الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 196
- بتاريخ: 05 - 04 - 1937
العام الهجري
عام الإسلام والسلام
هكذا تتعاقب أمواج السنين على ساحل الحياة، فتنفي الخبث وتطرح الغثاء، وتركم الأحداث، وتزيد في سجل التاريخ صفحة بعد صفحة؛ وابن آدم الفاني محمول على غواربها الرعن، تقذف بعضه مع الرمل والزبد، وترجع بعضه إلى العباب واللج! ومن يرجع فسوف يعود؛ ومن عاد فسوف لا يرجع!
هكذا يتحرك الفلك الدوار حركة الطاحون الثقيلة الساحقة، فيلفظ القشر، ويحفظ اللباب، ويصفي أكدار الوجود بالعدم، ويعفي حطام الصيف برياح الخريف، ويجدد ما رث من ديباجة العيش بأفواف الربيع؛ وابن آدم في يد القدر المصرف محراث ومنجل؛ بعضه يزرع الأمان والعمران والخير، وبعضه يقطع السلام والوئام والحب، وبين هاتين القوتين المتكافئتين يسير هذا الكوكب المظلم فلا يقف، ويتدفق هذا الدهر الأتي فلا يركد، ثم لا ينسحق بينهما إلا هذا الغبي الذي سلط نفسه على نفسه!
لله الحمد ولنا المجد! لم تكن أمتنا من شيعة الظلام ولا عصبة الخصام ولا فرقة الهدم؛ إنما كانت خير أمة أخرجت للناس، أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وأعلنت كلمة الله، وبلغت رسالة الحق، وحملت أمانة العلم. هذا تاريخنا، تتألق أيامه الغر في ظلام الماضي، كما تتألق الكواكب الزهر في حلك الليل. أرشدنا الضال فاهتدى، وحمينا الذليل فعز، وعلمنا الجاهل فتعلم؛ ثم مكنا في أرضنا الفسيحة ودنيانا العريضة لعناصر الجمال والخير، فقويت في كل نفس، وازدهرت في كل جنس، وانبعثت في كل دين، وانتشرت في كل أفق؛ وحققنا لهذا الإنسان طريد العدوان وعبد الطغيان أحاديث أحلامه وهواجس أمانيه: من الأخوة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب فيها المدارك؛ لأن رسالتنا لم يوحها الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاها الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، ويصلح نظاما بنظام، وينقذ إنسانا بإنسان
فلما أدركنا ضعف المخلوق ونقص البشر، ففدحتنا تكاليف الرسالة وأعباء المجد، أغفينا حقبة لنسترفه ونستجم؛ ثم صحونا اليوم نمسح الكرى عن الجفون، وننفض الغبار عن
الأوجه، فإذا العالم يعصف به سعار من الجشع المسلح والطمع الباغي؛ وإذا الدين الشرقي يقلبه المزاج الغربي إلى كلب وغلب: فعبقرية موسى رباً ودسيسة، وروحية عيسى خصومة وحرب؛ وإذا رجل لم تنبته صحراء العروبة، ولم تنفحه عطور الشرق، يطغيه الحديد ويبطره العديد، فيقول وهو يحطم الصليب في الحبشة: أنا حامي الإسلام!
وأذل الإسلام إذا لم يعزه أهله! لا يا سيدي! إن الإسلام قوته فيه ودفاعه منه؛ ولا يزال كتابه في أيدينا يعمر القلوب بالقوة، ويغمر النفوس بالحياة: والقوة قوة الإيمان، والحياة حياة الروح؛ أما قوة الأساطيل على الماء وفي الهواء فعمرها يوم وليلة، ثم لا تكون إلا دخاناً في السماء، وحطاماً على الأرض!.
لا يكون الغرب بغير الشرق إلا كما يكون الجسم بغير الروح. فلابد من تآلف العقليتين وتحالف القوتين لإقرار النظام في الدنيا والسلام في العالم. والإسلام - دستور الديمقراطية الصحيحة، والاشتراكية المنظمة، والاخوة الشاملة - يبسط يده لكل يد تدفع الإنسانية إلى التقدم، وترفع المدنية إلى السمو. وهؤلاء المستعمرون الجياع الذين هالهم سره وراعهم معناه، فحاولوا أن يطفئوه في مشرق نوره، ويخفتوه في مصدر صوته، ليسرقوا الضمائر في الظلام، ويسلبوا الذخائر في الغفلة، قد أخطأنا فهمه وجهلوا قواه. فإن نوره من الله، وسيسطع ما سطعت الشمس؛ وإن صوته من السماء، وسيرتفع ما ارتفع الحق؛ وإن سلطانه من العدل، وسيبقى ما بقى الكون. فإذا انشقت الأرض، وانفطرت السماء، وانكدرت الشمس، عاد إلى مصدره الأزلي باهراً كما صدر عنه، طاهراً كما انبثق منه!
لقد أصابوا أخيرا فخطبوا وده وطلبوا حلفه. ذلك عهد جديد بين الشرق والغرب، أو بين السلم والحرب، سيقف فيه الحق الصريح أمام الباطل الخداع وجها لوجه. وسيعلم الإنجليز الذين حالفوا العراق ومصر، والفرنسيون الذين عاهدوا سورية ولبنان، أن الإسلام أصد وعدا، وأن العرب أوفى ذمة. ولعل هذه التجربة القريبة ترفع حجب الظنون عن القلوب والعيون فيعيش أولئك أصدقاء في فلسطين، ويعيش هؤلاء حلفاء في المغرب
إن الإسلام روح فهو حياة، وعقيدة فهو قوة، وشريعة فهو دستور، ومحبة فهو سلم. فعاملوه على ذلك تكسبوا عطفه وتغنموا رفده؛ أما الخداع والرياء، أو الشدة والجفاء، فتلك أسلحة مفلولة، إن قطعت قبل بالأمس فلن تقطع بعد اليوم.
أحمد حسن الزيات
في غار حراء
للأستاذ أحمد أمين
في غار حراء - وهو غار يقرب من ثلاثة أمتار في مترين في قمة جبل على يسار السالك من مكة إلى عرفة - كان محمد وهو في سن الأربعين قبيل الرسالة يتجنث
كان محمد في هذه الأيام يألف العزلة (لم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده) وكان يخرج إلى شعاب مكة وبطون أوديتها
وكان يقضي شهراً مجاوراً في غار حراء
هكذا تقول كتب السيرة
فيم كان يفكر؟ وما الذي كان يطلب؟ وما هذه الحالة النفسية الجديدة التي استولت عليه؟ وما الذي جعله يهرب من الناس وقد كان بهم أنيساً؟ يسعد بالوحدة، ويسعى إلى العزلة، ولا يطمئن إلا إلى نفسه وتفكيره؟ وما الذي جعله يختار قمة جبل يشرف منه على العالم حوله فتسبح نفسه في التفكير من غير أن يحدها حد أو يقف بها عند غاية
ما هذه الأفكار التي كانت تملأ نفسه شهراً فلا يمل التفكير، ولعله كان يود أن يبقى كذلك أشهراً لولا واجب أهله وواجب عشيرته؟
ولكن هل لنا أن نتساءل هذه الأسئلة؟ وإذا سألناها فهل في استطاعتنا أن نجيب عنها؟
هل في استطاعة الجاهل أن يشرح أفكار الفيلسوف؟ وهل في مكنة من لا يحسن الرياضة أن يتخيل ما يفكر فيه الرياضي؟ وهل للنملة أن تتساءل فيم يفكر الإنسان؟
ولكن ما حيلة الإنسان وقد خلق طموحا إلى أقصى حد وأبعد غاية، لم يقنع في باب المعرفة بشيء، لم يقنع بالأرض ففكر في السماء، ولم يقنع بالظاهر ففكر في الحقائق، بل لم يقنع بآثار الله فأراد أن يعرف ذات الله، وهيهات هيهات!
أكبر الظن أن (محمداً) في هذه الفترة، وعلى الأخص في غار حراء كان في حيرة ما أشدها من حيرة عبر الله عنها بقوله (ووجدك ضالا فهدى)
لقد عرف قومه فلم يعجبه دينهم ولا نوع حياتهم ولا كفرهم ولا إيمانهم ولا أخلاقهم؛ وسافر إلى الشام فرأى فيها مدينة الرومان بمالها وأعمالها التجارية وترفها ونعيمها ودينها الرسمي ومظاهره، فلم يعجبه شيء من ذلك. لقد رآهم يعيشون كما يعيش السمك يأكل بعضه بعضاً،
أو كما تعيش الذئاب والشياه في حظيرة واحدة
رحماك الله! ما هذه الحيرة الشاملة؟ لا البداوة لسذاجتها ونظامها أعجبته، ولا الحضارة بترفها وزخارفها أعجبته. لم يعجبه ما رأى من وثنية، ولم يعجبه ما رأى من نصرانية. فأين الحق؟
لقد اطمأن إلى شيء واحد وهو أن كل ما رأى ضلال؛ وحيره شيء واحد وهو سؤاله أين الهدى
حالة نفسية إذا تملكت نفسا مرهفة وشعورا دقيقا ملكت نفسه وغمرت قلبه؛ فحلا له أن يعتزل الناس لأنهم يحولون بينه وبين تفكيره ويقطعون عليه سلسلة مشاعره
لقد جرب العزلة الساعة واليوم فوجدها تفتح قلبه وتريح نفسه، ووجد فيها مفتاحا لحيرته واتجاه لهدايته فبالغ فيها حتى بلغت الشهر!
إن الناس وضوضاءهم ومناظر حياتهم يضنون نفسه فليهرب منهم، وإن منظر الطبيعة بجمالها وبهائها ورونقها ليحي نفسه فليطمئن إليه. يتعاقب عليه في عزلة الليل والنهار فيجد في كل غذاء نفسه: هذا الليل في أعلى الجبل بسكونه وهدوئه، وسمائه ونجومه، والعالم حوله كله نائم، وهو يناغي النجم، ويشاطره الاضطراب والحيرة، وهذا النهار - في أعلى الجبل أيضا - يشرف منه على العالم من تحته، فيهزأ بالناس وسخافاتهم هزؤا مشوبا برحمة، واستخفافا ممزوجا بعطف
كل ذلك وأكثر من ذلك كان يخفق له قلب محمد في غار حراء.
لقد عرف الباطل، ويريد أن يعرف الحق؛ وأدرك الضلالة ويريد أن يدرك الهدى؛ ولم يحب ما عليه الناس، ولكن يريد أن يعرف ما ينبغي أن يكون عليه الناس.
هذا الظلام فأين النور؟ وهذا العمى فأين البصر؟ وهذا ما يجب ألا يكون، فأين ما يجب أن يكون؟
لقد طلب الحق - في غار حراء - بعد أن تهيأت نفسه واستعدت روحه، وكملت مشاعره، وتوجت بالحيرة، فكانت حيرته إرهاصا لليقين، وضلاله إرهاصا للهدى
لم يطلب الحق من طريق الشعر؛ فالشاعر يتخيل ثم يخال، والشاعر يخلق ما لم يكن ولا يدرك ما يجب أن يكون، والشاعر يغني لنفسه - أولا - ولا باس أن يسمع للناس،
والشاعر يعيش في جو خيالي يخلقه بنفسه لنفسه. وليس هذا من النبوة في قليل ولا كثير. ولم يطلب الحق من طريق الفلسفة أو العلم، فكلاهما عبد المنطق، عبد الألفاظ، عبد الكتب، عبد النصوص؛ وأحسن أمرهما أنهما عبدان للعقل، والعقل معيب مغرور مضل؛ ولكل إنسان عقله، ولكل إنسان تفكيره، ولكل إنسان منطقه وقضاياه
إنما طلب محمد الحق من طريق أسمى من ذلك كله، وأرفع من ذلك كله: طلبه من طريق القلب، وأعلن أنه لم يطلب علما ولكن طلب إيمانا، فأعلن أنه أمي وفخر بأميته، لأن القلب فوق اللغة، وفوق الكتابة والقراءة، وفوق العلم، وفوق المنطق؛ وهو القدر المشترك بين الناس، لا يؤمن بحدود اللغة والجنس، ولا يؤمن بحدود اللسان والألوان
من أجل هذا لم يذهب - وقد حار - إلى معلم يعلمه الكتاب، ولا إلى مثقف بالكتب والأديان، وإنما فضل على ذلك كله غار حراء حيث الطبيعة على فطرتها مفتوحة أمام قلبه، وحيث يتصل هو وهي بربها وربه
لقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، واتجه اتجاه الأنبياء، لا اتجاه الشعراء والعلماء، وتهيأ للأمر العظيم، فلمعت في قلبه الشرارة الإلهية، كما يتهيأ السحاب فيلمع البرق
لقد أضاءت له هذه الشرارة الإلهية كل شيء، وكانت رسالته من جنس هدايته؛ فرسالته أن يبعث الحياة في القلب، ويبعث الضوء إلى النفس، كالقمر يستمد نوره من الشمس، ثم يعكس أشعته الجميلة على الناس، يشترك في الاهتداء به العالم والجاهل، والذكي والغبي، والفيلسوف والعامي، على اختلاف فيما بينهم، لأن لديهم جميعا قدرا مشتركا من القلب صالحا للاهتداء
وليست العقول مسايرة في الرقي والانحطاط للقلوب، فقد يكون مريض القلب صحيح العقل، وقد يكون صحيح القلب مريض العقل، ومقياس صحة الاستفادة من النبوة صحة القلب لا صحة العقل، فلذلك آمن بلال قبل أن يؤمن عمرو بن العاص، واسلمت جارية بني مؤمل قبل أن يسلم أبو سفيان
كانت فترة غار حراء الحد الفاصل بين محمد بشرا، ومحمد بشرا رسولا. لقد صعد إليه إنسانا حائرا، وهبط منه إنسانا نبيا، مهتديا مطمئنا. صعد شاكا. وهبط مؤمنا. لمع في قلبه النور الإلهي فإذا كل شيء حوله شفاف يراه بقلبه ويكشفه بنوره
نزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه، وأن يحيوا قلبهم من حياة قلبه، وأن يسمعوا لصوت الله على لسانه، وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره
أي شهر كان هذا الشهر؟ لو وزن به الزمان لوزنه، وأي مكان غار حراء؟ لو فاضل كل مكان لفضله
أحمد أمين
نجم أحمد!
للأستاذ توفيق الحكيم
وقف اليهودي على أحد آطام يثرب ناظر إلى السماء يعلن إلى بني قومه ميلاد النبي في صيحة مدوية: طلع الليلة نجم أحمد! عجبا من العجب! أحقاً لم ير ذلك اليهودي نجم أحمد قبل تلك الليلة؟ يخيل إلي أن الناس في ذلك الزمان كانوا يسيرون مطرقين كالعميان. إن نجم أحمد طالع في كل لحظة يشع نورا من بداية الكون لو أن للكون بداية، إلى نهاية الزمن لو أن للزمن نهاية. نجم أحمد هو الحق. والحق لا يبدأ ولا ينتهي. ولا يظهر ولا يختفي. أنه موجود
إذن ما الإسلام؟ وكيف ظهر الإسلام بظهور محمد، والمسيحية بظهور المسيح؛ واليهودية بظهور موسى؟ هنا لزم التفريق بين الحق وثوب الحق. بين المعنى والأسلوب. ما الإسلام إلا أسلوب من أساليب الحق. ورداء من أرديته. كذلك المسيحية وكذلك اليهودية. وكذلك كل دين من تلك الأديان السماوية التي تتحد في الجوهر وتختلف في المظهر: وهنا نستطيع أن نفاضل بين الأساليب؛ وهنا فقط يجوز لنا أن نفاخر بالدين الأخير، إذ جاء بأسلوب جامع مانع، سهل ممتنع، محكم الوضع، مصقول التراكيب. فالمفاضلة لا تكون في الجوهر، لأنه واحد أحد؛ إنما المفاضلة في الأثواب
وهنا يخطر على البال سؤال: هل تجوز المفاضلة بين الأثواب وهي كلها من صنع الخالق المعصوم الذي لا ينبغي أن يخطئ ولا أن يصحح ما سبق أن صدر عنه. أو أن جوهر الحق وحده من شان الله، أما الأسلوب الذي يعرض به على الناس فهو من شأن الرسل والأنبياء؟ قبل الإجابة على هذا السؤال يجب النظر في قضية أخرى: هل للطبع والمزاج والخلق الذي ركب عليه النبي أو الرسول أثر في أسلوب رسالته؟ هل شخصية الرسول تطبع بخاتمها شكل الدين الذي يدعو إليه؟ وهل لظروف العيش التي نشأ عليها النبي دخل في اتخاذ (القالب) الذي أفرغ فيه (موضوع) النبوة؟ إن أجب على كل هذا بالإيجاب فإن التبعة في (أسلوب) الأديان تقع بلا مراء على كاهل الأنبياء. والنبي إذن مسئول عن الطريق الذي اتبعه للإبانة عن (الحق) مسئولية ملقاة على (شخصيته) التي صبغت الشريعة بصبغتها. وعلى قدر المسئولية تكون العظمة؛ وعلى قدر (الشخصية) ذات الوجود الفعلي
تقاس العبقرية العظمة والمجد الأسمى.
إن صح هذا الكلام فإني أستطيع القول إن النبي أو الرسول لا يصل إلى الحق متجرداً عن شخصيته، بل إنه لا يستطيع الدنو من الحق إلا عن طريق شخصيته. كذلك فعل النبي العربي، وكذلك فعل المسيح وموسى. وكذلك كل نبي لا يستطع أن يرى الحق إلا عن طريق إحساسه وطبعه وعقله، وهي ملكات تختلف باختلاف الأشخاص. وهنا يبدو سر تباين الأساليب التي جرت عليها الأديان في عرض جوهر الحق على الناس. ولعل محمداً هو أكثر الأنبياء حرصاً على تنبيه الناس في كل مناسبة إلى وجود شخصيته المستقلة، فهو لا يفتر يذكرهم أنه بشر خاضع للقوانين التي يخضع لها البشر، وأنه لا يتصل بالله هذا الاتصال الخاص الذي قصر على الرسل إلا إذ يشاء الله. وأنه في كثير من حياته الخاصة أو العامة حيث لا وحي يهديه السبيل، يتصرف كما يتصرف البشر. هكذا فعل في معارك بدر وأحد والخندق إذ كان يستمع إلى مشورة أصحاب الرأي من رجاله. وهكذا فعل إذ لم يخف ميله إلى الطيب والنساء. بل إنه أعلن ذلك الميل لعلمه أن الميول من مميزات الطبع التي ركبها الخالق في البشر. والنبي الحق أجل من أن يكتم مزاجاً أو طبعاً، وهو يعرف أن المزاج والطبع من مقومات الشخصية.
وهنا تبدو حكمة الإسلام ظاهرة بين سائر الأديان. فهو دين بسيط فطري لم تدخله صناعة. كل شيء فيه صادق خالص صاف، ليس فيه إنكار لقوانين الطبيعة، بل فيه مسايرة حكيمة ومصاحبة رشيدة لكل ما فرضه النظام العلوي على البشر من حيث تركيبهم المادي والمعنوي. ذلك أن أسلوب محمد في إدراك (الحق) كان أسلوباً مستقيما. فهو قد أدرك أن (معنى) الحق إنما هو (السبب) الذي يصدر عنه الناموس الأكبر، وأن روح الوجود هو (النظام) إذ لا يتصور أن تكون (الفوضى) من عناصر الخليقة. بل أن (الفوضى) إذا حلت في نظام الوجود انقلبت نظاماً، لأنه لا وجود بلا نظام؛ بل إن كلمة (الفوضى) لا محل لها إلا في أدمغة البشر يعبرون بها عن كل ما يحدث شيئا من الخلل في ترتيب حياتهم الضيقة المحدودة. أما الكون غير المتناهي فلا يعرف غير النظام، هذا النظام الذي فرض على الإنسان والحيوان والجماد. هل من سبيل إلى مخالفته؟ إن مخالفة النظام الطبيعي للإنسان والأشياء مخالفة لله؛ وكل دين يقف في وجه النظم الطبيعية لا يمكن أن يكون من عند الله،
لأن الله لا يناقض نفسه. كل هذا فهمه محمد ووعاه ببصيرته النورانية النافذة، فجاء أسلوب الإسلام في الإفصاح عن (الحق) واضحاً جلياً؛ لا يأمر بالرهبنة، ولا بالفرار من الدنيا، ولا بتعذيب الجسد من أجل الله لأن الله لا يأمر بتحطيم ما بناه
إنما يريد الله أن تعيش الأحياء طبقاً لقوانين الحياة التي وضعها لها، وأن تجاهد في سبيل هذه الحياة، وأن تتغلب على عناصر الفناء بما هيأه لها من مناعة طبيعية، أو مناعة اكتسابية. والدين هو أداة المناعة الاكتسابية لمكافحة عناصر الفناء المادية والأدبية
فلئن كانت غاية الدين عند البشر توفير أسباب الحياة الصحيحة، والدنيا الصحيحة خير تمهيد لآخرة صحيحة، فإن الإسلام بلا مراء هو دين الصحة في كل شيء. فهو ذو صوت جهير في الدعوة إلى صحة الجسم وصحة العقل وصحة العقيدة. ولئن كان ماضي هذا الدين السليم مجيدا، فإن مستقبله ولا ريب يبشر بازدهار يعم الأرض لو استطعنا أن نجرده من سفسطة الجامدين، وننقيه من ثرثرة المتنطعين، وننقذه من احتكار الجهال المحترفين، وأن نرده إلى مبادئه البسيطة الصافية التي لا تصدم تقدما ولا تعارض التطور الطبيعي للأذهان والأشياء. وقتئذ فقط نستطيع أن نغزو به كل النفوس وكل العقول. فإن الدين (المثالي) هو الدين البسيط. وهل أبسط من الإسلام شريعة وهي لا تعرف (رجال دين) ولا تقر وجود أناس يجعلون من هداية الناس حرفة يأكلون منها ويكنزون، ومن (الدين) مهنة تدر الرزق وتعطي متاع (لدنيا)؟ إن أولئك الذين يجعلون (الدين) سلما (للدنيا) لا (الدنيا) سلما (للدين) قد طردهم الإسلام بعيدا عن حظيرته، وجعل الدين سمحا باسما باسطا ذراعيه لكل الناس لا احتراف فيه ولا احتكار. نعم، إن حاجة البشر كافة قد أصبحت متجهة إلى هذا النمير العلوي الصافي من المبادئ البسيطة المستقيمة التي لا خداع فيها ولا تمويه ولا تناقض ولا تشويه ولا إخلال ولا تدخل في قوانين الطبيعة الأساسية التي وضعها المبدع الأعظم. إذا تم ذلك للإسلام في هذا العصر فلسوف يأتي يوم يقف فيه أهل الأرض أجمعون من كل جنس ولون على آطام بلادهم يصيحون في كل حول صيحة ذلك اليهودي:
(لقد طلع نجم أحمد!)
توفيق الحكيم
الإسلام بعد 1355 سنة
للدكتور عبد الوهاب عزام
مضت خمسة وخمسون وثلاثمائة وألف عام منذ هاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة، طوى التاريخ خمسا وخمسين وثلاثمائة وألف مرحلة منذ خرج محمد وأصحابه يحملون دعوة التوحيد والأخوة، وكلمة الحق والعدل والحرية - ركم الزمان على عام الهجرة أربعة عشر قرنا ونصفا ومازال يخرق الحجب نوره، ويلوح من خلال الأجيال سناه.
مضت أربعة عشر قرنا في جزر التاريخ ومده، وغير الدهر وخطوبه. قامت دول وزالت دول، وقويت أمم وضعفت أمم، وحيت مذاهب وماتت مذاهب، والأرض ترجف باعتراك الإنسانية واحتراب الأديان، وتدوي بالآراء تتصادم، والأفكار تتقاتل، ومن وراء هذا خلق يغلب خلقا، وسنة تميت سنة، وآية تنسخ آية، وأثر يبقى على أثر.
فأين الإسلام اليوم من مبتدئه؟ وأين بلغ المسلمون بعد أربعة عشر قرنا؟
قال كاتب أوربي منذ سنتين إن دعوة الإسلام قد انتهت، وإن الإسلام قد وهن، ولم تبق فيه قوة تحرك الأمم وتسير الأجيال.
أحق أن الإسلام قد انتهت دعوته، ودرست آياته، ولم تبق إلا أسماء وأوهام ورسوم وأعلام؟ هل الإسلام اليوم لا تنبض به القلوب، ولا تشق به العزائم، ولا يقيم المثل العليا للعمل في هذه الحياة، أصار الإسلام تاريخا دابراً، وانقلب مجداً ماضيا؟ هل طفئت النار، وأقوت الديار؟
ما هي دعوة الإسلام؟ دعوة ذات شعب تتناول العقائد والأعمال، وتهيمن على العقل والقلب، وتحيط بالجماعة من أقطارها، وتشمل الأمم جميعها، ولكنها في أصولها ترجع إلى أمرين: التوحيد - توحيد الله وتوحيد النفس بتخليتها من الأوهام المتنازعة والخرافات المتهافتة وإقامتها على طريق بينة لا حيرة فيها ولا ضلال؛ ثم توحيد الأفراد في الجماعة بالعدل الشامل والتسوية التامة، وإعطاء كل ذي حق حقه، لا عبد ولا حر، ولا سائد ولا مسود، ولا رفيع ولا وضيع؛ ثم توحيد الجماعات فلا شرقي ولا غربي، ولا عربي ولا عجمي. والأمر الثاني: العمل الصالح: أن يسير الفرد والجماعة والأمم إلى الخير، إلى العمل لإقامة الحق وهدم الباطل، ونشر العدل ومحو الجور - أن تمتلئ القلوب نارا
تحفزها للعمل، ونورا يهديها السبيل، وتسمو النفوس عن الصغائر والدنيا، وتطهر من الأحقاد والضغائن، وتحرر حتى تأبى على القيود، وتتسع على الحدود، وتنطلق في الكمال إلى أبعد غاية
فهل انتهت هذه الدعوة الإسلامية؟ هل أظلم قلب المسلم؟ هل ذلت نفسه؟ هل ذهب الخشوع بآماله؟ هل رده الدهر إلى الصغار، وأنزله اليأس إلى القرار؟ هل يئس المسلم من السيادة ورضى أن يسلم قياده؟
كلا كلا، أن في الإسلام من المثل والأخلاق والفضائل والعزة والإباء والسمو والتاريخ الوضاء ما يملأ المسلمين حياة وآمالا وطموحاً واحتراما. لم تنته دعوة الإسلام ولكنها اليوم تقوى وتعظم، وقد تهيا الزمان لها ومهدت الحادثات سبلها. بدأ الإسلام دعوته منذ أربعة عشر قرناً ولكنها لم تبلغ غايتها وأجدر بها اليوم أن تبلغها
ما تزال النفوس الإنسانية طماحة إلى السمو، نزاعة إلى الخير، مفعمة بحب الحق والعدل، تواقة إلى الأخوة والحرية. فلن تقف دعوة الإسلام. ما يزال المسلم الحق يرى نفسه خليفة الله في الأرض، مكلفاً أن يقيم العدل بين الناس، موكلا بنصرة الخير ومحاربة الشر، أنى كان ومتى استطاع. كل الأرض داره، وكل الزمان وقته. فلن تقف دعوة الإسلام ما يزال المسلم ينطوي على عزة تقهر الخطوب، وأمل يغلب الزمان؛ ونفس لا تسف، وقلب لا يذل، وما تزال سيرة محمد في عقله وقلبه، ولا يزال مجد الإسلام ملء جوانحه، ولا تزال كلمة الحق والعدل ملء ضميره. فلن تقف دعوة الإسلام. إن دعوة الإسلام لا تقف حتى يموت الخلق العلي والقلب الأبي في نفوس البشر.
وقل للذين يزعمون إنهم حماة الإسلام: إن الإسلام في حماية أهله ورعاية تاريخه. ما أذل الإسلام إن ابتغى في غير أولاده حماة! وما أذل المسلمين إن رضوا بغير حماية الله! يا حسرة على الحق إن التمس من الباطل حاميا! ويا خسران العدل إن ابتغى من الظلم ناصراً! وويل لورثة محمد إن لم تحمهم سيرة محمد وخلفائه، ومن أنجبتهم العصور من أئمته وأبطاله!
إن في دين المسلم، وإن في قلب المسلم، وإن في خلق المسلم، ما يربا به عن كل دنية، ويصمد به إلى كل هول، ويثبته في كل كارثة، ويسمو به على كل عقبة.
أيها الحماة الأبرار! لقد أدرتموها على المسلمين حرباً طاحنة في المشرق والمغرب، وغزوتموهم بالسلاح والفتنة والفرية، وكدتم لهم في السر والعلانية، واستبحتم فيهم كل منكر، حتى إذا ظننتم أنهم هانوا وذلوا، ويئسوا وملوا قلتم: هلم أيها الضعفاء، فنحن الحماة الأقوياء!
أيها الحماة: شد ما قسوتم على المسلمين! ثم شد ما رفقتم بهم! أيها الحماة: لقد تعلمون أن بضعة آلاف من بني الإسلام ثبتوا لكم وسخروا بقواكم وفنونكم وأساطيلكم وجيوشكم وطياراتكم أكثر من عشرين عاماً ولم يكن سلاحهم إلا عزة الإسلام ومجد العرب.
سلاحهم عزيمة الجهاد
وقوتهم ما سلبوا الأعادي
يصابرون الأكبد الصوادي
ويأكلون الجوع في البوادي
قد يئسوا يأساً من الأمداد
إلا ثبات القلب في الجلاد
ونصرة الرحمن للعباد
أبت لهم كرامة الإسلام
أي إباء العرب الكرام
أن يسلموا الأوطان دون الهام
منيتهم مشارع الحمام
فلما تكسر في أيديهم كل سلاح، وأعوزهم كل قوت، وضاق على عزائهم كل مجال، خرجوا من ديارهم أنفة أن يروا الصغار في الديار، وإباء أن تجمعهم والمذلة أرض؛ وهم اليوم مشردون في الأقطار، قد نالت الخطوب من أموالهم وجموعهم ونعيمهم ودعتهم ولم تنل من أنفسهم، فكل منهم علم جهاد، وصحيفة فخار، وسجل مآثر، وشهادة ناطقة بما تتجاهلون من العزة الإسلامية، والأنفة العربية. ألا إن الإسلام لم تنته دعوته، لم تضعف كلمته، وسيبقى كلمة الله في الأرض، ودعوته إلى الحق، وحجة على الخلق، في أمره بالأخوة والحرية، والعمل في الحياة على أقوم السنن، إلى أكرم الغايات.
ألا إن الإسلام دعوة إلى الحياة لا تموت، ودعوة إلى الحرية لا تستعبد، ودعوة إلى العزة لا تذل، ودعوة إلى العمل لا تفتر
ألا إن الإسلام دعوة إلى السلام والإخاء، وإلى الصدق والوفاء. فإن دارت به الأكاذيب، واجتمعت عليه الأباطيل، وسيم الهوان، وقوبل بالعدوان، فهو دعوة إلى العزة والاباء، والصبر على اللاواء، والموت في سبيل الحق، والخلود من وراء الموت.
عبد الوهاب عزام
الدبلوماسية في الإسلام
العلائق بين مصر وبيزنطية في عهد الدول الفاطمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت بغداد محور السياسة الإسلام في المشرق يوم كانت الدولة العباسية في ذروة قوتها وفتوتها؛ وكانت الدولة البيزنطية تتجه يومئذ ببصرها إلى بغداد قلب الإسلام النابض، ترقب حركاتها ومشاريعها، وتتحوط لفوراتها وغزواتها. وكانت المعارك تضطرم بين الدولتين بلا انقطاع تقريبا أيام الرشيد والمأمون والمعتصم؛ ولكن فتوة الدولة العباسية لم يطل أمدها؛ فمنذ أواخر القرن التاسع تسري إليها عوامل الانحلال والوهن، وتخبو فيها فورة النضال والغزو، ويتجه بصر الدولة البيزنطية إلى قوة ناشئة أخرى على مقربة من حدودها الجنوبية. ذلك أن مصر، التي بقيت زهاء قرنين ونصف قرن ولاية خلافية، غدت في ظل الولاة الأقوياء دولة شبه مستقلة، وأخذت تجيش بمختلف الأطماع والمشاريع، وألفت الدولة البيزنطية في قيام الدولة الحمدانية بالشام، وقيام الدولة الطولونية ثم الدولة الاخشيدية بمصر، مواطن جديدة للخطر يجب اتقاؤها. وأخذ ميدان النضال بين الإسلام والنصرانية يتحول من سهول أرمينية وأواسط الأناضول إلى سهول كليكية وشمال الشام. ولما قامت الدول الفاطمية بمصر، رأت الدولة البيزنطية من قوتها وغناها ووفره جيوشها وأساطيلها ما ينذر بتفاقم الخطر، وأدركت أنها تواجه على يد هذه الدولة القوية فورة إسلامية جديدة تضطرم قوة وفتوة وطموحا، وأخذت ترقب حركات الدولة الجديدة ومشاريعها في يقظة وجزع.
وشغلت الدولة الفاطمية مدى حين بخطر القرامطة الذي كان يهددها في موطنها الجديد، ويكاد ينذرها بالمحو والفناء العاجل. وألفت الدولة البيزنطية من جانبها فيما أثارته غزوات القرامطة للشام من الاضطراب والفوضى، فرصة للإغارة على الشام ودفع حدودها إلى الجنوب؛ وكانت الدولة الحمدانية في حلب قد اضمحلت ولم تقو بعد على رد الغزاة من الشمال، ولم تلبث أن انضوت تحت لواء الروم (البيزنطيين) وتعهدت لهم بأداء الجزية استبقاء لحياتها، واتقاء لسطوة الدولة الفاطمية الجديدة. وبينما كان القرامطة يزحفون على مصر، وجيوش المعز الفاطمي تدفعهم عنها، غزا الروم الشام، وعاثوا في سواحله واستولوا
على إنطاكية، وهزموا الجيوش الفاطمية أولا، ثم عادوا فارتدوا أمامها تحت أسوار طرابلس، واختتم عهد المعز لدين الله، والروم يبسطون سلطانهم على قسم كبير من شمال الشام.
وفي عهد العزيز بالله استؤنف النضال بين الدولتين؛ وكان خطر القرامطة قد خبا وتحطم تحت ضربات الدولة الفاطمية. وألفى الفاطميون والروم أنفسهم في سهول الشام وجها لوجه؛ وكانت الدولة البيزنطية تجوز في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر مرحلة جديدة من القوة والنهوض في عصر الأسرة البسيلية، ولاسيما في عهد الإمبراطور باسيل الثاني (976 - 1025م)، معاصر العزيز بالله وولده الحاكم بأمر الله؛ وكانت السياسة البيزنطية كعادتها تشجع كل عناصر الانتقاض أو الخروج في المملكة الإسلامية؛ فلما همت الجيوش الفاطمية بغزو حلب واستغاث بنو حمدان بحلفائهم الروم، سار الروم لقتال المصريين ونشبت بينهما معركة طاحنة على مقربة من إنطاكية (381هـ - 991م)، فهزم الروم هزيمة شديدة؛ وخشيت السياسة البيزنطية عواقب هذا الفشل، فسار الإمبراطور باسيل الثاني بنفسه إلى الشام وغزا حمص وأعمالها، وبسط سلطانه على معظم سواحل الشام؛ وارتاعت الخلافة الفاطمية لهذا التطور الخطير في حوادث الشام، وهم العزيز بالمسير بنفسه إلى قتال البيزنطيين، ولكن الموت أدركه في الطريق؛ وخلفه ولده الحاكم بأمر الله طفلا، وتولى تدبير شؤون المملكة وصيه برجوان الصقلى؛ واضطربت حوادث الشام حينا، وشجعت السياسة البيزنطية قيام الثورة في صور، وسار الروم في البر والبحر لمؤازرة الثوار؛ ولكن برجوان كان رجل الموقف، فبعث إلى الشام بجيش كبير، استطاع إن يخمد الثورة، وأن يهزم البيزنطيين في عدة مواقع (378هـ - 998م)، واضطر باسيل الثاني أن يسير بنفسه إلى الشام مرة أخرى. ولكنه ما لبث أن اضطر إلى العودة إلى قسطنطينية ليتأهب لرد خصومه البلغار الذين هددوه بالغزو من الشمال:
وهكذا لبثت الشام مدى حين ميدان النضال بين الدولتين الفاطمية والبيزنطية. كانت السياسة البيزنطية ترى في قيام الدولة الفاطمية وتوطدها بمصر والشام خطرا جديداً عليها، وتحاول أن تغالب هذا الخطر ما استطاعت؛ وكانت الدولة الفاطمية من جانبها تعمل لتوطيد حدودها الشمالية ورد الخطر البيزنطي عنها، ولم تكن تجيش في ذلك بأكثر من
نزعة دفاعية، بينما كانت الدولة البيزنطية تجيش في عهدها الجديد بنزعة إلى الفتح والتوسع. وكانت الخلافة الفاطمية تتوق إلى اتقاء الأحداث والحروب الخارجية لتتفرغ إلى تنظيم شؤونها الداخلية؛ فلما هزمت الجيوش الفاطمية جيوش الإمبراطور في الشام واستطاعت بذلك أن تثبت تفوقها العسكري، انتهز مدبر الدولة برجوان هذه الفرصة ليعقد الهدنة مع الدولة البيزنطية، فبعث إلى الإمبراطور يقترح عقد الصلح والمهادنة، فاستجاب باسيل الثاني لدعوته، وانفذ سفارة إلى بلاط القاهرة؛ واحتفى البلاط الفاطمي بالسفير البيزنطي احتفاء عظيما وزين الديوان الخلافي لاستقباله زينة تنوه الرواية بفخامتها وروعتها؛ وانتدب برجوان اريسطيس بطريرك بيت المقدس وخال الأميرة ست الملك ابنة العزيز بالله وأخت الحاكم بأمر الله للسير مع السفير البيزنطي وتقرير شروط الهدنة مع القيصر وعقد أواصر الصداقة بين الدولتين؛ فسار اريسطيس إلى قسطنطنية، وقام بالمهمة؛ وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين؛ وأقام اريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفي؛ ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه السفارة ولكن المرجح أنها وقعت في أواخر سنة 389 أو أوائل سنة 390 (سنة 1000م)
وشغلت الدولة البيزنطية مدى حين بشؤونها الداخلية وحروبها في البلقان وأرمينية. وقنعت من الشام بإنطاكية، وهدأ النضال بين الدولتين حيناً، وتحسنت العلائق بينهما؛ ولكن سياسة الحاكم بأمر الله إزاء النصارى، واشتداده في مطاردتهم، وما اتخذه من الإجراءات العنيفة لهدم الكنائس والأديار، ولاسيما كنسية القيامة (القبر المقدس) ببيت المقدس أثارت حفيظة السياسة البيزنطية، وحفيظة الكنيسة الشرقية التي كانت تعتبر نفسها حامية النصرانية في المشرق؛ بيد أن الدولة البيزنطية لم تستطع يومئذ أن تتدخل في سير الحوادث. وكانت الأميرة ست الملك أخت الحاكم تخشى عواقب هذه السياسة العنيفة وتجاهد في تلطيفها، وكان لها حسبما تؤكد الرواية أكبر يد في تدبير مصرع أخيها وإنقاذ الخلافة الفاطمية من عواقب هذه السياسة الخطرة. فلما انتهت المأساة بذهاب الحاكم، وقام ولده الظاهر في عرش الخلافة بتدبير ست الملك ورعايتها، عادت الخلافة الفاطمية في الحال إلى تسامحها المأثور نحو النصارى، وردت إليهم حرياتهم وحقوقهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من كنائسهم، ولاسيما كنيسة القيامة، وألفت ست الملك الفرصة سانحة لتجديد الصداقة والمهادنة
مع الدولة البيزنطية، فبعثت نيقفور بطريرك بيت المقدس سفيرا إلى باسيل الثاني ليعمل على عقد أواصر التفاهم والصداقة بين الدولتين سنة 414هـ (1024م) ويطلعه على ما اتخذه بلاط القاهرة من الإجراءات لتحرير النصارى ورفع الإرهاق عنهم وحمايتهم في أموالهم وأنفسهم؛ ولكن الأميرة ست الملك توفيت قبل أن يستطيع السفير تأدية مهمته، ورده بلاط قسطنطينية بلطف، فعاد أدراجه، ولم يمض قليل حتى توفي باسيل الثاني (1025م).
ولكن الخلافة الفاطمية آثرت أن تمضي في سياستها الودية نحو الدولة البيزنطية؛ ومع أن الجيوش البيزنطية اشتبكت في الأعوام التالية في عدة معارك وحروب محلية في حلب وإنطاكية مع الأمراء العرب المحليين، وهزمت أمامهم غير مرة، فإن حكومة القاهرة لم تشأ أن تتدخل في تلك المعارك ولا أن تنتهز تلك الفرصة لمحاربة البيزنطيين؛ ووقعت المفاوضات بين الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله والإمبراطور رومانوس الثالث لعقد معاهدة صداقة بين الدولتين، واشترط الإمبراطور لعقدها أن يتولى إعادة تعمير كنيسة القيامة وأن يعمر النصارى ما شاءوا من كنائسهم الدراسة، وان يقيم بطريركا من قبله لبيت المقدس، وأن تمتنع حكومة القاهرة من التعرض لشؤون حلب أو مصايرها باعتبارها داخلة في حماية الإمبراطور وتؤدي له الجزية، وأن تمتنع عن نجدة صاحب صقلية المسلم إذا هاجمته الجيوش البيزنطية؛ ولكن الظاهر رفض التخلي عن حلب باعتبارها عاصمة إسلامية جليلة؛ وطالت المفاوضات بين الفريقين، وانتهت بعقد معاهدة صداقة بينهما، سمح فيها للإمبراطور أن يتولى تعمير القبر المقدس، وللنصارى أن يعمروا كنائسهم وأن يعود منهم من أسلم كرها إلى دينه؛ وأن يطلق الإمبراطور سراح الأسرى المسلمين لديه، وأن يعيد مسجد قسطنطينية كما كان ويسمح فيه بالآذان وبالخطبة للظاهر؛ بيد أن الكنيسة الشهيرة لم يجدد بناؤها إلى بعد ذلك بنحو عشرة أعوام في عهد المستنصر بالله
وفي عهد الخليفة المستنصر بالله ولد الظاهر اضطربت شئون الخلافة الفاطمية، واضطربت العلائق بين مصر وبيزنطية، وعانت مصر في أوائل هذا العهد أروع مصائب الغلاء والقحط والوباء مدى أعوام ثمانية تعرف بالشدة العظمى (446 - 544هـ) وأرسل المستنصر بالله إلى الإمبراطور قسطنطين التاسع أن يمده بالغلال والأقوات، وتم الاتفاق بينهما على شروط هذه المعاونة، ولكن الإمبراطور توفي قبل تنفيذ الاتفاق، فخلفته
الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لتنفيذ شروطا جديدة أباها المستنصر، واضطربت علائق الدولتين، واشتبك الفريقان في عدة معارك شديدة في البر والبحر؛ وفي سنة 447هـ (1055م) أرسل المستنصر سفيراً إلى تبودورا هو القاضي أبو عبد الله القضاعي ليحاول تسوية العلائق واستئناف الصداقة؛ ولكن السياسة البيزنطية آثرت جانب السلاجقة ورأت أن تتفاهم معهم، وأخفق سعي السفير المصري؛ وكانت فورة السلاجقة قد اضطرمت قبل ذلك بالمشرق، وأخذت تنذر باجتياح الشام، وتطورت حوادث الشام في الوقت نفسه تطورا سيئا، واستولى الزعماء العرب على قواعده وثغوره، فانتزعت حلب من يد الخلافة الفاطمية نهائيا، وكادت دمشق وفلسطين تخرج عن قبضتها، وتضعضعت قوى الدولة في الداخلة والخارج؛ ثم كانت وثبة السلاجقة نحو المشرق واستيلاؤهم على فلسطين ودمشق؛ وأعقبت ذلك فورة من الغرب كانت أخطر ما عرفت الأمم الإسلامية: تلك هي ثورة الحروب الصليبية التي اضطرمت منذ أواخر القرن الحادي عشر، وسرعان ما ظفرت بانتزاع الشام وفلسطين من قبضة الإسلام؛ وحلت المملكة اللاتينية في بيت المقدس مدى حين، وقامت الإمارات النصرانية في الشام حاجزا بين الدولة الفاطمية والدولة البيزنطية، وتحول مجرى العلائق الدبلوماسية بين الإسلام والنصرانية، وافتتح بينهما عهد طويل من النضال المضطرم؛ وانحدرت الدولة الفاطمية إلى مرحلة الانحلال الأخير، كما انحدرت الدولة البيزنطية خصيمتها ومنافستها القديمة إلى مرحلة مماثلة من الضعف والانحلال
محمد عبد الله عنان
ليتني كنت أدري!
للدكتور محمد عوض محمد
1
ليتني كنت أدري!
ما طواه الغيْبُ من نَيْلٍ ووَيْلٍ
وشقاءِ لابسٍ ثوبَ نعيمٍ
وظلامٍ أقْتَم الوجه بهيمٍ
وقضاء مبرمٍ في جنح ليلِ
ليتني كنت أدري!
2
ليتني كنت أدري!
يومَ أن سرت على النهج القويمِ،
لم أَحِدْ عنه يميناً أو يساراً
مُثبتاً طرفي وقلبي وجناني،
في طريق ضيِّقٍ، واهي الأديمِ
يملأ الجفن تراباً
. . . . . وشقاءً وغُبارا. . .
أن مِنْ حولي جِنَاناً
وهواءً خالصا. . .
يملأ القلب صفاء وسرورا وفخارا. . .
عاَلمٌ قد حُفَّ بالخير العميمِ
ساحر المنظر موفور النعيمِ
ليتني كنت أدري!
3
ليتني كنت أدري!
حينما أُلْبِستُ ثوباً من حديدٍ
ليس يَبْلَى. . . .
كي يقيني حادث الدهر العنيد. .
أَنْ سيغدو الجسم مُضْنى
ومُعَنَّى بالقيود. .
والفؤاد الحرُّ رهناً
ببلاءٍ وجمودِ
يقتل الروح على الأيام قتلا. .
ليتني كنت أدري!
4
ليتني كنت أدري!
حينما أمسكت كأسي بيميني،
أحتسي منها رحيقا وسُلافا،
شَرهاً لا يرتوي مني غليلٌ
نَهِماً لا ابتغي عنها انصرافا،
أنني أشرب من داء دفينِ
أنني أرشفها سما زعافا
ليتني كنت أدري!
صوت الإله!
أَنْصِتي يا جبالُ! قد هدأ الليَّ
…
لُ وأَرْخَتْ جفونها الظلماءُ،
ومضى اليوم مُتعْباً ينشُد الأمْ
…
نَ وقد كدَّ ظهرَه الإعياء،
وسَرَتْ في الوجودِ لهفة مشتا
…
ق لمعنًى ينشق عنه الفضاءُ.
جثم الكون رابضا مُرْهفَ الأذ
…
ن لِسِرٍْ توحي به العلياء:
لنشيدٍ يسري إذا سكن اللي
…
ل فتَرْوى به النفوس الظِماءُ:
نَغَمٌ يترك النفوس وفيها
…
منه نور وروعة وصفاء؛
أنصتي يا جبال! قد هدأ اللي
…
ل وأرخت جفونها الظلماء!
أنصتي يا طيور! قد سكن النَّسْ
…
رُ وآوت لوكرها العنقاء،
وغطاء الظلماء قد شملَ العا
…
لم فالقبح والجمال سواء؛
فاستكني في الوكر أو فاستقري
…
فوق غصن تبلُّهُ الأنداءُ
وأَقلي الإنشادَ! فالدهر والعا
…
لم والليل كله إصغاءُ:
لغناء ينساب كالجدول السا
…
حر؛ ما للقلوب عنه غَنَاءُ!
لا تعيه أذن السميع ولكن
…
يملأ القلبَ حسنُه والرُّواءُ. . .
أنصتي يا طيور! قد سكن النس
…
رُ وآوت لوكرها العنقاء. . .
محمد عوض محمد
الذي نريده
للأستاذ عباس محمود العقاد
ما الذي نريده من حياة جديدة للمصريين والشرقيين؟
الذي نريده كثير جدا من الطمأنينة التي مصدرها الشعور بالقوة، وقليل جدا من الطمأنينة التي مصدرها عدم الشعور
نريد أن نحس ذلك القلق الروحي الذي يحسه الغربيون على أثر كل معرفة جديدة، وفي إبان كل اضطراب جلل، وفي أعقاب كل دولة دائلة وفي مطالع كل مرحلة مقبلة. لأن القلق علامة النمو والحركة؛ والنفس تنمو فيضيق بها كساؤها، وتشعر بالحرج والتقلقل لا تستريح فيه ولا يريحها. وتحاول أن تخلع ما ضاق ورث، وتلبس ما اتسع وحدث. وهذا دواليك مادامت تنمو وتستقبل الأحوال بعد الأحوال والأطوار بعد الأطوار
أما الطمأنينة التي تستقر بصاحبها لأنه لا ينمو ولا يتحرك، فتلك مصاب يرثى له وليست بنعمة يغبط عليها: أرأيت الحيوان الأعجم تفارقه الثقة قط؟ كلا! إنه يشبع ويسمن وينظر إلى الدنيا نظرة الرضى والتحدي كأنه بلغ الغاية وأوفى على الرجاء. . . وهو قد بلغ الغاية حقا ولكنها غاية أقل من البداية، وأوفى على الرجاء حقا ولكنه رجاء أخبث من القنوط. وشر ما يبتلى به المصري والشرقي هذه الثقة وهذه الطمأنينة. فاللهم كثيرا جدا من القلق، وقليلا جدا من الراحة والركود
الذي نريده كثيرا جدا من الإيمان الذي يسكن بصاحبه لأنه نفي جميع الشكوك، وقليل جدا من الإيمان الذي يسكن بصاحبه لأنه يجهل الشكوك
الذي نريده كثيرا جدا من الخيال الذي لا يزال ينقلنا من واقع حسن إلى واقع أحسن، وقليل جداً من (حب الواقع) الذي لا يخرجنا مما نحن فيه، لأن النوم واقع عند النائمين، والجهل واقع عند الجاهلين، والفقر واقع عند الفقراء، والأسر واقع عند المستعبدين
زعموا أن الشرق مبتلى بداء الخيال والهيام بالأحلام
ألا ليت ما زعموه قد صدقوا فيه! ألا ليت الشرق يحلم ويتخيل، لأن الذي يعرف الحلم والخيال يعرف الأمل والطموح
أن (الطيارة) هي واقع اليوم ولكنها خيال الأمس. وهكذا ينتقل العاملون من خيال إلى
واقع، ومن واقع إلى واقع غير الذي كان.
