارب

بَواتر صاغتها قريحة شاعر

من اللفظ لم تحفَل بحشد الكتائب

تمزق من أعراضهم لا جسومهم

فما القتل أن تعني بحشو الجلابب

وما قتل الأحرار كالهجو إنهم

يرون أليم الطعن طعن المناقب

ولم أر سيفا كاللسان قرابه

فم وشباه من قواف صوائب

يُرى شِعرُه بين الصفوف محارباً

وصاحبه في الناس غير محارب

وسل مجلس الشورى تجبك من البلى

مواقف صرعى الجاه صرعى المناصب

رآهم لأغراض العميد مطية

وأن الحي الأشياخ لعبة لاعب

فأوتر قوس النقد غير مصانع

وسوّد مبيّض اللحي غير هائب

فذاك جلال الشعر لا شعر عصبة

يطالعنا تجديدهم بالحواصب

هُم جدري الشعر آذوا جماله

بما ألصقوا في حسنه من معايب

عناوين كالألغاز حيرت النهى

ومما تحتها معنى يلذ لطالب

دواوين حسن الطبع موّه قبحها

وهل يخدع النقاد نقش الخرائب

فيا ضيعة الأوراق في غير طائل

ويا طول ما تشكو رفوف المكاتب

وكم دافعوا عن مذهب العجز جهدهم

فما غسلوا أسواء تلك المذاهب

وكم ملأوا بالزهر والنهر شعرهم

بلا طيب مستاف ولا ريّ شارب

وكم يذكرون الأيك والطير صدحا

عليها فلم نسمع سوى صوت ناعب

وكم لهجوا بالشمس حتى تبرمت

بهم وتمنت محوها في الغياهب

وكم أقلقوا بدر الدجى في سكونه

وكم أغرقوا سماعهم بالسحائب

ص: 56

وكم هاتف بالخلد منهم وشعره

تُوفِّىَ سقطا قبل عقد العصائب

وشاك أذاة الحب أطفأ جمره

بشعر كبرد الثلج جم المثالب

فأقسم لو يبغي وصالا بشعره

لَجانبه من لم يكن بمجانب

إذا ما احتفى بعض ببعض فإنهم

نواضب علم تحتفي بنواضب

أكل متاع كاسد عند غيركم

يروج لديكم يا بلاد العجائب؟

وكل أخي زيف نفاه سواكمُ

يرى فيه من أخياركم ألف راغب

لقد راج دجل الشعر عند رجالكم

كما راج دجل السحر عند الكواعب

تواصت بغبن شيبكم وشبابكم

وفوضى الهوى ساوت مجداً بلاعب

فأحجم عن ميدانها كل سابق

جوادٍ وجلى فيه تهريج صاخب

وأمسى زمام الفكر في يد عصبة

هم المثل الأعلى لسخف المواهب

علام يجيد الفن في مصر متقن

إذا كان بالتهريج نيل المراتب

فيا جهل واصلنا ويا علم فابتعد

ويا حمق لازمنا ويا عقل جانب

أرى الجهل نورا في بلاد رجالهم

خفافيش يعيشها ضياء الكواكب

إذا الشعب بالإهمال أرسب عاليا

فلا بدع لو يعلو كل راسب

أحمد الزين

ص: 57

‌حافظ

للأستاذ فليكس فارس

لعمرك ما في الدهر ظلم ولا غدر

ولكن هي الدنيا مراحلها غمر

يرى المرء ما في يومه وهو لا يرى

غدا، وغد سر سيتبعه سر

مسالكنا في الأرض خطت سطورها

إذا ما تلونا السطر لاح لنا سطر

ومعنى الذي نتلو كمين بما تلا

فما يدرك المعنى ولو ختم السفر

هنا كلمات إن نهجأ حروفها

ففي العالم المستور آياتها الغر

وإن تهتك الغيب الضمائر ترتضي

بواقعها فالحق يحجبه الستر

وكم نال منا الأمس حتى إذا انقضى

تبين منه الخير وانقشع الشر

أحافظ، هل تشجيك في ذلك العلا

هواتف آلام يرددها الذكر

أتشجيك حرب في الحياة بلوتها

ويوجعك العزم المكابر والقهر

أتأسف للأيام عجلى ثقيلة

ولليل عن صبح المكاره يفتر

وللأمل المغرور في مهيع الصبا

وللحب لا جنى إذا انتثر الزهر

وللعلم مجهولا وللفضل مغفلا

وللود والإخلاص سادهما الغدر

وللنار تبكي فيك قلبا مولها

بمصر وقد ذلت بأغلالها مصر

أتبكيك هاتيك الدموع ذرفتها

قصائد من سوائدها انفلق الفجر

أحافظ، قل، هل كان دهرك ظالما

وفي ظلمه المكذوب قد كمن النصر

أما نفذت في الخلد روحك روحها

فلاح بها مما ادَّخرت لها الذخر

وقد ظهرت منك السريرة درة

على شاطئ الأزمان ألقى بها العمر

فحظك في دنياك أنت أردته

ومن نفذ المقدور نفسك لا الدهر

بنو الشعر الرسل في الحياة سبيلهم

إلى الله آلام يمهدها الصبر

فصحتهم سقم وراحتهم عنا

وعزتهم وهم وإثراؤهم فقر

وسيان فيهم ذو يسار ومعسر

فذا سجنه كوخ وذا سجنه قصر

مشيت وشوقي واحد صنو واحد

فخلناكما شفعا وروحكما وتر

وقد كان شوقي حافظا في شقائه

وحافظ شوقي أمره للعلا أمر

ص: 58

فالمجد والعلياء ما قد نظمتما

وللخلد في دنيا كما هذه الخمر

ترنح منها الثائرون كأنها

ألم بهم من كأس شعركما السكر

أحافظ كم نادى بما قلت شاعر

ولكن ما أطلقته الصرخة البكر

وما سمعت أقطار يعرب قبلها

هتافا تنادي في مقاطعه القطر

قصائد من وحي الشعوب أنينها

فناضمها فرد وملهمها كثر

أتيت بها والروع مرخ سدوله

على كل فج ضاق في رحبه الصدر

تسير بها الأقوام حيرى وليس في

مطالعها بدر ينير ولا زهر

فأوقدت للسارين قلبك مشعلا

تفجر من أشعاعه المجد والكبر

رأى القوم أن النور في القلب فاهتدوا

إلى قلبهم يجري بأعشاره الفخر

وهل في قلوب العرب إلا مشاعل

من القبس الهادي أضاء به الذكر

خبا نورها حينا فضلت عن الهدى

ولولا انطفاء القلب ما اظلم الفكر

أحافظ، قد أديت فينا رسالة

ختمنا بها عصرا فلاح لنا عصر

وحملك الماضي فجيع احتضاره

