الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 197
- بتاريخ: 12 - 04 - 1937
الزواج
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا أدري ماذا دها الناس، فإنه يندر أن اسمع في هذه الأيام بزواج موفق؛ فهل صار نظام الزواج فير صالح لهذا الزمن؟ أم العيب في الناس لا في النظام ولا في الزمن؟ ولا شبهة في أن للزواج عيوبه. فما الزمن، يخلو شيء في دنيانا هذه من عيب؛ وان له لمتاعب؛ وإن مسئولياته لعديدة وثقيلة، ولكن النجاة من المتاعب عسيرة في الحياة؛ وانه ليظن حمقا من يتوهم أنه يستطيع أن يحيا ويخلو مع ذلك من المتعبات سواء أتزوج أم أثر الوحدة والاستفراد. واحسب إن كثيرين من الرجال والنساء أيضاً يقدمون على الزواج وهم يعتقدون أنه صفو لا كدرة فيه، ومتعة لا تنقص ولا ينغصها أو يفسدها شيء. وحلاوة لا تشوبها مرارة، فتخيب آمالهم كما لا بد أن يحدث، ويضجرون ويتأففون ويشكون وتتلف أعصابهم فلا تعود تقوى على احتمال ما كان ظنهم ألا يكون. وهذا شأن كل من يتناول الحياة بخفة، وواجهها بغير ما ينبغي من التهيؤ للاحتمال، ومن الاستعداد للتشدد والجلد والمقاومة.
وقد كنت أتكلم في هذا وما إليه مع صديق فقال: الحقيقة إن الزواج نظام ثبت إخفاقه وقلة صلاحه في هذا الزمن، فعذرته لأنه ممن جر عليهم الزواج نكبات كثيرة يشق احتمالها، ولكني لم أر رأيه، فقلت له:(لا تغلط يا صاحبي فان كل زمن ككل زمن، وهذه الاختراعات الكثيرة لم تغير شيئا من حياة الناس وفطرهم، ولم تقلب الحقائق الاجتماعية، وما خلا زمن قط ممن يسعدهم الزواج وممن يشقون به، ولا من الراضين والساخطين على هذا وغيره من أحوال الحياة وما زال الرجل كما كان، والمرأة كما عهدها آباؤنا وأجدادنا عفا الله عنهم ورحمهم، ومع ذلك قل لي ماذا تطلب من الزواج وأنا أقول لك ماذا ينبغي أن تبلغ به أو ما لا بد أن يصيبك من خيره أو شره)
قال: (اطلب الراحة والاستقرار. . . ماذا اطلب غير ذلك؟) قلت: (إن الراحة مطلب لا سبيل إليه في الحياة، وهي لا تكون إلا بالموت على أن هذه لا تعد راحة مادام المرء لا يحسها ولا يدرك أنه مرتاح، ولا يعرف حتى ما صار إليه؛ والاستقرار كذلك عسير لأن حياتك كلها قوامها التحول والتغير، وجسمك ونفسك وخواطرك وآمالك وشهواتك وكل ما
فيك أو لك يتغير فكيف بالله يكون هذا الاستقرار؟ وأين السبيل إليه؟)
قال: (إنما اعني الراحة النسبية والاستقرار بالقياس إلى حياة العزوبة والوحدة)
قلت: (ولا هذه أيضاً. إن الزواج ليس أداة لراحة ولا وسيلة لاستقرار أو غير ذلك مما تتوهم، وإنما هو نظام. فإذا كان يوافقك أن تحيا في ظل هذا النظام فتفضل وأهلا بك وسهلا؛ ولكن يجب حينئذ أن تعرف إن له مقتضيات، وان توطن نفسك على الإذعان لها واحتمالها، كما يخضع الجند للنظام العسكري، ولم يقل أحد إن الجندية سبيل لراحة أو استقرار أو لذة، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وإنما هي نظام تقتضيه حياة الجماعة. وكل جندي يقول لنا أنه نظام شاق عسير ثقيل الوطاة، ولكنه لازم ولا بد منه. والفرق بين الزواج والجندي إن الجندي يعلم أنه داخل في نظام لا لذة فيه ولا متعة له منه وانه سيلقى عناء ويكابد متاعب، وانه معرض