الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 195
- بتاريخ: 29 - 03 - 1937
وزارة المعارف
بمناسبة عيدها المئوي
في الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم تحتفل وزارة المعارف بانقضاء مائة عام على مولدها السعيد. ووزارة المعارف لا تزال ناشئة وإن أدركت المائة؛ ولعلها لم تبلغ الرشد إلا منذ أعوام قلائل، فإن القرن في عمر الأمة كالعقد في عمر الفرد، والشباب المهمل وإن طال بلاهة وغفلة - كان يومها الذي أبصرت فيه الوجود من الأيام الغر الوضاء في عهد الأمي العبقري الطموح محمد علي باشا. رأى بعينه الكلوء أن ما بالغرب من حضارة وعمارة وقوة إنما أساسه الجيش والعلم وأدرك بفؤاده اليقظ أن الجنود الألبانية لا تؤمن الخوف ولا تحقق المطامع، وأن الجامعة الأزهرية لا تعلم علوم الدنيا ولا تدرس فنون الحرب؛ وأكبر ما ترك نابليون بمصر من الآثار الصالحة على قصر احتلاله واضطراب حاله، فحصر هذا الرجل النظور همه وعزمه في إنشاء مصر الجديدة على الوضع الذي استقر عليه الزمان الحاضر والإنسان الحديث؛ فأقام المدارس للحرب وما يتصل بها من الطب والصيدلة والبيطرة والهندسة والكيمياء والعلوم والألسن؛ ثم ربط هذه المعاهد المختلفة الدرجات والغايات بإدارة واحدة سماها (ديوان المدارس) وجعل أعضاءه عشرة من المصريين الذي أوفدهم إلى أوربا، والأوربيين الذي أقدمهم إلى مصر، وجعل عليهم الأستاذ مختار الدويدار
كان من ذلك الديوان الصغير ذلك الصور الذي انبعثت على صوته مصر، والنسم الذي تنبهت من نفحته العروبة، والقبس الذي استضاء بنوره الشرق. وكان من الطبيعي يومئذ أن يكون التعليم للحكومة لا للشعب، وللبنين لا للبنات، وللمادة لا للأدب، فكانت الحركة الثقافية تتسع وتضيق تبعاً لحاجة الجيش والإدارة. فلما فترت الوثبة العلوية في عهد عباس وعهد سعيد زاد عرض هذه المصانع العلمية، على طلب الدواوين الرسمية، فوقفت البعوث، وأغلقت المدارس، وكانت ثلاثاً وستين مدرسة ابتدائية، ومدرستين تجهيزيتين، وإحدى عشرة مدرسة عالية، فلم يبق منها إلا ثلاث للحربية والطب والصيدلة
أما إسماعيل فكان رجلاً آخر، لم يكن سياسياً طامعاً كجده، ولا عسكرياً فاتحاً كأبيه، وإنما كان مدنياً باريسياً له ذوق، وبه ترفع، وفيه زهو، فجعل التعليم للتمدين والتثقيف، لا
للتجنيد والتوظيف، وطمح إلى أن تكون مصر جزءاً من أوربا، في مبانيها ومعانيها، ورفاهتها وأنظمتها، ففتح ما أغلق من المدارس وزاد عليها، وأعاد البعوث إلى أوربا، وأقام نظارة المعارف على هذا الوضع المعروف وأنشأ لتغذيتها دار المعلمين، وابتغى الأسباب لتقليل الأمية، وتلمس الوسائل لتعميم الثقافة؛ وسار الأمر على هذا الطريق الواضح حتى دهانا الاحتلال الإنجليزي وكل شيء كان يتحفز للنهوض ويتوثب للرقي، فكأنما صببت ماء في نار، أو أقمت سداً في تيار!
كان التعليم في أواخر عهد إسماعيل واسع النطاق متعدد المناحي شعبي الغرض؛ فالمدارس موفورة العدد، واللغة العربية لسان المعلم ولغة الكتاب؛ فأخذ الإنجليز منذ اغتصبوا السلطان يقطعون أسباب هذه النهضة، ويسيرون بالتعليم إلى وجهة أخرى، فأغفلوا البعوث، وأغلقوا مدرسة الألسن، وأبطلوا المجانية، وأهملوا اللغة العربية، وجعلوا التعليم كله بالإنجليزية، وقصروه كما كان قبل إسماعيل على تخريج عمال للحكومة لا إعداد رجال للشعب؛ وصار اسم (دنلوب) علماً على نوع من التدريب الاستعماري الآلي تروض به النفوس المتمردة على الضراعة، والألسنة الآمرة على الطاعة، والعقول المستقلة على التبعية. فكان من عواقب هذه السياسة السفيهة أن اتسع التعليم وضاقت التربية، وكثر المتعلمون وقل العلم؛ فتبجحت الجهالة، وانتشرت البطالة، وفسد الأمر في الحكومة، وساء الحال في الأمة. ثم اشتعلت الحرب الكبرى في أنظمة دنلوب وأمثالها في كل دولة فأكلتها أكلاً ذريعاً، ثم خمدت فإذا بقاياها في كل مكان عصيان وطغيان وثورة، وإذا مصر تفلت من ربقة (جون بول) فتطلب الاستقلال، وإذا المعارف تخرج من وصاية (دنلوب) فتبلغ الرشد! ولكن الراشد لا يزال قريب عهد بالقصور، فهو يختلج ليستقيم، ويتذبذب ليعتدل، ويتجمع ليثب. فإذا احتفلنا اليوم بمرور هذا القرن على وزارة المعارف، فإنما نحتفل بعهدها السعيد الذي أقبل، وتطورها الجديد الذي لاح، ومستقبلها الواعد الذي أشرق.
أحمد حسن الزيات
في المرقص
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
جلست في ركن أرى منه الناس جميعاً وذهبت أنتظر صديقي. والانتظار ثقيل ولكنه هنا مما يهون أمره، فقد كان اليوم يوم أحد، وكان المكان غاصاً بالفتيات الجميلات، وكانت الموسيقى لا تكف عن العزف، فالرقص لا ينقطع وحركته لا تفتر، ولا يزال الشبان ينهضون ويتقدمون من الفتيات وينحنون لهن باسمين فترفع الواحدة منهن حاجبيها الدقيقين اللذين يبدوان كأنهما مرسومان وتبتسم وتنهض ويداها على ثوبها لتصلح منه ما أفسده الجلوس. وكان يخيل إلي أن كل إنسان هنا يعرف كل إنسان آخر إلا العبد لله، فما كنت أرى وجه من أعرف. وصفقت فجاء خادم سمين أسود الوجه غليظه فقلت: اسقني شيئاً مما عندك، وكان صوتي خافتاً وقد زادت الضجة خفوته، فمال الرجل علي وهز وجهه الكبير فقلت:(هات أي شيء بارد. . أي شيء. . اذهب)
فقد كان يحجب عني الدنيا
وأدرت عيني في المرقص فسرتني المناظر. آه!. . هذه البيضاء ذات الثوب الأرجواني ما أحلاها. . شعرها ذهبي وخصله الجميلة تهتز تبعاً لحركة الرقص وكف زميلها على ظهرها تجعل هيف خصرها واستواء ردفيها أوضح وأوقع في النفس وأسحر للعين، وقد دارا الآن فأنا أرى كيف تمنح صاحبها صدرها. . إن صدرها ليس على صدره. . كلا. . ثديها الأيسر وحده هو الذي أراه على صدره. . ما أحلى هذا!. ليتني كنت مكانه! وأحلى ما فيها إشراق وجهها النضر. . إنها مسرورة تضحك وتثني رأسها راضية مغتبطة، فليت شعري ماذا يقول لها هذا الشاب الحاذق؟. .
واختفيا عن عيني وحجبهما غيرهما من الراقصين والراقصات. آه. . هذه أيضاً حسناء ولا شك. . ثوبها فيما يبدو لي قديم. . ووجها باهت اللون. . والأبيض كثير. . ولكن معارفها حسنة وعينها واسعة حوراء. . أم ترى هذا فعل الكحل؟. . لا أظن. ولكن صاحبها لا يدنيها من صدره وإني لأرى بينهما مقدار شبر. . ولا يحادثها ولا يهمس في أذنها بكلمة. . فهما يدوران في صمت. . خسارة. . كنت أحب أن أرى وجهها وهي مسرورة تضحك. . ذهبت الآن على كل حال. . فلننظر إلى غيرها. .
وراقني فرق ما بين الفتيات وهن يرقصن. . هذه واحدة تقف من صاحبها كالسيف. . خط جسمها مستقيم تماماً. . وتلك التي تلبس هذا الثوب الأخضر تنأى بساقيها عنه وتلقي بصدرها على الفتى، فلو تخلى عنها لكان الأرجح أن تقع على الأرض مكبوبة على وجهها الجميل. . أم ترى هذا ليس إلا وهما؟ ومن يدري؟. . لعلها تتقي أن يغلط مراقصها فيدوس أصابعها الصغيرة فهي لهذا تبعد بساقيها عنه. . ومن يدري أيضاً؟. . فعسى أن تكون غايتها أن تريح صدرها جداً عليه. . وهذه السمينة التي تحرك جسمها الثقيل ببطء. . صاحبها أسمن منها فهما مسكينان. . ألا ترى كيف يمسح عرقه. . ولكن الغريب أني لا أراها تعرق مثله. . وأحسب أن هذا من فضل الله فلو تصبب عرقها لَثَرَّ على المسحوق ورسم خطوطاً تجعل وجهها كأن فيه أخاديد. . ولكن لماذا وكيف لا تعرق؟. .
وسكتت الآلات وكانت الأرجوانية من جيراني ولكن وجهي كان إلى غير جهتها فلم أستطع أن أديره إليها. . قاتل الله الشعور بالذات. . لماذا لا أنظر إليها؟. . لن أخطفها أو آكلها. . ولا أظن أن نظري إليها يسوءها كما يسوءها الانصراف عنها كأنما هي لا تستحق نظرة. . وإنها والله لآية. . ولمحت شيئاً عظيماً إلى يميني في مدخل النافذة فالتفت فإذا الخادم الأسود الضخم الجثة فضحكت - في سري فما أستطيع أن أقهقه وأنا وحدي في هذا الحشد - وحدثت نفسي أن الله اختار لي أن يكون هذا الزنجي العظيم زميلي في ليلتي هذه وأنيسي في وحدتي. . وحولت وجهي عه مستعيذاً بالله، ونظرت في الساعة ورجوت أن يحضر صاحبي فيزيل هذه الوحشة وينحى عني هذه العمة الحالكة السواد. . ولكن صاحبي لم يجئ فلا بد أن اعتمد على نفسي فالتفت إليه وطلبت شيئاً لأصرفه عن مكانه فذهب ووسعني أن أجيل عيني مرة أخرى في الجلوس فرأيت فتاة في ثوب داكن الحمرة ذي شقين وفي أذنها قرط هو حبة كبيرة من اللؤلؤ. . المزيف بالطبع. . وهي سمراء فلعلها مصرية. . أعني لا عبرانية ولا أوروبية. . وشغلني من أمرها أني لا أستطيع أن أتبين أهي بدينة أم نحيفة. . وتعجبت لهذا. . ولكن المائدة أمامها وهي متكئة عليها بذراعيها فالبادي منها هو صدرها مضموماً. . ووددت أن تقف. . أعني أن يدعوها أحد إلى الرقص. . ولكني لاحظت أنها لا ترقص أبداً. . ولم أر واحداً من هؤلاء الشبان دنا منها وانحنى لها أو ابتسم أو أشار أو فعل غير ذلك مما تدعى به الفتاة إلى الرقص. . فهل هم
يعرفون أنها لا ترقص؟. هي مثلي إذاً. . ولكني مهيض الساق فهل تراها. .؟ لا لا. . إني رجل، فلا بأس ولا ضير علي من كسر يصيب ساقي ولكنها تكون مسكينة حقاً إذا كان الله قد امتحنها بمثل ما امتحنني به. . أعوذ بالله. . كلا. . لا أظن. . وشاء حسن الحظ أن تقوم الفتاة في تلك اللحظة وأن تقبل على جيراني فإذا قدها سخيف جداً فانصرفت عنها وحمدت الله الذي أبى أن يشغلني بها عن الجميلات. .
وأطفئت الأنوار وبقيت بضعة مصابيح حمراء وخضراء وعزفت الموسيقى لرقصة التانجو فقلت هذا أحسن وأمتع. . وإذا بشاب أسود وعلى عينيه نظارة يقترب من الفتاة الهيفاء ذات الثوب الأرجواني ويهز لها رأسه فتنهض مرتاحة مسرورة يا أخي!. . أما أن هذا لغريب!. . من أين عرفها؟. . بل من أين جاء؟ فقد درت بعيني في المكان كله ولم أدع ركناً أو زاوية إلا حدقت فيها؛ ولست أعمى ولا قصير النظر وإن كنت أحمق قليل العقل. . وهززت رأسي مستغرباً. . وقلت لنفسي لولا إن الله ابتلاني بساق لا خير فيها أما كنت أنهض أنا أيضاُ لأراقص هذه البنت الجميلة؟. . وزاد عجبي أني رأيته يحسن الرقص وأنها فرحة به ومقبلة عليه. ورنت ضحكتها الفضية فقلت لنفسي يا ملعون!. وظريف أيضاً؟. . إذن أنت تستحق هذه النعمة التي كنت أظنك غير جدير بها. وقد وهبتكها فليس أحق بها منك!. .
وكانت أصابعي تعبث بعلبة الكبريت وتحركها على صوت الموسيقى أراعي الراقصين ولا يفوتني أن أنقد حركاتهم إذا كان قد فاتني أن أشاركهم فجعلت أقول لنفسي. . لا. . هذه الميلة ليست حسنة ولا رشيقة. . كان ينبغي أن يكون الانحراف فيها أقل. . هذا الأحمق يجب أن ينزل بكفه الغليظة إلى الخصر. . ماذا يظن أنه يصنع؟. . ألا يرى أن الفتاة تميل إلى الوراء فكيف يبقي كفه على طرف الكتف؟. أما إنه لمجنون. . وهذا الأبكم ألا يجد كلاماً يقوله لصاحبته فيشيع البشر في محياها؟. . لماذا يدعها كأنما صب وجهها في قالب؟. . في أي شيء غيرها يفكر هذا الأبله؟. . أما لو كنت أنا مكانه؟. . إذن لأريته. . ولكني مع الأسف قاعد أنظر ولا أرقص. وقد خدرت ساقي من طول ما تركتها على أختها فلأرحها قليلاً
وأنزلت ساقي والتفت وأنا أعتدل في مجلسي فإذا الزنجي الضخم واقف إلى جانبي، فقلت
يا لها من ليلة سوداء!. ما له لا يتحول عن هذه النافذة؟. . وخطر لي أنه يتوهم أني قد أهرب منها فإنها تؤدي إلى شرفة تنتهي من آخرها إلى السلم، فقلت أعطيه القروش التي لا يستحقها وأريحه وأستريح فقد طلبت شيئاً بارداً فجاءني بشاي سخن. وأحسب أنه لم يسمع أو لعله ظن الشيء شاياً. فما أذكاه!. . وبدا لي أني أظلمه فليس ذنبه أنه أسود وإن جثته ضخمة وإن شكله بغيض، ثم أن له حقاً في الوقوف حيث يشاء مادام لا يزحم المكان؛ وأين بالله يقف إلا في مدخل باب أو نافذة استعداداً لتلبية الطلبات؟ فلندعه على كل حال.
وأردت أن أنهض وأنصرف فقد تأخر صديقي جداً ولم يعد من المنتظر أن يحضر، ولكني استحييت أن أمشي أمام هؤلاء الفتيات الجميلات وضننت بهن أن أعكر عليهن صفوهن برؤية رجل أعرج يظلع أمامهن، وقلت أنتظر حتى يستأنفن الرقص ويشغلن به عني. ولست أستحي من العرج الذي منيت به فما فيه ما يدعو إلى الخجل، لكني أكره الفضول وأستثقل من الناس أن يديموا النظر إلى رجلي كأنها شيء غريب جداً. وما ركبت الترام قط إلا ضايقني الناس بهذا الفضول. وما أكثر ما رأيتهم يتحدثون ويشيرون إلى ساقي غير عابئين بشعوري. ولهذا رأيت أن اتخذ سيارة لأريح نفسي من هذا الفضول
وودعت الخادم الغليظ وتحريت أن أرضيه فقد ظلمته وإن كان هو لا يدري ولا يعرف ما كان يدور في نفسي كلما وقف إلى جانبي. وخرجت مترنحاً - لا من السكر فما شربت إلا ماء فقد تركت الشاي - وإنما كنت أترنح لأن رأسي كان يدور. ولي العذر فقد يحتمل المرء واحدة جميلة ولكن من العسير أن يحتمل فتنة كل هذا الجمال الراقص
إبراهيم عبد القادر المازني
حافظ إبراهيم شاعر الفخامة
للأستاذ كرم ملحم كرم
حافظ العسكري اقتدى بالبارودي العسكري فجاء شعره قوياً
كالأمر دقيقاً كالنظام
ظهر الشعر ضعيفاً في مطلع عهد الانبعاث. فكأنه ليس بالشعر، إن هو إلا كلمات مرصوفة بعجز، لا تدل على معنى سام ولا تزخر بالقوة. وكأن أولئك النظامين يجهلون حسن الصياغة، فنفحونا بشعر مائع في معناه ومبناه، وكل ما رموا فيه إلى الاقتداء بالأقدمين. لا في سبكهم الشعر بل في مواقعهم من ولاة الأمر. فعلموا أن الأخطل كان يمدح معاوية ويزيد ويتمتع برحابة عبد الملك، وأن أبا نواس مدح الرشيد والأمين، وأن المتنبي تغنى بمآثر سيف الدولة، إذاً عليهم أن يمتدحوا الحكام والولاة. عرفوا أن الشعر يبدأ بالغزل وينتهي إلى المدح، فنهجوا هذا النهج اندفاعاً وراء البحتري والمتنبي ومهيار الديلمي ومن جرى مجراهم من شعراء العصر العباسي الأخير
وطالعوا في صفي الدين الحلي الطباق والجناس وتسخير المعنى للألفاظ، فقلدوا صفي الدين فيما أنشدوا من شعر، وما نظموا من قصائد خالية في معظمها من روعة البيان والابتكار
بلى، لقد حاول الشيخ ناصيف اليازجي الخروج عن هذه الدائرة، إلا أنه لم يكن ابن نفسه في معظم ما أنشد. فهو مدين للمتنبي في أكثر قصائده مع كونه شاعراً، على أن الشاعرية لا تنفي التقليد
وأول من برز من الشعراء الأقحاح بعد الشيخ ناصيف اليازجي هو محمود سامي البارودي، فجمع بين حسن الصياغة والمعنى. وإن يكن هذا المعنى غير مبسوط أحياناً ينحصر في نطاق معلوم، فهو خير ما جاد به علينا مطلع عصر الانبعاث. وتكفي تلك الصياغة المشرقة التي اهتدى إليها البارودي ونبذ بها الركاكة الشائعة يومذاك ليكون لهذا الشاعر فضل عميم على القريض. فالشعر العربي نهض بالاستناد إلى البارودي نهضة نشاهد آثارها في شعراء اليوم. وقد تكون نهضته نهضة ألفاظ أكثر منها نهضة معان. على
أن نهضة الألفاظ هذه صقلت الشعر، ونفت عنه الاضطراب، وقادته في طريق سوي انتهى به إلى شعر المعاني الأنيق، البراق الظاهر، الخالي من كل وهن وعيب سواء في لغته أو تركيبه
وحافظ إبراهيم اقتدى بالبارودي في حسن صياغته. فعمد إلى الشعر العالي النفس، المتين القالب، يشد به نفثاته. وكأنما ونحن نقرأه نسمع الفرزدق أو بشاراً، على أن هذا الشعر لم يكن موفقاً في معظم الأحيان بمعانيه مثله بألفاظه
فهناك ألفاظ مختارة تعيد إلى الأذهان عصر الجاهلية وما تلاه من أعصر أشرق فيها الأدب العربي وأزهر. ولا نكير أن الشعر في الجاهلية وصدر الإسلام والأعصر العباسية كان اشد خصباً في المعاني من شعر الانبعاث في مستهله، بيد أن النهضة لا تعتمد على الطفرة في مسيرها بل تمشي وئيداً إلى هدفها الأعلى. ولابد في مطلع كل نهضة أدبية من هزة لفظية تجتاح القوالب الرثة لتقيم الأدب الجديد على ركن لغوي سليم
والهزة اللفظية بدأها اليازجي الكبير والشدياق ونقلها إلى مصر اليازجي الأمين؛ فلا عجب إذا اعتمدها البارودي في بيانه وتلاه حافظ إبراهيم. وحافظ تأثر بالبارودي في شعره ومسلكه، وطمع في أن يرتقي يوما إلى مستوى هذا الشاعر العسكري. فالبارودي تربع في مقعد الوزارة، وحافظ شاقه أن يجلس يوماً في هذا المقعد وان يبلغ شأن زميله. وهو لما كان يرتدي ثوب ضابط في السودان ما انفك عن التودد إلى الشيخ محمد عبده. وكل قصده أن يمهد الشيخ له السبيل إلى الوزارة أو إلى منصب سام في الجيش. بيد أنه لم يقع منه على ضالته. فالشيخ كان يتناول رسائل حافظ ويطويها دون أن يكترث كل الاكتراث لهذا الضابط الوافر الآمال، العاقد عليه رجاءه. فيئس حافظ أو كاد، ودعا إخوانه إلى التمرد على الأوامر العليا، ومال عن الجيش إلى الاشتغال بالأدب في مصر. ومع كل ما لقي من فتور الشيخ محمد عبده ظل له على وفاء وولاء. وانتابته الفاقة وهو يرقب إنصاف الشيخ له وما تولى عمن تولى عنه.
وكان ميدان الأدب يضيق بالفرسان. فهناك شوقي ومطران وولي الدين وأحمد محرم والمنفلوطي. وظهر شوقي في القمة يزاحمه عليه خليل مطران. على أن حافظاً لم يدركه اليأس. فدفع في الحلبة جواده يبغي الوصول إلى القمة شأن شوقي نفسه. على أن ما توفر
لشوقي لم يتوفر له. فقد ملك شوقي المال والثقافة معاً. فكان واسع الاطلاع، ناعم البال، يعلم حق العلم أن عيشه مضمون في حاضره وفي غده. على حين أن حافظاً فقد أمله في الحاضر والمستقبل. فكافح الشقاء، غير أن الشقاء أقوى منه. ونظر إلى آتيه وإذا الآتي يبدو مبهماً إن لم يبد فاحماً أسود
في هذه البيئة المضطربة عاش حافظ بين الإفلاس والشقاء والأمل الطعين. فلا يسعفه من اعتمد عليهم ولا ينجده دهره. ولم يبق لديه سوى بيانه. على أن البيان لم يوفر له العيش الرغيد مع كل ما فطر عليه من حسن المخالقة وجلو الحديث ونبل النفس؛ فلم يكن حافظ ممن يتسفلون إلى استجداء اللقمة، بل كان يجتهد ما استطاع في صون كرامته وهو الرجل العسكري الشديد الحرص على شرفه وواجبه
ولمعت قصائد حافظ الأولى. وقام الناس يقارنون بينه وبين شوقي. فأدرك حافظ أنه بلغ القمة التي يصبو إليها، وأن الحجر العثرة في الطريق هو شوقي دون سواه، فإن هو ذلل هذه العقبة هان عليه كل عسير ونال المشتهى. فليس أمامه غير هذا الخصم وعليه ألا ينام عنه، ومما كان يؤلمه أن يلمع شوقي لدى الخديو عباس وأن يؤثره عزيز مصر على الأدباء أجمعين، فلماذا يكون شوقي في تلك المرتبة السامية ولا يترقى هو (حافظ) إلى المكانة نفسها!. . ولقد كان يطمع في مكانة أسمى، فشاء أن يكون شاعر الخليفة العثماني وأن يتفوق على شوقي في أدبه ومنزلته إلا أن الأقدار لم تضمن له ما يرجو.
