الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 194
- بتاريخ: 22 - 03 - 1937
جميل صدقي الزهاوي بمناسبة ذكراه الأولى
(3)
كأنما تفتح عقل الزهاوي قبل أن يتيقظ هواه، وحلق فكره قبل أن ينهض خياله، وأدرك علمه قبل أن يولد شعره! فلقد كان يهدف للثلاثين من عمره وليس له من أولمب الشعر وحي، ولا في بَرْناس الشعراء محل؛ إنما كان في صدر شبابه ينظر في العلوم الفلسفية والطبيعية؛ وسبيله إلى ذلك ما تُرجم من المقالات في الكتب والمجلات، لأنه لم يعرف من اللغات غير العربية والفارسية والتركية والكردية، وكلها لا تصل فكر الإنسان بالتطور، ولا تنقع غلة الظمآن إلى المعرفة. ومع ذلك استبطن الزهاوي دخائل هذه العلوم بعقله النافذ حتى ألف كتاب (الكائنات) في الفلسفة، وكتاب (الجاذبية وتعليلها) في الطبيعة، ذهب فيهما مذهباً خالف به أقطاب العلم وجهابذة النظر، كقوله: إن علة الجاذبية ليست جذب المادة للمادة، وإنما هي دفعها لها بسبب ما تشعه من الإلكترونات. وسواء أنهض دليله أم دحض فإنه يدل على النظر الثاقب والفكر المستقل. ورجاحة عقله هي التي حملته وهو في ربيع العمر على أن يشرف على ظواهر الكون وحقائق الوجود من سماء فكره لا من سماء خياله؛ والمعهود في عامة الشعراء أن يكونوا على النقيض من ذلك. فلما هيأته الأقدار الجميلة لرسالة الشعر كان فكره أقوى من خياله وأسمى من عاطفته؛ والفكر والخيال والعاطفة هن ملكات النفس الأدبية الثلاث، يصدر عنهن فيض القريحة، ويَرِد إليهن إلهام العبقرية؛ ولكن الشعر لا يهيمن عليه إلا الخيال والعاطفة؛ أما حاجته إلى الفكر فمحدودة بمقدار ما يضيء لهما الطريق حتى يأمنا الضلالة. فالفكر للعبقرية بمثابة العين، والخيال والعاطفة لها بمثابة الجناحين. فإذا تغلبا عليه كان الشرود والزيغ، وإن تغلب عليهما كان الجفاف والعقم؛ ومن هنا جردوا أكثر ما قال أبو العلاء وأقل ما نظم أبو الطيب من الشاعرية. والزهاوي شاعر من شعراء الفكرة، له البصيرة الناقدة والفطنة النافذة، وليس له الأذن التي (تموسق) ولا القريحة التي تصنع. فاللفظ قد لا يختار، والوزن قد لا يتسق، والأسلوب قد لا ينسجم، ولكن الفكرة الحية الجريئة تعج بين الأبيات المتخاذلة عجيج الأمواج المزبدة بين الشواطئ المنهارة.
الزهاوي عقلية أفاقة وحيوية دفاقة وطبيعة ساحرة؛ وهذا التوثب الحماسي فيه هو الذي
جعله يؤثر النظم في تقييد خواطره. وهذه الحماسة قد تنفك أحياناً عن الفكرة لكلالها أو ابتذالها، فيذهب الشاعر، ولا يبقى الفيلسوف، ويكون الزهاوي معك كالآلة تدور مليئة متزنة ما دامت على شيء، فإذا نفذت مادتها على فجأة انطلقت تدور على الفارغ سريعة مضطربة، ذلك لأن الفكرة الفلسفية هي المادة الأصيلة في شعر الزهاوي. وليس الشعر كله فكرة. وإنما هو فضلاً عنها صورة يرسمها الخيال، وشعور تبعثه العاطفة. على أن فكرة الفيلسوف واضحة، وجمالها في هذا الوضوح وفكرة الشاعر خفية، وسحرها في هذا الخفاء. فإما أن تدرس الطبيعة لتعرفها وتشرحها فتكون صاحب فلسفة، وإما أن تدرسها لتقلدها وتصورها فتكون صاحب شعر. أما الخلط بين الفلسفة والشعر لأن الشاعر يدرس ظواهر الكون، فكالخلط بين التصوير والتشريح لأن المصور يدرس بواطن الجسم.
كان الزهاوي كشوقي حريصاً على متابعة العصر ومسايرة التطور؛ ومنشأ هذا الحرص فيهما طبع مرن يطلب التجدد، وحس مرهف يأنف التخلف. ويزيد الزهاوي أن الفخر يزهاه، والتيه يذهب به، فيحب الثناء ويبغض النقد. فهو لفَرَقه من صفة القدم يسبق الشباب إلى التجديد، ولنفوره من معرة الجمود يذهب بالرأي إلى التطرف، ولطمعه في نباهة الذكر يجاري ميول الخاصة ويعارض هوى العامة. ومن ثم كان أكثر شعره تشنيعاً على الاستبداد بمهاجمة أهل الحكم، وزراية على الجمود بمحاربة أهل الدين، وتحقيراً للتأخر بمصادمة مألوف الأمة.
والزهاوي بعد هذا وفوق هذا كان رسولا من رسل الفكرة الإنسانية، وبطلاً من أبطال النهضة العربية. كان يهزج بأغاريد الفجر على ضفاف دجلة فتتردد أصداؤها الموقظة على ربوات بَرَدى، وخمائل النيل، وسواحل المغرب. وأدب الزهاوي وأمثاله هو الذي وصل القلوب العربية في مجاهل القرون السود بخيوط إلهية غير منظورة، حتى استطاعت اليوم أن تتعارف وتتآلف وتتحالف؛ ثم تسعى لتعود أمة كما كانت، وتقوى لتصبح دولة كما يجب أن تكون.
أحمد حسن الزيات
-
حديث المال
بقلم إبراهيم عبد القادر المازني
جلسنا ثلاثة من الأخوان نتحدث عن المال وكيف ينال - فقد مات زخاروف رجل الأسرار أو الظلام كما يسمونه وصار ذكره على كل لسان ولهجت الصحف بملايينه وأعماله الصحيحة أو الموهومة وأخذ عنها الناس وراحوا يلغطون. وأحسب أن لو كان زخاروف حياً واستطاع أن يسمع ما يروى عنه ويعزى إليه لأذهله ذلك ويكفي أنه ما من ثورة أو حرب شبت في الخمسين سنة الأخيرة إلا وهو فيما يقال مضرم نارها.
وقلت لصديقي: (أما أنا فلست أعرف وسيلة للغنى إلا هذه - أفتح عيني في الصباح وأدس يدي تحت الوسادة لأتناول الساعة وأنظر إلى وجهها فأجد مكانها كوما عالياً من الأوراق المالية الكبيرة. وعلى ذكر هذه الأوراق الكبيرة أقول - ولا فخر - أني ما رأيت ورقة بمائة جنيه إلا مرة واحدة في حياتي. . أم تراها كانت بخمسين فقط. . والله ما أدري. . الحاصل. . أُعطيتُها لأبدلها وآخذ منها قدرا معينا وأرد الباقي فوضعتها في جيب البنطلون وأبقيت كفي عليها خوفاً من النشل وذهبت إلى البنك - المصرف كما لا يسمى - ولا أطيل. وحسبي أن أقول أن الرجل كان ينظر إلي نظرة من تحدثه نفسه بأنه يحسن حجزي حتى تجيء (النيابة). . وصار معي عدد كبير من الورق فوضعت حقي في جيب والباقي في جيب آخر اتقاءً للاختلاط والحاجة إلى إعادة العد والحساب. وقد تعلمان كرهي لهذا الحساب أو جهلي به على الأصح. وجاء الليل - وكنت أعمل في ذلك الوقت في جريدة صباحية، فأنا اعمل بالليل وأنام بالنهار - وتذكرت أني على موعد مع صديق في الساعة الحادية عشرة وكنت جائعاً فقلت أذهب إلى محل جديد في شارع عماد الدين وآكل لقمة أو اثنتين من (السندويتش) ثم أذهب إلى موعدي. وكنت قد وضعت الأوراق في المحفظة - على خلاف عادتي - ولم يكن معي من النقود الصغيرة غير قرش واحد. وحدثتني نفسي وأنا آكل أنه يحسن أن أشتري شيئاً من هذه الفاكهة فإن منظرها مغر، فأخرجت جنيهاً ولكن الزحام كان شديداً فكادت روحي تزهق ورأيت أن الأمر سيطول فدسست الجنيه في جيبي وانصرفت ولقيت صاحبي على (القهوة) وعدت إلى البيت فأحسست وأنا أخلع ثيابي أن (الجاكته) خفيفة فنظرت فيها فإذا المحفظة قد طارت. أي والله. قطع النشال الجيب
بسكين أو موسى أو لا أدري ماذا وأخذ المحفظة. .)
وعدنا بعد هذه الذكرى الأليمة إلى زخاروف والملايين فقال أحد الصديقين: (لماذا لا نرى في الشرق ناساً يصبحون أصحاب ملايين كما يحدث في الغرب كثيراً. .)
فقال ثالثنا: (إن الغنى العريض الواسع يستفاد من الصناعة والتجارة لا من الزراعة فإنها محدودة وكل عمل لا يقبل التوسيع والنماء المطردين لا يمكن أن تجيء منه ملايين ولا ما يقرب منها)
فقلت: (ولا تنس يا صاحبي أن الخِطار في حكم المعدوم في الشرق. ولا بد من المغامرة لطالب الثروة الكبيرة السريعة. ولعل إخواننا العرب أعظم منا جرأةً وإقداما وأكثر استعداداً للمغامرة. والمحقق أن المصريين أطلب للراحة والدعة والاطمئنان على الرزق. وهم يرضون بالقليل إذا كفل لهم الاطمئنان وقد كانوا إلى بضع سنوات يعدون صاحب التجارة أحط مقاماً من صاحب الزراعة وأحسب أن هذا لأن رزق الزارع مكفول ولكن الرزق من التجارة على كف عفريت. واسمعوا هذه الحكاية: لما عدت في العام الماضي من العراق جاءني صديق حميم وذكر لي أن له صاحبا يشتغل بصناعة الجلود وأنه يرجو مني المعونة ليحتكر جلود الأضاحي في موسم الحج في الحجاز فقلت له: إني أعرف أن الحكومة العربية تكره الاحتكارات ولا ترضى أن تظلم رعاياها على نحو ما يبغي صاحبك ثم أني لا أستطيع أن استغل علاقتي بهؤلاء القوم، ولكني أشير بما هو خير من ذلك واجدي على صاحبك إذا كان عاقلاً. . واقترحت عليه أن يؤلف صاحبه شركة مصرية عراقية لإنشاء مصنع للجلود ومدبغة في بغداد وقلت له: إني أستطيع بمساعدة إخواني في مصر والعراق أن أُقنع جماعة من العراقيين بالدخول في هذه الشركة. ولصاحبك أن يدخل فيها بالقدر الذي هو في طوقه. والجلود في العراق وفيرة ورخيصة، وجلبها من البلاد العربية إلى بغداد أسهل وأقل كلفة من جلبها إلى مصر، أما الأسواق فعديدة. فهناك أسواق العراق نفسها - والقوم هناك وطنيون عمليون يؤثرون صناعات بلادهم، والحكومة عظيمة التشجيع لها ولا أعتقد أنها تتردد في أخذ حاجة جيشها من هذا المصنع إذا أُنشئ ثم أن هناك أسواق جزيرة العرب وأسواق فلسطين وأسواق الشام وفي هذه البلاد كلها يفضل الرجل مصنوعات بلاده فالمشروع ولا شك في حسن عائدته ولا خوف من الخسارة فيه وأنا
مستعد أن أطلق الصحافة والأدب وأعمل معه وأقوم له بكل ما يستدعيه الحصول على رأس المال أولا واستيراد الجلود من الجهات المختلفة وتصريف المصنوعات في أسواق الجزيرة والعراق وفلسطين وسوريا، فاقترح هذا على صاحبك وانظر ماذا يرى. . ووقف الأمر عند هذا الحد لأن في المشروع مخاطرة بالمال!!. ولست أدري أين المخاطرة ولكن هذا ما كان. وهكذا ضاعت عليَّ فرصة حسنة للتحرر من رق الصحافة والأدب.)
فسألني أحدهما: (أو تكره الصحافة والأدب؟)
(قلت: لا أكرههما ولكن أعمل فيهما كالحمار ولا أفيد منهما إلا العناء. وإذا وسعني أن أهجرهما إلا ما هو خير وأجدى فلماذا لا أفعل؟ وصدقني حين أقول لك إني لا أكف عن التفكير في وسيلة للنجاة منهما. وقد خطر لي أن أتخذ جراجاً (ولكن الجراج) لا يكون إلا محدوداً وأنا أريد عملاً يحتمل التوسيع على الأيام. وخطر لي أن أتخذ مطبعة ولكني رأيت أن المنافسة الشديدة بين أصحاب المطابع توشك أن تؤدي إلى خرابهم جميعاً. وخطر لي أن أكون بائع (طعميه) وهذا لا يتطلب رأس مال يستحق الذكر، واقتنعت بأن هذا خير ما يمكن أن أصنع وأنه أحسن وجه للخلاص من الصحافة، فذهبت أبحث عن محل صالح ولكني كنت كلما عثرت على واحد واهتديت إلى مكان يمكن أن تروج فيه هذه البضاعة أجد أن غيري قد سبقني. . ولكني لم أقنط من رحمة الله. . وما زلت أرجو أن أوفق إلى عمل صالح غير هذا الأدب الذي لا فائدة منه لأحد)
فسألني ثانيهما: (هل تتكلم جاداً؟)
قلت: (أي والله. . لقد قرأت كل ما وسعني أن أقرأ وكتبت كل ما دخل في طوقي أن أكتب، فهل أفدت إلا الغرور والنفخة الكذابة والصيت الفارغ: وإلا العداوات والخصومات التي لا داعي لها. . لا يا سيدي. . وإني لمستعد أن أنزل لك عن نبوغي وعبقريتي وخيالي الخصب ونشاطي الجم ولا أطلب إلا دكاناً صغيرا أقلي فيه (الطعمية) في سيدنا الحسين أو السيدة زينب أو في بولاق. . أقف فيه وأمامي المقلاة وإلى جانبي الزيت - زيت الزيتون من فضلك - والفول المدقوق وعليَّ ثوب أبيض نظيف وورائي الموائد مصفوفة وعليها الأباريق والأكواب. وأُصص الزهر هنا وهناك. والأرض مفروشة بالرمل الأصفر، فإني أريد أن أُرقي صناعة (الطعمية) وأجعل منها فناً. . نعم، خذ أدبي كله
وخلودي أيضاً إذا كانا يستحقان شيئاً واعطني هذا الدكان الصغير وزرني بعد ذلك وشرفني بالأكل عندي وعلى موائدي الأنيقة الجميلة واحسدني يومئذ)
وقمنا صامتين لأن كلامي لم يعجبهما. . ولو أعجبهما لرجوت أن أقنعهما بهذه المبادلة. . ولكن لا بأس. . لا بأس. . ولا بأس أيضاً فلن أعدم صناعة أخرى أهتدي إليها في يوم من الأيام. والعمر الطويل يبلغ الأمل كما تقول العامة في أمثالها الحكيمة التي هي عصارة التجارب الإنسانية على الدهور
إبراهيم عبد القادر المازني
قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حياكم الله يا شباب الجامعة المصرية، لقد كتبتم الكلمات التي تصرخ منها الشياطين. . .
- كلمات لو انتسبن لانتسبت كل واحدة منهن إلى آية مما نزل به الوحي في كتاب الله.
- فطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس).
- وطلب الفصل بين الشبان والفتيات يرجع إلى هذه الآية: (ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن)
- وطلب إيجاد المثل الأخلاقي لهذه الأمة من شبابها المتعلم هو معنى الآية: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة)
- قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا
حياكم الله يا شباب الجامعة؛ لقد كتبتم الكلمات التي يصفق لها العالم الإسلاميُّ كله
كلمات ليس فيها شيء جديد على الإسلام، ولكن كل جديد على المسلمين لا يوجد إلا فيها.
كلمات القوة الروحية التي تريد أن تقود التاريخ مرة أخرى بقوى النصر لا بعوامل الهزيمة
كلمات الشباب الطاهر الذي هو حركة الرقيّ في الأمة كلها، فسيكون منها المحرك للأمة كلها
كلمات ليست قوانين، ولكنها ستكون هي السبب في إصلاح القوانين.
قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا.
يريد الشباب مع حقيقة العلم حقيقة الدين، فإن العلم لا يعلّم الصبر ولا الصدق ولا الذمة.
يريدون قوة النفس مع قوة العقل، فإن القانون الأدبي في الشعب لا يضعه العقل وحده ولا ينفذه وحده.
- يريدون قوة العقيدة حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة ما تعلموه، نفعهم ما اعتقدوه.
يريدون السمو الديني، لأن فكرة إدراك الشهوات بمعناها هي فكرة إدراك الواجبات بغير معناها.
يريدون الشباب السامي الطاهر من الجنسين، كي تولد الأمة الجديدة سامية طاهرة
قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا
أحس الشباب أنهم يفقدون من قوة المناعة الروحية بقدر ما أهملوا من الدين
وما هي الفضائل إلا قوة المناعة من أضدادها؟ فالصدق مناعة من الكذب والشرف مناعة من الخسة.
والشباب المثقل بفروض القوة هو القوة نفسها. وهل الدين إلا فروض القوة على النفس؟
وشباب الشهوات شباب مفلس من رأس ماله الاجتماعي ينفق دائما ولا يكسب أبدا.
والمدارس تخرج شبانها إلى الحياة، فتسألهم الحياة: ماذا تعوّدتم لا ماذا تعلمتم؟
قوة الأخلاق يا شباب؛ قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا.
وَأَحَسَّ الشبابُ معنى كثرة الفتيات في الجامعة، وأدركوا معنى هذه الرقة التي خلقتها الحكمة خالقة.
والمرأة أداة استمالة بالطبيعة، تعمل بغير إرادة ما تعمله بالإرادة لأن رؤيتها أول عملها
نعم إن المغناطيس لا يتحرك حين يجذب، ولكن الحديد يتحرك له حين ينجذب.
ومتى فهم أحدُ الجنسين الجنسَ الآخر، فهمه بإِدراكين لا بإدراك واحد.
وجمالُ المرأة إذا انتهى إلى قلب الرجل، وجمال الرجل إذا استقر في قلب المرأة.
هما حينئذ معنيان، ولكنهما على رغم انف العلم معنيان متزوجان. . . .
لا، لا؛ يا رجال. إنْ كان هناك شيء اسمه حرية الفكر فليس هناك شيء اسمه حرية الأخلاق.
وتقولون: أوربا وتقليد أوربا. ونحن نريد الشباب الذين يعملون لاستقلالنا لا لخضوعنا لأوربا.
وتقولون: إن الجامعات ليست محل الدين. ومن الذي يجهل أنها بهذا صارت محلاً لفوضى الأخلاق؟
وتزعمون أن الشباب تعلموا ما يكفي من الدين في المدارس الابتدائية والثانوية فلا حاجة إليه في الجامعة
أفترون الإسلام دروساً ابتدائية وثانوية فقط؛ أم تريدونه شجرة تغرس هناك لتُقلَع عندكم. . .؟
لا، لا؛ يا رجال الجامعة. إن قنبلة الشباب المجاهد تملأ بالبارود لا بالماء المقطر. . . .
أن الشباب مخلوقون لغير زمنكم، فلا تفسدوا عليهم الحاسة الاجتماعية التي يحسّون بها زمنهم
لا تجعلوهم عبيدَ آرائكم وهم شبابُ الاستقلال إنهم تلاميذكم ولكنهم أيضاً أساتذة الأمة.
لقد تكلم بلسانكم هذا البناء الصغير الذي يسمى الجامعة. وتكلم بألسنتهم هذا البناء الكبير الذي يسمى الوطن.
أما بناؤكم فمحدود بالآراء والأحلام والأفكار؛ وأما الوطن فمحدود بالمطامع والحوادث والحقائق.
لا لا. إن المسلمين الذين هَدَوا العالم، قد هدوه بالروح الدينية التي كانوا يعملون بها بأحلام الفلاسفة
لا لا. إن الفضيلة فطرة لا علم، وطبيعة لا قانون، وعقيدة لا فكرة؛ وأساسها أخلاقُ الدين لا آراء الكتب
من هذا المتكلم يقول للأمة: (الجامعيون لن يقبلوا أن يدخل أحد في شئونهم مهما يكن أمره).
أهذا صوت جرس المدرسة لأطفال المدرسة؟: تِرِن تِرِنْ. . . . فيجتمعون وينصاعون؟
كلا يا رجل، ليس في الجامعة قالب يصَب فيه المسلمون على قياسك الذي تريد.
أن التعليم في الجامعة بغير دين يعصم الشخصية، هو تعليم الرذيلة تعليمَها العالي
(ويستنبئونك أحق هو إي وربي إنه لَحق وما أنتم بمعجزين).
قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
حمَّام فرعون
للأستاذ حسن جلال
علمت وأنا في مدينة الإسماعيلية بأن جماعة من رواد الجبال سبق لهم القيام برحلة إلى عين كبريتية في جبل من الجبال التي في جنوب مدينة السويس، وأنهم يعاودون التفكير في تكرار هذه الرحلة ويتهيئون لها، فهفت نفسي إلى الاشتراك معهم لهوى قديم بيني وبين تلك الجهات كان يدفعني منذ سنين إلى أن أقضي سحابة يوم الجمعة من كل أسبوع متقلباً بين ربوع جبال القاهرة وضواحيها.
وكانت تلك الجماعة تتألف من:
1 -
أحد أعضاء مجلس النواب وشيخين من أقاربه.
2 -
ومن تاجر من كبار تجار الإسماعيلية
3 -
ومن تاجر آخر من عيون تجار القاهرة
4 -
ثم من رجل أجنبي من رجال الأعمال إيطالي الجنسية له مزارع واسعة في حدود مدينة الإسماعيلية.
فأما عضو النواب وقريباه فكانوا يشكون الروماتزم، وكان هذا هو الذي يحفزهم إلى ارتياد تلك العين، فأن لها على ما يقول الناس خواص سحرية في شفاء الأمراض.
وأما تاجر القاهرة فقد سمع بحديث تلك العين من النائب فأغراه ذلك على أن يجرب سحرها في أوصاله.
وأما تاجر الإسماعيلية فكان على ما فهمت رجلاً لا يحتاج إلى الاستشفاء لا بالحار ولا بالبارد، وكل همه في الحياة أن يجلس في آخر النهار في بعض المقاهي ونرجيلته بين ركبتيه يمصها فتقهقه له حتى تنقطع أنفاسها فيخليها لصاحبها ويعود إلى داره راضياً مرضياً، وكانت الأسباب كلها منقطعة بينه وبين تلك الرحلة لولا أن له سيارة جميلة أحب صاحبنا النائب أن يضمها إلى القافلة فدعاه للاشتراك فلبى الدعوة.