وإن الخبز والمتعة واقع عندنا اليوم، وواقع عندنا بالأمس، وواقع في جميع الأزمان، ولن يزال واقعنا الوحيد حتى نحلم ونتخيل فنطمح ونأمل ونحيا ونعمل، ونسوق الدنيا معنا من حال إلى حال، ونخرج بها في ركابنا من نطاق إلى نطاق
ألف ليلة وليلة ليست عالم الخيال والأحلام، ولكنما هي واقع العاجزين والضائعين، لأن خبزها هو خبز المائدة، غير أنه مفقود ليس بمأكول؛ ولذتها هي لذة المخدع، ومخدعها هو المخدع الذي ينال بالدرهم والدينار، لولا أن الدرهم والدينار ناقصان!! ومن يحقق ألف ليلة وليلة لا يحقق عالماً جديداً ولا فتحاً غريباً، ولكنما يحقق (الواقع) الذي عرفه الناس من أقدم الأيام ولا يستطيعون أن يفقدوا المال والحطام، وهما أيضاً من أوقع الواقع وأحس المحسوسات!!
فلا يقولن قائل إن الشرق يحلم لأنه يكتب ألف ليلة وليلة، بل هو مبتلى بالواقع محبوس فيه لأنه يحلم هذه الأحلام ويتخيل هذا الخيال
ألف شرقي يدين بواقع العاجزين فدى لشرقي واحد يبيع العيش الصغير بالأمل الكبير، ويحلم ويتخيل لينقل الواقع من طبقة إلى طبقة، ومن مجال إلى مجال
نريد كثيراً جداً من (الذوق) الذي مصدره الفهم واليقظة والدماثة.
وقليلا جداً من الذوق الذي مصدره التأنث والسقم والاصطناع
لقد شبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين يصرخون من الهباء كما يصرخ الجسم الورم من لمس الذباب
وشبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين يتحلون بالتثني والتأوه كما يتحلى بهما النساء
وشبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين يبرمون بالجد كما يبرم به الصغار الهازلون
وشبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين ليس منهم عامل في ميدان، ولا نافع لبني الإنسان، ولا مجتهد يحسن الاجتهاد، ولا فكه يحسن الفكاهة، ولا رجل عظيم أو مقبول في زمرة العظماء
شبع الشرق من هذا الذوق، فهو من شبعه هزيل الجسد والروح، وهو من شبعه أجوع ممن صام ألف عام
أما الذوق الذي لم يشبع منه الشرق فهو الذوق الذي يحس الصغائر لأنه يحس كل شيء، لا لأنه على الصغائر موقوف، وفي الصغائر محبوس ومقصور
وهو الذوق الذي ينفذ من (البوتقة) لأنه جوهر حميم، ولا يفرق من وهج النار كما يفرق الزيف والغشاء المصبوغ
الذي نريده كثير جداً من الضحك الذي معناه الإقبال على الدنيا والاضطلاع بالأعباء والقدرة على التبعات
وقليل جداً من الوقار الذي معناه التهيب والرياء واتخاذ المظاهر درعاً يستر ما وراءه من ضعف وهزيمة وعجز عن الكفاح
الضحك ملء الصدور والحناجر خير من الوقار ملء اللحى والتجاعيد؛ والضحك الرنان كأنه موسيقى النصر في ميدان الكفاح خير من الوقار المحجم كأنه مخبأ الهارب من الميدان، وراء غبار الهزيمة وغشاء الدخان.
الذي نريده كثيرا جداً من الحرية التي تعرف الحدود، وقليل جداً من الحدود التي لا تعرف الحرية. فليس من مقياس لحق الحرية أصح وأحكم من قدرة النفس على احتمالها بغير رقيب ولا موجه ولا حسيب
إن الحرية التي يتبعها الرقيب هي منحة من ذلك الرقيب واستعباد فيه السيد وفيه المسود
أما الحرية التي تعرف حدودها فهي حق لصاحبها لا يعطيه أحد ولا يسلبه أحد، لأن الحر الذي يعرف كيف يلتزم الحدود يعرف ولا ريب كيف يحمي الحدود
الذي نريده بين القديم والجديد أن نمتلئ بالحياة، فإذا بالتعبير الصالح الجميل ينبثق من تلك الحياة
فليس القديم بضائرنا إذا حيينا وشعرنا وعمدنا بعد ذلك إلى التعبير
وليس الجديد بنافعنا إذا عبرنا محدثين، ونحن غير أحياء وغير شاعرين
ليست آفتنا أننا نعيش كما يعيش القدماء، بل آفتنا أننا نندب القدماء ليعيشوا بديلا منا!
وليست آفتنا قلة الشعر الجديد، بل قلة الشعور الجديد
وليست آفتنا أن القصة قليلة عندنا، بل آفتنا أن القليل هو الحياة التي تستحق أن تكون قصة، و (الواعية) التي تستوعب تلك الحياة
وليست آفتنا كساد المسرح، بل آفتنا أننا في مسرح الدنيا بلا أدوار ولا فصول؛ ولو كانت لنا في مسرح الدنيا أدوار وفصول لشاقنا أن نراها مروية في أدوار الممثلين، محكية في أقوال المؤلفين
الذي نريده أن نفهم ما نريد وأن ننجز ما نريد، وأن نعرف الفرق بين فهم القول وفهم الإرادة، فإنك إذا قلت لسامعك إنك تريد شيئاً من الأشياء في يوم من الأيام فقد فهم ما تقول، ولكنه لن يفهم ما تريد حتى ينجز ما طلبت في الموعد الذي طلبت، وهذا هو الفهم الأصيل
الذي نريده كثير جداً
وقليل جداً إذا استطعناه، وإننا لمستطيعوه ببركة العزم والإيمان
عباس محمود العقاد
الجزيرة والتاريخ الإسلامي
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضع سنوات - ست أو سبع - زرت الحجاز وقضيت فيه أياماً أنظر وأسمع وأفكر. فرأيت أني أصبحت أحسن فهماً للتاريخ الإسلامي والأدب العربي وأقدر على تمثيل الصور والحقائق فيهما وإدراكها على نحو لم يكن يتيسر لي قبل ذلك. ولهذا اقترحت على صديقي الأستاذ الدكتور هيكل بك - لما شرع يكتب (حياة محمد) وينشرها فصولا في السياسة الأسبوعية أن يزور الحجاز فليس أعون على كتابة التاريخ الإسلامي من ذلك. والحجاز بلاد متحضرة ولكني مع ذلك اهتديت إلى كثير وسأحاول أن أتخير طائفة من الأمثلة تجلو ما أعني وتبين ما أقصد إليه. فمن ذلك أني دعيت في جملة من دعوا إلى الغذاء في (وادي فاطمة) وهو واحة جميلة في صحراء جرداء وهناك نصبت لنا الخيام وصفت الموائد وقد وصفت ذلك كله في (رحلة الحجاز) فلا أعيده هنا. ولكنه اتفق أني ذهبت أتمشى بعد الأكل مع بعض الإخوان فلقينا جماعة من البدو فقال لهم أحدنا إن في السرادق آكالا طيبة كثيرة ودعاهم إلى الذهاب فذهب أكثرهم وبقي واحد تخلف معنا معتذراً بأنه (أكل البارحة)، فاستغربت قوله هذا ولكني كنت مثقل الرأس من كثرة ما أكلت فلم أستطع أن أجعل بالي إلى كلامه أو أن أعيره التفاتا. ومضت السنون وجاء إلى مصر صديق من أبناء سورية جاب بلاد العرب وطوف فيها كثيراً ولا يزال يؤثر المقام في الجزيرة، فهو أكثر الوقت مع الملك العظيم ابن السعود، فجلسنا إليه نستمع إلى حديثه الممتع ووصفه البارع لتجاربه ومشاهداته العديدة الدقيقة. وأعني به (خالد بك الحكيم) فتذكرت قول ذلك البدوي في وادي فاطمة (أكلت البارحة) وقلت لنفسي إني قد وقعت على الخبير فلأسأله فلن أجد أدرى منه وأعرف. فقال لي إن هذا معقول، ولو أن البدوي قال (أكلت أول من أمس فأنا لا أستطيع أن آكل اليوم) لما كان ذلك إلا طبيعياً. وذكر لي أن البدوي يذهب في الصحراء ماشيا على قدميه أو راكبا ناقته وعلى رأسه العقال وتحتها اللفافة - ويسمون العقال عقالا لأنه في الحقيقة حبل يعقل به البعير - ويلتف بالعباءة ويتلثم ولا يكاد ينبس بحرف. فأما السكون وقلة الكلام فليدخر كل ذرة من قوته للجهد الذي تتطلبه الصحراء - والكلام جهد فهو إنفاق - وأما التلفف فليحتفظ برطوبة جسمه فيكون
أقدر على احتمال الحر والصبر عليه. ويظل ماضيا حتى يبلغ مضارب عشيرة أو قبيلة فيسقى ما شاء من اللبن ويمضي عنها إلى سواها وكلما نزل على قوم بروه وسروه وسقوه اللبن لأن مثله ممن ينحر لهم القوم. ثم يتفق أن يأتي قوما نحروا لضيف كريم فإذا قام الضيف وإخوانه عن الطعام، أقبل على (اللحم والأرز) من هم دونهم مقاما، فيقعد الرجل ويهبر من اللحم ما شاء ومن الأرز ما أحب. قال صديقي (وصدقني حين أقول لك إن هذا البدوي يأكل بعض أقات من اللحم وملء كيلة من الأرز. وهو يأكل كل هذا بعد أن لبث أياما - عشراً أو عشرين أو أكثر أو أقل - لا يجد من الطعام إلا اللبن وقليلا من التمر أحيانا فإذا أكل كل هذا اللحم والأرز وأثقل به معدته بعد ما يشبه الصيام أو فطام النفس كظها واحتاج إلى يوم كامل أو أيام للهضم.
فلم يسعني إلا أن أفكر في أمر هذا البدوي الذي يصبر على الصحراء وحياتها المرهقة ومطالبها المجهدة وعنائها الشديد ولا طعام له سوى اللبن والتمر أحياناً. إن هذا جلد لا أكاد أعرف له مثيلا. ومن كان يحتمل هذه الخاصة ولا يعجز مع ذلك عن مطالب الحياة التي لا رفق فيها من حرب وسعي وأسفار في الفيافي المهلكة فإن مثله يعدل ولاشك ألف جندي من جنود الدولة الرومانية المتخنثة، ولا عجب إذاً كان بضعة آلاف من هؤلاء البدو الأشداء الخشنين المعروقين قد عصفوا بمئات من الآلاف من جنود الدولة الرومانية التي كانت تقيد جنودها وتصفدهم لتمنعهم أن يهربوا ويفروا. .
وأحببت أن أعرف قيمة الحياة فيما يحس العربي - أعني البدوي - فلم أجد لها قيمة. وما عسى أن تكون قيمتها عند من لا يكاد يجد طعاماً أو ماء، ومن لا يكاد يأمن غدر الصحراء وعصف رياحها. أو لم نقرأ عن واقعة الخندق أن الرياح عصفت بجيش المشركين وقلبت قدورهم وهدمت خيامهم حتى يئس أبو سفيان ودعا قومه إلى الانكفاء إلى مكة؟. وحدثني غير واحد ممن لقيت في الحجاز أن المرء - بعد المعركة - يجيء إلى الواحد من هؤلاء البدو فيسأله عن صاحب له أو قريب أو ابن ماذا فعل الله به، ويتفق أن يكون قد قتل في المعركة، فلا يزيد على أن يقول لك (بح) يعني (ذبح) ولكنه يأكل الذال في النطق فلا تسمع منه إلا (بح). . ثم لا دمع ولا أسف ولا حسرة ولا لهفة ولا جزع ولا غير ذلك مما ألفنا أن نقرن به الموت. فكأن حياة البدوي الشاقة تفقدها قيمتها وتسلب الموت لذعه وتفتر
وقعه. وما قيمة القتل في حرب أو نحوها والحياة معرضة للبوار والتلف في كل ساعة؟؟ وتصور كيف يكون إقبال مثل هؤلاء البدو على الحرب وقس إليه ما عسى أن يكون من إقبال غيرهم من أبناء المدنية والترف والبذخ على القتال!. إن الذي يقبل عليه البدوي ليس خيراً فيما تحس نفسه من الحياة التي كان يحياها. وإذا أضفت إلى هذا فعل العقيدة والإيمان الراسخ بحياة أخرى أطيب وأعز وأكرم فهل يستغرب أحد أن هؤلاء البدو العراة الحفاة الذين لا يملكون إلا السيف والرمح والإيمان المستغرق، اكتسحوا دولا كبيرة وممالك عظيمة، وهدموا بناء كان يبدو شامخاً؟.
ولست ترى في الصحراء قبراً أو صوى منصوبة تدل على أن فلاناً أو علاناً دفن هنا. والناس يعيشون في هذه الصحراء ويموتون فيها ويفنون تحت رمالها ثم لا شيء بعد ذلك، لأنهم لا يعرفون المغالاة بقيمة الحياة إذ كانت لا قيمة لها عندهم. ولو أنهم اتخذوا المقابر وأعلوها ورفعوها وعنوا بها وكانت عندهم مقبرة مثل مقبرة (جنوى) التي يزورها الناس ليعجبوا ببراعة الفن فيها، لما أمكن أن تخرج من جزيرة العرب تلك الأمة التي انحدرت على العالم المتحضر في زمانها كما يتحدر السيل الجارف فأغرقته. ولم تغرقه فقط ولم تفتح البلدان أو تحكمها فحسب، بل قلبتها عربية صرفاً. وقد استطاع الفرس أن يحتفظوا ببعض صفاتهم وخصائصهم وبروحهم القومية - كما لم يستطع البيزنطيون أن يفعلوا فيما استولى العرب عليه من بلادهم - لأن الفرس كانوا أقل تخنثاً من البيزنطيين. ولست مؤرخاً ولكني أظن أن هذا هو السبب، يضاف إليه أن البلاد التي فتحها العرب من دولة الأكاسرة كانت فارسية وأهلها من الفرس على خلاف ما فتح العرب من بلاد الدولة الرومانية، فإنها كانت أجنبية لا رومانية ولا بيزنطية، فبقاء الشعور القومي في بلاد فارس طبيعي ومعقول والفتح لا يمكن أن يقتله، وانعدام مثل هذا الشعور فيما فتحه العرب من أملاك الدولة الرومانية معقول أيضاً. لأنه لم يكن هناك في الأصل، ولهذا بقيت فارس شوكة في جنب الدولة العربية.
وقد زرت العراق وسوريا - أو كما صارت الآن مع الأسف فلسطين ولبنان والشام - كما زرت الحجاز فلم أستغرب أن ينتقل مركز الثقل في الدولة العربية من الحجاز إلى الشام أولا ثم إلى العراق، فإن طبيعة الأراضي الحجازية تجعل من المستحيل عليها أن تكون
مقر دولة مترامية الأطراف عظيمة الرقعة. نعم تستطيع بسهولة أن تحتفظ باستقلالها وعزتها ولكنها لا تقوى على حكم أقطار أخرى بعيدة كالشام والعراق ومصر. وقد بقي الحجاز مقر الدولة العربية في صدر الإسلام وعلى عهد الخلفاء الراشدين ولكن هذا كان زمن التوسع والامتداد، لا زمن الاستقرار والنظام الدائم. فلما انتهت الفتوح أو معظمها وأهمها، وصارت الفتوح بعد ذلك عبارة عن توسع طبيعي لدولة مستقرة تغريها ما أنست من نفسها من القوة والبأس والشوكة بالتوسع والزحف، وتدفعها مقتضيات المحافظة على ما في اليد إلى هذا الزحف، صارت جزيرة العرب لا تصلح أن تكون هي مركز الدولة. أما في زمن أبي بكر فقد كانت الحاجة تدعو إلى توطيد الأمر في قلب الجزيرة أولا قبل إمكان التفكير في غيرها. وأما في زمن عمر فقد كانت الجيوش تزحف فلا يعقل أن تنقل العاصمة قبل أن يستتب الأمر. نعم فتحت البلاد في عهده، ولكن الفتح يستدعي التمكين والتوطيد أولا. ثم إن عمر كان يشق عليه أن يخرج من الجزيرة، وكانت صلته بالنبي عليه الصلاة والسلام أوثق من أن تسمح له بترك الجزيرة، حتى لو كان كل شيء قد استقر وانتظم. ولم يكن قد عاش في الشام أو مصر أو العراق حتى تبدو له مزية التحول بقاعدة الدولة إلى جهة أخرى. وأما زمن علي وعثمان فقد كان زمن اضطراب ونزاع وانقسام، وكان هذا حسبهما شاغلا عن إقامة مركز الدولة إقامة ثابتة نهائية في مكان آخر غير الحجاز. ولما انتهى النزاع بفوز معاوية كان هذا قد أدرك مزية البلاد الأخرى وعرف فضلها كمركز الملك ومقر للدولة التي شادها بفضل ما تولى منها في الفترة السابقة.
وبلاء جزيرة العرب أنها مجدية قاحلة، فإذا امتدت لها رقعة ملك أسرع أهلها إلى التحول عنها إلى غيرها، لأن الحياة في غيرها تكون أرغد والعيش أطيب. والمرء يحن إلى الراحة والدعة مهما بلغ من اعتياده الخشونة والمشقة والشظف، وفرقٌ بين هجرة تدعو إليها كثرة السكان، وهجرة تدعو إليها الفاقة والمحل. ولابد لبلاد تريد أن تكون مقر دولة كبيرة أن تكون هي ذات موارد كافية إلى حد ما. ولهذا لم يكد العرب يفتحون الأقطار المجاورة حتى كثرت هجرتهم إليها طلباً للرغد والراحة. ومن ألف التنقل وكثرة الرحيل من ناحية إلى أخرى انتجاعاً للرزق لم تشق عليه الهجرة إلى بلاد بعيدة لأنه لم يزل أبداً مهاجراً في قلب بلاده. ومادامت الدولة واحدة في الحجاز ومصر والشام والعراق فأخلق
بهذا أن يكون مشجعاً على الهجرة ومستحثاً على النزوح. وبذلك صارت الجزيرة أخلى من الناس وأقل صلاحاً لأن تكون مركز الدائرة ومقر الدولة. وقد يتغير حال الجزيرة في المستقبل وقد تظهر فيها موارد ثروة طبيعية تغنيها ولكن محل أرضها عقبة في سبيل الحياة. ومهما يبلغ من غناها في المستقبل فإنها ستظل أحوج إلى غيرها من غيرها إليها - إلى حد بعيد - على أن كلامنا على الماضي الذي لم يكن يعرف البترول والمعادن وما إلى ذلك مما جد في الدنيا لا على المستقبل الذي هو غيب.
إبراهيم عبد القادر المازني
في رأس السنة الهجرية
معنى الهجرة
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . مشى (عبد الله) حذراً، يتلفت إلى الوراء خشية أن يراه بعض سفهاء قريش، فيقطعوا عليه سبيله، فلم ير أحداً، وكانت طريق مكة خالية لأن الناس قد أموا الحرم ليجلسوا في مجالسهم كعادتهم في كل مساء فاطمأن وسار قدما، حتى إذا خرج من مكة وجاوز الحجون، واتسع الوادي أمامه وانفرج، صعد الجبل يأخذ طريقه إلى الغار؛ ونظر. . فراقه منظر الغروب. على هذه السفوح والذرى، وأحس بجلال الموقف، وأخذ عليه نفسه هذا الصمت العميق، وهذه الصفرة التي تعم كل شيء، فنسي غايته ووقف ينتظر. . رأى مكة تلوح أبنيتها من فرجة الوادي، وتبدو الكعبة قائمة في وسطها، والأصنام التي تحف بها تظهر على البعد كأنها لطخ سود. . فذهب به الفكر سريعا إلى ذينك الرجلين اللذين تركهما صباحا في الغار. وذهب يتحسس لهما خبر قريش. ويعلم علمهما. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأباه الصديق. . فخاف أن يكون قد أصابهما شر، فاغمض عينيه عن هذه المشاهد، ومضى في طريقه وهو يتعجب من قريش حين زهدت في المجد والظفر، وآثرت هذه القرية الجاثمة بين هذين الجبلين كأنما هي مخبوءة في صندوق من الصخر، على السهول والجنان والمدائن التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودها إليها وانصرفت عن الراية التي دفعها إليها محمد، لتسير بها إلى أرض النخيل والأعناب فتركزها في دمشق والإسكندرية، وعلى إيوان كسرى. وفضلت عليها رايتها التي لم تتعود الخفق في سماء المعارك الكبرى، ولا ألفت الاهتزاز على أسوار المدن المفتوحة. . لقد عرض محمد على قريش أن تعطيه هذه الأصنام ليكسرها. ويعطيها بدلا منها ملك كسرى وقيصر، ويعطيها العقل المبدع، والقانون العادل، والعبقرية والخلود، فأبت، وعكفت على أصنامها وتماثيلها. . فما أعجب عقل قريش!
ونظر إلى مكة مرة ثانية، فإذا الظلام قد لفها بردائه، ثم ابتلعها ولم يعد يبدو منها إلا بصيص من النور فخالط نفسه سرور مبهم، وشعر بزوال هذا الخطر القرشي، واستروح رائحة الظفر، فامتلأ قلبه أملا، وجعل يجيل بصره في الأفق الواسع، فيخيل إليه أنه يرى
راية محمد ترقص على هام القصور البلق في الشام، والصروح البيض في المدائن. . . فمضى يتسلق الصخور إلى الغار، وهو يقفز قفزاً، يظن من شدة النشاط وقوة الأمل أنه سيطير!
وكانت الجزيرة يومئذ تتمخض بالموجة الكبرى. . . ولطالما ماجت هذه البرية القاحلة التي تلتهب في أيام الصيف التهاباً، وهذه الرمال التي تسلسل إلى غير ما حد، ففاضت على أرض العراق الشام وكانت منبع الحياة. لقد كان ذلك، والتاريخ جنين في بطن العقل البشري لم يولد بعد، وكان وهو طفل لا يعي، وكان والتاريخ صبي يميز ويدرك، فرآه فسجله في دفتره. . .
رأى وادي النيل، وحوض الرافدين، يمشيان إلى الخراب، قد نضبت فيهما الحياة، فما راعه إلا موجة تنشأ من الجزيرة، من وسط الرمال، فتقذف إلى مصر بـ (مينا) ليكون أول فرعون فيها، وتلقى ببني كلدة إلى العراق، فإذا هؤلاء الوافدين من أعماق القفز، يفتحون حقائب أدمغتهم، فيخرجون منها الحضارة الأولى، (حضارة البابليين القدماء) قبل الميلاد بستة وثلاثين قرناً
ويكر الزمن، وتدور الأفلاك، فتطحن الناس، وتحطم الحضارة وتطفئ الشعلة، فتنادى العراق والشام يطلبان المدد، وتسمع الصحراء فتتهيأ وتتحرك وتموج موجة أخرى فيقذف إلى ساحل البحرين بأنشط (مجموعة بشرية) عرفها التاريخ القديم، ثم تلقي بها إلى ساحل سوريا لتطل على العالم، فلا تلبث أن تغلغل فيه تحمل إليه تجارتها وحروفها ولا تلبث أن تغدو شريان الحياة في العالم، وتنشئ في كل موضع (مستعمرة فينيقية) هي في الحقيقة مدرسة عالمية، كان من أمهر من تخرج فيها (اليونان)
ولقد ماجت الجزيرة موجات أخرى. . . ولكنها اليوم تتمخض بالموجة الكبرى!
فكر (عبد الله) في هذا وهو يتسلق الصخور، إلى الغار، وكان لطول ما سمع من حديث الإسلام شديد الرغبة في توحيد العرب، وسوقهم إلى إنقاذ أرض الوطن (في الشام والعراق) من الحكم الأجنبي، وكانت هذه الفكرة جديدة لم يعرفها العرب، أثمرتها في رأس (عبد الله) الدعوة التي استجاب لها، وآمن بها، واستسلم عبد الله إلى أفكاره، وأطلق لها العنان، وشمل العالم كله بنظرة واحدة، فرآه ينتظر شعباً جديداً طاهراً لم تدنسه تلك الحضارة الزائفة، حراً
لم تذله تلك الأنظمة الجائرة، أبيا لم يألف طغيان الملوك، وجبروت الأباطرة، ليختم صفحة الماضي السوداء، ويفتح في التاريخ صفحة بيضاء جديدة
إن البناء القديم قد تهدم وخرب، ولم يعد صالحا، ولابد من شعب قوي ماهر، يهدم هذه الأطلال البالية، ثم ينشئ بناء جديدا.
إنه ليس في العالم إلا ثلاث كتل كبيرة. . . كتلتان تتصارعان صراع الديكة، قد أمسكت كل واحدة بعنق الأخرى، فسالت دماء الشعوب، والملوك يضحكون ويفرحون لأنهم سيصبغون بالدم ثيابهم لتغدو قرمزية حمراء، يمتازون بها من (سواد الشعب) وطاحت جماجم الشعوب، والملوك يضحكون ويفرحون، لأنهم سيبنون منها برجا، يترفعون به عن غمار الشعوب
هاتان هما الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية، وهناك كتلة أخرى في زاوية الكون نائمة على ضفاف (الكنج) ووراء (همالايا) لا يدري بها أحد. . .
أمم تشقى ليسعد أفراد. شعوب تضنى ليحيا رجال. مدن تحرق لتشعل منها (سيجارة) إن هذه حال يجب أن يوضع لها حد! فمن هو الذي ينقذ العقل البشري من قيود الجهل والاستبداد! من هو الذي يمحو هذه الأرستقراطية العاتية السخيفة؟ من يهدم هذه الهياكل البالية ليقيم على أطلالها صرح الحضارة؟ من الذي يمهد السبيل للمستقبل المنتظر، لعصر الراديو والطيارة؟ لعصر العلم والفضيلة؟ لعصر الحرية والعدالة والمساواة؟ لعصر السوبرمان. . .
لا أحد!
كل شيء هادي في العالم!
إن القافلة تمشي ببطء في عرض البادية، قد خرس الحادي، ومات الدليل، إنها تمشي نحو الموت!
إن السفينة تتخبط في لجة اليم، تميل وتضطرب، لم يعد لها أمل، قد هبت العاصفة وطغى الموج، وغرق الربان!
يا من يهد القافلة الضالة؟
يا من يخلص السفينة الحيرى؟
يا من ينصر الشعوب المظلومة؟ يا من يحمي العقل المهان؟ يا من ينقذ الفضيلة المعذبة؟
ليس من مجيب، كل شيء هادي في العالم!
بلغ السيل الربى، وعم اليأس، واشتدت المصيبة، فتلفت الناس فلم يجدوا أمامهم إلا البيع والكنائس، فأموا بيوت الله، ونفضوا أيديهم من الدنيا، وجاءوا يبغون فيها الفرج، لقد سدت في وجوههم كل الأبواب، ولكن باباً واحدا لا يزال مفتوحا فوق رءوسهم، هو باب السماء.
وسمعوا الفرج على ألسنة الكهان ورجال الدين، علموا أنه سيبعث نبي جديد، يطهر الأرض، وينشر العدل، فخرجوا فرحين مستبشرين، قد أحيا قلوبهم الأمل
وطفقوا يفتشون عن النبي الجديد، فتشوا عنه على ضفاف الأنهار في سهول العراق الجميلة. . . فتشوا عنه على جبال لبنان الشجراء، وحدائق الشام الغناء، فتشوا عنه في المدن الكبرى، عله يظهر إلى جانب القصور في القسطنطينية والمدائن، مثوى الجبروت البشري، فيهزها ويزلزلها، فتشوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، إنه لن يخرج في السهول ولا في الجبال ولا في المدن الكبرى - ولكنه سيخرج من حيث انبثقت الحياة، من حيث بزغ فجرها من حيث خرجت الحضارات الأولى. . . من الجزيرة
تلك هي أم العالم فليلجأ العالم إلى أحضانها، كلما حاق به خطر؟
فتشوا عن النبي المنتظر في كل مكان فلم يجدوه، وازداد عسف الملوك، وظلم الطغاة، واشتد البلاء، وكمت الأفواه، وقيدت العقول، وديس الحق. . . فلجأ الناس مرة ثانية إلى البيع والكنائس. فسمعوا فيها البشارة، وكانت هذه المرة واضحة قريبة. . .
(يا شعوب العالم)!
(استبشروا فقد نشأت اليوم الموجة الخيرة التي ستغمر العالم - وتغسله من أدران الماضي - لقد نشأت من غار عال منقطع. في قمة جبل رفيع، ومشت تقطع الرمال - نحو أرض الثمار والرياحين - نحو أرض المدنيات. . . لقد ابتدأ اليوم أكبر حادث تاريخي: إن ركاب النبي المنتظر، قد تحرك من مكة يسير إلى نصرة الشعوب - إلى حماية العقل، إلى إنقاذ الفضيلة، إلى إنشاء عصر الحرية والعدالة والمساواة)
فخفقت القلوب في كل مكان لذكر النبي المصلح، وعاشت بحبه، وسألت:
- إلى أين بلغ؟ إلى أين بلغ؟
- لقد بلغ الغار، فوقف فيه يودع هذه الجماعة السخيفة، التي جاءها أعظم رجل، بأعظم مبدأ، فلم تفهم منه شيئا، وحسبت أنها تستطيع القضاء عليه، فهي تريد أن ترد النبي فتقتله أو تسجنه، فهي تبعث رسلها، يفتشون عنه في أنحاء البادية، وشعاب الجبال، ومنعرجات الأودية، وينفضونها نفضاً، ولكنهم يعمون عن هذا الغار العالي المكشوف الذي يطل منه سيد العالم
- أهؤلاء يحرمون البشر من العصر الذهبي المرتقب؟ ويقضون على الأمل الوحيد الذي تعيش به ملايين الخلائق؟ يا للمجرمين، يا للجاهلين المغترين!
وتفرق الناس يهتفون في كل مكان باسم المنقذ الأعظم، باسم النبي!
وانتبه (عبد الله) فإذا هو قد تأخر، وضل الطريق، فصحا من ذهوله، وتسلق الصخر مسرعا نحو الغار، لقد فهم معنى الهجرة، التي لم تفهم قريش معناها - وحسبتها سفرا من مكة إلى المدينة، لقد علم أنها انتقال من الماضي الأسود الكئيب، إلى المستقبل المشرق المنير. . . فليقفز إلى الغار قفزا. . .
وبعد، فيا من ينعمون بحضارة القرن العشرين:. .
يا من يعرفون قيمة الفكر البشري، ويستمتعون بثمراته. . .
يا من يقدرون العدالة والحرية والمساواة. . .
لا تنسوا أبداً أن المنار الذي اهتدت به القافلة الضالة، والسفينة الحيرى، إنما خرج من ذلك الغار، فاذكروا دائماً عظمة هذه الغيران غار (حراء) إذ بزغت منه أنوار الديانة التي هذبت العقل الإنساني، وأرشدته إلى أقوم سبل الحقيقة والخير والجمال، وغار (ثور) إذ بدأت منه الموجة التي نسفت قصور الظالمين، وصروح العتاة، وقفت على الماضي السخيف، وحملت إلى العالم أسمى المبادئ وأعلاها، حين حملت إليه تعاليم حراء
إن هذه الغيران كعبة في التاريخ، لا ينبغ عقل ولا يمشي في طريق التفكير الصحيح، إلا بعد أن يطيف بها، ويقف عليها. . .
إن العالم قد سار نحو الكمال، يوم سار محمد صلى الله عليه وسلم نحو الغار. . .
إنه لولا الهجرة، ولولا الفتح الإسلامي. . . ما خرج العالم من الهوة، التي دفعته إليها أرستقراطية السادة الأشراف، وجبروت الملوك المستبدين. . . ولا كانت حضارة القرن
العشرين!
. . . هذا هو معنى الهجرة، التي نحتفل اليوم بذكراها، فحق على كل متمدن أن يشاركنا في هذا الاحتفال!
عين التنته - سوريا
علي الطنطاوي
من صفحات البطولة
سلاميش
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
قد كان ذلك أثناء الحرب الصليبية التي ثار لهيبها في الشام نحو قرنين طويلين؛ وكانت جنود مصر العظيمة تحاصر مدينة إنطاكية إحدى المدن التي كانت لا تزال باقية في يد المسيحيين. وكانت جيوش مصر تحارب ببسالتها المعروفة لا يعرف أحد من جنودها ما معنى الخوف بل يهوي بفرسه كالصاعقة وهو يصيح صيحة الحرب فيوقع بعدوه الفشل فيتفرق ويتبدد، ثم يشيط في رماحه وسيوفه.
وكان منظر هذه الجنود مما يروق الأعين ويبهر الأنظار، فقد كان الفرس وراكبه قطعتين من آيات الفن ومبدعات الصناعة، فالفارس في ملبسه الحربي عليه العلامة الصفراء تبرق في شعاع الشمس وفوق جسده الدروع والسلاح يحسبها الناظر إليها من عسجد مصفى وإن كانت من صافي الحديد والفولاذ؛ وكانت ملابسه من تحت تلك الغواشي لا تظهر منها إلا أطراف مزركشة بالذهب أو أذيال من صافي الحرير والقصب؛ وكان الفرس يختال تحت راكبه كأنما هو يزهى بما عليه من زينة وحلية ويفاخر بمن عليه من نجد مغوار
ودافع المحصورون في إنطاكية دفاع الأبطال، لم يتركوا الأسوار حتى لم يبق بها ركن غير مثلوم، ولم يدعوا الضرب حتى لم يبق لمجانيقهم حجر يقذفون به أو نار يلقون بها على أعدائهم. وانتصرت جنود السلطان العظيم بيبرس. ودخلت المدينة في أبهة النصر واختيال القوة. وكانوا وهم يدخلون المدينة لا ينسون أنهم يلجون أكبر معقل بقي للنصارى في الشام بعد أن كانوا قد بسطوا أيديهم على ذلك القطر كله.
كان قائد الجند شابا في مقتبل العمر اسمه سلاميش لو رآه أحد في غير لباس الحرب لظنه أحد أبناء الملوك المنعمين. وجه مشرق إشراق الزهرة اليانعة، وقوام ممشوق كأنه رمح رديني، وعينه تلمع كأنها ريا بفرند سيف دمشقي. ولكنه كان في عدة الحرب عليه اللأمة والدروع وفي يده الرمح وفي منطقته السيف، ودخل على رأس الجنود فوق جواده الكريم ناظراً إلى الأمام معبسا جاداً والجنود من ورائه لا يلتفت أحد منهم إلى يمين أو إلى اليسار، ولا يتخلف أحد منهم عن طاعة الأمر بمقدار همسة هامس أو طرفة عين. وكانوا كلما
نظروا إلى قائدهم الشاب زادت قامتهم استقامة، فإن هم بعضهم ببسمة وقفت البسمة على شفتيه حذر أن يطلع عليه إذا هو التفت.
وكان يوم دخول إنطاكية يوماً مشهوداً، فكان نساء المدينة وصبيانها أسرى ينتظرون حكم الفاتح فيهم؛ وكان رجالها وشبانها بين مقيد في الأصفاد، وجريح في مثاوي العلاج، وقتيل طريح على جانب الأسوار أو عرض الطريق، وبلغ القائد وجيشه ميدان المدينة الأكبر وقد احتشد فيه الأسرى والضعفاء يتطلعون جميعاً إلى من في يده الحكم في مصائرهم، وخمدت الأنفاس، وهدأت الأصوات، وأومأ القائد للجيش بالوقوف حول الميدان، فوقف الجند ينتظرون إلى أكوام الغنائم التي سيقسمها السلطان الأعظم بينهم وهي من كل نفيس ونادر من تحف الأمراء والأغنياء وقد وقف حولها جماعات من سبايا الحرب بين صبية وعذارى أو كهول وشبان ينظرون إلى قيودهم حانقين، أو يبكون ويندبون معولين.
وتقدم نحو سلاميش وفد من كبار المدينة وأمرائها حتى إذا ما صاروا منه على بضع خطوات ركعوا له ووقفوا يطلبون الإذن للكلام، فأذن لهم وهو معبس على عادته لا تفارقه تلك النظرة الجامدة التي في عينيه، وجعلوا يتكلمون بلسانهم وقد وقف رجل منهم يترجم ما يقولون. وطلبوا إليه أن يمن عليهم بالفكاك وأن يهبهم نساءهم وذراريهم تقربا إلى الله الذي نصره بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودانت المدينة لحكم السلطان الأعظم، وقالوا له فيما قالوا (حسبك من تقتل من شباننا وكهولنا، وما تخرب من ديارنا ومعاهدنا؛ فلئن كانت بنا كبرياء لقد ذلت، ولئن كانت فينا عزة لقد هانت؛ وكفاك من الحرب النصر فلا تضم إليه دموع المساكين، ولهيب الفراق بين الأبناء والوالدين) غير أن سلاميش بقي على تعبيسه ووجومه ولم يجب إلا بإشارة لجنوده أن يعيدوا الأسرى إلى حيث كانوا وأن يستعدوا لنقل الغنائم والأسرى إلى مخازن السلطان أو إلى خيامه، فلم يكن للوفد إلا أن ينصرف والحسرة تأكل قلوبه.
ثم أمر القائد جنوده بالمسير إلى مخيمه وسار في الطليعة يتقدمه لولا أن استوقف نظره جماعة من الجند يجرون شخصا وهو يمانع ويجاهد، فتأمل الشخص فلاح له عن بعد شخص امرأة، فوقف وأمر الجنود بالوقوف، ثم أسرع إلى مكان الجند ليرى ما هناك فوقعت عينه على فتاة بين أذرع جنديين يدفعانها ويترددان في حملها. ولما اقترب منها
رأى شابة نحيلة ممشوقة فارعة، بوجهها صفرة قد غطتها حمرة، وفي عينيها حلاوة قد غشيتها صرامة، وهي تنظر إلى الجنديين مرفوعة الرأس كأنها تزهى، جامدة العينين كأنها تتحدى. وقد تمز ثوبها وتلوث من آثار الوسخ والدماء، لا يكاد يستر من جسمها إلا ما يستر ظل أوراق الشجر من صفحة الجدول.
وقد انسدل على كتفيها غطاء من شعرها الفاحم وهو يلمه في ضوء الشمس الغاربة. فدخلت الرحمة قلبه برغمه، وتمهدت عبسته ولانت نظرته وأشار إلى جنوده بالكف عنها، ثم نزل إليها وأخذ بذراعها فأسلست له وسارت معه حتى اقترب من شيخ فقيه كان في صحبة الجيش وأمره أن يترفق بها حتى تذهب إلى خيمته. ثم عاد وقد أطرق قليلا حتى علا صهوة جواده. ثم ركض إلى حيث ترك جنوده واستعاد نظرته وعبسته. وألقى إليهم الأمر بالمسير وقضى سائر اليوم في شغل من أمر جيش حتى أوغل الليل وعلا البدر وحان وقت العودة فآب إلى سرادقه.
وتذكر الفتاة التي كانت أعمال اليوم قد أنسته ذكراها، فأمر غلاما أن يحضرها إليه، وجلس يستعيد صورتها ويتمثلها وهي تناضل على ضعفها وتتكبر على ذلها، ولم يتمالك أن ربت الرقة إلى قلبه، ولم يستطع قهر عبرة ترددت في عينه. وغاب الغلام قليلا ثم عاد وحيدا فنظر إليه سلاميش كأنما يستفهم عما أتى به، فقال الغلام بعد التحية (إنها لا ترد بكلمة ولا ترفع إلي بصرها)، فصرفه سلاميش وجلس هنيهة يفكر، ثم نهض متثاقلا وسار إلى خيمتها حتى إذا دخل ألفاها على الأرض وقد وضعت رأسها بين كفيها.
فدنا منها ووضع يده على رأسها وتبسم ابتسامة ضئيلة وقال: (يحزنني أنهم أساءوا إليك)
فانتفضت الفتاة كأنما لسعتها جمرة، ثم رفعت رأسها وقامت تنظر إليه والحقد مرتسم على محياها، ونار الغضب تضطرم في عينيها، وكانت الملابس الرثة التي أتت بها قد تبدلت وألبست حلة من الحرير الأسود جعلت وجهها المصفر وعليه آثار الدموع يبدو كالزنبقة المبللة بالندى، ودفعت يده التي مدها نحوها وقالت وفي صوتها بحة:(أبعد يدك عني أيها القاتل السفاك. أدر وجهك الكريه عني فأنت قاتل أبي وأخي، وأنت سافك دماء قومي، وأنت المعتدي على وطني، ابعد عني وافعل بي ما شئت من عذاب أو قتل تكمل به وحشيتك وفظاعة جندك).
وكانت هي في ثورتها هذه تقذف بنظراتها إليه كالسهام النافذة، وكان صدرها يعلو ويهبط في هياجها، وشعرها الطويل الاسحم يضطرب بعضه فوق كتفيها وبعض على صدرها أو جوانب جسمها
ودهش سلاميش من قولها ولم تفته فصاحة في لفظها ولا رخامة في صوتها، ولكنه لم يجب بكلمة، بل رفع حاجبيه وانثنى راجعا إلى خيمته يسير في بطء ويثور به شيء يشبه الحزن
وأرسل إلى الشيخ الفقيه يستحضره، وأتى إليه فجعل يسأله عن المدينة وأهلها، وعن تلك الفتاة وبيتها، فلقد كان ذلك الفقيه من أهل المدينة قبل الفتح يعيش بين أهلها ويعاشرهم ويخالطهم، فعلم منه أن تلك الفتاة بنت أكبر أغنياء إنطاكية، وأن أباها كان شديد الولع بتثقيفها، وأنها قرأت أدب العرب كما قرأت أدب الفرس، وكان لها أخ قتل في أثناء الحصار، ومات أبوها يوم الفتح، وكان يدعو قومه إلى المصالحة قبل أن تفتح المدينة عنوة، وأراد أن يحمل قومه على تدارك الأمر قبل انفراطه فاتهموه بالجبن، وصاحوا في وجهه، أنه آثر السلامة، فحملته الحفيظة مع كبر سنه على الركوب في وجه الجيش الفاتح، ومات عند أبواب المدينة تحت سنابك الجيش الظافر
وسمع سلاميش تلك القصة فأفلتت منه زفرة لم يستطع كتمانها، وبات الليلة والأحلام تتخل نومه حتى لاح الفجر، فصحا وهو مضطرب النفس قلق البال
ولكن أعمال اليوم لم تترك له متسعا للتفكير في القناة ولا في همومها، وكان كلما تذكر كلماتها له نازعته نفسه إلى القسوة عليها، ثم لا يلبث أن يلين، وتعاوده رحمته. حتى إذا انقضى اليوم وعاد في المساء إلى خيمته رأى نفسه يسير نحو مكانها، وتقرب إليها وهو يتردد ويترفق ثم وقف إلى جوارها هنيهة وقال بصوت خفيض:
(لعلك اليوم أهدأ مما كنت بالأمس)
فلم ترفع إليه بصرها، بل بقيت جالسة، ورأسها بين كفيها
والتفت إلى خوان بالقرب منها، فرأى عليه طعاما يمسس. فقال وهو يتكلف الهدوء والجفاء:(وهل تريدين أن تموتي جوعا؟)
فلم تجب على قوله، بل حاولت كتم نحيبها.
فقرب منها، وحاول أن يضع يده على رأسها ليرفعه وهو محترس متلطف، ولكنه ما كاد
يلمسها حتى نفرت منه وصاحت به قائلة:
(أقول لك اتركني)
فلم يستطع أن يخالفها، فأبعد يده عنها، وتراجع، ناظرا نحوها، ثم تنفس نفسا طويلاً وخرج وفي قلبه حزن وقلق
وقضى ذلك اليوم موزع القلب كئيبا، حتى لحظ أصحابه كآبته، وعجب جنوده لجفائه ونفرته، فكان لا يأمر إلا متبرما غاضبا، ولا يسمع إلا متجهما ساهما، حتى عجب الناس من ذلك الغضب، في عقب الانتصار، ومن ذلك الضجر لمن كان مثله مكللا بالمجد والتوفيق. وما انتهى من عمله حتى أسرع إلى سرادق، ووقف هذه المرة مترددا وجلا، ودخل في رفق وخشوع إلى مكان الفتاة، فأبصرها على ما كانت عليه في الصباح، والخوان لا يزال إلى جانبها، قد تبدل طعامه، ولا يزال كاملا لم تنل منه شيئا
ونظر إليها مليا ثم قال برفق: (أما تكلمينني؟ إنني أرجوك أن تنظري إلى وتنطقي بما يجول في نفسك ولو كان قاسيا)
ثم مد يده إلى رأسها ومسح عليه متلطفا - ولكنها هذه المرة لم تثر ولم تغضب. وكأن نبرات صوته قد حملت إليها ما في فؤاده من حزن من أجلها. على أنها بقيت ساكنة، وهي جالسة في مكانة كئيبة.
فجلس إلى جوارها ساعة يحاول محادثتها وهي لا تجيب إلا بدمعة تثور بين حين وحين في عينيها فتمسحها بمنديل ثم تعود إلى وجومها وسكونها، فقال لها ولسان ينم عن مقدار عطفه وحزنه:
(إنني لا أريد إيلامك - لأنني لا أستطيع أن أراك متألمة - ولو كان ذهاب ألمك بإبعادك عني لفعلت. ألك أهل في عكا أو في مدينة أخرى من المدن فأرسلك إليهم؟ أن السلطان لن يرد لي طلبا إذا طلبت منه شيئا)
فلم تجبه حتى أعاد عليها القول راجيا مستعطفا - وكان أول ما قالته له أن هزت رأسها نحوه وقالت: (ليس لي أهل - قد قتلهم جميعا) ثم شهقت بالبكاء واسترسلت في هزة مريرة من الحزن
ولم يملك سلاميش نفسه من أن تجيش بالحزن ولكنه تمالك بعد قليل وهدأ من جأشه وقال
لها:
(أنني أرحمك في حزنك ولكني لا أملك دفعه. فقد كان أهلك أعدائي وكنا معا في ميدان قتال يسعون فيه إلى قتلي كما كنت أسعى إلى قتلهم. وهل للشجعان مصير إلا الموت في ميدان الحرب؟ وهل كان أولى بأهلك أن يشهدوا مدينتهم تحطم وتسلب وهم بين هؤلاء الأسرى؟
أنهم لو كانوا بين هؤلاء الأسرى لما ترددت في افتدائهم من أجلك ولكنهم في غير حاجة إلى ولا إليك. إنني قد رأيتك وبهرني حسنك، ثم رأيت حزنك فآلمني حزنك. ثم تكشفت لي كبرياؤك فقهرت كبريائي، ولو شئت أن تبعدي إلى مكان تختارينه لما رفضت لك مشيئة - وإن أحببت المقام هنا - كنت عندي ولا أقول لي حتى تقولي ذلك أنت)
فنظرت الفتاة نحوه وقد زال من عينها ذلك البرق القاسي الذي كان يلوح منهما كلما نظرت نحوه من قبل، وأطالت نظرتها إليه ثم أغضت بعد أن طبعت في خيالها صورته
ولم يذهب سلاميش ذلك المساء إلى خيمته حتى كان قد قاسمها بعض الطعام الذي قدم إليها في ذلك اليوم ولم تنل منه قبل ذلك شيئا
وفي ذلك المساء وفد إلى سلاميش بريد السلطان يحمل إليه أمر الارتحال إلى دمشق بمن معه من الجند. ويأمره فيه بتقسيم الغنائم بين أمرائه وجنوده وبتوزيع الأسلاب من أموال وسبايا. ووهبه نصيبه من ذلك كله جزاء له على بسالته واعترافا له بما كان من نضاله
وبكر سلاميش فذهب في الفجر إلى خيمة الفتاة وهو خفيف الخطوة متهلل النفس إذ كان قد عزم على خطة أملاها عليه قلبه، فرأى الفتاة راقدة على أريكة قضت عليها الليلة لم تذق للنوم طعما؛ فلما وقع نظرها عليه جال على وجهها طيف ابتسامة واعتدلت في مكانها ونظرت إليه وهو قادم نحوها. ولما حياها تحية الصباح ردت تحيته، ثم جلس قريبا منها ولم يكن عند ذلك على عادته من اعتداده بنفسه وكبريائه، بل كان في حديثه خفيض الصوت مهتز الأنفاس.
قال لها: (قد أمرني السلطان أن أتحرك اليوم إلى دمشق بعد أن انتهى الآمر هنا)
فلم تجبه بل نظرت نحوه، كأنما تسأله عن مصير وطنها، ومن فيه من رهطها، وكأنه أحس بما في نفسها من التساؤل فقال:(وقد أراد السلطان العظيم حفظه الله أن يجعل لي حظه من هذه المدينة، فصاحت الفتاة ومدت نحوه يديها: (إذن فالمدينة في يديك) فقال لها:
بل نصيب السلطان منها وسأجعل نصيب من الغنيمة من في المدينة من الأسرى تاركا للجند أموالها وتحفها)
فصاحت الفتاة ووقفت أمامه قائلة (وماذا تفعل بهم؟)
فتبسم سلاميش نحو وقال (هم لك)
فصاحت وصوتها يتهدج من الفرح (هل تفعل؟)
فقام ومد يديه نحو وقال (لقد أكرمني السلطان العظيم بنصيبه، وسيكون أقر عينا إذا علم أين ذهبت به)
فمدت يديها وأمسكت بيديه الممدودتين وقالت (ما اسمك؟) قال باسما (سلاميش) فنظرت إلى وجهه لحظة ثم تركت يديه وأطرقت إلى الأرض فقال (وإنني أود أن أعرف ما تحبين فأنفذه لك فإن دارك هنا لم يمسها أحد من الجنود. لقد عرفت دارك وعرفت أهلك من بعض أهل المدينة وأعدت كل ما أخذ منها إلى مقره، ولك أن ترجعي إلى دارك إذا شئت عزيزة في ظل السلطان العظيم).
فنظرت الفتاة نحوه وترددت قليلا ثم قالت في حياء (وأنت؟)
فقال سلاميش وهو يمانع نفسه من الاضطراب:
(سأذهب إلى دمشق كما أمر مولاي)
فسكتت الفتاة لحظة ثم مدت يديها بحرارة وقالت:
(سلاميش! وأنا كذلك إلى دمشق أسير) ثم ارتمت بين ذراعيه.