فنقم على دهره وأبى أن يناصر مذهب شوقي السياسي فدرج على خطى محمد عبده خصم الخديو، ونفخ في بوق الوطنية فكانت قصائده تلهب الحماسة في النفوس فيصفق لها العرب بأجمعهم لكون القوة تتجلى فيها، وغار منه شوقي فنسج على منواله في رثاء مصطفى كامل وفي سقوط أدرنه وفي سقوط عبد الحميد. فكل مأثرة وطنية كانت تجد لها صدى في قريحة الشاعرين، إلا أن صداها في منظوم حافظ أكثر صدقاً منه في منظوم شوقي. فلم يكن منى شوقي إلا أن يتغلب على هذا المزاحم الوثاب. وكيف يزاحمه بسوى إطلاق بلاغته وبيانه؟
والزحام كان جليل الفائدة، فالشاعران جالا فيه على ما يتسع لهما المدى، فبذلا كل ما يملكان من موهبة. وكان حافظ يتفوق حيناً وحيناً شوقي. وأحياناً كانا يتساويان، إلا أن ثقافة
شوقي ساعدته في استنزال المعاني أكثر مما توفر الأمر لحافظ. ولسنا ننفي عن حافظ اصطياد هذه المعاني المبتكرة، إلا أنه لم يكن موفور التوليد فيها. فاللفظ وحسن الصياغة كانا يشغلانه عن المعنى. وهو لو كان يجيد لغة أجنبية، لو اطلع على أدب الغرب مثله على أدب العرب لبات أوسع خيالاً وأشد عمقاً في منظومه، إلا أن جهله اللغات الأجنبية وقف به عند الأدب العربي، فما تفتحت عيناه على آفاق بعيدة يخلو منها أدبنا القديم. فكان يجتهد في الاقتداء ببشار وبالمتنبي في صياغتهما. ويميل عن كل إسفاف في المبني، وهذا المجهود من حافظ في إنقاذ آثاره من الضعف اللغوي أهاب بشوقي إلى الانعكاف على درس اللغة ليدفع عن قصائده هذا الشين
وإن يكن لابد من المقارنة بين شاعرين عاشا في عصر واحد واندفعا في طريق يكاد يكون واحداً في ما نظما وأطلقا من خراطرهما قلنا إن شوقي يتقدم حافظاً في معانيه وموسيقى ألفاظه، فيحلق في جو أسمى من جو حافظ، فكأنه يملك جناحين أوفى انبساطاً، وأشد عزماً، كأنه كتلة من أعصاب تأبى إلا أن تندفع إلى الأعالي تقع فيها على كل جديد، فترى وتلمس ما لا يتفق لسوى من ملك قوتها في اقتحام مسبح الفلك. وحسب شوقي أن يرصع صدر الملعب العربي بتلك الروايات التمثيلية. فشاء بها أن يضارع كبار شعراء العالم أمثال شكسبير وكورناي وراسين وفولتير وفكتور هيغو، فما (مجنون ليلى) غير (روميو وجوليت) لشكسبير، وما (كليوباترة) غير (أندروماك) لراسين
وحافظ لم يخترق هذا الجو، فاكتفى بالديباجة الفخمة، بعظمة الجند، بالشارات العسكرية البراقة، فأنت تحس وأنت تقرأه بأنك أمام شاعر يتقلد سيفاً ويعلن أمراً. فلا محاباة ولا مصانعة، بل قوة جياشة تدعوك إلى الاصغاء بكلام طنان ثابت في مواضعه كأنه صب فيها صباً. والأوامر العسكرية معروفة لا زخرف فيها ولا طلاء بل فخامة وقوة. وهذه الأوامر غلبت على شعر حافظ كما غلبت على شعر البارودي فمالت بهما عن التغريد المتعالي من شعر شوقي والخيال المغلف به منظوم شاعر الأمير
إذاً شوقي هو المتفوق. وشوقي روح عصر الانبعاث في مطلع القرن العشرين. فهو مرآة الشعر في هذا الزمن. ومن ينظر في نتاج قرائح شعراء اليوم يقبل على شوقي في الطليعة ومن المحال أن ننسى خليل مطران. على أن المفاضلة تتناول في مبحثنا حافظاً وشوقي
دون سواهما. وحافظ لم يكن خصباً كشوقي ولا متفنناً مثله. وإذا قيل إن شوقي أغار على الأقدمين فليس ينجو حافظ من التهمة. هذا عارض من سبقوه وذاك عارض من سبقوه، إلا أن أبواب الغزو لدى شوقي المطلع على الأدب العربي والغربي معاً أكثر منها لدى شاعر النيل. وهذا سر من أسرار تفوق الأول ووقوف الآخر دونه في الطريق
ومما نشاهد أن عطف الناس على حافظ أقوى منه على شوقي. فإن لحافظ في القلوب منزلة لم يبلغها شاعر الأمير، فكل من وقف على بؤس حافظ وإخفاقه في أمانيه وعزة نفسه مال إليه متأثراً وتألم لألمه. والبائس يجد حوله ذوي الرفق، على حين أن القرير العين يصطدم أبداً بالناقمين الكارهين. وهذا هو موقف الشاعرين من أبناء اللغة العربية. أحبوا حافظاً لبؤسه وخفتت في صدورهم محبة شوقي لغناه، على أنهم إذا جاءوا يفاضلون بين الشاعرين آثروا شوقي على حافظ دون ما تردد. وتلك العاطفة الروحية لابد لها أن تتلاشى على ممر الأيام، يوم يفنى هذا الجيل ويبيت أبناء الغد حيال أدب شاعرين يعتمدون في تحليل آثارهما على نور الحقيقة لا على نبضات القلوب
وهذا الإيثار لا يحط من قدر حافظ. فهو من أقطاب الشعر في هذا العصر. وإذا استثنينا شوقي ومطران قلنا إن البلاد العربية لم تنجب حتى الآن من أمثاله. ويسرنا أن تدرك أخيراً مصر قدره وتقيم له المهرجان تلو المهرجان. وكنا نود أن يلقى هذا التكريم وهو في قيد الحياة. فكان بحاجة إلى التقدير بعد كل ما عانى من بؤس وخيبة.
والتقدير لا يكفي إذا تهاون المصريون في أمر ضريح الشاعر، فإن لرفات هذا الشاعر الجندي المتوقد القريحة شأناً تاريخياً من حق مصر أن تعتز به، فلن يقوم في كل يوم فيها شاعر كحافظ إبراهيم.
ولقد أثبتت الأقطار العربية الأخرى أنها تحترم حافظاً وتنحني أمام أدبه العالي. فأوفدت ممثليها للاحتفال بذكراه والتغني بمحامده، ولا ريب أن الملوك أنفسهم يشتهون أن ينالوا ما يتمتع به الشعراء بعد موتهم من خلود وتكريم. فالمتنبي والفردوسي لقيا من يحتفل بمرور ألف عام على موتهما. مع أن هذا التقدير العالي لم ينل مثله كسرى ولا هرون الرشيد. وأين الفردوسي والمتنبي من كسرى وهرون الرشيد في إبان حياتهما!. ولكن الأدب أبقى من العروش، والشاعر أبعد خلوداً من الملوك، وحافظ من هؤلاء الخالدين. ومن الراهن أن
مصر تنسى المئات من أرباب التيجان الذين توالوا ويتوالون عليها، ولا تنسى حافظاً وشوقي والبارودي وصبري وولي الدين، وفي ذلك الدليل كل الدليل على أن الأدب وهو وليد النفوس، أوطد أثراً في قلب الدهر من التيجان والصوالجة، وأن الأديب الأديب يرسخ في أذهان الأجيال المقبلة رسوخاً لا يحلم به غير من دوخوا الأرض من أمثال الاسكندر، ويوليوس قيصر، وعمرو بن العاص، ونابليون العظيم. . .!
(بيروت)
كرم ملحم كرم
صاحب جريدة (العاصفة)
من أدب التاريخ
قصة غرام فاطمية
موضوع مسرحية بديعة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تقدم إلينا صحف القصور الإسلامية طائفة من القصص الغرامية الشائقة التي امتزجت بسير الخلفاء أو السلاطين؛ بيد أن هذه القصص المشرقية بالرغم من ألوانها المشجية المؤسية أحياناً لا تحمل دائماً ذلك الطابع الروائي العنيف الذي يبدو في قصص الحب في القصور الغربية؛ ويرجع ذلك أولاً إلى روح العصور، وثانياً إلى تباين الخلال والنظم الاجتماعية؛ ففي القصور الإسلامية كان يغلب دائماً ذلك التحفظ الذي يسبغ ستار الصمت والكتمان على حوادث وسير لا تحمد إذاعتها وتتقى آثارها بين الكافة؛ وكان نظام التسري الذي يعمر قصور الخلفاء والسلاطين بأسراب الجواري الحسان من مختلف الأمم والأجناس يحول دون اضطرام هذه العواطف والنزعات العنيفة التي كثيراً ما تضطرم في قصور الغرب، وتحمل في طريقها عروشاً أو تؤثر في مصاير أمم ومجتمعات؛ ومن النادر أن نرى في التاريخ الإسلامي جارية أو خليلة، حظية خليفة أو سلطان، تسيطر على أقدار الدولة ومصايرها بمثل ما كانت تسيطر غانية مثل بومبادور أو دوباري على أقدار فرنسا في عهد لويس الخامس عشر، أو نرى ملكاً وإمبراطوراً عظيماً كإدوارد الثامن يهجر أعظم عروش الأرض وأجلها قدراً في سبيل حب ليس فيه من الروعة والجمال ما يتناسب مع روعة التضحية التي أقدم عليها
بيد أننا نظفر في صحف القصور الإسلامية مع ذلك ببعض السير الغرامية العجيبة التي تطبعها ألوان روائية تذكي الخيال إلى الذروة. ولولا أن الرواية الإسلامية تحجم في كثير من الأحيان عن الإفاضة في تلك السير الشائقة، وتكتفي بإيراد الروايات الموجزة عنها لكان منها تراث روائي ساحر لا يقل في روعته وجماله وتباينه عما تقدمه إلينا قصص الحب الغربية الشائقة
مثال ذلك قصة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله وحبيبته البدوية فهي في الواقع نموذج
ساحر من ذلك القصص الغرامي الذي يصلح بموضوعه ومناظره وألوانه موضوعاً لمسرحيات من الطراز الأول في سحرها وروعتها
ولي الآمر بأحكام الله الخلافة وهو طفل في نحو السادسة من عمره سنة 495هـ (1102م) رفعه إليها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه وزير أبيه الخليفة المستعلى، وجده المستنصر من قبل، والمتغلب على الدولة، والمستأثر بسلطانها؛ ونشأ الآمر في كنف هذا الوزير الطاغية، كما ينشأ جميع الأمراء الذين ليس لهم من الملك غير رسومه ومظاهره، محجوباً في قصره، مغموراً بأنواع الملاهي والمسرات؛ بيد أنه نشأ مع ذلك طموحاً ينزع إلى السلطان والبطش فلما بلغ أشده، وشعر بوطأة المتغلب عليه أخذ يتربص به حتى استطاع أن يدبر مصرعه، وقتل الأفضل سنة 515هـ؛ وتولى مكانه المأمون البطائحي؛ وقبض مثل سلفه على السلطة بقوة وحزم، فلم يلبث أن لقي نفس مصيره، فقتل في سنة 519هـ، واستأثر الآمر عندئذ بكل سلطة، وأطلق العنان لأهوائه وإسرافه وبذخه؛ وكان الآمر أميراً مرحاً، مضطرم النفس والأهواء، مشغوفاً بحياة اللهو والطرب، وافر السخاء والبذل، يعشق البذخ الطائل؛ وكان يهيم بالجواري والحسان، لا يطيق الحياة دون حب وهوى، وكان يشغف بفتيات البادية بنوع خاص، وله مع إحداهن قصة غرام مؤثرة، تنقلها إلينا الرواية في ألوان ساحرة، فكأنما تقرأ فيها كما تذكر الرواية ذاتها فصلاً من فصول ألف ليلة وليلة، أو ما يشابهها من القصص العجيب المغرق
كان الآمر يهيم كما قلنا بفتيات البادية، ويرسل في أثرهن رسله وعيونه، يجوبون البوادي والنجوع، ويبحثون عن روائع الجمال الساذج في ثنايا الخيام وفي مهاد البداوة النقية؛ فنقل إليه بعضهم أنه عثر ببعض أحياء الصعيد بجارية عربية هي مثال رائع للجمال العربي آية في الحسن والرشاقة والظرف، أديبة شاعرة، وافرة الذكاء والسحر؛ والى هنا تبقى القصة عادية ليس فيها ما يثير الدهشة؛ بيد أن الرواية تجنح بعدئذ إلى نوع من القصص الرائع، فتقول لنا أن الخليفة الآمر لما سمع بخبر هذه الفتاة البارعة في الحسن وفي الجمال، أراد أن يراها بنفسه قبل أن يتخذ في شأنها أي إجراء، فتزيا بزي الأعراب وغادر قصره بالقاهرة، وسار إلى الصعيد، وأخذ يتجول بين الأحياء حتى وقف على حيها واستطاع أن يتصل بأهلها دون أن يعرفوه وأن يظفر برؤيتها وتأمل محاسنها؛ فما أن رآها
حتى اضطرمت جوانحه بحبها، وأسرع بالعودة إلى القاهرة وقرر في الحال أن يخطب هذه الفتاة التي تيمته حباً، وأن يتزوج بها؛ وبعث الآمر إلى أهل الفتاة برغبته، فبادروا إلى تحقيقها فرحين مغتبطين، وأرسلوا بالفتاة إلى القاهرة، حيث حملت إلى القصر، وغدت في الحال زوجة للخليفة، وسيدة البلاط الفاطمي
والى هنا ينتهي أول فصل في القصة، وهو تفصل لا تنقصه عناصر الخيال الممتع؛ ثم إن فتاة البادية العالية - وكان هذا اسمها - بعد أن سكنت إلى حياة القصر الباذخة حيناً، وأفاقت من دهشتها الأولى، أخذت تشعر بثقل هذه الحياة الناعمة على ما فيها من متاع ونعماء وترف مستمرة، وتبدو لها جدران القصر العالية، وأبهاؤه الفخمة كأنها ظلام السجن، وأخت تحن إلى فضاء القفر الشاسع وهوائه النقي الساذج كما تحن الطيور في أقفاصها إلى فضاء السماء، أو كما تحن الأسود المعتقلة إلى أحراجها وأدغالها، رغم ما تتمتع به في سجنها من وافر العناية؛ فلما رأى الخليفة الآمر ما أصاب حبيبته من الاكتئاب والوحشة، دفعه الخيال إلى أن يلتمس لها متعة الفضاء التي تنشد على طريقته الملوكية، فأمر أن تقام لها على النيل في جزيرة الفسطاط (الروضة) متنزهاً عظيماً يضم بستاناً ساحراً وأجنحة ملوكية بديعة، وسمي هذا المتنزه الرائع الذي لبث مدى حين من محاسن الدولة الفاطمية (بالهودج) فكان للتسمية مغزاها في التشبيه بالهودج الذي هو خباء السفر في البادية؛ وأنس روح البدوية الهائم مدى حين إلى الرياضة في (الهودج) والتمتع بمناظره الرائعة ونسماته العليلة بيد أنها لم تنس قط وهج القفر وسحر الفلاة
واليك فصلاً ممتعاً آخر من تلك القصة الغرامية الرفيعة. لقد ظفرت (العالية) بغزو قلب صاحب الخلافة والعرش، وغدت سيدة القصر والبلاط، ولكن ذلك لم يكن منتهى آمالها وسعادتها؛ ذلك لأن قلبها البدوي المضطرم كان يخفق منذ أيام البادية بهوى فتى من بني عمومتها يدعى ابن مياح، ربيت معه في الحي منذ الطفولة، وكان فتى رقيق الخلال وافر السحر، فلما حملت إلى قصر الخليفة لم تخمد في قلبها جذوة حبه، ولبثت في قصرها تتجه بخيالها إليه؛ وفي ذات يوم هزها الشوق إليه، فبعثت إليه من قصر الخليفة بهذه الأبيات
يا ابن مياح إليك المشتكى
…
مالِكٌ من بعدكم قد مُلكا
كنت في حبي مطاعاً آمرا
…
نائلاً ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر موصد
…
لا أرى إلا حبيباً ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوا
…
حيث لا نخشى علينا دركا
وتلاعبنا برملات الحمى
…
حيثما شاء طليق سلكا
تقول الرواية، فأجابها ابن مياح بهذه الأبيات
بنت عمي والتي غذيتها
…
بالهوى حتى علا واحتبكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها
…
لو غدا ينفع فيها المشتكى
مالك الأمر إليه يشتكى
…
هالك وهو الذي قد هلكا
شأن داود غدا في عصرنا
…
مبدياً بالتيه ما قد ملكا
ثم تقول الرواية: ووقف الخليفة الآمر على سر هذه المراسلة وقرأ أبيات ابن مياح، فقال لو أنه لم يسئ إليه في البيت الرابع لرد الجارية إلى حبه وزوجها منه
وأثارت هذه القصة نفس شاعر معاصر من بني طيء يدعى طراد بن مهلهل، فنظم أبياتاً ينحى فيها على الآمر باللائمة ويخاطبه بما يأتي:
ألا بلغوا الآمر المصطفى
…
مقال طراد ونعم المقال
قطعت الأليفين عن ألفة
…
بها سحر الحي بين الرجال
كذا كان آباؤك الأقدمون؟
…
سألت فقل لي جواب السؤال
فغضب الآمر حينما وقف على هذا الشعر، وقال جواب السائل قطع لسانه على فضوله، وبعث في طلب طراد في أحياء العرب، ففر منه واختفى
ولبث الآمر بعد ذلك أعواماً؛ يطلق العنان لأهوائه، وينعم إلى جانب حبيبته العالية، ويتردد معها إلى متنزه الهودج. وكان الآمر يثير سخط فريق من الزعماء ورجال الدولة بما جنح إليه من تمكين النصارى من مناصب الثقة والنفوذ، وما كان يمعن فيه من اللهو والبذخ والاستهتار بالرسوم والتقاليد، ففي ذات يوم من أيام ذي القعدة سنة 524هـ (1130م) ركب من القصر كعادته إلى الهودج للتنزه، فلما وصل إلى رأس الجسر الموصل إلى الهودج وثب عليه قوم قد كمنوا له. وأثخنوه طعناً بخناجرهم، فحمل جريحاً إلى قصر اللؤلؤة على مقربة من مكان الجريمة، ولكنه لم يلبث أن توفي، ولم يجاوز الخامسة والثلاثين
وكان الآمر بأحكام الله شاعراً مجيداً، وله نظم قوي مؤثر فمن نظمه قوله:
دع اللوم عني لست مني بموثق
…
فلابد لي من صدمة المتحقق
وأسقي جيادي من فرات ودجلة
…
وأجمع شمل الدين بعد التفرق
تلك هي قصة الآمر بأحكام الله مع حبيبته العالية، وهي قصة تجمع بين حقائق التاريخ ومتاع القصة؛ ولا ريب أن الرواية قد أسبغت عليها حواشي وألواناً خلابة مصدرها الخيال الشائق، بيد أنها تحتفظ مع ذلك بطابعها التاريخي. ولقد عرج كثير من كتاب المسرح عندنا على بعض الوقائع والمآسي التاريخية واتخذوها موضوعاً لمسرحياتهم، بيد أنها قلما تتمتع بذلك الطابع الروائي الخلاب الذي تتمتع به قصة الآمر بأحكام الله مع حبيبته العالية، ألم يقف أحدهم بتلك القصة الفاطمية الشائقة التي وقعت بمصر في ظل خلافة تنثر من حولها آيات الفخامة والبذخ الرائع؟ إن صحف التاريخ الإسلامي تقدم إلينا كثيراً من هذا القصص الرقيق المؤثر، فهلا فكر كتاب المسرح في ورود هذا المنهل الغزير والاقتباس من طرائفه؛ وإن المسرح المصري ليبدو أروع وأبدع، وأوفر سحراً وفتنة إذا استطاع كتابنا أن يتحفوه ببعض هذه المناظر القومية الشائقة التي تبد في ألوانها، وفي روعتها وبهائها كثيراً مما ينقلون إلينا من تراث المسرح الغربي
محمد عبد الله عنان
حول مجمع اللغة العربية الملكي
هل لمجمع اللغة العربية وضع المصطلحات العلمية؟
للأديب مصطفى زيور
نشرت الأهرام في عددها الصادر في السادس من شهر مارس سنة 1937 كلمة للكاتب الفاضل إسماعيل مظهر يناقش فيها حديثاً مع مندوب الأهرام لعميد كلية الآداب الدكتور طه حسين بك بشأن مجمع اللغة العربية ومهمته التي يجب (في رأي الأستاذ العميد) ألا يكون منها وضع المصطلحات العلمية. وما كنت لأزج بنفسي في هذه المناقشات - فلست من المضطلعين بعلم اللغة - لولا ما تبينته في كلمة الكاتب الفاضل إسماعيل مظهر من إغفال حقيقة أولية أخشى أن تكون فاتت أعضاء المجمع المحترمين، بل اليقين إنها فاتتهم لأن موقف المجمع منها يدل على ذلك، فكان في ذلك الخطر وكان في ذلك ما دفعني إلى كتابة هذا.
ساق الكاتب الفاضل إسماعيل مظهر في كلمته رداً على رأي الأستاذ العميد الحجة الآتية التي يستهلها بقوله: (إن حضرة الأستاذ العميد يحاول أن يثبت أن لمجامع اللغة طبيعة واحدة لا تختلف باختلاف الشعوب واللغات وظروف الأحوال فمضى يطبق القواعد التي يجري عليها مجمع اللغة الفرنسي. . . كأن الطبيعة والتاريخ لا حساب لهما في قياس الفارق بين اللغتين وحال الشعبين. . .) إذن ففي رأي الفاضل إسماعيل مظهر أن الظروف الملابسة لمجمع اللغة العربية تختلف عن ظروف المجمع الفرنسي بحيث تجعل مجمع اللغة العربية في حل من أن يتقيد بمسلك المجمع الفرنسي في الإحجام عن معالجة وضع المصطلحات العلمية. أما هذا الفارق في الملابسات فيتلخص في رأي الكاتب الفاضل في أنه إذا كان للفرنسي المشتغل بالعمل أن يضع الاصطلاح العلمي دون أن يكون لمجمع اللغة في بلده إلا أن يسجل الاصطلاح فذلك لأنه ينشأ في مهده يسمع اللغة الفرنسية الصحيحة ثم هو يدرس بعد ذلك اللغتين اللاتينية واليونانية، فهو إذن قادر على الاشتقاق والنحت واغلب الظن أن المصطلح الذي يضعه لا غبار عليه، هذا بينما نحن في مصر لا نسمع في طفولتنا إلا العامية ولا نحصل من اللغة الفصيحة بعد ذلك في المعاهد إلا قدراً لا يغني ولا يمكن المشتغل بالعلم أن يقوم بذلك العمل الفقهي دون مساعدة المجمع. والنتيجة
المنطقية من هذا كله في رأي الكاتب الفاضل كما يقول في مكان آخر من كلمته (إن طبيعة لغتنا والظرف القائم فينا يجعل من أوليات المهام التي يجب أن يباشرها مجمع اللغة العربية النظر في وضع المصطلحات العربية الصحيحة).
ولست أريد أن أناقش هنا هذه الحجة والنتيجة المستخلصة منها، لأنه من الواضح أن هذا القياس كله يقوم على زعم اقتنع به الكاتب الفاضل: وهو أنه إذا اجتمع لمجمع لغة ظروف بعينها فعليه أن يقوم بوضع المصطلحات العلمية، وهذا هو ما أنكره
أنكر أن يقوم مجمع لغة مهما يكن وفي أي بلد يكون ومهما تكن الظروف بوضع اصطلاح علمي. ومع احترامي الشديد لأعضاء مجمعنا الموقرين - ومنهم من كان لي أستاذاً بل ومنهم من تربطني به صلات هي أوثق من صلة التلميذ بأستاذه - فإنني لا أخفي أن في إنكاري هذا إنكاراً لمجموع مجهودهم إزاء المصطلحات العلمية؛ فإن ثمة حقيقة أولية هي من الخطر بحيث لا ينبغي السكوت عليها: لا يختلف اثنان في أن مهمة مجمع اللغة العربية هي العناية باللغة العربية - بصرف النظر الآن عن الطريق التي يسلكها إلى ذلك - كما أن مهمة مجمع اللغة الفرنسية هي العناية باللغة الفرنسية، وليس لأحدهما أن يعنى بلغة غير اللغة المنوط به أمرها. فإذا كان الأمر كذلك فإن هناك حقيقة أولية هي أن لغة العلم لغة دولية مستقلة لا شأن لها باللغة العربية ولا شأن لها بغيرها من اللغات، هذا هو موضوع كلمتي هذه.