فيالك حر نال من روحه الأسر

تحملت لا يرميك بالعجز فاضل

وناضلت لا يرميك بالسفه الغر

وقد كنت مصريا صميما بلاده

وأوطانه قلب العروبة والنحر

وما عاش قلب دون جسم يضمَّه

وما عاش جسم قلبه عنه يزور

ألا رحم الله الذي مد كفه

على صفحات البحر فانفلق البحر

وسارت على أمن تصافح يعربا

فصافحها المعمور والمهمه القفر

أشاعرنا، هذي قوافيك ألهبت

دم الأسد الباكي ففي دمه جمر

وكم من شهيد لو نثرت دماءه

لفاح على الدنيا به ذلك الشعر

يقولون لو لم يحكم الصمت حافظاً

ويطوي على غل قوادمه الصقر

لحلَّق فوق النيرين جناحه

وفاض على الشرقيين من روحه السحر

أما والذي أخفى عن النفس كنهها

فأدرج في أسرارها الجهد والأجر

لكل من الأرواح قسط مقرر

لها وعليها لا كثير ولا نزر

إذا البلبل الصداح أكمل شدوه

وبلغ ما ألقى على روعه النشر

ص: 59

إذا الزهرة الملداء نَوَّر تاجها

وفاح على الأرجاء من نفحها العطر

فقد جاد كل منهما بحياته

فما تطلب الدنيا وقد نفذ العمر

أحافظ، أي الشعر أنشدت في العلا

لسعد فمال الحور وارتعش السدر

تردده السبع الطباق مذيعة

لبشراك أن الشرق في حقه حر

وما كان قبل العهد في أرض يعرب

سوى صفحات كل عهد بها حبر

وهل يطلق النسر الأسير جناحه

إذا لم يحرر رأسه ذلك النسر

تنبه هذا الشرق والأفق مظلم

وقد سادت الدنيا المطامع والكفر

فما يؤمن الإنسان إلا بنفسه

وقد محيت من لوحه الكلم العشر

جهاداً بني قومي وسيراً على الهدى

فما بسوى آفاقنا للسرى بدر

وهل للورى نور وسوى نور ربهم

وفي آيه الأسعاد والمجد والبشر

أحافظ، هذا اليوم يومك إنما

جدير بذكر الحر موطنه الحر

وفي الأمس كان المجد مجدك أن نرى

وجوماً فلا إحياء ذكر ولا قبر

كتمنا القوافي ناحبات ذليلة

إلى أن أطل الفجر وابتسم الثغر

فأطلقت الذكرى لروحك حرة

وقد غادر في النسيان تذكارك المر

تحييك كف المصطفى في جهاده

وقد أورقت في الأفق أعلامه الخضر

يحييك من عرش الكنانة عاهل

تبسم للآفاق فانفلق الفجر

فليكس فارس

ص: 60

‌الفنون

الفن المصري

2 -

النحت

للدكتور أحمد موسى

يكاد لا يختلف اثنان في تقدير الفن المصري القديم وخلود عظمته. بل والتأكيد بأنه أصل الفنون جميعاً؛ ذلك الذي حدا بكثير من علماء الفن والآثار إلى الاشتغال بتحديد الصلة بين الفن المصري وبين ما جاء بعده من فنون الإغريق وغيرهم، والقول بأن الإغريق أول من اقتبس عن المصريين، ويدللون على ذلك بمقارنات قياسية بين تصميم المعابد المصرية، ونظيرها عند الإغريق كما يقارنون بين منحوتات المصريين وبين منحوتاتهم في أول عهدهم، ويحاولون إيجاد الشبه والمخالفة بين الاثنين، ثم تراهم يعرجون بعدئذ على قواعد غاية في الدقة تؤكد صدق قولهم، منها تناسب الأعضاء، وتشابه المجموع الكلي وتناظر الإنشاء الشكلي

كل هذا قد يكون صحيحاً إلى حد كبير، ولكن أهم ما يجب علينا أن نعرفه، هو أن الفن المصري بدأ ونما وازدهر، ثم انحط وانتهى دون أن يصل في مرحلة من مراحله إلى المثل الأعلى بمعناه الفني، لأنه لم يمثل الحقيقة تمثيلا يدل على سمو الخيال وروعة التصور وكان هذا ولا يزال معدودا من القصور الحتمي الذي لم يمكن للتخلص منه بد، لأنه نجم عن طبيعة أرض مصر، ونفسية أهلها، وصفاء سماء بلادهم، وسهولة العيش دون الكفاح الكثير، وبالرغم من أن مرحلة الحضارة المصرية استغرقت حوالي ثمانية أضعاف الوقت الذي استغرقته حضارة الإغريق، فإنه للأسباب الطبيعية المذكورة لم يصل الفن المصري إلى ما وصل إليه الإغريق.

وإذا كنا لا نزال نذكر ما قلته عن بعض منحوتات اكروبوليس أثينا ومعبد بارنتون. وما يحتويه من تلك القطع الرائعة التي مثلت الحياة خير تمثيل، وفي قوة وصلت إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه الفن إطلاقا. أمكننا أن نعرف بالمقارنة مدى ما وصل إليه المصريون في هذا النوع من الفن، معرفة أقرب إلى الحقيقة العلمية منها إلى حشو القول!

ص: 61

لون المصريون كل ما تركوه بمقابرهم وأهرامهم ومعابدهم بألوان صناعية اتخذوا بعضها من الأرض. هذا عندما كانت من الحجر الجيري أو الرملي، أما في الحالات الأخرى حيث كانت من حجر الجرانيت الوردي أو الأسمر. أو حجر البازلت أو الديوريت أو السربنتين، فإنها تركت بدون تلوين اكتفاء بلونها الطبيعي. على أنه من المناسب أن اذكر شيئا عن الألوان الصناعية وكيفية عملها، فاللون الأبيض كان من الجبس المخلوط ببياض البيض أو العسل، والأصفر من الصنوبر أو الطفل، والأزرق من مسحوق حجر الزبرجد أو من سلفات النحاس، أما الأسود فكان من مسحوق العظام المحروقة.

وإذا وجدت تماثيل خشبية أو حجرية من التي تقبل امتصاص الألوان وكانت غير ملونة؛ فان هذا راجع في الغالب إلى زوال الألوان بمرور القرون، أو لأنها تركت قبل إتمامها لطارئ لم يكن في الحسبان.