وأما التاجر الإيطالي فكان هو عماد الرحلة وبطلها لأنه كان قائدها الذي يدلها على الطريق في وسط الأودية المهجورة والجبال المتشابهة، يعاونه على ذلك دليل بدوي ممن يعملون في مزارعه، ولم يكن له من حافز ظاهر إلى الاشتراك في الرحلة غير ميله إلى الرياضة، أما
أن أمثال هذه الرحلة قد تساعده على تنمية معلوماته عن الصحاري المصرية وطرقاتها فهذا حديث آخر لا محل للخوض فيه الآن، وللقارئ أن يستنتج لنفسه ما يشاء. . .
هؤلاء هم أشخاص الجماعة
أما النبع نفسه فقد سمعت أنه نبع حار يخرج من الصخر، ويصب في مياه البحر الأحمر. وأنه نبع (مكبرت) كالنبع الذي في حلوان والفرق بين الاثنين أن هذا بارد. أما (حمام فرعون) فهو يخرج من بطن الجبل شديد الحرارة حتى لتلقى السمكة في مائه الدافق فتنضج في دقائق معدودات. وعلمت أيضاً أن كهفاً يقوم إلى جانب النبع. إذا دخله الإنسان فإنه لا يطيق البقاء فيه أكثر من ربع ساعة لفرط حرارته وشدة ما يعاني الإنسان وهو بداخله من الوهج الذي يتفصد له الجسم عرقاً. وقيل لي إن من دخل هذا الكهف وهو يشكو (الرطوبة) فإنه لا يلبث أن يخرج منه كما ولدته أُمه صحة وعافية. أما العين فإنها وإن خرجت من ينبوعها حارة شديدة الحرارة ألا أنها تجري على شاطئ البحر مسافة طويلة قبل أن تصب فيه. وأنها في مجراها هذا تتفاوت حرارتها. فهي تبدأ حارة لا تطاق ثم تتناقص حرارتها كلما ابتعدت عن أصل النبع، حتى إذا جاءت ماء البحر وصلت وهي فاترة يطيقها كل إنسان. وقال لي من كان يحدثني عنها: وإذا كانت مياه حلوان قد بلغت ما بلغت من الشهرة العالمية وهي باردة يرفعون حرارتها بأنابيب البخار، فلك أن تصور لنفسك مبلغ ما تمتاز به هذه العين وهي تخرج من بطن الأرض حارة حرارة طبيعية لم تتدخل فيها يد الإنسان. وناهيك بحمام من مائها تعقبه خلوة قصيرة في ذلك الكهف الذي يليها. . . إن الإنسان ليدخلها ثم يخرج من الكهف بعدها كما يدخل المنديل القذر في يد (الغسالة) ثم يخرج جافاً ناصعاً من عند (الكواء)!
وكان لي صاحب من ضباط البوليس أرتاح إلى صحبته فعرضت عليه رغبتي في الاشتراك في تلك الرحلة فتولى عني مفاوضة الجماعة في أمر انضمامنا إليهم. وعاد يبشرني بأنهم يرحبون بنا على شرط أن نكون ضيوفهم في الحل والترحال؛ وتذللت بذلك آخر عقبة كنت أتوهم أنها تعترضني في سبيل تحقيق رغبتي لأني لم تكن لي سيارة خاصة. وليست أمثال هذه الرحلة مما يهون فيه الحصول على سيارة بالأجرة. وتحدد موعد القيام بعد يومين من إبرام هذا الاتفاق على أن نجعل قيامنا بعد الفجر بقليل في اليوم
المحدد. ولم يبق أمامي إلا أن أتولى إعداد توافه الأمور التي تركها لي مضيفي كالمناشف التي تلزم لتجفيف عرقي وأنا في داخل الكهف. والغطاء الذي أتدثر به عند مبيتي معهم على شاطئ البحر في العراء. على أني أبيت إلا أن أستصحب معي سراً بعض المرفهات التي أعلم أنها لم تكن لتخطر لزملائي على بال. فدسستها في حقيبتي بغية أن أفاجئهم بها هناك وسط الصخور والجبال. وكانت عندي (ترامس) ثلاثة يسع كل واحد منها لتراً من الماء. فملأتها جميعاً بالماء المثلوج - ونسيت أن أقول إن الوقت كان في بداية الصيف - وعطرتها بماء الزهر وأخفيتها في الحقيبة كما أخفيت معها آلة تصوير لألتقط بها بعض المناظر التي تخلد هذه الرحلة. وقد دلت كل الدلائل على أنها ستكون رحلة عامرة بالذكريات التي تستحق التخليد. ولست أحتاج أن أقول إن زملاءنا كانوا قد صارحونا بأنهم سيحملون عنا مئونة تزويدنا بالماء والطعام. فلما سألتهم عما إذا كانوا سيحملون هذا الزاد من الإسماعيلية أم من السويس قيل لي إن العرب الذين سنصادفهم في الوديان خلال الجبال كلهم رعاة أغنام. ونستطيع أن نحصل منهم على ما نشاء من ضأن وماعز. كما أن البحر هناك مرعى بكر يزخر بألوان السمك. والوديان لا ينقطع منها الماء الجاري. ورجال البدو لا يلبثوا أن يحتاطوا بنا ويتنافسون في خدمتنا. فكنت أستمع لهذا الحديث وأرسل أحلامي على سجيتها لتتم بألوانها الساحرة بقية تلك الصورة الخلابة التي لبثت يومين كاملين وأنا أسعد بالتقلب بين أعطاف خيالاتها!
وأخيراً حل اليوم الموعود، وكنت على أتم أهبة للرحيل قبل بزوغ الشمس، وأقبلت السيارات تناديني بأبواقها، فنزلت فإذا سرب طويل منها يضم الصحاب جميعاً، فاستقللناها قاصدين إلى السويس؛ والطريق ما بين الإسماعيلية والسويس طريق جميل ممهد أعدته في السنوات الأخيرة شركة قنال السويس ليكون متمماً للطريق القديم الذي يوصل ما بين الإسماعيلية وبور سعيد؛ وهذا الطريق يسير إلى جانب القناة ويتمتع السائر فيه بمناظر بحيرة التمساح والبحيرات المرة الكبرى والصغرى التي تمتد على يساره، بينما تقوم الحقول الخضراء على يمينه وهي حافلة بالأكواخ الصغيرة الساذجة، وبألوان شتى من المواشي والأغنام، وكلها دائبة في رعي تلك المروج الناضرة البهيجة. ووصل الركب محطة (الكوبري) حوالي الساعة السابعة صباحاً. وهذه المحطة تقع في شمال السويس،
وعلى بعد ثمانية كيلومترات منها. وعندها تقع (المعدية) التي ينتقل عليها المسافر من شاطئ القنال الغربي، إلى شاطئه الشرقي - أو من شاطئه الإفريقي إلى قرى شاطئه الآسيوي كما يقولون - فاضطررنا إلى الوقوف هنا ريثما يقوم عامل (الجمرك) بتفتيش أمتعتنا. وقد عجبت لهذا العمل ونحن إنما ننتقل من أرض مصرية إلى أرض مصرية. فلما استفسرت عن السبب علمت أن المنطقة التي نريد أن ندخلها خاضعة لمصلحة الحدود. والنظام الإداري في تلك المصلحة يكاد يكون مستقلاً عن إدارة الحكومة المصرية. وأنه محظور على من يريد دخول الصحراء في تلك الجهة أن يكون معه سلاح ناري تنفيذاً لأمر المصلحة الذي يقضي بعدم صيد الغزال مثلاً في تلك المنطقة. كما أنه من المحظور أيضاً أن يحمل المسافر معه آلة تصوير حتى لا يسجل بها مناظر ترى المصلحة أنه من الواجب المحافظه على سريتها. وكانت النتيجة الأولى لوقفتنا هذه في محطة الكوبري، أني خسرت آلة تصويري، لأني اضطررت إلى تسليمها من تلقاء نفسي، وبذلك ضاعت علي فرصة إحدى المفاجآت التي كنت دبرتها للإخوان. على أن هذه لم تكن خسارتي الوحيدة. فقد بدأ لبعضنا أن يتناول وجبة خفيفة في ذلك المكان تكون بمثابة الفطور لمن فاته الإفطار في منزله. وكنت أنا من هؤلاء. فأردت بعد لقيمات ازدردتها أن آخذ جرعة من الماء فهممت بتناول واحد من (ترامسي) ولكن سبقتني إليه يد أحد الزملاء الكرام يريد أن يبالغ في الحفاوة بي فلا يدعني أقوم بهذه الخدمة الهينة لنفسي فما راعني إلا أن أراه يملأ كوب الترموس من ماءه المعطر المثلوج ثم يهزه في يده هزات يريقه من بعدها على الأرض كما لو كنا نستقي من (زير) بجوار سوق في إحدى قرى الريف، فهو يريد أن يكفل نظافة (الكوز) مما يكون قد علقه به من الغبار! وأردت أن أعوض ما شربته الأرض من مائي العزيز فاقتصدت في الجرعة التي شربتها واكتفيت منها بمصتين لأني كنت أقدر ما نحن مقبلون عليه من الجفاف والجدب. ولكن حلا لبقية الصحب أن يستقوا فأدار الساقي عليهم من أكوابي، ودخلت الصحراء بنصف ما كنت تزودت لها به من الماء. وكانت هذه خسارتي الثانية في مستهل الطريق.
وحملتنا (المعدية) بسياراتنا فنقلتنا إلى الشاطئ الشرقي. وبدأنا عقب ذلك رحلتنا الشاقة في وسط الصحراء حيث لا شيء إلا الحصى والرمال في طريق متشابهة لا أثر فيها لأي نوع
من أنواع الحياة. ولبثنا نضرب في تلك البيداء حتى أدركنا الظهر - ولكنا على كل حال كنا نسمر بمختلف الأحاديث - وكان الذين سبقونا إلى ارتياد هذا الطريق لا يضنون علينا بشرح ما يعرفونه من معالم، وأحياناً أيضاً بشرح ما لا يعرفون استجابة منهم لنداء تلك الغريزة العجيبة التي ركبت في كل نفس والتي تجعل صاحبها يلتذ أن يتظاهر بالعلم أمام من لا يعلم!
وكانت سيارة الإيطالي في مقدمة الركب. وقد قبع الدليل البدوي على مقدمها ليلجأ إليه صاحبه كلما أعوزته المشورة في أمر الطريق. وفي النهاية لاحت لنا أشجار (الطرفاء) التي تزين (وادي الغَرَنْدَل) وهو واد واسع يكثر فيه النخيل ولا ينقطع منه الماء طول العام. وبدأنا نرى الناس من جديد بعد أن كنا نظن أننا انقطعنا عن العالم - ولكن يا لهم من ناس!. . . لقد كانوا أشباحاً في أثمال. . . أجسام رقيقة مديدة ضمرها الجوع. وعيون فاترة غائرة أطفأها الفقر والجدب. كانوا يحيطون بنا ويعدون إلى جانبنا ويلاحقوننا كما كانت تفعل جنادب الوادي الذي يعيشون فيه. أما سياراتنا فكانت عند اجتيازها لهذا الوادي تجري فوق مياهه. إذ لم يكن أمامنا طريق أخرى غير بطنه، فكانت أشبه بالزوارق البخارية منها بالسيارات. ولقد عانينا كثيراً ونحن نجتاز هذه المرحلة من طريقنا لأن الماء كان يتسرب إلى داخل آلات السيارة كلما أدركنا مخاضة بعيدة الغور نوعاً ما. وكان الويل للسيارة التي يصيبها ذلك، لأن الركب ما كان ليقف لأمثال تلك الأحداث، فكانت السيارة المتخلفة تقاسي كثيراً قبل أن تلحق بالقافلة وتمسك معها بطرف الطريق. وتكررت حوادث فقد الطريق ونحن بالوادي، ذلك لأن الطرق فيه متشعبة فكان المتخلف عرضة لأن يتبع آثار عجلات غير عجلات سياراتنا كلما غابت عن نظره بقية القافلة. وكم وقفنا وأطلقنا أبواقنا ليهتدي على صوتها من نفتقده من الزملاء. وكم كررنا نحن راجعين في مسلك وعر كنا قد تشهدنا عندما اجتزناه، فلما فرغنا منه وجدنا أننا قد ضللنا الطريق.
وأخيراً خرجنا من هذا الوادي وعدنا إلى الصحراء من جديد ولكنها كانت في هذه المرة صحراء نافرة صخرية يكتنفها جبل عظيم أبيض اللون ناصعه تجوس في سفحه عربات صغيرة وتدب معها نمال بشرية تتراءى من بعيد كأنها بعض هوام الجبل أو زواحفه. وسألت فعلمت أن شركة إيطالية قد حصلت من الحكومة على امتياز لاستغلال هذا الجبل
وأنها تحصل منه على نوع من الرخام النادر تصدر معظمه إلى باريس بالذات دون بلاد العالم لكثرة الحاجة إليه في مبانيها الأنيقة الحديثة. وأن هذه الشركة قد أثرت من وراء هذا العمل ثراءً طائلاً. فأحببت أن نقف قليلاً لنصل بعمال هذا الحجر ونتحدث إليهم فنسري عن أنفسنا ونسري عنهم. وفي أمثال تلك البقاع النائية يصدق قول القائل: وكل غريب للغريب نسيب!
وكانت حالة السيارات تقتضي هذه الوقفة أيضاً، فإنها كانت قد شربت كل ما معنا من الماء وكانت في حاجة أيضاً إلى الماء. فترجلنا لنملأ صهاريجها، واتجهت وبعض من معي إلى أولئك العمال فإذا هم جميعاً من أهل الصعيد - تلك الطائفة النبيلة التي شيد أجدادها مجد الفراعنة وخلدوا آثارهم في وادي الملوك وغير وادي الملوك، وها هو ذا الخلف اليوم لا يجد من يستنجد بكتفه وذراعه غير الأجنبي فيلبي دعوة القوت وسط تلك الأصقاع السحيقة القاحلة يقضي عمره ويفني حياته في قطع الرخام وحمله ليجد هو في آخر النهار ما يسد به رمقه. ولينعم حسان باريس بالرونق البهي والرواء الحسن. وليقف المقاول الإيطالي بين الطرفين يستغل جهد المصري وثراء الباريسي في آن واحد.
وأردت أن أعرف من أين يحصل هؤلاء العمال على الزاد والماء - ولعل الباعث الخفي لسؤالي كان حرصي على الاطمئنان على نفسي ومصيرها في هذا القفر قبل أن يكون إشباع حب الاستطلاع فيها عن حالة هؤلاء المساكين - فقيل لي بأن باخرة تقدم من السويس كل شهر تقريباً فتحمل إليهم الزاد والماء الذي يكفيهم حتى موعد الزورة التالية، فبدت عليَّ أنا وزملائي علائم الإشفاق والرثاء. ولكن جرنا الحديث إلى ذكر المنائر التي تقع على شاطئ البحر الأحمر والتي تضم كل واحدة منها ثلاثة من الموظفين المصريين في حالة عزلة تامة عن العالم لمدة تسعة شهور، إذ أن كل منارة من هذه المنائر يديرها أربعة من الموظفين يعمل كل واحد منهم تسعة شهور متتالية في العام ويحصل على إجازة سنوية تستغرق الثلاثة شهور الأخرى. ولذلك فإن ثلاثة منهم فقط يجتمعون في العمل ويكون الرابع في إجازته، حتى إذا عاد هو قام من يكون عليه الدور وهكذا. وأن الواحد من هؤلاء الموظفين متى استلم عمله في فنارة فإنه ينقطع عن العالم وأخباره حتى يحل موعد وصول الباخرة التي تأتيهم بالطعام والماء مرة في كل شهر. وهم من خلال هذا
الشهر لا يقرءون الصحف ولا سبيل لهم إلى معرفة ما يكون قد مر على العالم من أحداث، وما يكون قد طرأ عليه من حروب. وعجبت من شأن الحكومة مع هؤلاء الناس ومن شأنهم هم مع أنفسهم، فإننا أصبحنا اليوم نسمع الراديو في السيارات الخاصة وهي تسير وسط الطرقات العامرة الزاخرة، ثم ها نحن أولاء نسمع من أمثال هذه المنائر التي تترك بغير جهاز ولا صفير من هذه الأجهزة الكفيلة بأن تنقل أهلها من عزلتهم فتضعهم في وسط العمران والحياة.
كان بيننا وبين (حمام فرعون) ونحن في ذلك المحجر بضع كيلومترات قد لا تزيد على خمسة أو ستة، ولكن ما كابدناه في قطع هذه المرحلة القصيرة فاق كل ما لاقيناه في طول الرحلة منذ بدايتها، ذلك بأن الطريق كان قد انقطع عند المحجر، وأصبح علينا بعد ذلك أن نسير في أرض بكر لا تطرقها السيارات إلا كلما حلا لأمثالنا أن يزور ذلك المكان، وهو نادر قليل، وكانت طبيعة الأرض في تلك الجهة جامحة نافرة، فبينا هي صلبة في بعض نواحيها إذا هي رخوة تغوص القدم في رمالها في نواحيها الأخرى وكان في انتقال السيارة من الصلب إلى الرخو ثم من الرخو إلى الصلب ما فيه من إجهاد للسائق وللراكب وللآلات نفسها، وذلك لما تستدعيه طبيعة كل ناحية من تغيير درجات السرعة وتحريك رافعات السيارة واحدة بعد أخرى بما يناسب حالة الطريق وقد حدث أننا خسرنا فعلاً إحدى سياراتنا فقد انكسرت بعض آلاتها في هذه التنقلات السريعة المفاجئة، واضطررنا إلى التخلي عنها وسط الطريق بعد أن توزعت حمولتها على بقية السيارات فزادت في عسر حركتها وتعريضها هي الأخرى للتلف، وليس يفوتني أن أقول هنا أن هذه السيارة بالذات كانت سيارة تاجر الإسماعيلية الذي لم يكن من سبب لإشراكه في هذه الرحلة غير سيارته، ولكن هكذا قدر الله في لوحه أن يأتي أجل هذه السيارة في تلك البقعة الموحشة. وصدق الله العظيم و (ما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقديماً قيل:
إذا ما حِمام المرء كان ببلدة
…
دعته إليها حاجة فيطير
وقبل العصر بقليل ألقت القافلة عصاها في سفح جبل عال كان يواجهنا، وقيل لنا انزلوا: فهذا هو (حمام فرعون)
وثبتُ من سيارتي فرحاً وقد نسيت أمام بلوغ الهدف كل ما لاقيته خلال الرحلة من مشقة.
ولم أنتظر حتى يتقدمني من له علم بالمكان. لأني لم أكن رأيت في حياتي قط عينا حارة - ولكني كما هو الحال دائماً في أمثال هذه الشئون كنت قد صورتها لنفسي بعين خيالي. وكنت شديد الشغف الآن بأن أقابل بين الحقيقة وبين الخيال. فما كان أشد الفرق بين الصورتين!
كنت أتصور النبع على صورة (الفسقية) ينبثق من وسطها خرطوم عال من الماء له رشاش من حوله ثم يتجمع الماء في حوض حول العين ثم لا يلبث أن يفيض من الحوض إلى ذلك المجرى الطويل الذي حدثونا عنه. وكنت أتخيل هذا المجرى في صورة قناة جميلة وسط صخور صلدة ينساب الماء فيها رائقاً صافياً كتلك القناة الجميلة البيضاء التي ما تزال آثارها باقية في (وادي حوف) بحلوان والتي كنا نتناول فيها غداءنا كلما رحلنا إلى تلك الجهة. فأدرت عيني بسرعة فيما يحيط بي أبحث عن تلك الفسقية أو عن هذه القناة فلم أجد لإحداهما أثراً، فخاب ظني لأول وهلة وأحسست بقلبي يتراجع قليلاً في صدري شأن من يفاجأ بأمر لم يكن يتوقعه. ولكن سرعان ما استغرق بصري ذلك الجبل العظيم الذي كنا نقف في كنفه. فصوبت عيني فيه وصعدتها فأخذتني عظمته. ولمحت في صفحته ثغرة سوداء قريبة من سطح الأرض، فأدركت أنها لابد أن تكون مدخل الكهف الموعود. وكان هذا الجبل يقوم على شاطئ البحر ليس بينه وبين الماء في البقعة التي وقفنا فيها أكثر من خمسين متراً، ثم هو يمتد محاذياً للشاطئ مسافة مائتي متر أو ثلاثمائة متر، وبعد ذلك يتصل بالماء رأساً فيرتطم موج البحر بقدميه ويتحطم على صخوره السوداء. ولفت نظري في ذلك المثلث الرملي الضيق الذي كنا نقف على قاعدته أن قناة ضحلة تجري وسطه فتتبعتها ببصري مسرعاً فرأيتها تبدأ عند قاعدة الجبل ولكن لم أتبين من أين ينبثق ماؤها. فدلفت إليها حتى جئت المكان الذي ينبعث منه الماء فإذا هو ثلمة ضيقة بين صخرين يسيل منها الماء كما يسيل من صنبور متوسط الحجم فيجري على الصخور المجاورة حتى تتسلمه رمال الساحل فتبلع منه ما تبلعه وتترك الباقي ينداح على صدرها حتى يصب في البحر. وكانت رائحة الكبريت ساطعة تملأ الجو، ولكن الماء كان يجري كالبلور المذاب لا يعلوه بخار ولا يبدو عليه أنه حار. فأغراني ذلك بأن أمدّ إليه إصبعي ولكني ما كدت أفعل حتى سحبتها صارخاً كأنما اندق فيها مسمار. فأثلجت هذه اللسعة صدري. ومنيت نفسي
بالحمام الساخن الذي قطعت من أجله كل تلك القفار، فلست أعرف في متع هذه الحياة ما هو أحب إلى نفسي من الحمام الساخن!
وكان إخواني قد أدركوني وحف بعضهم بالنبع وانطلق بعضهم يساير القناة. أما الإيطالي فإنه اشتغل بنصب الخيام.
وشاءت المصادفات أن يكون الهواء في ذلك اليوم قوياً ثقيلاً فكان يسفي علينا التراب ونحن لا نجد ما نحتمي فيه حتى قامت خيام الإيطالي فآوينا إليها وقد نال منا الجوع، ونشر الخادم بين يدينا علبه ولفائفه وأدار علينا الخبز فالتهمناه بما أصابت أيدينا من جبن وزيتون وقديد وما إلى ذلك مما كان قد أعد لتتبيل أغنام الرعاة المنتظرة وسمك الصيادين الموعود، فأبت علينا المقادير إلا أن نأكله هو متبلاً بالتراب ومحشواً بصغار الحصا، ومع ذلك فقد كنا نتخاطفه ونتنافس في التطويح بما نصيبه منه إلى أفواهنا قيل أن ننفخ فيه ونذروا عنه ما علق به من الرمال، فيا سبحان الله! أهكذا يحلو المر أحياناً في هذه الحياة! وماذا بقي لنا من الحقائق المطلقة في دنيانا وكل شيء فيها اعتباري كما نرى؟ إلا أن الحسن إنما يكون حسناً في ظل رضا النفس، والقبيح إنما يقبح بزوال هذه الحالة عن النفس! والسعادة مهما اختلف الناس في أسبابها فهي من الكثير الغالب من صنع أيدينا وفي القليل النادر من صنع المقادير.