محمد فريد أبو حديد
نسيبة
للأستاذ إبراهيم مصطفى
المدرس بكلية الآداب
سيدة من بني الخزرج من أهل يثرب، ولم يكونوا إذ ذاك سموا أنصاراً ولا كان الرسول هاجر إليهم، ولكن حديثه كان يملأ الجزيرة ودعوته تشغل العرب وقرانه يبث بينهم ويتلى، كما كانت الأشعار تنشد وتروى.
وكان أهل المدينة أشد عناية بهذه الدعوة وأحفى سؤالا عنها. فهم أصهار قريش وشركاؤهم في التجارة وحفظة طريقهم إلى الشام وبينهم اليهود أهل الكتاب ورواة المأثور ومجمع الأخبار
وجلست نسيبة في مساء إلى زوجها وولدها يتحدثون في أمر محمد وأنباء دعوته وما حدث في قرآنه، وتلى تال (الر تلك آيات الكتاب الحكيم. أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) وآيات أخرى من كتاب محمد. وعجبت نسيبة للكافرين أن ينكروا على رجل منهم أوحي إليه أن يهديهم وأن يبشرهم وينذرهم، وتساءلت بهذا السحر المبين أين يكون؟ وما هي إلا الدعوة الصالحة والحق الواضح والبيان الجميل. لشد ما ظلم الرسول قومه وبئسما افتروا عليه. واشتاق القوم أن يروا محمداً وأن يستمعوا إلى حديثه ويستزيدوا من قرانه.
وما جاء ميقات الحج حتى كانت القافلة تسير من يثرب إلى مكة في نحو خمسمائة حاج أكثرهم الرجال وقل فيهم النساء ومن بينهم نسيبة. وهاقد أدرك الركب في مكة وتوافى إليها الحجيج من كل فج واستقرت القبائل في منازلها والرسول يسعى إليهم يعرض عليهم دينه ويبين رسالته ويتلو قرانه بل يعرض نفسه أيضاً، لقد ضاق به المقام في مكة ونبا وآذاه أهله في نفسه وفيمن من آمن به، وبالغوا في الإيذاء والتنكيل حتى عاد بينهم كالعاني الأسير أو أنكد. وما يبغي الرسول؟ إنما يريد من العرب قوماً يسعونه حتى يؤدي رسالته، ويحمونه حتى يبين حجته، ثم يدعون من آمن لإيمانه ومن كفر لكفره. وما من قبيلة رضيت هذا أو انشرحت له صدراً إلا جماعة من أهل يثرب واعدهم الرسول إذا انحدروا
من منى أن يوافوه في الشعب الأيمن بأسفل العقبة وأمرهم ألا ينبهوا نائماً ولا ينتظروا غائباً وأن يستخفوا من قريش ويحذروا عيونهم وأرصادهم، وما وافى الموعد حتى كان بين يدي الرسول سبعون منهم. بينهم نسيبة وسيدة أخرى عاهدهم وعاهدوه أن يسعوه بينهم وأن يحموه حمايتهم لأحدهم حتى يبين حجته ويبلغ رسالته. وراحوا بعهدهم يخفون من قريش ومن الناس أن يعلموه، وعادت نسيبة إلى بلدها سعيدة بإيمانها فخورة بعهدها، وقدرت ما يكلفها هذا العهد نفسها على الرمي بالنبل والضرب بالسيف وأعدت لهذا الجهاد ولديها حبيباً وعبد الله.
ودار الزمن وفر الرسول من مكة وهاجر إلى المدينة وتلقاه الأنصار بالنشيد والترحيب، ثم نشبت الحرب بين الرسول وبين المشركين من قريش في يوم (بدر). وشهدها المهاجرون الأولون والأنصار السابقون ونسيبة منهم تسقى من استسقى وتضمد الجرح من جرح، وتشهد غلبة الحق لأول يوم انتصر فيه. وعظم هذا اليوم على المشركين وهم الأكثرون فأعدوا عدتهم وحشدوا للرسول في (أحد) وشهدته نسيبة أيضاً ومعها زوجها وولداها في يمينها السقاء والضماد، واستعرت الحرب وغلب المسلمون ثم نالتهم هزيمة، فما ارتاعت نسيبة إلا لجموع من المشركين تقصد إلى محمد تريد أن تحيط به وتكاد أن تبلغه والمسلمون عنه في ناحية مثقلون بالهزيمة، فألقت السقاء والضماد وسددت بالسهم ورمت عن الرسول بالنبل، حتى التحم به المشركون فشرعت السيف وجالدت القوم حتى جرحت وخارت وارتمت على الأرض مصروعة. وثبت الرسول وهزم عنه المشركون وانجلى من الغمرة ما انجلى وتساءلوا بنسيبة فإذا هي ملقاة يفور دمها من جرح غار بكتفيها. ضمدوا الجرح وسقوها الماء فما تنبهت حتى سألت: وأين الرسول؟ وما صنع المشركون معه؟ إنه لناج وإنه منك لقريب. وجرحك الغائر ودمك السائل وقوتك الموهنة وولداك الناشئان وبعلك الشيخ - كل أولئك منك دون محمد!؟ أجل دون محمد ودون رسالة محمد، لها خرجنا ومن أجلها قاتلنا، ولها نحيا، وفي سبيلها نموت. وبرئت نسيبة ونسيت الفخر إلا بهذا اليوم، وبالأثر الباقي من ذلك الجرح. (روى ابن هشام عن أم سعد قالت: دخلت على نسيبة أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني؛ فقالت: خرجت يوم أحد ومعي وعاء فيه ماء فانتهينا إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت
إلى رسول الله فكنت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي، وأرت على عاتقها جرحا أجوف له غور)
وقد أحسنت السيدة نسيبة تربية ولديها حبيب وعبد الله وملأت قلبهما إيماناً وصدرهما شجاعة وسواعدهما قوة، وعرف رسول الله فضلهما وقدرهما، وأحضرهما المشاهد وجعلهما سفراء ورسلا إلى من شاء من رجال العرب ورؤوس القبائل، أرسل عبد الله إلى اليمن مع معاذ، وأرسل حبيبا إلى مسيلمة الجبار البطاش المتنبئ كذبا في قومه بني حنيفة وهم من أكثر العرب عدداً وأغناهم وأقواهم بأساً. أتدري ما صنع الكذاب بحبيب؟ لا يملك القلم أن يقصه عليك، وبأشق الجهد أن يرويه لك، ففي الجزء الأول من أسد الغابة في ترجمة حبيب (أن رسول الله أرسله إلى مسيلمة الكذاب الحنفي صاحب اليمامة فكان مسيلمة إذا قال تشهد أن محمدا رسول قال نعم، فإذا قال تشهد أني رسول الله قال لا أسمع، فيقطع منه عضواً، ففعل ذلك مراراً وقطعه مسيلمة عضواً عضواً) اهـ
وقبض المصطفى عليه الصلاة والسلام لأجله، وزلزل المسلمون لموته وارتدت من العرب أحياء وجموع، وكان مسيلمة أشد الخصوم لددا وأقواهم كيداً وأكثرهم مالا وعدداً، كاثر بقومه بني حنيفة واعتصم بحصونه في (اليمامة) وصمد إليه خالد بن الوليد بجيش فيه السيدة نسيبة وولدها عبد الله؛ واستعصى أمر مسيلمة وكاد يهزم المسلمون، ثم تجمع نفر من المستبسلين، رموا بأنفسهم مسيلمة لا يبالون إلا أن يبلغوا إليه وينالوا نفسه، وفي هذا النفر نسيبة وولدها عبد الله، أما نسيبة فجالدت بالسيف حتى بتر ذراعها وأما عبد الله فصمد وألح في الهجوم على مسيلمة مستقتلا مستبسلا حتى أدركه وأغمده السيف. مات مسيلمة فماتت الفتنة بموته وتم أمر بني حنيفة مع ابن الوليد صلحاً؛ وعادت نسيبة إلى بلدها بساعد واحد وولد واحد، وهي بما مضى أسعد منها بما بقى. كل إلى فناء، وإنما الفوز والمجد أن يكون في سبيل الحق ذهاب ما ذهب منك
ونسى التاريخ نسيبة وأغمض العين عن بقية أيامها وضن أن يحدثنا بما نحب من ختام جهادها ومواطن مثواها. إلا إن مثواها الجنة، وإن ذكرها في الطيبات لخالد.
إبراهيم مصطفى
من مواقف العروبة
للأستاذ محمد سعيد العريان
من ذلك الفتى الشعاع، يختال في العزم والقوة، والشباب والفتوة، حاسرا عن ذراعه، متقدما على صحابته، قد فرعهم طولا، وبهرهم تماما وحسنا. . .؟
قال أصحاب محمد: (ذلك قزمان المدني. ما نعرف في أصحابه من يفوقه شهامة ورجولة؛ إنه ليعين الضعيف، وينتصر للمظلوم، ويسرع إلى الصريخ؛ لا تني به عزيمته عن أمر يقصد إليه؛ وما تعرف المدينة في فتيانها أغير من على حماه، وأبر منه لأهله. . .!)
قال محمد: (إنه لمن أهل النار. . .!)
واستمع المسلمون لرأي النبي في الفتى الذي اجتمعوا على الإعجاب به والتمدُّح بخلاله، فما راجعوه الرأي ولا ناقشوه العبارة؛ إنهم ليؤمنون بالنبي إيمانهم بكلمة الله؛ وإنهم ليعرفون محمدا أصدق نظراً وأنفذ بصيرة فما تخفى عليه من أصحابه خافية. إنه ليكاد ينفذ إلى سرائرهم جميعا بعينيه الثاقبتين، فيعرف ما تجيش به نفس كل رجل منهم، وإنهم ليعيشون من هذه المدينة في جو من الحذر والتربص، بين المنافقين من أتباع عبد الله ابن أبي بن سلول، وبين اليهود من بني قريظة والنضير؛ فما يسيئون الرأي في واحد بينهم إلا حسبوه عينا وربيئة من عيون المنافقين واليهود؛ فمن يكون (قزمان) بين هؤلاء وأولئك؟ وهل يدري أحد ممن هو وإلى من ينتسب؟ إنه لرجل يعيش في المدينة كما يعش أهل المدينة جميعا، ولكن أحدا منهم لا يعرف عنه أكثر مما يرى منه. . .
وتذامر المشركون من أهل مكة على قتال محمد، واجتمع إليهم من اجتمع من قبائل كنانة وأهل تهامة، يطلبون الثأر لقتلى بدر. وسار جيش الشرك في ثلاثة آلاف مقاتل، ما منهم إلا موتور يحرص على الأخذ بالثأر ولو مات دونه؛ وتطايرت رمال الصحراء تحت سنابك الخيل وأخفاف الإبل، نذيرا بما سيكون في غد بين الطائفتين؛ وسال الوادي يقذف بالزبد رجال على الصهوات تلمع سيوفها تحت الشمس ثائرة مهتاجة؛ وتجاوبت جنبات البادية بحداء الرجال على نواصي الخيل ورنين الدفوف بين الظعائن؛ حتى أشرف الجيش على (أحد) فلتبثوا ينظرون ما يكون من أمرهم وأمر محمد. . .
وخرج محمد وأصحابه سبعمائة رجل إلى لقاء الجيش عند أحد، فما تخلف في المدينة إلا
الصبيان والشيوخ والنساء والعجزة. وما انخزل عنه إلا المنافقون من أتباع عبد الله بن أبي، وتخلف قزمان فيمن تخلف بالمدينة. .!
وغدا قزمان يمشي في طرق المدينة لا يصحبه إلا ظله. أين رفاقه وصحابته؟ لقد خرجوا جميعاً إلى لقاء العدو فما تخلف منهم غيره، ففيم بقاءه ولا بقاء لمثله؟ ولكن فيم خروجه وما يؤمن بما يؤمن به صحابته؟ لقد خرجوا دفاعاً عن دينهم الذي يدينون الله عليه، وذياداً عن الحق الذي يذعنون له، بلى، وحفاظاً على الوطن العزيز أن تطأ ثراه نعال الغرباء. . .
وتحدث قزمان إلى نفسه هُنيَّة: (ما مُقامي هنا وأصحابي هناك؟ وَيْ! وماذا تكون مقالتهم عني وليس في المدينة غيري وغير هؤلاء؟)
هؤلاء كل ما هنا لك: شيخ هم يمشي على عصوين، وأعمى ضرير يتوكأ على عكازته، وطفل لدن يركب عصاه يستبق مع لداته، وعجوز عرقتها الأيام جالسة وراء الباب تنتظر ما يأتي به الركبان من أخبار الحرب، وشابة مخضوبة البنان متوارية في الخباء وأذنها إلى الطريق تتسمع نبأ عن زوجها الذي خرج للجهاد؛ وهذا الفتى وحده. . .!
وعاد قزمان يتحدث إلى نفسه: (. . . وماذا يكون من أمري حين يعود أصحابي أو حين تأكلهم الحرب فلا يعودون؟ بل ماذا يكون إن كانت الهزيمة وعجز الأوسُ والخزرجُ أن تدافعا عن المدينة؟ وما مقامي وكيف أكون إن ظفر العدو واستباح الحمى ووطئت نعاله تراب الوطن. . .؟ يا لأحساب قومي، ويا لعزة بلادي. . . ولكن. . .! يا للعروبة! أتغفر لي أن أقاتل في صفوف محمد وما أنا على دينه؟)
وتوزعته الفكرتان لا تسلمانه إلى رأي فيهدأ، ثم لم يلبث أن خلع الفكرتين جميعا إلى خاطر هفت له نفسه. . .
ومضى يحث الخطا إلى داره (سُلافة بنت طلحة)، يلتمس في الأنس بها ساعة من نهار هدوء البال وراحة النفس. منذ كم لم يجتمع قزمان وسلافة تسر إليه ويسر إليها؟ إن لها في نفسه لمكانا؛ وإن له في نفسه لحديثا يسره أن يلقاها فيحدثها به وتحدثه؛ لقد كانت العيون بينهما حائلة، فهاهي ذي الفرصة قد أمكنته ليجلس إليها ساعة في غفلة العيون. . . وطرق الباب. . .
-: (من؟ من يدق الباب؟)
-: (قزمان. . .!)
-: (ويْ. . .! قزمان؟ وما جاء بقزمان الساعة؟)
-: (سلافة. . .)
-: (حسبتك هناك. . .!)
-: (أتظنين يا سلافة؟)
-: (بل أعتقد. . . قزمان لا يكون هنا وقومه هناك!)
-: (ولكني هنا من أجلك يا سلافة!)
-: (وقومك. . .؟ وأهلك. . .؟ ودينك. . . .؟)
-: (أنت قومي، وأهلي، وديني. . .!)
-: (لست منك يا قزمان إن لم تكن من أهلي وقومي وديني؛ لخير لي أن أفقدك في الجهاد وأنت أحب إلي. . .!)
-: (سلافة!)
-: (سلافة لقزمان البطل المجاهد وليست لك. . .!)
وغادر الفتى فتاته وقد اجتمع إليه هم ثالث، وسار بين البيوت مطرق الرأس، تتناوله نظرات الريبة والحدس. وسمع عجوزاً تتحدث إلى جارتها:(أما سمعت يا عاتكة؟)
-: (ماذا؟)
-: (حسيل بن جابر، وثابت بن وقش؛ إنهما من تعلمين: هل يقوى أحدهما أن يحمل نفسه من الهرم والضعف؟ لقد لحقا اليوم برسول الله يرجوان المثوبة في الجهاد أو الشهادة، وما عليهما والله إن بقيا في الآطام مع النساء والصبيان، وما منهما إلا له اخوة أو ولد في الحرب يكفون عنه. .!)
قالت صاحبتها: (بلى، قد علمت يا أختاه! فهل جاءك أن عمرو بن الجموح لم يمنعه من الحرب أنه يمشي برجل واحدة، وأن له بنين أربعة مثل الأسد يشهدون المواقع مع رسول الله؟)
وسمع الرجل ما تتحد به المرأتان، فكأنما كانت ترجمانه بالحجر فما يستطيع أن يتماسك مما ينهال عليه. واستمر يمشي وكأنما تستعر الحرب في رأسه لا في الميدان البعيد
ومرت به (نسيبة بنت كعب)، تحمل سقاء فيه ماء، فاستوقفها يسألها عن خبرها فما أجابت نداءه؛ لقد كانت في طريقها إلى أحد، لتقوم بما تقدر عليه في صفوف المجاهدين. .!
وعاد قزمان يتحدث إلى نفسه: (ويلي! ما أنا هنا والحرب هناك؟ وما يكون من أمري غدا على الحالين: في النصر والهزيمة؟ أفراراً من الموت؟ أنكوصا عن الواجب؟ أكفراً بالوطن والأهل والعشيرة؟ ألا إنه يومك يا قزمان، فليجاهدوا هم في سبيلهم، وليكن جهادي معهم لأجل الوطن. . .!)
وترامت السهام، وبرقت الأسنة، والتفت السيوف، وابتدأت المعركة بين الجيشين وقزمان غير بعيد؛ لقد أدرك الجيش ولما يبدأ النضال، فما فاته أن يشهد المعركة من البداية
من ذلك الفتى الشعشاع، يختال في العزم والقوة، والشباب والفتوة، حاسراً عن ذراعه والسيف في يده، يحتز الرءوس، ويقطع الأوداج، ويلقي الرعب في قلوب الأعداء؟
إنه قزمان نفسه؛ لقد قاتل في ذلك اليوم قتالا شديداً، وأبلى بلاء حسناً، فما وضع السيف حتى أثخنته الجراحة.
والتف المسلمون حول قزمان يخففون عنه ما ناله من أذى القتال، وما منهم إلا معجب بصبره وقوة بلائه، فهم يقولون:(والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر!) قال: (بماذا أبشر!) فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. . .)
ونظر المسلمون بعضهم إلى بعض ثم انفضوا. . .
(إنه لمن أهل النار!) هكذا كان يقول عنه محمد. صدق رسول الله!
ونظر قزمان إلى نفسه، فإذا هو يتلاشى نفسا في نفس، وذكر صنيعه في ذلك اليوم، فعادت إليه الفكرتان الأوليان تصطرعان في نفسه، لا تسلمانه إلى رأي فيهدأ. أي الخطتين كانت أهدى سبيلا: أن يدع هذا الدين تمزقه أعداؤه وتمزق معه أهله وعشيرته شر ممزق، أو يقاتل في صفوف قومه دفاعاً عن أحسابهم؟
أما إنه لا سبيل إلى ما فات. لقد أدى واجبه لوطنه، ولكن. . . ولكنه غير مستريح إلى ما كان منه. . .
ونزت به نازية، فلم يجد لنفسه خلاصا من عذاب الفكر إلا بالموت، فاتكا على سيفه فأزهق نفسه. . .!
يا لله! لقد نفذت إلى نفسه بارقة من شعاع هدته سبيل الوطنية، ولكن قلبه ظل في ظلمات من الضلال والشرك.
لو عرف ذلك الدين الذي جاهد له يومه الأخير، لأشرق له الدنيا كلها، وانبثق الصبح في قلبه، ولمات يوم مات تشيعه الملائكة وتهزج له أناشيد الخلود!
ليته عرف! ولكن، حسبه أنه كان مثالا في الوطنية، ليت كثيراً يعرفونه. . .!
(شبرا)
محمد سعيد العريان
بين حراء. . . وعرفات
للأستاذ عبد المنعم خلاف
وقف الرجل الذي تلخص فيه مجد الإنسان وتحقق به وشاع منه على عرفات في حجة الوداع، وقد احتشدت حوله في ذلك الرحب الصامت الرهيب الذي فيه أول بيت وضع للناس، الأزمان والدهور وأرواح الملأ الأعلى والرسل والحكماء وأعضاد الإنسانية وحاملي المشاعل على طريقها، وأفواج الخلائق من عالم الذر والبرزخ، وأجساد أولئك المتجردين من لبس المحيط والمخيط من صحابته المخبتين. . ومن فوق الحشد الخفي والمستعلن ينظر وجه الله ذو الجلال إلى عبده ورسوله وهو يلقي الكلمة الخاتمة البلاغ الأخير بالآيات المنزلة من حول العرش:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). . . ويعلن حقوق الإنسان وواجباته ويسأل الجموع المحشودة: هل بلغت؟ فتردد البطاح والأودية والشعاب التي كان يأوي إليها في طلب الهدى ثم في التخفي بالدعوة ثم في الجهاد لها - الجواب الإجماعي في إقرار وشكران
وما بد من أن الكلمة الأولى: (اقرأ باسم ربك. . .) التي طالعه بها الوحي في (حراء) كانت تتردد على سمعه في تلك البرهة الخالدة، فتتوالى أمام مخيلته عزائم جهاده في الأرض التي كان كل قديس فيها رجسا، وكل بَرَّة فَجْرة، وكل امرئ آثما في عقيدة القلب، خرفاً في رأى العقل، ضارياً في معاملة الخلق، طفلا في طقوس العبادة. . . أيام أن كان يتخفى بالغار في حيرة وانفراد ورهبة وصمت وشك وفراغ، وأعصاب مرهفة، وقلب مفجوع بالضلالات المعقدة، وعقل عظيم، ولكنه أمي ينظر إلى كون مبهم مختلط نظرا لا يقع إلا على قمم الجبال وصفرة الرمال وأمم تحنو على أصنام من الأناسي والأحجار والأخشاب، ومواكب من النجوم تبدأ كل يوم من الشرق وتروح إلى الغرب في قهر وصمت وطواعية ووجوم. . . وهو ذا الآن على عرفات في استعلانٍ ومعرفة وحشدٍ وطمأنينة وضجة ويقين وامتلاء في العقل من عالم الشهادة، وفي الروح من عالم الغيب، وفي اليد من أجساد العباد الذين لم يؤمنوا به حتى أحبوه أكثر من نفوسهم التي بين جنوبهم، فهم في يده يقذف بهم على كل أفق وتحت كل كوكب ليكونوا امتدادا منه وظلا من دعوته. . وقد امتلأ قلبه بالأمل الواثق بان الله متم نوره ومعل كلمته. وقد شبع عقله من جوع إلى المعرفة واتصلت به شرارة
الوحي، وانتهت إليه ينابيعه فأضاء وصفا وعمق، ففيه لبني الإنسان الهدى والحلي والطهر.
وقد تعوض نظره من رءوس الجبال التي حول حراء، برءوس خاضعة من النساء والرجال الذين رباهم ثلاثا وعشرين حجة في كل يوم بآية من الكتاب أو جملة من بيانه أو فعلة من سلوكه أو إيماءة أو صمت. . حتى صقلوا وصاروا أناسا كالنجوم المصابيح.
بين الكلمة الأولى الآمرة المغرية المثيرة لعقله وروحه بقصة خلق الإنسان ذلك الكون العجيب من علق، وقصة القلم ذلك الشيء العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات بين البنان واللسان:(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربُّك الأكرمُ الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وبين الكلمة الأخيرة المخبرة الهادئة الممتنة بكمال الدين واختيار الطريق: (اليوم أكملت لكم دينكم. . .). . . دار الفلك ثلاثا وعشرين دورة على محور من ذلك الرجل الذي كان عقله مرآة لما يدور في السماء حول صلاح عمار الأرض. وهاهو ذا يقف معلنا (أن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) وأن حركة بدء واستهلال وولادة ثانية للإنسانية تتمخض عنها الأيام الوالدات. . .
وإنها لكلمة ثقيلة التبعات لأنها حديث عن ابتداء الزمن واستدارته كهيئته في اليوم الأول.! ومنذا الذي يجرؤ على الحديث بها إلا أن يكون نبيا؟
إذاً هو الأب الثاني للبشر ولدت منه الإنسانية ولادة روحية وعلية كما ولدت من آدم بالجسد. ألم يستدر الزمان معه كما بدئ مع آدم؟ ألم تبلغ البشرية به رشدها وتترك طفولتها وسفهها ووقوفها عند المجسمات من الأرباب والمعجزات؟ ألم يسلمها مفاتيح الطبيعة ويهب بها إلى الفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكيف بدأ الخلق؟ ألم يرفع الحجب والشفاعات بينها ويبن ربها الأقرب إليها من حبل الوريد؟ ألم يمح الفوارق بين أجناسها وألوانها وأوطانها كما يمحو الأب الحاني الفوارق بين بنيه من الجسد والروح؟ ألم ينهها أن تقفوا ما ليس لها علم وأن تتبع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا؟ ألم يدعها إلى أن تؤمن بجميع الرسل والأنبياء وبما أنزل الله من كتاب؟ ألم يعلن حقوقها وواجباتها وأخوتها ومساواتها والعدل بينها؟ (لأن ربها واحد وأباها واحد) ألم يترك لها ميراثاً خالداً منظماً مستوعباً شؤونها وحيوانها في البيت والجماعة والحرب والسلم والعاجلة والآجلة؟
ولم يترك موقفه الأخير منها وهي أمامه في عرفات ممثلة في الحبشي بلال الأسود والرومي صهيب الأصفر والفارسي سلمان الأبيض والعربي في العدد الأكثر إلا وقد أخذ منها قراراً بإبلاغه الأمانة وأدائه الرسالة وأشهد الله على ذلك. ولو سكتوا لنطق الحصى الذي كان يرجم به في بدء الدعوة وحطام الأصنام التي هشمها بيمينه في يوم الفتح. .
أيها الرسول المنقذ! كلمة إقرار بالبلاغ يرسلها القرن الرابع عشر في فجر عام جديد لتلحق بإقرار صحابتك في فجر القرن الأول ويوشك الزمن أن يأخذ هذا الاعتراف من أفواه أهل الأرض جميعاً بعد أن ابتدءوا يعرفونك وينصفونك.
لقد بلغت كتاب الدنيا ورسالة كل شيء، إلى القلوب السليمة الكبيرة فجعلت من كل شيء محراباً تقف فيه لعبادة الله ذي المجد، وحب الحق والخير والجمال. .
ولا يزال صوتك يدوي في الآفاق مخترقاً أربعة عشر قرناً بسرعة الشمس والضوء، ولن يزال كذلك يعلن الكلمة التي أضاءت لها الظلمات وقام عليها صلاح العالم.
الحقوق والواجبات التي خصصت حياتك لتقريرها وأعلنتها في الخطبة الجامعة على الحشد الذي لم تلقه بعد كما توقعت. . صارت أبجدية الإنسانية ومزمور أمانيها، حملها العباد الذين كلفتهم حملها ممن شهدوا مقامك وسمعوا بلاغك أو سمعوا به،. حملوها أنهارا تجري من الصحراء أرض الجفاف إلى الوديان والسهول المخصبة بالنبات، الكزة المجدبة من فضيلة الإنسان فأمرعت بالخير والحق والجمال والسلام
وقد ثارت البشرية لهذه الحقوق بعدك ثورات عدة كلما بدأت رءوس الأصنام البشرية أو الحجرية تتحرك بعد أن قمعتها وحطمتها ببرهانك وفيصلك. . فالثورة الإنجليزية لإقرار الشورى، والثورة الفرنسية لإعلان حقوق الإنسان. . إنما هما صدى يحكى في خفوت وضآلة وبطء وتخلف، ثورتك الكبرى على الأرباب الزائفين والطواغيت وعناصر الدمار والفساد التي تأفك الإنسانية وديعة الله في الأرض وتصرفها عن وجه الله ذي الجلال ومقام الحق ونصاب العدل
وشتان ما بينهما وبينهما! إنها ثورة رجل يهتف في بوق النبوة له قلب فيه مدد من هدى الوحي، وسلام من رحمة الروح، وله يد بريئة من الإثم والجبروت تضرب أحياناً بمبضع الطبيب لإذهاب الألم لا لإحداثه. وكلاهما وبخاصة الفرنسية ثورة دامية قاسية عمياء
ضارية، قامت بها أيد أرضية حيوانية فيها أظافر ومخالب. . تدفعها قلوب فيها أطماع وغل وحقد مؤرث. ومن عماها أكلت الحطب والأيدي التي كانت تقدمه، ولطخت وجه الحرية بمآثم وشناعات لا تزال تغض منها وتثير حول ذكراها سخطا واشمئزارا، والتاريخ ميزان.
(بغداد)
عبد المنعم خلاف
الخلود
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
أمل حلو زاد التعلق به فلبس ثوب الحقيقة، وخيال عذب طاب لنا أن نسبح وراءه فاكتسى بكساء الواقع، وغيب شغفنا بالبحث عنه حتى كدنا نبرزه في مظهر الحاضر، وسلوة نتسلى بها عن الحرمان أو عثور الجد وسوء الطالع، وثار من الموت ذلك الخصم العنيد الذي يحمل الشاب على الرحيل في عنفوان شبابه، ويرغم الشيخ على السير وأن تباطأ به ركابه. فهو إذن عون على الحياة وامتداد لها: عون على ما فيها من بؤس وشقاء والآم وويلات، وكثيرا ما نستطيب شدة اليوم في سبيل فرج الغد؛ ووصلة لأجل وإن طال قصير، وعمر وإن بغل أرذله عزيز، وعيش وإن ساء مرغوب فيه. وربما كان حب الحياة أول ملهم بتجددها، وكانت غريزة الاحتفاظ بها أول دافع للقول باستئنافها. وقد صور الإنسان هذا الاستئناف وذلك التجدد بصور شتى وأشكال متباينة هي في جملتها صدى لرغباته ونزعاته وميوله وأهوائه، أو انعكاس لعالمه الحاضر والحياة التي يحياها. فتصور الهمجيون الذين يعيشون عيشة السلب والنهب والقتل وسفك الدماء الخلود على أنه عودة للإنسان في شكل مارد جبار شيطان رجيم يثأر لنفسه ممن عدا عليه. وظنه بعض المتحضرين ضربا من اليقظة يرفل فيه المرء في حلل السعادة وآيات النعيم، ولهذا أعدوا في القبور وسائل الزينة والزخرف ولذيذ الطعام والشراب. ثم جاءت التعاليم السماوية فصورته في صورة أسمى، وكسته بكساء أفخم، وأغدقت على الحياة المقبلة متنوع الأوصاف بين مادية وروحية وحسية وعقلية كي تقنع العامة والدهماء وترضي المفكرين والعقلاء
كم كنا نود أن يبقى للخلود حلاوة الأمل فنسير وراءه سيرا أعمى، وعذوبة الخيال فنتعلق به في شوق وحرارة راغبين مخلصين، وحرمة الدين فنؤمن به إيمانا جازما لا يساوره شك أو ارتياب ولا يعزوه برهنة أو استدلال. ولكن العقل الذي منحنا إياه وبلينا به في آن واحد يأبى إلا أن يعكر علينا بعض الصفو ويحرمنا من أحلام لذيذة. فيفلسف ما لا صلة له بالفلسفة، ويبحث ويعلل فيما يسمو عن البحث والتعليل، ويقيس ويستنبط فيما لا يخضع لمبادئ القياس والاستنباط. وقد سرت عدواه إلى موضوع الخلود منذ عهد بعيد، فأخذ يتفهم
سره وغايته ويبرهن على إمكانه أو ضرورته. وليس ثمة فلسفة إلا قالت في الخلود كلمتها بالإيجاب أو السلب، بالقبول أو الرفض، وأي فيلسوف لم يتساءل من أين جئنا وإلى أين نذهب ولم يبحث عن المصدر والمرد والمبدأ والمعاد؟
فاليونانيون وإن كانوا قد شغلوا بالكون وتغيراته والحياة الحاضرة وقوانينها لم يفتهم أن يدلوا في هذا الموضوع الخطير بآرائهم. ورجال القرون الوسطى كان لابد لهم أن يبدئوا فيه ويعيدوا ويعترضوا ويجيبوا، فهو من فلسفتهم الدينية في صميمها ونقطة هامة من نقط التوفي بين العقل والنقل التي ملكت عليهم أذهانهم. وفي التاريخ الحديث نرى الروحيين والماديين بين مثبتين للخلود ومنكرين. وإذا شئنا أن نمثل لكل عصر من هذه العصور برجل فهناك شخصيات ثلاث لا يكاد يذكر موضوع الخلود إلا ذكرت، ولا نظن أن آخرين سواها تمثل عصرها في هذا الباب تمثيلها، ونعني بها أفلاطون، وابن سينا، وكانت.
فأما أفلاطون فهو من غير شك أكثر فلاسفة اليونان اشتغالا بالخلود وأول من حاول أن يبرهن عليه برهنة عقلية منطقية. تحدث عنه عرضا في غير ما موضع، ثم لم يقنع بهذا فوقف عليه محاورة مستقلة مشهورة هي (فيدون). وفيها يجري ذلك الحديث العذب الأخاذ على لسان أستاذه سقراط ومن حوله من الأتباع والتلاميذ. وأفلاطون روائي ماهر وقصصي مبدع يعرف كيف يضع روايته ويرتب قصته ويتخير أبطاله ويرسمهم بريشة المصور الفنان. فهو يدع (سقراط) المتهم البريء الذي يرقب الإعدام بين عشية أو ضحاها، والحي الذي يسعى إلى الموت في خطى حثيثة رزينة راغباً لا راهباً ومختاراً أو شبه مختار، يتحدث عن خلود الروح في آخر يوم من أيام حياته فما أجل المحدث وما أنسب الظرف وما أروع الحديث! ولسقراط سنة معهودة في حواره من استيلاء على نفوس محاوريه وإرشاد إلى سبل القول وهداية إلى مواطن الضعف وافتنان في وسائل الإثبات. وتكاد ترجع برهنته على الخلود إلى نقط ثلاث: برهان التضاد وبرهان المشابهة ثم برهان المشاركة. فنحن نلاحظ أولا أن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وأن الأكبر يتولد عن الأصغر والأحسن عن الأسوأ؛ فهناك تبادل دائم بين الأضداد. ومادام الموت والحياة ضدين فهما متعاقبان. وقديما قالت الأرفيه والفيناغورية بالتناسخ وتداول الأجيال البشرية! وبهذا يخرج الحي من الميت كما يخرج الميت من الحي، وتبقى النفس رحالة متنقلة من
جسد إلى جسد دون أن يطرأ عليها عدم أو فناء. ونسلم ثانيا مع أفلاطون أن النفس تدرك المثل والحقائق العامة الأزلية الباقية! والشبيه وحده هو الذي يدرك الشبه. فلابد أن يكون للنفس ما للمثل من ثبوت وبقاء. وأخيراً لنفس مشاركة للحياة بذاتها ومنافية للموت بطبعها، فهي بحسب مدلولها وحقيقتها حياة. ولا يمكن أن يجتمع في ماهية واحدة ضدان! فالنفس حياة فقط ولا تقبل الموت بحال، وأني لأتساءل بعد كل هذا هل وفق أفلاطون في برهنته؟ إذا اختبرنا أدلته لم نتردد في أن نجيب بالسلب، فإن فكرة صدور الصد عن ضده مرفوضة من أساسها، ونظرية التناسخ واضح بطلانها. ولا نظن أن أحدا يسلم اليوم مع الإغريق أن الإنسان لا يدرك إلا ما يشابهه. فإنا لو قبلنا هذا لوقفنا بالمعلومات الإنسانية عند دائرة ضيقة، ولم يبق بين علماء الحياة من يقول بذلك المذهب النفسي القديم الذي كان يعد النفس في آن واحد مصدر الحياة والحركة والإحساس والتفكير. على أن أفلاطون نفسه كان على بينة من حرج موقفه وخطورة مهمته وضعف حجته، فأنه يصرح على لسان سمباسي أن العلم بحقيقة الخلود ممتنع أو جد عسير في هذه الحياة. وجدير ببحث كهذا أن يوضع في قالب القصة وكفى، لا أن يصاغ بصيغة الأقيسة والبراهين
وسواء أوفق أفلاطون في برهنته أم لا فإنه قد سن سنة استمسك بها من جاء بعده، أو نهج نهجا حبب إلى الخلف السير فيه، فأنزل الخلود من السماء إلى الأرض، وأحل فيه منطق العقول محل همس الضمائر والقلوب. وكان من أكبر فلاسفة القرون الوسطى تأثرا به في هذا الصدد ابن سينا الذي قد يردد بعض أدلته أحيانا أو يؤيدها ويدعهما أحيانا أخرى، لاسيما وقد توفر لديه ما لم يتوفر لدى أستاذه! فقد وقف على الوحي الإلهي الذي صير الخلود عقيدة بعد أن كان مجرد أمل ورجاء، وسمع لغة القرآن الصريحة في الحشر والنشر والبعث والقيامة، فرأى لزاما عليه أن يربط هذه التعاليم الدينية بالبراهين الفلسفية، وفي خيال حلو هو أشبه ما يكون بخيال أفلاطون يقص علينا قصة هبوط الروح من عالمها العلوي ومقامها في هذا العالم الفاني ثم عودتها إلى بحر اللانهاية حيث الأبدية والخلود
هبطت إليك من المحل الأرفع
…
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة ناظر
…
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما
…
كرهت فراقك وهي ذات توجع
إن كان أهبطها الإله لحكمة
…
طويت عن الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لاشك ضربة لازب
…
لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية
…
في العالم فخرقها لم يرقع
ولا يقف ابن سينا عند هذا الشعر وهذا الخيال، بل يأبى ألا أن يبرهن على خلود الروح برهنة منطقية ويثبته إثباتاً فلسفياً، فيقرر أن النفس وهي جوهر بسيط لا يمكن أن تشتمل على مبدأين متناقضين، وقد ثبت أنها حياة بفطرتها وطبيعتها فلا يمكن أن يكون فيها أي استعداد للفناء. وفوق هذا سواء لديها أبقي الجسم أم فني، فإن صلتها به ليست صلة ارتباط وتلازم متبادل، بل صلة سيد ومسود ومالك ومملوك. ولن يضير السيد في شيء ما قد يلحق عبده من التغير، كما لا يؤثر في شخص المالك ما قد يطرأ على ملكيته من الفساد. فالنفس هي المتصرفة في البدن والمدبرة لأمره، ولن ينقلب الآمر مأموراً ولا المتأثر مؤثراً. بيد أن حظ ابن سينا في هذه البرهنة الفلسفية والأدلة العقلية ليس أعظم من حظ أفلاطون. فإن الجوهر البسيط الذي يفترضه هو موضع البحث والمنافسة ومثار الأخذ والرد، وصلته بالجسم لا تزال حتى اليوم عقدة العقد ومشكلة المشاكل؛ ولم يتوصل أنصار المذهب الروحي على اختلافهم إلى حلها أو الفصل فيها بقول جازم
ولقد تنبه (كانت) إلى هذا التهافت في البرهنة والقصور في الإثبات. فرفض في كتابه (نقد العقل المجرد) الأدلة التي تساق لإثبات خلود الروح وأبان أنها غير موصلة. وما كان للعقل أن يهتدي إلى شيء يقيني في دائرة الأمور المغيبة؛ وفي هذا ما يسمح للنقل أن يحتفظ لنفسه بمكان في جانبه، وما يهيئ للوحي والإلهام الفرصة أن يكملا نقص البحث والنظر. خصوصا والتبعة الأخلاقية لا قيام لها بدون الثواب والعقاب والحساب والمسئولية، والواجب في حاجة ماسة إلى تأييد الدين ونصرته. لهذا نرى (كانت) يعود في كتابه (نقد العقل العملي) فيحاول إثبات خلود الروح عن طريق الأخلاق بعد أن أظهر أنه لا يمكن إثباته فيما وراء الطبيعة. وذلك أن الخير الأسمى الذي ننشده والسعادة الحقة التي نسعى إليها لا سبيل إلى تحقيقهما في حياتنا الحاضرة القصيرة. فإن شئنا أن يكون للواجب الذي ننادي به قيمته وللأخلاق التي ندعو إليها جلالها وحرمتها فلابد أن نجزم بخلود الروح. ولاسيما والعدالة تأبى كل الأباء أن يكون جزاء الفضيلة هو الإعدام، وأن يستوي البر
والفاجر في مصير واحد وفناء لا رجعة بعده. وكأني بكانت يردد، هو كذلك، فكرة تنبه لها أفلاطون ويوضح معنى أشار إليه من قبل شيخ الأكاديمي في جمهوريته؟ غير أن هذا البرهان الأخلاقي ليس أكثر إقناعا من سابقيه؛ وكل ما يمتاز به أنه أقرب إلى فكرة الخلود وأكثر تلازما مع طبيعتها وأميل إلى جانب القلب والعاطفة من تلك الأدلة العقلية الصرفة. وما أشبهه بالغرض منه بالبرهان والمبدأ يسلم به احتراما وتقديسا لمبادئ أخرى.
والحق أن الخلود ليس مما يبرهن عليه برهنة عقلية منطقية. وما كان أغنى الفلسفة أن تغامر بنفسها في هذا المضمار وأن تنزلج في هذا المأزق الحرج. في مقدورنا أن نقول إنه ممكن أو محتمل أو ضروري، ولكن لا سبيل لنا بحال أن نقرر اعتمادا على عقولنا وحدها أنه أمر واقعي. وأنى لنا ذلك ومن وصلوا إلى مرتبة الخلود يأبون أن يعودوا إلى حياة قاسوا فيها الأمرين، ولاقوا ما لاقوا من جهد وعناء؟ ولم يصل استحضار الأرواح بعد إلى درجة اليقين وليس في وسائله ما يبعث على الثقة والطمأنينة. وإذا كان العقل عاجزا عن إدعام الخلود وإثباته فهو أعجز عن دحضه وإنكاره. وخطأ أن يزعم أنصار المذهب المادي أن تجربتهم لا تسلم بحياة بعد هذه الحياة، وأن بحثهم يرفض أي وجود بعد هذا الوجود. فإن للتجربة ميدانا لا تتجاوزه، وللبحث العلمي دائرة لا يتعداها؛ ومن العبث أن نتكلم باسم العلم في دائرة تسمو على العلم، وأن نفسر عالم الغيب الفسيح بقوانين عالم الشهادة المحدود. ولن يضير الخلود في شيء أن تعجز عقولنا الضعيفة عن الانتصار له فأنه يستمد جلاله ورهبته من مصدر أسمى ومقام أرفع. ولن يعيبه مطلقا أن تقصر لغة أهل الأرض في بيانه فأنه من خصائص سكان السماء ووقف عليهم. هو أمر خارج عن عالم الفناء وحقيقة مخالفة لما ألفه المحدثون، وما كان لفان أن يدرك إدراكا واضحا ما يتنافى وطبيعته ألا أن عرج إلى سماء الخالدين
إبراهيم مدكور
نتاج العبقرية المنسية
في الحسن بن الهيثم
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يفكر الدكتور النابغ الأستاذ مشرفة عميد كلية العلوم للجامعة المصرية في إقامة مهرجان لأحياء ذكرى ابن الهيثم في العام المقبل بمناسبة مرور 900 عام على وفاته
ولا عجب إذ فكر العميد في هذا، فابن الهيثم من عباقرة العرب الذين نبغوا في الطبيعة والرياضيات والهندسة وقدموا جليل الخدمات لها، ولولاه ما كان علم البصريات (الضوء) على ما هو عليه الآن
ويؤلمني أن أقول إنه لو كان ابن الهيثم من أبناء أمة أوربية لرأيت كيف يكون التقدير وكيف يذاع اسمه وتنشر سيرته على الناس وتدخل في برامج التعليم ليأخذ منها الأجيال إلهاماً وحافزاً يدفعهم إلى الاقتداء به والسير على طريقته
أليس في عدم معرفة ناشئتنا وشبابنا شيئاً عن ابن الهيثم إجحاف وعيب فاضح؟ أليس إهمالا منا أن نعرف عن بطليموس وكيلر وباكون أكثر مما نعرف عن ابن الهيثم؟
ألا يدل هذا على نقص معيب في برامجنا الثقافية القومية؟ ولا يظن القارئ أن ابن الهيثم وحيد في هذا الإجحاف والإهمال فليس حظ أكثر علماء العرب ونوابغهم وعباقرتهم بأحسن من حظه، فها هي ذي حياتهم ومآثرهم لا تزال محاطة بغيوم الغموض وعدم الاعتناء وهي في أشد الحاجة إلى أناس يتعهدون إزالة الغيوم وإظهار المآثر على حقيقتها للناس. ولاشك أن في إظهارها إنصافاً لهم وخدمة للحقيقة، كما أن في عرضها على الناشئة من العوامل التي توجد فيهم الاعتزاز بالقومية والاعتقاد بالقابلية وشعوراً يدفعهم إلى السير على نهج الأجداد في رفع مستوى المدنية. ولا يخفى ما في هذا كله من قوى تدفع الأمة إلى حيث المجد والسؤدد، قوى تمهد السبل لتقوم (الأمة) بواجبها نحو نفسها ونحو الإنسانية فتساهم في بناء الحضارة وإعلاء شأنها
والآن نرجع إلى ابن الهيثم فنقول إنه ظهر في أوائل القرن الخامس للهجرة في البصرة ونزل مصر واستوطنها إلى أن مات سنة 1038م. وقد عرف الأقدمون فضله وقدروا نبوغه وعلمه فقال ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن الهيثم فاضل النفس قوي الذكاء متفننا في
العلوم لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه، وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف وافر التزهد. . .) وقال ابن القفطي:(إنه صاحب تصانيف وتآليف في الهندسة، كان عالماً بهذا الشأن متقناً له متفننا فيه، قيما بغوامضه ومعانيه، مشاركا في علوم الأوائل أخذ عنه الناس واستفادوا. .)
وكذلك عرف الإفرنج قيمة ابن الهيثم فأنصفوه بعض الإنصاف واعترفوا بتفوقه وخصب قريحته فنجد دائرة المعارف البريطانية تقول: (إن ابن الهيثم كان أول مكتشف ظهر بعد بطليموس في علم البصريات. . .)
وجاء في كتاب تراث الإسلام: (إن علم البصريات وصل إلى أعلى درجة من التقدم بفضل ابن الهيثم) واعترف العالم الفرنسي لوتير فياردو بأن كبلر أخذ معلوماته في الضوء ولاسيما. ما يتعلق بانكسار الضوء في الجو من كتب ابن الهيثم. ويقول سارطون (إن ابن الهيثم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله. . .).
ولعل الأستاذ (مصطفى نظيف) أول عربي في هذا العصر أنصف ابن الهيثم بعض الأنصاف ووقف على التراث الضخم الذي خلفه في الطبيعة ولاسيما فيما يتعلق ببحوث الضوء. قال الأستاذ نظيف في مقدمة كتابه النفيس الفريد (البصريات) ما يلي:. . (والذي جعلني أبدأ بعلم الضوء دون فروع علم الطبيعة الأخرى أن علماً ازدهر في عصر التمدن الإسلامي وكان من أعظم مؤسسيه شأناً ورفعة وأثراً الحسن بن الهيثم الذي كانت مؤلفاته ومباحثه المرجع المعتمد عند أهل أوروبا حتى القرن السادس عشر. . .) فلقد بقيت كتبه منهلا عاماً نهل منه أكثر علماء القرون الوسطى كروجر باكن وكبلر وليونارده فنسي وبووتيلو وغيرهم. وكتبه هذه وما تحويه من بحوث مبتكرة في الضوء هي التي جعلت ماكسي وماير هوف يقول صراحة: (إن عظمة الابتكار الإسلامي تتجلى في علم البصريات. . .)
ومن أهم كتب ابن الهيثم وأكثرها استيفاء لبحوث الضوء كتاب (المناظر) ويتبين من هذا الكتاب أن ابن الهيثم هو الذي أضاف قانون الانعكاس القائل بأن زاويتي السقوط والانعكاس واقعتان في مستوى واحد. وقد أدخل فيه أيضا مسائل مهمة عرفت (بمسائل ابن
الهيثم) اشتهر بعضها كثيراً كالمسألة الآتية: إذا علم موضع نقطة مضيئة ووضع العين، فكيف تجد على المرايا الكرية والأسطوانية والمخروطية النقطة التي تتجمع فيها الأشعة بعد انعكاسها. ويعود سبب شهرة هذه المسألة إلى صعوبات هندسية تظهر في أثناء الحل إذ ينشأ عن ذلك معادلة من الدرجة الرابعة استطاع أن يحلها (ابن الهيثم) باستعمال القطع الزائد. وأجرى تجارب عديدة تبين له منها أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة أثناء سيره في الهواء أو في وسط آخر، وأن الضوء إذا سار من وسط إلى وسط آخر انعطف عن استقامته. وقاس كلا من زاويتي السقوط والانكسار وبين أن بطليموس كان مخطئاً في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاويتي السقوط والانكسار ثابتة، وقال بأن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير ولكنه على الرغم من ذلك لم يوفق إلى إيجاد القانون الحقيقي للانكسار. واستعمل آلة لإيجاد العلاقة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار وهي تشبه الآلة التي نستعملها الآن. وعمل جداول أدق من جداول بطليموس في معاملات الانكسار لبعض المواد. وأتى على تجارب عديدة اثبت فيها انعطف الأشعة عند سيرها من وسط شفاف إلى وسط آخر شفاف. وقد شرح في بعض كتبه الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار فكان أسبق العلماء إلى ذلك. ومن هذه الظواهر التي ذكرها وشرحها الانكسار الفلكي أي أن الضوء الذي يصل إلينا من الأجرام السماوية يعاني انكساراً باختراقه الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض، ومن ذلك ينتج انحراف في الأشعة، ولا يخفى ما لهذا من شأن في الرصد. فمثلا يظهر النجم على الأفق قبل أن يكون قد بلغه فعلا، وكذلك نرى الشمس أو القمر على الأفق عند الشروق والغروب وهما في الحقيقة يكونان تحته. ومن نتائج الانكسار أن قرص الشمس أو قرص القمر لا يظهر بالقرب من الأفق مستديراً بل بيضوياً. هذه الظواهر وغيرها استطاع ابن الهيثم تعليلها تعليلا صحيحاً واستطاع أيضاً الوقوف على أسبابها الحقيقية. ومن الحوادث الجوية التي عللها الهالة التي ترى حول الشمس أو القمر. وقال بان ذلك ينتج عن الانكسار حينما يكون في الهواء بلورات صغيرة من الثلج أو الجليد فالنور الذي يمر فيها ينكسر وينحرف مع زاوية معلومة، وحينئذ يصل النور إلى عين الرأي كأنه صادر من نقط حول القمر أو الشمس فتظهر الأشعة دائرة حول الجرمين المذكورين أو حول أحدهما. وهو من الذين لم يأخذوا برأي اقليدس واتباع بطليموس القائل
بأن شعاع النور يخرج من العين إلى الجسم المرئي، بل قال بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين. وبحث في كتابه أيضاً في قوى تكبير العدسات؛ ويرى كثيرون إن ما كتبه في هذا الصدد قد مهد السبيل لاستعمال العدسات في إصلاح عيوب العين. وكتب في الزيغ الكرى وفي تعليل الشفق وقال انه يظهر ويختف عند ما تهبط الشمس 19 درجة تحت الأفق، وأن بعض أشعة النور الصادرة من الشمس تنعكس عما في الهواء من ذرات عائمة وترتد إلينا فنرى بها ما انعكست عنه. وبين أن الزيادة الظاهرة في قطري الشمس والقمر حينما يكونان قريبين من الأفق وهمية؛ وقد علل هذا الوهم تعليلا عملياً صحيحاً لم يسبق إليه، بناء على أن الإنسان يحكم على كبر الجسم أو صغره بشيئين: الأول الزاوية التي يبصر منها أو زاوية الرؤية، والثاني قرب الجسم أو بعده من العين. وابن الهيثم أول من كتب عن أقسام العين وأول من رسمها بوضوح تام. وقد اعتمد في بحوثه هذه على كتب التشريح التي كانت في زمانه، ووضع أسماء لبعض أقسام العين وأخذها عنه الإفرنج وترجموها إلى لغاتهم. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن ابن الهيثم كتب في تشريح العين وفي وظيفة كل قسم منها. وقد بين كيف ننظر إلى الأشياء بالعينين في آن واحد، وأن الأشعة من النور تسير من الجسم المرئي إلى العينين، ومن ذلك تقع صورتان على الشبكية في محلين متماثلين. ولعل هذا الرأي هو أساس آلة الاستريسكوب
وفوق ذلك هو أول من بين أن الصور التي تنشأ من وقوع صورة المرئي على شبكية العين تتكون بنفس الطريقة التي تتكون بها صورة جسم مرئي تمر أشعته الضوئية من ثقب في محل مظلم، ثم تقع على سطح يقابل الثقب الذي دخل منه النور، والسطح يقابله في العين الشبكية الشديدة الإحساس بالضوء، فإذا ما وقع الضوء حدث تأثير انتقل إلى المخ، ومن ذلك تتكون صورة المرئي في الدماغ. وله أيضاً معرفة بخاصيات العدسات اللامة والمفرقة والمرايا في تكوين الصور؛ وكتب في المرايا المحرقة وأجاد في ذلك إجادة دلت على إحاطته الكلية بمبدأ تجمع الأشعة التي تسقط على السطح موازية للمحور بعد انعكاسها عنه وكذلك بمبدأ تكبير الصور وانقلابها وتكوين الحلقات والألوان.