من هذا ترى أن الصلة بين النحات أو المثال وبين المصور أو بين المنمق كانت قوية وضرورية لإكمال الإنتاج الفني، وكان هذا من أهم العوامل التي مهدت السبيل إلى وجود شبه عظيم في تكوين كل من التماثيل والمصورات، بل إنك لترى ما هو اكثر من ذلك، إذا قارنت التماثيل بالمصورات من حيث الفكرة والإنشاء، فتقف حينئذ على مدى ارتباط كليهما بالآخر من حيث الناحية الفنية، والمنهجية، نعم كانت المنحوتات والتماثيل مجسمة، على حين كانت المصورات نصف بارزة أو محفورة أو مسطحة، فكان هذا دافعا إلى تصويرها من الجانب، ولعله من الضروري أن أشير هنا إلى حالة شملها النحت النصف البارز والمحفور كما شملها التصوير، ولم تكن تعرف ولم تشاهد إلا في الفن المصري وحده. هذه الحالة التي تعد طابعا مميزاً تتلخص في أن المصور جعل تصويره للإنسان كما لو كان ناظراً إليه من الجانب لمجموع الرأس والساقين والقدمين، وكما لو كان مشاهداً إياه من الأمام للعينين والصدر واليدين، فهذا رغما عن أنه خطأ، إلا أنه استمر طوال أيام الفن المصري كله منذ بدأه حتى نموه وازدهاره الذي أعقبه الانحطاط والانحلال، إلا في بعض الأحيان التي لا يمكن اعتبارها قاعدة للفن من ناحيته العامة، ولم يعرف للآن شيء عن الدافع لهذا اللهم إلا إذا كانت العينان والصدر واليدان أهم ما في جسم الإنسان من أعضاء في اعتبار المصريين إجمالا أو في نظر الفنانين على وجه الخصوص.

ص: 62

أما تاريخ النحت الكامل والنصف بارز فهو وصف شامل لمراحلهما منذ عصر المملكة القديمة، خصوصا في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة إلى آخر أيام النهضة المصرية، ولما كان المجال لا يسمح بدرس هذا التاريخ تفصيلا، فإننا هنا نعالج تطور هذين الفنين المرتبطين معالجة اقرب إلى الإجمال منها إلى التفصيل، متخذين من بعض التماثيل نماذج كافية بعض الشيء للتطور والتقدم.

كانت عناية المثال والنحات في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة (2720 - 2560، 2560 - 2420 ق. م.) منصرفة إلى الاهتمام بإخراج ملامح الوجه دقيقة التفاصيل صادقة التناسب، أما بقية الجسم فكانت في المرتبة الثانية من حيث الدقة وصدق المحاكاة، بل إن هذه البقية كانت أحيانا كانت رمزية اكثر منها حقيقية.

وأهم تماثيل هذه المرحلة - التي تعد من أهم مراحل النحت المصري مما يناسب المقام هنا، تمثال الكاتب المحفوظ بمتحف اللوفر وبمحتف القاهرة أيضاً.

والمشاهد للثاني منهما، يراه جالسا على الأرض جلسة أقرب إلى تلك التي يجلسها الشيوخ القارئون (ش1)، واضعا قرطاسا على فخذيه، ممسكا بالقلم بيمينه (المفروض هو أن يكون التمثال هكذا) شاخص العينين، تدل ملامح وجهه على سحنة مصرية

وتمثال شيخ البلد تجده واقفا في شيء من اليقظة وضخامة الجسم التي يجب أن تتوفر في من يقوم بالشياخة. كما ترى بالجزء الظاهر من هذا التمثال الخشبي (ش2) تناسب أعضاء الوجه وحسن إخراجها إلى حد بعيد، أما ملامح الخلقة فتعطيك فكرة صادقة لمهمة هذا الرجل، فهو بها اقرب إلى الآمر منه إلى المأمور. وتمثاله الكامل (بمتحف القاهرة) واقف وبيسراه عصا طويلة وصل ارتفاعها إلى الكتف، متناسبة من حيث غلظتها مع طولها والطول الكلي للتمثال.

والصورة الثالث تبين تمثالين، الأيمن منها للأميرة نوفرت، والايسر للأمير راحوتب (بالمتحف المصري) من أمراء الأسرة الرابعة. جلسا جلسة متناظرة تكاد تكون متشابه على مقعدين متساويين في الارتفاع، وترى على كلا المسندين على يمين ويسار الرأس كل من الأمير والأميرة كتابة هيروغليفية دلت على شخصيتهما.

انظر إلى الأميرة. وتأمل إلى أي حد بلغت قدرة الفنان المصري في ذلك الحين، فاستطاع

ص: 63

أن يصور لك الاحتشام والجمال بكل معانيها. ولاحظ اختفاء الذراع اليسرى واليمنى. إلا اليد فهي مبسوطة اسفل الثدي. ولم يخرج بروز الثديين عن حدود أصول الجمال والذوق والتناسب مع الشكل العام. تجلس الأميرة شاخصة إلى المثال وقد تحلى عنقها وأعلى صدرها وحول الرأس بجواهر سبق المصريون فيها كل من عاصرهم أو جاء بعدهم. وعناية الأميرة بشعرها كما يتضح من مظهره، كانت بلا شك فائقة. فتراه قد استرسل على الآذنين وغطى جزءاً من الجبين، أحاطته من أعلى الرأس بطوق بديع الصنع ساعد على حفظ تصفيف الشعر كما زاد في تجميل الرأس دون ازدحام. والوجه جميعه دقيق الإخراج، جميل الوضع، رائع التناسب. أما جلستها مع ضم الساقين بعضهما إلى بعض فهي وإن كانت من القيود التي أبعدت الحياة عن مجوع التمثال، إلا أنها تدل إلى حد كبير على نبل الجالسة وسمو شخصيتها.

وجلس الأمير راحوتب في وضع متشابه مع الأميرة، ترى لأول وهلة أنه خالفها لوناً ومظهراً. فهو لم يغط من جسمه إلا الجزء الأوسط فضلا عن لونه الأسمر على نقيض الأميرة. ارتفعت الذراع اليمنى عن الصدر قليلا واليد مقبوضة الأصابع. كما تمتد الذراع اليسرى حتى تتمكن اليد من لاستناد على الركبة وهي مقبوضة الأصابع بشكل يتناسب وتوفر الإرادة في صاحبتها. والتمثال في مجموعه يعطيك فكرة واضحة لحسن انتباه الفنان حيث ترى البساطة في الملامح والمجموع الكلي.

وإذا انتقلنا إلى الأسرة الثانية عشر فجأة، فذلك لإمكان إدراك الفوارق بوضوح، فالتمثال (ش4) يمثل أحد رجال الدولة جالساً بلباس ربما كان مخصصاً لأمثاله في ذلك الحين، وبالنظر إليه إجمالا تجد الجسم مغطى من أعلى القدمين إلى اسفل الثديين، كما نرى الرجل قد ترك الشعر مسدلا على الكتفين وقد اكتسب الوجه، علاوة على دقة تفاصيله شيئاً من الحياة، لاحظ تلك الابتسامة الضئيلة التي ارتسمت على محياه ثم تأمل في الإنشاء المجموعي ولاحظ مع هذا أن التمثال مصنوع من الجرانيت. أما طريقة وضع متجاورين، واليدين أعلى الفخذين: فهذه هي نفسها الحالة التي شاهدناها بالتماثيل السابقة مع الفارق الزمني الفسيح.