ولم نهجع عقب الطعام بل انتشرنا في المكان نرتاده ونتسلق الجبل وندخل الغار بأطراف رءوسنا ثم نخرجها سراعاً لكثرة ما ألقى في روعنا من أنه شديد الحرارة يذيب نخاع الرءوس. وقضينا على ذلك ساعة وبعض ساعة حتى أوشك النهار أن ينقضي فتأهبنا لأخذ الحمام المرتجى، وانصرف كل واحد منا إلى صخرة توارى خلفها فخلع ملابسه. وارتدى قميص البحر، ولم تكن إلا هنيهة حتى استحال المكان إلى (بلاج) أنيق صغير بأولئك الفراعنة الصغار الذين جاءوا من أقصى الأرض ليحققوا للمكان اسمه ويؤيدوا له لقبه. وكان الأعرابي الذي مع الإيطالي قد احتمل فأساً وقصد إلى أوسع مكان في القناة فعمقه وأبعد غوره كما يتسع لأجسامنا ويصلح للاضطجاع. فنزلناه واحداً بعد واحد وساعدنا ذلك على رفع مستوى الماء قليلاً فما زلنا نتقلب فيه ونتلبط. وهواء المساء البارد يصفع أجسادنا الحارة ونحن نصر على أن نوهم أنفسنا بأننا نأخذ حماماً ساخناً حتى أدركنا أن
إصرارنا سيكون وخيم العاقبة إذا نحن تمادينا في تحدي الطبيعة إلى أبعد من هذا الحد، فخرجنا نتواثب من حفرتنا كجماعة الضفدع دهمها داهم وهي ترتل في مخابئها أناشيد المساء!
ولما نزل بنا الليل كان الهواء الثائر قد سكن، والتراب السافي قد استقر، ولاحت النجوم في السماء زاهية زاهرة. وأشهد أني لم أر السماء طول حياتي كما رأيتها في تلك الليلة. فلقد اعتدنا أن نراها ونحن في المدن من خلال المباني الضاربة في الفضاء، ومن خلال النوافذ الضيقة، فكنا لا نرى إلا قطعاً منها تذهب التجزئة فيها بجمال المجموع. أما في تلك الليلة فقد راقنا أن ننام في العراء فبسطنا فراشنا فوق الرمل وألقينا عليه وسائدنا ثم انطرحنا على ظهرنا واتجهنا بأبصارنا في السماء فراعتنا، وبدت لنا النجوم كما لو كنا لم نرها قط قبل تلك اللحظة. وإني لأذكر الآن كيف أننا جميعاً أصابنا وجوم مشترك أمام عظمة هذا المشهد حتى لقد بقينا فترة لم ينبس فيها واحد منا بحرف. فلما نطق أول متكلم فينا وتحدث بما راعه من منظر السماء اندفعنا جميعاً نكرر معنى واحداً في عبارات مختلفة، وأدركنا أننا في سكوننا كنا تحت تأثير واحد، وأن أحداً منا لم يستطع أن يفلت من جاذبيته!
وفي غداة اليوم التالي تنفسنا مع الصبح جميعاً. ومنا من كانت قد انقضت عليه أعوام وأعوام وهو لا يرى الشمس كل صبح إلا بعد أن ترقى حدود الأفق بزمان طويل. وهببنا من مضاجعنا خفافاً تفيض حركاتنا بالقوة والنشاط، وكانت مفاجأة الصباح التي أعدتها لنا طبيعة المكان أننا أردنا أن نحلق لحانا فامتنعت عن الصابون مياه النبع؛ وعبثاً حاولنا إحداث الرغوة المطلوبة على الرغم من إسرافنا في الدعك والفرك؛ ولم نشأ أن نضحي ببقية مائنا العذب في شؤون زينتنا، فطال ركوعنا على حافة القناة حيث اجتمعنا في شبه (صالون) خشن حقير! وكنا قد أحسسنا في المساء أن ذخيرتنا من الماء كادت أن تنفد، فاحتلنا في الحصول على مدد فلم نجد إلا صفيحتين فارغتين من صفائح البنزين فبعثنا بهما مع خادم ليملأهما من ماء الوادي فعاد بهما إلينا ونحن نتناول طعام الفطور، فكرعنا من مائهما ما كنا في حاجة إليه، فإذا هو في مذاقه أشد نكراً من ماء النبع فهذا فيه طعم الكبريت. أما ذاك فإنه عبق برائحة البنزين والبترول.
وكنت أزمع العودة مع بعض الصحاب في ظهر ذلك اليوم فرأينا أن نقضي الساعة التي
بقيت لنا في جوف الكهف حتى لا يكون قد فاتنا شيء من (متع) المكان قبل أن نبرحه. فعدنا إلى قمصان البحر فارتديناها ونشرنا شيئاً من الفراش في أرض الغار ثم دخلنا فرقدنا فوقها ولكنا لم نلبث أن اعتدنا حرارة المكان الذي استلقينا فيه، فأوغلنا قليلاً فوجدنا فارقاً محسوساً في الحرارة فسرنا ذلك، وبقينا فيه أيضاً حتى ألفناه ثم أوغلنا ثانية، وهكذا حتى أصبحنا في قرار الكهف حيث الظلام الشامل. فما كان أروع منظرنا ونحن نزحف في نواحي المكان كالخفافيش والعالم من خلفنا على باب الكهف ساطع بهيج! وكنا قد احتملنا معنا مناشفنا فلم تكن ترى فينا إلا شبحاً يستوي قاعداً فيأخذ في تدليك جسمه بمناشفه حتى يجفف عرقه فلا يكاد يرقد حتى يقوم إلى جانبه شبح آخر يظل يهزج ويحك ذراعه بذراعه فلا ينتهي حتى يسلم هذه المهمة لسواه، وهكذا حتى أحسسنا بحلوقنا آخر الأمر تكاد تجف من فرط ما عرقنا وأفرزنا من ماء جسومنا فعولنا على الانسحاب. وكان حتماً علينا أن ننسحب متدرجين كما أوغلنا متدرجين حتى لا تقتلنا الطفرة أو يؤذينا الانتقال السريع. فقضينا في هذا الانسحاب زمناً ليس بالقليل ولم نستطع أن نركب سياراتنا إلا بعد أن انتصف النهار. ونسيت أن أقول إننا أتينا بعد خروجنا على ماء الصفيحتين فشربناه وظللنا من بعده يومين ونحن نتجشأ بنزيناً قويا يكاد ريحه يضيء ولو لم تمسسه نار!
انقضت بعد عودتنا أيام رأيت في خلالها بعض الصحاب فكان حديثهم ترديداً لما لاقيناه من وعثاء الطريق، وما قاسينا من سعار الكهف. ثم قابلت صاحبنا الإيطالي فكان حديثه أنه يفكر في الحصول من الحكومة على امتياز لاستغلال النبع وإقامة فندق صغير بجواره وتهيئة بواخر خفيفة تصل بينه وبين السويس حتى تنقلب الرحلة إلى متعة ينعم بها المستشفي بدل أن تبقى كما هي الآن مشقة ينوء بها الرياضي. فهتف في نفسي هاتف:(يعيش الدوتشي!) وقلت لمحدثي: لمثل هذا فليعمل العاملون.
حسن جلال
الألفاظ العربية
الإسلامية، المولدة، المعربة، العربية، العبرانية، السريانية
استعمال لفظة في محلها: (سد بوزك)
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
الألفاظ في العربية أقسام:
قسم عربي بحت، وهو الذي وضعته اللغة في (الجزيرة) أو جاء من عند غيرها وخالط ألفاظها فعد كأنه منها، وهو أعجمي تعرب، والعربية عربية قوية، فكان مثل (الهرمزان الذي أسلم وبدَّل ثيابه، وتسمى بعرفطة. .) كما جاء في (الطبقات) لابن سعد.
وقسم إسلامي أظهره الإسلام، وما كان في الجاهلية يعرف، أو كان له معنى فيها غير الذي استجد، وهو مثل: المؤمن، المسلم، الكافر، المنافق، المخضرم، الجاهلية، الدجاجلة، الفاسق؛ قال ابن الأعرابي:(لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم (فاسق) قال: وهذا عجيب وهو كلام عربي، ولم يأت في شعر جاهلي. وفي الصحاح نحوه).
وقسم مولّد محدَث، ولد في غير (الجزيرة) مثل الطنز (أعني السخرية) والكابوس الذي يقع على النائم - وفي هذا الزمان يقع على النائم واليقظان - والمطرمذ وهو الكذاب الذي له كلام وليس له فعل، وما أكثر الطرمذة في الناس! والفشار - وهو الهذيان - وجُلّ الناس أو كلهم - كما يقول بعضهم - فشارون. .
ومن المولد الطرش والتشويش والمخرقة والقازوزة والبحران ومنه (ستي) في قولهم: يا روحي، يا ستي! بمعنى يا سيدتي
وقسم معرب وتعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها تقول: عربته العرب وأعربته
في (الصحاح): المهندز الذي يقدر مجاري القني والأبنية، معرب. وصيروا زايه سينا فقالوا: مهندس لأنه ليس في كلام العرب زاي قبلها دال
ومن المعرب (قالون) قال الثعالبي في فقه اللغة: (سأل علي شريحاً مسئلة فأجابه؛ فقال له: قالون: أي أصبت بالرومية) وفي (الفائق) للزمخشري (أو هذا جواب جيد صالح. ومنه
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه عشق جارية له (رومية) وكان يجد بها وجداً شديداَ، فوقعت يوماً عن بغلة كانت عليها، فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها، وكانت تقول له: أنت قالون (أي رجل صالح) فهربت منه بعد ذلك فقال:
قد كنت احسبني (قالون) فانطلقت
…
فاليوم أعلم أني غير (قالون)
ومن المعرب الشُشقلة وهي أن تزن الدينار بازاء الدينار لتنظر أيهما أثقل، قيل ليونس: بم تعرف الشعر الجيد؟ قال: بالششقلة
ومنه (البوس) بمعنى التقبيل. ومن المعرب (خوداي) أي واجب الوجود وهو الله. وفي كتاب (المدهش) لابن الجوزي: (وقف أعجمي عند الكعبة والناس يدعون وهو ساكت، ثم أخذ بلحيته فرفعها وقال: يا خوداي، شيخ كبير!!!)
ومن المعرب (الخز والديباج) وكون هذين معربين - شيء محقق
ومنه الفالوذج واللوزينج والجوزينج ومن يقدر أن يماري في تعريب ذلك؟؟
ومنه (الدهدر) أي الباطل وهو تعريب (دَهْ دُلِه) أي صاحب عشرة قلوب، والمراد به الرجل المتقلب. (قلت): والرجل المتقلب ذو مائة قلب ومائة وجه
ومنه البشم: التخمة، ولا ريب في أنها معربة فما يجيء البشم إلا من الإفراط في الأكل، ومتى كان الشبع في الجاهلية حتى يكون البشم؟!
وكمه أيضاً: (أيضا) فارسيتها أيدي كما يقول كتاب الألفاظ الفارسية المعربة
ومن المعرب: (شاقرد) أو شاجرد ومعناه متعلم، تلميذ تعريب شاكرد قال الأعشى:
وما كنت (شاجردا) ولكن حسبتني
…
- إذا (مسحل) سدّي لي القول - أنطلق
وقال موسى بن عبد الله البختكان:
قد كنت شاكردي فيما مضى
…
فصرت أستاذي ولا ترضى
ومن المعرب: التوت أو التوث وهو الفرصاد في العربية الأولى. قال محبوب بن أبي العشنط:
لروضة من رياض الحزن أو طرف
…
من القُرَيّة جرد غير محروث
للنوْر فيه إذا مج الندى أرَج
…
يشفي الصداع وينقي كل ممغوث
أحلى وأَشهى لعيني إن مررت به
…
من كرخ بغداد ذي الرمان والتوث
وفي تذكرة الشيخ تاج الدين بن مكتوم بخطه: (قال نصر بن محمد بن أبي الفنون في كتاب أوزان الثلاثي: سين العربية شين في العبرية، فالسلام شلام، واللسان لشان، والاسم اشم)
وقول ابن أبي الفنون يذكرنا بكلام لابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) وهو:
(إن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير - واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام لغة أهل الأندلس، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما
ونحن نجد من سمع لغة أهل (فحص البلوط) وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة لأمة أخرى تتبدل لغتها تبدلاً لا يخفى على من تأمله، ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً، وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى، ولا فرق، فنجدهم يقولون في العنب:(العينب) وفي السوط (أسطوط) وفي ثلاثة دنانير (ثلثدا). وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال (السجرة)؛ وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول (مهمداً) إذا أراد أن يقول (محمداً) ومثل هذا كثير. فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وإنها لغة واحدة في الأصل
ومن الألفاظ المولدة في العربية لفظة (البوز) التي استعملها الجمهور في مدينة يافا من أعمال فلسطين منذ أربع سنين حينما كان الوطنيون في دار القضاء (المحكمة) يحاكمون، فقد قال عامل عربي من عمال الشحنة أو الشرطة - البوليس أو البلوص كما يقال في بعض الجهات - فإنه قال كلمة منكرة فاحشة أنكرها الجمع العربي حتى أن النيابة وهي كلمة إنكليزية أنكرتها وقسرته على أن يرجعها فرجعها؛ فلما قالها صاح الناس هناك:(سد بوزك)
وقد ظن بعضهم أن هذه اللفظة عامية والصحيح أنها معربة أو مولودة وهي - إن لم تكن نوحية - ألفية عمرها ألف سنة، وقد استعملها كبار الأدباء، وهذه حكاية أوردها ياقوت في كتاب (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وقد جاءت فيها اللفظة المذكورة:
(حدث غرس النعمة محمد بن هلال قال: حضر يوماً (ابن جني) - الإمام اللغوي - في الديوان يتحدث مع أبي اسحق الصابي، وكان له عادة في حديثه بأن يميل شفتيه ويشير بيديه، فبقى أبو الحسين القمي شاخصاً بصره يتعجب منه فقال له ابن جني: ما بك يا أبا الحسين، تحدق إلي النظر وتكثر مني التعجب؟
قال: شيء ظريف!
قال: ما هو؟
قال: شبهت مولاي الشيخ وهو يتحدث ويقول ببوزه كذا ويده كذا بقرد رأيته اليوم عند صعودي إلى دار المملكة وهو على شاطئ دجلة يفعل مثلما يفعل مولاي الشيخ
فامتعض أبو الفتح بن جني وقال: ما هذا القول يا أبا الحسين (أعزك الله)؟ ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي، أو أمجن فتمجن بي؟
فلما رآه أبو الحسين قد غضب قال: المعذرة أيها الشيخ إليك والى الله (تعالى) أن أشبهك بالقرد، وإنما شبهت القرد بك
فضحك ابن جني وقال: ما أحسن ما اعتذرت! وعلم أنها نادرة تشيع فكان يتحدث هو بها دائماً)
ويستعمل بعضهم (البوز) لبرطيل الكلب. فيقول: بوز فلان مثل بوز الكلب
وإذا كانت اللغة خصت بها هذا الحيوان فيكون استعمالها لنوع من بني الإنسان مجازياً، والمجاز باب واسع. . .
فقول الجمهور لذلك (الشُّرْطي) حين خرج الذي خرج من فيه، من فمه، من بوزه:(سد بوزك) - استعمال من جهة اللغة في محله. . .
محمد اسعاف النشاشيبي
الروايات الكنسية والنصرانية وقيمتها كمصادر
للتاريخ الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وفقت دار الآثار المصرية أخيراً للحصول عل نسخة مصورة من أثر كنسي هام له قيمته في تاريخ مصر الإسلامية، هو مجموعة سير بطاركة الكنيسة القبطية منذ نشأتها حتى منتصف القرن السابع الهجري. وقد كان للمجتمع القبطي دائماً شأن في تاريخ مصر الإسلامية، وكان للكنيسة القبطية دائماً علائقها الرسمية مع الحكومات الإسلامية، ومع ذلك فإن الرواية الإسلامية لم تفسح مجالاً كبيراً لبحث هذه العلائق وتمحيصها، ولم تعن بالأخص بأن تشرح لنا وجهة النظر الكنسية في مختلف العصور شرحاً وافياً، ولم تفطن دائماً إلى الاستفادة من الآثار والمصادر النصرانية في تفهم أحوال المجتمع النصراني وزعامته الروحية.
ومن ثم ٍكانت أهمية الآثار النصرانية التي تعنى بعصور من تواريخ الأمم الإسلامية، ففي هذه الآثار نستطيع أن نفهم بوضوح موقف الكنيسة وموقف أوليائها حسبما يصوره لنا كتابها ودعاتها، ونستطيع بمراجعة أقوالهم وتعليقاتهم أن نقف على كثير من الحقائق التي لم تعن الرواية الإسلامية بشرحها واستيعابها، وكتاب سير البطاركة الذي أشرنا إليه من تلك الآثار التي تلقي ضوءاً على موقف الكنيسة القبطية، وموقف الشعب القبطي وأحواله في مصر خلال العصور الوسطى، وهي ناحية لها بلا ريب قيمتها وأهميتها في تاريخنا القومي، وتنقسم النسخة المصورة التي حصلت عليها دار الكتب من الأثر الذي أشرنا إليه والتي نقلتها عن مخطوط باريس إلى قسمين: أولهما كتاب سير الآباء البطاركة الذي وضعه الأنبا سويرس بن المقفع أسقف الأشمونين في عهد المعز لدين الله الفاطمي في تاريخ بطاركة الإسكندرية، وهذا الأثر معروف ومتداول لأنه طبع منذ أكثر من ثلاثين عاما بعناية الآباء اليسوعيين، وقد عرفته الرواية الإسلامية منذ عصور وانتفعت به أحيانا فيما نقلته من أنباء الكنيسة والبطاركة. وقد كان الأسقف سويرس من أكابر الأحبار والمفكرين أيام الدولة الأخشيدية وأيام المعز لدين الله، وكان أسقفا لمدينة الأشمونين التي كانت من مدائن الصعيد الزاهرة يومئذ، وتشيد الرواية الكنسية بعلمه وأدبه ومكانته الروحية
والاجتماعية، وتحدثنا عن صلاته بالمعز لدين الله ومحاوراته الدينية والكلامية معه، وتعدد لنا كتبه وآثاره الأدبية والتاريخية. ويتناول سويرس في كتابه سير بطاركة الإسكندرية منذ القديس مرقص منشئ هذا الكرسي حتى البطريرك افراهام بن زرعة السرياني الذي رسم بطريركا لليعاقبة سنة 365هـ (975م) في أوائل عصر العزيز بالله. وقد ورد في مقدمة هذا القسم إشارة إلى وضع هذا الأثر وتأليفه نصها:(هذه السيرة جمعها واهتم بها من كل مكان الأب الجليل أنبا سويرس بن المقفع أسقف مدينة الأشمونين، ذكر أنه جمعها من دير أبو مقار ودير نهيا، وغيرهما من الديارات وما وجده في أيدي النصارى منها أجزاء مفرقة أنفق فيها أعواما طويلة حتى بلغ عمره الثمانين)
على أن هذا القسم المتداول ليس هو المقصود بالذات في هذا التعريف والتعليق، وإنما نقصد بالأخص إلى التعريف بالقسم الثاني من الأثر الكنسي، وهو الذي يشغل المجلدين الثالث والرابع من مخطوط باريس الذي نقلت عنه نسخة دار الكتب المصورة، فهذا القسم الذي لم ير الضياء بعد يحتوي على سير البطاركة المصريين منذ أوائل الدولة الفاطمية إلى سنة 635هـ أعني إلى نهاية عصر الملك الكامل. وقد نسب هذا الأثر بجملته في فهرس مكتبة باريس الوطنية إلى سويرس بن المقفع، وهي نسبة ظاهرة الخطأ لأن سويرس توفي في أوائل عهد العزيز حوالي سنة 370هـ، فليس من المعقول إذن أن ينسب إليه ما تضمنه الأثر الكنسي بعد هذا التاريخ: وظهر أثر هذه النسبة الخاطئة جليا فيما كتبه العلامة المستشرق سلفستر دي ساسي، عن الحاكم بأمر الله في كتابه عن الدروز، إذ ينقل كثيرا مما ورد عن عصر المستنصر بالله ولد الظاهر، منسوبا إلى سويرس بن المقفع.
وقد أتيحت لنا فرصة لبحث هذا الأثر الكنسي واستقصاء مصادره ومساق واضعيه، فانتهينا إلى هذه الحقيقة وهي أن الجزأين الثالث والرابع من المخطوط ليس لهما علاقة بمؤلف أسقف الأشمونين، بل هما أثر مستقل بذاته، ذيل بهما الأثر الأصلي لأنهما في نفس موضوعه وهو استئناف سير البطاركة من حيث وقف سويرس؛ ويسمى هذا الأثر الملحق باسم آخر هو (سير البيعة المقدسة). ولم يقم بتأليفه أو وضعه مؤلف واحد بل تعاقب في وضعه وكتابته عدة من الأحبار المتعاقبين، فتولى كتابة القسم الخاص بعصري العزيز
والحاكم مثلا قس معاصر يدعى الأب ميخائيل (كاتب السنوديقا بكرسي مار مرقص)(البطريركية) كما يقول لنا ذلك خلال الكتاب؛ وكتب سيرة الأنبا فيلاتاوس البطريرك الثالث والستين وهو معاصر العزيز ثم الأنبا زخاريا البطريرك الرابع والستين وهو معاصر الحاكم بأمر الله، وأورد الكتاب خلال حديثه كثيرا من الأقوال والروايات الهامة عن الحاكم وحياته العامة والخاصة، وعن حوادث العصر المدهشة. وكتب سير البيعة المقدسة أيام الظاهر والمستنصر قس يدعى (موهوب بن منصور بن مفرج الإسكندراني الشماس) ويقول لنا (إنه جمع سيرهم وكتبها واستخرجها من دير أبو مقار بوادي هبيب وذلك سنة 806 للشهداء الموافقة لسنة 480هـ). وكتب في أيام المستنصر وبعده قس آخر يدعى يوحنا ابن صاعد بن يحيى المعروف بالقلزمي وهكذا حتى أواخر الدولة الفاطمية؛ وهنا يقول لنا كاتب هذا القسم إنه سيتم سير الآباء، وإنه بدأ بما شاهده في عصره وخصوصا أيام زوال الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية، وهنا يميل الكاتب إلى التبسط في سرد أحداث العصر، ولا يتقيد بالناحية الكنسية بل يفيض في سرد الحوادث جملة؛ ويتحدث عن السلطنة وعن سيرها وأعمالها، ويسير في ذلك على ترتيب السنين القبطية أو سني الشهداء، حتى سنة 635هـ، أو نحو سنة 950 للشهداء، حتى نهاية عصر الملك الكامل ناصر الدين
ولقد نوهنا في بداية هذا الفصل بأهمية أمثال هذه الآثار الكنسية في شرح موقف الكنيسة من الخلافة أو السلطنة، وشرح وجهات نظرها فيما يتصل بها من الحوادث والشؤون، وتبدو أهمية الرواية الكنسية بنوع خاص في العصور التي تضطرم فيها فورات اضطهاد ضد الكنيسة والمجتمع النصراني أو تتجه السياسة الإسلامية إلى الضغط عليهما لظروف وعوامل خاصة، كما حدث في مصر في عصر المأمون، وفي عصر الحاكم بأمر الله وأيام الحروب الصليبية؛ فهنا تبدو الرواية الكنسية متنفساً حقيقياً للتعبير عما يخالج الكنيسة ورعاياها من العواطف والآراء نحو المجتمع الإسلامي؛ وقد تحمل الرواية الكنسية في هذه المواقف على المبالغة والإغراق في أحيان كثيرة، ولكنها تحتفظ مع ذلك بقيمتها وأهميتها في إيضاح كثير من النقط والمواقف التي تغضي عنها الرواية الإسلامية أو ترى فيها آراء أخرى.