تصفح معجماً فرنسياً متداولاً مثل (لاروس) ثم تصفح معجما إنجليزياً متداولاً مثل (تشيمبرسز) ثم تصفح معجماً ألمانياً متداولاً مثل (سكس فيلات) فلن تجد كلمة (كروموسوم) التي تجنى الكاتب الفاضل إسماعيل مظهر على أساتذة كلية العلوم المصرية بأن المجمع أوجد لها لفظاً عربياً، فإذا أردت الآن أن تتصفح معجماً علمياً مطبوعاً في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو غيرها من البلاد وجدت كلمة (كرومسوم) هي هي يستعملها العالم الفرنسي والإنجليزي والألماني على السواء. هل يريدني الكاتب الفاضل أن أعلق على هذه الحقيقة؟ كروموسوم التي ترجمها مجمع اللغة العربية بكلمة (صبغي) ليست فرنسية ولا ألمانية ولا إنجليزية بل ولا يونانية؛ نعم لا أرسطو ولا معاصروه يعرفونها، ولا سكان اليونان الحاليون من غير المشتغلين بالعلم يعرفونها، هي ربط تحكمي بين
أصلين يونانيين قديميين أي لون وأي جسم، ربط
لم يكن الداعي إليه كما زعم الكاتب الفاضل عجز لغة واضع الاصطلاح عن إسعافه بلفظ يؤدي المراد. وإلا فقل لي يا سيدي هل عجزت إحدى هذه اللغات الأوربية عن لفظة تقابل لفظة صبغي؟
يخيل إلي أن القاعدة الأساسية التي قامت عليها حركة اشتقاق المصطلحات العلمية من اليونانية القديمة واللاتينية هي التي فاتنا فهمها في مصر. لم يكن عجز اللغات الأوروبية الحديثة ولكن إرادة التخصيص والتمييز لمعان جديدة بينها وبين الألفاظ المتداولة بعض الصلات هو الدافع إلى خلق ألفاظ إذا كانت أعجمية بالنسبة إلى اللغة العربية فهي كذلك أعجمية بالنسبة لغيرها من اللغات الحية، لقد فهم هذا اليابان والروس فاتخذ علماؤهم هذه الألفاظ العلمية التي لا صلة للغاتهم بأصولها اليونانية أو اللاتينية واستعملوها كغيرهم من العلماء. إذن فليس في انحدار اللغة الفرنسية أو الإنجليزية من اليونانية واللاتينية، وليس تلقي الطالب الفرنسي هذه اللغات القديمة في المعاهد ما يفسر تعميم استعمال هذه المصطلحات في أوروبا، فإن شعوب الأرض قاطبة من المغول إلى الصقالبة إلى الجرمان إلى الانجلوسكسون إلى اللاتين جميعها تقول كروموسوم. فهل يراد بعلماء مصر أن ينفردوا عن سكان الأرض طراً ويقولوا صبغي؟ ألا يفسر لك هذا يا سيدي أن كثيرين من أهل الذكر من العلماء في مصر - كما قلت في كلمتك - لم يكونوا على استعداد للتضحية في سبيل اللغة فضنوا بمجهودهم على المجمع. ألا ترى أنهم تبينوا أنه تطلب منهم التضحية من حيث لا محل للتضحية لا للغة ولا لغير اللغة.
قلت لابد أن هذه الحقيقة الأولية حقيقة وحدة لغة العلم قد فاتت أعضاء مجمع اللغة العربية المحترمين، فذهبوا يترجمون لا من الفرنسية ولا الإنجليزية بل من لغة العلم إلى العربية! فإذا كان الباعث الرئيسي الذي دفعهم إلى ذلك هو إرادة استبعاد ما سموه بالألفاظ الأعجمية واستبدلها بألفاظ تسيغها عبقرية اللغة العربية فهم لا شك لن يستثنوا من عملية (التطهير) هذه لفظاً دون غيره.
فإذا كان الأمر كذلك وقد ترجموا كروموسوم بصبغي فقد بقي لدينا عدة مصطلحات أخرى كلها مشتقة من الأصل اليوناني فلدينا مثلاً (كروماتين) وهي كما يعرف الكاتب الفاضل
إسماعيل مظهر تلك المادة ذات التلوين القاعدي غالباً الموجود داخل نواة الخلية؛ ثم لدينا (كروم) وهو المعدن المعروف بباهر لون مركباته، ثم لدينا (كروما) وهي وحدة إدراك الألوان في البصريات لا أجهل أن عبقرية أعضاء المجمع المحترمين لن يعوزها ترجمة كروماتين ولكن ما القول في الكروم. أيترجم هذا أيضاً وهو اسم علم لمعدن لم يعرفه العرب؟ إذن يجب ترجمة البلاتين ثم الراديوم والمزوتوريوم إلى آخر سلسلة المعادن ذات الإشعاع، وكذلك الكلور والبروم واليود والبور الخ. ولكن هذه الكيمياء اللعينة لها مشكلة أدهى وأمر: هي المركبات العضوية التي يتألف اسم الواحدة منها من خمسة أصول يونانية أو أكثر كل منها يدل على وظيفة كيميائية يجب ذكرها، ولكني أترك الكيمياء لحظة حتى ننتهي من هذا الحوار حول ترجمة المصطلحات المختلفة المشتقة من الأصل اليوناني ذكرت لك أن وحدة الألوان هي كروما، فهل ينبغي تمشياً مع عملية التطهير ترجمة هذه الوحدة أيضاً كما ترجم بعض أعضاء المجمع المتر والياردة؟! وإذا كان الأمر كذلك فإنه ينبغي أن نترجم الوحدات الفيزيقية الأخرى مثل (دين) و (ديوبتري) ثم (فلت) و (أمبير) و (وات) الخ، ولكن مهلاً! إنك تعرف يا سيدي أن هذه الوحدات الأخيرة هي أسماء لعلماء كانت حياتهم وقفاً على خير الإنسانية، فأراد القوم أن يخلدوهم بتسجيل أسمائهم وحدات عالمية. ولا أخالك تجهل أن أحداً من المشتغلين بالعلم والعارفين فضل هؤلاء العلماء لن يقبل أن يسمع حتى الجدال حول ترجمة هذه الوحدات، بل أثق ولا أشك أنك تثق معي أنه مهما شرع المجمع ومهما صدرت القوانين الصارمة بتحريم استعمال هذه الألفاظ (الأعجمية) فسيكون موقف العلماء في مصر كموقف جاليلي حينما أرغم على القول بأن الأرض ساكنة ثم لم يلبث أن قال (ورغماً عن ذلك فإنها تدور) ،
إذن فلابد لنا - ورغماً عن أنفنا - من ألفاظ أعجمية. ولكن ماذا؟ أيذهب بنا الطهر اللغوي أن نكون ملكيين أكثر من الملك فننسى أن العرب أنفسهم لم يأنفوا من هذه الألفاظ الأعجمية! وإلا فما قولك في مصطلحات مثل فلسفة وكيمياء وقاطيغورياس وكلها يونانية محضة؟ وما قولك في هذا المجمع الفرنسي الذي يقبل ويسجل ، ، وكلها عربية محضة؟ ثم ما قولك في هؤلاء العلماء الغربيين الذين يقبلون ويستعملون اسم هذا الدواء الذي حضره الأستاذ الدكتور خليل عبد الخالق وسماه فؤادين تيمناً باسم المغفور له فؤاد الأول
وهو اسم أعجمي بالنسبة لهم ولا تزكيه دلالة علمية؟ ثم هذه المصطلحات الألمانية المحضة مثل (ماستزلن) وغيرها المستعملة في علم الأنسجة في فرنسا وإنجلترا. وهذه المصطلحات التي تسمها سمة يابانية و. . . وبعد فإنه مهما يكن من الأصل الذي اشتق منه الاصطلاح العلمي فإنه إذا كتب له البقاء - وليس هذا متوقفاً على صحته من الوجهة الفقهية فهذه كلمة (بكتيريا) ومعناها في اليونانية عصا أي جسم مستطيل ومع هذا فإنهم يقولون بكتيريا مستديرة مثل (ستافيلوكوكاس) وهذه هي وهي مزج يتعارض مع أبسط قواعد الفقه اللغوي بين اصل يوناني أي دم واصل لاتيني أي زراعة - أقول إذا كتب لمصطلح البقاء فإنه يأخذ مكانه في لغة العلم (بوضع اليد) ويفرض نفسه على الاستعمال مهما كان فيه من خطأ فقهي لأنه نشأ عن مبدأ انفردت به لغة العلم وهو التخصيص والتمييز كما قلت آنفاً لمعنى جديد يشترك في بعض صفاته مع معان متداولة، فهم عندما قالوا (أنابولزم) لم تعوزهم كلمة في اللفات الحية تقابل (البناء) التي وضعها مجمع اللغة العربية ترجمة لأنابولزم، ولكنهم لاحظوا أنهم لو قالوا في الفرنسية أو في الإنجليزية مثلاً فإنه يختلط الفهم بين هذه الألفاظ العامة وبين المعنى الجديد المراد تحديده. بل إن في المصطلحات العلمية معاني تشترك في بعض صفاتها مع مصطلحات أخرى، فهذه (فوتون) ذرة الضوء، وهذه كروما وحدة إدراك الألوان، وهذه ديوبتري وحدة الانكسار في البصريات، لا يخفى ما بينها من العلاقة، ثم ما بين الأولى وبين الذرات الأخرى (إلكترون) و (بوزيترون) الخ، فوجب التمييز والتحديد بالرجوع إلى أصول تجهلها اللغات القائمة.
وليس هذا كل شيء، فهناك أيضاً إرادة مزج معنيين أو أكثر في لفظة واحدة على أن تكون هذه المعاني واضحة تذكرها جميعاً إذا ما ذكر الاصطلاح. ويبدو هذا واضحاً في الكيمياء العضوية وليكن على سبيل المثال المركب وهي (البيراميدون) المستعملة في علم الأقرباذين ضد الحمى؛ فأنت ترى أن هناك خمسة وظائف كيميائية يجب ذكرها جميعاً عند التعبير كيميائياً. وليسمح لي الكاتب الفاضل بشيء من الفضول لأسأله كيف السبيل إلى ترجمة مثل هذه العبارات الفنية إذا بقي لدينا شيء من الإخلاص للعلم. وهلا يضن أن مثل هذه العبارات ليست أعجمية بالنسبة للغات الأوربية. ولكننا لم نسمع أن مجمعاً من مجامع اللغة في أوروبا أو في غيرها شن الغارة عليها بدعوى أن هناك غزوة ألفاضه أعجمية ضد
اللغات الحية لأنه لم يقل أحد أن هذه المصطلحات لها شأن ما بلغة من اللغات.
وأخيراً فأنا لا أجهل أن لغة العلم لم تصل بعد إلى الوحدة المنشودة لها من العلماء فمازال كثير من المصطلحات يختلف باختلاف اللغات، ولكن أغلب المصطلحات التي من هذا النوع والمستعارة من اللغات الحية رأساً قديم قليل التوفيق يترجم إما عن حركة علمية موضعية وإما عن اختلاف في الرأي العلمي نفسه أو على الأقل عن وجهة نظر مختلفة؛ فهذا شلل الطفولة الفقري يدعى حياناً (تفروميليت) وأحياناً (بوليوميليت) وأحياناً أخرى (مرض هاين مدن) الخ. على أن هناك مجهوداً متصلاً في استبعاد هذه الألفاظ (الأعجمية) عن لغة العلم، ومن أجل هذا تنعقد المؤتمرات الدولية بين العلماء المختصين من البلاد المختلفة؛ وفي هذه المؤتمرات - وفيها وحدها لا في مجامع اللغة - يقترح اصطلاح جديد دولي يحل محل المصطلحات المتعددة بتعدد اللغات، ولا يخفى أن نجاح هذه المصطلحات الجديد متوقف على التقدم العلمي الذي يوحد بين الآراء؛ فهذا هو مؤتمر الكيمياء العضوية قد أقر مثلاً لفظة (جلوسيد) لتحل محل هدرات الكربون ومرادفاتها: المواد النشوية والمواد السكرية، وذلك بعد أن تبين أن جميع هذه المصطلحات التي كانت تختلف باختلاف اللغة قليلة التوفيق بل تعبر عن خطأ علمي، وبالمثل في (ليبيد) التي حلت محل الإنجليزية والفرنسية، ثم (بروتيد) التي حلت محل المواد الزلالية وزميلتها المواد البروتينية الخ. وهكذا فقد أصبحت لغة الكيمياء موحدة في جميع بلاد العالم. وقد تم مثل ذلك التوحيد في لغة العلم في كثير من فروع التاريخ الطبيعي. ثم هذه هي المؤتمرات الدولية يعقدها الفلاسفة وعلماء وظائف الأعضاء لهذا الغرض. ثم المعاجم الدولية في فروع الطب يشترك في تحريرها علماء من البلاد المختلفة للتقريب بين المصطلحات تمهيداً لتوحيدها.
والآن إذا كانت الحاجة ماسة، والرغبة تفي ترجمة الكتب العلمية الأجنبية إلى اللغة العربية ملحة، فلا بأس من ترجمة الألفاظ التي لا زالت تختلف باختلاف اللغات. ولنضرب مثلاً لذلك بالجهاز الذي يحول الشعاع الضوئي إلى تيار كهربائي والمسمى بالفرنسية - وبالإنجليزية - وبالألمانية فأنت ترى أن الكلمة التي تختلف هي ، ، فيمكننا أن نقول في مصر خلية فوتو ألكتريك؛ ولكن حتى ترجمة مثل هذه الكلمة ليس من شأن مجمع اللغة بل هذا من شأن المشتغلين بالعلم. ولست في ذلك متعنتاً لأن هذه الترجمة تتطلب
مجهوداً علمياً شاقاً إذ أن هذه الكلمات التي تختلف باختلاف اللغات تدل في كثير من الأحيان على اضطراب علمي وانقسام في الرأي بين المدارس المختلفة. وقد رأينا مجمع اللغة العربية يختصر طريقه في ذلك فاعتمد في ترجمته على الكلمات الإنجليزية - ومنها ما بطل استعماله - كما لو لم تكن هناك حركات علمية في غير إنجلترا
أما قول الكاتب الفاضل إنه يذهب (إلى أن من الواجب ألا تجيز وزارة المعارف كتاباً ليدرس في المدارس وعلى الأخص كتب العلم، من غير أن يجيزه المجمع من حيث اللغة ومن حيث المصطلحات فليس فيه قلب للأوضاع فحسب، بل هو مؤد إذا أخذ بمثل هذا الرأي الذي يفوح برجعية القرون الوسطى - وليعذرني الكاتب الفاضل فقد جاوز قوله هذا كل حد - إلى حالة من الركود والشلل، فسيقفل باب الاجتهاد في وجه العلماء الذين يعرفون مادتهم دون غيرهم أو على الأقل خيراً من غيرهم، وسيرى كل مؤلف نفسه مقيداً بأوضاع من التعبير جامدة هي ما شرع المجمع، عليه أن يصب مادته فيها إذا أراد أن ينال حظوة محكمة المجمع مهما كان في ذلك تشويه لفكره
وبعد هذا نعجب كيف يتقدم القوم في أوربا بخطى المارد في سبيل الثقافة والمدنية بينما نحن نتخبط، نتقدم خطوة ونرجع القهقرى خطوات! كلا يا سيدي، ما بهذا يمكن إحياء اللغة والعناية بصفائها، وليس يجيز لك حرصك على ألا تقتل الأعجمية المزعومة ما سميته بأدب العلم أن تلوح بهذه القيود الرجعية، بل أنا زعم أن جريمة القتل هي أن تشرع مثل هذه القيود، وجريمة القتل أن تستبعد لغة العلم من مصر ويستبدل بها ألفاظ لا خير فيها. لست أجهل أن الحرية المطلقة هي نوع من الفوضى ولكني موقن من جهة أخرى أن البقاء للصالح؛ فكل مؤلف وكل وضع من أوضاع التعبير الجديد يحمل في طياته الحكم عليه بالبقاء أو الزوال
فإذا كان الأديب الفاضل إسماعيل مظهر يرى أن المشتغلين بالعلم في مصر غير قادرين على الاجتهاد، لا يصلحون للتأليف، ومهما يكن من حقيقة حكمه هذا، فإن ذلك لا يخول لمجمع اللغة أن ينسى تلك الحقيقة الأولية التي أشرت إليها آنفاً والتي عبر عنها بعض الناس بأن العلم مجموعة من مصطلحات خاصة أشبه بالرموز تكون لغة مستقلة قائمة بذاتها إذا تفهمتها فقد تفهمت العلم. حسن أن يبدو من مجمع اللغة حرصه على تقدمك العلم
في مصر، ولكن الطريق التي يسلكها إلى ذلك هي التي أنكرها عليه، لأن إشفاقه من غزوة الأعجمية المزعومة للغة الضاد إشفاق وهمي، فلن يضيرها أن يكتب مؤلف (سيتوبلازما) بدلاً من حشوة التي وضعها المجمع فيتكلف الناس من المشتغلين بالعلم في مصر استضهار معجم من الألفاظ العربية إلى جانب المعجم الدولي الذي لا يمكن الاستغناء عنه إذا اردنا تتبع العلم في تطوره. وقد درجنا ودرجت من قبلنا ومن بعدنا عشرات الأجيال من الطلبة والأساتذة في المعاهد المصرية على استعمال مصطلحات (ستاتيكا) ودنيابيكا) و (كلور) و (مثيلين) و (بروتوبلازما) وغيرها من المصطلحات الدولية، فكنا نعالج استعمالها في غير شعور بما يسمى بالأعجمية، كما كنا نستعمل ألفاظاً مثل تشيكوسلوفاكيا واستكهلم ومترنيخ سواء بسواء، بل ما كنا نجد في كل هذا من الغرابة ما كنا نجد في تلك الألفاظ التي كانوا يضعونها في حافظاتنا مثل افرنقع وغضنفر واسحنفر وغيرها من الألفاظ التي كنا نستعيذ بالله من وحشيتها. قل ما شئت في قيمة الثقافة اللغوية لخريجي المعاهد المصرية فالعبرة بعد كل شيء في الحكم على صلاحية لفظ أو عبارة بحظها لدى ذوق الجمهور من الخاصة أو من العامة، فهذه مسرة وبرق يعرفهما كل الناس ولا يستعملهما أحد، فتقرأ في أكبر الصحف العربية تلغرافات كذا الخصوصية، وتليفون رقم كذا؛ أقول ذلك لأني لا أومن بأن اللغة غاية في ذاتها بل هي أداة، وهي باعتبارها كذلك لا يمكن أن يكون المرجع فيها إلى مجلس يشرع بل إلى ذوق جمهور يستسيغ أو يعرض
وفي النهاية إذا كان لابد لمجمع اللغة أن يساهم في النهضة العلمية في مصر فليكن ذلك عن طريق ما أنشئ له أو ما كان يجب أن ينشأ من أجله، وأقصد العناية باللغة من حيث هي، ففي كتب العلم شيء آخر غير المصطلحات. هناك العبارة اللغوية والأسلوب، ومهما كانت الأسباب فنهاك حقيقة يعرفها ويتألم لها كثير من المشتغلين بالعلم في مصر، وهي أن العبارة من اللغة الأجنبية التي لم يدرسوها إلا سنوات محدودة بالنسبة للغة العربية تواتيهم في سهولة توئسهم في لغتهم، فليكن سبيل المجمع إلى إصلاح هذا الحال: حال ضعف اللغة العربية عند أهلها. ليكن نشاطه في البحث عما يقوم لسان الكتاب والمؤلفين إذا تكلموا أو كتبوا عن طريق عملي يجعل من اللغة العربية لغة سهلة التناول في مستوى اللغات الحية الأخرى. أما المصطلحات العلمية، وأما لغة العلم فهذه شأنها إلى العلماء
باريس 13 مارس 1937
مصطفى زبور
في الأدب المقارن
الذاتي والموضوعي في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تتأثر النفس الإنسانية بكل ما تحس من مظاهر الحياة، فإذا ما عبر المرء عن تأثره ذاك نثراً أو نظماً في لفظ نقي، كان تعبيره ذاك أدباً، فالأدب نتاج عاملين: مؤثر هو مظاهر الحياة التي تحفز الأديب إلى الإنشاء، ويتخذها موضوعاً لإنشائه، ومتأثر هو ذات الأديب التي يترجم القول المنظوم أو المنثور عن خوالجها، وليس يخلو عمل أدبي من آثار هذين العاملين ممتزجين، فكل عمل أدبي هو ذاتي وهو موضوعي، غير أن الأعمال الأدبية تتفاوت حظاً من هذا ونصيباً من ذاك، فإذا استرسل الأديب في وصف ما هو بازائه من مظاهر الحياة وشرح أحوالها على علاتها، مكفكفاً من عنان عواطفه محكماً دونها الفكر، كان العمل الأدبي موضوعياً، وإن أرخى الأديب العنان لعواطفه ملماً بالموقف الذي هو حياله إلماماً خفيفاً، كان عمله الأدبي ذاتياً.
فمظاهر الحياة المختلفة هي مادة الأدب لأنها مادة الإحساس والتفكير، وبدونها لا يتصور تفكير ولا شعور، ولا تكون النفس إلا خواء تاماً ولا الفكر إلا فضاء مطلقاً؛ والنفس الإنسانية هي العامل الفعال الذي يعكس صور مظاهر الحياة تلك، ويمنحها من الصفات ما يروق المرء حيناً ويطربه ويحببه فيها، وما يسوؤه حيناً ويؤلمه ويبغضه في بعض تلك المظاهر، والأديب مهما توفر على موضوعه الذي هو بصدده، ومهما كان موضوعه ذاك بعيداً عن نفسه وعن محيطه وزمنه، ومهما حكم فيه الفكر السليم والرأي المنزه، لا يخلو من أن يكون معبراً في عمله الأدبي عن ذاته، مصدراً عن طبيعته، وهي طبيعة يتفق فيها مع الآخرين إلى مدى، ويختلف عنهم في بعض نواحيها.
بل لا يعدو الحق من يقول إن الأديب لا يزيد مدى حياته على أن يعرض نفسه على قرائه، مهما تباينت موضوعاته وتعددت أشكال أدبه، فسواء راح مادحاً أو ذاماً أو واصفاً أو قاصاً، أو ملاحظاً لأحوال الناس أو متأملاً في ماضيهم ومستقبلهم، فهو لا يعدو محيط نفسه وتجاربه وعواطفه؛ بل إن بعض كبار الأدباء إنما بلغوا أوج نجاحهم الأدبي في العمل الأدبي الذي يصف كل منهم فيه قصة حياته، أو أهم تجربة من تجاربه، أو أزمة نفسية
عبرت به، كما قص لامرتين قصة حبه في (رفائيل)، وكما وصف كل من شاتوبريان وأناتول فرانس نشأته في آثاره الأدبية، وكما وصف تشارلز دكنز قصة طفولته في (دافيد كوبر فيلد)؛ وبلغ القصصيون ذروة نجاحهم في قصصهم التي كان أبطالها صوراً من أنفسهم أو من بعض حالاتهم النفسية، كما كان جيته فاوست، وكما كان أناتول فرانس بعض أشخاص كل رواياته
وأناتول فرانس نفسه يقول إننا لا نكتب إلا عن أنفسنا، ويزيد فيقول إننا لا نقرأ حين نقرأ إلا أنفسنا. ولا غرو فالمرء لا يدمن إلا قراءة الضرب الذي يعجبه من القول ويصادف هوى في فؤاده، ولا يصطفي من الكتاب إلا من يشاكله نفساً، وهو حتى حين يقرأ موضوعاته الأثيرة من آثار أدبائه المختارين يصبغ كل ما يقرأ بصبغة نفسه ويؤوله على حسب إدراكه وطبعه، ويستخلص منه ما قد لا يستخلصه غيره، وما لعل المنشئ نفسه لم يقصده، والناس إنما يقرأون الشاعر أو الكاتب وهو يتحدث عن نفسه لأنهم يرون في نفسه صورة من أنفسهم، وفي ذاته صدى من ذواتهم، فإذا ألفوه قد أغرب وباعد بين ما يصف وما يحسون نبذوه واستهجنوه، ولم يعنهم مما يصف من أحوال ذاته التي لا يحسونها في ذواتهم، أكثر مما يعنيهم من أحوال معيشته الخاصة ومطعمه وملبسه
والذاتي في أدب اللغة أسبق ظهوراً من الموضوعي: يبدأ الأدب في عهده الأول بتعبير الإنسان عن خواطره العاجلة وأحاسيسه السانحة وتجاريبه الحاضرة، يرسل ذلك على سجيته وبديهته قولاً سائراً أو أبياتاً شاردة، لم يعد لها العدة ولا تكلف فيها عناء طويلاً، ويرقى الأدب رقياً كبيراً وما تزال الصبغة الذاتية هي السائدة فيه، وتظل له هذه الصبغة مادام قريباً من البداوة غير آخذ أهله بشيء من الثقافة أو مقيدين لآدابهم بالكتابة؛ فإذا ما انتفع الأدب بالثقافة والتدوين ظهر فيه الضرب الموضوعي، إذ تتسع أفكار الأدباء ويمتد أفق نظراتهم ويقصدون التأمل في شؤون الحياة قصداً، غير منتظرين التجارب التي تسنح عرضاً، ويطلبون من مناحي الحياة ومذاهب التفكير الأبعد فالأبعد، فتزاحم الصفة الموضوعية الصفة الذاتية
فغزارة الضرب الموضوعي في الأدب من لوازم رقيه ووصوله إلى الطور الفني، بيد أن العنصر الذاتي لا يمحى ببلوغ الأدب هذا الطور، بل يبقى ويزداد رقياً وحرارة وعمقاً،
ويظل صدقه وعمقه وحرارته خير مقياس لصدق الأدب ورقيه، ويقترن ضعفه وتلاشيه بضعف الأدب وفتور العاطفة فيه وتغلب اللفظ على الشعور الصحيح؛ ففي عصور تدهور الأدب يسود الضرب الموضوعي، وتنفق موضوعات بذاتها يصطلح الأدباء على طرقها على أساليب مخصوصة لا يعدلون عنها، ويكفكفون عواطفهم الذاتية، فلا يكاد يتميز واحد منهم عن الآخر في السمات والميول؛ فالضرب الموضوعي يظهر متأخراً عن الضرب الذاتي في الآداب، ثم يبقى متخلفاً عنه عند اضمحلال الأدب، يبقى على حال من الضعف والتكلف والإبهام
ولما كان الضرب الذاتي من الأدب أسبق إلى الظهور في تاريخ الأدب، كان مقترناً بالشعر الذي هو أسبق إلى الظهور من النثر الفني فالأدب في عهوده لا يكاد يزد على أن يكون شعراً ذاتياً، فإذا دخل الأدب طوره المتحضر الفني ظهر فيه النثر وظهر الضرب الموضوعي في الشعر والنثر معاً، بيد أن الشعر يظل دائماً متعلقاً بالضرب الذاتي، بينما يستأثر النثر منذ نشأته بالجانب الأكبر من الأدب الموضوعي؛ فالشعر لما له من مزايا الموسيقى والخيال أقدر على التعبير عن الوجدانيات، والنثر لما له من مزايا الرحب والدقة والتحرر من قيود الوزن والقافية أقدر على تتبع الوصف لموضوع الإنشاء، والإسهاب في شرح دقيقه وجليله؛ فإذا جمع أديب بين الصناعتين رأيته يندفع اندفاعاً تلقائياً إلى النظم، إذا حفزته ثورة نفسية متدفقة، وينساق بداهة إلى النثر إذا أراد التأمل الهادئ والتوسع في الشرح والاستقصاء؛ على أن هذا ليس بمانع أن يحتوي النثر أحياناً على بدائع من آثار الضرب الذاتي، وأن يشتمل الشعر على لطائف من آثار الضرب الموضوعي
ولما كان الشعر أشبه بالضرب الذاتي من الأدب، والنثر أقرب إلى الموضوعي، كان الشعراء بطبيعتهم أدباء ذاتيين أو أنانيين كما قد يلقبهم بعض المنكرين عليهم، وكان الكتاب أدباء موضوعيين، يتناولون من مجالات القول ما لا يمس أنفسهم وشخصياتهم إلا قليلاً، بينما لا يكاد بعض الشعراء يخوض في غير شؤون نفسه، من طرب وشجن وغضب ورضى وحب وبغض، حتى تلوح دواوين بعضهم كأنها صخب مستمر مزعج، أو بكاء طفل مدلل وضحكه يتتابعان بلا انقطاع، والبكاء أظهرهما جلبة والسخط والنقمة والشكوى أبين أثراً، فإذا فرغ الشاعر من صخبه وثورانه جاء الكاتب من بعده هادئاً وقوراً، بصرف
في شعره نظر الحكيم الخبير، ويحكم على شعره وخلقه وحياته وفهمه للدنيا حكم القاضي المتمكن، فلا يزال الشعراء يلوحون كأنهم فريق من المتهورين الأغرار، ولا يزال النقاد يظهرون في مسرح الراشدين الأكبر منهم سناً وخبرة بالأمور.