ولعل تمثال أمينحوتب (ش5) أشبه بتمثال الكاتب (ش1) من حيث الجلسة، أما اهتمام

ص: 64

الفنان بتقليل طبيعة الجسم البشري من حيث الاجتهاد في إظهار الثنايا اسفل الثديين وأعلى البطن فهو جدير بالنظر. تأمل ما طرأ على مظهر الرأس وملامح الوجه من علائم التفكير، والكيفية التي استطاع الفنان بها إظهار العينين والحاجبين. ثم الشعر وما فيه من تجاعيد زادت في حسنه، كل هذا دليل التطور والتقدم.

وكانت الأسرة الثامنة عشرة غنية بتماثيلها (1555 - 1350 ق. م.) وبالنظر إلى إحداها (ش6) ترى أن الشكل العام للتمثال اصدق محاكاة، واجمل تناسباً في الأعضاء مما سبق مشاهدته، والشيء الجديد الذي نلاحظه هنا هو تحلية الرأس بالأفعى المقدسة، فضلا عن ظهور الجسم على جانب كبير من جمال التكوين، وربما كانت الإذنان من احسن الأجزاء التي يمكن مقارنتها مع ما شاهدناه في أحد رجال الدولة (ش4) وشيخ البلد (ش2) إذ تتضح بذلك العناية بمختلفة أجزاء الجسم مما يدل على إدراك أصول الجمال العام كنتيجة للتقدم العظيم في عهد المملكة الحديثة.

وفي تمثال رمسيس الثاني (ش7) مع ضآلة ما هو ظاهر منه ترى تفاصيل الوجه من جانبه دقيقة كما يبدو الجسم متناسب الأعضاء أما القدرة التي تجلت في تكوين القدمين والأصابع فهي جديرة بالاعتبار. والزائر لمتحف القاهرة يستطيع بزيارة الصالات التي روعي في ترتيب محتوياتها تدرج تاريخي، أن يأخذ فكرة شاملة لفن رائع جمع إلى القدم، جمالا خاصا ميزه على سار منحوتات غيره من الشعوب.

(لها بقية)

أحمد موسى

ص: 65

‌البريد الأدبي

مؤتمر دولي للآثار

يعقد الآن بمدينة القاهرة بدار الجمعية الملكية الجغرافية مؤتمر دولي للآثار والمتاحف. وقد افتتحه وزير المعارف المصرية بخطاب نوه فيه بما لمصر من مركز خاص في عالم الحفريات الأثرية، وبما بذله العلماء الأجانب لاستكشاف كنوزها الأثرية، وبما تبذله مصر لصون تراثها الاثري؛ وتمنى في خطابه أن تعمل الحكومات المختلفة على حضر إخراج الآثار القومية من وطنها، وأن تحل هذه المسالة الشائكة بما يرضي الفن والأماني القومية.

وبعقد مؤتمر الآثار والمتاحف الآن دورته الرابعة؛ وقد عقد من قبل ثلاث دورات: الأولى في رومة، والثانية في أثينا، والثالثة في مدريد؛ وهو يعنى بالبحث في كل ما يتعلق بالآثار والحفريات الأثرية وصيانة الآثار، والمتاحف وتنظيمها؛ وقد شهدت الدورة الحاضرة زهاء خمسين مندوبا يمثلون عدة من الأمم الغنية بكنوزها الأثرية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وأمريكا وتركيا والعراق ومصر وغيرها.

ولعقد هذا المؤتمر الأثرى بالقاهرة أهمية خاصة، لأن مصر تشكو منذ حين تبدد تراثها الأثري على يد بعض العلماء الذين لا يراعون حرمة العلم وبعض التجار ومهربي الآثار الذي يعملون بلا انقطاع على اختلاس كنوزها الأثرية وتفريقها في مختلف الاقطار؛ والذين زاروا المتاحف الأوربية من المصريين يعرفون كم تضم الأقسام المصرية في المتاحف الأجنبية من آثارنا المفقودة، وكم تضم منها المتاحف والمجموعات الخاصة في مختلف أنحاء العالم. وقد شعرت مصر أخيراً بوجوب التحوط لهذا الاعتداء المتكرر على تراثها الفني؛ وربما كان في مجاهرتها بالشكوى أمام هذا الحفل الكبير من علماء الآثار وممثلي الدول أثره في تحقيق أمنيتها وتقريب وسائل العمل على صون تراثها الأثري.

مجمع اللغة العربية الملكي

اختتم مجمع اللغة العربية الملكي دورته الرابعة في الأسبوع الماضي، وانفرط عقد أعضائه الشرقيين والغربيين، وقفل عدة منهم راجعين إلى بلادهم، وقد امتازت هذه الدورة من المجمع بظاهرتين: الأولى ظاهرة القلق والتكهن حول مستقبله ونظامه الجديد الذي تعنى وزارة المعارف بوضعه منذ حين؛ والثانية ظاهرة النشاط ولا سيما في ميدان الاستنباط

ص: 66

والمصطلحات والألفاظ الجديدة. وقد أثار المجمع ونظامه في هذه الدور كثيرا من الجدل، ووجهت إليه إلى جهوده حملات كثيرة، واضطر المجمع نفسه إلى أن يخوض معركة الجدل للذود عن كيانه وعن جهوده؛ والواقع أن المجمع قد بدأ في هذه الدورة لأول مرة يدرك خطورة مهمته، ويشعر بسهام النقد التي توجه إليه، ومعاول الهدم التي تشهر عليه؛ بيد أن من الإنصاف أن نقول إن المجمع قد أبدى في هذه الدورة نشاطاً يحمد، وإنه إذا كان في تكوينه الحاضر بعض الشذوذ والاضطراب، فليس الذنب في ذلك عليه، وإنما على الذين تأثروا في تأليفه على هذا النحو باعتبارات لا علاقة لها بمهمته الأصلية ورجاؤنا أن يوفق ولاة الأمر إلى إصلاح المجمع وتنظيمه بصورة جديدة تبدو فيها مصريته قوية واضحة، وتمثل فيه الكفايات المصرية التي أهملتها البواعث والأهواء الشخصية، وتحدد مهماته اللغوية والعلمية والأدبية تحديدا واضحا بحيث يغدو بهذا الإصلاح من القوة والهيبة الأدبية في مصاف المجامع اللغوية العريقة.

إحياء ذكرى حافظ إبراهيم

كان يوما السبت والأحد 6و7 مارس الحالي موعداً للاحتفال بإحياء ذكرى حافظ إبراهيم، ففي مساء يوم السبت قصد إلى دار الأوبرا جمهور يبلغ الألفين، وحضر الحفلة صاحب العزة محمد حسين بك مندوب جلالة الملك ومجلس الوصاية، كما حضرها بعض الكبراء.