ولا تقف أهمية الرواية الكنسية عند ذلك الحد؛ ففي بعض الأحيان، وفي عصور السكينة والسلام، تغدو الرواية الكنسية مصدراً قيماً لاستعراض الحوادث التي تعنى بها. وفي القسم الأخير من مجموعة (سير البيعة المقدسة) يبدو الكاتب مؤرخاً لا غبار عليه، ويتبسط في شرح الحوادث والشؤون العامة في أواخر الدولة الأيوبية، ويقدم إلينا عنها رواية لا بأس بها
ونرى أن نشير بهذه المناسبة إلى أنه توجد إلى جانب هذه الروايات الكنسية التي تعنى بناحية خاصة من تاريخ مصر الإسلامية لم تعطها الرواية الإسلامية دائما حقها من العناية، طائفة من الروايات النصرانية، التي تتبوأ مكانها الحق بين مصادر التاريخ الإسلامي؛ فلدينا مثلاً تاريخ سعيد بن بطريق - بطريرك الإسكندرية الذي يصل في كتابته حتى سنة 326هـ، وتاريخ يحيى بن سعيد الانطاكي الطبيب والمؤرخ، وقد كتبه ذيلا على تاريخ ابن بطريق، ووصل في كتابته حتى أواخر عهد الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي، وعنى فيه عناية خاصة بأخبار الحاكم وشخصه وحوادث عصره، وتاريخ المكين ابن العميد المسمى بتاريخ المسلمين الذي يستعرض فيه أخبار الخلافة والسلطنة حتى أواخر القرن السادس الهجري؛ وتاريخ ابن العبري المسمى بمختصر تاريخ الدول الذي يصل فيه برواية حتى أواخر عصره أعني إلى أواخر القرن السابع، فهذه الآثار التي كتبها كتاب ومؤرخون من النصارى، وإن كانت تميل في معظم الأحيان إلى أن تخص أخبار الكنيسة والمجتمع انصراني بأعظم قسط من عنايتها، تحتفظ دائما بقيمتها كمصادر لتواريخ العصور التي عنيت بها. وتمتاز هذه الآثار بميزة خاصة، هي أنها تعنى عناية فائقة بتاريخ الدولة البيزنطية باعتبارها حامية الكنيسة الشرقية، وتفيض في تتبع أخبارها وعلائقها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة، وهذه ناحية لم تخصها الرواية الإسلامية دائما بما يجب من عناية، بل هي تعتمد غالبا في تناولها على هذه الروايات النصرانية، مثال ذلك أن ابن خلدون يعتمد على ابن العميد في معظم ما كتبه عن أخبار الدولة الرومانية والدولة الشرقية (البيزنطية)، ويرجع السر في ذلك إلى أن أغلب الكتاب النصارى كانوا يعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً، ومن ثم كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وانتفاعهم بها.
وهكذا نرى أن الروايات الكنسية والنصرانية العربية بوجه عام فضلا عن قيمتها وأهميتها الخاصة في سرد أخبار الكنيسة والمجتمع النصراني، وشرح مواقفهما في مختلف العصور والمناسبات، حقيقة بالدرس والمراجعة كمصادر قيمة لعصور معينة من التاريخ الإسلامي، تلقي ضوءاً على كثير من نواحي الصلة والعلائق بين الشرق والغرب، والنصرانية والإسلام
محمد عبد الله عنان
في الأدب المقارن
الطير والحيوان في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
وحدة الأشياء واشتراكهم في صفات ترفعهم جميعاً عن الجماد وتميزهم بالشعور بالغبطة والألم. كل هاتيك حقائق من الموضوع بحيث اهتدى إليها الأولون قبل أن يحققها العلم الحديث ويفصل دقائقها وخوافيها؛ وتنازع الأحياء البقاء، وعدوان أقواها على أضعفها وفوز القوي بالغلب والبقاء، هذه كذلك أمور واضحة رأى المتقدمون مظاهرها وظهرت لمحاتها في آدابهم؛ وقد كان موقف الإنسان منذ عصوره البدائية من الحيوان غريباً لا يخلو من تناقض وطرافة: كان في أول أمره ينازع السباع البقاء ويفترسها ليتغذى بها، ثم استأنس بعضها وسخره في أعماله تسخير العبيد، وأتخذ بعضها للزينة والمسرة ثم عاد فقدس بعض عبيده أولئك ورفعهم إلى مصاف الآلهة، لأنهم يدرّون على حياته خيراً وبركة، بينما ظل يتلهى باقتناص أوابد الوحش. ويجرب بأسه وفروسيته باصماء حشاشاتها، والتفريق بين الأمهات منها وبين الصغار
واخترع خيال الإنسان في تلك العهود البعيدة عجائب الحيوان وغرائب الأطيار ومخيف الكائنات، كما توهم البابليون وحشاً هائلا يقذف الماء من فيه فيغمر السهل والجبل، وكما تخيل الإغريق الجياد الطائرة والسباع ذوات الرؤوس المتعددة وخلائق شعور رؤوسها أفاع باغية، وتوهموا الأبطال المغامرين منطلقين لقتال تلك السباع والأفاعي، وكما تصور العرب الغول والعنقاء، وزعم السندباد انه سافر على جناح طائر ميمون يدعى الرخ، وكما توهم أوائل الإنجليز سبعاً ضارياً قد ألقى الرعب في مملكة بأسرها، حتى صارعه فصرعه الأمير بيولف في الملحمة المسماة باسمه؛ ولم تكن كل هذه السباع الوهمية التي هذى بذكرها الإنسان في عهوده الأولى، إلا صدى لذكريات الوحوش الهائلة التي كانت تقطن البر والبحر في غابر الأزمان، وكان الإنسان المتوحش على فزع منها وحذر دائبين
فلما بلغ الإنسان طوراً من الحضارة أرقى، أنزل تلك العجماوات التي كان ألهها من محاريب عبادته، ونبذ تلك الخرافات وما بها من سباع وهمية، وعلم العرب أن الغول والعنقاء مستحيلان استحالة الخل الوفي، وظهر من المثقفين ذوي النفوس الرقيقة من انتهوا
ونهوا عن قتل الحيوان والتغذي بلحمه والتلهي بصيده وتعذيبه وسجنه كأبي العلاء الحكيم العربي. وكل المصور الإيطالي ليوناردو دافنسي، الذي كان يبتاع الطيور الحبيسة ليطلقها ويشفي نفسه المتألمة برؤيتها تضرب أجنحتها ذاهبة إلى الفضاء؛ وظهرت آثار تلك العلاقات المختلفة بين الإنسان والحيوان في الآداب: الإغريقي وصف لمغامرات حملة الارغونوت التي خرجت لاستخلاص فراء ثمين يحميه غول فظيع، وفيه وصف لجماعة السيكلوب أو المردة ذوي العيون المفردة، وما كان بين كبيرهم وبين يوليسيز من كفاح، وفي الأدب الفرنسي قطعتان بديعتان تفيضان رحمة وجمالا. تصور إحداهما مصرع غزال والأخرى مصرع ذئب على أيدي الصيادين
والأدب العربي حافل بذكر أنواع الطير والحيوان التي عرفها العرب في باديتهم، كالجمل والحصان والأسد والقطاة والحمامة، وكان من عاداتهم أن يمنحوا بعضاً منها كنايات: فأبو قيس للقرد وأبو خالد للأسد، وكان لبعضهم أسماء في لغتهم عديدة، وبها ضربوا الأمثال فقالوا: أهدى من قطاة وأحذر من غراب وأعدى من ظليم، وسيروا الكنى فقالوا: جبان الكلب ومهذول الفصيل للجواد المضياف، واستعاروا أوصافها للإنسان فقالوا: جيد كجيد الغزال وعيون كعيون الجآذر وشبهوا خوذات المقاتلين ببيض النعام، وتشاءموا بأصوات بعض الحيوانات كالغراب والبومة، وزجروا الطير يتفاءلون بالسارح منها ويتشاءمون بالبارح، وأجروا الأمثال على ألسنتها كقصة الثيران الثلاثة المنسوبة إلى الإمام علي، وكالقصص التي أنطق فيها الحيوان أبن المقفع، والمحاورات التي نحلها إياها إخوان الصفا، واسترعت أحوال الحيوان ومسعاته انتباههم فتدبروها مليا كما في تلك الرسالة البليغة عن النمل المنسوبة إلى الإمام علي أيضاً، وفي التدبر في أحوال كثير من الطير والحيوان والهوام أفاض القرآن الكريم في شتى المواضع، ودعا الإنسان إلى التفكير فيها، وألف الجاحظ كتابه المعروف جامعاً بين العلم والأدب
وقد أطنب أدباء العربية خاصة في ذكر الإبل ووصفها في أشعارهم، ووصف سيرها وحنينها إلى أعطافها استحثاثها ومناجاتها، ولا غرو فقد كانت قوام حياة العربي في حله وترحاله، بل كان لها أثر جليل في تطور الشعر العربي ذاته، إذا صح ما قيل من أن أوزان الشعر اشتقت من مشياتها وتدفعها، وهو قول وجيه؛ وقل شأن الإبل قليلاً حين
تحضر العرب، ولكن ظلت لها أهمية عظيمة، وظلت من أهم وسائل الانتقال وحمل المتاجر برا، وحافظ أدباء العربية على تقاليد الجاهليين من الإطناب في ذكر الإبل وتقديمه بين أيدي المديح حتى استقلت الإبل بجانب عظيم من الشعر العربي، ومن خير أوصافها قول طرفة في معلقته:
وإني لأقضي الهم عند احتضاره
…
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
تباري عتاقا ناجيات واتبعت
…
وظيفا وظيفا فوق هور معبد
وأطنب أدباء العربية أيضاً في ذكر الخيل ووصفها في أشعار الحماسة، وما ذاك إلا لأنهم في جاهليتهم وإسلامهم كانوا أمة جلاد وكفاح، الخيل أول عدتهم في القتال والذود عن حقيقتهم، فكان أعز مكان في الدنى لديهم ظهر سابح كما قال المتنبي، وطالت صحبتهم الخيل واطردت ملازمة الخيل لهم، فكأنما ولدت قياماً تحتهم ما قال المتنبي أيضاً، وكأنما ولدوا على صهواتها، ووصفوا مواقفهم في الحروب ومواقف جيادهم، كما فعل عنترة في معلقته، حيث يذكر كيف ازور حصانه من وقع القنا بلبانه، وكيف شكا إليه آلامه بعبرة وتحمحم، وصار لكلمة الخيل أو كلمتي الخيل والرجل مغزى خاص بالحرب، بعد أن استعملها القرآن الكريم في تلك الآية البليغة:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، وتأنق أبو تمام والمتنبي في وصف الخيل وسماتها وأخلاقها وزحوفها، ومن بديع أوصافها في العربية قول الفرزدق في جواد أغر محجل:
فكأنما لطم الصباح جبينه
…
فاقتص منه فخاض في أجشائه
وأبيات أبي تمام التي يقول منها:
وأولق تحت العجاج وإنما
…
من صحة إفراط ذاك الأولق
وقول أبي الطيب في وصفه للمعركة التي دارت على ربى حصن الحدث:
إذا زلقت مشيتها ببطونها
…
كما تتمشى في الصعيد الأرقم
وفاز الأسد والذئاب باهتمام أدباء العربية، وتركا في الشعر العربي أوصافاً شائقة وقصصاً ممتعا، من ذلك وصف بعض المقاتلة أمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان طلوع أحد الليوث عليهم في جلجلة ورهبة زلزلت الأرض وخلعت قلوب الفرسان وجيادهم؛ ومنه أيضاً وصف الفرزدق الأطلس العسال الذي رأى ناره موهنا فأتاه، فقاسمه عشاءه، حتى امتلأ
الذئب فتكشر ضاحكا، ولكن الفررزدق حين رأى نيوب الذئب بارزة لم يظن أن الذئب يبتسم، بل جعل قائم سيفه في يده بمكان؛ وتاه على الذئب بما أنا له من قرى بدل أن يرشقه بشباة سنان؛ أما البحتري فلم يكن بهذا المكان من الجود، بل كان يحدث نفسه بصاحبه الذئب، كما كان الذئب يحدث نفسه بصاحبه البحتري، فرمى الإنسان الوحش فأصماه، ونال من لحمه قليلا؛ كذلك يصف المتنبي في أبيات هي غرر الشعر العربي ملاقاة بعض ممدوحيه للأسد، وتعفيره إياه بالسوط؛ وهناك كذلك وصف للبديع في بعض مقاماته لمثل هذا اللقاء الرائع بين فارس مقدام وبين ملك الحيوان، ومنه قوله على لسان الفارس:
وقلت له: يعز علي أني
…
قتلت مناسبي جلدا وقسرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه
…
سواك، فلم أطق يا لليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا،
…
لعمر أبيك قد حاولت نكرا
ولما تحضر العرب وانتشر في عليتهم الترف، تأنقوا في اتخاذ الحيوان للزينة والمتعة، وكان الخروج للقنص من وسائل لهوهم وترويحهم عن النفس، وكثر في الشعر وصف تلك الأفيال التي كان الخلفاء الفاطميون يسيرونها في مواكبهم، والمها التي كانوا وكان غيرهم يزينون بها حظائرهم وقصورهم، ووصف الخروج للقنص وكلاب الصيد، وقد وصف أبو نواس في أبيات مشهورة كأساً له قد صورت عليها مها تدريها بالقسي الفوارس، ووصف المتنبي لبؤة مقتولة وأشبالها حولها جاثمة، وكان قد هيئ ذلك المنظر في حفل استقبل فيه سيف الدولة سفراء قيصر، ولأبن الرومي عينية بارعة في وصف يوم طرد تمتع به في رفقة له، ومن نوادر أبي دلامة أنه خرج مع الخليفة الهدي وعلي بن سليمان للصيد، فأخطأ علي الرمية وأصاب أحد كلاب الصيد فقال أبو دلامة:
قد رمى الهدي ظبياً
…
شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان
…
ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما: كل
…
امرئ يأكل زاده
وكان من عادة أدباء العربية أن يمثلوا لأحوالهم بأحوال الحيوان، ويستعيروا صفاته لما هم بسبيل وصفه، فيمثلون لحنينهم بحنين الإبل إلى أعطافها، ولوجدهم بوجد الظبية على خشفها قد صرعته نبال الصائد، أو مزقته براثن السبع الضاري، يصفون مصرع طفلها
وافتقادها إياه وجزعها وتلددها لهلاكه، في أبيات كثيرة يبدءونها بقولهم:(وما ظبية. . .) أو نحو ذلك، ويعقبون عليها بقولهم:(بأوجع مني يوم بانوا. . .) أو ما إليه؛ كما كان من التقاليد المتعبة في أشعار النسيب والوجد مناجاة الحمائم وسؤالها عما يشجيها، ومقابلة شجوها بشجو الشاعر، ووصف تهييجها لذكرياته تجديدها لآلامه ومن محاسن ما قيل في الحمائم قول أعرابي:
وقبلي أبكي كل من كان ذا هوى
…
هتوف البواكي والديار البلاقع
وهن على الأطلال من كل جانب
…
نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق غر ظهورها
…
محطمة بالدر خضر روائع
ترى طرراً بين الخوافي كأنها
…
حواشي برد زينتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها
…
خواضب بالحناء منها الأصابع
أما أشد شعراء العربية شغلا بأمر الأحياء وتأملا في أحوالها وذكراً لها في شعره فهو المعري الذي بلغ من نفاذ البصر في شؤون الحيوان وشدة الرحمة له حينا، والإنكار للؤم طباعه حينا، وطوال التأمل فيها تأملا موضوعياً لا ذاتيا، ما لم يبلغه غيره من شعراء العربية فهو تارة ينعى على الضرغام مغادرته غابه لينازع ظبي رمل في كناس، وتارة يسمح للذئب بالشاة علماً بما بالذئب من داء السغب، وتارة يبكي للحمامة البريئة يعاجلها الصقر عن نقرها وهديلها، وطوراً يرميها بمماثلة غيرها من الحيوان في الجور والعدوان، وهو ينهى عن فجيعة النحل في شهدها أو الناقة في فصيلها في حائيته الرصينة من لزوم ما لا يلزم
لا يكاد يوجد في الأدب الإنجليزي شيء من ذكر تلك الأنواع من الحيوان سالفة الذكر، التي احتفى بها أدباء العربية أي احتفاء، وحفل بذكرها الشعر العربي في شتى عصوره، فلا الجمل ولا الحصان ولا الأسد والذئب، ولا الحمائم والظباء، تمثل ذلك المكان الظاهر من موضوعات الأدب وتشبيهاته وكناياته وأمثاله؛ وذلك لاختلاف البيئة الإقليمية والاجتماعية، فتلك ضروب من الحيوان لا تكثر في إنجلترا كثرتها في بلاد العرب، بل لا يوجد بعضها أصلا، والإنجليز كانوا جوابي بحار لا رحالي صحار، ومقاتلة على الماء أكثر منهم على البر، فلا غرو ألا يمروا بتلك الأنواع إلا عرضا، وأن يمتلئ أدبهم بوصف
ضروب أخرى من الأحياء غير هذه
إنما يحفل الأدب الإنجليزي بذكر الطيور الجميلة المغردة، ووصفها ومناجاتها، ووصف أغاريدها والاسترسال معها إلى آماد الخيال البعيدة والطيران معها على أجنحة الشعر؛ فالأدب الإنجليزي غني بالشعر الطبيعي الذي قصد به الوصف الطبيعي وحده، وهذا الوصف حافل بوصف الأطيار، والأدب الإنجليزي غني أيضا الوصف الطبيعي لم يقصد لذاته، وإنما يتخلل شتى أغراض القول؛ وهذا مملوه بذكر الطير أيضاً، والشعر الإنجليزي غني فوق ذلك بالقصائد التي كتبت خاصة في مناجاة الطيور وعبادة أصواتها المطربة، ولم يخل الأدب العربي من شيء من ذلك، ومن محاسن ما فيه منه وصف الصابيء للبغاء، وهو من غرر الشعر العربي ومنه يقول:
عدت من الأطيار، واللسان
…
يوهمني بأنها إنسان
تنظر من عينين كالغصين
…
في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء
…
مثل الفتاة الغادة العذراء
بيد أن الشعر الإنجليزي أغزر وأحفل بتلك الآثار. ولكل من وردزورث وكيتس وشلي وتنيسون وسوينبرن قصائد في ذلك بالغة غاية السمو العاطفي والكمال الفني؛ ولم يكتف الشعراء بمناجاة أطيار جزيرتهم الغريدة الكثيرة، فلجأوا على عادتهم إلى الخرافة، وتصور كولردج طائراً عجيبا سماه الألباتروس جلب اليمن والبركة لأصحاب الملاح القديم، ثم جزاه هذا الأخير جزاء سنمار فقتله، فكان ذلك سبب ضلاله وهلاك أصحابه
ومن غرر تلك الأشعار في الإنجليزية قول وردزورث: (أيها القادم السعيد، هاأنذا أسمعك فأطرب، أأسميك طائر أم صوتا ملحقا؟ أنا أسمع هتافاتك المرددة وأنا مضطجع على العشب، ويخيل إليّ أنها تمر من ربوة إلى ربوة، قريبة بعيدة في آن واحد: ترسل أغاريدك في الوادي المكسو بالأزهار وضياء الشمس، فتثير في نفسي رؤى بعيدة، مرحبا بك يا رسول الربيع! يا من كنت إليه استمع إذ أنا صبي بالمكتب. وطال ما جعلني هتافك هذا أتلفت في كل ناحية بحثاً في الشجيرات والأدواح والسماء، وطالما ضربت في الغابات والأعشاب في نشدانك، وضللت أنت دائماً أملا أو حبا يطول التشوق إليه ولا يرى أبداً، وما أزال أستطيع الاستماع إليك والانبطاح في السهل مصيخا إليك، حتى استعيد في
مخيلتي ذلك العهد الذهبي)
ولجون لوجان من شعراء القرن الماضي مقطوعة عذبة في مناجاة الطائر عينه، قد وقع فيها على بعض معاني وردزورث وتعبيراته، وإن لم يقل عنه جمالا وابتكار، قال:(مرحبا يا غريب الأراكة الجميل، يا رسول الربيع، هاهي ذي السماء تعد لك مقعدك من الريف، ويردد الغاب صدى الترحيب بك؛ إذا ما رقش الأقحوان العشب أيقنا أن سنسمع صوتك من جديد، فهل لك نجم يهديك السبيل أو يوقت لك دورة العام؟ أيها الزائر المطرب، إني معك أرحب بأوان الأزهار وأسمع الموسيقى العذبة التي ترددها الأطيار في حواشي الخمائل؛ ويسمع صبي المكتب صوتك المنبئ بالربيع الجديد، وهو يطوف في الغاب يقطف آخر زهيرات الشتاء، فيتوقف منصتا ويقلد تغريدك؛ أيها الطائر المطرب: إن خميلك خضراء أبدا، وسماءك أبدا صافية، وليس في أغاريدك شجن ولا في عامك شتاء، فيا ليتني أستطيع الطيران فأحف معك على جناح الحبور، نطوف طوفتنا السنوية حول الأرض، رفيقي ربيع مستمر)
بأمثال هذه الأوصاف الطبيعية الشائقة، والمناجاة الحارة الصادقة يحفل الشعر الإنجليزي، ومثل هذا الولع بالطيور والشغف بمناجاتها ووقف القصائد والمقطوعات على الترنيم بحبها غير شائع في الأدب العربي؛ فالشعر العربي أحفل بذكر الحيوان ولا سيما الضروب سالفة الذكر، والشعر الإنجليزي قليل الاحتفال بها عظيم الحفاوة بالطير؛ ولا غرو: فقد كان العرب رجال مجتمع مقبلين على أسبابه ووسائله، يحمدون الإبل التي هي قوام حياتهم والخيل التي هي عمادهم في معركة الحياة، ويتمدحون بالبأس والشجاعة فيذكرون قتال الأسود وجندلة الذئاب، وفيما عدا ذلك لم يكن لهم كبير التفات إلى الطبيعة، ولا شديد عطف على أبنائها، وأشعارهم في هذا الباب لا تنم عن حب للحيوان أو شغف بحياته؛ وكان حب الطبيعة والهيام بجمالها من أكبر مميزات الأدب الإنجليزي، والطيور أكثر تمثيلا لجمالها وحبورها من الأسود والذئاب، فكثر في الأدب الإنجليزي وصف الطيور كما كثر وصف الأزهار والآجام والأنهار؛ وفي شغف الأدب الإنجليزي بهذه واحتفاء الأدب العربي بتلك رمز وبيان للصبغة الاجتماعية التي ترين على الأدب العربي، والنزعة الطبيعية التي تتجلى في الأدب الإنجليزي
فخري أبو السعود
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 4 -
لا نظن بعد الذي تقدم أن الرئيس ابن سينا قد ادخر وسعا في إثبات حقيقة مغايرة للجسم ومتميزة عنه كل التميز، وأن في الكائن الحي شيئا غير لحمه ودمه هو مصدر حركته وحسه وتفكيره. وسواء أكان موفقا في برهنته دائماً أم لا فالمهم أنه أعتمد - كما اعتمد أنصار المذهب الروحي قديما وحديثا - على بعض الظواهر التي لا يمكن تفسيرها ماديا، وأرى أنها تستلزم قوة كامنة ومبدأ خفيا هو النفس. وهذه الظواهر قسمان: جسمية وعقلية؛ ومن الأولى يتطرق الخلل والوهن غالبا إلى برهنته. ففي اللحظة التي يتحدث فيها عن الإحساس أو الحركة زاعما أنها لا تفهم إلا إن سلمنا بقوة روحية تشرف عليها وتنظمها نراه يبعد عن الآراء الحديثة كل البعد؛ أما حين يعرض للشخصية والتفكير والظواهر النفسية في وحدتها واتصالها ويقرر أنها تستدعي أصلا غير الجسم وأمرا مخالفا للبدن فانه يدلي بأفكار تقربه من المحدثين بقدر ما تبعده عن زملائه ومعاصريه. وهذا هو الجزء الذي بقى للخلف من برهنته، والذي يجدر بنا أن ندخره ونحتفظ به. ولسنا ندعي مطلقا أنه أثبت وجود النفس بأدلة هي اليقين وحجج لا تقبل النقض؛ فتلك كانت ولا تزال مشكلة المشاكل وموضوع الخلاف بين الماديين والروحيين. والمهم أنه اهتدى في هذا الباب إلى أكثر البراهين إقناعا وأعظمها وضوحا.