ويظن البعض أن ابن الهيثم لم يشتغل في الرياضيات، مع أن الواقع خلاف ذلك فله فيها بحوث تدل على سعة اطلاعه ونضجه العلمي، فلقد بحث في المعادلات التكعيبة بواسطة
قطوع المخروط. ويقال إن الخيام رجع إليها واستعملها. وقد حل كثيراً من المعادلات بطريقة تقاطع المنحنيين وتمكن من إيجاد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محور السينات أو محور الصادات. وتنسب إليه بعض رسائل في المربعات السحرية واستعمل نظرية إفناء الفرق ووضع أربعة قوانين لإيجاد مجموع الأعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوى 1، 2، 3، 4. وله بحوث في الهندسة تدل على تعمقه في علوم زمانه. ولقد طبق الهندسة على المنطق وألف كتابا يقول فيه. . . (. . . كتب جمعت فيه الأصول الهندسية والعددية من كتاب أقليدس وابلونيوس ونوعت فيه الأصول وقسمتها وبرهنت عليها ببراهين نظمتها من الأمور التعليمية والحسية والمنطقية حتى انتظم ذلك مع انتقاص توالي اقليدس وابلونيوس. وله مؤلفات أخرى قيمة في الرياضيات والطبيعة منها كتاب شرح أصول اقليدس في الهندسة والعدد وتلخيصه كتاب الجامع في أصول الحساب. وكتاب في تحليل المسائل الهندسية، وكتاب في تحليل المسائل العديدة بجهة الجبر والمقابلة مبرهناً، وكتاب في حساب المعاملات وكتب أخرى في بحوث رياضية عالية. وله غير كتبه في الرياضيات والطبيعة كتب في الإلهيات والطب يربو عددها على الخمسين.
واشتغل ابن الهيثم في الفلك ويعترف بذلك سيدليو فيقول: (وخلف ابن يونس في الاهتمام بعلم الفلك جمع منهم حسن بن الهيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابا ومجموعة في الأرصاد وتفسير المجسطي. . .)
هذا بعض ما أنتجه ابن الهيثم في ميادين العلوم الطبيعة والرياضية يتجلى للقارئ منها الخدمات الجليلة التي قدمها لهذه العلوم والمآثر التي أورثها إلى الأجيال والتراث القيم الذي خلفه للعلماء والباحثين مما ساعد كثيراً على تقدم علم الضوء الذي يشغل فراغاً كبيراً في الطبيعة، والذي له اتصال وثيق بكثير من المخترعات والمكتشفات، والذي لولاه لما تقدم علما الفلك والطبيعة تقدمها العجيب، تقدماً مكن الإنسان من الوقوف على بعض أسرار المادة في دقائقها وجواهرها وكهاربها وعلى الاطلاع على ما يجري في الأجرام السماوية من مدهشات ومحيرات.
والآن نقف عند هذا الحد آملين أن تخرج فكرة الدكتور مشرفة إلى حيز الوجود فيكون بذلك قد أنصف عالما عالميا من أفذاذ علماء الطبيعة والرياضة. ويكون أيضاً قد أدى واجبا
ثقافيا وطنيا هو من أقدس الواجبات، وأضاف مأثرة إلى مآثره العديدة في خدمة الثقافة العربية وبعثها.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
تصيح نص عربي قديم
وفيه شاهد على تطور العقلية العربية بعد الإسلام
للأستاذ عبد القادر المغربي
جاء في كتاب (طبقات الشعراء) لأبي عبد الله بن سلام الجُمَحي المتوفى (سنة 222هـ) نص يتعلق بأخبار (عقيل بن عُلَّفة) فيه اضطراب وفيه تلفيق أحببنا تحقيقه في هذا المقال.
والنص - عدا ذلك يتضمن فائدة تتعلق بالاجتماع الإسلامي وتصف لنا ناحية من نواحي عقلية العرب وتطورها بعد الإسلام
وعقيل بن علَّفة هذا من أتباع (مدرسة المخضرمين) أو (مدرسة الخضرمة) أن سمح لنا بهذا التعبير. وهي المدرسة التي تتلمذ فيها طائفة من الأعراب أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ فكانت معرفتهم بآدابه سطحية. كانوا يراعون تلك الآداب حيناً ثم يغلبهم طبعهم الجاهلي فيعودون إلى ممارسة ما اعتادوه في جاهليتهم حيناً آخر. كانوا يتعزون بعزاء الجاهلية. ويحاربون القبائل المعادية لهم عصبية لوشائج الأنساب لا إقامة لحدود الله وشرائع الإسلام. وما كانوا يتورعون من شرب الخمر في بعض الأحايين ولا من الحنين إلى نزعاتهم الجاهلية: ومنها الفخر والمنافرة والمهاجاة والإفراط في الغيرة. كان فيهم جفاء وغلظة لم تخالطها بشاشة الإسلام وسجاحته ولين جانبه.
ومن أشهر تلاميذ هذه المدرسة (عقيل بن علّفة المري) و (عُلّفة) على وزان (قُبّرة) اسم للواحدة من ثمر الطلح. وهو ثمر أشبه باللوبياء.
كان عقيل أعرابيا جلفا مفرط الغيرة، له نزوع شديد إلى عادات الجاهلية، فخوراً بها، داعيا إليها
هنأ يوما أحد فتيان قريش بزواجه قائلا له: (بالرفاء والبنين والطائر المحمود) فقيل له: يكره أن يقال هذا في الإسلام وإنما هو من تهاني الجاهلية. فأجاب عقيل: يا ابن أخي! ما تريد إلى ما أحدث؟ إن هذا قول أخولك في الجاهلية إلى اليوم لا يعرفون غيره)
وقد رويت كلمته هذه للزهري فقال إن ابن عُلّفة كان من أجهل الناس)
وعدا بنو جعفر على مولى لابن علفة، فعدا هو على مولى لهم ولم يرفع الأمر إلى عامل الخليفة وأنشد:
فلا تحسبوا الإسلام غيَّر بعدكم
…
رماح مواليكم فذاك بكم جهلُ
ومن أخبار جفائه ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج (ج1 ص440) نقلا عن ابن قتيبة. قال:
خطب هشام بن إسماعيل المخزومي والي المدينة (وهو خال الخليفة هشام بن عبد الملك الذي قال فيه الفرزدق بيته المشهور: وما مثله في الناس إلا مملكا الخ)
خطب إلى عقيل بن عُلفة ابنته فرده وقال:
رددتُ صحيفة القرشي لما
…
أبت أعراقه إلا احمرارا
يريد أن فيه شبها للعجم وعرقا منهم فلم يزوجه لذلك. وكان هشام أبيض أشقر فهو مظنة أن يكون أعجمي الأصل. والعرب تسمى الأعجمي أحمر، وتجمعه على أحامر. لأن الشقرة تغلب على جنسه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت إلى الأسود والأحمر) يريد إلى العرب والعجم
وروى أبو عبيدة أنه قيل لعقيل: والله ما نراك تقرأ شيئاً من القرآن. قال: بلى والله إني لأقرأ. قالوا: فاقرأ (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) فقرأ (إنا خَرَطْنا نوحا إلى قومه) قالوا: أخطأت والله. قال: فكيف أقول؟ قالوا. تقول: (إنا أرسلنا نوحا) لا (خرطنا نوحا) فقال: أشهد أنكم تعلمون أن (أرسلنا) و (خَرَطْنا) سواء ثم أنشد
خُذا صدَر هرْشَي أوقفاها فإنما
…
كلا جانبي هَرشْي لهنَّ طريق
وهذا البيت يتمثل به حين التسوية بين أمرين. و (هرشي) كسكري ثنية قرب الجُحفة في طريق مكة يرى منها البحر ولها طريقان طريق عبر عنه الشاعر بصدر هرشي وطريق عبر عنه بقفا هرشي، وضمير (لهنَّ) يرجع إلى النياق. والخطاب في (خذا) يرجع إلى رفيقي سفره فهو يقول لهما: اسلكا إلى هرشي أي الطريقين شئتما: جهة صدرها أو جهة قفاها فأنتما واصلان إليها.
وهذا المثل الفصيح على حد المثل العامي الشامي (كل الدروب على الطاحون) أي تؤدي إليها. ومعنى (خرطنا) الذي قال عقيل إنه بمعنى (أرسلنا) ما ذكره القاموس في قوله (خرط عبده على الناس إذا أذن له في أذاهم)
قال التاج (شبه العبد بالدابة التي يفسح رسنها وترسل مهملة تفعل ما تشاء) فالخرط اصله
في الدابة ثم نقل إلى العبد، ونقله عقيل إلى نوح عليه السلام، وهذا من عنجهيته وتعنته في جاهليته
ولعقيل شعر يؤثر لفصاحته وبلاغته: من ذلك قوله يرثي ابنه علّفة:
لتمش المنايا حيث شئن فإنها
…
مُحلّلة بعد الفتى ابن عقيل
فتى كان مولاه يحل بنجوة
…
فحلَّ الموالي بعده بسبيل
يقول: إن حلفاء علفة أو جيرانه كانوا في حياته ينزلون في مرتفع من الأرض حيث هم مكرمون أو حيث تضيء نيرانهم للمدلجين بما يجود به عليهم علفة من القرى، أما اليوم وقد مات علفة فنزولهم أصبح في قوارع الطرق حيث يمتهنون أو حيث يتكففون الناس طالبين صدقتهم كعامة أبناء السبيل. ونسب إليه بعضهم البيت المشهور:
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشتد ساعده رماني
وإنه قاله في ابنه عميس والصحيح أن هذا البيت من أبيات لغيره، فلعله استشهد به كما استشهد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنسب إليه أيضاً.
أما النص الذي روي من أخبار عقيل وفيه اضطراب وتلفيق من جهة، وعبرة اجتماعية إسلامية من جهة ثانية - فهو ما في كتاب (طبقات الشعراء) لابن سلام (صفحة 214) ونصه:
(حدثني أبو عبيدة أن يزيد عبد الملك خطب إلى عقيل ابن علفة ابنته وقال: زوجني فلست بواجد في قومي مثلي. قال عقيل: بلى والله لأجدن في قومك مثلك وما أنت بواجد في قومي مثلي. فحبسه يزيد فضرب عقيل كتف ابنه جثامة وقال زوجه يا بني فأنت أحق باللائمة، فزوجه أم عمرو ابنة عقيل، فلما أهداها تمثل جثامة فقال:
أيعذر لاهينا ويلحين في الصبي
…
وهل هن والفتيان إلا شقائق
فرماه عقيل بسهم وقال: أتتمثل بهذا عند بناتي؟ فخرج جثامة مراغماً لأبيه (أي مفارقاً له على رغم منه وكراهة) فأنى يزيد ابن عبد الملك فكتب عقيل إلى يزيد: إنه قد أتاك أعق خلق الله. وكان يزيد قد أعطاه وحباه. فأخذ ذلك منه وحبسه) انتهى نص ابن سلام.
لكن الخبر من عند قوله (فلما أهداها تمثل جثامة الخ لا يلتحم مع ما قبله إذ لا علاقة بتمثل جثامة بهذا الشعر: أيعذر لا هينا الخ مع تزويج عقيل ابنته من الخليفة. فلم يبق إلا أن
الخبر مضطرب يحتاج إلى تصحيح. أو نقول هو ملفق يحتاج إلى تقويم وتوضيح.
والتلفيق أصله في الثوب: يعمد إلى ما بلي ورث من وسطه ثم يضم لفقاه (أي طرفاه) أحدهما إلى الآخر ويخاطان.
فالخبر المنقول من طبقات الشعراء ينتهي لفقه الأول عند قوله (فزوجه أم عمرو ابنة عقيل) وبين هذا اللفق واللفق الذي بعده وهو (فلما أهداها تمثل الخ) كلام ساقط سهواً من النساخ يمكننا العثور عليه في معجم البلدان طبعة أوربا (ج4 ص667) عند الكلام على دير سعد. وهذا نص ما في المعجم بعد حذف السند:
(خرج عقيل بن علفة وابنه جثامة وابنته الجرباء. (ولعلها غير أم عمر التي زوجها من الخليفة في الخبر المنقول عن طبقات الشعراء) حتى أتوا بيتاً له ناكحا في بني مروان بالشامات (يعني أن عقيلا كان ناكحا أي متزوجا امرأة في بني مروان وقد أتاه زائراً مع ولديه، والشامات هي بلاد الشام) ثم إنهم قفلوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال عقيل:
قضيت وطراً من دير سعد وطالما
…
على عرض ناطحنه بالجماجم
ضمير قضت يرجع إلى النياق. وقوله (على عارض) بالعين المهملة ولعل صوابه (على غرض) بالمعجمة مصدر غرض إليه إذا اشتاق إليه).
(ثم قال عقيل لابنه: أنفذ يا جثامة (أي أجز البيت بضم بيت آخر أليه) فقال جثامة:
فأصبحن بالمومات يحملن فتية
…
نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
إذا علم غادرنه بتنوفة
…
تذار عن بالأيدي لآخر طاسم
(طاسم بمعنى طامس وكأنه مقلوبه) ثم قال عقيل لابنته الجرباء: أنفذي يا جرباء فقالت:
كأنَّ الكرى سقّاهمو صَرْخَدِية
…
عُقارا تمطى في المطا والقوائم
(قول الجرباء هذا في وصف الخمرة وتأثيرها في ظهر شاربها وقوائمه راب أباها عقيلا وجعله يعتقد أن ابنته الجرباء من شاربي الخمرة وإلا لما أجادت وصفها)
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة، لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك. أما وجدت من الكلام غير هذا؟
فقال جثامة أخوها (منافحاً عنها): وهل أساءت؟ إنما أجادت وليس غيري وغيرك (يريد جثامة) أنه لا يضر أخته في خلوتها مع أبيها وأخيها إذا قالت الشعر وأجادت في وصف
الخمرة، وإجادتها لوصفها لا يستلزم أن تكون شربتها. وإنما هي أديبة متقنة لصنعة الكلام وقرض الشعر فهي إنما تدل في شعرها على مقدرتها وإجادتها الصناعة لا أكثر ولا أقل. لكن دفاع جثامة عن أخته الجرباء غاظ أباه عقيلا فرماه بسهم فأصاب ساقه وأنفذ الرحل. ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها، ثم حملها على ناقة جثامة وتركه عقيراً مع ناقة الجرباء. ثم قال لولا أن تسبني بنو مرة لما عشت (وهذا خطاب لابنه العقير أو ابنته) ثم خرج متوجهاً إلى أهله وقال للجرباء: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك. فلما قدموا على بني القين ندم عقيل على فعله بابنه جثامة فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت (يريد ناقة الجرباء التي عقرها) قالوا: نعم. قال: فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور. فخرجوا حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم فتقسموا الجزور واحتملوا جثامة وأنزلوه عليهم وعالجوه حتى بريء وألحقوه بقومه، فلما كان قريبا منهم تغنّى:
أيعذر لاهينا ويُلحين في الصِبي
…
وما هنَّ والفتيان إلا شقائق
المراد بالصبي اللهو الذي يكون في زمن الصبى عادة: فقال له القوم إنما أفلت (أو صوابه أَبْلَلْتَ) من الجراحة التي جرحك أبوك آنفاً وقد عاودت ما يكرهه. فامسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر (العُر الجرب والعرب يقرنونه بالشر لأنه يتلف أبلهم فكان أبغض شيء إليهم) فأجابهم جثّامة: إنما هذه خطرة خطرت، والراكب إذا سار يغني) انتهى نص المعجم.
فقول جثامة: أيعذر لاهينا الخ. إنما جاء في خبر رجوع عقيل مع ابنه وابنته من عند أصهاره بني مروان المقيمين في الشامات كما هو في معجم البلدان ولم يجيء في خبر تزويج جثامة أخته من الخليفة كما هو نص طبقات الشعراء. وقد تبين من هذا أن نص الطبقات ملفق من الخبرين المذكورين.
وفي الخبر الثاني الذي جاء في معجم البلدان وصف لنفسية عقيل بن علفة الجاهلي الجافي الطبع ونفسية ولديه الناشئين في الإسلام وقد فهما منه (أي من الإسلام) أنه لا يشدد النكير على متبعيه إلا في ارتكاب منكر أو استباحة حرام. أما أن تقول الفتاة المسلمة الشعر وتحسن صنعته وتصف الخمرة بما جعله الله فيها من تأثير في جسم شاربيها فلا يراه ذلك
الفتى المسلم حراما، وإنما الحرام شربها فهو الذي يجب تجنبه، ولذا وقف في جانب أخته ينافح عنها. ويدرأ صولة أبيه الجاهلي عليها ويرفع صوته - كما علمه الإسلام - بان للفتيات الحق في تناول متع الحياة المباحة كما للفتيان. وأنه كما يعذر اللاهي من الفتيان ينبغي أن تعذر اللاهية من الفتيات: فلا يعذرون هم ويلحين هن بغياً وعدوانا إذ ليسوا جميعاً إلا شقائق وإخواناً. وقد جاء هذا الشعر الذي تمثل به جثامة قولا شارحاً للأثر المأثور: (النساء شقائق الرجال).
(دمشق)
عبد القادر المغربي
على ذكر الحرب الأهلية في إسبانيا
نهضة العلوم الطبية في إسبانيا العربية وتأثيرها في أوربا
للدكتور زكي علي
من بين الكتب التي ظهرت أخيراً عن الحرب الأهلية المروعة القائمة في إسبانيا الآن كتاب (الثورة في إسبانيا) قال فيه مؤلفاه هاري جانس وتيودور رابارد في معرض الكلام عن ماضي إسبانيا: (إن طرد العرب من إسبانيا كان كارثة على مدنيتها وقد كان الباعث عليه التعصب للروح الإقطاعية السائدة في أوربا والرغبة في تقويض دعائم الثقافة العربية وتأثيرها)
وقد أعادت الحرب الحاضرة في إسبانيا ذكريات تاريخها الماضي وكيف كان عهد العرب أزهى عصورها، وكثيراً ما أشارت صحف أوربا إلى ذلك الماضي إما بالمقالات أو بالصور. وأذكر أنني رأيت صورتين رمزيتين تبعثان في النفس مزيد الاعتبار إحداهما في صحيفة أمريكية تمثل (عودة العرب) والأخرى على غلاف مجلة سويسرية مصورة تمثل (العرب على أبواب مدريد) إشارة إلى انتظام فرق من عرب المغرب الإسباني في سلك جيش الجنرال فرانكو لفتح إسبانيا، ولكن شتان بين الفتحين، وما أعظم الفرق بين العهدين. ولست بصدد الكلام عن تاريخ الفتوحات والحروب وإنما أحببت اتخاذاً الأحوال الحاضرة وسيلة للتذكير بما كانت عليه إسبانيا من النهضة على عهد العرب قاصراً الكلام على العلوم الطبية وما كان لها من تأثير ونفوذ في الحركة الفكرية في أوربا في ذلك الحين وهي التي صارت أساس نهضتها فيما بعد.
كان لتألق نجم الثقافة العربية في سماء إسبانيا على أثر الفتح الإسلامي أعظم الأثر في نهضة العلوم الطبية لا في إسبانيا وحدها بل في أوربا بأجمعها. وكان لما أولاه الخلفاء العلوم والفنون من العناية والتشجيع فضل كبير في ازدهار الحركة الفكرية والنشاط العقلي وانبعاث أضواء الحضارة العربية لتسري في سائر أنحاء أوروبا، وسرعان ما أصبحت إسبانيا أسطع درة في سلسلة الثقافة العربية الممتدة من ربوع الهند إلى أقصى غرب أوربا، وعن طريق هذه الحلقات المتصلة من مدنية الإسلام تدفقت الكنوز الضخمة من علوم الأقدمين التي كانت نسياً منسياً قبل أن يبعثها العرب ويضيفوا إليها كنوزاً غنية جديدة
بفضل عبقريتهم وأثر الإسلام في حضهم على البحث وحثهم على الكشف والدرس والتحصيل
وما أتى القرن العاشر للميلاد حتى كان العرب قد أحضروا إلى إسبانيا مجموعة ضخمة من التأليف العلمية والطبية الإغريقية العربية، ووضعوا بذلك أساس الحركة الفكرية التي دامت في عصرها الذهبي من القرن العاشر، إلى الثالث عشر، وجعلت إسبانيا في ذلك الحين، المركز الوحيد الذي يشع على أوروبا النور والعرفان، والذي سرت منه الثقافة العربية، حتى صارت ملموسة الأثر في سائر أنحاء الغرب
ونبغ في هذه الحركة طائفة كبيرة من علماء العرب وشخصياتهم الطبية البارزة، وكان لأعمالهم وتواليفهم أثر مباشر في نهضة العلوم الطبية لاسيما أن الخلفاء أكثروا من تشييد المستشفيات، وكانوا يلحقون بها المدارس الطبية ومدارس الصيدلة والمكاتب العلمية.
وقبل أن نخص بالذكر هنا اشهر البارزين في هذه النهضة نشير إلى ما يدل على مبلغ حضارة إسبانيا وازدهارها تحت حكم العرب، فنذكر أنه في القرن العاشر بلغ عدد سكان قرطبة أكثر من ثلاثمائة نفس، وكان بها خمسون مستشفى وتسعمائة حمام وثمانمائة مدرسة وستمائة مسجد ومكتبة ضخمة تحوي ستمائة ألف مجلد وسبعون مكتبة خاصة. وإذا ما أشرنا في هذا المقام إلى جامع قرطبة الشهير، الذي يعتبر من آيات الفن - لا في العصر الإسلام وحده بل في كل العصور - فإننا نذكر الكلمة الشهيرة التي وجهها شارل الخامس سنة 1526 إلى مجلس الكاتدرائية الكاثوليكية توبيخا لهم على تشييد الكنسية في قلب الجامع العظيم، إذ قال لهم:(قد بنيتم هنا ما تستطيعون، وكل واحد سواكم - بناءه في جهة أخرى ولكنكم خربتم ما كان فريدا في العالم كله)
وفي صدد الحضارة العربية أيضاً يقول الطبيب المؤرخ الأمريكي فكتور روبنصن صاحب (قصة الطب): (كانت أوروبا في ظلام حالك بعد غروب الشمس بينما كانت قرطبة تضيئها المصابيح العامة، كانت أوروبا قذرة، بينما قرطبة شيدت ألف حمام؛ كانت أوروبا تغطيها الهوام بينما كان أهل قرطبة مثال النظافة؛ كانت أوروبا غارقة في الوحل، بينما كانت قرطبة مرصوفة الشوارع؛ كانت سقوف القصور في أوروبا مملوءة بثقوب المداخن، بينما قصور قرطبة تزينها الزخرفة العربية العجيبة؛ كان أشراف أوروبا لا يستطيعون إمضاء
أسمائهم بينما كان أطفال قرطبية العربية يذهبون إلى المدارس؛ كان رهبان أوربا يلحنون في تلاوة سفر الكنيسة بينما كان معلمو قرطبة قد أسسوا مكتبة تضارع في ضخامتها مكتبة الإسكندرية العظيمة.)
والآن نعود لنذكر بين متقدمي المشاهير في النهضة الطبية ابن الوافد الذي اشتهر في أوربا باسم (997 - 1074) وكان طبيباً بمستشفى طليطلة وامتاز بأنه وضع أساس طريقة عقلية للعلاج مرتكزة على النظم الغذائية. وكان أشهر مؤلفاته كتاب الأدوية البسيطة طبع هذا الكتاب بعد ترجمته إلى اللاتينية أكثر من خمسين مرة. ثم هناك أبرز شخصية في النهضة الطبية العربية وفخر الجراحة العربية أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي الذي عرفته أوروبا باسم (1013 - 1106) وإليه يرجع الفضل في النهوض بمهنة الجراحة إلى المركز اللائق بها وكانت قبله قد انحطت إلى الحضيض ولكن سرعان ما بلغت الجراحة على يد أبي القاسم الزهراوي أعلى مراتبها في ذلك العصر فانه ألف في الطب النظري والعملي كتابه الشهير (التصريف لمن عجز عن التأليف) وبه قسم خاص بالجراحة يقع في ثلاثة كتب استوفى فيها أبو القاسم علوم الجراحة وعملياتها وبين آلاتها بالصور فكان تأليفه هذا أول كتاب موضح بالصور والأشكال في الجراحة. ولا أجد في هذا المقام قولا أدل على مكانة الزهراوي من قول الأستاذ الشهير فورج من أعظم الجراحين الفرنسيين في الوقت الحاضر إذ كتب عنه منذ سنوات: (يعتبر الزهراوي بلا شك أعظم شخصية في الجراحة العربية، وهو الحجة التي كان يلجأ إليها كافة مؤلفي الجراحة العربية، وهو الحجة التي كان يلجئ إليها كافة مؤلفي الجراحة في العصور الوسطى مع أعظم الاحترام. وقد ولد في الزهراء (من ضواحي قرطبة) التي كان فرساي خلفاء بني أمية في الأندلس. ويستحق كتابه في (الجراحة) أن يبقى في تاريخنا كأول تأليف في الجراحة على أنها علم مستقل مؤسس على قواعد التشريح. وصار كتابه فيما بعد مرشد الجراحين منذ ترجمه إلى اللاتينية حول وسط القرن الثاني عشر جيرار دي كريمونا. ومما يبرهن على أن الزهراوي كان الثقة والعمدة في الجراحة والمشار إليه في علومها أن سلفنا العظيم جي دي شولياك جراح مونبلييه استشهد بأبي القاسم في مؤلفاته نحو مائتي مرة!
(ولا مراء في أن الجراحة العربية في ذلك الحين تقدمت تقدماً عظيما في الغرب. ويكفى
أن نذكر أنه في أواخر القرن الثالث عشر لما قدم الجراح لانفرانك من إيطاليا ودرس مؤلفات أبى القاسم أصدر رأيه في جراحي باريس لذلك العهد بقوله: (يقومون بالعمليات الجراحية مع درجة من الجهل يكاد لا يوجد معها شخص واحد منهم يمكن أن يعد جراحاً حقيقياً! وقد كان أبو القاسم أول من كتب في علاج الأقواس الضرسية (في طب الأسنان) وتشوهات الفم، وأول من ربط الشرايين قبل امبرواز باريه الفرنسي. وقد وصف عمليات تفتت حصاة المثانة وعملية استخراجها بالشق، وتكلم عن مسألة التقيح ووصف الوضع المعروف باسم (وضع والحز) في التوليد، والشلل عقب كسر السلسلة الفقرية، وتكلم بدقة عن إزالة الأجسام الغريبة من الأذن، وأجرى عملية فتح قصبة الرئة وعالج الخراجات الكبيرة - بشقها وتفريغها تدريجاً، واستعمل محلول الملح في علاج الجروح، ووصف علاج الناسور بالكي. وهو أول من استعمل (السنارة) في استخراج الورم المسمى (يوليبوس) وتكلم في موضوع الولادة عن مجيء الجنين في الأوضاع غير المنتظمة، وعن التوليد بالآلات. وهو أول من أدخل استعمال الحرير وأوتار العود بهيئة خيوط للربط في العمليات الجراحية، وتكلم أيضاً عن وقف النزف بالكي، وقد بقي كتاب أبي القاسم في (الجراحة) أساس التعليم الجراحي ومزاولة مهنة الجراحة في أوربا عدة قرون، ونشرت ترجمته في فينا سنة 1497؛ وفي سنة 1500 كان المعول عليه في تعليم الجراحة في مدرسة البندقية بإيطاليا، وطبع أيضاً في (بال) بسويسرا سنة 1541
وأما أشهر أطباء العرب الاكلينكيين في الأندلس فهو محمد بن مروان بن زهر الاشبيلي وعرف في أوربا باسم (توفى سنة 1162) وهو ينحدر من عائلة عربية عريقة أنجبت كثيراً من الأطباء وذاعت شهرته الطبية في جميع الأنحاء. وهو أول من ثار على طريقة جالينوس وابتكر طرقا جديدة تدل على عبقريته؛ وأهم كتبه (التيسير) وفيه وصف شامل لأمراض عديدة. وكان ابن زهر أول من وصف التهاب التامور المصلي وخراج المنصف الصدري وشلل البلعوم والتهاب الأذن الوسطى. ووصف لبن الماعز في الدرن، ويعتبر أيضاً أول عالم بالطفيليات لأنه أول من أتقن وصف حيوان الجرب.
وأما أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي (1126 - 1198) الطبيب الفيلسوف العظيم فمع أنه بلغ ذروة الشهرة كفيلسوف الإسلام وشارح أرسطو فقد كان له
أيضاً فضل لا ينكر في تقدم العلوم الطبية؛ وهو الذي هز بناء التعاليم الجالينية من أساسها، وزعزع نظرية صفة الأدوية الكثيرة في التذاكر الطبية، وهو أول من أشار إشارة علمية إلى الدورة الدموية في كتابه (الكليات) فسبق بذلك وليام هارفي. ومن أعظم الشخصيات الأندلسية في القرن الثاني عشر الفيلسوف الطبيب الإسرائيلي موسى بن ميمون الذي صار فيما بعد طبيباً خاصاً لسلطان صلاح الدين، وله مؤلفات عديدة في الفلسفة والطب ترجمت من العربية إلى اللاتينية ومنها كتباه في (السموم والتحرز من الأدوية القتالة) وكتاب (البواسير)(وترى هنا صفحة من هذا الكتاب الأخير عن نسخة خطية نقلت عن الأصل الذي كتبه ابن ميمون بيده) وكتابا (الوصايا) في التغذية وقانون الصحة و (بيان الأعراض) و (مقالة في الربو) الخ.
ويمتاز ذلك العصر بازدهار فن الصيدلية أيضاً وظهور التواليف العديدة فيه. واسم (أبن البيطار) أشهر من أن يذكر، وقد ولد أبو محمد عبد الله بن احمد بن البيطار في (مالقة) وصار أوحد زمانه في علم النبات وأتقن دراية كتاب (ديسقوريدس) الإغريقي اتقانا بالغاً وكان حجة لا يباري في علوم الأدوية المفردة والحشائش، وأهم كتبه (الجامع في الأدوية المفردة) وهو فريد في بابه إذ يشتمل على وصف دقيق لأكثر من ألف وأربعمائة عقار كان جزء كبير منها جديداً في ذلك الوقت، وصار هذا الكتاب في الواقع المرجع الأساسي في أوروبا للمادة الطبية وعلوم الأغذية.
أما كتب الأدوية المركبة فكانت تسمى الأقرياذين (مأخوذة عن اليونانية) وهو اسم حرف فيما بعد في المحفوظات اللاتينية المترجمة عن العربية إلى كلمة والعرب هم أول من وضع دساتير الأدوية المعروفة الآن باسم (فارماكوبيا) وعنهم أخذتها أوروبا كما أخذت عنهم عادة وضع الأواني الزجاجية الكبيرة المحتوية على السوائل الملونة عند مدخل الصيدليات وكان نظام الصيدلة عند العرب يقضي بالتمييز بين مخازن العقاقير (ويقابله الآن لبيع العقاقير البسيطة بحسب تعريفة محددة وبين الصيدليات (الأجزاخات) لصرف العقاقير المركبة والتذاكر الطبية وكانت كلها موضوعة تحت الرقابة الشديدة بمقتضى القانون. وقد أدخل فردريك الثاني هذا النظام إلى أوروبا وأصدر سنة 1233 قانوناً بقي نافذ المفعول زماناً طويلا في صقلية، كان يكلف الطبيب بمقتضاه أن يبلغ عن أي صيدلاني
(صيدلي) يثبت له أنه يبيع أدوية فاسدة
وقد أخذت أوروبا عن العرب استعمال كثير من الأدوية الجديدة ذات المفعول اللطيف والتي أدخلها العرب في المادة الطبية للعلاج مثل السنا المكي والراوند والتمر الهندي والمسك والقشية والمسن والكافور وجوز الطيب والقرنفل والزعفران والشمر وعرق السوس. وعن العرب أيضا أخذت أوروبا طريقة طلاء حبوب الأدوية بالورق المذهب أو المفضض وتقطير ماء الورد، كما أن أوروبا مدينة للعرب بإدخال الجوز المقيئ في القرن الحادي عشر والأكونيت (خانق الذئب) وشرح تأثير الإِرجوت (الجويدار) والحنظل والقنب الهندي والعنبر. وكان دستور الأدوية (الفارماكوبيا الإسلامية) في إسبانيا يحتوي على أكثر من مائتي نبات جديد لم تعرفها أوروبا من قبل. ولا يزال كثير من الكلمات العربية الأصل مستعملة في الصيدلة إلى اليوم منها الكحول والشراب والقلي والنفط والبازهر (بنزهير) والجلاب
ثم كان من مفاخر المدنية الإسلامية إنشاء المستشفيات في معظم المدن الكبيرة مثل قرطبة واشبيلية وغرناطة وطليطلة وبلنسية ومرسية والمرية ومالقة وغيرها، وكان نظام هذه المستشفيات وإدارتها وتجهيزها تجهيزاً وافياً على نسق لم تعرفه أوروبا في ذلك العهد. وفضلا عن أن هذه المستشفيات كانت مراكز لعلاج الأمراض فقد كانت أيضاً معاهد للتعليم الأكلينيكي وأكاديميات للمعارف الطبية، وكانت مجهزة بمكاتب طبية نفيسة. ويعزى إلى العرب أيضا الفضل الأول في إيجاد المستشفيات الخاصة بذوي الأمراض العقلية ومن أهم تلك المستشفيات ما أنشئوه في بلنسية، وقد شهد جميع مؤرخي الطب بأن للعرب فخر معاملة هؤلاء المرضى بالرفق والشفقة والإنسانية بينما كان (المجانين) في أوروبا يعاملون إذ ذاك كالمجرمين يعذبون ويضطهدون. وقد أعاد جوان جيلابرت جوفريه بناء مستشفى بلنسية للأمراض العقلية عام 1410
كذلك لما أراد فيليب الثاني عام 1566 أن يعيد تنظيم المستشفيات في مجريط (مدريد) أقام على أنقاض معهد سان لازاروا (وكان في الأصل مستشفى أسسه المسلمون) مستشفى جديداً باسم سان جوان دي ديوس، وضم إليه مستشفى دي لاباز للأمراض المعدية ولذوي العاهات.
وقد أظهر أطباء العرب في إسبانيا في فهم الأوبئة والعدوى مقدرة وذكاء منقطعي النظير بين كافة أطباء أوروبا في العصر القديم والعصور الوسطى، يدلك على ذلك إنهم بحثوا منشأ الأوبئة وانتشارها بالعدوى. وقد ألف الطبيب الشهير ابن الخطيب من غرناطة (1313 - 1374) كتاباً نفيساً عن (الطاعون) وصف فيه الطاعون الذي حل بأوروبا في القرن الرابع عشر وذكر فيه أن وجود العدوى تثبته التجربة ثم البحث ودليل الحواس ثم الرواية الموثوق بها عن انتقال المرض بالملابس والأوعية والحلي (كالقرط في الأذن) ومن شخص لآخر في المنزل الواحد وبإصابة ميناء سليم بوصول أناس مرضى من أرض موبوءة. . .!)
وكذلك كتب (ابن خاتمة)(توفي 1369) كتابا عن الطاعون الذي فتك بالمرية في إسبانيا في سنتي 1348 و1349، وهذا الكتاب يفوق في دقته كل ما كتب في أوروبا عن الطواعين من القرن الرابع عشر إلى السادس عشر.
ولا يتسع المقام هنا للإسهاب في ذكر سائر النوابغ من أطباء العرب في ذلك العصر. وإنما ننوه بأنه كان من أهم عوامل بث العلوم الطبية العربية ونشرها في أوروبا إنشاء مدارس الترجمة التي كانت أهمها مدرسة طليطلة التي شيدها في سنة 1130 الأسقف ريموند وازدهرت حتى القرن الثالث عشر.
وكانت جامعات العرب في إسبانيا إذ ذاك قبلة أنظار طلاب العلم من كافة أنحاء أوروبا فكانوا يفدون إليها من كل حدب وصوب لينكبوا على دراسة العلوم العربية وترجمتها ثم نقلها إلى بلادهم فظل النفوذ العربي سائداً في الغرب قروناً عديدة وظلت تآليف الأطباء العرب مدة خمسمائة سنة برنامجا لدراسة الطب في أوروبا.
ومما يدلك على مدى سريان النفوذ العربي وهيمنته على النهضة الطبية في أوروبا أن الطبيب الشهير بطرس ألفونسو (ولد سنة 1062) بعد أن أتقن الطب في مدارس العرب في إسبانيا قدم إلى إنجلترا ليكون طبيباً خاصاً للملك هنري الأول واشترك مع (والحز وبرايور أوف مالفرن) في وضع كتاب في الفلك اعتمد فيه على المصادر العربية، وكانت جهود هؤلاء الثلاثة بمثابة أول أثر للعلوم العربية في إنجلترا ثم لم ينقض بعد ذلك وقت طويل حتى امتاز أديلارد أوف بارت بكونه أول عالم أوربي كبير حضر إلى طليطلة
للتخصص في العلوم العربية، فاتصلت بذلك الحلقة الثقافية بين إسبانيا العربية وإنجلترا. ومن ثم ازداد اهتمام العلماء في إنجلترا بعلوم العرب وتفوق من بينهم ميشيل سكوت (1175 - 1232) وروجر باكون (1214 - 1294)
فأما سكوت فكان طبيبا وفيلسوفا ومتضلعا في العربية، وبعد أن درس في اكسفورد وباريس انتقل إلى بالرمو وبولونيا بإيطاليا، ومن هناك واصل سفره في طلب العلم إلى طليطلة ليروي ظمأه من ينابيع حكمة العرب وعلومهم وفلسفتهم، واشتهر فيما بعد بتآليفه الكثيرة في الكيمياء والفلك والطب وكان أكثر اعتماده على المصادر العربية.
وأما روجر باكون فقد اشتهر في اكسفورد بكونه شارح الفلسفة العربية والارسطوطية وألف في علم البصريات كتابا نقل فيه عن كتب الخازن، وهناك في مكتبة مجلس كاتدرائية كانتربوري نسخة خطية مزخرفة من أواخر القرن الثالث عشر تسمى هي أقدم تفسير معروف لكتاب ارسطو في المنطق ظهر في إنجلترا على أثر إحياء العرب لفلسفة ارسطو، وهي تحمل اسم جون دي لندن الذي أخذ عن روجر باكون العلوم العربية.
ويرجع إلى العرب أيضاً فضل المحافظة على تراث الطب الإغريقي القديم وهناك حقيقة ذات أهمية قصوى في هذا الصدد وهي أن سبعة كتب من (تشريح جالينوس) وصلت أوربا عن طريق ترجمتها العربية أما أصولها الإغريقية فكانت قد فقدت.
وكان أشهر المترجمين للعلوم الطبية من العربية إلى اللاتينية (جيرار دي كريمونا) 1114 - 1187 الذي اشتغل في مدرسة طليطلة معظم حياته وأتم في العشرين السنة الأخيرة منها ثمانين ترجمة بعضها في غاية الأهمية، ومنها كتاب الجراحة لأبي القاسم الزهراوي وقانون ابن سينا، وكتاب المنصوري للرازي، وبعض أجزاء (الحاوي).
ومن أعظم المترجمين والمفكرين من الأوروبيين في العصور الوسطى جربرت دي أوريلاك (930 - 1003) الذي صار فيما بعد البابا سلفستر الثاني فإنه عبر جبال البرانس وأتى إلى طليطلة لتحصيل علوم المسلمين ونقلها إلى أوروبا القوطية، ثم إنه عاد إلى فرنسا وأذاع علوم العرب في مدينة (ريمس) ثم نقل تلك العلوم إلى أنحاء فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ويعتبر أحد واضعي أساس النهضة العملية والأدبية والدينية في أوروبا في القرن الحادي عشر ويقال إنه الذي أدخل إلى أوروبا الأرقام العربية.
ومن بين مشاهير الذين حضروا من إنجلترا إلى طليطلة روبرت أوف إنجلاند) (عاش حوالي 1143) وهو أول من ترجم القرآن ثم دانيل مورلي (1170)
وكان ارنولد دي فيلا نوفا (1235 - 1313) آخر العلماء الأسبان الذين كان لهم نصيب وافر من ترجمة مؤلفات العرب الطبية إلى لغات الغرب، وقد صار فيما بعد طبيبا خاصا لبطرس الثالث ملك أرغون، ودرس الطب في جامعة مونبلييه ونقل عن العرب استعمال الصبغات في الأدوية، وادخلها في دساتير الأدوية الأوروبية، كما أنه ترجم كتاب ابن سينا عن القلب
وقد أنار العرب لأوربا سبيل الدراسة المبينة على التجربة والمشاهدة ويقول مؤرخ مونبلييه الشهير جرمان (الفرنسي) إن بقاء مؤلفات الأطباء العرب في برنامج الدراسة الطبية في مونبلييه حتى ختام القرن السادس عشر خير شاهد على صفات الإيضاح والتنوير وعلى الطريقة التعليمية التهذيبية التي امتاز بها الكتاب العلميون في الأمة العربية)
وتوجد في سجلات كلية الطب بباريس قائمة جرد للكتاب الطبية بها في سنة 1395 تحتوي على اثني عشر مجلدا كلها مؤلفات لأطباء العرب. وكان لويس الحادي عشر دائم القلق على صحته ولهذا كان حريصاً على أن تكون في مكتبته كتب (الرازي) الطبيب العربي الأشهر ولم يكن منها إذ ذاك في مكتبة مدرسة الطب بباريس سوى نسخة واحدة فاستعارها الملك بشرط أن يردها وقد فعل!
وأرى في ختام هذا البحث أن أذكر كلمة المؤرخ (لبري): (لو لم يظهر العرب في التاريخ لتأخرت نهضة العلوم والفنون (الرينسانس) في أوروبا قرونا عديدة).
(جنيف)
زكي علي
الفداء
للأستاذ أمجد الطرابلسي
(فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم)
قرآن كريم
شعَّ من بَسمةِ الصباحٍ الضّياءُ
…
وأفاقتْ منْ نومها البطحاءُ
وتعرتْ كثبانُها والرَّوابي
…
وتغطّتْ هضابُها السَّمراء
وتبدّتْ ذُكاءُ فانتفضَ الرّمْ
…
لُ ابتهاجاً لّما تبدَّتْ ذُكاء
وشَّتِ الأرضَ بالضلالٍ فنوناً
…
هيَ للطّرْفِ والنهَى إغواء
فمن الشمسِ والرمالِ نُضارٌ
…
ومن الظلِّ واحَةٌ غَنّاء
السهوبُ الفِساحُ، والأفُقُ الزّا
…
هي، وتلكَ الغمائمُ الشَّقراء
والخِضَمُّ المَوَّاج بالماسِ والتب
…
رِ المصفّى والقبّةُ الزرقاء
والبطاحُ الغَرْقَى، وسِلْسِلةُ الكُثْ
…
بانِ، والرَّمْلُ، والحصَى، والسَّناء
صورةٌ تغمُرُ العيونَ وسِحْرٌ
…
عبقريٌ، ومُتعةٌ، ورُواء
وَحشةٌ ملؤها الجمالُ وصمتٌ
…
خاشعٌ لا تشينُهُ ضوْضاء
أيها الشاعُر أتئدْ! هل تؤدي
…
ما تؤديَّ الطبيعة الخرساءُ؟
إنّ صمتَ الرَّمال عودٌ ومِزما
…
رٌ ونأيٌ ومِزهرٌ وحُداء
نَغَم يُفْعِمُ المسامِعَ سِحْراً،
…
وغناءٌ، هيهات منه الغناءُ!
مَنْ هوَ السالكُ القفارَ وئيداً
…
للأسى في جبينه سماء؟
كاسفَ البالِ ليس يَبْهُرُه الحس
…
نُ، ولا يستبيه ذاكَ البهاء
مطرقاً رأسهُ الصديعَ تبدّى
…
في أساريرِ وجههِ البأساء
وإلى جنبهِ ابنهُ حائرَ اللبَّ
…
م تَنَزّي في صدرهِ الأهواء
يَتأَسَّى خُطَى أبيهِ وللْحِمُ
…
لانِ بالشاةِ أسوةٌ واهتداء
يسألُ الرَّملَ عن وجوم أبيهِ
…
فإذا الرَّمل منصتٌ والفضاء
يسأل الأرضَ والسماَء فما تن
…
ييهِ أرضٌ ولا تجيب سماء!
وتراه بَهمُّ يسأل عن ذا
…
كَ أباه الحزينَ لولا الحياء
يا إلهي! هذا خَليلُكَ إبرا
…
هيم يَغدو لما أرادَ القضاء
وإلى جنبهِ ابنهُ البرُّ إسما
…
عيل سلواهُ في الدُّنى والعزاء
جاءه وحيُك المقدَّسُ في اللي
…
ل وقد عمَّتِ الدُّنى الظَّلْماء
قال (قرِّبْ إلى السماءِ القَراب
…
ينَ، فقد شاقتِ السماء الدماء
إنها تبتغي وحيدَكَ ذبحاً
…
ليسَ في غَيرهَ لها إرضاء!)
هبَّ من نوْمِه الشروِد مُراعاً
…
ونأى عن جفونِهِ الإغفاء
إنما تطلُبُ السماء فتاه!
…
ليسَ مما تبِغي السماء نجاء!
قد قضى الله ما أرادَ وأمضى
…
وقضاء اللهِ الرحيم مَضاء
ليكن ما أرادَ سوْفَ يضحَّي
…
بابْنِهِ وهو عيشُه والهناء. . .
يا رحيمَ الأكوان! حكمتُك الغرَّا
…
ء، حارتْ في كُنهها الحكماء
إنْ أضْرَي الجراحِ يا رب ما عا
…
ناهُ في الأرض رسْلُكَ الخلَصاء
أنت قدَّرتَ أن يعذّب في الأر
…
ض نبيٌّ، ويسْعد الأغبياء!
طالَ سْيُر الفتى وناءت قواه
…
وعراهُ بعد النشاطِ وَناء
أينَ يمضي به أبوه ولا زا
…
د لديهِ، وليس في القفر ماء
الفيافي ممتدَّةٌ كالأماني
…
لا تناهي وكلها جَرداء
فَإلامَ السيرُ الممِضُّ وما للِ
…
قَفزِ من أول وليسَ انتهاءُ؟؟. .
وَتَجَرَّى وقال يَسْتطلِعُ السرَّ
…
وقد آده الوّنى والظَّماءُ
وشجاه الصمتُ الطويلُ، وللصَّم
…
ت على القلب غمَّة دكناء:
(أبتي طالَ سيرنا وعراني
…
نصبٌ منه مُرمِضٌ وعناءُ
أين نبغي؟ لعلنا قد ضَللْنا
…
نهْجنا! أينَ قصدُنا والرَّجاء؟
أبتاهُ كلَّت يداي ورجلا
…
يَ، وأدمتُ أصابعي الحصباء
مِلْ إلى الظِّلْ نَسْتَجِمَّ قليلا
…
فلقدْ هَدَّ قوتي الإعياء!)
فأجابَ الأبُ الرحيمُ يواسي
…
هِ وقد شفّه الأسى والشقاء
باسماً يمنع المدامع أن تج
…
ري، وأن تستَفزَّه البُرَحاء:
(يا صغيري الحبيبَ، كيف خبا عز
…
مُكَ، أين الثبات أين المضاءُ؟
غايةُ السير ذروةُ التّل هذا،
…
وعليه المقيلُ والإرساء
فوقه يا بني تؤسى الجراحا
…
ت، وتلقى الجهود والأعباء
فوقه يا بنيَّ يرقُبنا العطف
…
من اللهِ ربِّنا والرّضاء)
فاستحى الطفل من أبيهِ وأغضى
…
منتهى البثِّ والأسى الإغضاءُ
ثمَّ سارا وفي الفؤادين نارٌ
…
وأحاديثُ جَمَّةٌ وبكاءُ!. . .