ولا يقتصر التفريق على الشعر والنثر في هذا الصدد، بل هناك أشكال من الأدب هي أصلح للذاتي وأخرى هي أوفق للموضوعي: فالقصة والترجمة والتاريخ والملحمة كلها ضروب موضوعية يتحدث فيها المنشئ عن غيره من رجال الحقيقة أو الخيال، ومن أبناء الحاضر أو الماضي، ويدرس حوادث لم يساهم فيها ولم يختص بها، وإن تكن لذاته في كل ذلك آثار تقل أو تكثر، والرسائل الإخوانية والمذكرات، والتراجم الشخصية والاعترافات وما جرى مجراها، كلها أشكال من الأدب ذاتية يخصصها الأديب لتحليل ذاته وعرض صور من حياته، وإن خالط ذلك شتى النظرات الموضوعية، أما المقالة فيتراوح حظها من كل من الضربين.
وكما تفترق أشكال الأدب وتتميز في هذا الصدد، كذلك تفترق وتتميز موضوعاته: فالوصف والمدح والهجاء والحكمة أقرب إلى الضرب الموضوعي من الفخر والحماسة والنسيب والشكوى، أما الرثاء فيجمع إلى وصف خلال المرثي وهو أمر موضوعي، وصف مشاعر الراثي وهي أشياء ذاتية؛ على أن مواضوعات الأدب هذه قلما ترد في أثر الأديب خالصة مستقلاً ذاتيها عن موضوعيها، بل يتمازج الضربان كما أن الأشكال الأدبية كثيراً ما تختلط، فيتصل بالأثر الأدبي الواحد الترجمة بالقصص مثلاً، ويمتزج الوصف بالنسيب، وتبدأ القصة أو القصيدة بوصف منظر وتنتهي بخواطر وجدانية، ومن ثم تمتزج الذاتية والموضوعية في أكثر الآثار الأدبية.
ومن التعسف تفضيل ضرب من الاثنين على الآخر: فللذاتي من آثار الأدب محاسنه، وللموضوعي مزاياه، كما أن الشعر لا يفضل النثر ولا الأخير يرجح الأول، بل لكل فضائله ومواقفه ودواعيه؛ فالعمل الأدبي الذي ترين عليه مسحة الذاتية يروع بحرارته وإخلاصه وصراحته، ويشوق بكشفه عن نفس صاحبه وتحديده لشخصيته، كما تحد خطوط المصور شكل الصورة وجوانبها، ويروع بقدرة صاحبه على التأمل في نفسه وتوضيح خلجاتها، والضرب الموضوعي يسر إذ يعكس في صفحة الفن ما نشهد ونحس في عالم
المشاهدة والخبرة ويروع بقدرة الأديب المنشئ على الملاحظة والتقصي والتجرد من أهواء نفسه والتوفر على ما هو بصدده، لكل من الضربين مكانته وروعته ما اتفقت له صفتان: الصدق والعمق.
وكل من الأدبين العربي والإنجليزي حافل بآثار الذاتية والموضوعية في مختلف نواحيه) ترين هذه أو تلك على بعض آثاره أو تغلب على أدبائه، أو تظهر في بعض عصوره، أو تتجلى في أشكال منه وموضوعات دون أخرى، بيد أنه لاختلاف تاريخي الأمتين واختلاف ظهورهما في عصر الحضارة والثقافة، يحتل الطور الذي كان الأدب فيه ذاتياً عهداً مهماً من عهود تاريخ الأدب العربي قبل أن يظهر الضرب الموضوعي ويشيع في الأدب، على حين لم يتخلف في الأدب الإنجليزي من ذلك العهد شيء ذو بال، وإنما يبدأ تاريخ الأدب الإنجليزي الحديث من عهد اليزابث، والضربان الذاتي والموضوعي فرسا رهان في حلبته، بل كاد الضرب الموضوعي أن يستأثر بالصدارة في ذلك العصر.
ففي عهد الجاهلية وحقبة من الإسلام كان الأدب العربي - إذا استثني القرآن الكريم والحديث الشريف - أغلبه ذاتي الصبغة، وكان للشعر فيه المكانة العليا، وكان الشعراء دائبين يبدأون القول ويعيدونه فيما خالج أنفسهم من خواطر، أو مس حياتهم من قريب من حوادث، فامتلأ قصيدهم بالحماسة والنسيب والمنافرة والمهاجاة والفخر والتمدح بكريم السجايا، فلما توطدت الحضارة وشاعت الثقافة اتسعت جوانب الشعر وتعددت مجالاته، وظهر بجانبه النثر الفني، وتناول كلاهما موضوعي الشؤون بجانب ذاتيها، فكان من الفنون التي جدت في الشعر أو توسعت فيه الوصف المسهب والمدح المطنب، وتناول النثر رسائل الأمراء، كما جال الجاحظ والبديع وغيرهما في نواحي الحياة ومذاهب التفكير وأحوال الماضي وخصائص الأحياء وأخبار الأمم ووجوه النقد الأدبي، فغزرت في الأدب العربي منظومه ومنثوره في هذا الطور آثار الذاتية والموضوعية. يتحدث المتنبي مثلاً عن عظمته وفتوته ومطامحه وأشجانه، فيجيء شعره ذاتياً صادقاً رائعاً، ويمدح سيف الدولة أو سواه ويصف مآثره ومواقعه فيميل إلى الموضوعية؛ والأرجح أن الموضوعية كانت أظهر في هذا العصر، لرواج ضربين من القول موضوعيين عج بهما الأدب: عج الشعر بمدح الأمراء، وعج النثر برسائل الدواوين.
ذانك هما الطوران الأولان من أطوار الأدب العربي من جهة الذاتية والموضوعية: الطور الأول هو عهد نشأة الأدب الذي كانت الذاتية فيه غالبة، والثاني طور نضج الأدب الذي فيه اجتمع الضربان؛ أما الطور الثالث هو عهد اضمحلال الأدب تدريجاً، وهو طور تغلب الضرب الموضوعي وتلاشى الضرب الذاتي تدريجاً: جمد الأدب على موضوعات خاصة اصطفاها الأدباء، في مقدمتها المدح والهجاء - وعدوها وحدها مجال الأدب وشغل الأديب، وطرقوها على أساليب خاصة يتنازعهم في ممارستها عاملان الحرص على تقليد الأقدمين، والرغبة في إظهار البراعة بالتلاعب بالألفاظ والمعاني، أما المشاعر الذاتية الصادقة، والخصائص النفسية المميزة، فاختفت من الأدب، وحتى في شرح عواطفه كان أديب ذلك الطور مقلداً، لا يشرح عواطفه إلا على نحو خاص قد جرى به العرف، وحض عليه النقاد، وبذلك جاءت الآثار الذاتية نفسها موضوعية عامة مبهمة
ومن أحسن أمثلة الضرب الذاتي الصريح في الطور الأول قول عنترة:
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل
…
مر مذاقته كطعم العلقم
وإذا شربت فإنني مستهلك
…
مالي، وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
…
وكما علمت شمائلي وتكرمي
ومن أمثلة أشعار الطور الثاني التي يمتزج فيها الذاتي والموضوعي قصيدة المتنبي التي يعاتب بها سيف الدولة) ومنها قوله:
مالي أكتم حباً قد برى جسدي
…
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
فوت العدو الذي يممته ظفر
…
في طيه أسف في طيه نعم
صحبت في الفلوات الوحش منفرداً
…
حتى تعجب مني القور والأكم
ومن أمثلة أدب الطور الثالث الذي طغت فيه الموضوعات المأثورة وطمست الشخصية الذاتية قول القائل:
وقفت بأطلال الأحبة سائلاً
…
ودمعي يسقي ثم عهداً ومعهداً
ومن عجب أني أروي ديارهم
…
وحظي منها حين أسألها الصدى
وكان للشعر المكانة الأولى في الأدب الإنجليزي في العصر الاليزابثي، وكان يتناول الضربين الذاتي والموضوعي من النظم، تختص بالأخير الروايات التمثيلية التي ازدهرت
إذ ذاك ازدهاراً عظيماً، وتختص بالأول القصائد المرسلة طويلها وقصيرها؛ وفي القرن الثامن عشر هبط فاضمحلت فيه النزعة الذاتية، وأصبح أكثره موضوعياً مبهماً، واحتل مكانه النثر وشمل شتى النواحي الذاتية والموضوعية، ففي الأولى كتب كاولي وأديسون وستميل كثيراً من مقالاتهم، وفي الثانية كتب جيبون وبوزويل ورتشاردسون وديفو وآخرون لا يحصون كتبهم في التاريخ والترجمة والقصص والمغامرات. فلما كانت النهضة الرومانسية عادت للشعر أفضليته، وحفل بشتى الآثار الذاتية والموضوعية، بين وصف الطبيعة وسرد الخرافات الشائقة، ووصف تأثر النفس بهذه وتلك، وتمجيد الجمال وشرح أطوار الحب، ولم يزل الشعر والنثر منذ ذلك العهد فرسي رهان، يطرقان شتى المناحي بين ذاتيها وموضوعيها
بيد أن الذاتية مازالت منذ عهد شكسبير إلى العصر الحاضر تطغى على الموضوعية رويداً، وتستأثر شيئاً فشيئاً بالتفات الأدباء وتفوز بأشكال أدبية جديدة. ففي عهد شكسبير كان الروائي يحرك روايته حول أشخاص تاريخيين أو خرافيين بعيدين عنه بعداً كبيراً وفي القرن الثامن عشر عهد النثر الذهبي كان الأدباء يكتبون القصص يضمنونها من طرف خفي صوراً من حياتهم وجوانب من أنفسهم، فيكتب سمولت الأفاق قصة كونت فاثوم المغامر، ويكتب جولد سمث ابن القسيس قصة قس ويكفيلد التي ليست إلا حكاية عهد نشأته في أسرته، ثم يكتب تشارلز دكنز في القرن التالي قصة صباه في كتابه دافيد كوبر فيلد؛ ثم تزداد الذاتية بروزاً ويرفع الأدباء حجاب التخفي وينبذون الأسماء المستعارة، فيكتبون قصص نشأتهم ومذكرات رجولتهم وينشرونه رسائلهم وتراجمهم الشخصية، والأدب الإنجليزي المعاصر حافل بآثار هذه الذاتية السافرة
وقد امتازت بالذاتية الواضحة، أو الأنانية الأدبية، كثير من الأدباء الإنجليز، كانوا لا يملون التأمل في نفوسهم والتحدث عن ذواتهم صراحة أو تحت غشاء شفاف: فملتون يعرض لكوارثه وعماه ومبادئه السياسية والدينية والاجتماعية في ملاحمه الثلاث، ووردزورث يؤلف المطولات الشعرية في تصوير صباه وخواطره من طفولته إلى كهولته، وبيرون ينظم القصيدة تلو القصيدة ويصور البطل تلو البطل، ولا يزيد أن يتحدث عن نفسه وميوله وآرائه، وشلي يسمي نفسه (ارييل) باسم إله إغريقي، ويكتب عن نفسه تحت ذلك العنوان
أشعاراً، وكل من هازلت ولام يصور تصويراً دقيقاً أميناً ما يحس عند خروجه للرياضة على الأقدام أو حين سماعه النواقيس تتجاوب مؤذنة بانتهاء العام أو نحو ذلك
ومن جهة أخرى نرى أدباء من أمثال جراي وكولردج ورسكن يستترون وراء حجاب من الوقار والتفكير الهادئ الشامل ويتحدثون مصورين أو قاصين أو ناقدين، عن غيرهم من رجال التاريخ والأساطير وأعلام الفن والأدب، فأكثر آثار هؤلاء موضوعية، وأكثر مؤلفات الأولين ذاتية؛ كما كان من الأدباء من أخذوا من كلا الضربين بنصيب وافر، ومن برزوا في مجالي الشعر والنثر، ومن أنهوا حياتهم الأدبية بإصدار تراجمهم الشخصية، ومن خلفوا في النقد آثاراً تباري آثارهم في النظم والإنشاء، أو تفوقها، مثل دريدن وماكولي وماثيو ارنولد
ويعد بعض المغالين تزايد هذه النزعة الذاتية في الأدب الإنجليزي علامة ضعف وانحلال، ولا شك أن غلبة أحد العنصرين الذاتي أو الموضوعي على الأدب من دلائل نقصه، وإنما يكون رقيه مقترناً برقي العنصرين فيه معاً. يدل ما فيه من آثار الذاتية على صدق الشعور وعمق التأمل وتميز الشخصيات. ويدل ما فيه من آثار الموضوعية على شمول النظرة واتساع أفق التفكير وتناول الأدب لمختلف نواحي الحياة؟
فخري أبو السعود
من مشاكلنا الحاضرة
سؤال. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت أسمع من أبي والأشياخ من أهلي أه كان في بلدنا - فيما كان فيها من أوقاف كثيرة - وقف على المشتغلين بالعلم والمنقطعين إليه، يفتحون لهم بريعه المدارس الواسعة، ويعدون لهم الغرف المفروشة، ويهيئون لهم فيها المكتبات القيمة، ويقيمون لهم الخدم ويقدمون إليهم كل ما يحتاجون إليه من طعام وشراب وحلية ومتاع، ويفرغون قلوبهم من كل هم إلا هم الدرس والبحث، فكان الناس يرغبون في العلم، ويقبلون عليه ويبرزون فيه. .
. . . ثم ذهب ذلك كله بذهاب أهله، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الأوقاف، وأكلوا أموالها، فتهدمت هذه المدارس، وأمست خرائب وأطلالاً، ثم سرقها الناس فحولوها بيوتاً، وطمسوا آثارها. . .
فأعرض الناس عن العلم وزهدوا فيه، فقلنا: لا بأس، إنها قد تتحول تلك الدارس إلى دور عجزة، وقد تصير أحياناً ملجأ كسالى، ومأوى عاطلين، وعندنا المدارس الجديدة، تسير على منهج مقرر، ونظام معروف، وطريق واضح، فما نحن إلا كمن أضاع درهماً ووجد ديناراً. وأقبلنا على هذه المدارس، إقبال العطاشى على المنهل الصافي. ومنينا أنفسنا بكل جليل وجميل ولكنا لم نلبث أن خرجنا منها. وواجهنا الحياة حتى علمنا بأنها لم تقم بما كان يرجى منها ويجب عليها. . . ووجدنا أننا لا نصلح في هذه الحياة إلا لشيء واحد، هو (الوظيفة)؛ أما العمل الحر، والمغامرة في الحياة فنحن أبعد ما يكون امرؤ عنه؛ ووجدنا سبيل الوظيفة مسدوداً وكراسيها مملوءة؛ وكيف لا تكون كذلك وكل الناس يسعى إليها ويريدها؟ هل يكون أبناء الشعب كلهم موظفين؟ فكنا واحداً من رجلين: إما الغني الموسر فعاش بمال أبيه. وأقام منه سوراً حوله. فلا يرى الحياة، ولا تصل إليه بآلامها ومصائبها. وأما الفقير فيتخبط في لجة اليم: يم الحياة تضربه بأمواجها، فلا ينجو من لطمة إلا إلى لطمة، ولا يخلص من شقاء إلا إلى شقاء
وقد يكون في هؤلاء الفقراء موهوبين، وقد يكون فيهم ذوو الملكات، وفيهم من إذا استراح من هم العيش واشتغل بالعلم برز فيه وبرع، ونفع أمته ووطنه وخلف للأجيال الآتية تراثاً
علمياً فخماً كالذي خلفه لنا الأجداد. . . فماذا يعمل هؤلاء؟ ومن أين لهم العقل الذي يدرسون به، والهمة التي يؤلفون بها، وعقولهم ضائعة في البحث عما يملأ معدهم الجائعة، ويستر أجسادهم العارية، وهممهم مصروفة إلى ضمان الكفاف، والحصول على ما يتبلغون به؟
لقد قال الشافعي رحمه الله منذ الزمن الأطول: لو كلفت شراء بصلة، ما تعلمت مسألة. . . فكيف يتعلم ويدرس ويؤلف من يكلف شراء الرغيف، وشراء ثمن الرغيف؟
إني أعرف كثيرين ممن يؤمل لهم أن يبرعوا في الأدب، ويتفوفوا في العلم. قدر الله عليهم الفقر والإفلاس، وعلق بأعناقهم أسراً عليهم إعالتها، والسعي في إعاشتها، فألقوا القلم والقرطاس، ورموا الدفتر والكتاب، وخرجوا يفتشون عن عمل. . . يطلبون وظيفة؛ غير ان الطريق إلى الوظيفة وعر ملتو طويل، لا يقدر على سلوكه، ولا يبلغ غايته، إلا من حمل معه تميمة من ورق (البنكنوت) يحرقها أمام أبواب الرؤساء لتخرج شياطينها فتفتح له الباب. أو صحب معه (الشفيع العريان) وأين من هذين الشاب النابغ المفلس الشريف؟ ثم إنه إذا بلغ الوظيفة وجدها لا تصلح له ولا يصلح لها، وضاقت به وضاق بها!
أعرف كثيرين من هؤلاء يظهرون فجأة كتاباً مجددين، وشعراء محسنين، وعلماء باحثين. فما هي إلا أن تنزل بهم الحاجة وتنيخ عليهم (هموم الخبز) حتى تقطعهم عما هم فيه، ثم تذوي ملكاتهم وتجفف قرائحهم وتتركهم يموتون على مهل، ويموت بموتهم النبوغ، وأرباب الأقلام وأصحاب الصحف يشهدون مصارعهم في صمت وإعراض، لا يهتمون بهم، ولا يظنون أن عليهم واجباً تلقاءهم، حتى إذا قضوا قاموا يطنطنون بذكرهم ويشيدون بمواهبهم، ويركبون على قبورهم ليقولوا للناس: انظروا إلينا. . .
هذه هي علة الشرق.
إني عهدتك بعد الموت تندبني
…
وفي حياتي ما زودتني زادي
ورحم الله القاضي عبد الوهاب المالكي، خرج من بغداد فخرج لوداعه عشرون ألفاً، يبكون وينتحبون فقال لهم: يا أهل بغداد، والله ما فارقتكم عن قلى ووالله لو وجدت عندكم عشاء ليلة ما فارقتكم، وهم يبكون وينتحبون ويصرخون: إنه يعز علينا فراقك، إننا نفديك بأرواحنا، يا شوقنا إليك! يا مصيبتنا بفقدك. . .!
هذه هي المسألة. . . أفليس هناك طريقة لإنقاذ الدماغ من المعدة؟ لإنصاف العلم من المال، لحماية النبوغ من الضياع؟
من يشتغل بالعلم والدرس والكتابة والتأليف إذا كان لفقراء لا يطيقونه، والأغنياء لا يحسونه أكان لزاماً على من يشتغل بذلك أن يموت من الجوع؟ ألا يستحق هذا المسكين بطريقة من الطرق، بقانون من القوانين، عشرين ديناراً، يأخذها موظف جاهل خامل بليد. لا يحسن شيئاً إلا النفاق والالتماسات والوساطات، ولا ينفع الأمة معشار ما ينفعها هذا الذي يذيب دماغه، ويحرق نفسه، ويعمي بصره، وينفق حياته في النظر في الكتب، والخط بالقلم؟
أما في ميزانية الدولة، أما في صندوق الجمعية، أما في مال الجريدة، ما تشترى به آثار هذا الكاتب، وأشعار هذا الشاعر، وبحوث هذا العالم، بالثمن الذي يعدل ما بذل فيها، ليعيش فيصنع غيرها
هذه هي المسألة!
هل يجب أن يموت النابغ لأنه نابغ، ويعيش الأغبياء والجاهلون؟ أم يجب عليه أن يميت نبوغه ليعيش، ويبيع عقله وذكاءه برغيف من الخبز؟
(بغداد)
علي الطنطاوي
الأقلام العربية في المهاجر الأمريكية
للأستاذ يوسف البعيني
لا يجهل أحد في مصر وسائر الأقطار العربية تلك النهضة الفكرية الأدبية التي يقوم بها فريق من خيرة كتابنا وراء البحار، فهنالك خطباء وشعراء وكتاب من الطراز الأول يعززون القومية العربية، ويغذون الجاليات بثقافتها وتاريخها وآدابها.
ولدي رسائل عدة من صفوة الكتاب هنالك يحمدون فيها (للرسالة) دعوتها، ويباهون بنهضتها، ويرونها بحق كتاب الشرق الجديد وديوان العرب المشترك.
ومن هؤلاء الكتاب المعجبين بالرسالة عبقري مجدد ملك آداب الفرنجة فاجتذبها إلى بيانه العربي في حين تخطف هذه الآداب عدداً كبيراً من الناشئة حتى في عقر دارنا.
وهذا العبقري هو الأستاذ يوسف البعيني الذي لا تخلو جريدة أو مجلة عربية في شمالي أميركا وجنوبها من بدائعه، وقد رأى أن يرسل إلي القطعة الآتية لتنشر في الرسالة فاتحة لما سيتبعها من رسائل لإخوان لنا وراء البحار من حقهم أن تخصص لهم صفحة في ديوان العرب المشترك.
والى القراء هذه القطعة الرائعة
ف. ف.
حب وغرام
في كتب الحب وقصص الغرام مقاطع مشربة بالعهود، وصفحات مبطنة بالوفاء. فعندما يصغي الشاعر الحساس إلى رنين ألفاظها وهمس معانيها تطفو عليه موجة مترعة باليأس والحنين. وكثيراً ما يشاهد في قرارتها أحلامه المبعثرة بين فجر الماضي ومسائه
ومن يتفهم مرامي تلك الصفحات الغرامية يعلم أن كاتبيها وضعوها لتكون رمزاً إلى العهود على مدى الليالي والأيام. . . وأروع ما في الحياة عندي هي العهود. . أجل العهود التي تعطينا صوراً جلية عن أسرار القلوب وخفايا الأرواح
فإن أكثر الحفارين عندما أرادوا أن يرسموا المثل الأعلى في الحب لم يجدوه إلا في العهود. . . وهكذا أدرك الشعراء أيضاً أن أجمل ما في الشعر صفحة غرامية تعبر عن
الوفاء. . . ومتاحف العالم اليوم طافحة بدمى الحفارين. كما أن قصص الشعراء زاخرة بأخبار الحب والغرام. وفي اعتقادي أن الشاعر في صفحاته، والحفار في دماه، إنما كانت بغيتهما تخليد العهود!!