والآن وقد فرغ من إثبات وجود تلك الحقيقة المخالفة للجسم فلا بد له من أن يحددها ويبين ماهيتها ويعين خواصها ومميزاتها. وليس تحديد النفس من الأمور الهينة؛ فقد كان مثار اختلافات كثير بين الفلاسفة الأقدمين، ومبعث أخذ ورد طويلين بين أفلاطون وأرسطو بوجه خاص. ولم يكن ابن سينا بعيدا عن هذه الآراء المتباينة والمذاهب المتفرقة، فإن الباب الأول من كتاب النفس لأرسطو، الذي يعد حجته الأولى ومصدره الرئيسي، موقوف في جملته عليها وخاص بعرضها ومناقشتها. وسيراً على سننه يعقد في كتابه الشفاء فصلا
(في ذكر ما قاله القدماء في النفس وجوهرها ونقضه) وفيه يلخص كل ما جاء في الباب الآنف الذكر. ليبين مذاهب الفلاسفة السابقين، ويناقشها على نحو يشبه كثيراً ما صنعه أرسطو. واختلاف هؤلاء الفلاسفة في رأيه راجع إلى أن للنفس أثرين ظاهرين هما الحياة والحركة من جانب والإدراك من جانب أخر، ففريق بهره الأثر الأول وحاول تجريد النفس بواسطته فقط، وفريق آخر لم يفهم في طبيعتها إلا الإدراك، وفريق ثالث رأى أن يجمع بين هذين الجانبين. ويراد بالفريق الأول كل أولئك الذين عدوا النفس مصدر الحياة والحركة الذاتية، فخلطوا بينها وبين الدم الذي إن سفح كان الموت، أو بينها وبين الجواهر الفردة - أو الهباء كما يسميه ابن سينا - التي كان يظن أنها متحركة دائماً. وأما الفريق الثاني فيعتقد أن الشيء لا يدرك سواه إلا إذا كان مبدأ له ومتقدما عليه؛ ولذلك عدوا النفس واحداً أو جملة من المبادئ التي يختلف نوعها وعددها تبعا للفلاسفة فظنوا أنها نار أو هواء أو أرض أو ماء أو بحار؛ أو جعلوها مركبة من العناصر الأربعة كما ذهب إلى ذلك أبناء دقليس زعما منه أن الشبيه هو الذي يدرك الشبيه، فلا بد أن يكون في النفس جزء من الأشياء التي تدركها وأما الفريق الأخير فيرد النفس إلى العدد لأن الأعداد مبدأ الوجود والحركة والإدراك
واضح أن ابن سينا يشير في كل هذا إلى آراء الفلاسفة السابقين لسقراط في النفس، أمثال طاليس وديمقريط وفيثاغورس وإن كان لم يصرح بأسمائهم. ولم يقنع بتخليص هذه الآراء، بل ناقشها مناقشات طويلة عنيفة نكتفي بأن نسرد أمثلة منها. فيعترض على الفريق الأول أنه لم يفسر السكون، ذلك لأن النفس أن كانت متحركة بذاتها فكيف تسكن. على أنه ليس من السهل على هذا الفريق أن يحدد نوع الحركة الذي تقوم به النفس. ويرفض المذهب الذري الذي أثبت بطلانها في نواح أخرى. ولا يخفى تهكمه بأولئك الذين يزعمون أن الكائن لا يدرك إلا ما صدر عنه ملاحظا أن الإنسان يعلم أشياء كثيرة لم يقل أحد إنه أصل لها. وليس بصحيح مطلقا أن الشبيه فقط هو الذي يدرك الشبيه، لأنه لو سلم هذا كان معناه أن العالم العلوي لا يعرف من أمر العالم السفلي شيئا
ليس هناك شك في أن وقوف ابن سينا على هذه الآراء ومناقشته لها قد هيأت له الفرصة لتخير أحسن تعريف يلتئم مع طبيعة النفس ووظائفها. إلا أن هناك عاملين قويين يقتسمانه.
وصوتين عظيمين يتجاذبانه، وهو بينهما في حيرة واضحة وتردد ظاهر أو تناقض مكشوف أحيانا. فحين يقرأ عبارات أرسطو الأخاذة وتحليلاته المنظمة واعتراضاته المفحمة لا يلبث أن يرددها ويسير وراءها. وحين يسمع أفلاطون ينادي بجوهرية النفس وتميزها التام عن البدن يستولي عليه هذا النداء ويصادف هوى في نفسه وإن كان لا يتفق مع آراء أرسطو. وقد يقف موقفا وسطا بين هذين الطرفين المتقابلين محاولا الجمع والتوفيق.
يبدأ ابن سينا فيلاحظ أن الأجسام الطبيعية مكونة من هيولي وصورة. فأما الهيولي فهي تلك المادة التي يتكون منها الجسم كالخشب الذي يصنع منه الكرسي أو كالحديد الذي يعمل منه السيف. وأما الصورة فهي ما به تتميز الأجسام بعضها عن بعض وتتحدد ماهيتها وتقوم بوظائفها. فالأرض لا تفترق عن الماء بمادتها بل بصورتها، والإنسان إنسان بصورته لا بمادته المكونة من العناصر الأربعة، والسيف لا يقطع بحديده بل بحدته. وبما أن الكائن الحي جسم طبيعي فهو من مركب هيولي وصورة، والأخيرة هي التي تميزه من الكائنات غير الحية إذ أنها مصدر حياته وحسه وحركته. فالنفس إذا صورة الجسم. والصور كمالات كلها وكمالات أولية، لأن وجود الأشياء المختلفة لا يكتمل إلا بها. وليست النفس كمالا أوليا لجميع الأجسام، بل للأجسام الطبيعية فقط التي تمتاز بالحياة عن الأجسام الصناعية وتشتمل على آلات وأعضاء تقوم بوظائف متباينة. فهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي
يخيل إلينا أن القارئ سيدرك على الفور المصدر الذي أخذت عنه هذه الأفكار. فإن ابن سينا لم يصنع شيئاً أكثر من أنه لخص الفصلين الأول والثاني من الباب الثاني من كتاب النفس لأرسطو ولم يكتف بأن يعتنق آراء الفيلسوف اليوناني، بل أبى إلا أن يردد بعض ألفاظه وتعبيراته. فلفظ (كمال) الذي يتشبث به ويبني عليه تعريفه ترجمة صحيحة لكلمة (أنتليشيا) اليونانية، وقوله أن (النفس صورة الجسم) ترجمة أخرى لتعبير أرسطي مشهور فإذا كان التعريف السابق ناقصاً أو معيباً من بعض نواحيه فالذنب في هذا لا يرجع إلى الفيلسوف العربي وحده، وإنما يشاركه فيه أستاذه اليوناني صاحب الفكرة الأولى. وإذا تركنا جانبا لفظة (كمال) أو (أنتليشيا) وما فيها من غموض فإنا لا نلبث أن نصطدم بهذه
الجملة: (النفس صورة الجسم). تعبير رائع أخاذ من غير شك، لكنه لا يقدم كثيراً في تفهم حقيقة النفس وتحديد ماهيتها. وكم عودنا أرسطو هذه التعبيرات الحلوة التي يدمج فيها بعض المشاكل دون أن يحلها وفكرة الصورة من الأفكار الجوهرية في مذهبه إلا أنها في الوقت نفسه من أدق نقطة وأصعبها تلاؤما مع نزعة الواقعية. فان من يقول بالصورة يدنو من المالية الأفلاطونية وإن تحامل عليها. والواقع أن أرسطو لم يأل جهدا في نقد مثالية أفلاطون التي تقول إن النفس حقيقة متميزة من الجسم. ويصرح بأن ما ذهب إليه الأفلاطونيون والفيثاغوريون من أن النفس جوهر روحي أشبه بالخيال منه بالحقيقة؛ ولا يستطيع أن يتصور أن نفسا ما تأتي من الخارج وتحل في جسم ما. وكيف نقبل هذا ومؤداه أن النفس تدخل الجسم كما يوضع مظروف في ظرف خاص؛ ومن المقرر أن المادة غير قابلة للعزل عن صورتها ومع هذا فإن أرسطو يفسر النفس تفسيرا أدخل في باب المثالية من فرض أستاذه؛ فإنه يعتبرها صورة، وليست الصورة شيئا أو مادة بأي شكل من الأشكال. تناقض واضح ومنتظر من كل فيلسوف واقعي لا يزال يحتفظ بقدر من المثالية.
وكأن ابن سينا قد أدرك ما في التعريف السابق من نقص بدليل ما لاحظه من أنه لا يفسر النفس من حيث هي وإنما يعرفها من ناحية صلتها بالجسم فقط. لهذا أخذ على عاتقه أن يتلافى هذا النقص وأن يوضح ذات النفس مميزا إياها بخاصتين رئيسيتين هما الجوهرية والروحية. وفي حديثه عن هاتين الخاصتين يعرب لنا عن جدلي ماهر ومحلل دقيق وباحث عميق. ونحن نعلم أن الجوهر والعرض متقابلان بل ومتناقضان وإن كان تناقضهما غير صحيح، فأن كل ما ليس بجوهر عرض. فإذا استطعنا أن نثبت أن النفس ليست واحدا من الأعراض لزم من هذا أنها جوهر قائم بذاته. ولعل أول شيء ينفي عنها العرضية هو أنها مستقلة كل الاستقلال عن الجسم؛ وهذا الأخير محتاج إليها تماما الاحتياج في حين أنها لا تحتاج إليه في شيء. ولن يتعين جسم ما ويتحدد إلا إذا اتصلت به نفس معينة. وعلى عكس هذا النفس هي هي سواء اتصلت بالجسم أم لم تتصل به. ولا يمكن أن يوجد جسم بدون النفس مع أن هذه تستطيع أن تعيش بمعزل عنه؛ وما دامت هي مصدر حياته وحركته فلا وجود له بدونها. ولا أدل على هذا من أنه يتغير ويصبح شبحا من الأشباح إذا ما انفصلت عنه. فالنفس إذن جوهر قائم بذاته لا عرض من أعراض الجسم.
وهنا يبتعد ابن سينا عن أرسطو بعدا واضحا؛ فإن من المبادئ المسلمة لدى الأخير أن ليس ثمة وجود مستقل للصورة بمعزل عن مادتها.
وليس القول بجوهرية النفس من الآراء التي أبتكرها ابن سينا؛ فقد سبقه إلى هذا أفلاطون وتوسع فيه رجال مدرسة الإسكندرية. غير أن هناك فارقاً بينه بينهم، فبينما هؤلاء يعدون النفس جوهر لا غير يقرر هو أنها جوهر وصورة للجسم في آن واحد، وفي هذا من التعارض ما فيه وإن كان يفسره بأنه جوهر في ذاتها وصورة من ناحية صلتها بالجسم. والسر في هذا التعارض الذي وقع فيه الفارابي من قبل أن الفيلسوفين العربيين متأثران بمصدرين مختلفين؛ فقد أخذ فكرة الصورة عن أرسطو كما أخذ فكرة الجوهر عن أفلاطون؛ ولم يريا أية غضاضة في أن يطلقا هاتين على النفس، خصوصاً وقد ذلل لهما أرسطو ذلك؛ فانه لم يستعمل كلمة (جوهر) في معنى محدود فيطلقها على المادة تارة الصورة أخرى وعليهما معا مرة ثالثة. ومن الغريب أن صاحب كتاب الربوبية الحزاني يفسر عبارة أرسطو المشهورة:(النفس صورة الجسم) تفسيرا يشبه كل الشبه ما جاء به فلاسفة الإسلام؛ ولعل هؤلاء تأثروا به وخلطوا على نحو ما صنع الأرسطية والأفلاطونية ولكنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن ابن سينا كلما بعد عن جو الآراء الأرسطية وخلص إلى نفسه عد الروح جوهرا فحسب ولم يشر قط إلى صورتها. فإذا كان يعرفها في الشفاء والنجاة الذين يحاكي فيهما جماعة المشاثين أنها كمال وصورة للجسم فإنه لا يتحدث عنها في كتاب الإشارات الذي يبدو فيه استقلاله وشخصيته إلا باسم الجوهر الروحي القائم بذاته. وفي هذا ما يبين لنا كيف غلبت أفلاطونيته على انتسابه لأرسطو في هذا الموقف.
(يتبع)
إبراهيم مدكور
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
- 5 -
قالت الزهرة المائتة للزهرة الخالدة:
- لقد تمتعنا بالحياة معاً على مرج واحد، وغداً تلفحنا نسمات الربيع المودع فتذوي وريقاتي وأموت؛ وتبقين أنت خالدة في الحياة
ستقبلك الشمس مشرقة ومغربة فتشرب من وجنتيك دموع الصباح وأنت مصغية إلى أناشيد الأطيار
ما أحلى الحياة وما أجمل البقاء! ويلاه من قضاء أبرم على حكم الفناء!
فأجابت الزهرة الخالدة: - كل شيء يتغير ويتطور وأنا وحدي أشهد في جمودي نشوء الطبيعة وتحولها
تمر بي لفحات القرّ وتداعبني نفحات الصيف فلا الشتاء يميتني، ولا الربيع يحيني، وأنا أحمل تاجي الأصفر الدائم فلا أخاف الموت ولا أشعر بالحياة
تمر بي أسراب النحل فلا أسمع لها طنيناً، ويجانبني الفراش المتطاير فلا تلمسني جناحاه
يهب النسيم فيمر بي سراعاً دون أن يستوقفه مني أريج يتضمخ به، وتقترب الغادة مني ثم تبتعد وهي تحدجني بلفتات الاحتقار
من يقطف زهرة القبور، زهرة الخلود الصفراء الدائمة الذبول؟
تمايلي على ساقك النظير يا زهرة الربيع، وارفعي أبصارك إلى السماء شاكرة، سقياً لك! فأنك ستحلين رموز الموت بعد أن عرفت أسرار الحياة
أما أنا الضحية البريئة، فلسوف أبقى عرضة لحر النهار وبرد الليل، تضربني شمس يوليه وتعانقني ثلوج يناير، سوف أبقى في الحياة لأسمع في الليل أنين العظام البالية في القبور
ستموتين يا زهرة الربيع فترفع روحك مع زكي عبيرك إلى السماء
اذهبي بسلام واحملي توسلي إلى العلي، قولي للذي خلقنا: إن دوام البقاء على الأرض ضربة لا عطية، توسلي إليه ليدعوني إلى مصدر كل سعادة وكل حياة
(ف. ف)
13 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشة
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
لسعة الأفعى
واستسلم زارا للكرى يوما تحت شجرة التين، وكان الحر شديداً فستر وجهه بساعده فأتت أفعى ولسعته في عنقه فصرخ متألماً وانتفض محدقاً بالأفعى فعرفت عينيه تململت لتنصرف، فقال لها زارا: - (لا تذهبي قبل أن أقدم لك شكري، لأنك نبهتني في الزمن المناسب لأقوم بسفر بعيد)
فأجابت الأفعى وفي صوتها غنة الأسى: - بل سفرك قريب فزعافي قاتل
وابتسم زارا وقال: وهل لزعاف الأفعى أن يقتل تنيناً؟ خذي سمك، إنني أعيده إليك فلست من الغنى على ما يسمح لك بتقديمه هدية لي.
وسارعت الأفعى إلى الالتفاف حول عنق زارا تلحس جرحه.
وقص زارا هذه الحادثة يوماً على أتباعه فقالوا له: وما هو المغزى الأدبي لهذه القصة، فأجاب: - إن أهل الصلاح والعدل يدعونني هداما للمبادئ الأدبية فقصتي لا تتفق وهذه المبادئ.
إذا كان لكم عدو فلا تقابلوا شره بالخير لأنه يستصغر بذلك نفسه، بل أكدوا له أنه أحسن بعمله إليكم، والأجدر بكم ألا تحتقروا أحدا، تظاهروا بالغضب. وإذا وجهت اللعنة إليكم، فلا يسرني أن تمنحوا البركة، إن ما يسرني هو ألا تأبوا اللعن أنتم أيضا، وإذا ما أنزلت بكم مظلمة كبيرة فبادلوا المعتدي مثلها وأرفقوها بخمس مظالم صغرى، لأنه ما من مشهد أشد قبحا من مشهد من لا يخضع إلا للظلم.
إن اقتسام المظالم بالتساوي إنما هو مساواة بالحق، فهل كنتم تعرفون هذا من قبل؟ من يقدر على إرهاق الناس بظلمه فعليه أن يحتمل هو الظلم أيضا.
لئن ينتقم الإنسان قليلا، فذلك أدنى إلى المعروف وليس من الإنسانية أن يترفع المظلوم عن الانتقام. إنني لأنفر من اقتصاصكم إذا لم يكن عبارة عن حق تؤدونه للمعتدي، وإن من
يسند الخطأ إلى نفسه لأنبل ممن يعلنون في كل آن أن الحق في جانبهم، وأخص من هؤلاء من كانوا حقيقة على صواب. إن أغنياء الروح لا يفعلون هذا.
أنني أكره عدالتكم الباردة، فان في عيون قضاتكم ازورار الجلاد ولمعان سيفه. فأين العدالة تلمح في عينيها الصفاء. أوجدوا لي الحب الذي لا يكتفي بحمل كل أنواع العقاب، بل يحمل أيضا جميع الخطايا.
أوجدوا لي العدل الذي يبرئ الجميع ليحكم على الإنسان الذي يدين.
أتريدون أن أذهب إلى أبعد مما قلت فأعلن لكم أن الكذب نفسه يصبح محبة للإنسانية في نفس من يتوق إلى إقامة العدل.
ولكن هل بوسعي أن أقيم العدل بكل إخلاص. وكيف يمكنني أن أتوصل إلى إعطاء كل ذي حق حقه. أذن، لاكتفين بأن أعطي أصحاب الحق حقي الخاص.
وأخيراً، حاذروا ظلم المنفرد، إذ ليس بوسعه أن ينسى وأن يبادل الظالمين ظلما، وما المنفرد إلا بئر عميقة يسهل على من يشاء أن يلقي فيه حجراً. ولكن من يقدر أن يستخرج هذا الحجر إذا بلغ قعر البئر السحيق؟
احترسوا من إهانة الفرد، وإذا أنتم حقرتموه فأجهزوا عليه بقتله.
هكذا تكلم زارا. . .
الفصل الثاني
الطفل حامل المرآة
ورجع زارا إلى الجبال، إلى عزلة كهفه ليحتجب عن الناس كالزراع ألقى بذوره في أثلام أرضه وبات يتوقع نبتها، ولكنه ما لبث أن حنْت جوارحه إلى أحبابه إذ كان عليه أن يمنحهم بعد كثيرا من الهبات وأصعب ما يلقى الحب اضطراره إلى قبض يده إجابة لداعي محبته وتفاديا للمنة في عطائه.
ومرت على المنفرد الشهور والأعوام وحكمته تزداد نموا فتزيده ألما باتساع آفاقها.
وأفاق يوماً (من نومه قبل انفلاق الفجر واستغرق في تفكيره وهو ممدد على فراشه وتساءل قائلا:
- لماذا أرعبني هذا الحلم الذي استفقت منه مذعوراً؟ رأيت كأن ولدا (يحمل مرآة) اقترب مني وهو يقول:
- أنظر في هذه المرآة يا زارا
وما نظرت إلى المرآة حتى صرخت وخفق قلبي خفوقا (شديدا). لأن ما أنعكس لي في المرآة لم يكن وجهي بل وجها تقطبت أساريره بضحكة شيطان ساخر
والحق ما يفوتني تعبير هذا الحلم وإدراك ما نبهت إليه فان تعاليمي مشرفة على خطر، والزوان يريد أن ينتحل صفات الحنطة. لقد استأسد أعدائي فشوهوا تعاليمي حتى أصبح أتباعي يخجلون مما وهبتهم.
لقد فقدت صحبي وآن لي أن أفتش عمن فقدت
وانتفض زارا لا كمن استولى الذعر عليه بل كمأخوذ برؤى وكشاعر هزه شيطانه. فوجم نسره وأفعاه وحدقا بوجهه وقد لاحت بوادر السعادة عليه كتباشير الفجر. فقال لهما:
- ماذا حدث لي؟ أفما تريان إنني تغيرت؟ أفما تحسان أن الغبطة قد نزلت عليَّ كأنها عصفات الرياح؟
لقد جنَّ شعوري بهذه السعادة فلن يسلم بياني من اختلال هذا الشعور، إن سعادتي لم تزل في حداثتها فتذرعا بالصبر معي عليها
لقد أوجعتني سعادتي فليكن سعادتي كل من أرهقتهم الأوجاع
إن في وسعي الآن أن أنحدر إلى مقر صحبي والى مقر أعدائي فقد أصبح زارا قادراً على استطراد القول والإحسان إلى من يحب
لقد آن لحبي أن يتدفق كالذي يندفع من الأعالي إلى الأعماق، ويتجه من الشرق إلى المغرب.
إن نفسي تندفع مرغية مزبدة في الوديان متملصة من الجبال الصامتة تصخب فوقها عواصف الآلام. ولطالما تعللت بالصبر وعلقت أبصاري على بعيد الآفاق، لقد أرهقتني العزلة فما أطيق السكوت بعد
أصبحت وكأنني باجمعي فمٌ أو هدير جدول يتحدر من شامخات الصخور. أريد أن أقذف بكلماتي إلى الأغوار. فيجري نهر حبي في المفاوز البعيدة، ولن يضل هذا النهر سبيله إلى
مصبه في البحار
إن في داخلي بحيرة وحيدة قانعة بنفسها، غير أن نهر محبتي يجتذبها في مسيره ليقطع معها السيول ويترامى وإياها في لجة البحر
إنني أتبع مسالك لم أعرفها من قبل وألهمت بيانا (جديدا) بعد أن أتعبتني اللهجات القديمة التي ترهق كل المبدعين وقد امتنع على فكري أن يقتفي رواشم النعال المقطعة
ما من لغة إلا وأراها بطيئة تقصر عن مجاراة بياني
سأقفز إلى صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت أيضاً بسوط سخريتي
أريد أن أقطع أجواء البحار كهتفة مسرة وحبور إلى أن أستقر على الجزائر السعيدة حيث يقيم أحبائي، وبينهم أعدائي أيضاً، لشد ما أحب الآن جميع من يتسنى لي أن اوجه إليهم الكلام. وسيكون لهؤلاء الأعداء أيضاً قسطهم في إيجاد غبطتي
عندما أتحفز لاعتلاء أشد جيادي جموحاً لا أجد لي معيناً أصدق من رمحي متكأً أرتفع عليه
هو رمحي أهدد به أعدائي، ولكم يستحقون ثنائي إذا ما تمكنت من طرح هذا الرمح من يدي:
لقد طال اصطبار غيومي بين قهقهة الرعود ٍوقد آن لي أن أرشق الأعماق بقذائف برَدَى.