للجلد والسجن، بل للموت حتى من غير حرب. ولكن طالب الزواج يمنى نفسه الأماني المستحيلة فيلقى خلاف ما كان يقدر، ولو أنه وطن نفسه - كما يفعل الجندي - على التعب والنصب ووجع القلب ومعاناة المنغصات إلى آخر ذلك لسعد بالزواج، ولفاز منه بلذات كثيرة ونعم جزيلة ومتع يضن بها على النسيان. وقد ذكرت الجندية على سبيل التمثيل، ولكن للجندية علاقة وثيقة بالزواج، لأن الزواج غايته تنظيم أمور النسل اللازم للجماعة، أي مد الجماعة بالعدد الكافي من الأفراد للقيام بأعباء حياتها، فهو نظام تمهيدي للجندية. وأنا استعمل الجندية هنا بالمعنى الأعم الأشمل، واعني كل فرد لا الذين يحملون السلاح ويسيرون إلى القتال حين يدعون إلى ذلك - لا اعني هؤلاء وحدهم، فان كل فرد جندي للجماعة وان لم يحمل سيفا ولم يتقلد رمحاً، إذا كان قد بقى في عصرنا هذا من يتقلد رماحاً. والواجب على كل حال أن يدرك المرء أنه بالزواج يكون كالذي يعمل في شركة؛ وللعمل نظامه. والعمل لا تطلب منه اللذة بل الثمرة؛ والعمل لا يفيد الراحة بل التعب؛ ولا آخر للتعب ما دامت الشركة قائمة تعمل وتؤدي ما هو منتظر منها. نعم يستطيع المرء أن يفوز بإجازة، ولكن هذا ميسور في نظام الزواج: خذ إجازة كلما شعرت إنك تعبت، وامنح زوجتك مثل ذلك كلما بدا لك أن أعصابها كلت)
فعجب وسألني: (كيف ذلك. .؟ أن هذا مزاح)
فأكدت له إني جاد، وقلت:(إني أعيش مع زوجتي كأنا صديقان؛ وليس يسعني أن افعل غير ذلك، لأنها إنسان مثلي ولها حياتها المستقلة عن حياتي وإن كنا متعايشين تحت سقف واحد. وأنا احرص في حياتي معها على الاعتراف بهذا الوجود المستقل فلا أحاول أن افني وجودها هذا واجعله يغيب في وجودي؛ ولو تيسر لي هذا لما كان لي فيه أي لذة لأني خليق أن اشعر حينئذ إني أعايش آلة لا إنساناً محسا مدركا يبادلني ما يسرني أن أراه يبادلني إياه من العواطف والاحساسات والخوالج. ولو أفنيت شخصيتها في شخصيتي لانحطت في نظري إلى منزلة الخدم الذين تطعمهم وتنقدهم أجرهم على أن يفعلوا ما تريد ولا يجاوزوا مشيئتك. وليست زوجتي خادما ولا آلة وإنما هي رفيق حياة أي صديق معين. ولست أقول هذا تملقا أو نفاقا بل أقوله لأني لا افهم معنى للزواج غير ذلك. كلا. لست احول أن اغلب إرادتي على إرادتها لأني لا أحس حاجة إلى ذلك؛ وسبيلي التفاهم لا الإكراه، واراني ابلغ بهذا ما لا ابلغ بالقوة والضغط. ومطلبي ما هو أوفق لكلينا، لا ما هو أوفق لي وحدي، فان الشركة لا تصلح بهذا الاستئثار، والزواج شركة على التحقيق، ولا يحسب أحد أن الرجل يضع في هذه الشركة أكثر مما تضع المرأة، وانه لهذا مغبون فيها، فان هذا خطأ، فليس السعي للرزق كل ما تقتضيه هذه الشركة، وان المرأة لتبذل حياتها كلها لا جهدها لإنجاح الشركة؛ وحسبها الحمل والوضع، ولو أمكن أن يحمل الرجل لأمكن أن يدرك هول ما تتحمل المرأة في سبيل هذه الشركة، ولكنه لا يحمل مع الأسف، فهو في الغالب لا يستطيع أن يقدر نصيب المرأة وما يكلفها الزواج وما يعرضها له، ولا كيف تضحي بها الحياة لتملأ الدنيا بمثلى ومثله ممن لا يستحقون هذه التضحية)
فترك هذا وقال: (ولكن ألا يجب أن يكون للبيت سيد. . . إن المركب يغرق إذا كان له رئيسان).