واستوتْ في سمائها الشمس عجباً
…
وتَلَظَّتْ من وقدها الرَّمضاء
وتَغَنَّتْ فيها الجنادبُ فَرحى
…
وعليها من الرِّمال خِباء
سكنتْ خطرةُ النَّسائم فالأرْ
…
ضُ لهيبٌ والأفق والأجواءُ
وأناخَ الخمولُ كَلْكَلُ المُضْ
…
ني، وأغفتْ كالمتْعَب البيداءُ
فبكى الطفلُ لا يحيرُ شكاةً
…
والفيافي عن بثه صماءُ
مُطرقا رأسَهُ الصغير ليَخفي
…
عن أبيه البُكى، وكيفَ الخفاء؟
وأبوه الساجي يُسارقُهُ اللحْ
…
ظَ فَتنزو في صدره الأدواءُ
مَشْهَدٌ يمنعُ القوافي مِنَ الجر
…
ي وَتَعْيا عن وصفه الشعراء!
إيهِ دمعَ البنينَ ماذا يُعاني
…
ويقاسي مِنْ سكبكَ الآباء!؟
رحمةً للأب الشّفيق ولْلأمَّ
…
م إذا ما تَباكتِ الأبناءُ!
مَسَح الطفل أدمعاً فوق خَدَّيْ
…
هِ وأهدابهِ لها لألاءُ
قائلَا والشحوبُ في وجهِهِ با
…
دٍ كم قد براه داءُ عَياء:
(يا أبي قد دنا المكان وفيه
…
للمهيَض الهناء والنَّعماءُ
هو ذا المذبحُ المُقدَّس والحْب
…
لُ، وهذي سكينك العَوْجاء
وعلى منكبيَّ مِحرَقَةُ الذَّبْ
…
ح، فأين الضّحَّيةُ القَرْناء؟
أتٌرى قد نسيتها أمْ تراها
…
سبقتنا بها إليه الرِّعاء؟)
صُعِقَ الوالدُ الوجيع وسالت
…
عَبرةٌ فوق خَدّه عصماء
وأجاب ابنَهُ مشيحاً بوجهٍ
…
غضَّنتْه السِّنون والأرزاء:
(يا صغيري هناك يَرْقُبُنا القر
…
بان، لا يقعُدَنْ بنا الإبطاء
لنحثَّ الخطى إليه سراعاً
…
فسيحْلوا لنا هناك البَقاء)
إيه يا موكبَ الجلال الذي ما
…
دتْ له من خشوعها الصحراء!
فالروابي ذواهلٌ مطرقاتٌ
…
والنُّسَيْمات حوله سَجواء
إنَّ هذي الدموعَ ضجَّت لها الدني
…
ا، ورُجَّتْ لسكبها الأرجاء
وأجل الدموع ما يَذرف القل
…
ب، وتعي عن حبسِهِ الكبرياء
الفتى خافتُ الأنين صَموتٌ
…
قد بَراه طول الَمدى والَحفاء
وأبوهُ يبكي عليهِ حناناً
…
يا لَدَمْعٍ تَسُحُّه الأنبياء!
يا لدمْعٍ تهزُّهُ رحمةُ القل
…
بِ، فُيبقيهِ م الجفونِ الإباء!
ذاكَ إبليسُ فتنة الشَرِّ والآ
…
ثام، مَنْ كلُّ هَمِّهِ الإغواء
ساَءهُ أنْ يفوزَ ما أمر اللَّ
…
هُ، وأنْ يُخْذلَ الخنا والرِّياءُ
فأتى هاجَراً يُنَبِّئُها الأمْ
…
رَ، وإبليسُ ساعداه النِّساء
قال: (فيمَ الثّواءُ يا أُمَّ إسما
…
عيلَ، والثُّكْلُ بيِّنٌ والشقاء
لستِ تدرين ما يحيك لكِ المق
…
دار نامت عن حظِّها الأشقياء!
قد غدا بابنكِ المحَبَّبِ إبرا
…
هيم تحدوهُ جُنَّةٌ هَوْجاء
زاعماً - والإلهُ أعول من أنْ
…
تَصْطلي نارَ سُخطِهِ الأبرياء -
أنَّ وحياً أتاهُ، في الليل، والنا
…
سُ نيام، والأرض والآناء
ودعاهُ ليذبحَ الطفلَ صبراً!
…
تلك رُؤيا كذوبة شنعاء
أسرعي! أنقذيه! من قبل أن تُر
…
وى بقاني دمائه الغبراء. . .)
فأجابته وهي تُخفي أساها
…
ولَظاها: (لن يكذبَ الإيحاء!
إن يكن ذاكَ ما أراد إلهي
…
فهُوَ الخير كله والهناء)
إيه إبليس! خاب فألُكَ يا مِس
…
كينُ! ما كلُّ غادةٍ حوَّاء!
وصلَ الوالد الحزين، ولكن
…
ودَّ لوْ طالَ سيره والعناء
وابنه من ورائه مُثْقَل الخط
…
وِ، تلظَّى في صدره الصعُّداءِ
رازحٌ تحتِ عبئهِ لاهث الصد
…
ر، وللظهر كالمسِنَّ انحناء
حطَّ عن منكبيْه وهو يجيل ال
…
طّرفَ: أين الخراف، أينَ الظباء!
نظرَ الطفل حوله، فإذا الأر
…
ض خلاء من الأضاحي قَواء
وتحرَّى فلم يجد حوله الذبحَ
…
ولا هزَّ مسمعيه ثغاء
فرنا ثائرَ الشكوك، وفي عْي
…
نيه شوق للسرَّ واستقصاء
وأبوه يحار في فمه النط
…
ق، وفي الرزء تبكم البلغاء
شدَّ من حزنه على قلبه الوا
…
هي، وعشّتْ عيونه الضرّاء
وتهاوت دموعه مثل ما رفَّ
…
ت على زنبق الربى الأنداء
ربَّ رحماك! ما يقول؟ وما يف
…
شي؟ وكيف المقال والإفشاء؟
هبْه يا رب من لدنك بياناً
…
فلقد يعقد اللسانَ البلاء!
قالَ يا نورَ مُقلتيَّ ويا من
…
هو عيشي وسلوتي والرجاء
يا وحيدي! يا مائلي! يا سراجي
…
ما تدَجَّتْ همومي الكدراء
طال ما قد كتمتُ عنك من السر
…
م وقد شاق سمعك الإصغاء
يا رجائي! ماذا أقولُ؟ وهل للنُّ
…
طق في زحمة الدموع غَناء؟
كلما همَّ بالكلام لساني
…
أيْبَستْه المصيبة السوْداء!
أترى أنتَ إن ذكرتُ لك الأمْ
…
رَ مطيعي أم غاضبٌ أبّاء؟
جاءني الوَحْي في المنام بأمرٍ
…
ليس فيه دفْعُ ولا إرجاء
قال لي: اذبح غداً وحيدَك، يا للْ - هَوْل تنزو لذكْره الأحناء
يا بنيَّ! انظرْ ما تراهُ، ولا تأ
…
خذُك بي غضْبةٌ ولا استهزاء
ليت شعري! أذاك أمرُ إلهي
…
أم تُرى تلكَ لوثتي الحمقاء؟)
فاقْشَعَّر الفتى كما انتفضتْ في
…
خَطرة الرِّيح وردةٌ حسناء
وسَرَت رهبةُ الرَّدى في مُحيا
…
هُ، ورفّت غمامةٌ صفراء
ودَّ لو يكتمُ الأسى عن أبيهِ،
…
كيف يخفى عن العيون الداء؟
رعدةُ الموت ما تخلّصَ منها
…
فقراءٌ قضوا ولا أُمراء
إنما الموتُ حيثما حلَّ في الكو
…
خِ وفي القصر غُمّة وبلاء
هو للشَّيبِ مثلما هو للأط
…
فال، غُوْلٌ، وحيّةُ، رقطاء
وأجاب الفتى يواسي أباه
…
لو يفيد العزاء والتأساء!
(أبتاه! هوَّن عليك! فإني
…
لستُ ممَّنْ من القضاءِ يُساء
حبّذَا مصرعي بكفّك إمَّا
…
كان فيه لربَّنا إرضاء
أبتاه! افعلْ ما أمرت ولا تأ
…
خُذْك بي رحمةٌ ولا أهواء
أنْفِذْ الوحْيَ يا أبي! هل يطيعُ الل
…
هَ إلا المعاشر السعداء؟
أبتاه! إن حانَ يومي فهلْ عُنْ
…
هُ محيدٌ، أو هل ليومي اتَّقاء؟
أبنا خالد على هذه الأرْ
…
ضِ، وما للحياة فيها بقاء؟
لا تهنْ يا أبي هَلَّم فأضْجِعْ
…
نيَ من قبل أن يَدِبّ المساء
ثم عصِّب عينيَّ رفقاً بمندي
…
لٍ، فَلِلْمَوْتِ سَحْنة نكراء
واشحذ الْخِنْجَرَ المُظَمَّأَ حتى
…
تتلظَّى شباتُه الحَمْرَاء
ثم ضعه على خناقي واذبح
…
ني كما تُذْبَحُ الظَّبا والشاء. . .
فإذا ما ذبحتني وتروَّت
…
من دَمي هذه الرمال الظِماء
فاحترس أن يصيبَ كفك شيءٌ
…
منه، أو أن يبَلَّ منك الرداء
وتجنب رَشاشهُ، لا يهنْ أجْ
…
ركَ فيهِ، ولا يقلَّ الجزاء
دعْه للرَّمْل ينسربْ في حنايا
…
هُ، ففيه لحرِّها إطفاء
دعْه يذهب كما تبَدّدَ عِطْر
…
في الفضا أو تغَيّبَتْ أصداء
وإذا ما فرغتَ منِّي وحالت
…
بيننا ظلمةُ الرّدى السَّحْماء
وأردت الرجوعَ بعدي إلى الدا
…
ر، فلي يا أبي إليكَ رجاء
ذاكَ ثوبي فانْزعْه عنِّي إذا م
…
تُّ، وقد خضّبَتْه مِنِّي الدماء
واحيهُ إذ تعود ذِكرى لأمِّي
…
فبهِ سَلوَةٌ لها وعزاء
إيه! أمَّاه لو علمت مصيري
…
وتَبَيّنْتُ ما تريد السماء
لَتمّليْتُ منكِ لثماً ونقبي
…
لاً، ولكن هيهات منّا اللقاء!
لستُ آسى إلاّ عليك من الدُّني
…
ا، ولوْلاكِ لم يرُعْني العفاء. . .
عذب الموت في سبيلكَ يا ربُّ
…
وساغَ البلىَ وطاب الفناء
فمرور السكَّينِ في العنق لثمٌ
…
ولهيبُ النيرانِ ظلٌّ وماء. .
أضجعَ الوالد ابنَه مثلما تُضْ
…
جعُ شاةٌ وديعةٌ خرساء
والفتى ساكنٌ كما نام في الَمه
…
دِ تغنيه أمُّه الَحسناء
مُغْمِضٌ عيْنَه على الدمع، هل يب
…
ديهِ إلاّ الأذِلْة الجُبناء؟
والأب الواله المعذّب تدوي
…
ثائراتٍ في صدْره الأنواء
قبَّلَ الطِّفْلَ ثم عصِّب عينيه
…
وقد ينْفَع البصير الغطاء
تؤلم المبصرَ الدياجي وتنجو
…
من قذاهن مقلة عمياء
وانتضى الخنجر الرهيب بكف
…
أرعشتها الفجيعة الحمراء
مثلما أُرعشت بكأس الحميا
…
كف صب مجنونة هوجاء
كاد يردى فتاه لولا هتاف
…
في السموات مطرب ونداء
وإذا بالسماء تلتمع الأن
…
وار فيها وتسطع الأضواء
وإذا باللحون ترقص في الجوِّ
…
حبوراً وتهتف الأصداء. . .
رفع الوالد المعذب عيناً
…
ملأتها المدامع العصماء
فإذا بالدموع تضحك في عْي
…
نيه بِشراً وتنجلي الضراء
وتهزُّ البشرى الرحيمة كفْي
…
هـ فتهوى سكينه الصّماء
ملك في الفضاء يحمل كبشاً
…
قد تعالى في السُّحب منه الثغاء
هبط الأرض مثلما تهبط الروْ
…
ض اشتياقاً حمامة بيضاء
فدية للصبي أرسلها الله
…
تهادى بحملها البشراء
رحمة الله كم تداركتِ الخلْ
…
ق وقد أعوزتهم الرحماء!
يا خليل الرحمن هيا ارفع الطف
…
ل فقدْ ردْتهُ إليكَ السماءُ
واذَبح الكَبْشَ يا نبيُّ فِداءً
…
عظمَ المفتدى وطابَ الفداء
واسجدا خاشعين شكرا لمنعم
…
البرايا نداه والآلاء
رحمه الله تغمر المجرم العا
…
صي، فكيف الخلائق الأبرياء
إيه شعري قد تَيْمَتْك البطولا
…
تُ وأَغواك نورُها الوضّاء
غَنِّها فهيَ للجراحات مَلْهى
…
وعزاءٌ وبَلْسمٌ وشفاء
وارْوها فالشْبابُ مُصغ لما تن
…
شد قد هدِّه الأسى والداء
والزمان الشقيُّ ساد به الشرَّ
…
وأخنى على بنيه الشقاء
عُذِّبت في جحيمهِ العبقريَّا
…
ت كما فاز بالنّعيم الرِّياء. . .
غنّها ربما تعزّي جريحٌ
…
أو تجافتْ عن ذلَّها الْجَبنَاءِ
سِيَرُ الخالدين كمْ شبّ في أح
…
ضانها الخالدون والعظماء
دمشق
أمجد الطرابلسي
علم التاريخ عند العرب
للأستاذ عبد الحميد العبادي
التأريخ بالهمز والتاريخ بدون همز، والتوريخ، تعريف الوقت. وهو لفظ عربي أصيل، وقيل بل دخيل مأخوذ من أصل سرياني معناه (الشهر): وكانوا قبل الإسلام يوقتون بالنجوم والأهلة يكبسون الشهور إلحاقاً للسنة القمرية بالسنة الشمسية؛ وكانوا يؤرخون من الحوادث العظام والوقائع المشهورة كعام الفيل وبناء الكعبة ونحوهما. فلما كانت خلافة ثاني الخلفاء أمر عمر الناس فأخروا من عام الهجرة، ومضى الأمر على ذلك حتى يومنا هذا
هذا في اللغة؛ أما في الاصطلاح فالتاريخ عندهم فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث توقيتها (وموضوعه الإنسان والزمان. وهو على هذا المعنى قديم عندهم، نما معرفة بسيطة ساذجة من معارف العرب قبل الإسلام، ثم تكمل على الزمن حتى أصبح علماً من أجل علومهم وأعظمها شأناً. فعرب الجاهلية كانوا لغلبة الأمية عليهم يتذاكرون أيامهم وأحداثهم من طريق الرواية الشفوية على هيئة أشعار مقصدة أو أخبار متفرقة؛ وشذ عن تلك الحال من اطرح منهم البداوة ونزل حواضر الجزيرة وخاصة أهل اليمن والحيرة، فقد نقش الأولون بالخط المسند على مبانيهم لمعا من أخبار ملوكهم وشئونهم العامة؛ ودون الآخرون بخطهم أخبار مملكتهم وأودعوها أديار الحيرة وكنائسها
فلما جاء الإسلام، وقامت الدولة العربية ومست الحاجة إلى معرفة سيرة الرسول العربي وأحواله استقصاء للسنة توفر رجال على جمع أخبار السيرة وتدوينها، فكان ذلك بدء اشتغال العرب في الإسلام بالتاريخ، وإن كان التاريخ لم يخرج يومئذ عن كونه نوعا من أنواع الحديث. وأقدم من كتب في موضوع السيرة عروة بن الزبير بن العوام المتوفى عام 93هـ، وأبان بن عثمان ابن عفان المتوفى عام 105هـ، ووهب بن منبه المتوفى حوالي عام 110هـ. ثم انتهى علم السيرة والمغازي إلى رجلين من الموالي هما محمد بن اسحق المتوفى عام 152هـ وقد اختصر سيرته ابن هشام المتوفى عام 218هـ ومختصره هذا هو الذي بأيدي الناس اليوم؛ ثم محمد بن عمر الواقدي المتوفى عام 207، وكثير من روايته مضمن في كتاب الطبقات الكبير لابن سعد المتوفى عام 230هـ هذا إلى كتاب له في مغازي الرسول مطبوع متداول
وفي أثناء ذلك كانت قد تمت الفتوح العربية الكبرى ووقعت الفتن العظمى، ونبض عرق العصبية القبلية، وشاعت بين المسلمين أخبار الأمم القديمة والديانات غير الإسلامية على أيدي رجال مثل كعب الأحبار المتوفى عام 34هـ (؟) وعبيد بن شرية المتوفى حوالي عام 70هـ ووهب بن منبه المتوفى حوالي عام 110هـ فتوافرت أسباب شتى اقتضت جمع وتدوين الأخبار المتصلة بكل ذلك؛ فتدوين أخبار القدماء مثلا دعت إليه رغبة العلماء في فهم إشارات إلى الأمم الغابرة وردت في الكتاب والسنة، وميل بعض الخلفاء كمعاوية والمنصور إلى الإطلاع على سياسات الملوك ومكايدهم؛ هذا فضلا عن حرص الموالي على التنويه بمجد بلادهم القديم. ثم إن تدوين الأنساب وأيام العرب كان مطاوعة لحاجة الشعراء إليها عامة قي مقام الفخر والهجاء، وحاجة الدولة للأنساب خاصة للاستعانة بها في تقدير العطاء للجند. وكان الباعث الأقوى على تدوين أخبار الفتوح رغبة ولاة الأمور في معرفة ما فتح من البلدان صلحا، وما فتح عنوة، وما فتح بعهد، لأن لكل حكما خاصا من حيث الجزية والخراج. فلما دون ذلك كله وجد إلى جانب السيرة نوع آخر من الرواية التاريخية موضوعه أخبار الماضين، وأحوال الجاهلية، وحوادث الإسلام. وقد أطلقوا على ذلك كله لفظ (الأخبار) وعلى المتخصص في روايته (الأخباري) كما عرف المتخصص في رواية الحديث (بالمحدث). ونلحظ النقلة من الحديث إلى الأخبار في رجال خواص منهم ابن إسحاق والواقدي المتقدما الذكر. والمدائني المتوفى عام 225هـ. فكل من هؤلاء كان محدثا وأخباريا معا. كما نلحظ بداية التخصص في الأخبار في مثل محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 146هـ وكان مقدما في علم الأنساب، وعوانة بن الحكم المتوفى عام 147 وقد جمع أخبار بني أمية، وأبي مخنف المتوفى عام 157، وله كتب في الردة ووقعة الجمل ووقعة صفين وأخبار الخوارج. وسيف ابن عمر المتوفى عام 170 وله كتاب كبير في الفتوح، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 204 وله في أخبار الأوائل وأيام العرب وأنسابهم وأخبار الإسلام كتب كثيرة أحصاها ابن النديم في كتاب الفهرست، وقد طبع منها حديثا (كتاب الأصنام)
وقد وجد في تلك المرحلة نوع من التخصص المحلي في رواية الأخبار، فكان لبعض الأقطار الإسلامية الرئيسية أخباريون اختصوا بجمع أخباره وتدوينها. قال ابن النديم:
(قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بأمر الحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام)
على أن المحدث كان عند جمهور ذلك الزمان أشرف موضوعا وأسمى منزلة من الأخباري؛ وذلك يرجع إلى شرف موضوع الحديث وإلى أن الأخبار وخصوصا قديمها كانت مظنة الأغراب والتلفيق والاختلاق. ولقد بلغ الأمر بهم أن كانوا يضعفون المحدث إذا مال إلى الأخبار، فقد ضعفوا محمد بن اسحق وكان أصلا رواية للحديث، ثم صار يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم أهل العلم الأول. وربما لم يستحسنوا للفقيه المختص باستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة أن يتوفر على طلب الأخبار. ذكر ابن خلكان (أن أبا يوسف كان يحفظ المغازي وأيام العرب وأنه مضى ليستمع المغازي من محمد بن اسحق أو غيره وأخل بمجلس أبي حنيفة، فلما أتاه قال له أبو حنيفة، يا أبا يوسف! من كان صاحب راية جالوت؟ فقال له أبو يوسف: إنك إمام؛ وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ أيما كان أولا، وقعة بدر أو أحد، فإنك لا تدري أيهما كان قبل الآخر، فأمسك عنه)
وجملة القول أن أهل السيرة والأخبار قد رسموا في أواخر القرن الثاني الموضوعات الأساسية للتاريخ عند العرب، وهي أموراً أربعة:(1) أخبار الماضين (2) أحوال العرب قبل الإسلام (3) السيرة (4) أخبار الدولة الإسلامية. ومن أوائل القرن الثالث إلى أوائل الرابع يلحظ الباحث زيادة جوهرية في المادة التاريخية ودقة وتحرراً في مصادرها. فقد استقرت دواوين الدولة العباسية وتمهدت قواعدها ولاسيما دواوين الإنشاء والجند والخراج والبريد، وأمكن المشتغلين بالتاريخ أن ينتفعوا بها في بحثهم، كما يؤخذ مما اشتملت عليه تواريخ القرن الثالث من عهود رسمية ومراسلات سياسية وإحصاءات للمواليد والوفيات، ومدد ولاية كبار الدولة من وزراء وقواد وعمال وقضاة وولاة لمواسم الحج ووصف للحروب الداخلية ووقائع الغزو على الحدود صيفاً وشتاء وغير ذلك. ثم إنه في العصر المذكور قويت حركة النقل عن اللغات الأجنبية كالفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية. وقد بدأت هذه الحركة من حيث التاريخ بترجمة ابن المقفع عن الفارسية حوالي عام 140 لكتابي خدينامه وآيينامه في تاريخ الفرس وأحوالهم؛ ومن هذا القبيل كتاب عهد أردشير
الذي ترجمه إلى العربية البلاذري المتوفى عام 279، ومنه أيضاً ترجمة تاريخ هيروشيوس وإن كان ذلك قد تم بالأندلس حوالي منتصف القرن الرابع. ثم إن سهولة الانتقال بين أنحاء الدولة الإسلامية حملت كثيراً من طلاب العلم والمؤرخين خاصة على الرحلة في طلب الرواية وأخذها عن الشيوخ، ولرؤية عجائب البلاد ومشاهدة آثارها، فوجد بذلك مصدر هام للمادة التاريخية هو المشاهدة والمعاينة. وعلى الجملة فإن مؤرخي القرن الثالث حددوا بصفة عامة مصادر التاريخ عند العرب فكانت أربعة أشياء (1) كتب السيرة والأخبار (2) السجلات الرسمية (3) الكتب المنقولة عن اللغات الأجنبية (4) المشاهدة والعيان
وبتعاظم المادة التاريخية وتحرر مصادرها بالقياس إلى ما كانت عليه الحال من قبل لم ير كثير من أفاضل العلماء وثقات الفقهاء باساً بالتوفر على دراسة التاريخ والتأليف فيه؛ ومن ثم أخذ التاريخ مظهره الرائع كعلم من أجل علوم المسلمين وأعظمها شأناً، وأخذ المؤرخون مكانتهم بين علماء الدولة الإسلامية كرجال لهم خطرهم في الحياة العامة سياسية كانت أو عقلية أو أدبية. وتضاءل مدلول لفظ الأخباري حتى أصبح كما فسره بعد السمعاني المتوفى عام 562 بقوله:(ويقال لمن يروي الحكايات والقصص والنوادر الأخباري) نذكر من بين مؤرخي القرن الثالث ابن قتيبة صاحب كتاب المعارف وقد توفي عام 270، والبلاذري صاحب كتابي فتوح البلدان وأنساب الأشراف وتوفى عام 279، واليعقوبي صاحب التاريخ المضاف إليه وتوفي عام 284، والدينوري صاحب الأخبار الطوال والمتوفى عام 290 وابن جرير الطبري صاحب تاريخ الرسل والملوك والمتوفى عام 310هـ
أخذت الوحدة السياسية التي انتظمت الدولة العباسية تتداعى من منتصف القرن الثالث، ولم تلبث تلك الدولة أن أصبحت مجموع دويلات عديدة يحكمها متغلبون مختلفو الأجناس في مشارق الدولة ومغاربها، وجرت اللامركزية السياسية إلى لا مركزية أدبية. فتوزعت الثقافة الإسلامية على الأمصار بعد أن كادت تكون مجموعة في حاضرة الخلافة وحدها. ونافست بغداد قرطبة والقيروان ومصر وحلب وأصفهان، وغزنة والري وبلخ وغيرها، وكثر العلماء في الأمصار كثرة عظيمة. كل ذلك أثر في كتاب التاريخ عند العرب تأثيراً كبيراً يتضح في كثرة ما ظهر ابتداء من منتصف القرن الثالث من التواريخ المحلية وكتب
التراجم والطبقات خاصة؛ من ذلك تاريخ فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم المتوفى عام 257، وكتاب ولاة مصر وقضاتها للكندي المتوفى عام 350 وتاريخ بغداد وأعلامها للخطيب البغدادي المتوفى عام 463، وتاريخ دمشق وأعلامها لابن عساكر المتوفى عام 571، والبيان المغرب في إخبار المغرب لابن عذارى (القرن السابع)، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي (626)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (681هـ) وإلى جانب ذلك ظلت سلسلة التواريخ العامة مطردة من حيث انتهى الطبري، فوضع المسعودي المتوفى عام 346 كتابيه مروج الذهب وأخبار الزمان، وصنف ابن مسكويه (421) تجارب الأمم، وابن الأثير (630) كتابه الكامل
واستتبع التفرق السياسي وهن القوة الذاتية للعالم الإسلامي فطمع فيه أعداؤه من وراء الحدود واجترءوا عليه واستباحوا حماه، وبدت مقدمات ذلك في استئساد الروم وانتقاصهم شمالي الشام في القرن الرابع، ثم أغار الصليبيون في القرن الخامس والسادس على ملك المسلمين بالمغرب والمشرق، ولم تكد تلك الغمة تنجلي عن العالم الإسلامي حتى كانت الداهية الدهياء والطامة الكبرى وهي غارة المغول، فقضى على الخلافة العباسية ودمرت معالم الحضارة الإسلامية في القارة الأسيوية تدميرا
واتضحت عبر التاريخ وصروف الزمن بعد تلك الأحداث الجسام والخطوب العظام، فكان طبيعيا أن ينحو المؤرخ الإسلامي في التاريخ تلقاء ذلك كله منحى فلسفيا عميقا فيتعرف علل الحوادث وأسباب قيام الدول وأسباب سقوطها ومظاهر العمران وأصول الاجتماع ونحو ذلك. وهذا ما صنعه فيلسوف مؤرخي العرب قاطبة عبد الرحمن بن خلدون المتوفى عام 808 في مقدمة تاريخه التي لم يكتب مثلها في الإسلام على الإطلاق. ثم لم يلبث علم التاريخ أن نظر إليه على أنه يمكن أن يكون هو نفسه محلا للتاريخ فوضع في ذلك الصفدي (764) مقدمة كتابه الوافي بالوفيات، والسخاوي المتوفى عام 902 كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ)
فيرى القارئ أنه فيما بين الرواية الشفوية القديمة وفلسفة التاريخ لابن خلدون وتاريخ التاريخ للسخاوي، قد نما التاريخ عند العرب وتفرع وأزهر وأثمر، فلما نضب معينه بانحلال الحياة الإسلامية العامة المستقرة جرى عليه ما يجري على الأحياء من حكم البلى
والفناء متى انقطعت مادة حياتها
ذلك مجمل حال التاريخ عند العرب نشوءاً واكتمالا وهرماً وفناء؛ أما من حيث الطريقة العلمية التي اتبعوها فالتاريخ ابتدأ عندهم كما رأينا فرعاً من علم الحديث فكان حرياً أن يتأثر بطريقة المحدثين في جمع الرواية التاريخية ونقدها، فكان أهل السيرة والمغازي والأخبار يجمعون مأثور الروايات ويدونونها مع إسنادها إلى مصدره الأصلي وهو عادة رجل عدل له علم مباشر بالواقعة المروية كأن يكون عاينها أشترك فيها كما هي الحال في رواية أخبار السيرة والإسلام، أو أخذها من بعض مظانها ككتاب قديم ضاع، أو من بعض أهل البادية، وتلك كانت الحال في رواية أخبار الأمم القديمة والعرب قبل الإسلام. فكان النقد عندهم أو الجرح والتعديل كما يسمونه ذاتياً منصباً على الرواة، لا موضوعياً منصباً على المرويات. هذه الطريقة ضمنت لهم إلى حد بعيد صحة الأخبار المتصلة بالقسم التاريخي من السيرة وبحوادث الدولة الإسلامية، ولكنها عجزت عن أن تضمن لهم ذلك في أخبار القدماء والعرب قبل الإسلام والقسم الأول من السيرة. والحق أن هذه الموضوعات الأخيرة هي أضعف وأغمض نواحي كتب التاريخ عند العرب.
وإذا كان الإسناد عندهم أساس نقد الأخبار فقد كان أساس ضبطها هو التوقيت الدقيق بالسنين والشهور والأيام، وهو ضابط انفردوا به عن نظرائهم عند اليونان والرومان وأوروبا في العصور الوسطى قال المؤرخ الإنجليزي (بكل): إن التوقيت على هذا النحو لم يعرف في أوروبا قبل عام 1597. على أن هذا النظام ابتدأ ضعيفا عندهم، فكثير من حوادث الفتوح الأولى قد وقع في توقيته خلط شديد واختلاف كثير. ثم تكمل التوقيت على مر الزمن بتعدد طرق الخبر الواحد وبالأخذ عن المصادر الرسمية التي سبقت الإشارة إليها.
وقد اتبعوا طريقة علماء الحديث كذلك في تدريس كتب التاريخ وتلقيها عن مؤلفيها بالسند المتصل قراءة وسماعا وإجازة؛ فكتاب الأصنام مثلا تتصل سلسلة روايته عن ابن الكلبي من عام 201 إلى قريب من عام 500، ومثل ذلك يقال في مغازي الواقدي وكثير غيره من كتب التاريخ. وتلك مبالغة محمودة في المحافظة على النصوص التاريخية الهامة والكتب المعتبرة أمهات وأصولا.
تلك طريقتهم في جميع الرواية التاريخية ونقدها وضبطها؛ أما عرضهم لها فأصحاب السيرة والمغازي والأخباريون الأوائل كانوا يجمعون الروايات ويرتبونها بحسب موضوعاتها رسائل أو كتباً تشبه أبواب الحديث؛ ثم جاء المؤرخون فسلكوا في عرض الحوادث طريقتين أولاهما وأقدمهما الترتيب على السنين، ويظهر أن أول من صنف على هذا النمط الهيثم بن عدي المتوفى عام 207، ثم اتبعها من بعده الطبري وابن مسكويه وابن الأثير وأبو الفداء، والأخرى الترتيب على العهود، وقد جرى عليها اليعقوبي والدينوري والمسعودي وغيرهم.
ويتصل بعرض الحوادث أسلوب أدائها وتصويرها: أما الأسلوب فكان على وجه العموم سهلا غير متكلف، وأما التصوير فكان فيه وضوح وقوة وحياة كما في العقود الأولى من تاريخ الطبري وفي بعض فصول ابن مسكويه والصولي.
ويمكن تلخيص أوجه النقص في طريقتهم في أمور ثلاثة: ضعف ملكة النقد عندهم بوجه عام، وإدارتهم التاريخ على الأفراد والحروب والسياسة في أبسط صورها، وعدم عنايتهم بالشئون العامة للجماعات أو بتعليل الحوادث والنفاذ إلى أسرارها
على أنه مهما قيل في نقص طريقتهم من الناحية العلمية فحسبهم أنهم خلفوا للمؤرخ الحديث ثروة تاريخية طائلة يستطيع أن يتدارك في صياغتها ما فاتهم. وإن العالم الحديث يسجل لهم أنهم أول من حاول ضبط الحوادث بالأستاذ والتوقيت الكامل. وانهم مدوا حدود البحث التاريخي ونوعوا التأليف فيه وأكثروه إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى، وأنهم أول من كتب في فلسفة التاريخ والاجتماع وتأريخ التاريخ، وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقتهم بأول واجب المؤرخ وآخره، وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم
عبد الحميد العبادي
التصوف الفلسفي في الإسلام
للدكتور أبو العلا عفيفي
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
سأعرض في هذا البحث للتصوف الفلسفي من ناحية نشأته والعناصر التي دخلت في تكوينه لا من حيث مسائله ولا نظرياته، وإن كنت سأشير إلى بعض هذه النظريات إشارة سريعة مجملة
ونشأة التصوف الفلسفي في الإسلام متصلة بنشأة التصوف نفسه من جهة، وبنشأة الزهد الذي تقدم التصوف الفلسفي منه وغير الفلسفي
وربما خلط بعض الناس بين التصوف والتصوف الفلسفي من جهة، وبين التصوف والزهد من جهة أخرى؛ أو فهم الثلاثة أنها من المترادفات، وليس هذا بنادر الوقوع. أما الزهد فهو الناحية العملية من الطريق الصوفي؛ أو هو الحياة التي يحياها الصوفي، تلك الحياة البادية في مظهره الخارجي من تقشف في المأكل والمشرب واعتزال للناس وانقطاع إلى الله، والبادية في حياته الباطنة الروحية من خشية من الله وورع وتقوى وعبادة وصوم وصلاة وذكر وتهجد وهجر للدنيا وزخرفها. وأما التصوف فأصدق وصف له أنه طريق لتصفية النفس ومجاهدتها ورياضتها والانتقال بها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام والترقي بها في خطوات بطيئة عسيرة حتى يصل بها صاحبها إلى المقام الذي يطلق عليه الصوفية اسم مقام الشهود أو الوجد أو الفناء - وهو المقام الذي يدرك فيه الصوفي - وفي هذه الحال لا فرق بين صوفي مسلم وصوفي مسيحي أو يهودي أو بوذي - يدرك من الحقائق ما لا سبيل للعقل الإنساني أن يدركه، ويتذوق من المعاني ما يكل اللسان الإنساني عن شرحه
وأما التصوف الفلسفي فهو الأساس الميتافيزيقي أو النظريات الفلسفية التي يحاول بها الصوفيون في وقت صحوهم تفسير أو تعليل ما يجدونه في وقت سكرتهم أو في حالة وجدهم
وقد وجدت هذه الأنواع الثلاثة في الإسلام وظهرت فيه ظهورا تاريخيا متواليا بحيث يمكن اعتبار كل منها دورا من أدوار التصوف هو بمثابة المقدمة المنطقية للدور الذي يليه، فظهر الزهد في القرنين الأولين من الهجرة، وظهر التصوف في القرن الثالث، وظهر
التصوف الإسلامي في القرن الرابع وما بعده، ولم يأت القرن السادس والسابع حتى بلغ التصوف الفلسفي أقصى حده في النضوج ثم ضعف شأنه بعد ذلك تدريجياً
أما الزهد فقد ظهر في الإسلام قويا فتيا بمجرد ظهور الإسلام تقريبا؛ ذلك أن الإسلام دين ورحمة وزهد وتقوى؛ وليس دين دنيا وشهوات ولذات كما يصفه بذلك أعداؤه الذين يحاولون تعليل نشأة الزهد في الإسلام بأنها راجعة إلى عوامل كلها خارجة عن الإسلام، ويخصون بالذكر من بين هذه العوامل المسيحية والرهبنة المسيحية التي كانت منتشرة في صحراء العرب وبلاد الشام ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية
نعم لم يدع الإسلام إلى الرهبنة، بل هو صريح في إنكارها في القرآن والحديث، ولكنه دعا إلى العبادة والورع والتقوى والتهجد وقيام الليل والصوم والصلاة
نعم لم يذكر القرآن كلمة زهد ولا مادة الزهد إلا في آية واحدة في سورة يوسف في قوله تعالى (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) ولم يذكرها هنا على سبيل المدح ولا بالمعنى الذي نتكلم عنه، ولكنه وإن لم يذكر (الزاهد) فقد ذكر العابدين والسائحين والقانتين والمخبتين والركع السجود، وكل هذه من صفات الزاهدين
وإذا كان الزهد طريقة للتقرب إلى الله ومناجاته وذكره فقد وصف القرآن الله بأنه رحيم، وبأنه ودود، وبأنه قريب من عبده، بل إنه أقرب إليه من حبل الوريد، وبأنه سميع مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه
فلا حجة للقائلين بان فكرة الحب الإلهي قد دخلت إلى الزهد الإسلامي عن طريق المسيحية لأن الإسلام قد قضى على كل أمل في الاتصال الروحي بين العبد وربه يوصفه الله بأنه جبار متكبر منتقم الخ
ظهر الزهد في الإسلام إذن داعيا إليه الإسلام كما قلنا وداعيا إليه ظروف أخرى هي الظروف السياسية القاسية التي عاش فيها المسلمون في عهد الخلفاء وعهد بني أمية - فقد كان هذا العصر عصر حروب وفتن مستمرة وقلاقل واضطرابات - وفيه دخلت النظريات السياسية إلى العقائد الدينية، وتدخل الحكام في آراء الناس الدينية ومعتقداتهم، فاضطهدت الحرية وكبت التفكير الحر: فشعر من لم يميلوا إلى اعتزال الناس بضرورة العزلة وزهدوا في الدنيا وزخرفها وفي الحكومة والحكام
أما الرهبنة المسيحية فقد كان لها أيضاً أثرها في الزهد الإسلامي لا من حيث أنها كانت السبب في وجوده، بل من ناحية أنه تسرب إلى طريقة المسلمين في الزهد كثير من تقاليد الرهبان المسيحيين وعاداتهم وطقوسهم
بل إن القرن الثاني لم يكد ينتهي حتى انتظمت حركة الزهد الإسلامي داخل أديرة وصوامع أشبه بأديرة وصوامع المسيحيين: فأسست خانقاه في دمشق سنة 150هـ وأخرى بخراسان سنة 200. ويقول عبد الرحمن جامي في كتابه نفحات الأنس أن أول خانقاه أسست في الإسلام كانت بالرملة بفلسطين أسسها في القرن الثاني راهب مسيحي - وإن كان المقريزي يقول في الخطط إن الأديرة لم تظهر في الإسلام إلا في القرن الخامس الهجري - ولعله يقصد بذلك انتشار الأديرة في البلاد الإسلامية لا مجرد وجود بعضها
وقد امتاز الزهد في القرنين الأول والثاني - ولاسيما القرن الثاني بصدق الورع والتقوى وسلامة الإيمان والخشية الشديدة من الله ومن عذاب جهنم، والأمل الشديد في الحظوة برؤية الله في الدار الآخرة، وكثرة المناجاة والكلام في الحب الإلهي
وقد تغلغل الزهد في نفوس المسلمين العامة والخاصة على السواء، وظهر منهم في القرن الثاني أمثال الحسن البصري المتوفى سنة 110 وهو المؤسس لفرقة الصوفية بالبصرة، وإبراهيم بن أدهم البلخي المتوفى سنة 161، وداود بن نصير المتوفى سنة 165، والفضيل ابن عياض المتوفى سنة 186، ومن النساء رابعة العدوية التي توفيت سنة 135
وكانت رابعة آية من آيات الله في الزهد: زهدت أولا في الحياة الدنيا وزخرفها طمعا في الآخرة وجنتها، ثم زهدت في الجنة طمعا في الفوز بمحبة الله ورضاه
وقد حل الحب الإلهي من قلبها كل مكان فأصبحت لا تناجي سوى الله ولا تتحدث إلا إليه؛ وفي هذا يحكي شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف أنها كانت تقول:
إني جعلتك في الفؤاد مؤانسي
…
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
…
وحبيب قلبي في الفؤاد جليسي
ويقول القشيري عنها إنها كانت تقول في مناجاتها (إلهي! تحرق بالنار قلبا يحبك؟) فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل ذلك؛ فلا تظني بنا ظن السوء
أما القرن الثالث فدور انتقال من الزهد إلى التصوف بمعناه الحقيقي. والواقع أن هذا الدور
كان أقرب إلى الزهد منه إلى التصوف. في هذا القرن نجد كلمة (صوفي) شائعة الاستعمال ولم يكثر استعمالها قبل نهاية القرن الثاني خلافا لما ذهب إليه القشيري، فلم يفرق الناس بين زاهد وصوفي لأنه لم يوجد من الزهاد من ينطبق عليه وصف صوفي بالمعنى الدقيق. أما في القرن الثالث فحصل التمييز بينهما فسمى الزاهد زاهدا وسمى الصوفي صوفيا أحيانا وعارفا أحيانا
بل إننا نجد في هذا القرن تحولا في وجهة نظر الزهاد أنفسهم، فإنهم لم يعودوا ينظرون إلى الزهد باعتباره غاية في نفسه، بل نظروا إليه باعتباره وسيلة لتحقيق غاية أخرى هي الكشف: أي أنهم اعتبروا الزهد مرحلة من مراحل الطريق بواسطتها يصل السالك أو المريد إلى تصفية النفس والترقي بها في معارج الحياة الروحية إلى أن يصل بها إلى حالة الفناء التي تنكشف له فيها الحقائق الألهية، فتنعكس هذه الحقائق على مرآة قلبه كما تنعكس صور المرئيات على صفحة المرآة الصقيله المجلوة
وفي هذا القرن أيضاً نجد القوم يكثرون من الكلام في المواجد والأذواق، ويصفون الأحوال والمقامات، ويتكلمون في الصحو والسكر والمحو في الوحدة والسكرة والتفريد والتجريد والفناء والبقاء وغير ذلك من أحوالهم الصوفية
يعرف معروف الكرخي المتوفى سنة 200 التصوف بأنه الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الناس؛ يريد أنه إدراك الحقائق الإلهية بواسطة الكشف والزهد في الدنيا. وهذا تعريف جديد للتصوف لم نسمع به من قبل
ونغمة أخرى جديدة نسمعها من ذي النون المصري الذي كان أول من تكلم في المعرفة الحاصلة بالكشف واعتبرها المقياس الحقيقي لحياة الرجل الصوفي، يقول: إنه بمقدار ما يعرف الصوفي من ربه يكون إنكاره لنفسه. وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي عبر عنها غيره بالفناء
وفي هذا المعنى يقول الحسن بن علي بن يزدينار: (يكون العارف بمشهد من الحق إذا بدا الشاهد، وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس) وهو قول ينسبه بعض الصوفية للشبلي، ونغمة ثالثة نسمعها من أبي يزيد البسطامي (المتوفى سنة 261) في الحال التي يعبر عنها القوم بالفناء: يقول أبو يزيد وقد سئل عن العارف (أي الصوفي):
(للخلق أحوال ولا حال للعارف، لأنه محيت آثاره ورسومه، وفنيت هويته (أي شخصيته) لهوية غيره، وعييت آثاره لآثار غيره؛ فالعارف خير والزاهد سيار) وفي هذه إشارة صريحة إلى التفرقة بين الزاهد والعارف أو الصوفي
في أثناء هذا القرن كان التصوف الفلسفي في دور التكوين؛ فقد توفرت العوامل على ظهوره، وتهيأت النفوس لقبوله، وظهرت بوادره بالفعل في عبارات بعض الصوفية أمثال ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي. ولكن من المغالاة أن نقول إن لأحد من متصوفة القرن الثالث مذهبا فلسفيا خاصا أو عقيدة فلسفية صوفية معينة، على الرغم من أن كثير من أقوالهم يمكن تأويلها تأويلا فلسفيا
ولكن سرعان ما انتهى عصر الانتقال وبدأ التصوف يدخل في دوره الثالث وهو الدور الفلسفي الحقيقي؛ وكان ذلك في القرن الرابع وما بعده، فقد تحول التصوف إلى شكل جديد بدخول النظريات الفلسفية فيه. وربما كان أول السابقين إلى هذا الميدان الحسين بن منصور الحلاج المتوفى سنة 309هـ
لم يقف الصوفية بعد القرن الثالث عند حد الكشف والشعور بالمواجد والأذواق في أحوالهم الصوفية، بل حاولوا أن يفسروا ما يدركون ويؤولوا ما يشعرون به، ويعللوا لما يتذوقونه من تلك المعاني التي هي فوق طور العقل، فكانت نتيجة شرحهم وتفسيرهم وتعليلهم أن وضعوا نظرياتهم الفلسفية. عرفوا الكشف في أحوالهم فحاولوا أن يضعوا نظرية للكشف في صحوهم: أدركوا وحدة الوجود في حالة فنائهم فحاولوا تفسير وحدة الوجود. أدركوا الوحدة في الكشف والتعدد في الصحو فدعاهم ذلك إلى تفسير معنى الوحدة والكثرة، ومعنى الحق والخلق ومعنى الفيض والاتصال، والجمع والتفرقة وغير ذلك
فمجموعة تفسيراتهم لمظاهر الحياة الصوفية هي الذي نعنيه بفلسفتهم التي يمكننا أن نلخصها في ثلاث نظريات: نظريتهم في طبيعة الوجود، نظريتهم في المعرفة، نظريتهم في الإنسان ومركزه في العالم وموقفه من الله
على أن من الصوفية من رجال العصر المتأخر أمثال محي الدين بن عدي، وشهاب الدين عمر السهروردي المقتول، من سلك مسلك الفلاسفة من بادئ الأمر، فكانت لهم وجهات نظر فلسفية خاصة في طبيعة الوجود وفي الإنسان والعالم، فاستعملوا المنهج النظري
الفلسفي وأساليب الفلاسفة واصطلاحاتهم واستدلالاتهم، ثم نظروا إلى التصوف باعتباره مرحلة متممة لمذهبهم، كما نظر الصوفية إلى الزهد باعتباره مرحلة متممة لطريقتهم
والفرق بين هذا النوع من الصوفية والنوع الأول أن الأولين أمثال الحلاج يضعون نظرياتهم الفلسفية في عرض تأويلهم وتفسيرهم لما يشاهدونه في أحوالهم ومواجدهم؛ أما الآخرون فيلجئون للكشف والذوق توكيدا وتحقيقا للنتائج التي يصلون إليها بالنظر العقلي
وهذه الطريقة ممثلة تمام التمثيل في كتب ابن العربي بوجه خاص، فإنه بعد أن يبحث المسائل الفلسفية بحثاً عميقا ويناقشها من جميع وجوهها يحس كأن العقل غير كاف في الوصول إلى درجة اليقين فيها، فيحيل القارئ إلى الكشف والذوق، أو يخبره بأنه هو نفسه قد أدرك حقيقتها كشفا أو ذوقا
صار التصوف الفلسفي بعد ذلك سيراً حثيثا بخطوات واسعة فسيحة وظهرت فيه المذاهب الفلسفية الكاملة، بل والمدارس الفلسفية، وألفت فيه المؤلفات أمثال الأحياء والمشكاة للغزالي والنصوص والفتوحات لابن العربي وحكمة الإشراق للسهروردي والإنسان الكامل لعبد الكريم الجبلي
أما العوامل التي ساعدت على ظهور التصوف الفلسفي فكثيرة متعددة، فقد كانت البيئة التي يعيش فيها متصوفة القرن الثالث وما بعده مزيجا غريبا من الأمم المختلفة والثقافات المختلفة والديانات المختلفة والفلسفات المختلفة، بل كان الجو الذي يتنفس فيه المسلمون خليطا من هذه العناصر كلها: فلا عجب إذن أن يأتي التصوف الفلسفي في الإسلام ممثل لكل مذهب من المذاهب، حاويا لكل بدعة إسلامية وغير إسلامية، فإن فلسفة التصوف الإسلامي ليست مذهبا واحداً ولا عقيدة واحدة، بل مجموعة من المذاهب بعضها يتفق مع روح الإسلام وبعضها يتعارض مع التعاليم الإسلامية معارضة صريحة
واهم هذه العناصر التي دخلت في التصوف الفلسفي ومنها تركب هي:
أولا - التصوف نفسه بكل ما فيه من وصف للحياة الروحية، وكلام في المقامات والأحوال، وذكر للمواجد والأذواق، وتعبيرات عن خاطر النفس ومحاسبتها ومراقبتها
ثانيا - القرآن والحديث: فإن الصوفية قد اتخذوا كثيراً من الآيات القرآنية أساسا لنظرياتهم فأولوها تأويلات تتفق وروح هذه النظريات، وذلك مثل قوله تعالى: كل شيء هالك إلا
وجهه. وقوله: كل من عليها فان، وقوله: الله نور السموات والأرض الخ فقد أولوا الوجه في الآيتين الأوليين على أنه الذات الإلهية الأزلية المقومة لكل موجود؛ وأولوا الهالك والفاني على أنه مظاهر الوجود أو الوجود المتكثر: أما النور ففسره تفسيراً زرادشتيا على أنه الوجود الحقيقي وضده الظلمة التي هي العدم المحض. أما الأحاديث التي يستشهد به الصوفية فأكثرها مدخول على النبي منتحل
ثالثاً - علم الكلام: فقد وصل علم الكلام في إبان ظهور التصوف الفلسفي في الإسلام أقصى حده في النضوج الفلسفي، وتسرب الكثير من نظرياته إلى نظريات الصوفية
والمعروف أن عدداً كبيراً من رجال الصوفية في القرن الثالث كانوا من كبار المتكلمين أيضاً أمثال أبو القاسم الجنيدي والحارث المحاسبي وغيرهما
والناظر في كتب التصوف أمثال اللمع للسراج والتعرف للكلاباذي والرسالة للقشيري وغيرها يعرف مدى علم الصوفية بمسائل الكلام ومدة مزجهم لها بنظرياتهم. وتكفي الإشارة هنا إلى عقيدة وحدة الوجود التي هي أخص مظهر للتصوف الفلسفي الإسلامي، فإنها فيما أعتقد راجعة في اصل نشأتها إلى تفكير إسلامي كلامي صوفي؛ وليست كما يقول بعض المستشرقين راجعة إلى الفلسفة الأفلاطونية الجديدة أو الفلسفة الهندية؛ فقد بدأ الصوفية يبحثون في عقيدة التوحيد بحثا كلاميا فوقعوا من حيث لا يعلمون في عقيدة وحدة الوجود. بدءوا يبحث الوحدانية فقالوا: الله واحد بمعنى أنه لا شريك له، فنفوا الشريك والند والضد والمثل. وقالوا أهم صفة للإله الواحد وجوب الواجد. ثم بحثوا في واجب الوجود فقالوا الله واجب الوجود بمعنى أن وجوده من ذاته، وغيره ممكن الوجود أي وجوده من غيره، ولكنهم زادوا على ذلك بقولهم إنه واجب الوجود بمعنى أن وجوده هو الوجود الحقيقي وكل ما عداه فوجوده ظاهري أو وهمي. ثم توسعوا في معنى وجوب الوجود فقالوا إن واجب الوجود هو الفاعل لكل شيء والعلة في وجود كل شيء - فانتهوا من بحثهم بنتيجتين:
الأولى: نفى للعلل كلها والقول بأن لا فاعل على الحقيقة إلا الله
والثانية: نفى الوجود المتكثر الظاهر في الكون والقول بأنه وجود زائل متغير - وأن المقوم لكل موجود والحقيقي في كل موجود هو الحق أو الله
وهكذا بدءوا بقولهم: لا إله إلا الله، وانتهوا بقولهم: لا موجود على الحقيقة إلا الله. ثم وجدوا - أو خيل إليهم أنهم وجدوا - ما يعزز دعواهم هذه في الحالة الصوفية التي يعبرون عنها بالفناء وهي الحالة التي يشعر فيها الصوفي بالوحدة المطلقة فلا يدرك فيها فرقا بين حق وخلق - وهي الحالة التي صاح فيها الحلاج بقوله: أنا الحق!