إن صدري سيتعاظم بانتفاخه حتى يزفر بالعاصفة الهائلة على الشامخات وهكذا سأفرَّج عنه
فان سعادتي وحريتي سيندفعان اندفاع العواصف ولكنني أتمنى لو يحسب أعدائي أن ما يزمجر فوق رؤوسهم إنما هو الشر لا روح سعادة وحرية
وأنتم أيضاً أيها الصحاب سيتولاكم الرعب عندما تنزل عليكم حكمتي الكاسرة ولعلكم تولون هاربين منها كما يهرب الأعداء
ليت لي أن أستدعيكم إليَّ بحنين شبّابة الرعاة، وليت تتعلم لبؤة حكمتي أن تزأر بنبرات العطف والحنان، فلطالما وردنا سويا من مناهل العرفان. ولكن حكمتي الوحشية تمخضة بآخر صغارها في الجبال السحيقة بين الجلامد الجرداء، وهي الآن تطوف بجنونها الصحاري القاحلة مفتشة على المروج الناضرة
إنها لشيخة وحشية هذه الحكمة التي تقصد إنزال أعز ما لديها في مروج قلوبكم الناضرة
هكذا تكلم زارا.
(يتبع)
فليكس فارس
إِحياء النحو
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لا شك في أن نحونا العربي أصبح علماً جافاً يورث النظر فيه السأم والملل. ولا يسعني مع هذا أن أنكر تلك الجهود الموفقة التي بذلها الأستاذ الجليل علي الجارم في تسهيل النحو وتجميله في كتاب (النحو الواضح) فصارت به دروس النحو الأولى سهلة مقبولة لدى الناشئين، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتقرن العلم بالعمل قرنا موفقاً، ولكن نحونا العالي لا يزال في الحالة السيئة التي وصل إليها من يوم أن أخذ من أحضان علم الأدب الذي نشأ النحو في ظله، وترعرع في أرضه الخصبة.
وكان الإمام علي بن عيسى الرماني أول من انتزع النحو من حضنه بين الأدب وعلومه؛ وقد ولد الرماني سنة 276 هـ وأخذ عن الزجاج، وابن السراج، وابن دريد، ثم برع في علم النحو حتى قال أبو حيان التوحيدي: لم ير مثله قط علما بالنحو، وغزارة بالكلام، وبصراً بالمقالات، واستخرجاً للعويص، وإيضاحا للمشكل، مع تأله وتنزه. ودين وفصاحة، وعفاف ونظافة، وكان يمزج النحو بالمنطق، حتى قال الفارسي إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن معه نحن فليس معه منه شيء - قلت: النحو ما يقوله الفارسي، ومتى عهد الناس أن النحو يمزج بالمنطق، وهذه مؤلفات الخليل وسيبويه ومعاصريهما ومن بعدهما بدهر، لم يعهد فيها شيء من ذلك
على أن النحو لم يزل يبعد عن الأدب بعد الرماني شيئا فشيئا، حتى أصبح العالم بالنحو لا يدري شيئا من الأدب، ولا يستطيع أن يقوم لسانه أو قلمه إذا نطق أو كتب، وحتى أصبحت بعض الشواهد النحوية تروى مغلوطة وتمضي عليها أزمان طويلة فلا يتنبه إلى غلطها، ولا يعرف مع هذا قائلها، وليس هذا إلا من فصل النحو عن الأدب، والعناية بحفظ قواعده ونكاتها الفلسفية، وإهمال صبغته الأدبية التي كانت تراعي في عهد ازدهاره.
وإني أسوق من ذلك هذا الشاهد الذي يذكر في باب التوكيد
لكنه شاقهُ أن قيل ذا رجَبٌ
…
يا ليت عِدَّةَ حولٍ كلِّهِ رَجَبُ
برفع كلمة (رجب) في آخر البيت، فهذا الشاهد لا يعرفون قائله إلى الآن، وهم مخطئون في رفع كلمة (رجب) في آخر البيت لأنها من قصيدة رويها على النصب لا على الرفع.
وقد جاء في كتاب الكامل للمبرد وشرحه رغبة الآمل للشيخ المرصفي (ص 214 ج 7) أن عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي كان يؤم بالناس في مسجد الأحزاب بالمدينة، فلما وليها الحسن بن زيد منعه أن يؤم الناس في هذا المسجد، فقال له: أصلح الله الأمير، لم منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي من قبلي؟ قال: ما منعك منه إلا يوم الأربعاء، يريد قوله:
يا لَلرجال ليوم الأربعاءِ أمَا
…
ينفكُّ يحدث لي بعد النُّهَى طَرَبَا
إذ لا يزالُ غزال فيه يفتنني
…
يأتي إلى مسجد الأحزاب مُنتْقِبَا
يُخَبِّرُ الناسَ أن الأجرِ همَّتُهُ
…
وما أتى طالباً للأجر محتسبا
لو كان يطلب أجراً ما أتى ظُهُراً
…
مُضَمَّخاً بفَتيت المسك مختضباً
لكنه شاقه أن قيلَ ذا رجب
…
يا ليت عِدَّة حولٍ كلِّهِ رجَبَا
فإن فيه لمن يَبغي فواضِلهُ
…
فضلا وللطالب المرتاد ما طلبا
كم حُرَّةٍ دُرَّةٍ قد كنْتُ آلفَهُا
…
تسد من دونها الأبوابَ والحجبا
قد ساغ فيه لها مَشْىُ النهار كما
…
ساغ الشرابُ لعطشان إذا شربا
يقال شهر عظيمُ الحقّ في سَنَةٍ
…
يهوى له كلُّ مكروب إذا كربا
فاخرجنَ فيه ولا ترهَبْنَ ذا كذبٍ
…
قد أبطل الله فيه قول من كذبا
وكانت ولاية الحسن بن زيد بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب المدينة سنة 160 هـ في عهد أبي جعفر المنصور ثاني ملوك العباسيين
فإحياء النحو عندي بأن تعاد له صبغته الأدبية التي كانت له وليس إحياؤه بتطويل الكلام في أن الفتحة ليست علامة إعراب كما قرأته في بعض الكتب الحديثة، فإن هذا مما يزيد فيه الطين بلة، ولا يؤدي بنا إلى الإصلاح المنشود له
عبد المتعال الصعيدي
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها
ترجمة حسن حبشي
وقد وضع الإسلام حداً لهذه الوحشية واستهجنها القرآن ونهى عنها قوله (ولَا تَقْتُلوا أولَادَكُمْ خشيْة إمْلَاقٍ نحْنُ نَرْزُقهُمْ وإيَّاكم إنَّ قتْلَهُمْ كان خِطأً كبيراً) وربما كانت الأبيات التالية تفصح عن هذا تمام الإفصاح، وفيها نرى صراعا عنيفاً بين رجل وبين الفاقة، ويحمد الله أن كان مصرع ابنته قبل مصرعه حتى لا تكون تحت رحمة أقاربها:
لولا أُمَيْمَةُ لمْ أجزَع منَ الْعَدَمِ
…
ولم أُقاسِ الدُّجَى في حِنْدِسِ الظلم
وَزَادَنِي رَغبْةً في الْعَيْشِ معْرِفتِي
…
ذُلَّ اليتَيمةِ يَجفْوهَا ذَوُو الرَّحِم
أحاذِرُ الفَقْرَ يَوْماً أنْ يلمَّ بِهَا
…
فيَهْتِكُ السِّتْرَ عن لَحْمٍ على وَضمِ
يهْوَى حَياتي وَأهوى مَوْتَها شغفاً
…
والموتُ أكرمُ نزّالٍ على الحُرُمِ
أحشى فظَاظَةَ عَمٍّ أو جفاءٍ أخِ
…
وكنتُ أُبقي عليها من أذى الكلِم
ويقول آخر في هذا الموضوع:
لولا بُنيَّاتٌ كزُغب القَطا
…
رُدِدنَ منْ بَعضٍ إلى بَعضِ
لكانَ لي مضطرب واسعٌ
…
في الأرض ذاتِ الطولِ والعرَضِ
وإنِّمَا أولادُنا بينَنَا
…
أكبادُنا تمشي على الأرض
لو هبَّتِ الرِّيحُ على بعضِهِم
…
لامتنَعَتْ عينِي مِنَ الغْمْضِ
الحب والبغض هاتان الكلمتان هما جماع الآداب البدوية؛ لأنه إذا كان العربي - كما رأينا - صديقاً حميما لخلانّه، فانه عدو لدود لا يهدأ له بال إذا عادى؛ تضطرم نفسه وتتأجج بنيران الحقد والبغضاء، وكانوا يعدون من لا يرد اللطمة التي أصابته جباناً، ويستحيل على الرجل الكريم المحتد منهم أن ينسى ضرراً لحقه حتى يثأر لنفسه وينتقم لها، وأنشد بعض الأعراب، - وقد آلمه أن يغتصب المغير إبله - أبياتاً يقول فيها عن عشيرته التي لم تساعده في استرجاعها:
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوِي عدَدٍ
…
ليسُوا من الشَّرِّ في شيءٍ وإنْ هانا
يَجزونَ من ظُلِمِ أهلِ الظلمِ مَغفرِةَ
…
ومن إساءةِ أهل السوُّء إحسانا
والبيت الثاني الذي قد يسرف في مدح من يتصف به الأخلاقيون المسيحيون والمسلمون ألحق بمن فيهم عاراً لا تمحي آثاره، وإن المنهج البَّين في معاملة الأعداء ليتضح على أتمه من الأبيات التالية:
إذا المرءُ أولاكَ الهوانَ فأولِهِ
…
هوَاناً وإن كانتْ قَرِيباً أواصِرهُ
فانْ أنتَ لمْ تَقْدِرْ على أن تهينَهُ
…
فَذرْهُ إلى اليَوْم الذي أنْتَ قادِرُه
وقارِبْ إذا مَا لمْ تَكنْ لكَ حِيلة
…
وصَمِّمْ إذا أيقنْتَ أنَّك عَاقِرُهْ
وفوق كل هذا فان الدم يدعو الدم، وهذا الارغام يظل يلاحق ضمير العربي الوثني؛ وكان الانتقام عندهم ضرورة طبيعية إذا لم تجب حرمتهم النوم والشهية والصحة، كما كان ظمأ محرقاً لا يطفئ أواره أو يبل لهيبه سوى الدم، ومرضاً من أمراض الشرف يمكن تسميته بالجنون، وإن كان قليلا ما يمنع الرجل من أداء عمله في هدوء وتبصر. وكانوا يثأرون من القاتل إن أمكن أو أحد أقاربه وأبناء عشيرته. وإذا ذاك تستقر الأمور في نصابها ويندمل الجرح، إلا أن هناك حالات كان الانتقام فيها فاتحة قتال دموي دائم، تشتبك فيه القبيلة بأجمعها صغيرها وكبيرها، كما حدث ذلك في مقتل كليب الذي أدى إلى حرب زبون ظلت الرماح فيها مشتجرة زهاء أربعين عاما بين قبيلتي بكر وتغلب، ويقبل أقرب أقرباء القتيل الدية كفدية له وتدفع عادة جمالا وهي تعد مسكوكات الإقليم، وان قبولهم ذلك ليوحي إليهم دائماً أنهم فضلوا اللبن (النياق) وأثروه على الدم، وإن الشعور العربي الحق ليشرئب من خلال هذا البيت الذي يقول فيه الشاعر:
سأغسل عني العار بالسيف جالباً
…
على قضاء الله ما كان جالبا
وكانوا يعتقدون أن روح القتيل تظل شاخصة على قبره وتسمى (الهامة) أو الصدى، تصيح:(اسقوني، اسقوني) حتى يؤخذ لها بالثأر ممن اعتدى على صاحبها، ولكن الأفكار الوثنية عن الانتقام كانت مرتبطة بالماضي أكثر من ارتباطها بالمستقبل ولم يكونوا يحسبون للحياة الأخرى قيمة كبرى أو لم يكونوا يعلقون عليها أية أهمية بجانب الذكريات المتأصلة عن الحب الأبوي، والشفقة البنوية وأخوة السلاح.
ومع أن النفس تستهجن هذه الطريقة المتعبة في الانتقام والأخذ بالثأر إلا أن مغبتها إيجابية في صد أولئك العابثين الذين لولا تلك الخطة - لأطلقوا لغرائزهم المجرمة العنان، ولم يكبحوا لها جماحا، إذ لا يخشون إذ ذاك رادعاً أو إلا، ولا يصدهم إرهاب، أما من وجهة نظرنا نحن فان قيمة هذا الأمر لا تهمنا من حيث هو أحد الأسس الأولية في إقامة دعائم صرح المجتمع العربي بقدر ما تهمنا من أنه يكون عنصرا من عناصر الحياة العربية والأدب العربي، ولذلك فقد اخترت من كتاب الأغاني قصة تنعكس فيها هذه الصور بأكملها، تلك هي قصة قيس بن الخطيم وكيف انتقم ممن اغتالوا أباه وجده.
والقصائد التي يرد فيها ذكر الانتقام والأخذ بالثأر للدم المهراق تكشف القناع عن كل ما هو مستحسن ومستهجن في العربي الوثني، منجده من ناحية يصور لنا شجاعته وعزمه واحتقاره للموت وخوفه من العار وتبجيله الموتى واحترامه إياهم وعطفه الجدّي على ذوي قرباه ومن كانوا من لحمه ودمه، ومن ناحية أخرى نجده يصور نفسه المضطغنة، وقسوته وغدره، وضراوته في تعقب القتلة، وإن القصيدة التي تجسم لنا هذه الصفات كلها هي القصيدة المنسوبة إلى (تأبط شرّاً) وإن كان البعض يزعم أن صاحبها (خلف الأحمر) المنشئ المعروف لقطعة الشنفري، والمقلد البارع الباهر للشعراء القدامى
(يتبع)
حسن حبشي
شاعر الإسلام محمد عاكف
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 4 -
نشر محمد عاكف شعره في سبعة أجزاء صغار كلها تحمل اسم (صفحات) ولكل جزء عنوان خاص ما عدا الجزء الأول وهي: -
1 -
الجزء الأول وقد وضع عليه بعد العنوان العام: (صفحات) هذا الاسم (برنجي كتاب) أي الكتاب الأول. وفي هذا الجزء أربع وثلاثون منظومة في موضوعات شتى. ويتبين فيها كلف الشاعر بالتخلل في طبقات الأمة، ووصف المعيشة العادية، والواقعات المألوفة يكشفها عما وراءها من عظات، وينطقها بما استسر على الناس من عبر. وحسب القارئ أن يرجع إلى المنظومات: قفة وحصير، والحانة، وقهوة المحلة، ليرى قدرة الشاعر على تصوير الحياة وجلائلها ودقائقها في بيان يجمع يسر النثر إلى جمال الشعر.
وقد عرف قراء الرسالة من منظومات هذا الجزء اثنتين: سيفي بابا، والزامر الأعمى.
2 -
والجزء الثاني سماه الشاعر: (في كرسي السليمانية)(سليمانية كرسيسنده). وهو منظومة مزدوجة فيها زهاء ألف بيت يصف فيها جامع السلطان سليمان القانوني أعظم مساجد استنبول، ويتحدث على لسان واعظ سياح اعتلى كرسي الوعظ في هذا المسجد واصفاً ما شهده في سياحته من أحوال المسلمين ويبين أدواءهم وأدويتهم. وقد أختار لهذا الحديث السائح المعروف عبد الرشيد إبراهيم الذي يطوف في أرجاء العالم منذ ستين سنة أو أكثر، والذي قدم مصر مرات آخرها قدومه قبل سنتين في طريقه إلى اليابان؛ وهو اليوم نزيل طوكيو، فعليه منا تحية وسلام.
3 -
والجزء الثالث أصوات الحق (حقك سسلري) وهو منظومات في معاني آيات قرآنية مثل قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء الخ. تلك بيوتهم خاوية بما ظلموا. كنتم خير أمة أخرجت للناس.
4 -
والجزء الرابع في كرسي الفاتح (فاتح كرسيسنده)، منظومة في نحو ثمانمائة بيت يبدؤها الشاعر بوصف مسجد الفاتح وصفا يذكر القارئ بالشاعر الفرنسي فكتور هيجو في رواية ثم تكلم على لسان واعظ في عقائد المسلمين وأعمالهم كلاما يتجلى فيه سمو
الفكر، وصفاء القلب، والبصر بأسرار الدين، والحزن لما أصاب المسلمين.
5 -
والخامس (خاطرات)(خاطره لر). وفيه منظومات في معاني آيات القرآن، وأخرى في موضوعات مختلفة، كقصيدته في وصف آثار الأقصر التي أهداها إلى الأمير عباس حليم باشا رحمة الله، ومنظومة (خواطر برلين) وهي طويلة تنتظم زهاء أربعمائة بيت. ويعرف قراء الرسالة من هذا الجزء القصيدة الخالدة (من نجد إلى المدينة)
6 -
عاصم: قصة طويلة منظومة في نحو ألف ومائتي بيت بطلها شاب من الذين جاهدوا في الحرب الكبرى، اسمه عاصم. وهو ابن كوسه إمام تلميذ طاهر أفندي والد الشاعر. وقد أبان فيها عن حال تركيا القديمة والحديثة، ووصف كثيرا من الأمور الأخلاقية الاجتماعية وصفا بليغا دقيقا يتناول أشد الموضوعات استعصاء على النظم فيعرضها في أسلوب مطبوع بيّن لا أثر فيه للتكلف والجهد. وكان الشاعر يوصي بقراءة هذه القصة لما ضمنته من عبر ولما قاربت لغتها، اللغة العامية في تركيا
7 -
الظلال (كوركه لر) هي الجزء الأخير الذي نشره الشاعر قبل وفاته بعامين، وقد نظم بعض منظوماته في استنبول وبعضها في أنقرة ومعضمها في حلوان. ومنها قصيدة في الآثار المصرية سماها (مع فرعون وجها لوجه) وأهدها إلى الأميرة خديجة حليم. ومنها قصيدة نشرت ترجمتها في الرسالة بعنوان الفنان يصف فيها صديقه الشريف محيي الدين أكبر الموسيقيين المسلمين ومفخرة العرب في الموسيقى وهو نزيل بغداد اليوم
وقد أهدى الشاعر الجزء الأول من الصفحات إلى أحد تلاميذه (محمد علي)، والثاني إلى صديقه فطين خوجه، والرابع إلى صديقه الشاعر مدحت جمال، والسادس إلى صديقه فؤاد شمس، والآخر إلى الشريف محيي الدين
وقد صدّر الشاعر الجزء الأول من صفحاته بخمسة أبيات لا عنوان لها، وافتتح الجزء الأخير بستة أبيات عنوانها خسران. ويرى القارئ في ترجمة هاتين القطعتين كيف كان فكر الشاعر في أول شعره وآخره:
- 1 -
سلني أيها القارئ الحبيب أنبئك. سلني ما هذه الأشعار المائلة أمامك؟ إنها أكداس من الكلم لا براعة فيها إلا الإخلاص. لست أعرف التصنع لأني لست صانعا. يقال أن الشعر دمع
العين. لا علم لي بهذا، ولكني أرى أن كل ما أسطر هو بكاء العجز. أنا أبكي فلا أستطيع أن أبكي، وأشعر فلا أستطيع أن أبين. وان الشقاء أن يحرم القلب الشاعر لسانا: أقرأ إن كنت تنشد قلبا حساسا - أقرأ فما كتبت كلمتين إلا سطرت هذا القلب
- 2 -
وكتب على الجز الأخير الذي نشره قبل وفاته بعامين أبياتا نظمها في استنبول قبل قدومه إلى مصر:
ما كنت لأقف معقول اللسان أقلّب الطرف فيما حولي. لم يكن لي بد أن أنوح لأوقظ الإسلام. إنما أريد أن تفور القلوب المرهفة الحس، الراسخة الإيمان؛ وأما التفكير الطويل فقد هجرته منذ أمد بعيد. إني أنوح ولكن لمن؟ أين أهل الدار؟ أقلب طرفي فلا أظفر إلا بأمم نائمة
لقد خنقت صرخاتي وحملت نعشها ثم مزقتها تمزيقا ودفنتها في شعري وتركتها
وهأنذا أسيل أنيني الذي هم بأن يعم الأودية كالسيل المنهمر، أسيله في غير هدير كالدموع الخفية. لا أجد في هذه القبة الصماء لآلامي أثرا فليئن الخسران الذي في (صفحاتي) دون حس ولا ركز.