فقلت: (آه. . حكاية التركي الذي جرد سيفه ليلة الزفاف وأطار به عنق القطة ليرهب الزوجة المسكينة. . لا يا سيدي. . ليس الأمر أمر سيد أو سيدة، فما ثم محل لذلك. وأين محل هذا ولكل من الرجل والمرأة عمل؟ وأصدقك فأقول إني لا أدري كيف يمكن أن تجور المرأة على الرجل أو يجور الرجل على المرأة. أخل ذهنك من كل فكرة عن السيادة وأخل لها ذهنها أيضاً. . تفاهما معا. . هي لها عملها وواجباتها التي لا تستطيع - حتى إذا
أرادت - أن تشاركها فيها؛ وأنت لك عملك وواجباتك التي يعييها أن تشاركك فيها؛ وكل منكما يمضي بعد ذلك في طريقه لينهض بأعبائه الموكولة إليه. فأين يكون الاختلاط والاحتكاك والخلاف؟ وإذا حدث خلاف فلماذا لا يكون بالحسنى. .)
قال: (والغيرة. . أليست بلاء؟)
قلت: (طبعا. . والرجل أيضاً يغار. . أليس هذا بلاء؟. . فلماذا لا تضع نفسك في موضع المرأة وتنظر إلى الأمور من ناحيتها هي أيضاً. . صحيح إن المرأة أسرع إلى الغيرة من الرجل وان غيرتها أحمى، فبلاؤها لهذا اعظم، ولكن هذه طبيعتها ولا حيلة لها في ذلك، لأن الغريزة الجنسية في المرأة أقوى منها في الرجل إذ كانت هي مدار حياتها. ثم إن الواحد منا يتقبل أصدقاءه على علاتهم ويحتمل أمزجتهم التي تخالف مزاجه، ويوفق بين رغباته ورغباتهم - وما اكثر ما تتباين - ويظل مع ذلك صديقهم ويظلونهم أصدقائه، فلماذا لا يكون هذا حال الزوجين. .؟ لماذا لا يحتمل منهما الآخر على العلات وهما بذلك أولى من الصديقين. .؟ المسألة يا أخي إن الرجل يريد أن يسود، وان المرأة تريد أن تحكم، لأن هذا هو (المودة الجديدة. ولو تركا هذا وأهملاه فنزل الرجل عن الرأي الموروث فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرجل بالمرأة، وتركت هي ما تشير به (المودة) الحديثة من أن الست هي السيدة المطاعة والرجل هو التابع والخادم الذليل - لو تركا هذا وسارا في الحياة سيرة شريكين متعاونين على إنجاح الشركة واحتمال متاعبها والصبر على بلاياها في سبيل مزاياها وفائدتها لارتاحا جداً ونعما بالحياة الزوجية).
فسألني: (هل أنت سعيد؟).
قلت: (إني سعيد لأني لا أطلب من الزواج سعادة، ولو كنت اطلبها لشقيت على التحقيق؛ وقد تزوجت وأنا موطن نفسي على إن هذا واجب أؤديه كما أؤدي واجبي بالعمل في الصحافة وبالاشتغال بالأدب - واجب والسلام. فإذا فزت بمتعة فهذا فضل من الله، وإذا فاتني ذلك فما كنت اطمع فيه أو أرجوه. وقد أدخلت هذا في رأس زوجتي فهي تفهمه حق الفهم، وقد كان على أن افهمها هذا في أول الأمر لأني أردت من البداية أن أجنب سبيل الإخفاق. وقد أفلحت ولله الحمد والشكر؛ فإذا حدثتك نفسك بالزواج مرة أخرى فاصنع هذا).