وافتتح الحفلة بالقرآن الكريم، ثم ألقى صاحب المعالي على زكي العرابي باشا وزير المعارف كلمة الافتتاح، وتلاه الخطباء والشعراء طبقاً للبرنامج الذي نشرناه في العدد الماضي، وكذلك كان في اليوم الثاني.

وقد كانت الحفلتان مظهراً رائعاً للوفاء لحافظ، غير أننا نلاحظ أن كثيراً مما قيل فيها لم يكن معداً لهذه المناسبة، بل كان عهده قبل ذلك، كذلك التضييق في الوقت على الخطباء والشعراء كاد يؤدي إلى الإخلال بالغرض منه، فان عدم إتمام الخطب والقصائد انصياعا لقانون الإذاعة لم يساعد على إيضاح النواحي المختلفة للشاعر المحتفل بإحياء ذكراه - التي يتناولها الخطباء الشعراء، وقد كان أحرى بلجنة الاحتفال أن تختزل الخطباء والشعراء، وأن تقدر لكل خطيب وكل شاعر من الوقت ما يتسع لإلقاء كلمته

ولعل لنا عودة إلى الكتابة عن الحفلة وما قيل فيها وتناوله بما يعن لنا من النقد

ص: 67

أسبوع الجاحظ في الجامعة المصرية

ستحتفل كلية الآداب بالجامعة المصرية بإقامة أسبوع للجاحظ بمناسبة مرور أحد عشر قرنا على وفاته ابتداء من يوم 25 مارس، وهذه هي موضوعات المحاضرات وأسماء المحاضرين موزعة على أيام الأسبوع:

كلمة الافتتاح:

حياة الجاحظ: للأستاذ عبد الوهاب عزاماليوم الأول

ثقافة الجاحظ: للأستاذ احمد أمين

منهج تفكير الجاحظ: للأستاذ أمين الخولياليوم الثاني

أسلوب الجاحظ: للأستاذ عبد الوهاب حموده

الجاحظ بين النقد والبلاغة: للأستاذ شوقي ضيفاليوم الثالث

الجاحظ المعتزلي: للأستاذ عبد اللطيف حمزة

كتاب الحيوان: للأستاذ كراوساليوم الرابع

البيان والتبيين: للأستاذ السقا

دعابة الجاحظ: للأستاذ إبراهيم مصطفىاليوم الخامس

مآخذ الجاحظ: للأستاذ احمد الشايب

فكاهة الجاحظ: الدكتور طه حسين بك اليوم السادس

مستقبل الكتاب

هذا موضوع يثير اليوم كثيراً من الجدل. ويتساءل أقطاب التفكير الرفيع اليوم هل سيقضي على الكتاب في المستقبل القريب؟ لقد تناقض قراء الكتب القيمة إلى درجة تثير الجزع في جميع الدوائر الأدبية، والإجماع على أن ذلك يرجع بنوع خاص إلى تأثير السينما والراديو والمجلات المصورة، والمجلات الأسبوعية، وذيوع الأدب الغث من القصص البوليسية وغيرها ذيوعا هائلا؛ بيد أنا قرأنا أخيراً فصلا لكاتب فرنسي كبير يذهب فيه في تعليل هذه الأزمة الأدبية مذهباً آخر؛ فهو يسلم بما للسينما والراديو من أثر في إحداثها، ولكنه يقول إن هناك سببا آخر أثرا، وهو أن أقطاب الكتابة في عصرنا لم يفلحوا في الوصول

ص: 68

إلى العاطفة الشعبية، ففي القرن الماضي مثلا كان كتاب مثل بلزاك وفيتكور هوجو وأميل زولا وفرانسو كوبيه، وغيرهم يصلون بسرعة إلى أعماق قلوب الشعب، ولكن هذه الطبقات الشعبية تكتفي اليوم بقراءة الرواية البوليسية أو مشاهدة السينما؛ وكيف لا يكون ذلك وأكابر كتاب العصر، مثل جيد وبروست وفاليري وغيرهم يقصدون بما يكتبون طبقة أو طبقات معينة من الخاصة؟ فالشعب يقرأ في الواقع ما يكتب له، فإذا نأى عنه عظماء المفكرين فهو بدوره ينأى عنهم.

وهكذا يغدو الميدان حرا لرواج الأدب الغث الرخيص، ويفقد الجمهور شيئا فشيئا الرغبة في تذوق الأدب القيم، ولا يطلب إلا نوعا للتسلية وتمضية أوقات الفراغ في المكتب أو المصنع أو قبيل النوم، ويقضي على كل مجهود يبذل لترويج الكتاب القيم بالفشل لأنه لا يلائم ذوق الجمهور ولا يرضي عواطفه.

ونحن نوافق الكاتب في أهمية هذا التعليل النفسي الذي يقدمه شرحا لازمة الكتاب؛ بيد إننا لا نعتقد أنه بتعليل حاسم، وهناك بلا ريب عوامل كثيرة أخرى لها قيمتها؛ ومن المحقق أن الكتاب فقد كثيرا من نفوذه وسحره القديم بفعل التطورات الفكرية والاجتماعية المعاصرة.

الأستاذ لامبير

وفد على مصر في الأسبوع الماضي العلامة المشترع الفرنسي الكبير المسيو ادوار لامبير عميد معهد القانون المقارن بجامعة ليون، بدعوة من كلية الحقوق المصرية ليلقي سلسلة من المحاضرات القانونية، وقد بدأ الأستاذ فألقى بالفعل محاضرته الأولى. وللأستاذ لامبير روابط علمية قديمة بمصر. فقد كان ناظرا لمدرسة الحقوق الخديوية سنة 1906؛ ومع أنه لم يقم اكثر من عام فانه ترك بها أحسن الأثر، ولما عاد إلى جامعة ليون ألتف حوله هنالك في كلية الحقوق جمهرة من الطلبة المصريين الذين تلقوا دراستهم القانونية تحت إشرافه؛ وهو اليوم جمع حافل، بعض أكابر فقهائنا، ومنهم كثير ممن يشغلون أسمى المناصب. واستمرت العلائق العلمية والودية بين الأستاذ لامبير وبين تلاميذه المصريين من ذلك الحين إلى يومنا؛ وهو يزور مصر لآن بعد ثلاثين عاما، وهو في ذروة نضجه العلمي؛ وقد استقبل الأستاذ من جميع تلاميذه القدماء بالتجلة والتكريم؛ وسيواظب على إلقاء محاضراته (القانون المقارن) وكل ما يمت إليه من المسائل الفقهية والاجتماعية.

ص: 69

مسرحية جديدة لشيلر

المعروف أن الشاعر الألماني الكبير شيلر قد ترك حين وفاته مسرحية لم تكمل، عنوانها (ديمتريوس)؛ وقد لبثت هذه القطعة على نقصها منذ وفاة الشاعر إلى يومنا. وأخيرا عنى الدكتور فيلهلم.