عبد الوهاب عزام
في حفلة تأبين الزهاوي
مضى الطائر الصداح
للأستاذ علي الجارم بك
مندوب مصر في حفلة تأبين الزهاوي ببغداد
جفا الروض مغبر الأسارير ماطره
…
وغادره قفر الخمائل طائره
ذوى نبيه بعد البشاشة وارتمت
…
مصوحة أثمار وأزاهره
تلفت: أين الروض، أين مكانه
…
وأين مجاليه، وأين بواكره
وأين الذي لم يطرق الأذان مثله
…
إذا صدحت فوق الغصون مزاهره
حمائم ألهاها النعيم عن البكا
…
وأذهلها عن عابس العيش ناضره
إذا أرسلت ألحانها في خميلة
…
توثب زهر الروض واهتز عاطره
لها صوت داود وحسن رنينه
…
إذا ما علت متن النسيم مزامره
إذا بدأت أشجاك أول صوتها
…
وأن سكتت أعيا بيانك آخره
وأن هتفت في الدوح مال كأنما
…
يسايرها في لحنها وتسايره
تحدت فنون الموصلي وطوحت
…
بأنفس ما ضمت عليه بناصره
أولئك أوتار الإله وصنعه
…
إذا عزفت فليسكت العود وآتره
ألمت بأسرار النفوس فترجمت
…
كما فسر الحلم المحجب عابره
يصيخ إليها أسود الليل باسما
…
فتفترعن زهر النجوم مشافره
يود لو أن الغيد ضمت شعورها
…
إلى شعره الداجي فطالت غدائره
ويرجو لو أن الفجر عوق خطوه
…
وطاش به نائي الطريق وجائره
وزلت بشطآن المجرة رجله
…
فطوحه في غمرة اليم زاخره
سل الروض أن أصغت إليك رسومه
…
متى روعت أطلاؤه وجآذره
وأين الغدير العذب طاب وروده
…
لذي الغلة الصادي وطابت مصادره
إذا فاض بين الزهر تحسب أنه
…
يماني برد أذهل التجر ناشره
تأزر من أثوابه الروض واكتسى
…
فرقت حواشيه وطالت مآزره
تدور به جم البلابل مطرقا
…
ولم تدر أن الدهر دارت دوائره
وتصغي فلا يجتاز سمعك نغمة
…
سوى أنة يلهي بها الحزن قاهره
وتدعو فلا تلقى مجيبا سوى النوى
…
تطارح مطوي الأسى وتحاوره
وقفت به والقلب يحبس وجده
…
فيطغى ودمع العين ينهل بادره
وما وقفتي بين الرياض وقد عفت
…
سوى حاجة يقضى بها الحق ناذره
أرى ما أرى إلا غبارا أثاره
…
خميس الليالي حينما ثار ثائره
مضى الطائر الصداح فالأفق موحش
…
حزين النواحي عابس الوجه بأسره
وأودى (الزهاوي) فانتهى ملعب النهى
…
وأطفئت الأنوار وانفض سامره
أقام على رغم النبوغ بحفرة
…
وسارت على رغم المنون وسوائره
وغادر عرش اللوذعية ربه
…
وخلى ندى العبقرية شاعره
دعوا ذكر إعجاز البيان وسره
…
فقد غاب عنه طيلة الدهر ساحره
له خاطر لو سابق البرق في الدجى
…
لجلى على برق السموات خاطره
تملك حر الشعر سن يراعه
…
فيا عجبا إن حرر الشعر آسره
تمنى العذارى لو تقلدن دره
…
ورفت على أجيادهن جواهره
ويزهي العيون الدعج إن سوادها
…
شبيه بما ضمت عليه محابره
وما جاشت الصهباء إلا لأنها
…
وقد صفقوا مشمولها لا تناظره
تمر به مرا فيسبيك بعضه
…
وتقرؤه أخرى فيسبيك سائره
ترى فيه هذا الكون صورة حاذق
…
أحاطت بأسرار الحياة بصائره
وتلمح فيه الرأي في بعد غوره
…
كما غاص تحت الماء للدر ذاخره
وتلقى به الأذى في ثورانه
…
إذا عقله الجبار مارت موائره
له قلم لو لامس الطرس مرة
…
تداني له صعب القريض ونافره
لقد كان منظار النفوس فلم يجل
…
بنفس هوى إلا وطرفك ناظره
يلوح بعيد الرأي خلف زجاجه
…
وحاضر تاريخ الحياة وغابره
براه إله الخلق عزما وجرأة
…
تهاب الرواسي حده وتحاذره
وصوره عضا تفر لهوله
…
ذئاب الدنايا شرداً وهو شاهره
كأن عصا موسى أعيدت بكفه
…
يصاول من يرمي بها ويغاوره
يقول جريئا ما يريد وربما
…
يقول الفتى ما لم ترده سرائره
وكم من فتى يقضي بنفسين عيشه
…
مظاهره نفس، ونفس مخابره
تراه من النساك في خلواتهم
…
وفي الحان قد نمت عليه ستائره
لسان كما طال الجرير مسبح
…
رياء ومن خلف اللسان جرائره
إذا لم يكن في الحرب قلبك باترا
…
فماذا يفيد المرء في الحرب باتره
حنانا له كيف استقرت به النوى
…
وكيف ثوى بعد التلفت حائره
وهل بعد ليل في الحياة مؤرق
…
كثير التظني أبصر الصبح ساهره
شققت إليك الطرق والقلب خافق
…
تراوحه آلامه وتباكره
تذكر آلافا ألموا فودعوا
…
كطيف خيال أرق الصب زائره
ونحن حياة والحياة إلى مدى
…
ولولا المنى لم يبذر الحب باذره
وأن المهود الزهر - لو علم الفتى
…
وفكر في غايتهن - مقابره
سموت إلى بغداد والشوق نحوها
…
يساورني حينا وحينا أساوره
كلانا نأى عن أهله وعشيره
…
ليلقاه فيها أهله وعشائره
حبيب إلى نفسي العراق وأهله
…
وسالفه الزاهي المجيد وحاضره
ديار بها الإسلام أرسل ضوءه
…
فسار مسير الشمس في الأفق سائره
ومدت بها الآداب ظلا على الورى
…
تساوت به آصاله وهواجره
تجلى بها عهد الرشيد وعزه
…
وزاهر ملك الفاتحين وباهره
إذا شئت مجد العرب في عنفوانه
…
فهذي مغانيه، وهذى منائره
أطلت على الدنيا فأبصرت الهدى
…
كما لمعت في جنح ليل زواهر
تفاخر بالغازي الذي سار ذكره
…
ودوّت بآفاق البلاد مفاخره
هو الملك أمضى من شبا السيف عزمه
…
وأغزر من ماء السحائب هامره
نماه بناة المجد من آل هاشم
…
فجلت مراميه وطابت عناصره
أعاد إلى عهد البيان شبابه
…
فهب فتيا ينفض الترب داثره
يريك به المنصور مأثور حزمه
…
وتذكرك المهدي فيه مآثره
ذكرنا اسمه طول الطريق فذللت
…
مصاعب متنيه وضاءت دياجره
جميل! نداء من أخ يقدر النهى
…
وإن لم يمتع باجتلائك ناظره
عرفتك في آثارك الغر مثلما
…
تنبئ عن وجه الصباح بشائره
عرفت (جميلا) في جميل بيانه
…
يشاطرني وجدانه وأشاطره
تجاورني في دوحة النيل روحه
…
وروحي بأدواح العراق تجاوره
إذا اجتمع القلبان فالكون كله
…
مكان، وإن شقت وطالت معابره
لنا نسب في المجد يجمع بيننا
…
تعالت أواسيه وشدت أواصره
ألسنا حماة القول في كل محفل
…
تتيه بنا في كل أرض منابره
صببت عليك الدمع سحا ومدمعي
…
عزيز ولكن أجود الدر نادره
وأرسلت فيك الشعر لوعة موجع
…
تئن قوافيه وتبكي صدائره
عليك سلام الله نورا ورحمة
…
وغادتك من سيب الإله مواطره
علي الجارم
لبيك نابغة العراق
للأستاذ بشاره الخوري
مندوب لبنان في حفلة التأبين
قولي لشمسك لا تغيبي
…
وتكبدي فلك القلوب
بغداد يا وطن الج
…
هاد وموضع الأدب الخصيب
غناك دجلة والفرا
…
ت قصائد الزمن العجيب
رقصت قوافيها على
…
نغم البشائر والحروب
أعراس دارا من مقا
…
طعها وخيبة سنحريب
حتى إذا طلع الرشي
…
د وماج في الأفق الرحيب
صهر القرون وصاغها
…
ناجا لمفرقك الحبيب
بغداد يا شغف الجمال
…
وملعب الغزل الطروب
بنت المكارم للعرو
…
بة فيك جامعة القلوب
بيت من الأخلاق ضا
…
قت عنه أخلاق الشعوب
وسع الديانات السما
…
ح وضم أشتات الندوب
زفرات أحمد في رس
…
الته وآلام الصليب
بغداد ما حمل السرى
…
مني سوى شبح مريب
جفلت له الصحراء وال
…
تفت الكثيب إلى الكثيب
وتنصتت زمر الجناد
…
ب من فويهات الثقوب
يتساءلون وقد رأوا
…
قيس الملوح في شحوبي
والتمتمات على الشفا
…
هـ مضرجات بالنسيب
تبكي لها قبل الصبا
…
ويذوب فيها كل طيب
يتساءلون من الفتى ال
…
عربي في الزي الغريب
صحراء يا بنت السماء
…
البكر والوحي الخصيب
أنا لو ذكرت ذكرت أح
…
لامي وأنغامي وكوبي
إحدى الشموع الذائبا
…
ت أمام هيكلك الرهيب
أنا دمعة الأدب الحزين
…
رسالة الألم المذيب
من قلب لبنان الكئيب
…
لقلب بغداد الكئيب
لبيك يا نابغة العرا
…
ق وحجة الشرق القريب
لبيك معجزة البيا
…
ن الحر والقلم الخضيب
حجاج روحك وهي ملء
…
الكون تقذف باللهيب
تخبو الشموس وتنطفئ
…
وتظل نامية الشوب
حلم سفكت دم الشباب
…
فدى لمبسمه الشنيب
حب الخلود وكم أري
…
ق عليه من جفن سكيب
لولاه لم تلد الطروس
…
الحمر إكليل الأديب
آليت اقتحم الجح
…
يم على جواد من ذنوبي
فأغوص في الأبدية الخر
…
ساء والأزل القطوب
أتلمس الأشباح والأر
…
واح من خلل الحقوب
حتى إذا انكشف الجح
…
يم يئز بالضرم الصخوب
سكنت ثائرة الضلو
…
ع وكاد يصرعني وجيبي
وسألت عن (دانتي) وعن
…
شيخ المعرة ذي الريوب
أحقيقة عرفا لظى
…
أم وصف مبتدع نجيب
(لجميل ليلى) فيه ما
…
شاء التفنن من ضروب
صور ملونة الجنا
…
ح على مخيلة خلوب
آليت اقتحم الجح
…
يم على جواد من ذنوبي
آليت. . . لكني أرعويت
…
وقلت يا نفسي إهدائي بي
مهما سما عقل الحكيم
…
يزل عن حجب الغيوب
يا فيلسوف العرب
…
والأيام كالحة النيوب
هلا ذكرت لنا العراق ومج
…
د غابره الذهيب
فلك ترصع بالحك
…
يم وبالأديب وبالطبيب
يفتر عن مثل ابن سين
…
اوالنواسي الأريب
إرث وهبت له الصبا
…
وسقيته دمع المشيب
ونشرت أنجمه على بغ
…
داد من كفن المغيب
شيخ القريض أبا الرص
…
ين الجزل والمرح اللعوب
ما زلت ألمحها على لب
…
نان طافرة الوثوب
من معصم النبع الدفي
…
ق لمعطف الغصن الرطيب
وأخو الوفا لبنان ير
…
فل منه في الثوب القشيب
هو والعراق الحر مه
…
د هوى وأيكة عندليب
فجران من مزن السما
…
ء ووردتان على قضيب
أسد العراق وما الرياح
…
الهوج طاغية الهبوب
أمضى وأنفذ منك إذ
…
تثبين للأمر العصيب
قلمت أظفار الزما
…
ن ورعت داهية الخطوب
وبنيت بالقلم الحليم
…
وبالمهندة الغضوب
ونشدت للعرش المف
…
دى آية الفتح القريب
عرش (لغازي) المكرما
…
ت لمنتهى حسب الحسيب
نسب تنقل في العُلى
…
بين الأشعة والطيوب
عرش الملوك من السلا
…
ح وعرشه فلذ القلوب
بشارة الخوري
الفنون
الفن المصري
3 -
التصوير والحفر
للدكتور أحمد موسى
يلاحظ الدارس للفن، المحيط بأسراره بعض الإحاطة، أن الفنان المصري عمل مصوراته ومحفوراته البارزة والمنخفضة، مقيدة بقيود ظلت طوال أيام الحضارة المصرية كلها، تلخصت في نظرته للأجسام، لا بحسب مظهرها الطبيعي أمامه؛ بل بحسب وضعها الأصم الذي ظن أنه يجب أن تظهر به في تصويره وعلى لوحاته، وقد ظن بعض الناس أن هذا متعمد بقصد خلق روح فنية معينة، وظن غيرهم أن هذا نوع من التشويه الفني كما أسموه. وهذا فضلا عن كونه محض افتراء، فانه بعيد عن الواقع وعن التقدير العلمي بعداً شاسعاً. فالفنان المصري لم يتعمد شيئاً معيناً وإنما كان مقيداً بقيود طبيعية. دفعته إلى هذا الوضع وإلى هذا المنهج دفعاً لم يكن له فيه أي قصد، بل ولم يكن ليتخلص منه بأي وسيلة. ولذلك كان إذا صور جماعة من الناس أو الحيوان أو المواد أو منها جميعاً تصويراً إنشائياً، تراه يضعها بحيث يكون بعضها خلف بعض أو إلى جانبه، من غير مراعاة الوضع الطبيعي لها، الذي كانت تظهر به أمام عينيه، وكان هذا هو الحال أيضاً عند ما أراد التصرف بعض الشيء - مثلا - في تصوير مائدة عليها أدوات أو مواد. فتراه يصورها قطعة قطعة، كما لو كانت متفرقة غير مجتمعة على مائدة واحدة، ذلك لأنه لم يكن يعرف بعد أصول تصوير المجسمات. وعلاقة الحجم والبعد بالتصوير المنظور وكان هذا سبباً جوهرياً في ظهور مختلف المصورات التي مثلت شئون حياته الزراعية والصناعية والدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها. كما لو كانت متجاورة بالرغم من أن بعضها كان يجب أن يخفي البعض الآخر بحسب وضعه وراءها
نعم: شاهدنا في بعض المصورات قوة ملاحظة الفنان بجعله الشيء الموضوع خلف شيء آخر غير ظاهر، ولكن هذا كان نادر الحصول بحيث لا يمكننا الأخذ به كقاعدة عامة لروح الفن المصري في التصوير والحفر
والجدير بالملاحظة والمعرفة، هو أن نعلم أن نظرة الفنان لجماعة من الناس بينها شخصية بارزة، دفعته حيناً إلى إظهار هذه الشخصية بمقياس أكبر من المقياس الذي تقيده بتنفيذه في مصوراته، غير ناظر إلى موقع هذه الشخصية من حيث البعد أو القرب منه، أو لوضعها بالنسبة لمجاوريها، فضلا عن نظرته إلى جسم الإنسان على وجه الخصوص، كما لو كان شيئاً ينظر إليه من وضعين مختلفين، فتراه - كما سبق التنويه بذلك في المقال السابق - نظر إلى الرأس والبطن والساقين والقدمين من الجانب على حين نظر إلى العينين والكتفين والبطن من الأمام.
ويرى الزائر للمتحف المصري أنموذجاً صادقاً لهذه الحالة إذا نظر إلى الصورة المحفورة على الخشب. التي تمثل الطحان واقفاً وجالساً، (قطعة رقم 88 - دولاب ب - الصالة أ - بالدور الأرضي)، والتي تبين بوضوح الدقة العظيمة في تصوير الوجه من الجانب
بدأ المصريون بهذه الدقة منذ عهد الأسرة الخامسة. واستمر التقدم حتى بلغ الغاية في منتصف عهد الأسرة الثامنة عشرة (حوالي 1450 ق. م.) وأعقب ذلك التدهور والانحطاط
وإذا قُدر للقارئ المصري أن يعنى بتراث حضارته القديمة واحتمل مشقة السفر إلى الوجه القبلي بضع ساعات حتى يصل إلى الشيخ عبد القرنة (بطيبة بحري راميسيوم). وإلى تل العمارنة القريبة من دير مواس، فانه يستطيع أن يرى أروع تصوير وأدق تمثيل، فيشاهد الحيوانات مرسومة من الجانب بمنتهى ما يمكن من الدقة، فالتناسب بالغ منتهاه، والحياة نابضة فيه، حتى ليخيل إليك أنها صور فوتوغرافية لشدة صدق محاكاتها
أما الإنشاء الكلي لفن التصوير، فقد كان ثابتا على مر القرون، إلا في بعض أحوال معينة، فترى معظم المصورات في عهد المملكة القديمة (3200 - 2270 ق. م.) تمثل ممارسة الناس لإعمالهم اليومية في الحقل والبيت بشكل رائع جميل، فضلا عما يمكن استفادته من هذه المصورات في مختلف إنشائها وأزمانها لمعرفة مدى دقة ملاحظتهم وحضارتهم
وتغير الإنشاء الموضوعي بتغير العصر؛ فترى في عهد المملكة الوسطى (2190 - 1700 ق. م.) أن المصورات شملت مشاهدات في قصور الملوك والأمراء، كما أظهرت لنا طرائف أوضحت كيفية دفن الموتى وما إليها، على أن هذا الاتجاه الاجتماعي الجديد نما وازدهر على وجه الخصوص في عهد الأسرة الثامنة عشرة (1555 - 1350 ق. م.)،
عندما بلغت مصر شأواً عظيماً وفتحت بلداناً مجاورة، الأمر الذي ترتب عليه اتساع الأفق الفني أمام الفنان المصري، وشعر الملوك والأمراء بأهمية الفن حتى لتراهم في عهد أمينوفيس الرابع (1375 - 1358) قد اتصل الفنانون بهم، واستطاع الفنان تصوير الحياة الخاصة للعائلة المالكة وللحاشية، وهذا شيء جديد في ذاته، إذ أن اتصال مصور بالعائلة المالكة إلى هذا الحد لم يكن معروفاً طوال أيام الملوك السابقين، لأننا لم نعثر ولا ينتظر أن نعثر على مصورات تؤيد غير ذلك
أما في عصر الأسرة التاسعة عشرة (1350 - 1200 ق. م.)، وكذلك في عهد رمسيس الثالث (1198 - 1167) من الأسرة العشرين، فقد كلف الفنانون بتصوير المناظر الحربية، وتسجيل انتصارات المصريين تصويرا دقيقاً، إذ بهذا يمكن إيقاظ روح الشعب للتعلق بحب الوطن والتفاني في الإخلاص له، كما يسجل المواقع والمذابح الحربية التي بدئ بها في عصر الأسرة الثامنة عشرة، والتي لا تزال شعوب الأرض المتحضرة في أيامنا هذه ناسجة على منوالها. وفي المتحف المصري قطعة مقلدة من الأصل المحفوظ بمتحف فلورنسا، تعد من أروع ما يستطيع الإنسان أن يشاهده لمثل هذه الحالة، تمثل عربة توتموزيس (1420 - 1411) يجدها الزائر تحت رقم 3000 داخل الصندوق حرف ط بالجناح الشرقي بالدور الأعلى
وبدأ فن التصوير ينحط عند انتهاء عصر المملكة الحديثة، فتراه قد عاد من حيث الضعف الفني إلى عهد الأسر الأولى، بحيث أصبح كل ما صور بعد هذا العصر. لا يخرج عن تقليد ضعيف لما سبق تصويره
أما النحت التصويري فكانت أزهى عصوره عند الأسرة الخامسة في المملكة القديمة، وهذا يتفق مع عصر النحت الكامل، وأحسن نماذجه وأروعها يمكن مشاهدتها بسقارة خصوصاً بمصطبة تي وبتاحوتب وكذلك بمعابد الملوك للموتى
على أنه يجب التنويه بأن الفن قد انحط في عهد المملكة الوسطى، وظل كذلك حتى عهد الأسرة الثامنة عشرة، حيث ترى في معابد الأقصر والدير البحري ومقابر الشيخ عبد القرنة دلائل التقدم
أما في عهد البطالسة (332 وما بعدها) فقد تقهقر الفن، وأصبح التناسب ضعيفاً بين
المسافات التي كانت تخصص للحفر والتصوير وبين المسافات التي تركت بدونه، كما أصبح توزيع المصورات على المساحات رديئاً، وخلت هي نفسها من كل جمال وانسجام، وطغى عليها ازدحام أبعدها عن الذوق الفني. والمشاهد لتراث هذا العهد يلاحظ التضخم بادياً على المنحوتات الممثلة لجسم الإنسان
ولعلنا بمشاهدة بعض المصورات التي أمكن الحصول عليها لتناسب المقال هنا، يمكننا أن نفهم جيداً المدى الذي وصل إليه المصريون في فن التصوير والنحت والتصويري: فترى في الصورة - 1 - المنقولة عن حائط بمقابر بني حسن، منظراً رائعاً لجماعة من الآشوريين (الساميين) وهم سائرون وراء اثنين من المصريين. ومتجهون جميعاً في طريقهم إلى مصر. فترى على اليمين أحد الموظفين المصريين (باللون الأحمر في الأصل) يرفع بيمينه لوحة أوضحت الغرض من قدوم هؤلاء الأجانب وهو تقديم الولاء لملك مصر (سيزوستريس الثاني - الأسرة الثانية عشرة)، ويعقبه مصري آخر يسير وراءه كمن يرشد الجماعة إلى خط السير؛ ثم ترى الثالث وهو يسير ممسكاً عنزاً من أحد قرنيها بيده اليسرى، والرابع ممسكا غزالا أحاط عنقه بحبل قبض عليه بيسراه، على حين قبض على القرن بيمناه، أحضرهما كعينة لحيوانات بلادهم؛ وبعدئذ نرى أربعة رجال يسيرون في نفس الاتجاه، والأخير منهم يتجه برأسه إلى الوراء كما لو كان يتحدث إلى من خلفه، يحمل كل منهم السهم والقوس أما الاثنان وراءهما، فأحدهما ينظر إليه والآخر يلاحظ الطفلين اللذين ركبا حماراً وقد قعدا داخل مخلاة أشبه بحاجز يقيهما شر السقوط. وخلف الحمار ولد تعقبه أربعة نساء تركن الشعر منسدلا إلى الكتفين، وخلفهن حمار آخر محمل بالهدايا، ووراءه رجل يعزف على آلة موسيقية آشورية ذات خمسة أوتار، وآخر يحمل نشاباً بيسراه وعصا بيمناه استعداً للطوارئ. وسار المصريون حفاة الأقدام، على حين كان الآشوريون تلبس نسائهم أحذية من الجلد، ورجالهم يحتذون نوعا من الصنادل فضلا عن إمكان تمييزهم بذقونهم الطويلة.
والصورة - 2 - تشمل منظرين وجدا بأبي سنبل (القريبة من الدر) الأيمن منهما يمثل رمسيس الثاني على مركبته الحربية التي انتصر بها في حروبه الأفريقية، وهي في شكلها الكلي واضحة التفاصيل، قوية الإحراج، تسجل الناحية الجديدة في الاتجاه الفني لإثبات
الانتصارات ومظاهر الأبهة والعظمة كما سبق التنويه.
أنظر إلى رمسيس في مركبته الرائعة يجرها حصانان وقد اختفى أحدهما لظهور الآخر من الجانب، وتأمل كيف استطاع الفنان أن يبينه في بساطة، وذلك برسمه خطاً رفيعا موازيا للحصان الظاهر. والمتأمل في صدر رمسيس يلاحظ الكتفين وقد ظهرا من تحت الملبس، مما يدل على أنه كان من قماش رفيع شفاف، كما يراه قابضا على القوس وعلى جزء من لجام الحصان بيده اليسرى، وعلى سهم وسكين باليمنى، أما الحصان فظهر رائعا كامل الزينة مغطى بغطاء جميل الزخرف، وأسفل الحصان ترى أسداً سائراً مع اتجاه العربة الملكية، نقش جلده ببقع أشبه بتلك التي تراها على جلد النمر، قصد به الرمز للعظمة والقوة. يقول ديودور أحد مؤرخي القرن الأول قبل المسيح إن فرعون كان يركب عربته حافي القدمين، ولذلك ترى على الكتف اليسرى لخادمه السائر أمام الحصانين وعلى يسارهما كيسا خصص لوضع حذائه داخله حتى يستطيع بذلك لبس الحذاء بمجرد مغادرة العربة.