ولكن هل في الحياة حب مغموس بالوفاء، وغرام منحوت من العهود؟ أم هما موجودان فحسب في أحلام الشعراء ودمى الحفارين؟ من يدري. . . وكل ما أعمله هو شاذ عن أفهام الناس وعن أذواقهم
أنا لا أريد أن أبحث عن صحة تلك الأحلام وعن خطأها، ولا أبتغي البحث عن جمال تلك الدمى وعن عللها؛ وإنما أريد أن أتحدث عما فيها من حب وغرام. وهما أقرب إلى العهود منهما إلى شيء آخر
فلقد قرأت في الكتاب الشعري الأنيق - تهاليل الفجر - الذي أخرجه الكاتب المجدد (بيير لويس) موضوعاً شيقاً عن رسائل الراقصة الروسية الساحرة - إيذادورا دونكان - التي كانت ترسلها إلى حبيبها التعس (إيفان بارشوف) عندما بلغها خبر مرضه وأنه يلهج باسمها فوق سرير آلامه. وإني لمورد في ما يلي هاتين الرسالتين المشبعتين بغرام الراقصة الجميلة وحبها المفعم بالوفاء
- 1 -
أيها الحبيب!
إن زهرة مخدعي التي أبقيت على أوراقها ذكراً يهولني مرآها الشاحب الحزين. . . والسراج الأحمر الذي كنت ألمح في نظراته بهجة وإغراء فيما مضى يروعني الآن منه نوره الواجم الضئيل. . . والبلبل الغريد الذي كان ينبّهني إلى اجتناء اللذات يشجوني نفوره المبهم، وصمته العميق!!
إن روحي تريد أن تستهدي إلى قرارها في ليل شوقها وحنينها فيصدها العذاب. . . عذاب فراقك الطويل الذي أورثني ملة خرساء كسكينة القبور
لقد علمت أنك تقاسي من أجلي آلاماً مبرحة. . . فهل عرفت أيها الحبيب أن في قلبي المعذب شجواً محنظلاً أمر من الموت؟
أحياناً. . . تهفو على مخيلتي أحلام ملولة مزعجة. . . أحلام سوداء مخيفة! فأحجب وجهي
بكلتا يدي وأغيب في غمرة موجعة متمنية بعدها المنية لأنه لا قدرة لي على استماع أناتك وشكاواك!
أضرع إلى الله أن يرحمني بشفائك. وثق أني سأبقى سجينة مخدعي بعيدة عن خلوات أحلامي متجردة من سروري وابتسامي، هاجرة شعاع القمر الشاهد على أويقات حبنا وغرامنا حتى تعود إلى ذراعي حبيبتك
(إذادورا)
- 2 -
يا معبودي الجميل!
الآن وقد أرخى الليل سدوله على البسيطة مغلقاً بأنامله الناعمة أجفان النيام، تمر بي أشباح خفية هامسة في مسامعي اسم ذلك الحبيب الذي أجرى في أودية قلبي جدولاً لا ينقطع خريره، وغرس في حديقة روحي زهرة معطرة لا تموت.
وعلى هذا النغم الشجي المؤثر الذي تلحنه الظلمة فيردده الدجى باكياً ملتاعاً، أسمع نعيباً منذراً بمأساة مرعبة فأمسي كورقة تهب عليها الرياح السافيات.
لقد مات بيننا الحبيب صباح اليوم! مات ضمن قفصه وهو ينظر إلى الأعالي كأنه يرى بين الغيوم خيالاً عجيباً. فبكيته طويلاً وقلت في نفسي هل مات حبنا المقدس بموت هذا الطائر الصغير!
إن نفسي تنفحها الآن نار متلظية، نار محرقة تضرمها أيد مجهولة؛ فمتى تتحول هذه النفس إلى رماد هامد لا يحس؟ إن النفس التي تحس لهي شقية، إذ تحيا هائمة وراء أحلامها الشاردة. ولن أشعر بالراحة إلا عندما تغمرني بقبلاتك الطائشة
(إيذادورا)
وأذكر أنن عندما قرأت هذه الرسائل - وكلها مطلية بالحب والغرام - استولت علي كآبة خرساء بلا معنى، وأية روح مهما بلغ فهمها لفلسفة الحب لا تشعر بسلطان خفي مجنح يستأثر بها ويحملها إلى أمكنة نائية لا تنطق فيها إلا العهود، ولا يتمايل في أجوائها غير الوفاء
إن هذه القبلة الطافية فوق ألفاظ العاشقة الوالهة، وهذا التوق الملح النابض بأسرار قلبها، وهذا الإيمان الثابت القاطن أعشاش صدرها. . . إن كل ذلك هل تحافظ عليه دون خداع في الحب؛ ولنفرض أن حبيبها حجبه الموت بعد حين فهل تبقى وفية له طول أيامها؟
لقد مات - إيفان بارشوف - بعد كتالة هذه الرسائل بثلاثة أسابيع. فلا أذكر إذا كانت الراقصة المغرمة قد تفجعت عليه تفجعها في رسائلها إليه. ولكني أعلم أنها نسيته سريعاً
فإنها لم تبكه بدمعة
ولم تنثر على ضريحه زهرة ولم تذكره بكلمة. . .
ولم تتلهف على أيامه الماضية
بل كانت، بل أن يجف قبره، تعانق حبيباً جديداً لتنسى في دعابه ومزاحه ذلك العاشق المسكين الذي أسكنه الدهر تلك الحفرة الضيقة الباردة ليقضي فيها زمناً مجهولاً غير عالم بما يجري في هذا الوجود
فالوفاء والعهود كلمتان نجدهما في كتب الشعراء وتماثيل الحفارين. أما في هذا العالم فلسنا نجد إلا حباً كاذباً وغراماً سريع الزوال يعقبه دائماً نسيان أبدي على أثر محو القبلة التي تتبادلها الشفاه!
وهناك حب سريع الزوال، فهو وإن مازجته الدموع وأفعمته التنهدات، تمحوه الحياة كما يمحو شعاع الشمس لهاث الطفل العالق على لوح من زجاج
في أواسط الجيل الماضي تحدث الناس عاماً كاملاً عن قصة غرامية جرت حوادثها بين الغادة الحسناء (المدموازيل إلسيت) وبين الشاعر الجميل - شارل هيكو. والذي عجب له الناس كثيراً هو هيام الحسناء بالشاعر الصغير وتفضيلها إياه على كبار رجال باريس الذين غمروها بالذهب والحلي وأحاطوها بكل أسباب الترف والأبهة والكبرياء
وقد أبقى العاشقان رواية يطرب استماعها، ويشوق موضوعها. فإن الحسناء كانت كلفة كثيراً بالشاعر إلى درجة أنها لم تكن تقوى فيها على فراقه ساعة واحدة وفي ذات يوم كحم على العاشق الفتى أن يبرح باريس شهراً على الأقل فلما عاد إلى ذراعيها صدته عنها بحجة أن قبعته المعجب بها ليست ظريفة. وإن الأشعار التي ينشدها إياها مختلسة من دفتر صغير أسود الغلاف يقبع دائماً تحت وسادة والده الشاعر الكبير فيكتور هيكو
وهذه الحجة الساخرة بما فيها من ضراوة المرأة المستهترة كثيراً ما تتمثل في الحياة. ولا أشك في أن القراء يجهلون تلك القصة الدامية التي تركها الشاعر الإلهي الساحر - دي موسيه - مع جورج ساند وكيف عبثت بقلبه الرقيق لتتعلق بطبيب إيطالي لأنه لا يهمهم في الظلمة. . . ولا يحب الخمرة. . . مثل موسيه!
لقد يطول بي الحديث إذا أنا مررت بكل ما هنالك من شؤون وعبر. ولكنني مكتف الآن بإيراد لمحة وجيزة عن غرام الشاعر المشهور - شارل بودلير - مع حبيبته المعبودة - جان ديفال - التي ألهمته أشجى أشعار الحب والجمال في كتابه الخالد (أزاهير الشر) وهذه الحبيبة التي عشقها طول حياته كانت سوداء!!
وأعتقد أن الشعراء الساخرين ليضحكون من هيام الشاعر اللطيف بامرأة سوداء. نعم قد يضحكون. . ولكنه الغرام. . . الغرام القاهر الذي يستحوذ على القلب الضعيف فيقيده بالسلاسل ويغله بالأصفاد
وعلى الرغم من شغف الشاعر، ولهفة روحه، وثابت وفائه، فقد خدعته حبيبته الماكرة بعد أن نحت لها من غرامه تمثالاً ومن حبه محراباً للعبادة. ولكن هذا الخداع في الغرام. وهذه الخيانة في الحب أغنيا الأدب الفرنسي لأنهما أفاضا دموع الشاعر وأوقدا نار وجده وحنينه!
أنا لا أريد أن أشجب الحب، وأن أهجو الغرام. كلا ما إلى هذا أذهب. . بل أريد إثبات أنهما موجودان وحسب في كتب الشعراء وتماثيل الحفارين. والشاعر والحفار لا يصوران غالباً إلا كل ما سما في فضاء الأحلام وما تمدد على سرير الشعور والإحساس
الرجل الذي يعتقد خلود الغرام ووفاء الحب هو رجل مسكين يستحق الشفقة. . . إذ لا قبلة يبقى طعمها على الشفاه، ولا وعود تظل محفوظة، ولا ذكرى تحيا في القلوب
وجل ما هنالك حب كاذب وغرام خادع شبيهان بالخطوط التي ترسمها الأمواج على رمال الشاطئ فإذا لم تمحها العاصفة لا تلبث الأمواج أن تمحوها. فالحب الذي لا تبدده الحياة يبدد نفسه بنفسه، والغرام الذي لا يبعثره الموت يبعثر ذاته بذاته
هما حلم يراود الروح في المنام، ولكن اليقظة تشتته ولا تترك منه إلا أثراً دامياً يحنظل الأماني، ويشقي الآمال
(البرازيل)
يوسف البعيني
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
في الجزر السعيدة
ها إن التين يتساقط عن أشجاره عطر النكهة حلو المذاق وقشوره الحمراء تتشقق بسقوطها، وأنا هو ريح الشمال يهب على هذه الأثمار الناضجة. إن تعاليمي تتساقط إليكم أيها الصحاب كمثل هذه الأثمار فتذوقوها الآن عند ظهيرة من أيام الخريف وقد صفت فوقكم السماء.
سرحوا أبصاركم فيما حولكم من خيرات الأرض ثم مدوا بها إلى آفاق البحر البعيد فليس أجمل لمن فاض رزقه من أن يتطلع إلى الأبعاد
لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان الكامل
إن الله افتراض وأنا أريد ألا يذهب بكم الافتراض إلى أبعد مما تفترض إرادتكم المبدعة
أفتستطيعون أن تخلقوا إلهاً؟ إذن أقلعوا عن ذكر الآلهة جميعاً، فليس لكم إلا إيجاد الإنسان الكامل
ولعلكم لن تكونوا بنفسكم هذا الإنسان الكامل ولكن في وسعكم أن تصبحوا آباء وأجداداً له. فليكن هذا التحول خير ما تعملون
إن الله افتراض وأنا أريد ألا يتجاوز بكم الافتراض حدود التصور، فهل تستطيعون أن تتصوروا إلهاً؟ فاعرفوا من هذا أن واجبكم هو طلب الحقيقة فلا تطمحوا إلى ما يبلغه تصور الإنسان وبصره وحسه، فأمسكوا بتصوركم كيلا يتجاوز حدود حواسكم
يتحتم عليكم أن تبدأوا بخلق ما كنتم تسمونه عالماً من قبل فيتكون عالمكم من تفكيركم وتصوركم وإرادتكم ومحبتكم وعندئذ تبلغون السعادة يا من تطلبون المعرفة. وكيف تطيقون الحياة إذا لم يكن لكم هذا الرجاء؟
على من يطلب المعرفة ألا يتورط في ما يرده العقل من المعميات
لسوف أفتح لكم قلبي فلا تخفى عنكم خافية فيه، فأقول لكم: لو كان هنالك أرباب أكنت أتحمل ألا أكون رباً؟ إذن ليس في الكون أرباب
لقد استخرجت لذاتي هذه النتيجة، وها هي تستخرجني الآن
إن الله افتراض ولكن من له بتحمل كل ما يضمر هذا الافتراض من اضطراب دون أن يلاقي الفناء؟ أتريدون أن تأخذوا من الخالق إيمانه ومن النسر تحليقه في أجواز الفضاء؟
إن الله عبارة عن إيمان ينكسر به كل خط مستقيم ويميد عنده كل قائم، فالزمان لدى المؤمن وهم، وكل فان في عينيه بطل وخداع، فهل مثل هذه الأفكار إلا أعاصير تتطاير فيها عظام البشر وتورث الدوار لشاهدها؟ تلك افتراضات يدور المبتلى بها على نفسه كالرحى حتى يموت
أفليس من الشر والافتيات على الإنسانية كل هذه التعاليم تقيم الواحد المطلق الذي لا يناله تحول ولا تغيير؟
إن الرموز وحدها لا تتغير، وطالما كذب الشعراء، غير أن خير ما يضرب من الأمثال ما يصور الحاضر وآتي الزمان فتأتي حجة لكل زائل لا نقضاً له
ليس في غير الإبداع ما ينقذ من الأوجاع ويخفف أثقال الحياة، غير أن ولادة المبدع تستدعي تحولات كثيرة وتستلزم كثيراً من الآلام
أيها المبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرير الميتات لتصبحوا مدافعين عن جميع ما يزول
على المبدع إذا شاء أن يكون هو بنفسه طفل الولادة الجديدة أن يتذرع بعزم المرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها
لقد اخترقت لي طريقاً في ميتات النفوس والأسرة وأوجاع المخاض غير أنني كثيراً ما نكصت على أعقابي لأنني أعرف ما تقطع الساعات الأخيرة من نياط القلوب.
ولكن ذلك ما تطمح إرادتي المبدعة إليه، وبتعبير أشد صراحة ذلك هو المقصد الذي تريده إرادتي
إن جميع ما في من شعور يتألم مقيداً سجيناً وليس غير إرادتي من بشير يؤذن بالمسرة، ويأتي بالإفراج عن الشعور
إن الإرادة وحدها تتحرر، وما بغير هذه الآية من شرعة صحيحة للإرادة وللحرية، على
هذا تقوم تعاليم زارا
بعداً وسحقاً لكل وهن وملال يشل الإرادة ويوقف كل تقدير وإبداع
إن طالب المعرفة يشعر بلذة الإرادة والإيجاد وبلذة استحالة الذات إلى ما تحس به في أعماقها، فإذا انطوى ضميري على الصفاء فما ذلك إلا لاستقرار إرادة الإيجاد فيه. وهذه الإرادة هي ما أهاب بي للابتعاد عن الله وعن الآلهة، إذ لو كان هنالك آلهة لما بقي شيء يمكن خلقه
إن طموح إرادتي إلى الإيجاد يدفعني أبداً نحو الناس اندفاع المطرقة فوق الحجر
أيها الناس إنني ألمح في الحجر تمثالاً كامناً هو مثال الأمثلة أفيجدر أن يبقى ثاوياً في أشد الصخور صلابة وقبحاً
إن مطرقتي تهوي بضرباتها القاسية على هذا السجن فأرى حجره يتناثر
أريد أن أكمل هذا التمثال، إن طيفاً زارني وألطف الكائنات وأعمقها سكوتاً قد اقتربت مني
لقد تجلى بهاء الإنسان الكامل لعيني في هذا الخيال الطارق فما لي وللآلهة بعد:
هكذا تكلم زارا
الرحماء
لقد، بلغني، أيها الصاحب قول الناس:(أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بين قطيع من الحيوانات)
وكأن أولى بهم أن يقولوا: إن من يطلب المعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات
إن طالب المعرفة يرى الإنسان حيواناً له وجنتان حمراوان ولم يراه هكذا؟ أفليس لأنه كثيراً ما علته حمرة الخجل؟
هذا ما يقوله طالب المعرفة أيها الصحاب: - إن تاريخ الإنسان عار في عار
ولذلك يفرض الرجل النبيل على نفسه ألا يلحق إهانة بأحد لأنه يستحي جميع المتألمين
إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة في رحمتهم، فإذا ما قضي علي بأن أرحم تمنيت أن تجهل رحمتي وألا أبذلها إلا عن كثب. أحب أن أستر وجهي حين إشفاقي وأن أسارع إلى الهرب دون أن أعرف. فتمثلوا بي أيها الصحاب
ليت حظي يسوقني أبداً حيث ألتقي بأمثالكم رجال لا يتألمون وفي طاقتهم أن يشاركوني
آمالي وولائمي وملذاتي
لقد قمت بأعمال كثيرة في سبيل المتألمين ولكن كنت أرى أن الأفضل من هذا زيادة معرفتي في تمتعي بسروري. فإن الإنسان لم يسر إلا قليلاً منذ وجوده وما من خطيئة حقيقية إلا هذه الخطيئة
إذا نحن تعلمنا كيف نزيد في مسرتنا فإننا نفقد معرفتنا بالإساءة إلى سوانا وباختراع ما يسبب الآلام
ذلك ما يدعوني إلى غسل يدي إذا أنا مددتها لمتألم، بل وإلى تطهير روحي أيضاً، لأنني أخجل لخجله وتؤلمني مشاهدتي لآلامه ولأنني جرحت معزة نفسه بلا رحمة عندما مددت له يدي
إن عظيم الإحسان لا يولد الامتنان بل يدعو إلى إخماد الحقد، وإذا تغلب تافه الإحسان على النسيان فإنه يصبح دوداً ناهشاً
لا تقبلوا شيئاً دون احتراس، وحكموا تمييزكم عندما تأخذون ذلك ما أشير به على من ليس لهم ما يبذلونه للناس
أما أنا فممن يبذلون العطاء وأحب أن أعطي الأصدقاء كصديق؛ أما الأبعدون فليتقدموا من أنفسهم لاقتطاف الأثمار من دوحتي فليس في إقدامهم على الأخذ ما في قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم
غير أنه من اللازب أن يقطع دابر المتسولين لأن في الجود عليهم من الكدر ما يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم
وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر المضللة فإن تبكيت الضمير يحفز الإنسان إلى النهش وإيقاع الأذى
وشر من كل هذا الأفكار الحقيرة وخير للإنسان أن يسيء عملاً من أن تستولي المسكنة على تفكيره
إنكم تقولون (إن في التفكير الملتوي كثيراً من الاقتصاد في شر الأعمال) وما يستحسن الاقتصاد في مثل هذا
إن لشر العمل أكلاناً والتهاباً وطفحاً كالقروح، فهو حر وصريح لأنه يعلن نفسه داء كما
تعلن القروح، في حين أن الفكرة الدنيئة تختفي كالنواحي الفطر وتظل منتشرة حتى تودي بالجسم كله، ومع هذا فإنني أسر في أذن من تملكه الوسواس الخناس:(إن من الخير أن تدع الوسواس يتعاظم فيك لأن أمامك أنت أيضاً سبيلاً يوصلك إلى الاعتلاء)
مما يؤسف له أن يكون جهل بعض الشيء خيراً من إدراك كله؛ غير أن من الناس من يشف حتى تبدو بواطنه، ولكن ذلك لا يبرر طموحنا إلى استكناه مقاصده. ومن الصعب أن نعيش مع الناس مادمنا نستصعب السكوت
إن ظلمنا لا ينزل بمن تنفر منه أذواقنا بل يسقط على من لا يعنينا أمره.
وبالرغم من هذا، إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ لآلامه ولكن لا تبسط له فراشاً وثيراً بل فراشاً خشناً كالذي يتوسده المحاربون وإلا فما أنت مجديه نفعاً
وإذا أساء إليك صديق فقل له: إنني اغتفر لك جنايتك علي ولكن هل يسعني أن أغفر لك ما جنيته على نفسك بما فعلت؟
هكذا يتكلم عظيم الحب، لأنه يتعالى حتى عن المغفرة والإشفاق علينا أن نكبح جماح قلوبنا كيلا تجر عقولنا معها إلى الضلال.
أين تجلى الجنون في الأرض بأشد مما تجلى بين المشفقين؟ بل أي ضرر لحق بالناس أشد من الضرر الناشئ عن جنون الرحماء؟
ويل لكل محب ليس في محبته ربوة لا يبلغها إشفاقهم قال لي الشيطان يوماً: إن للرب جحيماً هو جحيم محبته للناس
وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخيراً: لقد مات الإله وما أماته غير رحمته
احترسوا من الرحمة لأنها لن تلبث حتى تعقد فوق الإنسان غماماً متلبداً: وما أنا بجاهل ما تنذر به الأيام
احفظوا هذه الكلمة أيضاً: - إن المحبة العظمى تتعامى عن رحمتها فإن لها هدفها الأسمى وهو خلق من تحب
- إنني أقف نفسي على حبي، وكذلك يفعل أمثالي: هذا ما يقوله كل مبدع، والمبدعون قساة القلوب.
هكذا تكلم زارا. . .
فليكس فارس
في طريق الوحدة
(محرم) بين السنة والشيعة. . .
للأستاذ حسين مروة
أما أن اليقظة الإسلامية قد غمرت دنيا المسلمين على رحبها - فهو مما لا ريب فيه، وأما أن المصلحين من مختلف الأقوام الإسلامية قد خطوا هذا العام المنصرم إلى الوحدة والتقريب بين القلوب خطوة واسعة مباركة - فهو مما لا يخامرنا فيه أدنى هاجس من الشك، ولسنا اليوم بصدد التدليل على هذا كله، ولسنا كذلك نحاول أن نذهب في تصوير الأمر مذهباً يغشى على الحقيقة فنجني الجناية الكبرى على هذا الأمل المشرق الذي نمشي على هداه إلى المثل الكريم الأعلى الذي ننشده
لقد عمل المصلحون في الآونة الأخيرة كثيراً، واستطاعوا أن ينشئوا خلقاً جديداً في المسلمين، خلقاً يقول، إن حوادث التاريخ إذا استحال أن يتغير مجراها فتنقلب عما وقعت عليه فليس من المستحيل أن نغير نحن مجرى أهوائنا المتدافعة، ونقلب هذه الأفكار السائدة علاقات أهل القران رأساً على عقب أو نستبدل بها خيراً منها، فإذا نحن أمة متكتلة تظلها راية الله العليا، تلك راية الإسلام الحنيف، ولكن هنالك خلفاً آخر في المسلمين لما يزل من خلق الأيام الغابرة السوداء، الأيام التي أخذ الناس فيها بالجانب البغيض من صفحتي التاريخ الإسلامي، وأعرضوا عن الجانب الحبيب الأغر اللامع، وهذا الخلق في المسلمين - وهو كثير وآ أسفاه - يجب على المصلحين أن يرحموه، أن يشفقوا على ذهنيته الضيقة الساذجة فلا يوقرونها بما لا تطيق احتماله وهي على هذا الضيق بفهم الأمور، وأن يأخذوا بيده إلى مشارق النور بهوادة ورفق حتى يلمس الحق هو بنفسه، وأن يتملقوا أحاسيسه المختولة المخمورة بأغنيات التعصب - وناهيك بالتعصب ضارباً على وتر الأحاسيس الواهنة - ولا يحسبن القارئ الكريم أنني أدعو إلى اتباع العامة ومجاراة أهواء الدهماء ونزعاتها الهوجاء، فأنا - شهد الله - من أشد الناس نقمة على جماعة العلماء الذين يتملقون السواد، ويهابون اندفاعات الجماهير، ويسترون - من أجل ذلك - الحق خشية من غضب هؤلاء عليهم، فيقطعون معايشهم ويحطمون عروش أمجادهم، ويؤثرون عرض الحياة الدنيا على أن ينطقوا بكلمة الصدق ويقيموا شعائر الحق. غير أني - على ذلك - أخشى هذا
الفريق من رجال السوء الذين يستغلون ذهنية الجماهير لأنفسهم ويسخرونها لأهوائهم، فإذا ما تناسى المصلحون شأن الدهماء، وإذا ما أغمضوا أعينهم عما في نفوسها من حقير العواطف وفي عقولها من ساذج الإدراك، فقد يقوم هذا النفر المستغل يدعو بالويل والثبور، ويرفع عقيرته البغيضة نافخاً في الجماهير روح الفرقة، عاملاً على صدع الصف، ضارباً بآمال المصلحين عرض الأفق فتصبح الآمال الحية أشلاء أباديد، فيجب على القائمين اليوم بأمر الإصلاح - والحال هذه - أن يقيموا الأوزان للجواهر قبل الاعراض، وأن يحفلوا باللباب دون القشور، وأما الأعراض وأما القشور فليس من ضير علينا أن ندع للذين يحفلون بهما أمر ما يحفلون به حتى يتبين لهم أن العرض عرض فينبذونه، وأن القشر قشر فيطرحونه؛ وليس من ضير علينا أن نستكفف شر ذلك النفر العائش على تمليق العامة بأن نحسم بعض القضايا التي يتخذها القوم هؤلاء مطية للغرض الأدنى، ووسيلة لإثارة النعرات المفرقة، وهيج العواطف الحانقة.