فصاح: (أنا. . . أعوذ بالله يا شيخ!)
فقلت: (أرني لم أوفق إلى إقناعك. . لا بأس. . المسألة في الحقيقة مرجعها إلى الاستعداد، ولو شئت لقلت إلى العقل والحكمة وسعة الصدر ورحابة أفق النفس)
فقال: (متشكر يا سيدي)
فعلمت انه غضب. ومع ذلك ماذا قلت. . أني لم أزد على إبداء رأي، فإذا كان لا يحتمل هذا بل يعده تعريضا شخصيا به فلا غرابة إذا كان قد أخفق في زواجه
إبراهيم عبد القادر المازني
النجاح في القرن العشرين
لأديب مجهول
في قطعة تعد من اجمل نماذج النثر الإنجليزي يصف الأستاذ السير جيمس فريزر العادة الغربية التي كانت متبعة في تولية القسس الحاكمين بغاب ديانا القريب من موقع مدينة لارتشيا الحالية بإيطاليا: (فمن يوم إلى يوم، ومن عام إلى عام، في الحر وفي البرد، وفي الصحو وفي المطر، يخرج القسيس من المعبد حذرا يترقب ويجوب الغابة، والسيف مشهور في يده، وأن أغفى إغفاءة فقد يكون ثمنها حياته ويتولى من قتله الحكم مكانه.)
ذلك نوع من النجاح بعد به عنا الزمن، وأنكرته المدنية حتى في عهدها القديم (فإني اذكر وأنا اكتب الآن إن الإمبراطور كراكرا كان هو الذي ابطل قانون الغابة الذي سلف وصفه) لما تنطوي عليه فكرته من تغليب محض القوة أو الخديعة على كل اعتبار آخر وإباحة التخلص من وجود المنافس كلية بقتله، وقد يكون المقتول انفع لقومه من القاتل، فضلا عن أن لا حياة لمجتمع ما إلا بالتواضع على حد أدنى من الأمن على النفس والمال وما يتصل بهاتين الغايتين من أفكار أدبية ونظم قانونية.
وما زالت معايير النجاح تتغير تبعا لاختلاف الجماعات والعصور حتى أتى هذا القرن وأوضح صفاته وصول التنافس الاقتصادي فيه إلى اشده سواء بين الأفراد أو الأمم، وفي هذه الحالة ما فيها من خطر على المدينة يكاد يرجع بها إلى عهد التناحر الأول، وما استمرار الحرب الهجومية إلى هذا الوقت إلا نذير بما تستهدف له العلاقات الدولية من عودة الإنسان فيها إلى حكم غرائزه البحتة.
نترك هذا الجانب الدولي من الموضوع، فليس هو المقصود ببحثنا الآن فضلا عن مساسه بمسائل هي أدق بكثير مما يتناوله البحث في تنافس الأفراد.
والآن فما مقياس النجاح في عصر الاقتصاد؟ إن اسهل جواب على ذلك القول بأنه هو النجاح المشتق من روح العصر. أي النجاح في الماديات، واسهل جواب ليس هو دائماً فصل الخطاب، بل إن الأمر ليحتاج لنظر أدق وتفكير كثير، فقد كان التنافس في الماضي نضالا بين اثنين أو أكثر يفوز فيه أحسنهم مواهب أو فرصا، فتحول الآن إلى جهاد للتخلص مما أحاط به هذا العصر بنيه من صعوبات نشأت عن انتشار الديموقراطية من
جانب وزيادة السكان من الجانب الآخر. وأكبر أخطار الديمقراطية هو ما نحاول نشره يوميا (خصوصا بالسينما والراديو) من فرص للمساواة المزعومة بين الناس مما يسهل انعدام شخصية الفرد في آلاف يراهم مثله. واكبر أخطار زيادة السكان هو الفقر والعطلة، فالتحول بالأخلاق من ينابيعها الأدبية والروحية إلى غرائز الإجرام الحيوانية الكامنة هي أيضاً في الطبيعة البشرية
ولا ريب في أن الناشئ في هذا القرن يقاسي من هذه الصعوبات مالا عهد للسابقين به، ويتعرض من أخطاره لما لم يعرفه غيره ممن قبله، غير انه لا ريب كذلك في أن إطلاق مبادئ النجاح المادي من عقالها وترك النضال القديم الذي يعترف بحدود الأخلاق والدين إنما هو في الواقع هروب من الجهاد الصحيح إلى عراك آخر رخيص يبيح الصعود بالهبوط، والوصول لنعيم الجسم بفقدان الروح، ولضخامة الكسب بموت الضمير
وسيكون اختيار الناس لهذا النوع أو ذاك من النضال تبع فهم كل منهم معنى الكرامة والحياة، ولا فائدة على أي حال من خطاب من فسدت مقاييسه أو خبث طبعه، ولكن الذي لا بد من بيانه في هذا الصدد أن النجاح برغم كل ما تقدم من وصف صعابه لا يستلزم تغييرا في كيف السعي بل في كمه؛ وبعبارة أخرى هو يستلزم زيادة في الجهد لا ما يدعو إليه المستهترون بالاجتماع السليم من اطراح ما قامت عليه المدنيات من قواعد الشرف والأدب.