بإتمامها تمشياً مع فكرة الساعة التي ظهرت من جزئها المكتوب. وقد مثلت فعلا لأول مرة بمسرح مايننجن، والمنظور أنها تمثل بعد ذلك في جميع مسارح ألمانيا ثم تنقل إلى مختلف اللغات وتمثل في جميع المسارح الأخرى.

المتاحف المتنقلة

وضعت إدارة متحف السويد القومي مشروعا جديدا للثقافة الفنية القومية خلاصته أن تنظم عرض بعض الآثار والتحف الهامة بصورة دورية وأن تتخذ لعرضها عربة من عربات السكة الحديدية، تصنع بشكل بهو فني، ويمكن تسييرها إلى مختلف المدن؛ وتقوم إدارة السكة الحديدة الآن بصنع هذه العربة الجديدة التي سيطلق عليها (عربة الفن) وستغطى نوافذ هذه العربة بألواح ضوئية لكي تعكس اكبر مقدار من الضوء على الداخل؛ وتضاء بعد الغروب بجهاز كهربائي قوي؛ وستجهز العربة أيضاً بجناح خاص لإلقاء المحاضرات الفنية على الزائرين؛ وسيطوف هذا المتحف المتنقل بالمدن والقرى الواقعة على السكة الحديدية والقريبة منها، ويمكث أياماً في كل منها؛ وتعضد الحكومة هذا المشروع وترى فيه وسيلة حسنة لتعريف الطبقات التي لا تسمح ظروفها بزيارة العاصمة بالكنوز القومية الفنية؛ وترقية ثقافتها الفنية.

لونس كارولين راينر إحدى الفنانات البارزات

من الظواهر الفذة في العصر الحاضر اشتغال كثير من السيدات بالفن وبرز بعضهن فيه - والسيدة لوتسي راينر إحدى هؤلاء البارزات جاءت إلى مصر لأول مرة سنة 1929 وظلت دائبة المشاهدة والبحث وراء المناظر الشرقية الرائعة مسجلة إياها على لوحاتها آنا بزيت وحيناً بالباستيل ومرة بالطبع من لوحات اللينو ليوم التي حفرتها بنفسها لمختلف الألوان.

ص: 70

ولعل من الغريب أن تكون السيدة راينر من فنانات الوقت الحالي، ومع هذا لا تتجه بروحها إلى الفن الحديث الذي يعنى بالموضوعات من حيث معناها قبل العناية بتصويرها دقيقة التفاصيل. لأنك تراها محافظة على تعاليم المدرسة النموذجية (كلاسيك) في معظم لوحاتها.

زرت معرضها بصالة نستري، وشاهدته بعض لوحاتها التي دلت على ما لهذه السيدة مقدرة فائقة في صدق المحاكاة وصدق الاختيار. جمال الإخراج وانسجام الألوان.

فأنت تنتقل من منظر لقهوة بلدية إلى منظر يمثل لك جامع الأزهر في الغروب فتقف أمامه مأخوذاً بقوة ألوانه وانسجام تفاصيله وحسن بيانه، ثم إلى لوحة بشارع الحمزاوي وإلى أخرى ببٍاب المتولي فترى أنك أمام مجهود رائع جدير بالتسجيل والإعجاب.

أما لوحاتها للمناظر الشخصية فكانت مع قلتها نسبياً دليل المقدرة والتفوق، ولا نزال نذكر صورتيها الرائعتين للسيدة مدام الدكتور م ومدام ب.

فبالأولى رأينا كيف استطاعت الفنانة أن تجمع في صورة هذه السيدة بين الرقة والجمال وبين حسن التكوين الإنشائي واختيار الألوان. أما القوة التي انبعثت من عيني السيدة المذكورة فإنها حقيقة جديرة بالإعجاب في أدق معانيه، كما لاحظنا في الصورة الأخرى رقة وعذوبة لا يسهل إخراجها بهذه العناية إلا لمن تمكن من الفن.

ولما كانت هذه السيدة النمسوية الأصل ستعرض لوحاتها في معرض الفن الحديث الذي سيفتح قريبا، فإنا نرجو أن يقبل القراء على مشاهدة هذه المجموعة الرائعة إلى جانب ما سيعرض به من أعمال الفنانين الآخرين

الدكتور أحمد موسى

مجمع علمي في ألمانيا يجمع نوادر المخطوطات عن علوم

القرآن

يقوم المجمع العلمي في بافاريا منذ سنوات عديدة بجمع الكتب والنوادر المخطوطة باللغة العربية والمؤلفات الخاصة بالقرآن الكريم وعلومه والقراءات وتاريخ القرآن. وقد اقتنى من ذلك مجموعات كبيرة بعضها امتلك أصوله الخطية وبعضها استنسخ منه لوحات

ص: 71

فوتوغرافية كاملة. وأسس بهذه المجموعات كلها متحفاً خاصا كبير القيمة. وشرع بعد ذلك يطبع على نفقته بعض الكتب ذوات القيمة منها

وقد فكر المجمع بعد ذلك في أن تقوم جهة من الجهات التي يعنيها أمر هذه العلوم بطبع ما بقي من هذه الكتب وهو كثير. ورأى أن أولى الجهات بتقدير مثل هذه المجموعة هي الأزهر الشريف والحكومة المصرية. فأوفد أحد أعضائه وهو الدكتور برتزل إلى مصر للتفاهم في هذا الأمر.

وقد قدم الأستاذ برتزل إلى رياسة الأزهر مذكرة تفصيلية بما قام به المجمع العلمي في بافاريا في هذا الشأن والقيمة العلمية والأدبية والتاريخية التي تقدر بها مجموعات الكتب التي حصل عليها أو على لوحاتها الفوتوغرافية منها. وشرح لرياسة الأزهر فكرة المجمع في طبعها تحت إشراف الأزهر وعلى نفقته. وما يكون لذلك من الأثر في نشرها وتقديرها وإخراجها في عناية وضبط وإتقان. وشفع مذكرته بقائمة بأسماء الكتب التي حصل عليها المجمع والكتب التي قام بطبعها في ألمانيا.

وقد أحالت مشيخة الأزهر هذه المقترحات والمذكرة الملحقة بها إلى الأستاذ محمد فريد وجدي مدير مجلة الأزهر لدرسها وإبداء الرأي فيها وانتهى الأستاذ وجدي من درسها وأبدى رأيه إلى رياسة الأزهر

وقد قابل الدكتور برتزل أمس صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في مكتبه قبل ظهر أمس وتباحثا في هذا الموضوع.

وقد أعرب المجمع عن استعداده أن يقدم إلى مشيخة الأزهر بعض الألواح الفوتوغرافية لهذه الكتب ليمكن رياسته أن تحكم على قيمة هذه المؤلفات وأصحابها قبل إقرار طبعها تحت إشراف الأزهر وتحمله نفقاتها. ولذلك أعرب المجمع عن استعداده لان يرسل إليه الأزهر أحد رجاله لبحث هذه المخطوطات أو تصويرها في لوحات خاصة لمشيخة الأزهر لتتمكن بمعرفة الأخصائيين من رجالها من تقرير المجموعة التي يريد المجمع طبعها والتنازل في نظير نشرها عن جميع الحقوق والنفقات التي تكبدها في سبيل الحصول عليها في سنين طويلة.