وفي طليعة هذه القضايا التي يطل رأسها اليوم - ورجالنا المصلحون يجهدون بجمع الشمل ورأب الصدع - قضية تقف بطائفتي المسلمين. السنة والشيعة على مفترق الطريق - والعياذ بالله - بعد أن كان يغمرنا موج من الفرح لهذه الظاهرات المباركة الطالعة علينا هنا وهناك ببشائر الوحدة الإسلامية المنشودة، ذلك أننا اليوم - حين نكتب هذه الكلمة - نعيش في شهر من الشهور التي تحمل إلينا من ذكريات الماضي البعيد صوراً ذات ألوان مختلفة. وأشكال متباينة في ظاهر الأمر، وإن هي كانت في الجوهر والروح، وفي نظر الذين يزنون الإسلام بميزانه الصحيح متسقة أحسن الاتساق، منسجمة أكمل الانسجام. إننا اليوم في شهر محرم الحرام، وشهر المحرم هذا ذو صفحتين من الذكرى كلتاهما ذات خطر عظيم، وكلتاهما ذات شأن كبير في نفوس المسلمين؛ ففي إحدى صفحتيه يحمل ذكرى هجرة المنقذ الأعظم، رسول الله، محمد بن عبد الله، عليه صلوات من ربه وبركات، ذكرى هجرته إلى يثرب حيث قامت سوق الإسلام وعمرت، وحيث استفاضت أنوار الشريعة الغراء لألآءة الرواء، ضافية البهاء، ثرة الأضواء؛ ويحمل في صفحته الأخرى ذكرى عاشوراء، ذكرى حادثة الطف الدامية حيث استشهد ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسين بن علي مجاهداً في سبيل الحق، وحيث نجم - لأول مرة - قرن الانقلابات
الخطيرة، والثورات الداخلية الجياشة.
هاتان صفحتان من الذكريات الإسلامية ذات الشأن يحملهما شهر المحرم، ويطلع بهما على المسلمين، فتستقبله طائفة من ناحيته الأولى فتجعل يوم مطلعه عيداً ميمون النقيبة، محمود الأثر، أغر الجبين، وتستقبله طائفة من ناحيته الثانية فتجعل يوم استهلاله مأتماً قاتم اللون، أغبر الوجه، دامي القلب؛ وتنظر - من بعد - كل طائفة إلى أختها النظر الشزر، وتتباعد وجهة النظر، وتتسع شقة البين، ويطل النفر المستغل برأسه وينفخ في بوقه؟ وهذا هو الشر المستطير الذي نريد أن نكفكف من عاديته في وجه الحركة الإصلاحية القائمة اليوم، وهذا هو الأمر الجلل الذي نحاول أن يخفف المصلحون من سورته، وهأنذا أضع - في ختام هذه الكلمة - اقتراحاً على رجالنا العاملين في حقل الوحدة الإسلامية، أرجو أن يجدوا فيه حلاً حاسماً لهذه القضية التي يرى القارئ خطورتها. وأرجو إلى إخواننا علماء الأزهر المصلحين أن يقولوا كلمتهم في (الرسالة) الكريمة حول هذا الباب ليرى العالم الإسلامي رأيهم المحترم المرموق بالتقدير:
يجمع المؤرخون - يا سادتي - على أن مقدم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة كان في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، أي بعد أول المحرم بشهرين واثني عشر يوماً، كما جاء في تاريخ الطبري ج2 ص253 باب (ذكر الوقت الذي عمل فيه التاريخ)، وفي مروج الذهب للمسعودي ج1 ص401، وفي غيرهما من مصادر التاريخ الإسلامي الموثوق بروايتها؛ وتدل الروايات في هذا الباب على أن أول من أمر بالتاريخ في الدولية الإسلامية هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وأنه هو اختار هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ للتاريخ الإسلامي، وقال يومئذ كلمته الصادقة الحكيمة حيث جمع الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله، وقال بعضهم: أرخ لمهاجر رسول الله، فقال:(لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل)، وتدل هذه الروايات نفسها كذلك أنه هو - عمر - اختار شهر المحرم مبدأ لشهور السنة الهجرية قائلاً أيضاً نبدأ بالمحرم (فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام) والحق فيما قال من هذه الناحية، غير أنني أقول الآن:
مادام قد وقع الاختيار على بدء السنة الهجرية بشهر المحرم لهذا الغرض الذي جاء في
كلام الخليفة الثاني الكريم، وجرت على ذلك السيرة في عصور الإسلام جمعاء، فلتبق هذه السيرة مستمرة ولا ضير، ولا نريد أن نبدع بدعاً في هذا، أما ذكرى الهجرة نفسها، الذكرى التي هي لا غير مبعث تقديس المسلمين لرأس السنة الهجرية، وهي التي يحتفلون بها، ويجعلون يومها عيداً كريماً مباركاً - أقول: أما هذه الذكرى نفسها، فليس من غضاضة في أن يكون الاحتفال بها، وأن يكون عيدها الميمون في يومها الذي وقعت فيه الهجرة النبوية الشريفة على التحقيق، في يومها التاريخي الصحيح حيث يكون عيداً للمسلمين كافة: يشتركون بأفراحه، ويتبادلون مظاهر السرور، ومجالي الاغتباط. وإذا ما جاء شهر المحرم - من بعد - اشتركوا جميعاً كذلك في مشاعر الألم، وهواجس الحزن للمأساة الإسلامية الرائعة التي تمثلت في طف كربلاء، وكرموا نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتأسي به إذ جاء في الأسانيد الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان يستشعر الحزن في هذا الشهر: شهر المحرم، فنكون بذلك قد وضعنا حجر الزاوية في بناء الوحدة الإسلامية المرجوة، ولا نكون قد فرطنا في شيء من ما جريات التاريخ، ولا نقضنا شعيرة من شعائر السلف أو حرمة من حرمات الإسلام.
فما قولكم يا سادتي؟؟
النجف
حسين مروة
الزهاوي في أوائل أيامه وأواخرها
للسيد صلاح الدين عبد اللطيف الناهي
كنت في السابعة أو الثامنة من عمري يوم كان يستلفت نظري شيخ هزيل نحيف، مرسل الشعر على الأكتاف، يمتطي صهوة حمار حساوي أبيض ويمشي في ركابه خادم لا يتغير، وكانت سيماء الشيخ ومطيته تدلان على أنه من أعيان بغداد فقد كان الحمار مطية لا تزري براكبها قبل أن تديل دولة (الميكانيك) من دولة الحيوان
ومرت فترة من الزمن فهجر الشيخ حماره واتخذ له (عربانة) تقطع به عرض الشارع العام (شارع الرشيد) وهو يطل منها على الناس أو يراقب الطير حائماً فوق مآذن بغداد الشامخة وقبابها الزرق، أو يحرك شفتيه بشعر
وسألت ذات يوم: من يكون هذا الشيخ وما له يهدل خصائل شعره شأن أحبار اليهود؟ فقيل لي إنه فيلسوف. فلم أفهم ما يريدون ولكن كتمتها في نفسي كمن اقتنع بالجواب
ثم قل اهتمامي به لكثرة ما اعتدت رؤيته بعد ذلك، ولم أكن أقدر أن اعتنائي به سيزداد يوماً من الأيام. ولكن العمر تقدم بي قليلاً فعرفت قدر الشيخ الفيلسوف ورضت نفسي على قراءة ما وقع في يدي من آثاره فبدا لي من أمره ما كنت أجهل
وكان الناس يومئذ فريقان فريق يدعو له ويكبر شأنه، وفريق ينكر أمره ويتبرم به ويرميه بالزندقة والإلحاد. وكان هو محور هذا التطاحن العنيف بين هذين الفريقين. وأنك لتلمس في شعره هذا التطاحن إذا قرأته وتلمس تبرمه بجمود الجمهور وجهالة الجمهور، ولكنه لم ييأس ولم يتمثل بقول القائل:
غزلت لهم غزلاً رفيعاً فلم أجد
…
لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
بل التزم دائماً سبيل الجهر بآرائه والدعوة لها وأنك لتعجب من بسالة هذا الشيخ المتهدم يوم كان يدعو إلى التحرر والى التجدد ويجاهر برأيه في المرأة:
يرفع الشعب فريقا
…
ن إناث وذكور
وهل الطائر إلا
…
بجناحيه يطير
ليس يأتي شعب جلائل ما لم
…
تتقدم إناثه والذكور
مزقي يا ابنة العراق الحجابا
…
واسفري فالحياة تبغي انقلابا
ويجاهر برأيه في الدين:
تحيرت لا أدري أمام الحقائق
…
أأني خلقت الله أم هو خالقي
فتضج الناس بالشكوى وتتبرم ويضيق به الأمر فيلزم داره أو يهجر بلده ويودع ليلاه لائذاً بمصر من غضب الناس نادباً لياليه في بغداد ولكنه لم يلبث أن يجهر برأيه هنا وينشد القوم:
وسائلتي هل بعد أن يعبث البلى
…
بأجسادنا نحيا طويلاً ونرزق
وهيهات لا ترجى حياة لميت
…
إليه البلى في قبره يتطرق
تقولين يفنى الجسم والروح خالد
…
فهل بخلود الروح عندك موثق
فتتنزى الشيوخ من الغيظ ويثور الجمهور فإذا بالناس فريقان فريق له وفريق عليه حتى يضيق به الأمر فيعود إلى بلده وقد سكن روع الناس وعز عليهم أن يلجئوا الشيخ إلى الفرار فيناله المكروه في سبيل ذلك وهو الشاعر الذي ينطق بآمالهم وآلامهم ويحفزهم إلى المجد، غير مبال بعوده الذابل وجسمه الذاوي، حتى ألف الناس منه هذه البسالة والجرأة والتف حوله الشباب وهو يدفع بهم إلى الثورة ويلوح لهم بكل جديد في الرأي وطريف في الفكر تلويحاً يدفع به أحياناً إلى تحميل الشعر والأدب ما لا طاقة لهما به فيزج العلم في ساحة الشعر فيمهد بذلك السبيل لخصومه ومنكري شاعريته فيحتجون عليه بمثل قوله:
ليست الشمس من الشر
…
ق إلى الغرب تدور
إنما الأرض من الغر
…
ب إلى الشرق تسير
وما كان بالعلم من حاجة إلا من ينظمه لنا شعراً إلا حاجة في نفس الشيخ قضاها
ولقد كنا نقرا له القصيدة فنلمس وجدان الشاعر الموهوب في ألفاظ الشاعر المطبوع وأفكار الشاعر الفيلسوف فنطرب لها، ثم نقرأ له القصيدة وقد أقحم فيها العلم إقحاماً فنقف ننافح الخصوم عما فيها من نظريات وآراء تلهيهم بذلك عن زلة الشاعر ونخرج بهم من نقد هذه الزلة إلى تأييد الفكرة والبرهان وننعى عليهم جموداً في الرأي وضيقاً في الصدر ولولا تجاوزهم حدود النقد إلى التحامل لما تجاوزنا حدود الدفاع إلى المكر.
وإذا كان في اختيار الألفاظ الجزلة للمعاني السامية ما يدل على صفاء نفس الشاعر وطول باعه ودقة إحساسه وتمييزه وقع الألفاظ وموسيقاها فقد كان شاعرنا في اختيار الألفاظ
والنواسي فرسي رهان. وهو الذي يشير إلى ذلك بقوله:
إذا هلكت فخطوا
…
جنب النواسي قبري
إني أمت إليه
…
وإن تأخر عصري
على أنه يختلف بعد ذلك عن أبي نواس في ميله من الدعابة والعبث إلى الفلسفة والحكمة، فهو يغوص وراءها في كل لجة ويأتي بها بكراً لم تقع العين على مثلها، وهو بذلك يقتفي خطى المعري، وبذلك يقول:
إني تتلمذت في بيتي عليك وإن
…
أبلت عظامك أزمان وأزمان
وهو يقتفي أيضاً خطى الشاعر الخيمي لا في مجونه وإنما في حكمته وشكه ويقينه، وحسبك أنه عمد إلى رباعياته فترجمها إلى العربية نظماً
واشتقت مرة أن أحادث الشيخ الفيلسوف وأتعرف به قبل أن تختطفه المنون فلما اجتمعت به أبصرت أمامي هيكلاً من الأعصاب الثائرة يكسوها جلد مجعد، ورأيته يرجحن فوق ساقين هزيلتين ما تنفكان تضطربان من الشلل
وقد أحاول أن أسعي فتمنعني
…
رجل رمتها يد الأقدار بالشلل
فهو ينتفض بين الآونة والآونة فيتجهم وجهه ثم تنبسط أساريره ويتمتم قائلاً: أعصابي! ثم ينصرف إلى محدثه فيما كان فيه، وأذكر أنني ما كدت بدأه بالتحية حتى قال لي:
(يا بني تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)
ثم لم يلبث أن قرأ لنا قصيدته (إحساساتي) فاجتمعت حوله حلقة كبيرة من مريديه والمعجبين به وقفى ذلك بنكات بارعة وروى لنا أنه قرأ بين يدي جلالة الملك الراحل (ثورته في الجحيم) ومازال بين نكتة وارتجاجة حتى انتصف النهار فودعنا وامتطى (عربانته) إلى داره. ومرت أيام فنعي إلينا الشيخ ووقع ما كنا نخشاه.
مات الشيخ ولكن السبيل الذي كان يدعو إليه هانت صعابه وتطامنت وهاده
وبالرغم مما كانوا يتهمونه به من مروق في الدين فقد قال:
عبدتك لا أدري ولا أحد درى
…
أسرك أم صدر الطبيعة أوسع
عبدت اسمك المحمود في الليل والضحى
…
إذا الشمس تستخفي إذا الشمس تطلع
فأيقنت أن الكون بالله قائم
…
وأنك نور والحقيقة برقع
وقال:
أنا هذا فلا أبالي إذا ما
…
أجمعت ثلة على تكفيري
أهل عصري لا يفقهون حديثي
…
حبذا لو أتيت بعد عصور
وشيخنا في تقلبه بين الشك واليقين إنما ينحو منحى بعض الفلاسفة الذين مروا في تفكيرهم بأزمات فأنكروا وآمنوا وهو في كل مرحلة إنما سجل ما جاش بنفسه فجاء شعره صدى أطواره في هذه الأزمات.
والمرء يخلق طوراً بعد أطوار
وبعد فإن الصدق في الرواية يحتم علي أن أقول إن ما أثبته هنا من أبيات لم أرجع فيها إلى دواوين الشيخ فقد خلفتها في بغداد، وإنما هي مما علق بالذاكرة، وما أكثر ما تخونني الذاكرة، فأضع كلمة مكان كلمة متى استقام لها المعنى ولو كنت في زمن الرواية والحديث لما أبحت لنفسي أن أوري حديثاً فلتغفر لي روح الفقيد ما أكون قد وقعت فيه وتغمد الله روحه برحمته
صلاح الدين عبد اللطيف الناهي
6 - دعابة الجاحظ
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
. . . وإني لأعجب للجاحظ كيف اتسع وقته واتسع قلبه لكل هذا الضحك والإضحاك من الناس، فكأنه كان رقيباً يرقبهم في كل ناحية من نواحي نقصهم، ليعود من وراء ذلك بالنادرة الطيبة، ويفوز بالفكاهة الضاحكة، وينثني بالملحة البارعة، فهو يتسقط جهد طاقته - حيلة المتطفل، وحجة البخيل، ونحلة الأكول، وخفة الأبله، وسخافة الغبي، وغباوة الأحمق، ووقاحة الدعي، وتقعر المتعالم، وعنجهية الأعرابي، وملحة الأديب، وظرف النديم، فإذا ما أجرى ذلك وأشباهه على لسانه، أو تناوله بقلمه، وأخرجه على طريقته، وطبعه بأسلوبه، وافرغ عليه من روحه وقلبه، فإنه لا شك يستولي على لبك، ويهيج نشاطك، ويدفعك إلى الضحك دفعاً، وينتقل بك إلى روضة أريضة بالبشر والطلاقة، والشواهد لذلك كثيرة في كتب الرجل وفيما تلقفه عنه الأدباء وأهل الرواية. حدث فيما حدث به عن بخل محمد بن أبي المؤمل وشدة حرصه وإقتاره فقال: واشترى - أي ابن أبي المؤمل - مرة شبوطة وهو ببغداد، وأخذها فائقة عظيمة وغالى بها وارتفع في ثمنها، وكان قد بعد عهده بأكل السمك وهو بصري لا يصبر عنه، فكان قد أكبر أمر هذه السمكة لكثرة ثمنها ولسمنها وعظمها، ولشدة شهوته لها، فحين ظن عند نفسه أنه قد خلا بها، وتفرد بأطايبها، وحسر عن ذراعيه، وصمد صمدها، هجمت عليه ومعي السدري، فلما رآه رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف، ورأى الحتم المقضي، ورأى قاصمة الظهر وأيقن بالشر، وعلم أنه قد ابتلى بالتنين، فلم يلبثه السدري حتى فور السرة بالمبال، فأقبل علي فقال لي يا أبا عثمان: السدري يعجبه السدر! فما فصلت الكلمة من فيه حتى قبض على القفا فاتنزع الجانبين جميعاً، فأقبل علي فقال: والسدري يعجبه الأقفاء، فما فرغ من كلامه إلا والسدري قد اجترف المتن كله! فقال يا أبا عثمان: والسدري يعجبه المتون ولم يظن أن السدري يعرف فضيلة ذنب الشبوط وعذوبة لحمه وظن أنه سيسلم له، وظن معرفة ذلك من الغامض، فلم ير إلا والسدري قد اكتسح ما على الوجهين جميعاً!! ولولا أن السدري أبطره وأثقله وأكمده وملأ صدره غيظاً لقد كان أدرك معه طرفاً لأنه كان من الأكلة، ولكن الغيظ كان من أعوان السدري عليه، فلما أكل السدري جيع أطايبها وبقي هو في النظارة، ولم يبق
في يده مما كان يؤمله في تلك السمكة إلا الغيظ الشديد والغرم الثقيل ظن أن في سائر السمكة ما يشبعه ويشفي من قرمه، فبذلك كان عزاؤه وذلك هو الذي كان يمسك بأرماقه وحشاشات نفسه؛ فلما رأى السدري يضرب القرى ويلتهم التهاماً قال: يا أبا عثمان السدري يعجبه كل شيء، فتولد الغيظ في جوفه، وأقلته الرعدة فخبثت نفسه، فمازال يقيء ويسلح ثم ركنه الحمى وصحت توبته وتم عزمه في ألا يؤاكل رغيباً أبداً ولا زهيدا، ولا يشتري سمكة أبداً رخيصة ولا غالية، وإن أهدوها إليه لا يقبلها، وإن وجدها مطروحة لا يمسها
فالجاحظ في هذه النادرة البارعة يحاول أن يدخل على نفسك من كل جهة، وأن يهز قلبك بالضحك في تهويله وإغراقه، فهو يبسط لك في العبارة، ويرادف الجمل على المعنى الواحد فإذا به يبهرك بصور معروضة لا بألفاظ مسرودة وخذ بالنظر إلى هذه النادرة التي بين أيدينا، فأنت في ضحك بالغ من إغراق الجاحظ في تصوير بخل ابن أبي المؤمل حتى أنه رأى السدري (رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف! ورأى الحتم المقضي! ورأى قاصمة الظهر! وأيقن بالشر! وعلم أنه قد ابتلي بالتنين!! وأنت أيضاً في ضحك بالغ من نهاية هذا الرجل تلك النهاية الأليمة: إذ (تولد الغيظ في جوفه، وأقلته الرعدة فخبثت نفسه فمازال يقيء ويسلح!! ثم ركبته الحمى!! وصحت نوبته وتم عزمه في أن لا يؤاكل رغيباً ولا زهيداً، ولا يشتري سمكة أبداً رخيصة ولا غالية، وإن أهدوها إليه لا يقبلها، وإن وجدها مطروحة لا يمسها!!)، ثم أنت في ضحك من صنيع السدري وهو يقور السرة، ويقبض على الفقا، ويجترف المتن، ويكتسح ما على الوجهين جميعاً، ثم وهو يفري القرى ويلتهم التهاماً!! ولقد كان السدري من الأكلة، وهو من الأشخاص الذين أولع الجاحظ بالتنادر عليهم، وأغرق في الضحك منهم، ومع ذلك فكان يجالسه ويحادثه ويجاذبه الرأي والفكاهة، فقال له يوماً: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت قحبة! فقال السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتتمتع باللباس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت! فقال السدري: فكيف عقل العجوز؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلاً!!
على أن السدري وهو على ما رأيت من الشره والجشع لم يكن في الأكلة بسباق الحلبة ولا هو بكبش الكتيبة في رأي الجاحظ وتقديره، وإنما كان يقدم في ذلك قاسماً التمار، وكان
قاسم هذا - كما يقول الجاحظ - شديد الأكل شديد الخبط قذر المؤاكلة، وكان أسخى الناس على طعام غيره وابخل الناس على طعام نفسه؛ وكان في مؤاكلته يعمل عمل رجل لم يسمع بالحشمة ولا بالتجمل قط. وكان يجلس على طعام ثمامة بن أشرس فكان لا يرضى بسوء أدبه حتى يجر معه ابنه إبراهيم، وكان بينه وبين ابنه في القذر بقدر ما بينه وبين جميع العالمين، فكانا إذا تقابلا على خوان ثمامة لم يكن لأحد على أيمانهما وشمائلهما حظ في الطيبات، وكان قاسم إلى جانب ذلك سخيفاً مغفلاً غبياً، وقد حفل الجاحظ بأخباره ونوادره فأورد بعضاً من حوادثه في الهجوم على خوان ثمامة وفتكه به في كتاب البخلاء، كما أورد طرفاً من سخافاته وحماقاته في البيان والتبيين وما أطيبه وهو يضحك من جهله إذ يقول في باب اللحن: وقال بشر المريسي: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها! فقال قاسم التمار: هذا على حد قوله:
إن سليمي والله يكلؤها
…
ضنت بشيء ما كان يرزؤها
قال الجاحظ: فصار احتجاج قاسم أطيب وأضحك من لحن بشر!!، ولولا التحرج لأوردنا شيئاً من نوادر الرجل ومضاحيكه التي أحصاها الجاحظ عنه، فإن فيها ما يعف القلم عن ذكره، ولا يصح أن ينشر مطويه في مجلة سائرة! على أنها طيبة تفيض بالضحك وتحمل عليه!!
والجاحظ ولوع ببعض الأشخاص يتعقب أخبارهم في الضحك والعبث، ويذكرهم بأوصافهم في كل مناسبة داعية، فكما أنه يتندر على الكندي وابن أبي المؤمل وسهل في البخلاء، والسدري وقاسم التمار في الأكلة، فهو يذكر كثيراً كيسان مستملي بي عبيدة في أهل البلادة، ولقمان الممرور في أصحاب الغباوة، وريسموس اليوناني في الموسوسين، وأبو حية النميري في المجانين، وريطة بنت كعب في الخرق، ومالك بن زيد مناة في النوكى، وابن فنان في المدخولين. وإنه ليطربك ويضحكك وهو يضحك من مستملي أبي عبيدة في غفلته وبلادته. قال الجاحظ: فكان يكتب غير ما يسمع، ويقول غير ما يكتب، ويستملي غير ما يقرأ، ويملي غير ما يستملى. أمليت عليه يوماً:
قلت لمعشر عدلوا
…
بمعتمر أبا عمرو!
فكتب أبا بشر، وقرأ أبا حفص، واستملى أبا زيد، وأملى أبا نصر! قلت وإذا كان في هذا
الوصف ما يحمل على الضحك، فليس ببالغ من ذلك ما يبلغه وصف الجاحظ أيضاً لغباوة أبي لقمان الممرور إذ يقول: وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ فقال: الجزء الذي لا يتجزأ علي ابن أبي طالب عليه السلام، فقال له أبو العيناء: أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره؟ قال: بلى! حمزة جزء لا يتجزأ! قال فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال أبو بكر يتجزأ! قال: فما تقول في عثمان؟ قال: يتجزأ مرتين، والزبير يتجزأ مرتين، (قال: فأي شيء تقول في معاوية؟ قال: لا يتجزأ!! قال الجاحظ: فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الأنام أجزاء لا تتجزأ إلى أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إلا أن يكون أبو لقمان كان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة!! وان الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ!!)
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر كما يقولون، فما أشبه أبا لقمان في غفلته وجهله بعبيد الكلابي وقد سأله الجاحظ: أيسرك أن تكون هجيناً ولك ألف دينار؟ فقال: لا أحب اللؤم بشيء! قال الجاحظ: فقلت له: إن أمير المؤمنين ابن أمة! فقال، أخزى الله من أطاعه، فقلت: نبي الله إسماعيل ابن أمة! فقال: لا يقول هذا إلا قدري! فقلت: وما القدري؟ فقال: لا أدري إلا أنه رجل سوء!!