فإذا تبين أن سبيل النجاح الآن لا يخرج عما كان في كل آن من انه طلب التقدم بكل وسيلة شريفة بقى أن نبحث عن أهم شروط هذا الطلب فلا نجد غير إرادة النجاح، والإرادة هي إرادة الوسائل وعقد النية على العمل بها لا الإرادة الجوفاء الشبيهة بالأحلام
وباعتبار ما تقدم عنه من امتياز هذا القرن بشدة التنافس الاقتصادي فيه يجب أن نضيف إلى شرط الإرادة شطاً آخر هو القدرة على إنزال المال منزلته الصحيحة من انه وسيلة للحياة المادية، وانه هو الحياة المادية نفسها يجب أن يتخذا وسيلة لأن يحيا المرء حياته الروحية التي هو جدير بها. فإذا عمل عامل بهذه العقلية وتلك الإرادة فداوم على تهذيب نفسه مع السعي لترقية حاله وحافظ على شخصيته في كل الظروف فهذا هو الفضل وهو النجاح.
(* * *)
مصاير الحرب في إسبانيا والصراع بين إنكلترا
وإيطاليا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
مضت إلى اليوم تسعة اشهر مذ نشبت الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر يوليه الماضي، وما زالت على اضطرامها، ونستطيع بعد الذي شهدناه من تطور الحوادث خلال هذه الفترة أن نقول إن هذه المعركة الطاحنة التي تخضب ارض إسبانيا بالدماء وتبسط في جنباتها أعلام الدمار والويل، لم تسفر حتى اليوم عن نتيجة حاسمة؛ بل لا نبالغ إذا قلنا أنها ما زالت حيثما بدأت من حيث أوضاعها الداخلية؛ فالجبهة الثائرة ما زالت تجاهد جهاد اليأس لتنتزع ما تستطيع انتزاعه من المدن والأراضي؛ وجبهة الحكومة أو الجبهة الجمهورية ما زالت تصمد في معظم الميادين وترد هجمات الثائرين؛ وقد أحرزت في الأسابيع الأخيرة نجاحا يذكر في المعارك الني دارت حول مدريد، ولا سيما في وادي الحجارة (جوادي لاجارا) كما أحرزت بعض النجاح في الشمال حول اوفيدو، وفي الجنوب في بسائط قرطبة وغرناطة. وقد لاح مدى حين حينما استولى الثوار على مالقة في أوائل شهر فبراير بمؤازرة الفرق الإيطالية في البر، والمدرعات الإيطالية والألمانية في البحر، إن الجبهة الثائرة تسير إلى نصر سريع محقق، وان الجبهة الجمهورية قد أضحت على وشك الانهيار والتحطم؛ وكان سقوط مالقة في الواقع تعويضا للثوار عما لحقهم أمام مدريد من فشل مستمر؛ وكان المظنون أن الثوار سيتابعون زحفهم إلى المرية ثم إلى بلنسية حيث تقوم الحكومة الجمهورية؛ ولكن سقوط مالقة أذكى في الجمهورية شعور الخطر وأذكى فيها روح النضال، فضاعفت جهودها، واستطاعت أن ترد خطر الثوار في الجنوب؛ واغتر الثوار بظفرهم في مالقة فدبروا مع حلفائهم الإيطاليين هجومهم الجديد على مدريد، واضطرمت حول العاصمة الإسبانية سلسلة جديدة من المعارك الطاحنة، ولكنها أسفرت عي تلك المرة كما أسفرت في كل المرات السابقة عن فشل الثوار الذريع، بل أسفرت فوق ذلك عن إحراز القوات الجمهورية لسلسلة من الانتصارات الباهرة في جبهة وادي الحجارة وفي آفيلا، وعن تمزيق الثوار وحلفائهم الإيطاليين، وردهم بعيدا عن حدود العاصمة وعن طريق مدريد - بلنسية الذي يحاولون احتلاله لقطع العاصمة عن باقي إسبانيا.