وقد سمى الصوفية عقيدة التوحيد بتوحيد العوام، وعقيدة وحدة الوحدة بتوحيد الخواص، وأوردوا لكل منهما تعريفا خاصا
يقول الجنيد في تعريف توحيد العوام إنه إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته. ويقول في تعريف الخواص إنه الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية يعني بذلك الفناء
رابعا - الفلسفة الأفلاطونية الجديدة - لاسيما الأفلاطونية الجديدة المتأخرة التي ظهرت في كتابات برفلس ويبميليخوس والكاتب الأفلاطوني المسمى خطأ ديو تسبوس الازيوباغني.
ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا تكاد مسألة من مسائل التصوف الإسلامي الفلسفي أو نظرية من نظرياته تخلو من أثر للفلسفة الأفلاطونية الجديدة: فنظريات الصوفية في خلق العالم والفيض أو الصدور عن الواحد الحق، وكلامهم في النفس والعقل والقلب والكشف والمعرفة والشهود، وفي العالم العلوي والعالم المحسوس وفي الإنسان الكامل، كلها مطبوعة بطابع هذه الفلسفة ومستند إليها
خامسا - المسيحية ولا نعني بالمسيحية الديانة المسيحية وعقائدها، بل الحياة المسيحية كما حييها المسيحيون في البلاد التي انتشر فيها الإسلام ممثلة في حياة الرهبان والمتصوفين؛ ولم يأخذ الصوفية عن المسيحيين بعض أساليبهم في الزهد ومظاهر التقشف ولباس الصوف الذي منه اشتق اسمهم فحسب، بل أخذوا عنه بعض نظرياتهم في طبيعة المسيح وفي التثليث: فقال بعضهم بالحلول، مثل الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل بسبب هذه العقيدة سنة 309. ومن أبياته في الحلول قوله:
سبحان من أظهر ناسوته
…
سرَّ سناً لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهراً
…
في صورة الأكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
…
كلحظة الحاجب بالحاجب
وقال بعضهم صراحة بالتثليث، وأن التثليث أساس يقوم عليه أمر الخلق كله، ولكنه تثليث
اعتباري قائم بالفردية الإلهية. وبهذا المعنى يجهر ابن عربي في غير مبالاة في قوله:
تثلَّثَ محبوبي وقد كان واحداً
…
كما صير الأقنام بالذات أقنما
وليست نظرية الصوفية فيما يسمونه النور المحمدي (أو الحقيقة المحمدية) الذي يقولون إنه كان في القدم قبل أن يخلق الله العالم، وأنه بواسطته ومن أجله خلق الله العالم، سوى صورة من صور النظرية المسيحية في المسيح الذي يطلقون عليه اسم (الكلمة) ويقولون أنها كانت في الأزل مع الله، وأنه بواسطتها ومن أجلها خلق الله العالم
سادسا - الفلسفة الهندية التي دخلت الإسلام عن طريق فارس وما وراء النهرين وما جاورهما من حدود الهند، فإن المسلمين لم يفتحوا الهند إلا في القرن الرابع الهجري (في زمن السلطان محمود الغزنوي المتوفى سنة 421)، ولكن الفلسفة الهندية البوذية والتصوف الهندي قد شقا طريقهما إلى بلاد الفرس وما جاورها بل الفتح الإسلامي بنحو ألف سنة، وقد كان كثير من بلاد هذه الناحية مراكز مشهورة بالتصوف غاصة بالإدارة الوثنية القديمة: نخص بالذكر منها مدينة بلخ
ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن كثيرا من أوائل الصوفية في الإسلام قد جاءوا من بلخ هذه وما جاورها، وبواسطتهم دخل في التصوف الإسلامي كثير من النظريات الهندية والتقاليد البوذية في مجاهدة النفس ورياضتها وتعذيب البدن وما إلى ذلك. من هؤلاء إبراهيم بن أدهم الذي يقول عنه الأستاذ جولدزيهر إن قصته قد حيكت على مثال قصة بوذا من أنه كان من بيت من بيوت الملك فزهد في الملك والدنيا بأسرها وعاش من عمل يده؛ ومثل أبي يزيد البسطامي الذي كان من أصل فارسي زرادشتي تلقى عقيدة الفناء عن أبي علي السندي، كما تلقى عنه الطريقة الهندية المعروفة بمراقبة الأنفاس؟ والفناء الذي يتكلم عنه أبو يزيد والذي شاع بعده في كلام الصوفية جميعهم هو ما يسميه الهنود (زفانا) أي انمحاء الشخصية الفردية والشعور بالوحدة العامة للوجود. ومما يدل على أن عقيدة الفناء هندية الأصل أنها ظهر أول ما ظهرت في كلام الصوفية من الفرس أمثال أبي يزيد البسطامي، وليس لها وجود في عبارات أهل مصر والشام أمثال ذي النون المصري مع أن ذا النون كان من معاصري أبي يزيد
كل هذه العناصر وعناصر أخرى ثانوية الأهمية دخلت التصوف الإسلامي فغيرت من
عادته وصورته، وعنها جميعها ظهرت ناحية من نواحي الحياة العقلية الروحية في الإسلام على جانب كبير من الأهمية، لأنها مرآة نرى فيها النشاط العقلي والروحي على السواء، كما نرى فيها وصفا دقيقا لأحوال النفس الصوفية في أرقى درجات صفاتها، ومحاولات فلسفية أراد بها أصحابها وضع نظريات في طبيعة الوجود أو طبيعة المعرفة أو طبيعة الإنسان ومركزه من الله والعالم
ولم يقف الصوفية، كما لم يقف فلاسفة الإسلام من هذه المصادر كلها موقف سلبيا، أي لم يكونوا مجرد نقلة أو مرددين لأقوال غيرهم ترديد الصدى للصوت، بل مزجوا كل هذه العناصر المختلفة المتباينة مزجا ربما لم يعهده تاريخ الفلسفة ولا تاريخ التصوف في أي أمة أخرى، وخرجوا بعد كل ذلك بمذاهب في التصوف الفلسفي كان لها أثرها ولها خطرها في تطور الفلسفة والتصوف في القرون الوسطى والحديثة، لاسيما بعد أن بلغ التصوف الذروة الفلسفية في مذاهب أمثال محي الدين بن عربي، وشهاب الدين عمر السهروردي المقتول، وعبد الحق بن سبعين الأندلسي، وعبد الكريم الجيلي، والصدر القونوي، وجلال الدين الرومي، وعبد الرحمن جامي وغيرهم
من هذا يتبين أن كل نظرية في نشأة التصوف الإسلامي قائمة على فكرة إرجاعه إلى أصل واحد مقضي عليها بالفشل. إذ قد رأيت النواحي العديدة الإسلامية وغير الإسلامية التي استمد منها التصوف مادته.
ولكن بعض المستشرقين إن لم يكن أكثرهم لم يروا حرجا في القول بأن التصوف الإسلامي قائم على أصل واحد أو مستمد من جهة واحد: فذهب الأستاذ فون كريمر ودُوزي إلى أن أصل التصوف الإسلامي هندي أساسه مذهب الغيدانتا؛ وذهب الأستاذ (مركس) إلى أن أصله الفلسفة الأفلاطونية الجديدة؛ وقال الأستاذ برون إنه فارسي في جوهره وإنه نتيجة لرد فعل أحدثه ثوران العقل الآدمي ضد الدين الإسلامي الفاتح. وربما كان الأستاذ نيكلسون أكثر اعتدالا وأوسع نظرا من هؤلاء جميعاً، إذ يعترف أن التصوف الإسلامي ظاهرة معقدة غاية في التعقيد، وأن أصوله متشبعة كثيرة لم يكشف البحث الحديث إلا عن بعضها فقط
والحق أن كل نظرية من هذه النظريات إنما تعبر عن جزء من الحقيقة لا الحقيقة برمتها، وأن الذي دعا هؤلاء المستشرقين إليها قصرهم النظر على ناحية خاصة من التصوف دون
النواحي الأخرى وملاحظتهم لبعض جهات الشبه بين التصوف الإسلامي والأحوال التي قالوا إنه مستمد منها ناسين أو متناسين الثقافة الإسلامية والعقلية الإسلامية التي هضمت كل ما وصل إليها من عناصر الفلسفة والتصوف الأخرى، واستخلصت لنفسها فلسفة وتصوفا جديرين بالبقاء وجديرين بأن يطلق عليهما اسم الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي
أبو العلا عفيفي
صديق من صنوف الأعداء
للأستاذ أمين الخولي
- 1 -
مرت القرون تترى، والغرب يرمي الشرق بأفلاذ أكباده، ويرصد لكيده أنفس عتاده، ويهيج لقتله غطاريف أجناده، والشرق صامد باسل، صابر على هذا البلاء النازل. . . يا عجبا! هما يتنازعان قبرا، وإن يكن لسيد الحواريين، وكلاهما يؤمن أنه مرفوع، وفي السماء قار. ليس في الأرض مرقده، ولا بين أطباق الثرى جسده. ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض. حكمة الله وسنة الاجتماع، لتتصل الأسباب، وتتم النواميس، وتنمو الحضارات، وتتواصل المدنيات
في القرن الثالث عشر الميلادي، وهذا الأتون لما يخمد، يؤجج الحقد أواره، ويؤرث البغض ناره، كانت تتدانى قلوب بهذا التباعد، وتتعارف نفوس بالتقاطع السائد، ويأبى الله إلا أن يكون هذا الكون خيراً شيب بشر، وشراً حمل خيراً، وأن تكون الحرب ناراً ونوراً
- 2 -
كان جرمانياً صليبة، أوربياً محضاً، غربياً صرفاً؛ البابا وصيه وهو صغير، والبابا مدبره وهو كبير؛ نشأ في حضن المسيحية، وغذاه حب الكنسية الكاثوليكية، وبورك به طفلا، وفتى وزوجا وأباً، كما توج بها ملكا وأيد منها، فبسط يده أمام المذبح يقسم أن يسير إلى الشرق غازياً، ويخلص قبر المسيح فادياً، ويعز النصرانية في شرقها والغرب: ذلكم فردريك الثاني هو هنشتاوفن، إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، وملك صقلية - 1212 - 1250م -
- 3 -
لكن الشرق الساحر، بسناه الباهر، ومجده الزاخر، وعقله القاهر، وفنه الفاخر، قد فتن الأنبرور على غربيته؛ واستهواه في أوربيته، وأصباه على جرمانيته، فإذا العاهل شرقي في هواه وميله، شرقي في علمه وفنه، شرقي في مزاجه وذوقه، شرقي في خاصته وجنده؛ وإذا هو لا يبر للكنيسة بقسم، ولا يفي بموعد،. . ثم إذا هو حرب على صاحب مفاتيح
الجنة، ينتهك حرمته، ويحقر قداسته؛ يرفع على رأسه سيفه، بدل أن يحني أمامه رأسه. وإنها لمفارقة سجلها التاريخ دهشا
- 4 -
كان ذوقه شرقيا، في جده ولعبه، في قصره وحاشيته، في مركبه وسلاحه؛ يدبر ذلك من أمره أتباع شرقيون مسلمون، قد حكى في ذلك ما عرف الشرق من قصور الخلفاء، حتى ما أفرد من مقاصير النساء أنس إلى الفن الشرقي صامته وناطقه؛ تجري حياته على أنماط وعادات شرقية تحرسه أجناد من بني الشرق المسلمين يجيد العربية فيما يعرف من لغات حتى يتكلمها ويدرس بها وكم وراء ذلك من مظاهر فنية، وولع شرقي ليس أقل من هذا شانا ولا أيسر خطراً
كان عقله شرقيا، آثر الثقافة العربية على الثقافة اليونانية وعمل على اكتساب غربه من ذلك ما يصل إليه جهده، فمنح التفكير العملي لعصره اتجاها جديداً؛ وكان أقوى وأقدر من عرف الغرب في حركة نقل المعارف عن الشرق في تلك الأعصر؛ وفي كنفه نشط مترجمون من أنحاء أوربا المختلفة، لنقل ما حفظ الإسلام من تراث الإنسانية، وذخر المدنية
ونسى أو تناسى ما بين الشرق والغرب إذ ذاك، من حروب مشبوبة، وعداوة مذكاة، فراسل ملوكه في الود، وفي العلم، يسألهم فتاوى الرياضة، وفنون الحكمة، سواء في ذلك دانى الشرق منه، وقاصيه عنه؛ فكتب إلى علماء سبتة يسألهم في شئون فلسفية، رد عليه فيها ابن سبعين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم الاشبيلي، كما كتب إلى الملك الكامل بمصر في مسائل مشكلة من الهندسة والحكمة والرياضة، ورد عليه الشيخ علم الدين قيصر الحنفي وغيره من علماء مصر: التي كانت تتلقى هجمات الغرب، وتلقنه أصول الحياة في وقت واحد
- 6 -
كان شرقي الوجدان، غمره فيض الشرق الروحي، ونزوعه الصوفي فلم يأسره تلقينه، ولم يعقله تعميده؛ بل كان وراء ذلك كله: دخل بيت المقدس - حفظا لناموسه - برضا الملك
الكامل صلحا فجامله المسلمون بمنع الأذان، وإذا هو يقول: والله كان غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل. وإذا المسلمون يحسون تسامحه، فيقول مؤرخهم: إنه كانت دهريا، وإنما يتلاعب بالنصرانية. وحقا قد عرفت منه الكنيسة أشد ما عرفت في تاريخها من ثورة ونضال
- 7 -
تلك شخصية خليقة بالدرس الفلسفي والتاريخي، رجل أنقذ العقل إذ الجهل حالك، والظلام قاتم؛ وحرر الوجدان إذ العصبية طاغية باغية؛ وعرف الإسلام وتحبب إليه إذ أنكره الغرب وقاتله جاهداً جاهلا، وأخلص له الصداقة حتى لقبه قومه (السلطان المعمد).
إلا أنه فضل الشرق ومثله لا يجحد، وأنه مجد الشرق ومثله يعشق، وأنه عرف الشرق ومثله لا يجهل
- 8 -
أيها الشبان: تلك فتنة الشرق، فهل فقدها فيكم؟؟
أيها الشبان: تلك روحانية الشرق، فهل خسرها بكم؟؟
أيها الشبان: تلك قوة الشرق، فهل أضلها عندكم؟؟
ألا أجيبوا داعي الزمن المثوب!
أمين الخولي
الجيش والبحرية
في العصر العباسي الأول
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
استمد العباسيون قوتهم من الجيش الذي نما نمواً عظيما على أثر دخول الكثيرين في الإسلام وانضوائهم تحت لوائه، وقد بلغ عدده في عهد الخلفاء العباسيين الأوائل مئات الألوف من الجند، ووصل هذا العدد في العراق وحدها إلى 125. 000 جندي. وكان هؤلاء الجند يكونون الجيش النظامي للدولة تدفع لهم رواتبهم بانتظام. ومن ثم قلت أرزاقهم تبعا لزيادة عددهم. ولما بلغت قوة العباسيين أشدها في بغداد، أصبح الجندي يتقاضى راتباً شهريا قدره عشرون درهما (وكان الدرهم يساوي أربعة قروش تقريبا)، وكانت هناك مع الجنود النظاميين طائفة أخرى من الجند المتطوعة من البدو، وطبقة الزراع وسكان المدن الذين اشتركوا في الحروب مدفوعين بعوامل دينية أو مادية
وكان تقسيم الجند تابعاً لجنسية أفراده: فمنهم الحربية وهم الفرسان الذين كانوا يتسلحون بالرماح؛ وهؤلاء من جند العرب. والمشاة وكانوا من الفرس ولاسيما الخراسانيين (وكان من سياسية الخلفاء أن يحكموا عرب الشمال والجنوب بتركهم يحارب بعضهم بعضا)؛ حتى إذا ما انقضى العصر العباسي الأول دخل في الجيوش العباسية عنصر جديد ما لبث أن غدا له النفوذ، وأصبح أشد خطراً من الخراسانيين، وهو عنصر الأتراك الذين كانوا يكونون القسم الرابع من الجيش العباسي. وما انفكت جموع هؤلاء الأتراك تتدفق سنة بعد سنة على أسواق بغداد حتى استطاعوا أن يصلوا من هذه الأسواق إلى بلاط الخلفاء ثم إلى جيش الخليفة أخيراً؛ وقد خصهم الخليفة برعايته أملا في أن يكونوا بذلك أقوى ساعد للخلافة العباسية. ومن ثم أصبحوا حراس الخلفاء، وسرعان ما أضحوا آفة على أهل بغداد الذين عانوا من جراء عنتهم وجورهم شيئاً كثيراً، وما لبث أن امتد نفوذهم إلى الخلفاء الذين غدوا تحت رحمتهم
وكان أكبر القواد المعروفين في أول عهد هذه الدولة أبو مسلم الخراساني، وكان تحت
إمرته جند الشرق الخراسانية؛ وعبد الله ابن علي العباسي على جند المغرب، وأكثره عربي من بلاد الجزيرة والشام. فلما خرج عبد الله بن علي على المنصور وانتصر عليه أبو مسلم بجنده الخراساني كان هذا انتصاراً للفرس على العرب، ومن ثم رجحت كفة الخراسانيين في الجيش؛ بيد أن المنصور خشي شر أبي مسلم وشر جنده، فقضى عليه، ورأى عدم الاعتماد على الخراساني، لأن العصبية العربية كانت لا تزال في قوتها، فاصطنع كثيرين من العرب، وسلمهم قيادة جنده، كما استعان ببعض أهل بيته. فمن أعظمهم عيسى بن موسى الذي انتصر على محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن العلوي وأخيه إبراهيم. وقد ظهر من قواد العرب معن بن زائدة الشيباني، وكان من قواد الأمويين؛ واشتغل مع يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق وحارب معه في واسط، ولما سلم ابن هبيرة اختفى معن حتى كان يوم الهاشمية الذي ثار فيه الراوندية على المنصور، فقاتل عن الخليفة وهو ملثم، وأوقع برجال هذه الطائفة، ثم كشف للخليفة عن نفسه، فأمنه ووصله بعشرة آلاف درهم، وسماه (أسد الرجال) وولاه اليمن ثم سجستان، فبقي فيها حتى قتله الخوارج بمدينة بست سنة 151هـ. ومن قواد العرب عمر بن العلاء وهو أعظم قواد المنصور، وفيه يقول بشار بن برد:
فقل للخليفة إن جَئته
…
نصيحا ولا خير في المتهم
إذا أيقظتك حروب العدا
…
فنبه لها عمرا ثم نم
فتى لا ينام على دمنة
…
ولا يشرب الماء إلا بدم
وقد وجهه المنصور سنة 141هـ لإخضاع أهل طبرستان، وكانوا قد خرجوا عليه، فنازلهم ابن العلاء طويلا، وفتح بلادهم من جديد، ولم يزل ممتعا بعطف المنصور، وابنه المهدي حتى مات في خلافة المهدي
أما الآلات الحربية التي كانت تجهز بها الجنود، فلم تكن تختلف كثيراً عن الآلات البيزنطية، فكان من أسلحتهم القسي والسهام والرماح والسيوف والفؤوس الحربية (البلط)
وكانت ملابس الجند تشمل تلك الملابس القديمة الملائمة لهم والتي كانت في نفس الوقت ذات منظر يدل على ذوق سليم: خوذة، ودرع، ومنطقة، وغيان. وكانوا يعنون عناية خاصة بالسيوف التي كانوا يصنعونها بطريقة فنية، ويحلونها بالفضة. وكانت السروج
مماثلة في شكلها للسروج الإغريقية التي هي من نوع السروج الشرقية تماماً.
وكان عرض الجيش جزءا من تدريب الجند في أوائل عهد الدولة العباسية وبخاصة في عهد المنصور الذي اهتم اهتماماً كبيراً بالمسائل الحربية. وكان يحب أن يعرض جنده وهو جالس على عرشه لابساً خوذته ودرعه، فكانت تصف الجيوش أمامه في ثلاثة أقسام: عرب الشمال (مضر)، وعرب الجنوب (اليمن) والخراسانيون. ومما ذكره المسعودي في كتابه مروج الذهب عن حصار جند المأمون بغداد نتبين وصف الآلات الحربية التي كان يستعملها العباسيون في ذلك العصر. وهاك ما ذكره المسعودي بنصه:(ونصب هرثمة بن أعين على بغداد المنجنيقات ونزل في رقة كلواذا والجزيرة، فتأذى الناس به، وصمد نحوه خلق من العيارين وأهل السجون، وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم السامين والميازر. وقد اتخذوا لرءوسهم دواخل من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري، قد قرنت وحشيت بالحصا والرمل. على كل عشرة عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده. فالعريف له أناس مركبهم غير ما ذكرنا من المقاتلة، وكذلك النقيب والقائد والأمير، وناس عراة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصوف الأحمر والأصفر، ومقاود قد اتخذت، ولجم من مكاس ومَذاب، فيأتي العريف وقد أركب واحداً وقدامه عشرة من المقاتلة، ويأتي النقيب والقائد الأمير، فتقف النظارة ينظرون إلى حربهم مع أصحاب الخيول المعدة، والجواشن والدروع والتجافيف والرماح والدرق التبتية)
ولما ولي المتوكل الخلافة، أمر كل الجنود بتغيير زيهم القديم، وألبسهم أكسية رمادية، وأمرهم ألا يجعلوا السيوف على أعناقهم، بل يضعوها في مناطقهم حول وسطهم.
ومن أي جهة بحثنا في الجيش فإننا نصادف ما يماثلها في العصر الحديث؛ من ذلك نظام الجاسوسية عند العباسيين، فقد كانوا يستخدمون في ذلك كلا الجنسين من الرجال والنساء الذين كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة متنكرين في أزياء التجار والأطباء وغيرهم، لجمع الأخبار ونقلها إلى دولتهم. ولم تكن الجاسوسية العربية أكثر نشاطا ولا أعم انتشارا في بلد من البلاد منها في الدولة البيزنطية التي كانت لا تزال تنافس الدولة العربية، والتي كان أهلها في الماضي أساتذة العرب في الفنون الحربية
ولكي يحمي العرب أنفسهم من غارات الإغريق أقاموا الحصون على تخوم دولتهم وهي الثغور؛ وهذا ضرب من الفنون الحربية التي تدل على نشاط العرب وولعهم بالحروب ونبوغهم الذي كان غريزيا فيهم. وكان حد سورية المقابل لآسيا الصغرى مصدرا للخطر بالنسبة إلى العرب؛ وقد تحاربت القوتان المتنافستان مدة طويلة، فكانت كفة النصر ترجح مرة في جانب العرب وأخرى في جانب الإغريق. لذلك كانت هذه الثغور وهي طرسوس، وأذنة، والمصيصة، ومرعش، ومَلطِية، تقع طورا في أيدي العرب، وطورا في أيدي الروم.
ولما استولى المنصور على المدن الرومية الواقعة على حدود سورية المقابلة لأسيا الصغرى مثل طرسوس وأذنة ومرعش وملطية حصنها وأحكم بناءها من جديد وأطلق عليها اسم الثغور
ولما ولي هرون الرشيد الخلافة أنشأ ولاية جديدة سميت ولاية الثغور، جعل لها نظاما عسكريا خاصا وأقام فيها المعاقل، كما أمدها بحاميات دائمة؛ ومنح الجند علاوة على أرزاقهم أرضا قاموا بتعميرها، وزراعتها هم وأسراتهم، فازدهرت هذه الثغور على الرغم من الحروب المتواصلة، وأصبحت أحوالها في يسر ورخاء إلى أيام الواثق، ثم أخذت بعد ذلك في الأفول، وطالما كان العلماء والشعراء الذين يؤثرون الهدوء يلجئون إلى هذه الثغور والتفرغ للبحث والدرس.
وهناك ناحية أخرى تدل على قوة المسلمين في ذلك الوقت هي الأساطيل الحربية. ولم يكن العرب يعنون بالحروب البحرية في صدر الإسلام لبداوتهم وعدم ممارستهم ركوب البحر. وكان أول من ركبه أبو العلا الحضرمي والي البحرين في عهد عمر، فقد توجه لغزو بلاد الفرس في اثني عشر ألفا من المسلمين دون إذن الخليفة، وعادوا إلى البصرة محملين بالغنائم بعد أن فقدوا سفنهم التي عبروا بها إلى بلاد فارس. ولما علم بذلك عمر - وكان يكون ركوب البحر - غضب علي أبي العلاء وعزله. ولما فتحت الشام ألح معاوية على عمر في ركوب البحر كي يغزو بلاد الروم لقربها منه، فيكتب إليه يردعه عن ركوب البحر
ولما ولي عثمان الخلافة ألح عليه معاوية في غزو بلاد الروم، فأذن له على ألا يحمل
الناس على ركوب البحر، فاستعمل على البحر عبد الله بن قيس فغزوا خمسين غزوة بين شاتية وصائفة، كما غزا عبد الله بن سعد أبي سرح والي مصر من قبل عثمان البحر، فحارب سنة 34هـ قسطنطين بن هرقل وانتصر عليه في موقعة ذات الصواري. وفي هذه السنة أيضا فتح العرب جزيرة قبرص، كما جردوا حملة لغزو البلاد البيزنطية. ومنذ ذلك الوقت أخذت الحملات البحرية تترى على تلك البلاد
ولما ولي معاوية الخلافة عني بإنشاء السفن الحربية، وفي عهده غزا عقبة بن عامر جزيرة رودس. وفي 53هـ غزا الروم البرلس في عهد ولاية مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ)، وقتلوا عددا كبيرا من المسلمين وعلى رأسهم وردان مولى عمرو بن العاص؛ ومن ثم اهتم أمراء مصر ببناء السفن، فأنشئت لأول مرة سنة 54 هجرية دار لبنائها في جزيرة الروضة
أما أن العرب كانوا مدينين في الأصل للبيزنطيين في هذه الناحية من الفنون الحربية فهذا أمر لا سبيل إلى إنكاره؛ إلا أن العرب الذين فطروا على الشجاعة وحب المغامرة وإن تتلمذوا للبيزنطيين في تلك الناحية فترة من الزمن، فانهم قد أصبحوا أساتذة أوروبا في هذه الفنون. يدلنا على ذلك هذه الاصطلاحات البحرية المستعملة في أوربة إلى اليوم، والتي لا تزال محتفظة بعربيتها. وكان أثر العرب في شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط بوجه خاص ابعد مدى من غيرهم من شعوب أهل أوروبا. ويقول فون كريمر:(ومما يوضح لنا أن الأسطول العربي القديم كان نموذجا لأساطيل الأقطار المسيحية أن كثيراً من المصطلحات العربية البحرية لا تزال شائعة على ألسن البحارة في جنوب أوربا نذكر منها كلمة المأخوذة عن لفظ (جبل) العربي وكلمة وبالإيطالية المأخوذة عن لفظة (دار الصناعة) وكذا المأخوذة من لفظ (غراب) العربية، والمأخوذة عن لفظة (أمير البحر)
حسن إبراهيم حسن
تبصرة وذكرى
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ليس خيراً في الاحتفال بذكرى هجرة الرسول من الاجتهاد في إحياء سنته صلوات الله عليه عن طريق التنبيه إلى بعض الأخطار التي تحف بها في هذا العصر الذي تكالبت فيه عليها الميول والشهوات ومختلف النزاعات الناجمة في الغرب، والتي توشك إن لم يجتهد أولو الرأي والدين في صدها وإيقافها عن حدها أن تطمس من نور سنة صاحب الهجرة صلى الله عليه وسلم ونور كتاب الله نفسه، فتعمى قلوب بعد إبصار، وتنشأ ناشئة المسلمين في دياجي الشك بعد أن كان يرجى أن تنشا في نور اليقين
وأخطر تلك النزعات الناجمة والشهوات الهاجمة نزعة التشكيك في أحكام الدين من ناحية، وشهوة تأويلها إلى ما يتفق وما يسمونه روح العصر، أو بالأحرى رأي الغرب وحكمه من ناحية أخرى. وأصحاب هذه النزعة حين يذكرون روح العصر أو يدعون إلى اتباع الغرب إنما يريدون تقمص روح الغرب واتباع خطواته في الاجتماعيات، أي في الميدان الذي ما نزل الدين إلا لتنظيمه، وما جاء الرسول إلا لتقويم الحياة فيه. والغرب كما نبهنا في مثل هذا المقام من قبل لم يصب سنن الله إلا في عالم المادة أما في عالم الروح والاجتماع فالغرب لم يصب سنة ولا حكما، بل هو في حيرة من أمره: يضطرب بالنظم المتناقضة، ويعج بالآراء والنظريات، ويميد بالأهواء والشهوات، حتى أصبحت عوامل القوة والأمن التي أصابها من ناحية علومه الطبيعية، هي بذاتها عوامل الخطر والخوف فيه؛ وأصبح من مدنيته هذه المادية المسرفة المغرورة كالساكن على حرف بركان
لكن الذين يدعون إلى الغرب فتنتهم قوته المادية، وجهلوا ضعفه الاجتماعي، فظنوا أن القوة في ناحية معناها القوة في كل ناحية، وأنه لما كان على حق في طبيعياته، فهو على حق في اجتماعياته؛ فسبيل النهوض والقوة في زعمهم هو أن يدع الناس ما هم عليه، ويأخذوا بما هو عليه، لا يبالون ماذا يتركون، ولا يترددون ماذا يأخذون
لكنهم نظروا أيضاً فوجدوا أن هذا معناه الدعوة إلى ترك كثير مما أمر به الإسلام والأخذ بكثير مما نهى عنه. والإسلام مهما ضعف في نفوس أهله فقد بقيت من روحه فيهم ومحبته بينهم بقية لا تؤمن معها عواقب هذه الدعوة على الدعاة من ناحية، ولا يرجى معها من
ناحية أخرى أن يستجيب أهله إلى ما يخالف نظمه وأحكامه التي جرى عليها المسلمون منذ قام صاحب الهجرة صلوات الله عليه فوضح للناس الدين حكما وعملا باسم الله فاطر السموات والأرض وفاطر الناس. هنالك ذهب دعاة الغرب مذاهب، وانقسموا طرائق، فيما يدعون إليه، وكيف يحملون الناس عليه
فمنهم من نظر فإذا القوة بيده، ولاه الناس إياها في ثقة به وغفلة عن نيته، فرآها فرصة سانحة قد لا يؤتيه الزمن مثلها لحمل الناس على ما يريد، وتحقيق ما كان يتمناه من زمن بعيد، فحمل قومه على غير الدين، بنفس القوة التي ائتمنوه عليها للدفاع عن الدين. واشتط حتى كان يشنق في سبيل القبعة، ويحبس ويجلد في سبيل السفور والاختلاط؛ ولم يقف حتى جرد الدولة عن الدين. وحال في أمته بين الإسلام وبين الحكم الذي هو أخص خصائصه، وحتى استبدل بأحكامه أحكام أوروبا في الميدان الذي لم تكن أوروبا لتطمع في غزوه: ميدان الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوريث. وشاءت رحمة الله ألا يطرد النجاح لهذا الصنف من المفتونين ممن أراد حمل الناس على سنن الغرب بالقوة رغم الدين، فكان من هؤلاء من أفلح قومه في الثورة عليه غضبا لدينهم حتى أنزلوه عن عرشه وشردوه عن بلده، فكان فيما لقيه من الهزيمة والتشريد بعض العزاء للمسلم الذي ينظر إلى ما يجري في أقطار الإسلام الأخرى من بعيد، وشبه إنذار لمن عساه أن تحدثه نفسه بسلوك نفس الطريق. فوقف الخطر من هذه الناحية وإن كان يخشى أنه لم يزل، إذ يخشى أن يكون هذا النوع من الخطر كامنا في بعض الأقطار ينتظر الفرصة ليشب كالنار
على أن مقلدة الغرب والمتحمسين له ليسوا كلهم ممن يستطيع أو يرجو أن يستطيع أن يحمل الناس على خطوات الغرب بالقوة. والذين ليس بيدهم القوة من دعاة الغرب لم يحملهم فقدان القوة على ترك السعي إلى غرضهم، بل هم دائبون ناصبون في سبيله لكنهم يكيفون وسائلهم بما يلائم الظروف. صحيح أن جميع وسائلهم يصح أن تتلخص في (بث الدعوة) لكن سبيل الدعوة معبد لهم ميسر، فإن جميع ما يراه الناس ويسمعونه في ملاهيهم ومتروضهم، وجميع ما يقرأونه للتسلية لا يخلو مما يتألفهم إلى ما ينافي الدين ويبث فيهم روح الغرب الماجن من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون؛ فالأغاني بألحانها ومعانيها المتهالكة، والراديو بما يذيعه من مهازل المسارح ومماجن الصالات، والسينما بما تعرضه
من روايات صنعت في الغرب لتمثل فيما تمثل نواحي الشهوات فيه بما يغري بها الناس، والمجلات والجرائد بما تنشر من قصص غير طاهر وصور غير نقية منقول أكثرها عن مجلات الغرب وجرائده من غير نظر إلى الشرق وإلى البلاد الإسلامية منه على الأخص - كل هذا وكثير غيره يعمل عمله في النفس المسلمة الناشئة وغير الناشئة فتضعف من روح التدين فيها، وتمهد للغرب ودعاته سبيل الاستيلاء عليها
هذه العوامل في ذاتها خطر كبير، لكن لا يزال هناك في المسلمين شعور بأنها خطر، وأن من الواجب مقاومتها والعمل على تلافي آثارها. صحيح أن هذا الشعور أكثره كامن لا يبدو إلا حينا بعد حين، وإذا ظهر قويا فترة عاد إلى مكمنه فترات، لكنه على أي حال شعور سليم، وهو على كل حال موجود منتشر، ووجوده هو معقد الأمل والرجاء أن يصير يوما ما قوة دافعة تدفع هذه الكتل البشرية الإسلامية في طريق الإسلام لتحيا في بلادها حياة مسلمة، ولتقيم على الأرض مرة أخرى دولة لا يكون الحكم فيها إلا لله العلي الكبير
لذلك كان الخطر الأكبر والشر الأعظم هو ما اتجه إليه دعاة ما يصح أن يسمى باللاإسلامية، من تخدير هذا الشعور الإسلامي وإضعافه ثم إطفائه لما أوجسوا منه خيفة، ورأوا في إحساس المسلم بفرق ما بين تعاليم الغرب وتعاليم الإسلام، عقبة العقبات في سبيل دعوتهم التي يبثونها والتي ما فتئوا يوهمون الناس أن الخير كل الخير فيها. فتقت لهم حيلتهم ولطف كيدهم أن ينيموا هذا الشعور ويزيلوا هذا الإحساس فاتخذ كل منهم سبيلا إلى نفس الغاية، أو بالأحرى لم يدعوا سبيلا إلى تلك الغاية إلا سلكوها.
فمنهم من جعل يوهم المسلم المحافظ المتحفز للمقاومة أن المقاومة غير مجدية. وان روح العصر لاشك غالب. ففيم المغالبة والأمر مفروغ منه والنصر مكتبو لأهل الرأي الجديد من الجيل الجديد؟ وهذه طريقة قد آثرت في كثيرين بل قد أفلحت مع بعض من كان يظن انه اعقل وابصر من أن يجوز عليه هذه الخدعة من أهل القلم من المسلمين، فكتب حديثا ييئس فئة الشباب المتمدين في حركتهم الدينية الحديثة ضد الاختلاط، لا لأن الاختلاط عنده صواب ولكن لأن وقت المقاومة قد فات، إذ الاختلاط قد بدأ منذ خمس عشرة سنة أو يزيد! ولو كانت هذه الحجة على أساس من الحق لما أصابت الدعوة اللاإسلامية شيئا من النجاح، لأن عمرها كله لا يزيد على ربع قرن، ومع ذلك لم ييأس أهلها أن يبدءوها برغم القرون
الكثيرة التي رسخت فيها تلك النظم والتقاليد الإسلامية التي قاموا لمحاربتها: وقد بدأوها بالفعل وأصابوا - لما اغتر المسلمون بقوتهم وضعفها - هذا النجاح الذي أوحى إلى ذلك الكاتب المسلم ما وحى من الكلام.
ومنهم من يحاول إدخال الطمأنينة على قلوب المسلمين المتململين بإيحائه إليهم أن لا ضير ولا خوف على الدين من ترك دعاة ما يسمونه الجديد يبشرون دعوتهم يمينا وشمالا في أذهان الاطفال، وفي عقول النساء والرجال، لأن الحق سيتضح والباطل سينهزم والأصلح سيبقى، وبتركهم يفهمون أن الباطل سينهزم من نفسه، والحق سينتصر على رغم قعود أهله، وأن الدين له رب يحميه؛ وإذن فليس هناك من داع إلى أن يعملوا هم على نصرته أو يكلفوا أنفسهم مشقة الجهاد في سبيله. ويصادف هذا الإيحاء نفوساً تحركها للقيام كتحركها للقعود، فنجنح إلى القعود والراحة مرة أخرى وتترك الميدان خلواً أو شبه خلو لأولئك الدعاة، وهي بذلك تعرض نفسها للهلاك لأن رب الدين حين يحمي الدين يحميه طبق سنته التي خلت في الأولين بإهلاك القاعدين واستخلاف غيرهم من المجاهدين الذين (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وأبلغ في الكيد من هذا إذا أرادوا أمراً وعارضهم حكم الدين أن يشككوا في ذلك الحكم ويزعموا للناس أن ليس في الدين ما يمنع مما يريدون؛ فإذا قيل لهم إن الحكم ثابت عن طريق الإجماع أنكروا الإجماع إن يكون أصلا من أصول الدين، أو طالبوك بأن تثبت انعقاد الإجماع؛ فإذا جئت لهم بالنص على انعقاده تجده في بطون الكتب، جوزوا أن يكون الكتاب قد أخطأ أو أن يكون صاحبه قد كذب، أو احتجوا لرأيهم برأي شاذ لبعض من كان لعله مثلهم في ماضي الإسلام من الخارجين عن جماعة المسلمين. ولو كان الحكم لا يثبت في الدين لرأي شاذ يراه واحد ولو كان من أهل العلم ما انعقدت بيعة أبي بكر، فإن خلاف سعد بن عبادة وهو من كبار الصحابة في أمر تلك البيعة معروف، بل إذا كان الحكم في جماعة ما يمكن تعطيله بمثل حجتهم الواهية هذه ما أمكن تنفيذ حكم أو دستور في أمة من الأمم في هذا العصر أو في أي عصر، ولكان قولهم هذا أبلغ ما يبرر به حكم الفرد، إذ يصير حكم الفرد في هذه الحالة هو البديل الوحيد من الفوضى
فإذا كان في الحكم نص من السنة الكريمة واحتججت للحكم بذلك النص شككوا في السنة
وقالوا إن الذي وضع على الرسول كثير، فلعل هذا من المكذوب الموضوع. فإذا قلت إنه قطعا ليس من الموضوع لأنه وارد في الصحاح، قالوا إن الحديث الصحيح لا يمكن الجزم بأنه ثابت قطعا عن الرسول، فإن ما ثبت قطعاً عن الرسول هو المتواتر وهذا محدود معدود
ويحاولون أن يشككوك في الحديث جملة باستغلال أمانة علماء الحديث ومبالغتهم في التدقيق عند تمييز درجات الحديث، إذ جعلوا الاحتمال العقلي البعيد للسهو أو النسيان أو الخطأ فارقا بين الصحيح وبين ما لا يمكن أن يتطرق إليه إلا ذلك الاحتمال وهو المتواتر مع أن حديث الرسول قد محص بما لم يمحص به حديث أو رأي أو فعل صدر عن بشر كائنا من كان، وأن هذا الحديث الصحيح قد صح عن الرسول بالسند الممحص المنقود فاختبر عن طريق تمحيص السند من بين مئات الآلاف من الأحاديث فلم يتجاوز عدده بضعة الآلاف، منها كثير مشترك. والمبالغة في التدقيق فقط هي التي تجيز عقلا من بعيد ألا يكون مثل هذا الحديث مقطوعا بصدوره عن الرسول برغم ذلك التمحيص الدقيق. ولو كان مثل هذا الاحتمال مسقطا للحديث لسقط التاريخ كله ولكان من العبث الاعتماد على تاريخ، أو كان هذا الاحتمال يجيز إهمال الحديث فلا يعمل به لجاز إهمال كل ما هو في مرتبة دون مرتبة اليقين في العلم وفي الفلسفة، مع أن العلم يتمسك بالنظرية الراجحة حتى يثبت بطلانها؛ وأولئك المشككون أنفسهم يستندون في تدعيم آرائهم إلى آراء ونظريات هي من ناحية الثبوت في العلم أو الفلسفة دون مرتبة الحديث الصحيح بكثير من ناحية الثبوت في الدين. على أن الإجماع منعقد بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم بوجوب الأخذ في الأحكام بالحديث الصحيح، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يأخذون في أحكامهم بالحديث يثبت عن الرسول عن طريق فرد ذكر أو أنثى، وكانوا يرجعون عما عساهم يكونوا ارتأوه أو حكموا به مما يخالف ذلك الحديث كما ترى توجيه ذلك مفصلا في الرسالة التي كتبها الإمام الشافعي مقدمة للأم في الأصول
ويلتحق بهذا النوع من كيد أولئك المشككة المعطلة ما يحاولونه من تعطيل القرآن وإبطال مفعوله عند المسلم بالتوسع في تأويله وصرف الآي عن وجهه وتخصيص عمومه وتخريجه على نحو يوافق ما يريدون ويعتقدون من آراء الغرب ونظرياته. ولقد لطفت
حيلتهم في هذا حتى وقع في أحبولتها بعض قصيري النظر ممن ينتسبون إلى الدين من المسلمين؛ ووقوع ولو واحداً من رجال الدين في أحبولتهم تلك دليل على مبلغ الخطر الذي يحف بالإسلام اليوم في بلاده وصميم أهله. وإذا لم ينهض المسلمون لدرء هذا الشر ويصدقوا الله الجهاد فيه غير متوانين ولا متواكلين ولا مسوفين، فسيجزيهم بتراخيهم ذلة في الدنيا، ويستخلف من بعدهم قوماً آخرين يؤيد بهم دينه الكريم (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
محمد أحمد الغمراوي
في ظلال الهجرة
غزوة بدر
للأستاذ إبراهيم مأمون
ذكْرى، كما شاء الزمانُ أجالَها
…
وخطى نكرت العالمين حيالَها
ما المرسَلات وما العواصفُ؟ ويحُها
…
هل جزْن بيداً، أو طويْنَ تلالَها؟
وإلَامَ يحتثّ الهجان حُداتها
…
في مهمَهٍ سبقتْ عليه ظلالَها؟
قل للطوائر في الجواءِ حوائما:
…
ربُّ السماءِ لغيركنّ أحالَها
للريح. تنتظم الغمام ظعائناً
…
وتُمدّ من لُمَعِ الشعاع كلالها
حرم السماء مجالُها، وكأنها
…
سفنٌ تخذْن من الغباب مجالها
يَمشْين في حرس السماء، تُديرها
…
أيدي الهواء. وما وَعَيْنَ عِقالها
هي آذنت (بدراً) بنصر (محمد)
…
وعلى يديه اسْتنزلَتْ آمالها
جاءت (بجبريل السماء ووحيها)،
…
وحَدَتْ بآمال العلا (ميكالها)
تلك السماء تَشَقّقتْ بغمامِها
…
تولي الرّسالة في (العريش) صِيالَها
أزْجَتْ إلى جيش الحنيف مَلائكا
…
لَمس القليبُ طِعانها ونزالها!
مَثلَ الحمام برَفْعها وبخَفْضها،
…
وجرى الهوانُ يمنَها وشمالَها!
سائِلْ جلود الشرِك عن تبْريحها
…
والشركُ يبكيها، ويندبُ آلها
واستَواحِ أشلاء القليب. فإنها
…
تبْيانُ (بدرٍ) إن أردْت مَقَالهاَ
يا يومَ بدرٍ: والمواقفُ جمةٌ
…
فيكَ الحنيفةُ زايلَتْ أسمالهَا
لبست دروعَكَ سابغات في الوغى
…
ومضتْ بساحِكَ تستثير رجالها
تلقى (محمداً النبيّ) يقودُها
…
ويُعزُّ رايتها، ويُنْهض قالها
ويذودُ عنها العادياتِ بحلمِهِ
…
حيناً، وحيناً يستجيبُ قتالَها
ما اللاتُ؟ ما العزُىّ؟ وأينَ مناتهمْ؟
…
غال الحنيف عبادها، وأزالهَا
والشركُ نكسه الجهادُ، فلم يقمُ
…
أرأيتَ (هنْداً) مَثّلَتْ أمثالَها؟
تدْعو النساَء إلى العويل، وتنتضي
…
سيفَ المَهانِة لم يغث أبطالها
تُغري الوغَى بملاحمٍ دَمويَّةٍ
…
شعواَء تُنهض بالرماح سَجالها
بعثتْ من البيض الخفافٍ رسالةً
…
حَلَقَتْ لها يا فوخَها وقَذالها
وجَفتْ غدائرها وألقت قُرطَها
…
وتناهبت حسراتُها خَلخالها
تحدو الرجال إلى المواقعِ تارةً
…
وتسير أخرى تستفِزَّ خبالها
كوَساوس الشيطان أغرتْ مؤمناً
…
فجفا مودَّتها، وعافَ وصالها!
ما غاظها جيشُ السماءِ. وإنما
…
جيشُ (المهاجر) يوم بدْر غالها!
بَرز الَحنيفُ على الحياض إلى الردى
…
يرمي الجهالةَ أو يَدُعَّ مِطالها!
وكأنَّ أرضَ اللهِ تقذفُ ما بها
…
وسماَءهُ تولى النبيَّ نِضالها!
والكفر في بؤر الخنا متطلعٌ
…
للعدوة الدنيا يرى رئبالها!
ويحسّ في كفيه أنفاسَ الوغَى
…
تُبْدِي من الصمتِ الرزين مَلالها
ألوى بجيْش الشّرك مَرهُوبَ القنا
…
ونَضا قراهُ، وما نضَتِ سِربالها
يا باسطَ الكفين في كنفِ العُلا
…
تَدْعو السماَء. وما تركْتَ سُؤالهَا
النصر وافى، واصطفتْك مغانمٌ
…
والله قسمَ بينَكم أنفالَها
فلذات مكة في رباك سوَائل
…
ترجو نَدَاك وما رجوتَ نوالها!
كانت تريكَ ببطن مكة بغيَها
…
أفلا أرتك لدى الوغى استبْساَلها؟
خيرَ البرية: تلك عقبى صابرِ
…
لاحتْه مكة: ظاهرت جُماَّلَها
جنباتُ مُلكِ الله فزَّع دُعمها
…
دعَواتك اللائي نثرتَ إلا لهَا
والعرشُ حوّم في رحاب المنتهى
…
يُصْغي لسدرتها وأنت حِيالَها
ويمدّ أجنحةَ الجلالَ لمنكبِ
…
بادي اللآلئ يجتلى لألَّها
جافته برْدتُك الشريفة مذ رأت
…
ملأ العلا يُضفي عليه مثالها
لو يعلم (الصدَّيقُ) عند وقوعها
…
ما تَرْتديه لهالهُ ما هالها!
وسبَاه من وادي السَّنا لمحاتُه
…
ومَضى إليها يبتغي إمْهالها!
ليرَى تحيتها لوجْهك ضاحياً
…
ويَراك توليكَ العُلا إجْلالها!
ويَراك والسبْع الطباقُ خواشع
…
ويَراك والدنيا تَراك ثمالَها!
نور الجلالة تحت ثوبك مشرق
…
يَهدي السماَء نجومها وهلالَها،
من غير هَدْيِك ما تبسم طالع
…
في أمة أغْرَى الهوَى إهمالَها!
تلك الخلائق ما محمَّدُ: أعرضتْ
…
ورأت حرامَ الراشدين حَلالَها!
رجعتْ بها الأهواءُ عن غاياِتها
…
وتنَقَّصَتْ في العاجزين كمالها
فُتنتْ بزائفة النهوض، ولو رأتْ
…
مَجْدَ الأوائل أكْبرتْ أطْلاْلهاَ
كَفَرتْ على مهْدِ الندى آباَءها
…
وجَفَتْ على قرْب المدى أخوالها
جادتْ على وادي السماح برُوحها
…
للناهبين، وما رعَتْ إقلالها
جعلت لخاذل دينها تسليمَها
…
ولناصريه المتّقين جدالها
ولو إنها التمستْ هداك لصافحتْ
…
غُدُوَاتكِ البيض الخطا آصالها
ما اعتزّ من عزّوا بغيرك هاديا
…
وبغيرك الدنيا رأتْ إذلالها
خطرتْ تجر القيْد تحسب أنها
…
بلغتْ أمانيها أو استْقْلاِلها!
نشوى بحكم الفرْد صاغ من العصا
…
قلمَ المؤدّب يجتوي إملالها
تدعو وتنهض في الحياة مُضَلِّلاً
…
جعَل المتاحَ من الأمور مُحالها
تتزاحم الشورى على أبوابها
…
فتشيح عنها تبْتغي أبطالها!
ويميتْ أكفاَء الرجال هداتُها،
…
وَيْح المواهب لا ترى اسْتغْلالها!
وأدُوا البنين، كأنّ شرعتك انتهت
…
وكأنّ عُدْوانَ الزمانِ أدالها!
وكأنّ بغي الجاهلية لم يزَل
…
يُلغِي الحقوق ويَزْدري سَألها!