وللجاحظ كثير من المضاحيك السائرة والنوادر الذائعة التي نقلها عنه الرواة؛ فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن إسحاق قال: قال لي إبراهيم بن محمود ونحن ببغداد: ألا تدخل على الجاحظ؟ فقلت ما لي وله! فقال: إنك إذا انصرفت إلى خراسان سألوك عنه فلو دخلت إليه وسمعت كلامه؟ فدخلت عليه فقدم لنا طبقاً من الرطب فتناولت منه ثلاث رطبات وأمسكت، ومر فيه إبراهيم فأشرت إليه أن يمسك! فرمقني الجاحظ فقال لي: دعه يا فتى فقد كان عندي بعض إخواني فقدمت إليه الرطب فامتنع فحلفت عليه فأبى إلا أن يبر قسمي بثلثمائة رطبة!!
وقال أبو العيناء: كان الجاحظ يأكل مع محمد بن عبد الملك الزيات فجاؤا بفالوذجة فتولع محمد بالجاحظ وأمر أن يجعل من جهته مارق من الجام، فأسرع في الأكل فننظف ما بين يديه!! فقال ابن الزيات: تقشعت سماؤك قبل سماء الناس يا أبا عثمان؟ فقال الجاحظ: لأن
غيمها كان رقيقاً!!
وادعى إلى الضحك من هذا ما حدث به الجاحظ فقال: كان يحضر إلي رجل فصيح من العجم فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها، فأجابني إلى ذلك! فجعلت أحفظه نسباً حتى حفظه وهذَّه هذَّاً، فقلت له: الآن لا تته علينا! فقال: سبحان الله إن فعلت ذلك فأنا إذاً دعي!!
وشبيه بهذا الأعجمي المتفاصح ذلك القاص المتعالم الذي أشار إليه الجاحظ فقال: وكان عندنا قاص أعمى ليس يحفظ من الدنيا إلا حديث جرجيس، فلما أخذ فيه بكى واحد من النظارة فقال القاص: أنتم بأي شيء تبكون؟! إنما البلاء علينا معاشر العلماء!!
فالجاحظ لا شك كان رجلاً ضُحَكة ضُحْكة، ومضاحيكه كما قلنا - تمتلك اللب، وتهتاج النشاط، وتدفع إلى الضحك دفعاً. . .
(له بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
ترجمة ف. ف.
زهرة مقصوفة
ترطبت أهدابي بدموع الفجر، ففتحت عيني لأوائل أشعة الشمس
مرت بي عند الصباح غادة استوفقها جمالي فحدجتني بنظرات الإعجاب فابتسمت لها
وأمرت الغادة يدها الناعمة على وريقاتي فارتعشت، وأسكرتني اللذة، لكنها لم تطل حتى شعرت بعدها بألم هائل اخترق أحشائي، فأحنيت الرأس ذليلة على غصني المقصوف
لم لم تقطفي تويجي، أيتها الغادة، لماذا قصفت غصني فتركتني بين الحياة والموت، وقد كان في إمكانك أن توسديني نهدك فأرقد عليه بسلام.
إن دمي يسيل ببطء من جرحي المفتوح، وصقيع الموت يلوح وريقاتي بالاصفرار. وقد انطبق تويجي منقبضاً على أوجاعه
أتوقف النسيم عن مداعبة الأغصان؟ إنني لم أعد أسمع لأجنحته عليها حفيفاً. وهل صمتت الأطيار؟ فقد انقطع عن مسمعي تغريدها.
أين شعاع الشمس؟ إنني لم أعد أراه. ويلاه! أخبرنني، أيتها الرفيقات، هل تلاشى النور وساد الظلام؟
لا، إن الليل لم ينشر أجنحته بعد، ولكنها أشباح الموت السوداء تنطبق علي، فسوف لا أرى لمعان النجوم في قبة الفضاء ولا أفتح وريقاتي لاقتبال ندى الفجر
ستتساقط بقاياي مبددة على التراب وترتفع روحي إلى الأعالي تاركة أريجي عالقاً بالأثير.
سوف ينتصب شبحي المتألم بوجهك، أيتها الغادة، سوف يثأر لي ضميرك منك فتتألمين لقسوتك علي وإهمالك للضحية البريئة.
غفر الله لك، ووقاك من يد تغشاك بالأمل لتتركك فريسة الإهمال. أبعد الله عنك آلام الزهرة المقصوفة! أيتها الفتاة!
بين حب جديد وسلوة عن قديم
للعالم الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين
فرغ القلب من عسى ولعلاَّ
…
فسلامٌ على غرامٍ توَلَّى
وخلا للهوى الجديد فؤادي
…
مرحباً بالهوى الجديد وأهلا
ليت شعري هل المُنَى فيه تدنو
…
فكفاني ما ذقتُ في الحبّ قبلا
بالقلب ما قَرَّ حتى تداعى
…
ولدمعٍ ما غاضَ حتى استَهَلا
فدعي يا حبيبةَ الأمس قلبي
…
لوَصُولٍ تجزي المودَّةَ مِثْلا
تعرف الصبّ كيف يقتله الح
…
ب فرقّت ولم تَزِدْ فيه قَتْلا
لم تُطِعْ فيه عاذِلاً وإذا ما
…
صدق الحب لم يُطع فيه عَذلا
وإذا ما بذلت غالٍيَ حُبٍ
…
بذلت من فؤادها الحبَّ أغلى
وإذا ما نما هواها بقلب
…
لم تُمتهُ بالصّدّ تيهاً ودَلا
لا كتلك التي إذا نَبَتَ الح
…
ب بقلب أذْوَتْه ضَنَّاً وبُخلا
تحب الصّدّ والجفاء يزيدا
…
ن فؤادي بها غراماً وشُغلا
ما دَرَتْ أنّ صَدَّها وَطَّنَ القل
…
بَ على طول بُعدِها فتَسَلى
فاطربا ذكر ذلك العهد عني
…
نَهِلَ القلبُ بالسّلُوِّ وعَلاَّ
إيه يا جَفنُ كم تساهِدُ نجمَ اللي
…
لِ حتى مَلِلْتَ والنجمُ ملاَّ
إيه يا ليلُ كم حَملتَ من الشكو
…
ى وبَثِّ الشجونِ ما شقَّ حملا
فأطلتَ المقامَ ترثي لحزني
…
وحشدتَ النجومَ حَوْليَ أهلا
كم تواسي المحزونَ بالدّمع حتى
…
تدع الزهر بالنِّدَى مُخْضَلا
فكلانا راثٍ لبَثِّ أخيه
…
وكلانا عن عهده ما تَخَلّى
إيه يا دمعُ كم تفيضُ لذكرى
…
لمحةٍ لن ترى لها الدهرَ ظلاّ
ذهبتْ كالحباب أو مثلما جفّف ح
…
ر الشعاعِ في الرَّوض طَلاّ
ومضت كالخيال في غفوة العُم
…
ر فَهلاِّ عَزيتَ قلبَك هَلا
إيه قلبي كم فرقةٍ ذقتَ حتى
…
كدت تسلو الهوى فراقاً ووَصلا
غير أن الهوى حياةٌ لقلب
…
غُرسَ الحب فيه مذ كان طِفلا
إنّ قلباً لم يُحيه الحب مَيْتٌ
…
لا ترى فيه للحياة محلاّ
وإذا الشعر لم يُفِضْه غرامٌ
…
يَصْهَر النفسَ بالجوى كان هزلا
فأعزِّي بصادق الحبِّ شعري
…
كم أهنت القريض في حب من لا. .
وأفيضي عليَّ صفواً من الح
…
بِّ أُفِضه صفواً من الشعرِ جَزلا
أحمد الزين
نحن والماضي
للأديب عبد اللطيف النشار
قضت أم أوفى، بلل الغيث قبرها
…
فعدِّ عن الدراج فالمتثلم
واخلى الفراعين الكرام مقامهم
…
لأشبه منهم بالحياة وأعظم
أمن نسل مينا أنت أم نسل جرهم
…
إلى أي فرعي دوجة المجد تنتمي؟
يقول حصيف الرأي من نسل آدم
…
له صبر مصري وإيمان مسلم
أفخراً بأن راضوا قوياً منعماً
…
ولا فخر في إحياء شلو محطم
عفاء على الدنيا إذا كان ما مضى
…
نهاية شعب تائق متوسم
مضى ما مضى، الإسلام ورحمة
…
سلام وفاء لا نفجع أيم
ولسنا من الماضين أدنى مكانة
…
ولا كان أوفى الفضل للمتقدم
ورثت زهيراً شعره ومكانه
…
وما مال نسل وارث بمحرم
فما وقف الماضون مجداً ليحبسوا
…
على غير أحفاد لهم كل مغنم
ولكن مجدنا ملكهم فهو مجدنا
…
ولم يبق منهم غير ذكرى وأعظم
ألا أيها الجاثي على قبر هالك
…
تعز فان الدمع أغلى من الدم
تعز يعش ما بين جنبيك قلبه
…
فما مات ذو نسل عزيز مكرم
ولا عاش من لا ينطوي في ضلوعه
…
سوى زفرات الآسف المتندم
ومن كان ماضيه نهاية جاهه
…
يعش في سديم من دجى الهم مظلم
بداية عمر المرء إشراق شمسه
…
وكم من شموس ليس يدركها العمي
فخرت برمسيس ورمسيس جثة
…
فخارك أن تحيا بعزم مصمم
يفاخر بالأحياء حي ويزدهي
…
بمن مات ذو قلب كسير مهضم
لعمري لقد جفت سنابل يوسف
…
وحامت على أبقاره أم قشعم
لقد أنقذ الأحرار من رق يوسف
…
بما أنشأوا في كل أرض وعيلم
وأسراب طير من حديد محدم
…
وغائصة في غائر القاع مظلم
وما الحرب إلا عزة واستطالة
…
فلا تنقضوا حكم القضاء المحتم
ولا تحسبوا في السلم غنماً لحالم
…
ألا ضل رأي الآمل المتوهم
يراد أخاء دائم وسلامة
…
ومن يرج معسولاً من العيش يحرم
بلادي عداك الذم لست بخيلة
…
فجودي فإلا تفعلي اليوم تندمي
أنترك للأحلاف أن يدفعوا العدا
…
إذا غزيت مصر بجيش عرمرم
معاذ العلا أن يحمي النيل في الوغى
…
سوى كل مصري على الموت مقدم
هو العهد عهد الحرب لا كلفاً بها
…
ولكن من لا يتق الظلم يظلم
رجال غد لا تطلبوا المال مطلباً
…
فما العيش عيش الوادع المتنعم
ولكنما يحيا الذي يرهق العدا
…
ومن عاش في أمن من الناس يسأم
ولا تحسبوا الماضي أعز مكانة
…
ألا تلك دعوى الخائب المتلوم
يمهد عذراً للهوان بذمه
…
بني عصره في كل قول مرجم
بني وطني كونوا قلوباً تكن لكم
…
مناعتها من كل عار ومأثم
فما تسلك الأوزار في الناس مسلكاً
…
إلى القلب لولا ثغرتا الجيب والفم
أحب الذي أعطيت نسيان موضعي
…
لدى كل نهب في الحياة مقسم
عبد اللطيف النشار
الفنون
الفن البابلي الآشوري
للدكتور أحمد موسى
إذا كنا قد عرفنا شيئاً عن الفن المصري من عمارة ونحت وتصوير وفهمنا كيف أن هذا الفن كان إلى حد ما أساساً للفن الإغريقي، وعلمنا أن الحضارات تقاس بالفن، أمكننا أن ننتقل اليوم إلى حضارة فنية أخرى هي حضارة بابل القديمة (3800 - 625 ق. م.) والجديدة (خالديا 625 - 538 ق. م.) وآشور (2250 - 606 ق. م) التي لم تبلغ في مجموعها مستوى عظمة الحضارة المصرية فنياً؛ فضلاً عن أنها لم تكن أساساً اتخذه الإغريق لحضارتهم الفنية، رغماً عن وجود بعض الشبه الضئيل بين النحت البابلي الآشوري وبين الإغريقي، من حيث عدم الاكتفاء بالخطر المحدد للمنحوتات النصف البارزة والمصورات (كما رأينا في الفن المصري)، وإخراجها شاملة بعض تفاصيل أعطت شيئاً من الحياة قربها من النحت الإغريقي.
ويحسن قبل التكلم عن الفن البابلي الآشوري وعن مميزاته أن نعرف شيئاً عن نشأة بابل وآشور اللتين كانتا مصدر حضارة غرب آسيا. ففي الجزيرة المحصورة بين نهري دجلة والفرات التي تعد من أخصب البقاع الصالحة للزراعة، نشأت بابيلونيا من الجنوب وآشور على نهر دجلة من الشمال
وإذا رجعنا إلى التاريخ الذي اعتمد واضعوه على الآثار والدراسات الفنية، فإننا نرى أن الحفريات التي أجريت في مناطق كثيرة من هذه البلاد، دلت على أن أول آثار الإنسان المتحضر نوعاً رجعت إلى حوالي عام 4000 ق. م.
على أنه لا يهمنا هنا أن نعرف إن كان أصل هؤلاء الناس من الآريين أو من الساميين، كما أنه لا يعنينا أن نبحث لتحديد نوعهم، ولكن المهم أن نعلم أن بابل نفسها انقسمت مملكتين شمالية وجنوبية، ثم اندمجتا معاً حوالي عام 2300 (2000؟ ق. م.) في عصر ايري أكو - وكانت مدينة بابل على نهر الفرات (على خط عرض يافا تقريباً) عاصمة لها
أما آشور فهي أقدم كثيراً من هذه، إذ قامت الحضارة فيها عام 2250 ق. م. على أساس
حضارة بابل. وكانت مدينة نينوى لعهد طويل عاصمة لها، وهي واقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة أمام مدينة الموصل الحالية، وفيها ظهر الفن الآشوري الرائع في المرحلة الزمنية المحصورة بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، واستمر التقدم في هذه الفترة حتى تأسيس مملكة آشور، وازدهار الفن في عصر ساراجون (722 - 705) وسانهريب (705 - 681) وأسور بانيبال (668 - 626 ق. م.) ولم يتدهور الفن إلا في عصر نابوبولاسر واتجه بعد ذلك اتجاهاً آخر عندما حكمها كيروس بن قمبيز سنة 539 ق. م. وضمها إلى مملكة الفرس
هذا سرد تاريخي بسيط اقتصرت فيه على ما لا استغناء عنه لمن يود الوقوف بشكل إجمالي على الحالة التي نشأ خلالها الفن البابلي الآشوري، الذي ينقسم إلى عمارة ونحت وتصوير كالفن المصري والإغريقي وغيرهما
ونظراً لقلة الأحجار في هذه البلاد، تجد أن العمارة لم تكن رائعة، فضلاً عن تهدمها جميعها لضعف اللبن الذي استخدم في معظم مبانيها إلى جانب الآجر
وبالدراسة الإجمالية لبقايا العمارة البابلية الآشورية، يمكننا أن نعرف أنها خلت من الأعمدة التي كانت من أهم مميزات الفن المصري والإغريقي، ولذلك تجد أن الحوائط كانت سميكة إلى حد بعيد، فضلاً عن إقامة أكتاف لها من البناء لتساعد على تقوية الحوائط المرتفعة.
إلا أن لبابل وآشور ميزة قد تعادل النقص الناشئ عن عدم إنشاء الأعمدة، وهي القباب التي بنيت على هيئة نصف كرة والقبوات التي أقيمت على شكل عقود نصف دائرية أو نصف بيضاوية، بجانب السقف المسطحة التي كانت فوق أعمدة ارتكزت على أكتاف الحوائط
ودفع التحضر أهل بابل وآشور إلى وجوب زخرفة مبانيهم، فتراهم أحرقوا الطوب وصقلوا سطحه بالحرارة حتى أصبح لامعاً كالصيني، فأعطى لهذه المباني شيئاً من الجمال والبهجة علاوة على الرسوم والتصاوير التي عملت عليها، والتي مكنتنا من تحديد درجة تحضرهم.
وإذا قارنا معابد بابل وآشور بالمعابد المصرية، نرى أنها أقل فناً منها، ذلك من حيث هندسة البناء، والإنشاء الكلي وجمال الطراز
أقيمت هذه المعابد عادة على مرتفع من الأرض، تعلوه مصطبة بلغ ارتفاعها أحياناً ثلاثة عشر متراً، أو مصاطب بعضها فوق بعض (كهر سقارة المدرج) انتهت بقبة مزخرفة علت الهيكل المقدس وتماثيل وصور الآلهة
هذا بجانب مبانيهم التذكارية كبرج بابل (2300؟) الذي ذكر هيرودوت أنه كان مكوناً من سبع مصاطب ، 1: 178 & 3: 158)، والبناء التذكاري المسمى معبد بورسيبا في الجنوب الغربي من بابل أنشأه نيبختنصر (605 - 562) وبيرس نمرود بالقرب من هيلا جنوب بابل.
كل هذا قد تهدم، وبعضه لا يعرف له أثر، كما تهدمت كل المباني العادية إلى حد يصعب معه التعرف على حالتها بدقة، ولكننا إذا نظرنا إلى نتائج أعمال الحفر وبقايا الخرائب نستطيع أن نصل إلى تكوين فكرة تكاد تكون صحيحة عن تصميمات المباني، فالقصور والبيوت كانت مربعة الشكل توسطها صحن يعلوه سقف مفتوح الوسط (كحوش قصر حفر رزباد) أو بدون سقف، تفرعت منه غرف السكن التي كانت سقوفها على هيئة قباب أو عقود نصف دائرية أو نصف بيضاوية كما سبق القول.
أما العصور على وجه الخصوص فكانت في بابل وآشور متشابهة تشابهاً قوياً، فهي مع بساطة تكوينها الإنشائي كانت كثيرة التحلية والتصاوير والمناظر التي كانت بألوان بلغت الستة أحياناً، وكانت الردهات والصالات كثيرة بلغ بعضها من 28 إلى 52 متراً على حين كان العرض من 10 إلى 20 متراً فقط.
وكانت النوافذ غريبة الوضع، فكانت عبارة عن فتحات تركت في أعلى الحوائط وأسفل السقف مباشرة.
من هذا نرى أن العمارة لم تكن عظيمة في بابل وآشور إلى حد يسمح لنا أن نقول لولا المنحوتات والتحليات والزخارف والرسومات النصف بارزة والمحفورة لما سجل تاريخ الفن شيئاً كثيراً لهذه البلاد.
ومجمل التعريف أن المشاهد لبقايا المنحوتات والزخارف والتصاوير الخ، يرى أنها مليئة بالحياة، كما يلاحظ قدرة الفنان وثبات يده في العمل. وقد وجدت رسومات نصف بارزة على لوحات من حجر الباستر المعروف شملت مناظر الآلهة والإنسان والحيوان كما شملت
كثيراً من طراز الملابس التي اعتني بإخراجها عناية شديدة
ولعلنا بمشاهدة بعض الصور هنا نلاحظ الدقة التي وجهت إلى إظهار تموجات الشعر والإكثار من الظل والنور.
ومما تجب ملاحظته أن هناك وجه شبه إلى حد ما، بين ما رأيناه من منحوتات المصريين ومصوراتهم وبين ما نراه الآن من مخلفات بابل وآشور، وذلك بإظهار الأجسام كاملة التكوين والتصوير بحسب ما يجب أن تظهر به أمام المصور في حالة من الجفاف والصمت، ولكنها تميزت باشتمال الأجسام على شيء من خطوط التحديد الذي أظهر تفاصيل العضلات، إلى جانب هذا كان النحت والتصوير الآشوري على وجه الخصوص متقدماً إلى حد يقربه من روح النحت والتصوير الإغريقي.
وما وقع فيه الفنان المصري من الخطأ في تصوير الحمامات؛ وقع فيه الفنان البابلي الآشوري أيضاً، فترى تصويره لها كان كما لو كانت كل قطعة منها قائمة بنفسها لا تتصل بمجاوراتها
ومن ضمن المميزات الفنية ظهور الأسد أحياناً برأس إنسان في معظم المصورات البارزة والمسطحة ظهوراً مستمراً، إلى جانب الأجنحة التي نحتوها أو صوروها عندما مثلوا آلهتهم
وفي المتحف البريطاني ومتحف اللوفر وغيرهما مجموعات كبيرة مما وجده الأثريون من بقايا النقوش والزخارف والتماثيل، وعدد هائل من اللوحات التي قيل إنها تكون مكتبة آسور بانيبال. والفضل في ذلك راجع إلى شخصيات بارزة أمثال أميل بوتا وهنري ليارد وهرمز رسام وجورج سميث وغيرهم، استغل كل منهم في منطقة معينة لا يتسع المجال لإيضاحها وإيضاح نتائجها
ولعلنا بالنظر إلى المصورات التي تشملها هذه المقالة، نأخذ فكرة عامة عن الفن البابلي الآشوري كما أنه يمكننا بالمقارنة أن نعرف إلى أي مدى وصل هذا الفن نسبياً إلى الفن المصري
أنظر إلى الصورة الأخيرة (ش 6) تر أروع ما يستطيع فنان إخراجه، فهي مليئة بالحياة وصدق المحاكاة، إلى جانب دقة التناسب وعظمة الإخراج
فعندما أصيبت اللبؤة بسهمين في نصفها الخلقي انهزمت بهذا النصف، ونلاحظ أن النصف الأمامي لا يزال حياً برغم اختراق السهم الثالث للقلب أو لما يجاوره. أنظر إلى بروز المخلبين الأماميين والى اختفاء نظيريهما من الخلف، ولاحظ ما ظهر على ملامح الوجه من علائم الألم التي تمثلت في التجاعيد الواضحة على الأنف. أما الفم فهو يمثل الاستغاثة بكل معانيها
فهذه إلى جانب غيرها من الأمثلة الصادقة لفن إن لم يكن في مقدمة الفنون القديمة، دليل على أنه من الفنون التي لا يمكن للراغب في فهم الجمال الفني الاستغناء عن معرفتها.
(أحمد موسى)
القصص
الوالد
للكاتب القصصي جي دو موباسان
جان دوفالنوا صاحب لي لا أفتأ أزوره الفينة بعد الفينة. وهو يقيم في قصر له على ضفة جدول في بعض الغياض، وقد لاذ بهذا الكن بعد أن قصف وترف في باريس خمسة عشر عاماً سوية. وقد عرته بغتة ملالة من كل ما في هذه المدينة من مناعم ومآدب ورجال ونساء وملاعب، وجاء يعتزل في هذه الدار التي فيها ولد وفيها نشأ.
ونمضي إليه اثنين أو ثلاثة من الصحب نقضي معه أسابيع معدودات، ولقد كان سروره بنا إذ يلقانا بعد نأي، بالغاً شديداً، وابتهاجه باسترجاع ما أفلت منه من حبور بعزلته إذ نتولى عنه جماً وفيراً.
ولقد وفدت عليه في الأسبوع الماضي فهش وبش. وكنا نقطع الساعات تارة جميعاً وتارة منفردين، والعادة أن يقرأ هو واشتغل أنا بالنهار، وحين تأخذ عين الشمس في الإغتماض نقبل على السمر إلى أنصاف الليل.
وكنا في يوم الثلاثاء الماضي، وكان يوماً حروراً متلظياً، قد جلسنا في جنح ليله نتأمل جريان الماء في الجدول تحت أقدامنا، وكنا نتساجل ما يتوارد علينا من أفكار شديدة الغموض عن النجوم الخائضة في الماء وكأنها بين أيدينا تمرح سبحاً. كنا نتناقل ما تتمخض به أذهاننا من خواطر كثر غموضها واشتد اختلاطها وأفحش إيجازها، ذلك أن عقولنا شديد قصورها، مستفحل ضعفها. بالغ عجزها. أما أنا فقد كنت مشفقاً على الشمس المتوارية في الحجب لدى الطفل، كنا نفكر في هذه الكائنات المبثوثة في هذه العوالم، ومختلف أشكالها العجيبة التي يتقاصر دونها وهم الإنسان، وخواصها التي لا تدرك كنهها الفطن، وأعضائها الخفية المحجوبة. والحيوان والنبات وكافة الأجناس وسائر الجواهر وشتى المواد، مما لا تكاد ترتفع إليه أذهان الإنسان.
وبينما نحن كذلك إذا بصوت على بعد يصيح:
- سيدي، سيدي:
فقال جان:
هلم يا يا تيست
فلما اهتدى إلينا الخادم قال:
- الغجرية يا سيدي
فجعل صاحبي يضحك كمن به مس، وما عهدته يضحك كذلك إلا نادراً، ثم قال:
إنا إذن في 19 يوليو؟
- نعم يا سيدي
- إذن قل لها تنتظر وأعد لها الطعام فإني عائد بعد عشر دقائق.
ولما انصرف الخادم أخذ صاحبي بذراعي وقال:
- فلنمش على مهل، إني قاص عليك قصة هذه المرأة.
منذ سبع سنين أي في السنة التي حللت بها هنا: خرجت في أصيل يوم أطوف في الغابة. وكان يوماً طلقاً صافياً كيومنا هذا وجعلت أسير متئداً تحت أفنان الدوح أتأمل نجوم السماء من خلل أوراقها، مستجلباً لرئتي بليل نسمات الليل وطيب زهر الغابة.
وكنت قريب عهد بهجري باريس. إذ تملكني سأم شديد وعافت نفسي كل ما رأت عيني وأخذت منه بنصيب من كل سخيف وزري وذميم مدة خمسة عشر عاماً.