إلى صاحب رسالة المنبر الأستاذ فليكس فارس

ص: 72

قرأت كتابك (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) فما احسن ما أبدعت وما أبدع ما أحسنت، لكأن الشرق هو ألقى حكمته في فمك وأرسل كلمته من قلمك، ثم نصب لك منبره العالي وقال لك - قم فتكلم.

لم أرك انحرفت عن الحقيقة ولا ملت عن وجه الرأي ولا نزعت إلى تقليد ولا جنحت إلى متابعة ولا غرك اسم فيلسوف ولا خدعك اسم كاذب، بل كنت كالسيف لا يعمل إلا عمل حده القاطع ضاربا في كل مرة ضربته في كل مرة.

وفي كتابك أنات هي رعد قلبك الحر، وفي بيانك إشراق هو نور نفسك القوية، فلا جرم كان ما كتبته من الكلام الروحي البليغ الذي يقرأ بالعين ويسمع في النفس في وقت واحد

ولقد أدركت بفطرتك السليمة وروحك الملهمة ما في دين الفطرة من الحكمة الإسلامية البالغة وجئت من ذلك بأشياء كأنها من نبع الوحي، فكنت بعقلك وذكائك وإحساسك النبيل صورة أخرى لحكيم الألمان وشاعرهم (جيته) حين قال: - إذا كان هذا هو الإسلام فكلنا مسلمون.

حياك الله وأدام النفع بك وأمتع بأدبك والسلام!

من المخلص

مصطفى صادق الرافعي

مؤتمر اللاسلكي الدولي

في شهر فبراير سنة 1938 يعقد في القاهرة المؤتمر الدولي اللاسلكي وقد وجهت وزارة الخارجية الدعوات إلى الدول التي تشترك في أعمال هذا المؤتمر كما وجهتها إلى اللجنة المختصة بجمعية الأمم.

وبهذه المناسبة نذكر أن لمصر مطالب هامة ستعرضها على هذا المؤتمر وأهمها أن يكون لها موجة دولية خاصة بها. وقد سبق أن طلبت مصر هذا الطلب في المؤتمر الذي عقد في لوسرن ولكنها لم تفز إلا بالموجة الحالية التي تشاركها فيها محطة بروكسل ببلجيكا. وقد عدل هذا الطلب أخيراً وجعل بموجتين بدلا من موجة واحدة

وهاتان الموجتان المطلوبتان من الموجات القصيرة حتى يمكن أن تنقل الإذاعة اللاسلكية

ص: 73

المصرية بجلاء إلى كثير من الأقطار التي ترغب في الاستماع إلى الإذاعات المصرية وفي مقدمتها القرآن الكريم

وإذا رخص لمصر بهاتين الموجتين أمكن عندئذ إنشاء محطتين للإذاعة بطريق هاتين الموجتين قوة كل محطة من 15 إلى 20 كيلوات بينما المحطة المصرية الحالية وقوتها 20 كيلوات لا تسمع بجلاء تام في بعض الأقطار الخارجية

على أن في النية تقوية المحطة الحالية حتى تبلغ قوتها 100 كيلوات أي خمسة أضعاف القوة الحالية وستخصص للبرنامج العربي، أما المحطة أو المحطتان الأخريان المراد إنشاؤهما فسيخصصان للإذاعات الأخرى

البعثات العلمية

أدرج في الميزانية الجديدة للبعثات العلمية 100. 000 جنيه منها 27800 جنيه لبعثة وزارة المعارف و 39600 جنيه لبعثة الجامعة المصرية و 4200 جنيه لبعثة وزارة الزراعة و 5000 جنيه لبعثة وزارة الصحة و 5400 جنيه لبعثة وزارة المالية و 3300 جنيه لبعثة وزارة الأشغال و 3000 جنيه لبعثة وزارة المواصلات و 900 جنيه لبعثة وزارة التجارة والصناعة و400 جنيه لبعثة وزارة الحقانية و 7300 جنيه للامتدادات و 3000 جنيه للبعثات الصيفية القصيرة المدى و 1500 جنيه نفقة زوجات الأعضاء في الخارج و 3000 جنيه لإسعاف الطلبة الذين يدرسون في الخارج على نفقتهم فيكون المجموع 104400 ولكن المنتظر عدم صرف مبلغ 4400 جنيه فيكون الاعتماد المقرر هو مائة ألف جنيه فقط

أما عدد أعضاء البعثات فيبلغ 290 عضوا منهم 75 عضوا ببعثة وزارة المعارف و144 عضوا ببعثة الجامعة و12 عضوا موفدون من الزراعة و9 أعضاء موفدون من الصحة و15 عضوا موفدون من المالية و 8 أعضاء موفودون من الأشغال و 4 أعضاء موفودون من المواصلات وعضوان موفدان من التجارة وعضو واحد من الحقانية

ص: 74

‌الكتب

البدائع

تأليف الدكتور زكي مبارك

للأستاذ يوسف محمد

كل كتاب بعنوان خلاب لم يخدعني فحواه ولم يغرني مرماه ولم يخلف ظني واضعه (كأطباق الذهب) و (نسيم الصبا) بل لما ألقى كتابا عنوانه أخاذ لم يخيب وهمي إلا هذا الكتاب الممتع الذي أنا بصدده، ففي هذه المرة فقط قد طابق عنوان الكتاب الواقع، وطابق باطنه ظاهره فهو على الحقيقة سلسلة نفيسة من الروائع والبدائع خليقة أن تخلد في مجلد

حسبك أن تقلبه حتى توقفك فصوله لطرافتها، وحتى تنفرج لك صفحاته عن معرض. وعن أمتع الأشياء، أو عن حديقة غناء فيها ما فيها من بهيج الأزهار ويانع الثمار حتى لتحار أيها تقطف وأيها تجني لفرط البهر إذ كلها بهي نهى، كأنك صبي فتنته معروضات اللعب المتباينة الأشكال أو شره إزاء لذائذ الصحاف والألوان

الكتاب في جملته أشبه شيء بموسوعة موجزة، دال على ذهن خصب وعقل رصين وقريحة طلقة وسعة اطلاع لا تغيب عنها لا صغيرة ولا كبيرة، أحاط صاحبها بالغابر والحاضر والآجل، فبينا هو يذكرك بماضيك لأنك لا تفهم حاضرك إلا به إذا هو يتابع عصره ويساير النهضة ويساهم فيها ثم يفكر في المصير لأن الأمس واليوم يهيئان الغد