ولعلّ من وأد البنات أثابها
…
والجاهلية ترتضي إغْفَالها!
يا آسيَ التقوى: جفاها طُّبها،
…
بكَ تستجير، فهل ترى ابلالها؟
ذاق الأمَّرين الأساةُ، وأخفقوا؛
…
فمن الذي يشفي العقام عضالها؟
لَّجت بصيحتها المشارقُ لم تجد
…
كفا تحلّ بحزمها إشكالها!
نُعلي المعابدَ لا قنوتَ لخاشعٍ
…
فيها؛ ولا نَلقى هناك (بلالها)!
ما أكثر الداعين باسم هُداتها
…
حتى إذا نُودُوا جَفوا أقوالها!
ورأوْا مبادئها مسبةْ جيلهم
…
وكأنها لم تنتظم أجيالها!
هي تلك يا طه شريعة دينهم؟
…
أمْ تلك دنيا يشربون نهالها؟
إبراهيم مأمون
في الأدب المقارن
الشعر والنثر
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الشعر أسبق ظهوراً من النثر في عالم الفن الذي يحتفي صاحبه بإنشائه وتنميقه، ويتعمد إيداعه شعوره وأفكاره على نحو جميل يراد له السيرورة والبقاء. فالشعر يظهر ويرتقي والأمة ما تزال متبدية قليلة الحظ من الثقافة وأسباب العمران، أما النثر الفني فلا تدعو الحاجة إليه ولا تتم وسائله إلا في أمة متحضرة مستقرة واسعة الثقافة منتشرة فيها الكتابة الخطية، فالكتابة الخطية تتيح للكاتب أن يتوفر على إنشاء النثر المنمق، الذي يحوي تعميقاً في التأمل واتصالا في المجهود الأدبي وتدبيجاً للفظ، وتتيح أيضاً للنثر الفني أن يبقى ويذيع. أما الشعر فهو غني بموسيقاه ورويه عن تقيد الطروس، وهو أهل للنهوض بحاجة الأمة المتبدية، من التعبير عن عواطفها وأفكارها البسيطة؛ ومن ثم ارتقى الشعر الإغريقي كما يتمثل في ملاحم هوميروس رقياً عظيما، والأمة ما تزال إلى البداوة أقرب، وتطور حتى تفرع منه فن جديد هو فن التمثيل، كل ذلك قبل أن تتوطد قواعد النثر اليوناني، وقبل أن يبلغ مبالغه على أيدي هيرودوت وتيوسيد وأفلاطون.
وكلا الشعر والنثر مدينان في ظهورهما ورقيهما - كسائر الفنون - للدين والدولة بفضل عظيم: ينشأ الشعر مختلطا بالموسيقى مصاحبا للرقص في الحفلات الدينية، التي تحفلها الجماعات الأولى في مواسم آلهتها، وينفصل عن الموسيقى والرقص ويخرج من حظيرة الدين إلى حظيرة الدولة، فيمدح الملوك ويزين قصورهم كما كان يفعل الشعر الإغريقي في عصر الطغاة، وعلى أيدي الكهنة يتألف أول ما تعرف الأمة من مبادئ النثر الفني، من نبؤات مسجوعة وحكم وعقائد مدونة أو شفاهية وقصص عن الملوك والآلهة، ثم ينحاز الكتاب الناثرون كما انحاز الشعراء إلى بلاطات الملوك ودواوينهم، يزجون بضائعهم وينزلون آمالهم؛ ثم يستقل الشعر والنثر عن حظيرتي الديانة والدولة قليلا قليلا، بشيوع الرقي العقلي وانتشار الثقافة وتميز شخصية الفرد عن شخصية الجماعة، فيصبح كل منهما
فناً غايته التعبير الجميل عن شعور الإنسان بالحياة، وعلى قدر تحرر كل منهما من العلاقة بالكهان وبالحكام، وتخلصه من الغرض المادي يكون رقيه الفني وصدقه في أداء رسالة الحياة.
فبانتشار الحضارة والثقافة يرتقي الشعر عما كان عليه في عهد البداوة، ويظهر بجانبه النثر فناً ثانياً مترجماً بالألفاظ عن شعور الإنسان وتفكيره، منافساً له في كثير من مواضعه ومعانيه. فيتقاسمان النهوض بمهمة الأدب، ويظهر من الأدباء من يجمعون بين الفنين، يبرزون في كليهما أو يشتهرون بأحدهما فوق اشتهارهم بالثاني. ويشارك النثر الفني الشعر في كثير من خصائصه، أي خصائص الفنون جميعاً، كالموسيقية، والخيال، والتقابل، والتماثل، والتجاوب؛ بيد أنه وإن تشارك الفنان في شتى الخصائص والموضوعات، فما يزالان متميزين في خصائص، مستقلا كل منهما دون الآخر بموضوعات هي به أشبه وهو على تأديتها أقدر. فللشعر قصب السبق فيما هو أدخل في باب الخيال والعاطفة والشمول والغموض أحياناً، وللنثر ما هو أقرب إلى التفكير والمنطق والدقة والترتيب والاستقصاء، ومن ثم يلجأ الشاعر الناثر إلى الشعر طوراً وإلى النثر تارة
فالشعر والنثر كلاهما قادران على تأديته أغراض الوصف والحكمة والعتاب والاعتذار والفكاهة؛ وربما رق النثر في كل ذلك وتشبع بالخيال حتى صار أشبه بالشعر، لا يميزه عنه سوى انعدام الوزن وإن ساواه في الموسيقية؛ أما الحماسة والنسيب مثلا فالشعر أمهد لهما سبلا وأرحب مجالا، إلا أن يجيء النثر الحماسي خطابة فيكون له من رهبة الموقف وتعبير سيماء الخطيب وهيبة محضره عوض عما يمتاز به الشعر من خيال وروعة واستجاشة للعواطف، ومن ثم كانت الخطابة من أشبه فنون النثر بالشعر؛ وأما في سرد الوقائع التاريخية أو القصص الفردية، أو تقرير الحقائق العلمية والأدبية، فالنثر أرحب بكل ذلك صدراً وأطول باعاً. ومن ثم كان نقد الشعر والأدب عامة وتسديد خطى الأدباء وإظهار محاسن الشعراء من أهم وظائف النثر التي يضطلع بها إذا ما توطد وساير الشعر جنباً لجنب
وقصارى القول أن موضوعات الشعر والنثر يتباعد طرفاها، ويلتقي الطرفان الآخران حتى يختلطا؛ وإن الروح الشعري قد يكون في النثر الجيد كما قد ينعدم من النظم الرديء؛
ولما كان الشعر والنثر يعبران مشتركين عن شتى خوالج النفس الإنسانية، فمن الطبيعي أن يرتقيا معاً في عصور الرقي الإنساني وينحطا معاً في عصور الانحطاط. بيد أنه يلاحظ بجانب ذلك أن أحدهما ربما ارتقى وفاز باحتفاء الأدباء والثاني في انخذال وقعود، تبعاً لما تميل إليه نزعة الشعب في عصر من عصوره، فكما يختلف الفرد الواحد بين نزعة الخيال والعاطفة والخفة أحياناً، وبين نزعة التأمل الوقور والاستقصاء الهادئ للحقائق أحياناً حسب اختلاف أطوار النفس الإنسانية الخفية الأغوار المنقلبة الأطوار، كذلك تمر الأمم بعصور طموح ومغامرة يزدهر فيها الشعر والنثر الشعري، وبعصور هدوء وركود، وتأمل علمي وفلسفي، يغزر فيها النثر ويلعب دوراً كبيراً ويخفت صوت الشعر
فإذا نحن رسمنا لأطوار الشعر والنثر دورة، كتلك التي رسمها أرسطو لنظم الحكم في المدن اليونانية، بين ملكية وارستقراطيه وهلم جراً، كان أول أطوار تلك الدورة طورا شعرياً طويلا، يبلغ ذروته بنهضة الأمة بين الأمم، ونيلها نصيباً وافراً من الحضارة والثقافة، يلي ذلك طور نثري يشتغل فيه النثر بنقد ما تجمع لديه من آثار الشعراء المتقدمين، وينخذل الشعر في أثنائه أو عقبه مباشرة؛ فإذا ما انبثت في الأمة روح جديدة جاء طور شعري جديد سابق أيضاً، يليه طور نثري وهلم جراً. ولعل في تاريخ الأدب الفرنسي مثالا لذلك واضحاً: إذ سبق الشعر الفرنسي بالظهور على أيدي التروبادور ورونسار، ثم نهض النثر على أيدي رابليه ومونتين في عهد النهضة الأوربية، ثم نهض الشعر مرة أخرى في عهد لويس الرابع عشر على أيدي كورني وراسين، ثم كان القرن الثامن عشر عهد نثر طويلا ظهر فيه فلتير وروسو، ثم كانت النهضة الرومانسية الشعرية فظهر لامرتين وهوجو، ثم نهض النثر بانتشار الحركة العلمية وذيوع القصة، وظهور القصاصون كبلزاك وموباسان، والنقاد كرينان وتين
يتشارك النثر والشعر - منذ ظهور النثر الفني - في تأدية رسالة الأدب ويتشابكان موضوعات وغايات، ويتراوحان صعوداً وهبوطا مع تعاقب العصور، ويظهر النوابغ في كل منهما، وينال هؤلاء وأولئك حب المثقفين وإعجابهم؛ بيد أن الشعر يظل آثر لدى المثقفين وأكثر استئثاراً بحفظهم وساتشهادهم، ويظل الشعراء أحظى بالرعاية والاهتمام، وآثارهم أحظى بالدرس والنقد. وإلى الشعر والشعراء ينصرف الذهن أول ما ينصرف إذا
تحدثنا عن الأدب أو فكرنا في الأدباء، أو أردنا الموازنة والاستشهاد أو التدليل على صحة نظرية. وبأسماء فحول الشعراء تسمى عصور الأدب المتتابعة في تاريخ الأدب الإنجليزي، كل ذلك لما يمتاز به الشعر من تضمين المعنى الشامل اللفظ الموجز، والنظرة النافذة القول الرصين، وما يتوفر عليه من شرح العواطف والذكريات، والآمال والأشجان والإطراب، ومازال الإنسان أكثر انجذاباً إلى العاطفة منه إلى الفكر، وهو من ثم يؤشر الشعر على النثر.
نشأ الشعر العربي وارتقى في البادية، سابقاً للنثر، إذ بلغ ما بلغه من الرقي على أيدي أصحاب المعلقات وأضرابهم، والنثر لا يتعدى بعد الخطب القصار والحكم المنثورة والأسجاع المأثورة والوصايا المتفرقة. نعم كان للقبائل خطباء كما كان لها شعراء. ولكن العرب كانوا بالشعر أولع حتى عدوه معرض مفاخرهم، وقالوا:(الشعر ديوان العرب)، ولم يقولوا:(الأدب) ولا (الخطابة). ولم تذع كلمة النثر حتى تحضروا وتثقفوا وانتشرت بينهم الكتب. وكان الشعر والنثر معا في بدء أمرهما مختلطين بالدين والدولة، فشاعر القبيلة كان وزير دعايتها بتعبير العصر الحاضر، والشعر والسحر والكهانة والعرافة والتنبؤ والسجع كانت معاني وألفاظا متلاحمة الوشائج. وقد كان للدين بين العرب من أقدم عصورهم مكان، وأخرجت جزيرتهم عدداً من الأنبياء عديداً، وكان الشعر إلى ظهور الإسلام ينشد في المواسم الدينية، وتخاطب به الآلهة، من ذلك قول بعض اليمانيين في طوافهم:
عك إليك عانية
…
عبادك اليمانية
ولم يفصم الشعر والنثر العربيان يوما علاقتهما بالدين والدولة، بل ظلا طول عصورهما على اتصال بهما متين؛ بل بفضل الدين احتوى النثر العربي على أثر فني لا يجاري بلاغة، بل هو نموذج البلاغة الذي ظل يحتذى ويدرس ويقتبس في النثر والشعر معا طول العصور، وهو القرآن الكريم، وبقيام الملك على أساس ديني اتصلت علاقة الأدب بكلا الملك والدين، وظل الشعر يتقرب إلى الحكام بالمدح، والنثر يعمل في دواوينهم، ولم يخرج الأدب العربي خروجا تاما من طور خدمة الملوك، إلى الطور الفني الخالص المنزه عن كل غرض خارجي أو مطلب مادي، وإنما ظل الشعراء والكتاب يعتمدون على رعاية الأمراء، ويسخرون فنهم لخدمتهم
وتوالت أطوار الشعر والنثر في تاريخ الأدب العربي: فسبق الشعر في الجاهلية، وحل محله النثر في صدر الإسلام متمثلا في الكتاب الكريم وخطب الرسول وخلفائه وكتبهم وكتب عمالهم، واستعاد الشعر مكانته في عهد الأمويين على ألسنة جرير والفرزدق والأخطل وجميل وكثير وابن أبي ربيعة وأضرابهم؟ وعند ذلك كان العرب قد تشربوا الحضارة والثقافة، فظهر النثر الفني على أقلام عبد الحميد وابن المقفع والجاحظ والبديع؛ وبلغ الشعر في الوقت نفسه أوجه على أيدي معاصري هؤلاء من الشعراء، كبشار وأبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي والمعري، ثم أفل نجم الشعر بدءا من القرن الخامس وأفسده التعمل، وأعوزته روح الطموح والمغامرة التي غاضت من نفوس الأمة التي أرهقها المتسلطون، وبقيت للنثر بقية من قوة مستمدة من نضج الثقافة الإسلامية، فكان العصر التالي طور نثر طويلا أنجب من النقاد والمؤرخين والكتب أضراب ابن خلكان والنويري والقلقشندي وابن رشيق وابن خلدون، ممن كان هم أكثرهم جمع الآثار الأدبية والتاريخية المتخلفة من العصور السالفة، وتنظيمها والتعليق عليها. ثم لحق الوهن والإسفاف النثر كما لحق الشعر. فلما كانت النهضة الحديثة، كان الشعر أسبق إلى النهوض والحياة والتخلص من شوائب الصنعة والتقليد، فالشعر أسبق من النثر إلى الازدهار وأسبق منه إلى الذبول.
كان الشعر أسبق إلى الظهور والرقي في الجاهلية، وكان العرب يعدونه ديوانهم، وكانت له لديهم مكانة عظيمة، وقد ظلت له هذه المكانة على توالي العصور، على رغم ظهور النثر الفني ورقيه وحصول الكتاب دون الشعراء على المراتب السامية كالوزارة؛ وظل الشعر أعلق بالنفوس وآثر بالحفظ والذكر، ولم يسايره في الحفظ والسيرورة من آثار النثر إلا القرآن الكريم، وهو مملوء بالروح الشعري حافل بالتشبيهات والمجازات البليغة. ولما ارتقى النثر الفني راح يتتبع خطى الشعر: يقتبس أبياته ويضمن شطراته، ويتناول موضوعاته، ويحاكي موسيقاه ووزنه، فاصطنع السجع والازدواج والجناس، وأصبح السجع في النهاية للنثر لازماً لزوم القافية للشعر. والحق أن الأدب العربي بفنيه الشعر والنثر اتسم دائما بالاحتفاء باللفظ وجرسه وتنميقه، والأسلوب وتقسيمه وتدببجه، وقد ظل ذلك مستساغا مقبولاً حينا ثم أفرط وسمج. وظل الشعر العربي شديد الحرص على فخامة
الموسيقى ووضوحها واطرادها بلا إخلال، كالإخلال الذي يكثر في الشعر الإنجليزي ويلجأ إليه شعراء الإنجليزية قصداً للتنويع واجتناب الاطراد الممل، وظلت القافية في الشعر العربي كذلك واضحة جزلة مكونة في الواقع من قافيتين صوتيتين، كما في (عانيه) و (مانيه) في البيت السالف الذكر، وهذا ما يعرف في الإنجليزية بالقافية المؤنثة، وقد دخلت الإنجليزية نقلا عن الإيطالية ولكن الشعراء سرعان ما نبذوها، لعدم ملاءمتها لطبيعة اللغة الإنجليزية التي تمج الإفراط في الموسيقية نثراً أو نظما.
ولما ظهر النثر الفني بجوار الشعر، ونبغ فيه الكتاب واحترفوا إنشاء الرسائل الديوانية، وحرصوا على التزود بكل أسباب الثقافة، والتحلي بكل موجبات الفضل، عالج أكثرهم الشعر طبعا أو تكلفا، فأثرت عن الحسن بن وهب وابن الزيات وابن الصولي وسعيد بن حميد وابن العميد وابن عباد والخوارزمي والبديع والجرجاني والعسكري، أشعار قالها بعضهم تظرفا ورياضة للقريحة، وقالها بعضهم جادين في التعبير عن خوالج صميمة وآراء صادقة. وقد قيل إن الجاحظ عالج قرض الشعر طويلا ثم أقلع حين لم يفلح. وكان البديع والحريري يخالفان في مقاماتهما بين شعر ونثر لا يكاد يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعروض، وفيما عدا ذلك يتساويان تنميق لفظ وبلاغة إنشاء، ومن أجمل أشعار الكتاب قول الجرجاني من أبيات هي من غرر الشعر العربي: -
يقولون لي: فيك انقباض وإنما
…
رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
إذا قيل: هذا مشرب قلت: قد أرى
…
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وقد كانت المقابلة والمفاضلة بين الشعر والنثر من هم نقاد العربية وكان أكثرهم يميل مع الشعر؛ على أنها مفاضلة لا موضوع لها: فليس الشعر خيراً من النثر ولا النثر خيرا من الشعر، وإنما كلاهما ضروريان وكل منهما جميل في موضعه، زد على ذلك أن أولئك النقاد كانوا يدخلون في حسابهم اعتبارات خارجية لا صلة لها بالفن الصميم، بل هي شؤون اجتماعية أو سياسية أو فردية صاحبت الأدب في بعض العصور، فأصحاب الشعر يستدلون على أفضليته بأن الشاعر يخاطب الأمير باسمه مجرداً وباسم أمه وبصيغة المفرد، وبأن الشعر رفع قبائل كأنف الناقة ووضع أخرى كنمير، وبأن الكذب ومدح النفس يقبلان فيه ولا يستساغان نثراً؛ وأصحاب النثر يؤيدون حجتهم بأن الرسول الكريم لم يقرض
الشعر، وأن الشعراء يخدمون الكتاب ويأخذون هباتهم. وأن الكاتب يجلس والشاعر ينشد وهو قائم وهلم جرا.
نشأ الشعر والنثر الإنجليزيان كذلك على صلة بالدين والدولة، وكان مزاولوهما الأوائل أمثال تشوسر وسبنسر وهوكر من رجال السياسة والدين والحرب، أو كانوا على اتصال بالساسة والمحاربين وعلماء الدين. ومن الكنيسة خرج فن التمثيل ذو الصلة الوثيقة بالأدب، فكان قوامه الشعر أولا على عهد شكسبير؛ ثم إنجاز تدريجاً إلى النثر؛ وكان للإنجيل أثر بليغ في اللغة الإنجليزية؛ غير أن الشعر والنثر ما لبثا بعد ذلك أن انسلخا تدريجاً عن الملك والكنيسة والأحزاب والأعيان، واعتمد كلاهما مكان أولئك جميعاً على الجمهور القارئ، ودخلا في طور الفنون الخالصة التي لا غاية لها سوى وصف مشاعر الإنسان وشعوره بجمال الحياة وغبطاتها، وهو الطور الذي لم يبلغه الشعر والنثر العربيان تماماً، بل قام من الأدباء الإنجليزي من ناصبوا الملكية والكنيسة، مثل شلي وبيرون
وكان الشعر الإنجليزي أسبق إلى الازدهار من النثر: فبلغ أوجه في عهد اليزابث في آثار شكسبير ومعاصريه، وتجلت الروح الشعرية حتى في النثر القليل الذي خلفه ذلك العصر الحافل بروح الإقدام، فهوكر مثلا وهو يدرس مسائل دينية يعرج فيصف الموسيقى وصفاً شعرياً زائفاً؛ وتلا ذلك طور نثري طويل في القرن الثامن عشر، بلغ فيه النثر الغاية من السلاسة ورحب الجوانب، ثم كانت هبة قومية جديدة فنهض الشعر في العهد الرومانسي نهضة باهرة، وكان كثير من شعرائها كتابا حذاقا أيضاً تفيض كتاباتهم النثرية بما تفيض به أشعارهم من روح رومانسية؛ ثم ارتقى النثر في أعقاب ذلك مرة أخرى، فظهر من النقاد ماكولي وارنولد، ومن القصصيين ثكري ودكنز، ومازالت القصة في ازدهار مطرد
وبلغ النثر الإنجليزي من الرقي الشكلي والموضوعي ما لم يبلغه النثر العربي: فظهرت فيه المقالة والصورة والترجمة والتأريخ والقصة الفنية. وبهذا كله تهيأ له أن يزاحم الشعر على مكانته، لاسيما بفضل القصة والرواية التمثيلية، بل هو انتزع الرواية التمثيلية من الشعر واستأثر بها. والقصة اليوم تستقل بأسماء أعلام الأدب الإنجليزي، وقد مارسها أكبر شاعرين محدثين: كبلنج وهاردي، بل كانت ممارسة النثر بجانب الشعر دائما من أدب شعراء الإنجليزية، يبسطون فيه آراءهم في النقد الأدبي والأحوال الاجتماعية. فكان دريدن
وكارلي وبوب الشعراء مثلا من أوائل من كتبوا المقالات، أما كبار شعراء العربية فقلما روي لهم نثر مطنب
على أن الشعر الإنجليزي وإن زاخمه النثر في العصر الحديث هذه المزاحمة. واستأثر دونه بأكثر احتفال الأدباء والقراء، لم يفقد موضعه الأثير من نفوس المثقفين، وإنما هو يجتاز مثل عصر الركود الذي شهده في القرن الثامن عشر، إذ أن النثر والشعر كما تقدم يتجاذبان النفس الإنسانية على اختلاف العصور، بيد أن الناس حتى في مثل هذا الطور لا ينزعون عن حبهم للشعر. بل يلتفتون إلى الماضي يروون صداهم من عبابه الزاخر، ولا تزال لشكسبير وملتون ووردزورث وشلي منازل في قلوب قراء الإنجليزية، كمنازل ابن الرومي والمتنبي والمعري في قلوب قرائهم، لا يحتل مثلها الكتاب الناثرون في كلا الأدبين
فخري أبو السعود
بين يومي الهجرة والفتح
حمامتان تتناجيان
للأستاذ محمود غنيم
قالت الأولى: هلمي يا أختاه نغادر سطح هذا الغار - غار ثور - قبل أن يدركنا هذا الجيش اللهام، فيغطينا العثير الذي تثيره سنابك خيله. يا لله! إنه ليحث الخطى نحو قومنا - قريش - ولا قبل لقومنا به، عشرة آلاف أو يزيدون - إن صدق حدسي - مع كل منهم سيفه القاطع ودرعه المنيعة، ويقين أقطع من سيفه وأمنع من درعه. يا لله لقريش! من أين أقبل هذا الجيش؟
قالت الثانية: لقد جاء القوم عن طريق يثرب، لكني لا أخالهم جميعا يثربيين. انظري، هذه خيل من سليم، وهذه من مزينة، وهذه من غطفان، هم أمشاج أخلاط، من كل فج وعلى كل لون؛ ولكن شيئا لا أكاد أتبينه، تبدو أنواره على أساريرهم، ويشع بريقه من عيونهم - يؤلف بينهم، ويجعل منهم كتلة واحدة كأنهم بنيان مرصوص
بيد أن شعورا داخليا في نفسي يجعلني لا أرهب هذا الجيش، هذا الجيش، حتى لأكاد أقف على ذباب سيوفهم وفوق شبا رماحهم آمنة مطمئنة، كأنني فوق منبر الحرم، أو على حافة مقام إبراهيم. انظري معي، أنعمي النظر، ألا ترين تلك الكتيبة الخضراء التي تتوسط الجيش؟ ألا ترين هذا الرجل الذي يتوسط تلك الكتيبة الخضراء، يومئ للقوم فيسيرون، ويقفهم فيقفون؟ إن لي عهدا بهذا الرجل - إن لم تخني الذاكرة - آه! تذكرت يا أختاه، أليس هذا صاحبنا بالأمس الذي استضفناه في هذا الغار ثلاثة أيام منذ عشرة أعوام؟ إنه محمد، محمد، محمد، ألا تذكرين؟
قالت الأولى: تذكرت كل شيء، حتى لكأن هجرته بنت الصباح، وكأن مكانه في الغار لا يزال حارا، وكأن جرس صوته يرن في أذني وهو يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا) ألم أحدثك يومئذ أن لهذا الرجل شأنا؟ ما الذي أوحي إلينا يومئذ أن نحكم تدبير تلك المؤامرة التي اشتركنا فيها لتضليل القوم وإخفاء محمد عن عيونهم؟ يوم عششنا بفم الغار، وما كان فم الغار لنا بعش، ونسجت العنكبوت خيوطها على بابه، وما كان لها به عهد، وأرسلت الشجرة الجرداء ذوائبها فاعترضت الطريق إليه. لقد تضافرنا على تضليل القوم
حتى ضل القوم، فظلوا يتخبطون في كل مكان، ويهيمون في كل واد، يبحثون عن محمد، ومحمد منهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه، لعثر عليه
تذكرت يوم تألب شبان قريش على محمد، وأحاطوا بداره إحاطة السوار بالمعصم، ينتظرون طلوع الصباح، فيعطرون أديم الأرض بأطيب دم جرى في اطهر عروق، ويفصلون أعظم رأس عن اكرم جسد، وكيف أن محمدا تغفلهم في الهزيع الأخير من الليل فأضجع عليا في فراشه، وسجاه ببرده الحضرمي، ليوهم القوم أنه هو ثم انسل من بينهم، والكرى آخذ بمعاقد أجفانهم. كم كان ليلا هادئا ساكنا، لم يقطع عليه سكونه إلا دبيب محمد الخافت، يسير على أطراف أصابعه، وإلا طرقة هامسة من أطراف أنامله على باب صديقه أبي بكر سرعان ما استجاب لها، كأنما كانا على ميعاد، على أنهما لم يأمنا أن يخرجا من باب الدار، فخرجا من فجوة في الجدار، ثم اتجها في طريق اليمن حتى طرقا علينا باب الغار، وقد آذن أن ينبلج النهار، فقابلناهما بالنجلة والإكرام، طيلة ثلاثة الأيام. كم كان يثير إشفاقي وإعجابي ما كان يبدو عليهما من الخوف المركب في طبيعة الإنسان، مقرونا بالثبات الذي تبعثه قوة الإيمان!
نعم تذكرت ذلك كله، وتذكرت كيف كان عبد الله بن أبي بكر يندس بين قريش نهارا، ثم يوافيهما في الغار ليلا، فيسر إليهما ما يأتمرون به، وكيف كان عامر بن فهيرة غلام أبي بكر، يمر بغنم عليهما موهنا فيحتلبان ويذبحان، ثم يعفى بها على آثار عبد الله. وتذكرت يوم اعتزما الرحيل فالتمسا ما يعلقان به الطعام فشقت أسماء بنت أبي بكر - ذات النطاقين - نطاقها شطرين، علقت الطعام بشطر، وانتطقت بشطر. وتذكرت سراقة بن مالك وما كان من أمره يوم جعلت قريش لكل من يقبض على محمد مائة بعير، فخرج يلتمس محمدا، فإذا محمد من عن كثب. لكنه ما كاد يصيح صيحة الظفر، حتى شعر بجواده قد عثر، فأنهضه فكبا ثانية، ثم ثالثة، حتى كأن الحصان فقد قوائمه، أو فقد الأرض التي تستقر عليها قوائمه؛ وإذ ذاك رأى الفارس أن الأرض اثبت ظهرا من حصانه، فترجل ودنا من محمد، لكن لا ليقبض عليه، بل ليعتذر إليه. ألم أخبرك يومئذ أن الرجل يكتنفه غموض وتحوطه أسرار؟
قالت الثانية: دعيني مما تقولين، أي سر في جواد يكبو بصاحبه، أو في حمامة تبيض، أو
عنكبوت تنسج خيوطها، أو شجرة ترسل أغصانها؟ إنما السر كل السر في تعاليم هذا الرجل التي تنفذ إلى قلوب أصحابه، فتفعل فيها ما لا تفعل خمر الأندرين ولا سحر بابل. لقد هاجر الرجل وهو وحيد طريد، فمن أين جاء بهذا العدد العديد، الغارق في يلب الحديد؟، أتذكرين ما كنت تتنبئين به يومئذ من أن أهل المدينة لن يكونوا أبر به من أهله الذين آذوه وطردوه، ولو تمكنوا منه لقتلوه، ولا من أهل الطائف الذين أغروا به الصغار، فحصبوه بالأحجار؟ أما كنت تقولين: ماذا عسى أن تكون إقامة محمد بين ظهراني أهل المدينة، والمدينة معقل اليهودية التي يناصبها العداء، ومهد الفتن التي لا تهدأ ثائرتها بين الأوس والخزرج، وبينهما ما بينهما من تراث ودماء، يتوارثها الأحفاد عن الأجداد؟
وقد ينبت المرعى على دمى الثرى
…
وتبقى حزازات النفوس كما هيا
لقد كنت تقولين ذلك، وحق ما تقولين، فليت شعري ماذا فعل محمد حتى استسل تلك السخائم المستأصلة من نفوس القبيلتين؟ وكيف هادن اليهود، وهم اشد تمسكا بتوراتهم، من أهل مكة بهبلهم ولاتهم؟ بماذا تفسير هذا؟ وما هو هذا الذي يأتي به يسميه قرآنا، فيصبه في الآذان كما تصب الخمر في الأفواه، ويتلوه عليهم كما تتلى الرقى والتعاويذ؟ إن لم يكن خمرا، ولم يكن سحرا، فأي شيء هو؟ لقد سافر محمد في قلة وذلة، لا ينفر منه وحش، ولا تشعر بوطأته أرض، فما باله يعود فتتدكدك الأرض تحت وقع سنابك خيله، وتلوذ الوحوش منه بقمم الجبال؟ كان هو وزميله ودليل عند هجرتهم يسيرون ليلا، ويختفون عن العيون نهارا كما يزور الحبيب الحبيب، عندما يخشى عين الرقيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وانثني وبياض الصبح يغري بي
كانوا لا يأمنون نميمة الشمس، ولا إغراء القمر، ولا وشاية ظلالهم بهم، ولا يطمئنون إلى سلوك طريق معبدة ذلول، فهم أبداً يعوجون ويعرجون ويصدون وينحدرون، فما بالهم الآن يسيرون في وضح النهار، ويكادون يغطون قرص الشمس بما يثيرون من غبار، ويهتكون حجابها بكل صارم بتار؟
لشد ما تغيرت الحال! ولشد ما تدهشني تلك المغناطيسية التي تجذب إليه الرجال! ولعمري ما رأيت اتباعا أشد تعلفاً بصاحبهم من تعلق أصحاب محمد بمحمد. أو ما تذكرين يوم كانت قريش تطرح بلالا على الرمضاء إذا اشتد الهجير، وتلقي على صدره حجراً ينوء بحمله
البعير، لكيف عن اتباع محمد، فلا يزيد على قوله: أحد، أحد؟ أو ما تذكرين يوم أسرت هذيل زيد بن الدئنة وباعته من قريش لتقتله ببعض قتلى بدر، فتقدم إليه أبو سفيان، وهو واقف على أبواب الأبدية وقال: أنشد الله يا زيد: أيسرك أن محمداً الآن في مكانك تضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن تصيبه شوكة في قدمه وأنا في أهلي. أليس معنى ذلك أن القوم يتفانون في حب محمد ودين محمد، وهم أشد ما يكونون تفانيا إذا حزب الأمر واشتدت اللازبة وتحرجت المواقف)
قالت الأولى: لقد ذكرتني بأبي سفيان وإنني أكاد ألمح شخصاً يشبهه في سواد الجيش، يسير تحت لواء محمد. انظري معي، أنعمي النظر، كأنه هو، عجباً! أترينه هو أيضاً سرى فيه تيار كهرباء محمد وجذبه مغناطيسه فاستجاب له، بعد أن ناهضه من بدء دعوته؟ أليس هو قائد جيش المشركين ببدر، ثم بأحد ثم بالخندق؟ ثم أليس هو زوج هند بنت عتبة التي مضغت كبد عمه حمزة بأحد، وأرادت أن تشفى صدرها بابتلاعها لولا أن شعرت بمرارتها فلاكتها، ثم قذفتها، والتي آلت إلا يطأ فراشها أبو سفيان بعد بدر حتى ينتقم لأبيها وأخيها، والتي جدعت أنوف صرعى المسلمين بأحد، وصلمت آذانهم، واتخذت من كل ذلك قلادة تحلى بها عنقها؟ ليت شعري أترينها هي أيضاً قد استجابت لمحمد فاستجاب بعلها، إنها لأحاجي وألغاز
قالت الثانية: حقا أنني لألمح أبا سفيان يسير تحت لواء محمد بجوار عمه العباس، وليس غريبا أن يكون تيار محمد جرفه كما جرف آلافا من أمثاله. إن تيار محمد جارف، وريحه عاصفة تجتاح كل ما يعترضها في طريقها، ولئن كان أبو سفيان ناهض الإسلام ضعيفاً لما ضره أن يؤيده قوياً. وما أقل أشياع الضعيف حتى يشتد ساعده فيكثر أشياعه، وينضوي تحت لوائه من أسرف في عدائه. وهل تعتقدين أن كل من ناوأ الإسلام ناوأه مقتنعاً ببطلانه، أو أن كل من أيده أيّده بدافع من وجدانه؟ وهل كان أبو سفيان بدعا في الرجال؟ كم لأبي سفيان من أمثال وأشباه، كانت لهم تجارة وجاه أشفقوا عليهما وعلى أنفسهم من الهوان فصدهم ذلك عن الإيمان. أما وقد تغير مركز محمد فيجب أن يعتدل موقف هؤلاء من محمد. وما يدريك أن أبا سفيان سيجني من وراء إيمانه خيراً كثيراً؟ وما يدريك أنه سيخرج من بين صلب أبي سفيان وترائب هند من يفتح البلاد ويتحكم في رقاب العباد
باسم محمد ودين محمد؟ على أن أبا سفيان ما لجأ إلى الإيمان، إلا بعد ما قاساه من الهوان. أما سمعت ما تحدث به الناس أنه بعد أن نقضت قريش عهد الحديبية جعل قلب أبي سفيان لا يستقر بين ضلوعه خشية محمد وبطش محمد فتسنم راحلته، وتوجه شطر المدينة ليؤكد العهد إن وفق، أو يستشف نوايا محمد إن أخفق، فنزل أول ما نزل على ابنته أم حبيبة زوج محمد، فما كادت تراه حتى طوت فراشا كان مبسوطا أمامها، فقال: أتطوين الفراش رغبة بأبيك عنه، أو رغبة به عن أبيك، فقالت: لا والله إنه فراش رسول الله الطاهر الأمين، أخشى عليه دنس الشرك ورجس الوثنية، فتشاءم الرجل، ونهض مغضباً، ودخل على محمد فازور عنه جانبه، فلجا إلى أبي بكر فطوى عنه كشحا فلاذ بعمر، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار. عندئذ ارتد على عقبه يجر ذيل الفشل وخيبة الأمل. على أنه بعدها لم يغمض له جفن، ولم يهدأ له جأش، وجعل يتوقع غزو محمد لملكه، وإن كان محمد حاط هذا الغزو بالكتمان. ولقد اشتد القلق بأبي سفيان، فخرج منذ حين ليكشف أمر المسلمين. نعم لقد شاهدته منذ حين في نفر من قريش، خرجوا يستطلعون خبر الجيش، فلقد تناقلت خبره الركبان، رغم مبالغة محمد في الكتمان. وكأني بأبي سفيان ما كاد يلوح غبار الجيش لعينيه، حتى سقط في يديه. وكانت في نفسه بقية شك في دعوة محمد، فما هو إلا أن رأى جيش المسلمين، فإذا الشك يقين، وكأنني به وقد مثل بين يدي محمد. فنظر إليه نظرة يكمن فيها شبح الموت، ولسان حال الرسول يقول:
إن على الله أن تبايعا
…
تؤخذ كرها أو تجيء طائعاً
فلم يسع أبا سفيان إلا التسليم والإذعان
قالت الأولى: هاهو ذا الجيش قد دنا من مكة حتى صار قاب قوسين أو أدنى، وإنني لألمح أبا سفيان واقفاً بمضيق تمر عليه جيوش المسلمين فيلقا فيلقا، وما أخال هذا إلا من تدبير محمد، حتى يلمس الرجل مقدار ما يستهدف له قومه من الخطر إذا حدثتهم أنفسهم بالمقاومة، فيذهب إليهم نذيرا ينقل ما ألقي في نفسه من الرعب إلى قلوبهم. يا لله لسياسة محمد! إنه يريد أن يتم الفتح بدون أن تتطاير الرءوس، أو تتناثر الأشلاء، أو تراق قطرة من دماء. هل تريده أن تتبيني صدق ما أقول؟ أرهفي أذنيك. أصيخي إلى هذا النداء:(من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن) أسمعت النداء؟ أتحققت صدق
رغبة محمد في السلام؟ وكيف يريد أن يحقن دماء أهل المدينتين: التي ربته وليداً والتي آوته طريداً. هاهو ذا أبو سفيان يتقدم الفاتحين داعيا قومه إلى ترك الكفاح وإلقاء السلاح. وهاهو ذا جيش الفاتحين ينقسم أربعة أقسام، يدخلون مكة من جهاتها الأربع: الزبير بن العوام على رأس فريق، وخالد بن الوليد على رأس فريق، وسعد بن عبادة على رأس ثالث، وأبو عبيدة بن الجراح على رأس الرابع. ولست أظن أن هؤلاء سيلقون مقاومة، وإن كنت أشك في هؤلاء الذين يقيمون بأسفل مكة، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل، فما أظنهم يخلدون إلى الاستسلام، بل يأبون إلا امتشاق الحسام. على أن خالدا سوف يعمل فيهم نباله ونصاله، فلا يلبثون إلا ساعة من نهار يلوذون بعدها بأذيال الفرار، وتستطيعين أن تعتبري هذا اليوم في تاريخ مكة فاصلا بين عهدين، خالدا على مر الجديدين. هنيئا لمحمد! لقد غادر مكة آبقاً تحت أذيال الظلام، ثم دخلها دخول القياصرة العظام، فليصدح مؤذنه بالأذان حتى يش اجواز الفضاء، وليقم شعائره في ضوء النهار لا من وراء ستار، وليطف بأرجاء مكة آمنا مطمئنا، وليتفقد منزله إن كانت أبقت أيدي القوم عليه، وليزر معاهد صباه، وليغش حراء الذي كان يتحنث فيه، وليملأ عينيه من أرض مكة وسمائها، وليملأ رئتيه من هوائها، ليتنفس هواءها الآن نقيا صافيا، بعد أن حرمه عشرة أعوام، وتنفسه مسموما موبوءا ثلاثة عشر عاما. ولتتداع إلى خاطره الذكريات، وليستجمع العمر في لحظات. ويل لهبل ومناة، والعزى واللات، ولتلك الأصنام المشدودة إلى الكعبة بالرصاص. ولتلك الصور التي تمثل ملائكة السموات غواني فاتنات. هذا آخر عهدهن بأستار البيت، لشد ما كان يمقتها محمد. وكأني به يعمل فيها معول التحطيم ويحرم من أجلها على قومه النحت والتصوير، وهكذا تسيء الوثنية إلى الفن كما أساءت إلى الدين، ولكن ما تظنين محمداً فاعلا لقريش؟
قالت الثانية: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، إن محمدا ابر بقومه من أن يجد عليهم أو يؤاخذهم بما اقترفوا، وإنه لأكبر من أن يتشفى بالترة عند المقدرة، وقريش يأسرها المعروف كما ترهبا حدة السيوف. ولو أن محمدا أراد الانتقام لرأى من المهاجرين محبذين، ومن الأنصار أنصارا. إن سيوف أولئك وهؤلاء لتظمأ إلى ما في عروق القوم من دماء، أو ما سمعت سعد بن عبادة عندما دخل مكة صاح قائلا: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل
الحرمة) فما هو إلا أن سمع محمد صياحه، فتقلصت شفتاه، وقدحت الشرر عيناه، ثم اختطف الراية من سعد، وأعطاها قيسا ابنه. إن الرجل لا يريد بقومه شرا، وإنه ليضرب للعالم بذلك المثل الأعلى في الصفح والمغفرة عند القدرة، وإني لأذكر لمحمد مواقف من هذا القبيل تعتبر مثلا عليا في الصفح الجميل. فلقد سمعت أنه يوم حشد هذا الجيش لفتح مكة، أخذ على الناس المواثيق أن يتكتموا أمره ولا يذيعوا سره، ولكن حاطب بن بلتعة كان له بمكة ولد وأهل أشفق عليهم فكتب إليهم حتى يتجهزوا لقتال محمد؛ بيد أن خبر الكتاب نمى إلى محمد، فسرعان ما أرسل عليا والزبير في أثر حامل الكتاب، وكان امرأة فأدركاها فاعترفت بحرمها وأخرجت الكتاب من بين غدائرها. تعرفين ماذا كان جزاء حاطب وهو من جيش الرسول ومن شهود بدر؟ لقد جوزي على هذه الخيانة العظمى بالصفح والغفران! قال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال الرسول - بعد أن أطرق هنيهة - (دعه يا عمر وما يدريك أن الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهكذا تذكر النبي بجوار هذا الغدر موقف الرجل ببدر فاغتفر الإساءة اللاحقة للإحسان السابق وخالف ما درج عليه الناس، فكل الناس
ينسى من الإحسان طودا قد رسا
…
وليس ينسى ذرة ممن أسا
ولقد تمثلت محمدا إذ وقف بأحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها فرأى عمه حمزة مبقور البطن مجدوع الأنف ممضوغ الكبد ممثلا به أي تمثيل. فأقسم لئن أظفره الله بقريش ليمثلن بسبعين من قتلاهم؛ فهاهي ذي قريش مطأطئة الرقاب، وهاهي ذي رءوس قريش دانية القطوف، فما يمنع محمدا أن يطفئ من غلته ويبر بأليته؟ إنه المتسامح في اجمل صوره وأعلى أمثلته. على أنني لا أخال محمدا مهما بلغ من تسامحه يعفو عن الحويرث الذي أغرى على زينب ابنته عند هجرتها، أو عن هذين الرجلين اللذين أظهرا الإسلام ثم ارتكبا جريمة القتل بالمدينة ثم ارتدا إلى الشرك، أو عن قينة ابن خطل التي كانت تتغنى وتسمر بهجائه، فهو لابد قاتلهم، ولعلك لا تنكرين ذلك على محمد متناسية أن اللين لابد أن يشوبه العنف وإلا شاه جماله. ولقد كانت لمحمد بجانب تسامحه البالغ صرامة بالغة. ولعلك تذكرين أنه يوم قبل الفداء من بعض أسرى بدر وأطلق بعضا آخر أبى إلا أن يضرب عنق النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط، لشدة ما ناله من الأذى على أيديهما قبل
هجرته. ولعلك تذكرين أنه ما كادت جنود الأحزاب تتخلى عنه في غزوة الخندق حتى تفرغ لليهود الذين تألبوا مع العدو عليه في ساعة العسرة فأباح دماءهم وأموالهم ونكل بهم شر تنكيل، وكيف أنه كان يعترض لقريش وغير قريش من المشركين يريق دماءهم، ويسلبهم إبلهم وشاءهم حتى يعتصموا بالإسلام، وما كان ذلك تجنيا من محمد، ولكنها الدعوة الروحية يجب أن تؤيدها القوة المادية، حتى ينظر إليها الناس نظرة جدية، وهكذا تمهد السيوف للأقلام، ويتضافر الاثنان على نشر لواء الإسلام
قالت الأولى: ثم ماذا بعد فتح مكة
قالت الثانية: ما يدرينا؟ لقد كان محمد يعد قومه ملك فارس والروم فيتهكم به كفار قريش قائلين: (هذا ابن أبي كبشة - يعنون زوج مرضعه حليمة - سيرث ملك الأكاسرة والقياصرة)، ولعله لو امتد بنا الزمان بضعة أعوام، شهدنا تحقيق هذه الأحلام
قالت الأولى: لقد احسنا إلى محمد يوم آويناه في الغار، وساعدناه على الفرار.
قالت الثانية: أكبر الظن أننا أحسنا إلى الإنسانية جمعاء: استحدثنا ثقافة، وأقمنا بناء حضارة، وغيرنا مجرى التاريخ.
كوم حمادة
محمود غنيم
مدرس بالمدرسة الابتدائية الأميرية
نفخة شرقية في أدب غربي
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
كان شاعر الألمان (جوته) يعنى منذ صباه بتاريخ الشرق وشعره. فدرس العبرانية وأدمن مطالعة التوراة. وكان يهتز لها لما يجده بها من أريحية الشعر، وبخاصة (قصة راعوث) و (نشيد الأناشيد). وهو يعتبر النشيد نسيج وحده في الرقة وحرارة الحب، وكان يستروح منه نسمة دافئة تهب من بقاع كنعان، وتتراءى له فيه حياة الحقول الوادعة ومزارع الكروم ومنبسط الرياض ومنابت الطيوب العاطرة. ويأنس من بعيد زحمة المدن ببني إسرائيل، وفيما وراء ذلك جميعه يتخيل ديوان سليمان وأبهة ملكه.
وينتقل جوته من العهد القديم العبري. إلى عصر الجاهلية العربي. حيث يقع على الكنوز المذخورة في المعلقات. تلك القصائد المطولات التي أحرزت الفوز بميدان النزال الأدبي في أسواق الشعر عند العرب. وهو يتمثل منها أهل البداوة الرعاة المقاتلين، لا يبرحون في غارات إثر غارات، يؤججها ما بين قبائلهم من تراث وخصومات. ويقول شاعر الألمان إن المعلقات تحدثه بأقوى بيان عن العصبية التي تربط أبناء القبيلة الواحدة، وعما الطبع عليه العرب من روح الإقدام والبسالة، والتحرز من العار والاستمساك بدرك الثار، وطلاب المجد، والتماس الفخار. وكيف أنهم كانوا يقدمون النسيب بين يدي هذه الفضائل الشديدة فيلطف عرامها وعنفها، بما يبثه من الأسى والحنين ولوعة الهوى وحسن الوفاء. ويزيد هذه القصائد العصماء قيمة عنده أن لكل منها سمة غالبة يلمسها القارئ ولا ينكرها
على أن الذي شغل جوته أكبر الشغل هو شخصية سيدنا محمد. وغير خاف أن العالم المسيحي كان من أيام الحروب الصليبية سيئ الرأي بطبيعة الحال في صاحب الشريعة الإسلامية. وكانت الكنيسة تتجاهل وجود القرآن وتحرم ترجمته، حتى جاء القرن السادس عشر والسابع عشر، فعمد بعض العلماء إلى نشر تراجم له مشفوعة دائما بدحض ما جاء به وتفنيده. ولعل ذلك منهم من قبيل التقية ودفع الشبهة، وحرصا على تزكية عملهم والتكفير عنه عند أهل ملتهم. ثم بزغ على الأثر عصر الشك، أو ما يسمونه عصر النور. وكان دعاته يحملون على الأديان كافة حملتهم الشعواء، ولا يريدون أن يروا في أصحابها إلا دجاجلة مغررين يزعمون للناس أنهم ملهمون. إلا أن الأحوال تعدلت، وانبرى بعض
المحققين من جهابذة الغرب إلى هدم التخرصات المنسوبة إلى محمد في العالم المسيحي، وكتبوا سيرته الشريفة بروح عالية توفر لها التجرد عن الهوى والاستغراق في الموضوع فانجلى لكل ذي عينين محمد رجل الدين، الثابت اليقين في الله الواحد الأحد، وعرفوا فيه رسولا من رسل العناية لنشر التوحيد من أقاصي الهند إلى ربوع الأندلس. واطلع شاعرنا جوته وقتئذ على سيرة محمد، وحيا فيه النبي العظيم والروح القوي الأمين، حاطم الأصنام الداعي إلى دين الفطرة
وقرأ جوته القرآن وطبع مختارات منه مأخوذة عن الترجمة الألمانية. وظل طويلا يمعن في درسه إمعان الباحثين. وهو يشير إلى أن القارئ الأجنبي قد لا يحبه لأول قراءته، ولكنه يعود فينجذب إليه، وفي النهاية يروعه ويلزمه الإكبار والتعظم
ويستشهد جوته بآيات الكتاب العزيز في بيان تعاليم الدين (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون. إن الذين كفروا سواء عليم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم)
ويقول جوته إن القرآن يردد هذه التعاليم ويكرر البشير والنذير سورة بعد سورة. ولا يرى جوته في هذا الترديد والتكرار ما يراه النقاد الغربيون. لأن النبي لم يرسل للناس برسالة شاعر للتفنن والتنويع في ضروب الكلام، وعرض الصور المزوقة من الأخيلة والأوهام، لاستحداث اللذة وإدخال الطرب على الأسماع والأذهان. بل هو بنص القرآن بعيد عن هذا الوصف. وإنما هو نبي مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق، وهذا الغرض هو إعلان الشريعة وجمع الأمم حولها وانضواؤهم إلى لوائها. فالكتاب العزيز أنزل ليقتضي الناس الخبوت والإيمان، لا لمجرد المتعة والاستحسان، وإذا ما عرض للقصص فليس المقصد الأول هو التاريخ والأخبار، وإنما ضرب الأمثال للموعظة والاعتبار
وقد أراد جوته تأليف قصة تمثيلية عن محمد، وشرع فيها من أيام شبيبته فنظم منها مناجاة للنبي وهو بالليل وحده في الخلاء تحت السماء الساجية السافرة النجوم. وقد اقتبس فيها
هذه الآيات في دحض الشرك: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة! إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشكرون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، حنيفاً وما أنا من المشركين). ثم أدار جوته حوارا بين محمد ومرضعته حليمة. كما أنه وضع نشيداً على صورة مقطعات يتناوب إنشادها (علي) وزوجه (فاطمة) بنت الرسول. وهو تصوير رائع لقوة هذا الإنسان المبعوث من عند الله، ووصف شعري لفيض الإسلام وسرعة ذيوعه ودخول القبائل والأمم فيه أفواجا أشبه ما يكون بالنبع في الجبل لا يزال يتحدر من النجاد إلى الوهاد، ويزخر بما ينصب فيه من الروافد فيتسع مجراه وينتظم البلاد الواسعة والممالك العظيمة حتى يبلغ المحيط الأعظم
ولم تزل فكرة هذه الرواية ماثلة في مخيلة جوته حتى وضع مشروعها. وعلى مقتضاه تبدأ الرواية بنشيد ينشده محمد وحده بالليل تحت السماء الساجية، ويشعر بنفسه العاكفة على التأمل والتفكير يسمو صعداً إلى الله تعالى الذي تستمد سائر الكائنات وجودها من وجوده. ويكاشف محمد بهذا الهدى زوجه خديجة فتؤمن به عن طواعية أول المؤمنين. ثم في الفصل الثاني يقوم النبي يناصره علي بالدعوة إلى دينه بين قومه فيلقى العطف من فريق، والمعارضة من فريق، كل على حسب طبعه وما ركب في جبلته. ويقع الخلف بين القوم وتشتد الملاحاة ويضطر محمد إلى الهجرة. وفي الفصل الثالث ينتصر محمد على خصومه ويطهر الكعبة من الأوثان. وتستوي دعوته دينا مقررا، وتجتمع له أسباب الجهاد قولا وفعلا. ويظهر الرجل السياسية إلى جانب الرجل الديني. وفي الفصل الرابع يتابع محمد مغازيه، ويتخذ لها عدتها ويتوسل بوسائلها. وتدس له السم امرأة من يهود خيبر ثكلت أخاها. والفصل الخامس والأخير يبلغ فيه محمد أوج كماله وتتجلى عظمته الروحية. ثم تعاود عقابيل السم فينتقل إلى جوار ربه. . . غير أن هذه الرواية وقفت عند حد المشروع، مما نأسف له شديد الأسف.