والمنظر الايسر مأخوذ عن نظيره بمعبد سيتي الأول (ميمنونيوم) بأبي دوس (بالقرب من البلينا) يبين رمسيس الثاني (تولى الملك بعد سيتي الأول وأكمل بناء معبده) جالساً على العرش في ظل شجرة، والى اليمين ترى إله الكتابة والتحرير يسجل اسم رمسيس بقلمه على ثمار الشجرة، والإله توت كاتب السماء، وإلهة الليل آتمو التي تسجل حظ الفرعون من الخير والمتعة
والصورة - 3 - توضح الكيفية التي تم بها صيد الطيور (وجدت بطيبة). فترى إلى أقصى اليسار رجالا ثلاثا، يجذبون حبلا ربط إلى مجموعة من الشباك، أحاطت بالطيور المصادة بها. أنظر إلى الساقين الأوليين على يمين وعلى يسار شجرة اللوتس ترى على زهرة الأولى منهما طيوراً صغيرة وعلى الأخرى بيضاً. وأما بقية التفاصيل فهي متروكة لدقة ملاحظة القارئ
والصورة - 4 - هي لثلاث لوحات، أولاها إلى اليمين تبين كيفية عصر العنب للحصول على النبيذ - والوسطى لطريقة حلب البقرة، فترى القائم لعملية الحلب ومساعده الذي يحرص على منعها من التحرك - أما اليسرى فهي تريك منظراً جميلا، استطاع الفنان أن
يخرجه إخراجاُ قوياً. انظر إلى البقرة تثني عنقها لمداعبة ابنتها العجلة الصغيرة يشاركها في الرضاعة ولد صغير
والصورة - 5 - ذات موضوع خلاب يهم المشتغلين بتاريخ القضاء، فهي تمثل قاضياُ جلس إلى منصة الحكم، وأمامه رجل يقص حادث سرقة ووراءه آخر انتهى من تأدية شهادته. بعدئذ ترى أحد رجال الأمن قابضاً على عنق لص وعلى يده، ثم ترى آخر وقد كبل رجل من يساره بالحديد. وخلف الجميع رجل يجر الماعز المسروقة لإثبات الحادث
والى يسارها صورة تبين كيفية توقيع العقوبة بالجلد، وذلك بطرح المجرم أرضاُ، وضربه على الظهر بعصا، وإذا نظرت إلى أقصى اليسار ترى رجل ممسكاً بقدمي الجاني، أما يداه فقد أمسكهما رجلان قعدا عند رأسه
والصورة - 6 - وجدت ببني حسن، وهي أيضاً طريفة الموضوع، تهم المؤرخ الفني، فهي توضح في جلاء الطريقة التي اتبعها الفنانون في التصوير، فترى الفنان وقد جلس متوسطاً الصورة ممسكاً ريشته بيمناه، وكأس الألوان بيسراه، مستمراً في تكميل تصويره لعجل صغير بعد أن أتم تصوير البقرة. وأمامه جلس مساعده ممسكاً لوحة التصوير
ووراء هؤلاء تشاهد فنانا آخر يلون تمثالا من الخشب أو الحجر، كما كانت عادة المصريين دائماً، وكما سبق التنويه بذلك المثال في الفائت
ومن هذه الصور الست، التي لا تعد شيئاً بجانب المئات التي تركها المصريون على حوائط معابدهم ومقابرهم، يمكننا أن نستخلص أن الفن لا يكون إلا حيث توجد الحضارة. وإن مصر عرفة قيمته وعملت على ترقيته في القرن العشرين قبل الميلاد، ولكنها مع مزيد الأسف لا تعرفه، ولا تعترف بوجوده، ولا تفهم حتى مدى نفعه أو ضرورته في القرن العشرين بعده؛ ولا أبلغ مما قاله شاعرنا احمد الزين تسجيلاً لهذه الحالة:
علام يجيد الفن في مصر متقن
…
إذا كان بالتهريج نيل المراتب
فيا جهل واصلنا ويا علم فابتعد
…
ويا حمق لازمنا ويا عقل جانب
أرى الجهل نوراً في بلاد رجالها
…
خفافيش يعشيها ضياء الكواكب
إذا الشعب بالإهمال أرسب عاليا
…
فلا عجب لو يعلو به كل راسب
احمد موسى
البريد الأدبي
العيد المئوي لوزارة المعارف
تحتفل وزارة المعارف العمومية في التاسع والعشرين من مارس الجاري بمرور مائة عام على إنشائها، وستنظم بهذه المناسبة حفلات رياضية وتمثيلية، ويقام معرض للتعليم والتربية تستعرض فيه مراحل التعليم وتطوراته في مصر مدى قرن، ويوضع كتاب ذهبي يتضمن تاريخ التربية والتعليم في هذا القرن إلى غير ذلك مما ترى وزارة المعارف أن تتخذه للاحتفاء بعيدها المئوي. والواقع أن المناسبات والاحتفالات المئوية في تاريخ مصر الحديث قليلة، ومن الواجب أن يعتني بشأنها وأن يحتفي بها كلما سنحت، تجديداً للذكريات القومية، وشحذاً للهمم، وتوطيداً لبناء المستقبل.
وقد مضت مائة عام كاملة منذ أنشئ (ديوان المدارس) في سنة 1837) أنشأه مصلح مصر الكبير محمد علي، بعد أن أنشأ من قبله عدة من المدارس العالية والخصوصية، وأوفد عدة بعوث علمية إلى أوربا، وبدأت ثمار هذه السياسة المستنيرة تتفتح، ويتسع نطاق التعليم والتربية. وكان ثمة قبل إنشاء ديوان المدارس هيئة تشرف على التعليم تسمي بمجلس شورى، فرؤى أن ينظم مكانه (ديوان المدارس) الذي اصبح فيما بعد وزارة المعارف، واشترك في تنظيم الديوان المذكور عدة من رجال مصر المثقفين الذين تلقوا العلم في أوربا، وانتخب لرآسته مصطفى مختار بك أحد خريجي البعثات فكان أول رئيس أو وزير لديوان المعارف المصرية؛ وشكل للإشراف على أعمال الديوان مجلس مؤلف من عدة من النوابغ الذين يرجع إلى رأيهم في شؤون التربية مثل رفاعة بك الطهطاوي، وكلوت بك وغيرهما؛ وقام المجلس المذكور بوضع لائحة لنظم التعليم، وقرر إقامة عدد كبير من المدارس في مختلف أنحاء القطر، منها عشرات من المدارس الابتدائية الأميرية، في معظم المراكز ومئات المدارس الأولية أو الكتاتيب، وبذا وضعت أسس النهضة التعليمية في مصر الحديثة
ومما يؤثر بالفخر أن التعليم كان يومئذ في جميع المدارس على اختلاف درجاتها وأنواعها مجانيا، وكانت الحكومة تتولى الإنفاق على التلاميذ، وتعنى بإطعامهم وكسوتهم، وتجري عليهم بعض الرواتب المالية، وكان عدد تلاميذ المدارس الأميرية يومئذ يبلغ نحو العشرة
آلاف
وتقلب في الديوان المعارف عدة من رجالات مصر الأفذاذ مثل علي باشا مبارك، تولى سنة 1888، وبذل في تنظيم التعليم جهداً عظيما، ولا تزال آثار هذه الغرس زاهرة إلى يومنا
ووقعت وزارة المعارف مدى حين تحت سيطرة الاحتلال، وأخمدت روحها الإصلاحية أيام دانلوب ومعاونيه؛ ولكنها بدأت تتنفس في عهد الاستقلال؛ ولكنها وا أسفاه ما زالت مضطربة الأوضاع والنظم، ولم توفق إلى أن ترسم لها حتى اليوم سياسة ثابتة للتعلم
الصور الهزلية في الفن المصري القديم
أصبحت الصور الهزلية من أبرز نواحي الفن المعاصر، تتخذ أداة للتعبير اللاذع عن وقائع الحياة العامة، وأحوال الأشخاص وتصرفاتهم، وأضحت سلوة الألوف من القراء تثير ابتسامتهم ومرحهم. وقد عرف المصريون القدماء فن الصور الهزلية، وألفوا فيه متنفساً للنقد اللاذع والسخرية العميقة. وتوجد لدينا نقوش وصور هزلية تدل على مبلغ ما انتهى إليه الفراعنة من الافتنان في هذا الباب. فمثلا توجد نقوش على البردي ترجع إلى إلفي عام قبل الميلاد، سطرت بها قصص عجيبة كقصص ألف ليلة وليلة من مناظر سحرية وشياطين وحيوانات تلعب أدوار مدهشة، وتوجد صور هزلية مسلية في كثير من أوراق البردي المحفوظة في تورينو ولندن، ويبدو فيها شغف المصريين بهذا النوع من تصوير الحياة العامة؛ فالأمراء والوزراء وأكابر الزعماء يمثلون في صور حيوانات مختلفة ترمز إلى معان هزلية. مثال ذلك صورة رسمت بها قطة تسير مضمومة الذراعين إلى جانب ثور مبجل (يمثل كبير البلاط)، وهما يسيران معا للمثول في حضرة خصي قد صور في صورة حمار؛ أو صورة لفرقة الموسيقى الملكية مؤلفة من تمساح يبكي تأثرا، وحمار يعزف على القيثارة، وأسد يعزف على العود؛ أو أسد (يمثل فرعون) وحمار (يمثل وزيره) يلعبان الشطرنج معا؛ وهكذا. وكان للفنانين المصريين شغف بتمثيل مناظر الحياة العامة في صور مضحكة لاذعة، فمن ذلك صورة ذئب يقود الغنم، وهرة تحرس الطير، وكلاهما رمز لفساد الحياة العامة؛ وهذه الصورة التي ترجع إلى بضعة آلاف من السنين تدل على مبلغ ما وصل إليه فن التصوير الهزلي لدى الفراعنة في القوة والروعة. وعلى أن
الفراعنة كانوا أيضا في هذا الميدان أول الأساتذة والمبتكرين
كتاب جديد عن الاشتراكية الوطنية
ما زالت الاشتراكية الوطنية أو النظم التي تعيش في ظلها ألمانيا الحاضرة مثار كثير من الجدل، وقد ظهرت إلى اليوم عنها تصانيف كثيرة بين الخصومة والتأييد، ولكن روحها وغاياتها الحقيقية ما زالت موضع الغموض والحدس
وقد ظهر أخيراً بالفرنسية كتاب جامع عن الاشتراكية الوطنية ربما كان أقوى وأوفى مؤلف ظهر من نوعه؛ وعنوانه: (طغيان الفاشستية الألمانية) بقلم الآنسة جريته شتوفل ويمتاز الكتاب، بالوضوح والترتيب، وينم عن دراسة عميقة وفهم شامل للنظم التي تعيش في ظلها ألمانيا الحاضرة. وقد استهلته المؤلفة بمقدمة تاريخية، ثم تناولت سلطات الدولة الأساسية بالتعيين والشرح، ففي شخص (الزعيم)(هتلر) تجتمع كل السلطات، فهو رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وهو المتصرف المطلق في جميع نواحيها الإدارية والقضائية والعسكرية، وهو المشرع الأعلى؛ وهو يفوض سلطانه إلى وزراء، ليسوا إزاءه سوى موظفين أصاغر، وأما الريخستاج (البرلمان) فهو أسم على غير مسمى، فهو لاحق له أن يقترح أو يعارض، وليس عليه إلا أن يوافق ويؤيد، والحزب (حزب النازي) يندمج في الدولة، وهو مجمع الشعب، ولا يقوم نظامه حسب قول هتلر الأعلى (السلطة والنظام والمسئولية والخضوع)؛ ومن أدلة هذا الاندماج أن نفس الرجال يديرون الحكومة والحزب معا، ورجال الحزب هم الذين يستولون على الوظائف، وشعار الاثنين واحد وهو (هايل هتلر). بيد أن الحزب لم ينجح في كسب الجيش، ولكن الجيش في يد (الزعيم)
وقد قضت الاشتراكية الوطنية على نظام ألمانيا الاتحادية واستأثرت الحكومة المركزية بكل السلطات، أما النظام النقابي، فيقوم على حشد العمال في جبهة الاشتراكية الوطنية، وتنظيم جميع المهن والحرف في طوائف تحشد في نفس الجبهة. تحدثت المؤلفة بعد ذلك عن الخلاف بين الكنيسة والدولة وعن النظرية الآرية ومراميها الحقيقة، وعن سياسة الاضطهاد الديني والجنسي التي تضطرم بها الآن ألمانيا الهتلرية. وهذا الطغيان الهتلري لا يقوم إلا على الإرهاب والعنف، والقضاء خاضع لخدمة الدولة، والتشريع الجنائي ليس إلا أداة للكفاح لا تعرف الرافة أو العدالة، وتقضي محاكم الشعب دون تحقيق، وتسير في قضائها
تحقيقا لأهواء الحزب والزعماء. والخلاصة أن القضاء والبوليس والجيش والهيئات الحزبية تعمل كلها لسحق أعداء النظام وخصومه. ومع أن كل الحريات قد سحقت، فإنه توجد معارضة كامنة. والدولة النازية هي أتم وأوفى أداة للطغيان في عصرنا؛ بيد أنها بوسائلها العنيفة في الكفاح والقمع تنافي كل المبادئ والاعتبارات الأخلاقية والإنسانية
هذه هي الصورة التي تقدمها إلينا المؤلفة عن النظام الهتلري، وهي تقدمها إلينا في عرض بديع حقا مدعم بالأدلة والوثائق والإحصاءات. ويرى النقدة أن كتابها هو أقوى وأوضح بحث من نوعه ظهر حتى اليوم
حرب نيكوبوليس الصليبية
لعل أكبر الحوادث في تاريخ الشرق والغرب هو تلك الحروب التي اصطلح المؤرخون على تسميتها بالصليبية ودامت عدة قرون، تجلى فيها كثير من ضروب الفروسية والشجاعة مما يرى فيهما القصصيون مادة خصبة لهم. وقد كانت هذه الحروب ولا زالت ميداناً لكبار البحاث المؤرخين، ولكنها مع ذلك لا تزال بحاجة للدرس والتمحيص. ومن الوقائع الشهيرة في تاريخ العالم الإسلامي موقعة (نيكوبوليس) التي وصل فيها الأتراك إلى قلب أوربا، وأصبحوا على أبواب المجر، وهي مع مالها من أهمية قصوى لم يؤلف فيها أحد المتخصصين في تاريخ العصور الوسطى كتاباً قائماً بذاته، حتى قام بذلك أحد الشبان المصريين الذي اختارته جامعات لندن وليفر بول بإنجلترا، وبون بألمانيا أستاذاً بها، ذلك هو الدكتور عزيز سوريال عطية، فقد أفرد لها كتاباً خاصاً ألم فيه بما مهد لهذه الحرب. ويذهب المؤلف إلى أن الحروب الصليبية لم يكن بدء قيامها أو ختامها ما تآلفنا عليه، بل هناك عدة حروب قبلها وبعدها كان الدافع لأوربا فيها على امتشاق الحسام عصبيتها الدينية ضد الإسلام. ولقد أصدرت إحدى دور النشر الكبرى بإنجلترا هذا الكتاب القيم للدكتور سوريال. وبلغ من أهميته أن قرظه أعلام التاريخ في إنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر وأثنوا على صاحبه الثناء الجم، فقالت جريدة التيمس في ملحقها الأدبي:(إن هذا الكتاب دراسة رائعة عن الظروف السياسية والمالية في نهاية عصر الفروسية في أوربا) وختمت الديلي بوست تقريظها له بقولها: (إن مثل هذا الكتاب يكتبه أحد أبناء مصر لشيء يفخر به جميع المصريين. . . إن نهضة مصر في طريقها) وقالت مجلة معهد الدراسات الشرقية
بلندن: (إن هذه الإضافة العظيمة الرائعة للتاريخ هي من غير شك نتيجة بحث عميق وميل قوي للموضوع. . وإنه لينبغي لكل مؤرخ أو باحث لهذه الفترة أن تكون لديه نسخة منه)
وقالت جريدة الجارديان: (. . . تقرير شامل يعتمد على المقارنة الدقيقة لمراجع كثيرة) ووصفه الأستاذ وليم ميللر في مجلة التاريخ الإنجليزي بأنه (كتاب دسم) كما أثنى على مؤلفه وموضوعه كثير من المجلات الأخرى كجريدة الحربية، والجيش الجريدة الأسيوية. وقالت مجلة الثقافة الإسلامية الإنجليزية بالهند:(أن تعمق الدكتور عطية في هذا الكتاب لا يوفيه المديح حقه، وإن التعاليق التي كتبها وإضافته لهي بحث جديد يضاف إلى دراسته النقدية لهذه الفترة) وقالت مجلة (إن الدكتور عطية ملم بكل نواحي الحروب الصليبية، وكتابه قائم على المصادر والمعاصرة لها بل والنادرة أحياناً. . . وإنا لننتظر منه الكتاب الشامل الأكبر في المستقبل) كما امتدحته مجلة (بلغاري) ومجلة الدراسات الشرقية الألمانية فقالت: (إن هذا الكتاب أوفى ما كتب عن هذه الناحية، وأن مؤلفه ليعد حجة في هذا الموضوع) ومع أهمية هذا الكتاب، وتقدير أقطاب التاريخ له ومصرية مؤلفه فأنه لم يترجم بعد.
تمثال شيخ البلد
قرأت بعدد الرسالة الأخير مقال الدكتور الفاضل أحمد موسى في الفن المصري القديم فاستوقفتني تلك العبارة من كلامه عن تمثال (شيخ البلد) المعروف بالمتحف المصري:
(وتمثال شيخ البلد تجده واقفًا في شيء من اليقظة وضخامة الجسم التي يجب أن تتوفر فيمن يقوم بالشياخة الخ)
وقفت متسائل: هل عرف النظام الإداري القديم شيخ البلد كما تعرفه مصر الآن من أقصاها إلى أقصاها؟ وبالتالي هل عرفت هوية صاحب هذا التمثال وعرف عمله في الدولة؟ أم أن الحقيقة هي ما قرأناه في كتب التاريخ من أن عمال الحفر لما أخرجوا هذا التمثال من مكانه راعهم ما وجدوا من شبه قوى بينه وبين شيخ بلدهم فأطلقوا على التمثال (شيخ البلد) ثم لزمته التسمية ولم يغيرها علماء الآثار لما لم يعرفوا حقيقة صاحبه ولم يجدوا به من النقوش أو الكتابات ما يبوح بسره وينم عن جلية أمره؟
وهل الدكتور الفاضل أن يميط اللثام عن حقيقة التمثال المذكور خدمة للعلم والتاريخ فنكون
له شاكرين؟
(م. ح بأسيوط)
الكتب
ملحمة عبقر
للشاعر المطبوع شفيق معلوف
رمى الكثيرون الشعر العربي بالعجز والقصور عن متابعة الشعر الغربي في القصة والملحمة والرواية التمثيلية؛ ولكن ناظم عبقر ضرب لهؤلاء المثل الحي على العيب واقع على عاتق الشعراء أنفسهم لا على اللغة ولا الشعر. ولقد ظلت عبقر مدى العصور تتردد في ألفاظ كثير من الشعراء ولكن لم يفكر واحد منهم في أن يخرج لقراء الضاد قصيدة عنها بقدر ما توحي إليه من خيال؛ كأنها أبت أن تكشف سترها وتميط اللثام عن حقيقتها إلا لهذا الشاعر المحلق في سماء الجمال، فحمله شيطانه إلى عبقر، وأوديتها السحرية؛ وهناك كشف له سر الحياة، فوقف على المجهول من أمرها، حتى إذا عاد إلى دنياه صوره بلغة الأرض؛ فأبدع في ذلك ما شاء له الإبداع، ورسم هذه العوالم الدفاقة بالسحر والخيال وقربها إلى قارئيها فإذا هم يعيشون ويتحركون ويتنفسون فيها، وإذا هم يحيون في مهابط الجن، ويقضون مع حورها لحظات لا يحسون فيها لغب الواقع، ولا تعب الحياة وأوضارها، ولست أدري أيهما خلد الأخر: هل خلق شفيق عبقر، أم هي التي خلقته؟
حمله شيطانه إلى عبقر ذلك الشيطان الذي:
في فمه من سقر جذوة
…
يطير منها الشرر الثائر
ووجهه جمجمة راعه
…
أنيابها والمحجر الغائر
كأنما محجرها كوة
…
يطل منها الزمن الغابر
ويمضي الشيطان بصاحبه إلى عبقر ليريه (جنا من النور جلابيبها) وإذ يهبط الاثنان عبقر، يرى الشاعر (الغمائم الزرق) وفي أبراج المنازل (تثور ضجة بها يضيق الأفق الأوسع) ثم يحيط به الشيطان عند عراقة عبقر فإذا بها عجوز شمطاء طواها الكبر، ولقد أبدع الشاعر أيما إبداع في وصفها بقوله:
تلف ثعبانا على وسطها
…
يكمن في نابه كيد القدر
مجامر الصندل من حولها
…
تألب الجن عليها زمر
ينبعث الدخان من شعرها
…
ويلتظى في مقلتيها الشرر
كأنما الله لدى بعثها
…
زودها بكل ما في سقر
وفي حديث العرافة له نرى الوصف المر الأليم للإنسان، وما انطوت عليه نفسه من مكر وخديعة، وترى روح التهكم تنبعث على لسان العرافة ساخرة بكبرياء ابن آدم وقد خال (نفسه أعلى من ربه، وحسب عيبه فضلا) وأية سخرية أشد وقعا مما انطلق به لسانها من أنها:
تخشى على الثعبان
…
من شره
في نابه السم كان
…
وصار في صدره
وينطلق به شيطانه إلى امرأة قد كورت من حلقات النور أضلاعها تلك هي (الشهوة) وإن وصفه الرائع لها، ليجعل القارئ يخال الشهوة قد جسمت امرأة وهي تضج:
من لي بحب نوره ينبلج
…
من شرر محتدم في المقل
من لي بثغر لاهب تنفرج
…
ثغرته عن شعلات القبل
يا حامل الجسم ألا أعطنيه
…
وخذ إذا شئت خلودي ثمن
وشاحي الناري من يشتريه
…
فإنني أبيعه بالكفن.
ويمضي به الشيطان إلى الكاهن سطيح الذي يرى أن الله خلصه برحمته حين استل منه العظام (وملأ الفراغ من حكمته) أما الكاهن شق فقانع بنصفه، وما ضره أن حباه الله بيد واحدة إذ:
هل تنفع اليدان والواحدة
…
تهدم ما تشيده الثانية
ويخلص القارئ من مغزى هذه الحكمة أن في النقص كمالا، ولكن الشاعر يهوى به الأسلوب في قوله (والله يهديني سواء السبيل) فهي نابية في موضعها لا تلائم الذوق الشعري، وإنك لتلمح رثاءه للبغايا وألمه لهن خلال وصفه الشعري الجميل لهن فهن:
دسن من الحديد محمره
…
ورحن يقحمن البراكينا
يلغن في الجمر ويغببنه
…
غبا ويرشقن الشياطينا
زج بهن الله في عبقر
…
يبلو بهن العبقريينا
وينتهي بالشاعر المطاف عند رفات العبقريين من الشعراء والأدباء، وفي نشيد جماجم هؤلاء العباقرة تلمح تقديس الشاعر لهم، فهؤلاء أرواحهم تبني قباب الخلود (بغير أحجار
الورى) وهم في موتهم يعيشون على. . الحب الذي:
إن كانت الأرض جحيما له
…
وكان فيها تهنأ الأرض
هذه جولة في عبقر المعلوف، فإذا كان فوزي قد حلق على (بساط الريح) فإن أخاه في عبقر قد تغلغل في ثناياها مع حورها وكهانها وعرافاتها وشيطانها
وإن خيال شفيق لمنسجم مع تفكيره، وهذا سر إبداعه، فلا جرم إذا حلق خياله من شاهق ولم يسف في شعره. ولا عجب إذا طالعنا ذلك الشاعر بنفحات من الشعر الخالد في لفظ متسق، وجمال مطبوع، وبيان عذب فصيح، وخيال لو قيل له اختر صاحبنا لما اختار غير شفيق.
حسن حبشي