فإذا ما تصفحت الكتاب فكأنك تقوم برحلة شائقة تتفتح فيها لذهنك آفاق جديدة وأبواب مغلقة وتنثال عليك آراء لم تكن في حسبانك، فتحس تجدداً في الفكر والشعور كمن استفاق من نوم عميق معافا مستجما، يخرج بك من حديث أدبي معجب إلى موضوع غزل مطرب، وينتقل بك من نقد رفيق لاذع إلى حديث عن سيرة عظيم بارع، ثم يستدرجك من هذا إلى تفطينك إلى رائع الشعر الدفين ودقيق المعنى الكمين، ثم يتجاوز معك إلى النظر في بعض وجوه الأخلاق والاجتماع وكشف الغطاء عن طلاء بعض الطباع وبعد هذا المطاف يرجع بك إلى الوراء، إلى الماضي البعيد أو القريب فيريك من آياته عجبا، ولعلك تزعم أن هذه الفصول أشتات وتفاريق تعوزها الوحدة المنسجمة، ولكن مهلا: روح الكاتب السارية فيها

ص: 75

جميعا سريان الماء في الأعواد كفيلة بالوصال الوثيق

ومن خصائص هذا الكاتب أنه يملك ناصيته الحاسة الأدبية فيما يكتب، ولو أنه قليل الاستعارات والمحسنات، فإنه يرى الأشياء في دقائقها وجملتها كالمتفنن متأثرا بمفاتنها، مستغنياً عن التصريح بالتلميح وعن العبارة بالإشارة حتى يوحي إليك بالمعاني إيحاء، يصف لك ما رأى وما سمع ولكن لا يريد الوصف للوصف وإنما لإماطة اللثام عن جانب من جوانب نفسية الناس أو يبن خبيثة من خبايا الجماعة لأن الإنسان لا يعنيه إلا الإنسان، وإن غضب أو رضى استرسل في الأسلوب الخطابي الفياض وتدفقت لعناته ومسراته كنهر زخار، أقرأ مثلا (عيد الحرية في باريس) و (أخلاق الناس) و (بين العقل والهوى) تر صدق ما أقول واكثر ما تتجلى فيه هذه الروح الأدبية حين يتناول الشعر بالتحليل والتعليل فإذا تحدث عنه ذوقك إياه تذويق الخبير، وبصرك بروعته تبصير العارف البصير، كأنما تلبس نفس الشاعر ثم عرفك بالصحيح منه والمزيوف كالصيرف الماهر، اقرأ في الكتاب (نقد ديوان شوقي) ثم قصائد المديح في الأدب العربي توقن بما قدمت إيقانا تاما فلا أحد حبذ إليّ الشعر العربي وقد كنت منه نافرا إلا هذا النقاد الحاذق.

ثم يمتاز هذا الكاتب بالصدق والصراحة حيث تمثله كتاباته كل التمثيل وتشف عن عقيلته كما يشف الثوب الرقيق عن الجسم الرشيق، تنم سطوره عن نزوعه إلى القديم القويم الجدير بالرعاية وتشى بمسايرته لعصره، ويشيع فيها الروح الديني الصوفي فهو حين يصور لك سحر باريس وفتنة باريس يصورها في لهف وشوق كمتعبد ربي على الحشمة والوقار وكبت النفس الأمارة بالسوء ثم إذا هو قد لان ووهن وبروعة الجمال افتتن فذهب عقله شعاعا وانتفى وقاره ضياعا، ولعل ما تميز به من وضوح الأسلوب والجلاء ناشئ من الصراحة المتناهية لأن من أسباب الغموض والاستغلاق ميل الكاتب إلى المداراة والتعمية والتنكر، ومن هنا كانت شخصيته قوية عصية على التقليد والفناء في غيرها، فهو لم يتأثر بأحد ممن لازمهم وأخذ عنهم لا في نمط التفكير ولا في طراز التعبير.

ربما ساءلت نفسك مرة أن عددت الجهل مزريا بك: لماذا اقرأ؟ فأنت تقرأ للهو والتسلية ونفي الملال إن كنت من أهل الفراغ ثم لتسر من مصادفتك لما يشبه ما يجول في خاطرك من المعاني ومن لقائك من يشاطرك في مشاعرك ثم لتصلح ما اعوج وفسد من أفكارك

ص: 76

بالقياس إلى أفكار سواك إذ لابد من تصحيح التجارب الشخصية وتوطيدها بالقراءة، ثم لتضيف إلى ما تعلم ما لا تعلم فتزداد ثروة على ثروة ثم لتستوضح على ضوء القراءة ما يقوم بذهنك من المعاني العائمة القلقة الدائرة في شبه الظل ثم لتمرن فكرك وتروضه على التأمل المستمر حتى لا يعلوه الصدأ وتذهب عنه مرونته ومتانته وحتى لا يصيبه الخمود والجمود والركود لأن القراءة ضرب من التفكير إذ فيها محاولة لمتابعة الكاتب في سير تفكيره وإلا استدق عليك واستغلق ثم لترهف ذوقك لأن الذوق الرفيع لا يكتسب إلا بطول القراءة واستدامة الموازنة بين الجيد والرديء والغث والثمين ثم لننبه ما غفا من عقلك وخمد من قبلك فكل هذه تكتسب من كتاب (البدائع) فعليك به تجد فيه المسلاة والمأساة والنور.

منذ انتشار الصحافة واتساع دائرتها ازدهر أول ما ازدهر عندنا من ألوان الأدب ما يسمونه بأدب المقال حيث يسع هذا النوع بوجه عام جميع فنون القول والأغراض والبحوث في فصول ورسائل تطول أو تقصر بحسب ما يقتضي المقام، فيصاغ في هذا القالب من الأدب فصول في النقد ونبذ في التاريخ وأبحاث في الأخلاق والاجتماع وتصب فيه النظرات والخطرات والمشاهدات حتى الأقاصيص الموجزة الصغيرة وقد كان هذا النوع من الكتابة عاملا مهما في ترقية النثر إلى حد كبير وقد ساهم صاحب كتاب (البدائع) بفصوله في إعلاء شأن أدب المقال كما ساهم في هذا المجهود الجليل غيره من الأدباء الأجلاء أمثال الأساتذة الجهابذة أحمد أمين ومصطفى صادق الرافعي والزيات والمازني وعبد الوهاب عزام سواهم من أئمة الأدب وأساطينه.

إلا أننا نؤاخذ صاحب (البدائع) ونعتب عليه وننكر كل الإنكار ما أدرجه في الكتاب عن طيش ونزق من بعض فصول في الخصومة بينه وبين أحد أعلام الأدب والبيان وكان لزاماً عليه أن يتناساها لا أن يحييها بوضعها في الكتاب فان هذه الفصول الشائنة بين سائرها لهي كالنقط السوداء في الصفحة البيضاء يعافها الذوق واللياقة والكياسة.

يوسف محمد

1

ص: 77