وقد كان جوته في مدينة (ويمار) - وهي الآن تكريما له عاصمة الريخ الألماني - حين جاز بها الروس المسلمون من شعب البشكير على ظهر جيادهم، ونزلوا بها، واتخذوا أحد معاهد البروتستانت مسجداً للصلاة. ولا تسل عن فرحة جوته بهم وحضوره صلاتهم واستماعه إليهم يرتلون آيات القرآن ومقابلته إمامهم وتحيته لأميرهم في المسرح. وهو يذكر في هزة المحبور أنهم اختصوه من رعايتهم بقوس وسهام لم يزل يعلقها فوق موقده طيلة عمره تذكارا باقيا. وبلغ من حب جوته للشرق أنه كان يعالج محاكاة الكتابة العربية ورسم حروفها، ويغتبط وهو يقيمها ويسطرها من اليمين إلى اليسار على عكس كتابة أهل الغرب
فهل وقف جوته عند هذا الذي عرفه وأحبه في الشرق؟
الواقع أن فيما عرفه جوته حتى الآن عن الشرق وفيما أحبه منه مقنعاً وأي مقنع. ولكن الرجل أبت له نفسه الرحيبة ألا يجتمع فيها الشرق السامي والشرق الآري كما يقولون: شرق العبرانيين والعرب وقد تقدم، وشرق الهند والفرس
فقد أقبل الرجل يتعرف إلى المئات والمئات من آلهة الهند ويشهد في التهاويل والصور وأوثانهم الهائلة المخيفة، واطلع على مطولات أساطيرهم، واحتار بين أتاويه مذاهبهم، وتعجب لاختلاط الشهوات بالقداسات عندهم، والتقاء الحضيض بالسموات في نظرهم. وقد أخرج من ذلك أساطير هندية رائعة منها (الإله والراقصة) و (موبذ البراهمة وزوجه) وغيرهما
وقد أثنى جوته على حكايات الفيلسوف (بيدبا) التي وضعها للملك (دبشليم) على ألسنة الحيوان، ويلاحظ جوته أن الفرس نقلوا هذه دون غيرها عن الهند لعدم اتصالها بالوثنية الهندية الفظيعة، ونفور أذواقهم الدقيقة المهذبة من تلك الفلسفة الدينية العويصة. أما هذه الحكايات عن كليلية ودمنة فهي تقع موقع القبول عند الناس أجمعين، وقد صار لها شأنها الكبير عند الفرس والعرب لما انطوت عليه من الحكمة العملية والخبر بالحياة.
وكان شاعرنا الألماني في ذلك الأوان قد أوفى على الستين، ولكنه مجدد الشباب أبداً كالخالدين. وقد اختار لمطافه الأخير أدب فارس، أدب الجنات والبساتين، أدب الورد والبلابل، والحب الحسي والوجد العلوي. ولقد استغرق جوته في هذا الأدب ونسى عالمه
الخارجي وكان يؤثر واحداً بين شعرائه الكثيرين، وقد اتخذه صاحبه ومرشده الديني في هذا الجو الشرقي المشبع بالمتعة والحنين. وهو شمس الدين محمد حافظ الشيرازي أرق شعراء الفرس الغنائيين.
وزاد اعتزال جوته لما حوله، وأبعد بفكره، أميالا بعد أميال، وارتفع أطباقا فوق أطباق، وتخلص من قيود الزمان والمكان وانفتحت له من ديوان حافظ الشيرازي أبواب الشرق، الشرق مهد الإنسانية، بما فيه من أوضاع للشعر والاجتماع والأخلاق والدين تختلف عما يعهد). فخلص جوته من هذه وتلك إلى صميم الحياة، إلى الوحدة والبساطة.
وكانت أشعار حافظ تكشف لجوته عن حياة تمت إلى حياته بأقرب وشائج القربى. حياة حياها هو أيضاً، حياة نفس تتقبل الوجود بمنتهى الحرية والمتعة، وتناجي الغيب دون أن تقطع ما بينها وبين الأرض. وتواجه التعصب والجمود بالتصوف الحي والإحساس بالشمول. لكأنما هي حياة جوته هذه التي يحكيها حافظ. الممالك تنهار ويقوم الحاكمون في إثر الحاكمين فلا تسمع منها غير الغناء يتحوى نفوسهما وأشجانها الحلوة وأسرارها الخالدة. وكلاهما يقف وجهاً لوجه أمام قاهر طاغية - هذا أمام تيمورلنك، وهذا أمام نابليون، فلا تنخذل عبقرية الأدب في وجه عبقرية الحرب. إن جوته لمأخوذ بهذه المشابهة يهتز لها من أعماق نفسه. فهو يعلم ما لهذه اللحظة من خطر. إذ يتصل فيها الجنسان باتصال نفسين كبيرتين من الجانبين. وهذا هو جوته يحس باستكمال شطره الثاني، يحس بالشرق والغرب يلتقيان فيه. وتضمهما دفتا كتاب واحد يخرجه للناس هو (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي).
وأبواب الديوان اثنا عشر باباً؛ وهذه هي بأسمائها الشرقية على الترتيب: كتاب المغني. كتاب حافظ. كتاب حافظ. كتاب العشق. كتاب التفكير. كتاب السخط. كتاب الحكمة. كتاب تيمور. كتاب زليخا. كتاب الساقي. كتاب المثل. كتاب الفرس. كتاب الخلد. وفيما يلي ترجمة القليل من روائع هذه الأسفار:
نشيد الهجرة
(الشمال والغرب والجنوب أقطار تتناثر بدداً، وعروشها تنثل وممالكها تنهار. فهاجر وامض إلى الشرق الطهور، تستروح الطيب من الآباء الطيبين. وبالحب والنشوة والغناء يرد عليك ريعان صباك كأنما نضح عليك من نبع الشباب السرمد الخضر عليه السلام.
(هناك في ظل النقاء والصدق تطيب لي الرجعى إلى نشأة الإنسانية الأولى. إلى الأزمان التي تلقى فيها بنو الإنسان كلمة الحق منزلة من الله بلسان أهل الأرض. فلم يقدحوا فكراً ولم يكدوا ذهنا. إلى تلك الأزمان التي كانوا فيها يبجلون السلف. وينهون عن كل دين غير دينهم
(أريد التملي من عصور الفطرة بأفقها الممدود المحدود: فكر قانع وإيمان واسع
(أريد معاشرة الرعاة في المنتجعات، والاسترواح في ظلال الواحات، والارتحال مع القوافل متجرا في الطرح والبن والمسك، طارقاً كل درب من البوادي إلى الحضر
(وسيان أنجدت أو اتهمت، فإن أغانيك يا حافظ تؤنسني في وعثاء السفر، إذ يترنم المرشد بها على ظهر برذونه مأخوذا طربا، وكأنما يوقظ بها النجوم الوسنى، ويرهب قطاع الطريق
(هناك في الشرق في ردهات حماماته وبين جدران خانه، أريد أن أذكرك يا مولانا حافظ وقد رفعت حبيبتي خمارها، وتضوع الطيب من غدائرها المهدلة المضمخة بالعنبر
(وليعلم الذين ينفسون على حافظ جمال حياته وحلاوة شعره، والذين تطوع لهم نفوسهم التعريض بهتانا بكفره، أن كلمات الشاعر لا تبرح حائمة حول جنة الخلد، طارقة في لطف أبوابها تطلب الخلود)
تعويذة
(لله المشرق، ولله المغرب، وفي راحتيه الشمال والجنوب جميعا
(هو الحق، وما يشاء بعباده فهو الحق. سبحانه له الأسماء الحسنى، وتبارك اسمه الحق، وتعالى علواً كبيرا
(ينازعني وسواس الغي. وأنت المعيذ من شر الوساوس. فاللهم اهدني في الأعمال والنيات إلى الصراط المستقيم
(ومهما تضللنا النزعات وتزين لنا الشهوات. فالنفس التي لا تذهب في الغي شعاعا ولا تضيع ضياعا، لا تلبث بالادخار والأباء أن تنطلق عارجة إلى أوجه العلاء
(وللناس في ترديد أنفاسهم آيتان من الشهيق والزفير: هذا يفعم الصدور وهذا يفرج عنها. كذلك الحياة عجيبة التركيب. فاشكر ربك إذا بليت. واشكر ربك إذا عوفيت
منن أربع
لكيما يسعد العرب في البيداء، راتعين في بحبوحة الفضاء، وأولاهم المولى ذو الخير العميم مننا أربعة:
أولى هذه المنن: العمامة. وهي زينة أروع من التيجان كافة. ثم خيمة يتحملونها من مكان إلى مكان، حتى ليعمروا كل مكان. ثم حسام بتار هو أمنع من الحصون وشاهق الأسوار. ثم القصيد يؤنس ويفيد، ويسترعي أسماع الخرد الغيد)
الحرية
(دعوني كما أهوى على صهوة جوادي السابح، وابقوا أنتم في بيوت المدر وخيام الوبر! إنني لأنطلق جذلان في الفضاء الشاسع، وليس فوق عمامتي إلا النجوم الزواهر
وما زينت السماء الدنيا بمصابيح، إلا هدى للناس في البر والبحر ولتكون متعة للناظرين أبد الدهر كما ولوا وجوههم قبلة السماء)
عناصر الشعر
(كما العناصر التي يقوم بها القصيد حتى يتملاه العامة ويلذ سماعه الخاصة؟
(إذا قيل الشعر فليكن النسيب المقدم. فإن الحب إذا مازج الشعر زاد نبراته حلاوة وبعدها فليردد الشعر رنين الكؤوس ولتتلألأ فيه كميت الخمر كالياقوت فإنما العشاق والندامى هم وحدهم من ترتاح لهم وتهش لمجلسهم
كذلك يطيب في الشعر سماع صلصلة السيوف ودوي النفير ولجب الوغى حتى إذا انجلى الحظ أبلج أزهر دان الناس للبطل، وغدا بينهم مؤلها بما أصاب من النصر المؤزر
(ولا معدى للشاعر في آخر الأمر عن التنكر لأشياء شتى والتعرض لها بالهجاء. فما كان لمثله أن يلقى القبيح المشنوء. بمثل ما يلقى الحسن المستحب
(فإذا اجتمعت للشاعر هذه المقومات الأربعة. فقد أشاع البهجة والحياة بين الورى أجمعين. إلى أبد الآبدين
أسير:
(هنا كان الطرف الأدعج والثغر الأحوى اللذان حظيت منهما باللحاظ والقبل، قوام سبط،
وأعطاف بضة لينة، كأنما هي لحورية من جنة النعيم.
(أكانت هنا حقا؟ وأين مضت؟ أجل، هي بعينها التي جادت بهذا كله، هي التي سمحت ثم ولت هاربة. لقد تيمتني وتركتني ما حييت أسيرها)
كتاب مطالعة:
(سفر ما أعجبه بين الأسفار! ذلك سفر العشق. لقد أمعنت في مطالعته. بضع صفحات من اللذة، وأبواب مستفيضة في الألم. اختص الفراق بجزاء كامل واقتصر اللقاء على فصل وجير. على مقطوعة. وللأشجان مجلدات مذيلة بحواش لا حصر لها ولا آخر)
سلام:
(واها! ما أسعدني!. . . كنت أتمشى خلال الحقول فإذا الهدهد يطفر في طريقي، وكانت بغيتي البحث هنا وهناك عن ودعت متحجرات مما تختلف عن البحر القديم، فاعترضني الهدهد في اختيال ناشرا تاجه متبخترا في هيئة المدل الساخر، وإنه لسخر الحي بالميت. فقلت له: يا هدهد! في الحق إنك لطائر جميل. انطلق يا هدهد وبلغ حبيبتي أني لها وملك يمينها ما حييت. وكذلك كنت يا هدهد من قبل رسول الحب بين سليمان وملكة سبا)
(فقال الهدهد: إن التي أنت موفدي لها، قد أودعتني كامل سرها، في نظرة واحدة من ناعس طرفها. وأنا أغبطك على سعادتك. فأنت محب وأنت محبوب. ودوام الحب الزاهر مقترناً بالقوى الخالدة بقية أيامك قدر لك مقدور وطالع مكتوب)
قارورة العطر
(لكي يتحبب إليك المحب بالعطر العبق، ويزيد في انشراحك وبهجتك، يهلك العطار على النار العدد العديد من أكمام الورد. فلابد له من عالم منها ليستقطر ملء قارورة صغيرة، قارورة مخروطة مستدقة كأناملك لكي تهدي إليك، فهل ترانا نذكر هذه الآلام والعطر يفعم حسنا ويزيد في متاعنا! هيهات. وكم هلكت أنفس لا عداد لها في سبيل عظمة تيمور)
لذة الإحسان
ما أحلى نظرة الجارية ذات الدل وهي تغمر بطرفها. ونظرة النديم تلمح عينه بالرضى وهو يحتسى كأسه. وما أحلى تسليم السيد الآمر بشملك بعطفه. وشعاع الشمس في الخريف
ينعشك بدفئه. فليكن أحلى من هذه جميعاً في نفسك حركة الاستعطاف اللطيفة تمتد بها كف الفقير في طلب الصدقة، وتتلقى منك بالحمد الجميل ما تجود به. فما أحلاها وقتئذ نظرة وما أحلاها تحية وما أحلاها بلاغة في السؤال. تأمل هذا فإذا أنت الكريم الجواد على الدوام.
مثل الإيمان
تحدرت من السماء إلى لجة الخضم قطرة مرتجفة، فأنحت عليها الأمواج خفقاً وضربا. ولكن الله جزاها عن صبر إيمانها خيرا. فوهب لقطرة المطر قوة واعتصاما. فاحتوتها الصدفة في حرز حريز. وأتم الله عليها العز والجزاء الأوفى فهي اليوم على تاج الشاه درة تتألق حلوة اللمح سنية البهاء
الدين
من الحماقة التعصب للدين. وإذا كان الإسلام هو التسليم لله فقد وجب أن نحيا ونموت مسلمين أجمعين.
ونحن نقف من الديوان عند هذا الحد. وان كان في الديوان زيادة للمستزيد. ولكن ضيق المقام يمنع من الإفاضة. وفيما تقدم الكفاية للدلالة على ما انطوى عليه هذا الشاعر الغربي من الروح الشرقي.
والعجيب أن شاعرنا هذا كلما تقدمت به السن وآذنت شمس حياته بالغروب كان يزداد تطلعا إلى الشرق
وهذا عجيب، ولكنه من جوته غير عجيب فإن ذلكم الرجل العامر بالحياة كان حتى ساعة إن حضرته الوفاة مولعاً بكل مطلع للنور حسيا كان أو روحيا. وقد قضى نحبه ويده المرتجفة تشير برفع الأستار، وعيناه إلى النافذة وهو يتمتم بهذه الكلمة العليا والمطلب الأخير: المزيد من النور! المزيد من النور
عبد الرحمن صدقي
علوم القدماء عند العرب
ولاسيما في القرن الخامس للهجرة بمصر
للدكتور يوسف شخت
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
أجمع علماء الشئون الشرقية على أن أحد أركان المدنية الإسلامية راجع إلى المدنية الإغريقية في آخر مراحلها
فلم يكد العرب يشتركون في تدعيم صرح تلك المدنية العظيمة إلا بلغتهم ودينهم. أما معظم المواد الأخرى فهو مأخوذ من ذلك التراث المجيد الذي تركه اليونان والذي قد توطن في البلاد الشرقية منذ عصر الاسكندر ذي القرنين. ثم جاءت الدولة العربية فأكملت توطن العلوم والآداب الإغريقية في الشرق الأدنى، ومكنتها من الإزهار في تلك المنطقة الرحيبة التي احتضنتها في دائرة حدودها السياسية. فنجد إن حركة ترجمة الكتب اليونانية في الفلسفة والعلوم الطبيعية والطب التي كانت قد بدأت في تلك البلاد قبل فتح العرب لها قد نشطت إلى حد بعيد في آخر القرن الثاني وفي القرن الثالث للهجرة. ولما كانت لغة التراجم الأولى هي اللغة السريانية فإنها بهذا الوضع بقيت الوسيط بين تراث اليونان وبين مدنية الإسلام كما كان معظم المترجمين من النصارى النسطوريين وفي مقدمتهم الحكيم الفيلسوف حنين بن اسحق (194 - 260) الذي كان يشتغل (في بيت الحكمة) ذلك المعهد العلمي الذي أسسه المأمون الخليفة العباسي ببغداد لترجمة كتب العلوم. حنين هذا هو الذي خلق المركز الرائع لآراء جالينوس في القرون الوسطى في الشرق ومنه إلى الغرب
ويشهد بالمجهود العظيم الذي بذل في ترجمة الكتب اليونانية أن الخلفاء أنفقوا على الرحلات للبحث عن مخطوطات قيمة، وأن حنينا، كما أوضح بنفسه لم يكتف بأصل واحد وإنما كان يراجع بقدر الإمكان لا أقل من ثلاث نسخ ليستطيع بمقارنتها الحصول على متن صحيح
كانت هذه أي - دورة التراجم - مرحلة استعداد، وتبعها في القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الدور العظيم للعلوم الطبيعية والطبية في بلاد الإسلام. وجد علماء
المسلمين أنفسهم بعدئذ على أساس متين من العلوم اليونانية مضافا إليها بعض نتائج دراسات الفرس والهنود، وبدءوا يضيفون إلى هذا التراث من مبتكراتهم. وفي الوقت نفسه فقد المسيحيون مركز احتكارهم (أو كاد) لهذه العلوم وارتفع إلى مستواهم المسلمون
إن أبرز ما في ذلك العصر من الشخصيات العملية الفذة ثلاثة: محمد بن زكريا الرازي (المتوفى سنة 311) وهو أكبر أطباء العالم الإسلامي وأحد أطباء الدنيا الخالدين، وحسين بن عبد الله بن سينا (370 - 428) وكان فيلسوفاً وباحثاً طبيعيا له أكبر الأثر في أوربا بصفته وسيطا لنقل الطب الإسلامي إليها بمؤلفه الكبير المسمى بالقانون، وأبو ريحان محمد بن أحمد البيروتي (362 - 440) وهو أكبر الباحثين الطبيعيين في دائرة الحضارة الإسلامية وأبدعهم تفكيراً ومنهجا.
ما أجود ثقافة هذا الرجل الخوارزمي العجيب وإحاطته بمختلف العلوم والفنون من يونانية وعربية وإسلامية، كما يظهر من مقدمة كتابه في الصيدلة إذ يقول:
(كل واحدة من الأمم موصوفة بالتقدم في علم ما أو عمل، واليونانيون منهم قبل النصرانية موسومون بفضل العناية في المباحث وترقية الأشياء إلى أشرف مراتبها وتقريبها من كمالها. ولو كان ذيسقوريذس في نواحينا، وتصرف جهده على تعرف ما في جبالنا وبوادينا، لكانت تصير حشائشها كلها أدوية، وما يجتني منها بحسب تجاربه أشفية، ولكن ناحية المغرب فازت به وبأمثاله وأفازتنا بمشكور مساعيهم علما وعملا. وأما ناحية المشرق فليس فيها من الأمم من يهتز لعلم غير الهند، ولكن هذه الفنون خاصة عندهم مؤسسة على أصول مخالفة لما اعتدناه من قوانين المغربيين، ثم المباينة بيننا وبينهم في اللغة والملة والعادات والرسوم وإفراطهم في المجانبة بالطهارة والنجاسة تزيل المخالطة عن البين وتفصم عرى المباحثة. ديننا والدولة عربيان وتوأمان يرفرف على أحدهما القوة الإلهية وعلى الآخر اليد السماوية. . . وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها).
لم ينحصر تقدير العلوم اليونانية مثل هذا في فئة معينة من العلماء، بل كان منتشرا بين الجميع طول القرن الرابع.
هاهي ذي بغداد بمدرستها الفلسفية الطبية التي هي خليفة مدرسة الإسكندرية المشهورة، ولا يصعب علينا اقتفاء أثر انتقالها من الإسكندرية إلى بغداد عن طريق إنطاكية وحران. ومن كبار العاملين بها في القرن الرابع المترجم المسيحي أبو بشر متي بن يونان (المتوفى سنة 328)، وأبو نصر محمد الفارابي الفيلسوف الإسلامي (المتوفى سنة 339)، وتلميذه الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي (المتوفى سنة 364)، والباحث المحقق أبو الحسن المسعودي (المتوفى سنة 346)، وغيرهم من الفضلاء. وقد خلد الأديب أبو حيان التوحيدي (المتوفى بعد سنة 400) في مؤلفه المسمى (بالمقابسات) ذكر مجالس أبي سليمان السجستاني المنطقي (المتوفى بعد سنة 391)
فكان القرن الرابع هذا أزهى عصر لدرس العلوم اليونانية في الحضارة الإسلامية، واستمرت تلك الدراسات وازدهرت في القرن الخامس أيضا خصوصا في بغداد، مع امتداد أشعتها إلى بلاد أخرى ولاسيما إلى مصر.
نتمنى أن نبحث ذلك الدور الأخير لنفوذ التفكير اليوناني في الشرق الأدنى بمناسبة مخطوط محفوظ في إحدى مدارس الموصل يشمل مناظرة دارت بين طبيبين فيلسوفين، وإن كانا دون أولئك الفحول درجة إلا أنهما شغلا مكانا جليلا في تاريخ الطب والعلوم الطبيعية في عالم الإسلام. هما أبو الحسن المختار ابن بطلان من نصارى بغداد، وعلي بن رضوان المصري. تتلخص مناظرتهما في أن كل واحد منهما كان يرغب في التدليل على علو كعبه في علوم القدماء، وعلى مقدرته عن الآخر وبروزه فيها عليه. فإنا أن اطلعنا على تراجم حياتهما كما جاءت في تاريخ الحكماء لابن القفطي، وفي عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، نرى أن شخصية كل واحد منهما ليس بينها وبين شخصية الآخر أي تشابه، حتى ليخال القارئ أنه يستحيل عليهما أن يكونا صديقين؛ على أن تنافسهما ربما يرجع أيضاً إلى غيرة كل منهما من صاحبه في صناعة الطب.
درس ابن بطلان الطب والفلسفة في الكرخ (حي من بغداد) على أشهر الأساتذة، وأكثرهم من النصارى، وتدل مؤلفاته على أنه لم يكن متطببا فقط، بل تبحر أيضاً في الآداب العربية والعلوم الإسلامية، كما قال عنه ابن أبي أصيبعة:(وكان ابن بطلان أعذب ألفاظاً (أي من ابن رضوان) وأكثر ظرفا وأميز في الأدب وما يتعلق به. ومما يدل على ذلك ما
ذكره في رسالته التي رسمها (بدعوة الأطباء). ففي هذا الكتاب يحمل ابن بطلان على الفشارين المدعين بالطب، ويظهر فسادهم ومضارهم الشائعة ذاك الحين.
يغلب على الظن أن ابن بطلان لم يكن شابا عندما ترك بلدته التي حرمت عليه العودة إليها في مستهل شهر رمضان سنة 440 متجهاً إلى رحلة طويلة ماراً بالأنبار فالرحبة فالرصافة فحلب حيث مكث زماناً، ثم واصل السفر إلى إنطاكية فاللاذقية فيافا حتى جاء مصر حيث مكث ثلاثة أعوام تعرف فيها بابن رضوان. ثم غادر مصر بعدئذ إلى القسطنطينية ثم عاد منها في آخر الأمر إلى إنطاكية. قال ابن القفطي:(فأقام بها وقد سئم كثرة الأسفار، وضاق عطنه عن معاشرة الأغمار، فغلب على خاطره والانقطاع فنزل بعض أديرة إنطاكية وترهب وانقطع إلى العبادة إلى أن توفى بها). وكانت وفاته - خلافاً لما زعم ابن القفطي - بعد سنة 455 بزمان لأنه قد أهل لبناء بيمارستان إنطاكية في السنة المذكورة. وعندما كان في مصر أرسل ابن بطلان إلى المؤرخ الكاتب البغدادي هلال بن المحسن الصابئ كتاباً مفصلا عن رحلته، دل على دقة ملاحظته وعنايته بكل ما رآه، كما أنه لا يزال هذا الكتاب مرجعاً جغرافياً تاريخياً مفيداً للنواحي التي زارها ابن بطلان، فلذلك أورد ياقوت الحموي في كتابه المسمى بمعجم البلدان كثيراً من كلام ابن بطلان. ودليل على كل هذا نذكر شيئاً من وصفه لمدينة اللاذقية. قال:(وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور، وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة، وكان في أول الإسلام مسجدا، وهي راكبة البحر وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وآذان في أوقات الصلوات الخمس، وعادة الروم إذا سمعوا الآذان أن يضربوا الناقوس، وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم)
أما ما ذكره من أخبار الروم والمسلمين فهو إيضاح للحالة كما كانت. فهي دورة الانحلال والضعف السياسي للدولة الإسلامية، قد أصبحت البلاد التي كانت تتبع خلافة بغداد مستقلة، وقامت خلافة الفاطميين بمصر، أضف إلى هذا تفشي الوباء والمجاعات بأقطار عديدة وموت كثيرين من رجال العلم أحس الباقون منهم بفقدانهم وبالخلوة من بعدهم. وإنه لمما يسر أن نلاحظ أن تلك البلايا كلها لم تستطع أن تقطع النهوض العلمي العظيم ولا اتصال العلماء بعضهم ببعض برحلات علمية وراء كل الحدود السياسية ولا ارتباطهم بروابط
الصناعة رغما عن اختلاف العقائد الدينية
على أن ابن بطلان النصراني هذا الذي كان محترماً ومقدراً عند زملائه المسلمين قاسى متاعب من المسيحيين أنفسهم؛ فأنه (لما دخل إلى حلب وتقدم عند المستولي عليها سأله رد أمر النصارى في عبادتهم إليه، فولاه ذلك، وأخذ في إقامة القوانين الدينية على أصولهم وشروطهم فكرهوه، وكان بحلب رجل كاتب طبيب نصراني. . . يحمل عليه نصارى حلب فلم يمكن ابن بطلان المقام بين أظهرهم، وخرج عنهم. . . وللحلبيين النصارى فيه هجو قالوه عندما تولى أمرهم)(مختصر من كلام ابن القفطي)
قال ابن أبي أصيبعة: (وتوفي ابن بطلان ولم يتخذ امرأة ولا خلف ولدا، ولذلك يقول من أبيات:
ولا أحد إن مت يبكي لميتتي
…
سوى مجلس في الطب والكتب باكيا
كان ابن رضوان على النقيض لابن بطلان في أكثر مزاياه؛ فلم يكن لابن رضوان في صناعة الطب معلم ينتسب إليه، ولم يغادر نواحي القاهرة مرة، وكان معجباً بنفسه طماعا بخيلا، لما فقد ماله ذهب عقله، ولكنه مع ذلك كله لم يخل من خلق وعقل يحملاننا على العطف عليه والإعجاب به. هذا ما يمكننا تأكيد عن سيرة حياته: ذكر ابن أبي أصيبعة شيئاً غير قليل منها.
كان مولد ابن رضوان بالجيزة وكان أبوه فراناً، قال:(فلما بلغت السنة السادسة أسلمت نفسي في التعليم، ولما بلغت السنة العاشرة انتقلت إلى المدينة العظمى وأجهدت نفسي في التعليم. ولما أقمت أربع عشرة سنة أخذت في تعليم الطب والفلسفة ولم يكن لي مال أنفق منه فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقة، فكنت مرة أتكسب بصناعة القضايا بالنجوم، ومرة بصناعة الطب، ومرة بالتعليم. ولم أزل كذلك وأنا في غاية الاجتهاد في التعليم إلى السنة الثانية والثلاثين، فإني اشتهرت فيها في الطب وكفاني ما كنت أكسبه بالطب، بل وكان يفضل عني إلى وقتي هذا، وهو آخر السنة التاسعة والخمسين) أما ابن القفطي فيقول (وكان في أول أمره منجما يقعد على الطريق ويرتزق لا بطريق التحقيق كعادة المنجمين، ثم قرأ شيئاً من الطب وشيئاً من المنطق وكان من المغلقين لا المحققين. ومع هذا تتلمذ له جماعة من الطلبة وأخذوا عنه، وسار ذكره، وصنف كتباً لم تكن غاية في
بابها، بل هي مختطفة ملتقطة مبتكرة مستنبطة. فأما تلاميذه فقد كانوا ينقلون عنه من التعاليل الطبية والأقاويل النجومية والألفاظ المنطقية ما يضحك منه إن صدق النقلة).
على أنه إذا اعتبره ابن أبي أصيبعة أطب من ابن بطلان وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها، فربما صح حكمه بالنسبة لمهارته الطبية، إذ استشاره بعض ملوك مكران كتابة. أما في الفلسفة والأدب فلا تجد سبيلا إلى اعتباره متكافئاً مع ابن بطلان كما يظهر من مؤلفاته، رغماً عما يذكره عن نفسه في قوله:(وأما الأشياء التي أتنزه فيها فلأني فرضت نزهتي ذكر الله عز وجل وتمجيده بالنظر في ملكوت السماء والأرض؛ وكان قد كتب القدماء والعارفون في ذلك كتباً كثيرة رأيت أن أقتصر منها على ما أنصه من ذلك: خمسة كتب من كتب الأدب، وعشرة كتب من كتب الشرع، وكتب أبقراط وجالينوس في صناعة الطب وما جانسها مثل كتاب الحشائش لذيسقوريذس، وكتب روفس وأريباسيوس وبولس، وكتاب الحاوي للرازي، ومن كتب الفلاحة والصيدلة أربعة كتب، ومن كتب التعاليم المجسطي ومداخله وما انتفع به فيه، والمربعة لبطليوس، ومن كتب العارفين كتب أفلاطون وأرسطو طاليس والاسكندر وثامسطيوس ومحمد الفارابي وما انتفع به فيها؛ وما سوى ذلك إما أبيعه بأي ثمن اتفق، وإما أن أخزنه في صناديق، وبيعه أجود من خزنه)
وجدير بالذكر أن ابن رضوان المسلم اكتفى بذكر الكتب الإسلامية إجمالا وتأدية للواجب بينما فصل ذكر الكتب المنقولة عن اليونانية واحداً واحداً.
لا حاجة لنا بإيراد تفاصيل إطراء ابن رضوان عن نفسه ومديحه لعمله اليومي ووصفه لمحاسن ترتيب بيته، ولكنا نذكر آخر أمره (عن ابن أبي أصيبعة):
(كان قد أخذ يتيمة رباها وكبرت عنده، فلما كان في بعض الأيام خلا لها الموضع وكان قد ادخر أشياء نفيسة، ومن الذهب نحو عشرين ألف دينار. فأخذت الجميع وهربت ولم يظفر منها على خبر، ولا عرف أين توجهت فتغيرات أحواله من حينئذ) و (تغير عقله في آخر عمره)، وكانت وفاة ابن رضوان في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
يدل على تفانيه في حب علوم قدماء اليونان افتخاره برؤية جالينوس في منامه، قال:
(وقد كان عرض لي منذ سنين صداع مبرح عن امتلاء في عروق الرأس ففصدت فلم يسكن، وأعدت الفصد مراراً وهو باق على حاله، فرأيت جالينوس في النوم وقد أمرني أن
أقرأ عليه حيلة البرء فقرأت عليه منها سبع مقالات، فلما بلغت إلى آخر السابعة قال: فنسيت ما بك من الصداع، وأمرني أن أحجم القمحدوة من الرأس؛ ثم استيقظت فحجمتها فبرأت من الصداع على المكان)
هذا ما يكفي تعريفاً بابن بطلان وابن رضوان، ونتجه الآن إلى المناظرة المشهورة التي قامت بينهما. قال ابن أبي أصيبعة:(وكان ابن رضوان كثير الرد على من كان معاصره من الأطباء وغيرهم، وكذلك على كثير ممن تقدمه، وكانت عنده سفاهة في بحثه وتشنيع على من يريد مناقشته. وأكثر ذلك يوجد عندما كان يرد على حنين بن اسحق وعلى أبي الفرج بن الطيب (وكان أبو الفرج هذا أستاذ ابن بطلان ببغداد) وكذلك أيضاً على أبي بكر محمد بن زكريا الرازي. ومن هذا النوع كانت مناقشته لابن بطلان. وقال أيضاً: (وكانت بين ابن بطلان وابن رضوان المراسلات العجيبة، والكتب البديعة الغريبة، ولم يكن أحد منهم يؤلف كتاباً ولا يبتدع رأياً إلا ويرد الآخر عليه ويسفه رأيه فيه.
فأول من ابتدأ المجادلة هو ابن رضوان بمناسبة رسالة لابن بطلان لم تكن موجهة ضده إطلاقاً، بل دارت حول مطلب من مطالب العلوم الطبيعية كثر الكلام فيه بين أطباء ذلك العصر، وهو: أيهما أحر طبيعة الفخر أم الفروج؟ وكان ابن بطلان يعتقد - كما اعتقد السواد الأعظم من الأطباء - أن الفرخ أحر من الفروج، ولكن اليبرودي الطيب الدمشقي الذي قد درس مع ابن بطلان على أبي الفرج ابن الطيب كان عايا أطباء مصر بمسألة ألزمهم بها أن يكون الفروج أحر من الفرخ. فجمع ابن بطلان في مقالته حججا يعضد بها رأي اليبرودي وينقض الرأي الصحيح (بقياس المتعلمين تطريقاً لهم ورياضة. . . وبقياس العلماء أن يظهر فضلهم في حلول الشكوك الغامضة. . . وبقياس المذعنين تبكيتا لهم وهجنة) وأورد في آخرها واحداً وثمانين سؤال تتعلق بالبيض والحضان والفراريج يدعو الأطباء المصريين إلى الإجابة عنها
يظهر أن ابن رضوان ظن نفسه أو بعض تلاميذه مقصوداً بملاحظة من ملاحظات ابن بطلان في رسالته هذه فأجاب عليها بمقالة لم يبحث فيها عن موضع المشكلة نفسها أم يرد على أدلة المعاياة؛ بل نجده فيها أقرب إلى السفسطة والطعن منه إلى أصول الجدل العلمي.
وحسبنا أن نلتقط من مقالة ابن رضوان هذه موضعا يذكر فيه المزايا التي لا يخلو منها
الطبيب الكامل، قال:(وقد بين جالينوس أن الطبيب فيلسوف كامل، وأنه من قصر عن ذلك فهو متطبب لا طبيب. والفيلسوف الكامل هو الذي قد حصل على العلم التعليمي والطبيعي والإلهي والمنطقي، فالطبيب هو الذي حصل كل واحد من هذه على الكمال)
لم يقتنع ابن رضوان بهذه المقالة بل ألف رسالة أخرى ضد ابن بطلان يمكننا الحكم ابنها لم تحتو إلا هجاء وذما. فلم يستطع ابن بطلان أن يترك الأمر عند هذا الحد ووجد نفسه مضطراً إلى رد مفصل هو من أظرف الكتب العربية ومن أبدعها سماه (المقالة المصرية) عَرَجَ فيه عروجا علميا فائقا يقصد به فضح آراء ابن رضوان كلية. يشتمل على مقدمة وسبع فصول. يعتذر ابن رضوان في المقدمة إلى خصمه بأنه إنما ألف كتابه هذا امتثالا لرغبة بعض الجهات الجليلة، ويناشده بإله السماء وتوحيد الفلاسفة، أن يجيبه بقلب طاهر نقي خال من درن الغضب؛ (فثاميسطيوس يقول: قلوب الحكماء هياكل الرب، فيجب أن تنظف كما تنظف بيوت عبادته. وفيثاغورس يقول: كما أن العوام تظن أن البارئ تعالى في الهياكل فقط فتحسن سيرتها فيها، كذلك يجب على من علم أن الله في كل مكان أن تكون سيرته في كل مكان كسيرة العامة في الهياكل). أما الفصل الأول فهو في العلل التي لأجلها صار المتعلم من أفواه الرجال أفضل من المتعلم من الصحف، إذا ما كان قبولهما للتعليم واحداً، وهذا عكس ما زعمه ابن رضوان الذي، كما لاحظنا، لم يدرس هو نفسه على أستاذ بل تعلم بالمطالعة فقط. والدليل السادس منها يوضح لنا جيداً مقدار الصعوبات والمشكلات التي تلقاها أولئك العلماء الناطقون بالضاد عند دراستهم للكتب العلمية اليونانية:(يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم قد عدمت في تعليم المعلم، وهي اشتراك الأسماء، والتصحيف العارض من اشتباه الحروف بعدم النقط. . . وسقم النسخ ورداءة النقل. . . وذكر ألفاظ مصطلح عليها في الصناعة، وألفاظ يونانية لم يترجمها الناقل وهذه كلها معوقة عن العلم. وقد استراح المتعلم عن تكلفها عند قراءته على المعلم). والبيان السابع ينبني على إجماع المفسرين أن فصلا من فصول أرسطو لو لم يسمعه ثاوفرسطس وأوذيمس من المعلم نفسه لما فهم قط من الكتاب. فأما الفصل الثاني فهو في أن الذي علم المطالب من الكتب علما رديئا ثار عليه باعتقاده أن الحق محال شكوك يعسر حلها. والفصل الثالث في أن إثبات الحق في عقل من لم يثبت فيه المحال أسهل من إثباته عند من ثبت في عقله
المحال. أما الفصل الرابع فهو في أن من عادات الفضلاء إذا قرأوا كتابا من كتب القدماء ألا يقطعوا في علمائها بظن دون معرفة الأمر على الحقيقة، يتضح فيه احترام ابن بطلان للعلماء الأقدمين من اليونان ومن بعدهم كل الوضوح. قال:(إن من عادة القدماء إذا وقفت عليهم المطالب، ولاح لهم فيها تباين وتناقص، أن يعودوا إلى التطلب، ولا يتسرعوا إلى إفساد المطلب. فإن أرسطو بقي يرصد القوس الكائن عن القمر أكثر عمره فما رآه إلا دفعتين؛ وجالينوس واظب على تطلب السكون الذي بعد الانقباض سنين كثيرة إلى أن أدركه. . . وشيخنا أبو الفرج عبد الله بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضا كاد يلفظ نفسه فيه. وما منهم رحمهم الله إلا من أنفق عمره في العلم طلبا لدرك الحق. هذا والذي في عقولهم مما بالفعل أكثر مما بالقوة، فإن كنا وما بالقوة فينا أكثر مما بالفعل أخلدنا إلى الطعن عليهم ضحك الحق منا وخسرنا أشرف ما فينا. ولذلك يجب على كل نسمة عالمة دونهم في المرتبة إذا رأت أقاويلهم متباينة إلا تقطع بقول فيهم إلا بعد الثقة). ثم أورد المؤلف أمثلة كثيرة من كتب أرسطو وجالينوس وابقراط وأضاف إلى كل هذا مع صغر شانه بقياس تلك الطائفة المعدودة الدفاع عن نفسه في مسألة وصف التدبير المبرد بمصر خلافاً لبغداد، وحجته اختلاف الهواء. يقول في خصائص بغداد: (بغداد بلد شمالي ليس بكدر الماء، ولا مختلف الأهوية، ولا تنقطع عنه الأمطار في الشتاء، بل قد ينزل فيها الثلج من السماء، ويجمد لكثرة البرد شطا دجلة وتزيد مياهها عند زيادة المياه، وتأتي فواكهها وأزهارها في أوانها من فصول السنة، لا يكاد يرى فيهم مقشور ولا جرب، ولا من به ضيق نفس ولا حكة إلا في الندرة. أرضها قطب إقليم قال فيه أرسطو إنه ينبت الأذكياء، قلما اختار أهله للنسل من جلب من البلاد الجنوبية، فلهذا أوجههم على الأكثر ببعض مشربة حمرة، وأخلاقهم طاهرة، وطباعهم كريمة؛ ليست أرضها في وهدة فتحرقها الشمس وتغرقها كثرة المياه وهي من أسباب العفونة نعم، ولا في غربها بحر ولا في شرقها جبل في سفحه مقبرة وتتراقى منها الأبخرة، وتعكسها الريح الغريبة إلى المدينة، لكنها في بسيط من الأرض مستو، جهاتها مكشوفة للشمس والرياح الأربع، وأهلها مع هذه الخصال المعددة المضادة لمصر محتاجون من التدبير المبرد أقل مما يحتاج إليه أهل مصر وما والاها. والمصريون محتاجون إلى أكثر منه كثيراً. فلهذه العلل عدلت بهم عن الأشياء
الحارة إلى الأشياء الباردة على موجب قانون الصناعة. وإذا كان عذري قد اتضح بأدنى عناية، وبان خطل من عجل في تغليظي من غير ارتئاء، فما ظن الشيخ بأناس يجرون في العالم مجرى الأنجم الزهر، أبصارنا عند بصائرهم تجري مجرى بصر الخفاش عند عيون العقبان في ضوء النهاء، لاسيما المؤيد أبو زيد حنين بن اسحق الذي منح الله البشر علوم القدماء على يده، فذوو العقول إلى اليوم في ضيافته يمتارون من فضله ويعيشون من بره)
ويزعم ابن بطلان أن عمل خصمه تقليل من ذلك الاحترام الواجب لسلف العلماء كابقراط وغيره من جهابذة الفن، كما أن إهمال كتب الأولين تقود ولاشك إلى هلاك المرضى. يؤيد ابن بطلان قوله هذا بما جرى بينه وبين بعض تلامذة ابن رضوان؛ فلذلك ينبغي لابن رضوان أن يعلم الشبان تعليما صحيحاً ولا يشيع (عند الأحداث تخبط الاسكندرانيين في تفاسيرهم وجوامعهم للكتب الست عشر، ومنه اصطفن ومارينوس وجاسيوس واركيلاوس وانقيلاوس وبلاذيوس ويحيى النحوي المنجد البطل المحب للتعب. ولعل الشيخ يتعذر عليه معرفة أسمائهم على الحقيقة بالعربية. وهؤلاء مفسرو كتب الصناعة الطبية ليت شعري كيف يذمهم في عمل جوامع كتب فسروا فصوصها وعرفوا نصوصها) ثم يجيء الفصل الخامس في مسائل مختلفة، والفصل السادس في تصفح مقالة ابن رضوان الهجائية التي قال فيها على سبيل المباهلة أن يسأله ابن بطلان ألف مسالة ويسأله هو مسألة واحدة. ابن بطلان جواباً عن هذه المقالة إن الخطباء والأطباء والفلاسفة لكل واحدة من تلك الفرق طريقة تسلكها في المحاورة، وأورد لكل واحدة من تلك الطرق أمثلة من تاريخ الآداب اليونانية؛ أما طريق ابن رضوان فهو - كما زعمه ابن بطلان - هجاء محض من غير وزن وقافية.
أما السب بقبح الخلقة الذي قد اجترأ ابن رضوان أن يوجهه إلى ابن بطلان فيرده هذا بأوفى الذكاء والفطانة ذاكراً أقوال سقراط وأفلاطون وجالينوس؛ مورداً بعض أعلام الآداب العربية تجردوا من جمال الشكل مثل الجاحظ وعبد بني الحسحاس، وفي النهاية يستفتي ابن رضوان عن خلقه هو نفسه قائلاً: (لو أن رجلاً استفتى بفتوى نسختها: ما يقول الشيخ وفقه الله في رجل أسود اللون، مضطرب الطبيعة والكون، غليظ الشفتين، منتشر المنخرين، جاموسي الوجه، بقري العينين، قليل الأنصاف، محب المراء والخلاف، قلق
المشية جهر النغمة، يفتينا في ذلك مأجوراً من الله، للزمه أن يفتي بما نسخته: الجواب ومن الله المعونة: النفس الفاضلة تابعة لأشرف كيفيات الهيولي فهي توجب عن اللون المشرب حمرة وعن التخاطيط الخبيثة الأخلاق الكريمة، وهذه المعددة هي أضداد هذه، فالنفس التابعة لها غير فاضلة، وكتبه علي بن رضوان على مذهب القدماء وبحسب تفسير الصناعة الصغيرة)
وبعدئذ يدافع ابن بطلان عن حنين ابن اسحق فيما يرميه به ابن رضوان، فإن المسألة الوحيدة الجديرة بالاعتبار تتلخص - قال - في اختلاف بين حنين وجالينوس في الظاهر فقط، كما أن الاختلاف بين أبي حنيفة من جهة وبين أبي يوسف ومحمد ابن الحسن من الجهة الأخرى في نكاح الصابئين وأكل ذبائحهم اختلاف الفتوى فقط
أما الفصل السابع والأخير فهو يتضمن فحص مفردات كثيرة من أغلاط ابن رضوان، وينتهي بإنذاره بحساب يوم القيامة (فسأطالبه في الحق إذا جلس الله لفصل القضاء واستغاث المرضى وأشخصوا الأطباء، وحضرت الملائكة الكتبة، وخرست الألسن الناطقة، وشهدت القوارير الصامتة، بدلالتها كأنها على الحالة الحاضرة، وظهر الغلط، واعترف الأطباء بالذي فرط، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. . . وليتحقق أن. . . لنا موقف حساب، مجمع ثواب وعقاب، يتظلم فيه المرضى إلى خالقهم، ويطالبون الأطباء بالأغلاط القاضية بهلاكهم، وأنهم ليسامحون الشيخ كما سامحته. . . ويتحقق أنهم لا يرضون منه إلا بالحق المبين)
لم يتأخر ابن رضوان في الرد على ابن بطلان مرتين. فلما وجد نفسه عاجزاً عن النقض الصحيح لذلك الكتاب رجع إلى أسلوبه الكريه المعتاد. أما الرد الأول فقد عجل تأليفه قبل فحصه كتاب ابن بطلان كله؛ وأما الثاني ففيه تلخيص لكل ما جرى بينهما من وجهة نظر مؤلفه، وغرضه الصريح دعوة أطباء مصر والقاهرة إلى مقاطعة ابن بطلان. يقول ابن رضوان في آخره:(فهذا فيه كفاية في أن تعجبوا من أمر هذا الرجل، وتضحكوا منه وتتركوا مكالمته فيما تستأنفوه منه، ولا تلتفتوا إلى شيء يقوله بل تنزلوه بمنزلة إنسان قد خولط ووسوس، فهو أبدأ يهذر ويهذي فلا يستحق أن يرثى له ولا يرحم قط)
هذا غاية ما يسمح لي الوقت به من شرح تلك المناظرة بين الطبيبين الفيلسوفين. حاصل
القول أن الخصمين مع كل ما لاحظناه بينهما من الاختلاف من جهة النشأة والتربية والبيئة والدين والأخلاق دانا بعلمهما إلى الفكرة اليونانية دينا شديدا
كانا به يعترفان ويفتخران، يجتهدان في التشبه بالعلماء الأقدمين، كما أن علوم الأوائل كانت عنصراً لازماً لمدينة البلاد الإسلامية في القرن الخامس. هذا هو العصر الأخير لأثر العقلية اليونانية العلمية في الشرق الأدنى قبل أن تسير إلى الاضمحلال التدريجي حتى تتلاشى. فإن السلاجقة الذين يوافق ابتداء سيادتهم عصر ابن بطلان وابن رضوان لم يعنوا بتجديد النظام السياسي للناحية الشرقية من عالم الإسلام فحسب، بل قاموا أيضاً بتأييد السنة وبمحاربة كل الحركات العقلية التي يعتبرونها مخالفة لها، فكان لعلوم القدماء حظ غير موفور، لأن بعض المحافظين استمروا يسيئون الظن فيها خصوصاً بعد ما أنتفع بها القرامطة والفاطميون في إلباس تعاليمهم الباطنية ظواهر الحقيقة العلمية
ورغماً من هذا فقد جاء في القرون المتأخرة من حين إلى حين بعض علماء مبرزين خلعوا عن أنفسهم تلك الأغلال، وأظهروا الروح العلمية الخالصة غير ملتفتين إلى شكوك من دونهم. من هؤلاء الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (المتوفى سنة 595)، والجهبذ موسى بن ميمون (المتوفى سنة 687) والطبيب المصري ابن النفيس (المتوفى سنة 687) مكتشف الدورة الرئوية للدم؛ إلا إنه للأسف بقي أولئك الأفاضل في أوطانهم غرباء منفردين لم تقدر آراءهم ولم تنتشر، على حين كان ابن بطلان وابن رضوان من المعبرين عن الحركة العقلية العامة في زمانهما التي اشتركا فيها مع رهط كبير من معاصريهما. لم تخل العلوم الأخرى غير الطبيعية والطبية من ذلك التدهور العلمي الذي نشاهده ابتداء من القرن السادس؛ وهذا حجة ساطعة لقيمة تأثير الفكرة اليونانية على الأعمال العقلية في كل نواحيها.
ومهما يكن من شيء فإن ما تناولناه في بحثنا هذا يصور لنا صورة واضحة لضحى العلوم اليونانية العربية في بلاد الإسلام
يوسف شخت