وقد كان لهذا التطور الجديد في مصاير الحرب الأهلية الإسبانية أثر عميق في الموقف الدولي، فقد كشفت الحوادث والمعارك الأخيرة عن مبلغ تدخل إيطاليا في الحرب الإسبانية وعن ضخامة الدور الذي تقوم به إلى جانب الثوار، وبالأخص عما ارتكبته من المخالفات الصريحة لاتفاق عدم التدخل إذ تبين أنها أرسلت إلى إسبانيا عدة فرق عسكرية كاملة في أوائل شهر مارس، اعني بعد أن عقد ميثاق عدم التدخل في لندن وتعهدت جميع الدول الموقعة عليه ومنها إيطاليا بان تكف عن تدخلها في الحرب الإسبانية، وان تقطع عن الفريقين المتحاربين كل معاونة عسكرية، وتبين إن معظم القوى التي قامت بالهجوم الأخير على مدريد كانت مؤلفة من الإيطاليين وانه يوجد الآن في إسبانيا إلى جانب الثوار نحو خمسين ألف جندي إيطالي؛ وقد كشفت السياسة الإيطالية عن مبلغ تمسكها بهذا التدخل وتصميمها على معاونة الثوار على تحقيق الغرض الذي ترمي إليه، وهو إقامة حكومة عسكرية فاشستية في إسبانيا تكون خاضعة للنفوذ الإيطالي؛ وقد قررت إيطاليا في لجنة عدم التدخل، على يد سفيرها في لندن، أنها ترفض سحب جنودها في إسبانيا وصرحت صحافتها الشبيهة بالرسمية، بان الجنود الإيطالية لن تغادر إسبانيا حتى الظفر النهائي لزعيم الثورة الجنرال فرانكو، وأن إيطاليا لن تسمح بأي حال أن تقوم في إسبانيا حكومة بلشفية، وهو الوصف الذي تطلقه على حكومة إسبانيا الشعبية الجمهورية. ولنلاحظ أن إيطاليا تقف هذا الموقف العنيف غداة هزيمة جنودها أمام مدريد، وهي الهزيمة الذريعة التي كدرت على موسوليني صفو رحلته الرنانة في طرابلس، وحملته على العودة إلى رومه قبل أن يتم برنامجه.