وأمعنت في السير وتوغلت في مسالك هذه الغابة ومضيت في فج مها عميق يؤدي إلى قرية جروزي على مدى غلوة من هنا، وإذا بكلبي قد وقف فجأة ونبح، فظننت أنه رأى ذئباً أو وحشاً ضارياً فدلفت متسللاً كظيم الخطو ولكني سمعت بغتة صراخاً علا، صراخ إنسان يستغيث مختنقاً تتمزق له نياط القلوب من رحمة. فما شككت أنه رجل يغتاله مغتال في خميلة فعدوت لنجدته وبيميني هراوة غليظة ضربتها مردية
دنوت ن هذا الصراخ الذي كان ينجلي كلما قاربته ولكنه خفيض مع ذلك مكظوم، كأنه صادر من بيت، وربما من خص حطاب، وكان كلبي بوك يتقدمني على قيد خطوات تارة يعدو، وتارة يقف، ثم ينطلق انطلاق السهم هائجاً حنقاً مسترسل الهرير ولم نلبث أن برز لنا كلب آخر أسود عظيم الهيكل كأن عينيه جمرتان قد كشر عن أنياب عصل يلمع بين شدقيه بياضها
فهممت أن أهوي عليه بهرواتي ولكن بوك سبقني إليه فتلاحما وتصارعا وتجاولا،
ومضيت أنا قدماً، وإذا بي أكاد أتعثر بجواد متطرح في الطريق، وإذ وقفت مبهوتاً أتأمل هذه الدابة لمحت عربة أمامي، بل بيتا طائفاً، أحد مساكن هؤلاء الباعة المتجولين
ومن ههنا كان مصدر هذا الصراخ الفظيع المتلاحق. ولما كان الباب من الناحية الأخرى، فقد درت بهذه العربة واندفعت أرقى الدرجات الثلاث الخشبية وأنا أهم بأن أصرع المعتدي بهراوتي
ولكني شاهدت عجباً، والتبس علي الأمر فلم أفقه لأول وهلة شيئاً: هذا رجل قد جثا على الأرض كأنه يصلي، وعلى الفراش الذي استوى في جوف هذه العربة شيء قد جثم لا سبيل إلى تمييزه: بشر نصف عار قد انطوى على نفسه وهو يتلوى كالثعبان لا أرى وجهه، يميد ويضطرب وكأن صراخه خوار ثور
فإذا هي امرأة تعاني آلام الوضع
فما إن أدركت كنه الأمر وتبين لي ما غمض من حقيقة هذا الحادث الذي كان عنه هذا الصراخ حتى أذنتهما بوجودي، فجعل الرجل وهو يشبه أهالي مارسيليا يسألني ملحاً ذاهب اللب أن أغيثه وأغيثها وهو يواثقني بكلام لا آخر له على الوفاء والذكر لجميل، بما أقضي منه عجباً. ولم أك قد رأيت ولادة قط، ولا أسعفت أنثى قط في مثل هذه الأحوال، وذكرت له ذلك في بساطة، وأنا أنظر ذاهلاً إلى هذه التي تصم الآذان جلجلة صراخها في هذا الفراش
ثم سألت الرجل الواهن الحسير وقد استرددت جأشي: ما بالك لا تذهب إلى القرية القريبة؟ فقال إن جواده هوى في حفير فانكسرت ساقه فهو رازح لا يريم
- فقلت له: يا هذا لا بأس عليك. الآن نحن اثنان. إنا سنتعاون في جر العربة بامرأتك إلى بيتي.
ولكنا لم يسعنا إلا الخروج إلى الكلبين. إذ علا هريرهما وما فصلناهما إلا بضرب بالهراوة شديد كاد يخمد أنفاسهما، ثم خطر لي أن أشدهما بين أقدامنا إلى العربة استعانة بهما، هذا يمنة وذاك يسرة وما انقضت عشر دقائق حتى كنا على تمام الأهبة. وأخذت العربة تسير الهوينا، فترج - باهتزاز عجلاتها فيما تخط في الأرض ممعنة من أخاديد - تلك المرأة المسكينة الممزقة الأحشاء
ويالها من طريق! كنا نسير لاهثين لنا زفير مرتفع، وعرق ناضح، نزلق حيناً، وحيناً نقع، بينما الكلبان المسكينان يزفران بين أرجلنا كزفير النار
وقضينا ثلاث ساعات حتى بلغنا القصر، وإذ دنونا من الباب انقطع الصراخ داخل العربة. وإذا الأم والمولود في أحسن حال، وأرقدنا الأم وطفلها في فراش وثير. ثم ركبت عربتي لأستحضر الطبيب بينما كان صاحبنا المارسيلي وقد اطمأنت نفسه، يلتهم الطعام في شراهة ويحتسي حتى لا يعي من سكر ابتهاجاً بهذه الولادة السعيدة وكانت بنتاً
وأقام عندي هؤلاء النفر ثمانية أيام، والوالدة وهي السيدة ألمير لها بصر بالغيب عجيب، وقد بشرتني بحياة مديدة ومناعم عديدة
وفي العام الذي بعده وفي مثل هذا اليوم لدى الغسق جاء الخادم الذي حضر من هنيهة يدعونا، وكنت في حجرة التدخين بعد طعام العشاء، يقول:(غجرية العام الماضي جاءت تشكر سيدي)
فأمرت بدخولها، وعرتني دهشة إذ رأيت بجانبها غلاماً بالغاً أشده، ممتلئاً شحماً ولحماً، أشقر اللون من أهالي الشمال، فسلم علي ثم جعل يقول كزعيم لطائفته إنه علم ما كان من إكرامي للسيدة إلمير، وأراد أن لا تمر هذه الذكرى دون أن يفدا للشكر والاعتراف بيدي عليهما
وقد أكرمت مثواهما وأمرت بإحضار الطعام لهما في المطبخ وأوفرت قراهما ليلتهما، واحتملا في الغد
وهكذا في كل عام في نفس اليوم تفد هذه المرأة مع مولودها ذاك، وهي طفلة رائعة الحسن، وفي كل مرة مع. . . رجل جديد. إلا واحداً منهم فقط هو من أهالي أوفرنيا وقد بالغ في شكري وأجزل لي الثناء، حضر معها حولين متتاليين، والصبية تدعوهم جميعاً (بابا) كما نقول (سيدي) عندنا
وكنا بلغنا القصر فلمحنا أما السلم ثلاثة أشخاص في انتظارنا وخطا أطولهم نحونا بضع خطوات وحيانا أحسن تحية ثم قال:
- سيدي الكونت إنما حضرنا اليوم لنبدي لك آيات الشكر. . . أما هذا الرجل فكان بلجيكياً
ثم تكلمت بعده أصغر الثلاثة بتلك اللهجة المدربة المتكلفة في الأطفال إذ يلقون عليك تهنئة
أو ثناء
أما أنا فقد أبديت البساطة وانتحيت بالسيدة إلمير ناحية وبعد حديث قصير قلت لها:
- أهذا أبو طفلتك؟
- كلا يا سيدي
- أمات أبوها؟
- كلا يا سيدي. ما نبرح يلقاني وألقاه أحياناً. وهو من رجال العسس
- عجباً! أليس هو إذاً ذاك المارسيلي الأول صاحب يوم الولادة؟
- كلا يا سيدي، ما كان ذاك إلا وغداً زنيماً سلبني مدخر مالي
- ورجل الدرك والد ابنتك الحقيقي أيعرف ابنته؟
- نعم يا سيدي، بل هو شديد الحب لها، ولكنه لا يستطيع تعهدها، إذ له من امرأته أولاد غيرها
أحمد أبو الخضر منسي
البريد الأدبي
حول تقرير مسيو فابر عن المسرح المصري
أتم المسيو أميل فابر الخبير المسرحي الذي انتدبته الحكومة المصرية لدراسة المسرح المصري والوسائل اللازمة لترقيته - مهمته أخيراً ووضع عنها تقريراً موجزاً أذاعته الصحف، وخلاصة تقرير المسيو فابر، هو أن توجد بمصر نواة صالحة للمسرح ولإنشاء فرقة قومية، وأن توجد بالأخص عناصر قوية للتمثيل الهزلي (الكوميديا) تضارع نظائرها في الأمم الراقية، وأن مصر تنقصها المسارح الحديثة، وأن الاختراع لا يزال متأخراً؛ بيد أن المسيو فابر لم يستطع أن يبدي رأيه في شأن التأليف المسرحي بمصر ولا في شأن اللغة المسرحية التي يحسن اتباعها، وإنما ذكر في ذلك ملاحظات قال انه سمعها من أصدقائه المصريين، وقد سبق أن لاحظنا حينما انتدبت الحكومة المصرية المسيو فابر ليقوم بهذه المهمة أن في هذا الانتداب شيئاً من الشذوذ، وأن مصر قد ذهبت بعيداً في سياسة الاستعانة بالخبراء الأجانب. ذلك أن المسيو فابر رغم مواهبه الفنية البارعة ورغم خبرته المسرحية الفائقة التي جعلته مدى ثلاثين عاماً مديراً لمسرح الكوميدي فرانسيز، هو أبعد الناس عن روح المسرح المصري والظروف الاجتماعية التي تحيط به والخلال الشرقية التي تتصل بمهمته، وقد جاء تقرير المسيو فابر مؤيداً لما لا حظنا، فهو لم يستطع أن يقوم بدراسة عميقة لشئون المسرح المصري لأن هذا المسرح مغلق بطبيعته عليه. وإنما اكتفى بدراسة مظاهره المادية، وقد كان خيراً لو أن الحكومة بدلاً من انتداب خبير أجنبي فكرت في أن توفد مندوباً مصرياً أو اكثر لدراسة المسرح الحديث في عواصم أوربا دراسة عميقة. والتوفر بعد ذلك على تنظيم المسرح المصري بما أفاد من خبرة ومقارنة، هذا هو الوضع الطبيعي للمسألة، أما انتداب خبير أجنبي لدراسة موضوع شرقي عربي فهو من تناقضات سياسة الاستعانة بالخبراء الأجانب في كل شيء وهي سياسة قد عفت اليوم.
حول العيد المئوي لوزارة المعارف
أشارت وزارة المعارف في بعض بياناتها عن احتفالها بعيدها المئوي إنها اضطرت إلى الاختصار في الإجراءات والحفلات نظراً لأنها لم تبدأ استعدادها لإحياء هذا العيد القومي
في الوقت المناسب؛ وهذا اعتراف يؤسف له، والواقع أننا لم نوفق بعد إلى تنظيم الأعياد والذكريات القومية تنظيماً مرضياً، وفي كل مرة تعرض فيها إحدى هذه المناسبات، نفكر في الاحتفاء بها بعد فوات الوقت. وأحياناً تعرض ذكرى العيد المعين قبل وقوعه بأعوام فيتحمس لها البعض، وتقوم حولها دعاية صحفية واسعة، ولكن الجهات الرسمية تبدي فتوراً مدهشاً. مثال ذلك ما حدث في مسألة الاحتفاء بالعيد الألفي للجامع الأزهر؛ فقد نوه بأهميته واقترابه منذ أعوام، ووضعت مشيخة الأزهر برنامجاً للاحتفاء بهذا العيد؛ ثم حدث تغيير في المشيخة فانهارت كل التدابير السابقة، وجدت كل حركة في هذا السبيل بحجة أن الوقت لا يزال فسيحاً، مع أن الاحتفاء بهذا العيد القومي الجليل يقع في جمادى الأولى سنة 1359 هـ أعني بعد ثلاثة أعوام فقط؛ ولم تتخذ مشيخة الأزهر بعد أي إجراء جدي في هذا السبيل. فمتى تغدو لنا همم وتقاليد صالحة للاحتفاء بأعيادنا وذكرياتنا القومية؟
إبرس أول مكتشف لأسرار الفراعنة
احتفل أخيراً في ألمانيا بمرور مائة عام على مولد القصصي والعلامة الأثري الألماني جورج إبرس ويرتبط اسم جورج إبرس بمصر والفراعنة ارتباطاً وثيقاً، فقد كان هذا العلامة هو أول من وقع على أول ورقة من أوراق البردي المصرية، وأول من استطاع ان يصف أحوال الفراعنة في أسلوب قصصي ممتع. وقد ولد إبرس في برلين سنة 1837، وجالت بذهنه منذ الحداثة أمنية عزيزة هي أن يزور بلاد الفراعنة وما وراءها من البلاد التي تخلب سيرها لبه. وعني بدراسة تاريخ مصر القديم دراسة خاصة، وعين في سنة 1865، مدرساً للتاريخ المصري القديم في جامعة فينا، ثم عين أستاذاً له في جامعة لايبزج سنة 1870؛ وهنا فكر إبرس في تحقيق منيته فسافر إلى مصر والنوبة، وعثر أثناء تجواله بمصر على ورقة البردي الشهيرة التي عرفت باسمه، وهي ترجع إلى نحو ألف وستمائة عام قبل الميلاد وبها معلومات طبية فرعونية، فحملها معه إلى ألمانيا، وأذيعت محتوياتها، فأثارت في الدوائر الأثرية أعظم اهتمام، ونال إبرس شهرة عظيمة، وكان ذلك سنة 1874؛ وعاد إبرس وذهنه يفيض بسحر مصر القديمة، ويتوق إلى التجوال في هذه السير العجيبة ووصفها، وكان قد أصدر منذ سنة 1868 كتاباً عنوانه (مصر وكتب موسى) وكتاباً آخر عنوانه (مصر بالقول والوصف) فرأى عندئذ أن يبدأ كتابة سلسلة كبيرة من
القصص الفرعونية؛ فاستقال من منصبه الجامعي، وعكف على التأليف والكتابة، وأخرج قصته الأولى (ابنة ملك مصري) وهي قصة فرعونية وقعت حوادثها في عهد الملك ابسماتيك، وفيها وصف لنضاله ضد الفرس. ثم أتبعها برواية (وردة)(سنة 1877) ثم رواية (القيصر)(سنة 1881) ثم يسرابيس (سنة 1885) ثم (الأختين) ثم (كليوباترا)(سنة 1894)؛ وقد اشتهرت قصص إبرس الفرعونية وذاعت ذيوعاً عظيماً. وطبعت مؤلفاته مجتمعة في 25 مجلداً سنة 1895، وترجمت إلى معظم اللغات الأوربية. وتوفي إبرس في سنة 1898، بعد أن حقق باكتشافاته وكتاباته في تاريخ الفراعنة فتحاً عظيماً
التسليحات. السباق والأزمة:
صدر أخيراً في إنكلترا كتاب سياسي خطير عنوانه: (التسليحات السباق والأزمة) بقلم كاتب سياسي كبير هو فرنسيس هرست، ومسألة التسليح، والتنافس فيها هي مسألة اليوم في أوربا، وقد بلغت اليوم ذروة التنافس والاضطرام، ويمهد المستر هرست لكتابه بمقدمة تاريخية يقول فيها إن التسابق في التسليح في القرن التاسع عشر يرجع إلى بواعث وهمية والى مخاوف لا أساس لها. وأما الخصومة فيما قبل الحرب بين إنكلترا وألمانيا فترجع إلى أن اللورد جراي قد تدخل في سلسلة المحالفات الأوربية.
ويستعرض الكاتب بعد ذلك مسابقة التسليح التي تجري منذ سنة 1933، ويقدم عنها بيانات وأرقاماً واضحة، ومن رأيه أن حمى التسليح الحاضرة في أوربا ترجع إلى السياسة الفرنسية فيما بعد الحرب، وهي سياسة زادها الميثاق الفرنسي السوفيتي تعقيداً وخطراً، وإن هذا الميثاق يرمي إلى تفويق ألمانيا. ثم يقول أن نفقات ألمانيا في الأعوام الخمسة الأخيرة على التسليح هي بلا ريب أدنى من نفقات فرنسا، وأدنى من نفقات روسيا، وربما كانت مساوية لنفقات بريطانيا؛ ورخاء ألمانيا الحاضر دليل على أنها تنفق على التسليح أقل مما يذاع. ثم أن ما تعانيه ألمانيا الآن من نقص في المواد الأولية ينذر بأنها لن تستطيع المضي في الإنفاق على التسليح بهذه الصورة. ويبدي مستر هرست على العموم تأييداً لوجهة النظر الألمانية ويقول مثل ما تقول ألمانيا إن تشيكوسلوفاكيا تسودها روسيا السوفيتية، وأن روسيا تنفق على التسليح أكثر مما تعلن أرقامها
ويصور مستر هرست ألمانيا ضحية بريئة لهذا التسابق؛ وهو رأي لا يقره عليه كثيرون؛
وقد كان مستر هرست قبل الحرب من خصوم السياسة البريطانية التي تميل إلى مخاصمة ألمانيا؛ ومن رأيه أن التسليحات الكبرى ليست ضماناً للسلام كما يرى البعض، وأن الحرب لا تتقى بهذه الصورة بل لابد لاتقائها أن تبحث أسباب الخلاف والخصومة ثم تعالج بما يزيلها ويمسحها
في معرض باريس
من العجائب التي سيشهدها زوار معرض باريس الدولي رجل من زجاج من مقتنيات المتحف الصحي الألماني؛ وهو أعجوبة من أعاجيب الصناعة الفنية، وهذا الرجل الزجاجي يعطي بالألمانية كل الإيضاحات اللازمة عن تركيبه وعن أجزائه؛ بيد أنه يراد أن يكون هذا البيان بالفرنسية، ولذلك سيجهز الرجل الزجاجي بالآلات والأجهزة اللازمة التي تجعله ينطق بالفرنسية
كذلك سترسل ألمانيا إلى المعرض مجهر (سايس) الشهير، وسيوضع في مكان خاص به تمكن منه تجربة في رصد الكواكب
تمثال شيخ البلد
يشمل سؤال حضرة م. ح. بأسيوط الفقرات الآتية:
1 -
هل عرف النظام الإداري القديم (شيخ البلد) كما تعرفه مصر الآن من أقصاها إلى أقصاها؟
2 -
هل عرفت هوية هذا التمثال وعرف عمله في الدولة؟
3 -
هل الحقيقة هي ما قرأناه في كتب التاريخ من أن عمال الحفر لما أخرجوا هذا التمثال من مكانه، راعهم ما وجدوا من شبه بينه وبين شيخ البلد، فأطلقوا على التمثال (شيخ البلد)؟
4 -
. . . لزمته هذه التسمية، ولم يغيرها علماء الآثار؛ لما لم يعرفوا صاحبه. ولم يجدوا من النقوش والكتابات ما يبوح بسره وينم عن جلية أمره.
5 -
هل للدكتور أن يميط اللثام عن حقيقة التمثال المذكور خدمة للعلم والتاريخ؟
إني أشكر حضرة الأستاذ الفاضل لاهتمامه بهذه النقطة، كما أبدي مزيد سروري للصلة
الأدبية التي أوجدها حضرته بيني وبينه
فعن الفقرة 1 - أقول نعم عرف النظام الإداري القديم (شيخ البلد) لا من الناحية اللفظية؛ بل من الناحية المعنوية والعملية، أعني أن الذين قاموا بمراقبة تنفيذ أوامر الملوك والأمراء والكهنة، وتقديم المخالفين للمعاقبة أو المحاكمة، كانوا من هذه الناحية أشبه شيء بشيوخ البلدان، كما أن الذين قاموا بملاحظة عمليات بناء الأهرام والمعابد والمقابر والقصور كانت مهمتهم إلى حد ما، مهمة الرئاسة والإشراف وحصر المسئولية التي يمكن اعتبارها - إذا سمح الأستاذ - مهمة شياخة! كما كان الذين جمعوا الأموال والضرائب أشبه شيء برجال الإدارة.
ويمكن لحضرة الأستاذ إذا رغب التوسع الرجوع إلى:
(1)
1925 79 80 ،
(2)
، 1923 96 ، 97 98 ،
2 -
لم تعرف شخصية صاحب التمثال بالضبط، ولكن يجب ألا ننسى أن العلامة ماريت والرئيس روبي - الذي حضر اكتشاف التمثال الخشبي الذين كان ناقص الساقين وقت اكتشافه، وقد أكملا من خشب باللون الطبيعي - ما كانا ليوافقا على هذه التسمية على رغم مشابهة ملامح التمثال لشيخ بلدة سقارة في ذلك الحين، لو أنهما وجداه ممسكاً بمقيض فأس أو قيثارة مثلاً! (راجع وصف التمثال: بدليل التحف المصرية الفاخرة لمدينة القاهرة، تأليف جاستون ماسبرو وترجمة أحمد كمال، الطبعة الأولى سنة 1903 صفحتي 69، 70)
3، 4 - تندمجان في الفقرة السابقة.
5 -
إذا كان حضرة الأستاذ الفاضل قد عني بقراءة كتب التاريخ التي استنتج منها عدم وجود نقوش وكتابات تبوح بسر التمثال، فإني أرى أنه بتكليفي كشف اللثام عن حقيقته - ميال إلى المداعبة، وأعترف له بأني عاجز عن إماطة اللثام عن حقيقة لنفس الأسباب التي صادفت أساتذتنا من علماء التاريخ والاجيبتولوجي الذين لا أعتبر نفسي شيئاً مذكوراً إلى جانبهم والسلام.
الدكتور أحمد موسى
أسبوع الجاحظ في الجامعة المصرية
قلنا في العدد الأسبق إن كلية الآداب بالجامعة المصرية ستحتفل بإقامة أسبوع للجاحظ بمناسبة مرور أحد عشر قرناً على وفاته ابتداء من يوم 25 مارس، ونشرنا برنامج المحاضرات لأيام الأسبوع
ونكتب هذا يوم الجمعة إذ كان أمس (الخميس) اليوم الأول من أسبوع الجاحظ، فقبيل الساعة السادسة مساء وفد على قاعة المحاضرات بالجمعية الجغرافية الملكية جمهور كبير من المتأدبين، بينهم طائفة من السيدات والآنسات، وظل الجمهور يتوافد إلى ما بعد ابتداء الحفلة حتى اكتظت بهم القاعة
وفي منتصف الساعة السابعة نهض إلى المنصة الدكتور طه حسين بك عميد كلية الآداب فافتتح الحفلة بكلمة بدأها بأنه يقوم بافتتاح الأسبوع لاعتذار مدير الجامعة لانحراف خفيف، وشكر حضرات أعضاء قسم اللغة العربية لقيامهم بإحياء ذكرى الجاحظ، وقال:(أريد أن تتصل سنتنا هذه كما اتصلت في العام الماضي بحيث تستحيل دروسنا العامة في كل سنة إلى دروس تحليلية لكاتب أو شاعر أو عظيم)
وقام بعده الدكتور عبد الوهاب عزام فتحدث عن حياة الجاحظ وبدأ بطائفة من مأثور الكلم في تقريظ الجاحظ، وذكر سيرة مجملة له، فقال: (ولد الجاحظ بالبصرة ونشأ بها فقيراً، وروى ياقوت عن المرزباني أنه رؤي يبيع السمك والخبز بسيحان، ولكن الرجل المستوقد ذكاء، المولع بالمعرفة لم يكن ليصده شيء عن طلب العلم، فأخذ العلم عن شيوخ تصدوا للتعليم، وأفاد مما قرأه، وتثقف من الأعراب، وحرص على أن يبحث في كل ما يرى ويسأل كل من يرجو عنده علماً في أمر جليل أو حقير حتى صارت معارفه خلاصة المعارف التي أدركها المسلمون في عصره، زيادة على ما أدركه هو واستنبطه، وقد أفاض الأستاذ في التحدث عن نواحي حياة الجاحظ وأشار إلى ما وقع في كتبه من الألفاظ الفارسية فقال: لا أحسب الجاحظ قد حذق الفارسية واستفاد من كتبها.
وتكلم الأستاذ أحمد أمين عن (ثقافة الجاحظ) فقال: (إن الجاحظ أكبر شخص تثقف ثقافة واسعة في العصر العباسي، فقد أحاط بمعارف زمانه تقريباً) وقال إنه ظل يحصل المعلومات المختلفة حوالي القرن فتيسر له بما منحه من الزمن والصبر والحافظة ما لم يتيسر لغيره، وذكر الأستاذ أن الجاحظ تثقف ثقافة اعتزال، وهي أوسع ثقافاته لأنها تتطلب
من صاحبها الإحاطة بالأديان المعروفة في عهده، إلى أن قال:(وقد كانت للجاحظ ثقافة أخرى هي الأخذ عن الكتب، وكان هذا معيباً، وكان صاحبه يسمى (صحفياً)، وبعد أن أفاض في بيان شغفه بالاطلاع والاستقراء قال إن الجاحظ تفرد بالثقافة الواقعية إذ انغمس في الحياة ودرس كل ما وقع تحت حسه، وأنه أبدع في الناحية الاجتماعية فتكلم عن التجار والصناع والجبناء والبخلاء الخ
وانتهى اليوم الأول من أسبوع الجاحظ بانتهاء محاضرة الأستاذ أحمد أمين
وفاة درنكووتر
توفي الأديب الشاعر المؤلف التمثيلي المستر درنكووتر في أثناء نومه بسكتة قلبية. وقد تكلمنا عنه بإفاضة أيام وفد على القاهرة لإلقاء بعض المحاضرات.