وهذا الموقف الذي تقفه إيطاليا من المسألة الإسبانية يثير في لندن وباريس مخاوف كثيرة؛ وقد كان موقف ألمانيا إزاء هذه المسألة من قبل يثير مثل هذه المخاوف، ولكن ألمانيا تقف في معاونتها للثوار عند الحد الذي بلغته قبل عقد اتفاق عدم التدخل. ولا تريد الآن على ما يظهر أن تتوسع في تدخلها بعد أن رأت فشل سياستها في المسألة الإسبانية؛ أما إيطاليا فإنها تثير بموقفها صعاباً جمة في سبيل تطبيع سياسة عدم التدخل التي ترى لندن وباريس أنها خير وسيلة لحصر أخطار الحرب الإسبانية وصون السلام الأوربي من شررها المتطاير. وهنا تبدو الصبغة الدولية للحرب الأهلية الإسبانية وهي الصبغة التي نوهنا
بخطرها وأهميتها مذ نشبت الثورة في إسبانيا. فالعلائق الإيطالية الإنكليزية، والنضال بين إنكلترا وإيطاليا في البحر الأبيض المتوسط، تلعب اكبر دور في تطور المسالة الإسبانية، وفي سير الحوادث الدولية بوجه عام. والمسالة الإسبانية ليست إلا واحدة من مسائل عديدة يثيرها النضال بين الدولتين في هذا البحر؛ وإيطاليا لم تنس موقف إنكلترا في المسالة الحبشية. ولم تنزل عن شيء من أحقادها ومشاريعها رغم عقد اتفاق (الجنتلمان) بينها وبين إنكلترا على احترام الحالة الراهن في البحر الأبيض المتوسط. وإذا كانت إنكلترا تمضي اليوم في تنفيذ برنامجها الدفاعي الهائل فلأنها اعتبرت حوادث الحرب الحبشية، وشعرت بالخطر الذي يهدد سيادتها الإمبراطورية من جراء تفوق التسليح الإيطالي في البحر الأبيض المتوسط وهي تستطيع اليوم بعد أن قطعت شوطا كبيرا في برنامجها الدفاعي أن تقف في وجه السياسة الفاشستية وان تناوئ أطماعها الخطرة. ولم ننس بعد تلك المعركة الصحفية المرة التي أضرمت بين الصحافتين البريطانية والإيطالية، من جراء أقوال (الدوتشي) ومزاعمه المغرقة في طرابلس حول حماية الإسلام والعرب، وما أثارته تلك المزاعم من سخرية لاذعة في العالم الإسلامي.
ولنلاحظ إن هذا النضال بين السياستين البريطانية والفاشستية كما انه يحدث أثره في المسألة الإسبانية أو غرب البحر الأبيض المتوسط، فإنه يحدث أثره العميق أيضاً في شرق هذا البحر ففي الأشهر الأخيرة نشطت السياسة الإيطالية قي البلقان وفي أوربا الوسطى، وأحرزت أخيراً نجاحا يذكر بعقد الميثاق اليوجوسلافي الإيطالي، ومن المعروف أن العلائق بين إيطاليا ومنافستها القوية في بحر الادرياتيك لم تكن على ما يرام، فعقد هذا الميثاق يحسم كثيرا من أسباب النزاع بينهما، ويضمن لإيطاليا حيدة يوجوسلافيا إذا وقع الصدام بينها وبين دولة أخرى، كما انه يضمن ليوجسلافيا مثل هذه الحيدة؛ والظاهر أن السياسة الإيطالية تسعى إلى عقد مثل هذا الميثاق مع المجر حيث تتمتع بنفوذ واضح، ومع تركيا الكمالية أيضاً. فإذا تم عقد هذه المواثيق، فان إيطاليا الفاشستية تسوي بذلك علائقها في شرق البحر الأبيض المتوسط وتأمن غائلة الاعتداء من هذه الناحية، وتستطيع أن تتفرغ لمقاومة السياسة البريطانية في أواسط البحر الأبيض المتوسط وفي غربه أعني في إسبانيا
ولقد نوهنا من قبل غير مرة بخطورة هذا النضال بين إيطاليا وبريطانيا العظمى وشرحنا عناصره الظاهرة والخفية، وليس من ريب في إن هذا النضال يستغرق اليوم كثيرا من نشاط السياستين البريطانية والإيطالية؛ وإذا كانت السياسة البريطانية تبدي كعادتها كثيراً من الأناة وضبط النفس، فإنها مع ذلك لا تخفي اهتمامها بحركات السياسة الإيطالية ومقارعتها. ولقد دللت إيطاليا الفاشستية في العامين الأخيرين على ما تجيش به من الأطماع المتوثبة والنزعات الاعتدائية ولاسيما ضد الإمبراطورية البريطانية؛ فغزو الحبشة والاستيلاء عليها بالعنف، يهدد مركز بريطانيا في السودان وفي شرق افريقية؛ وتحصين جزيرة بانتلاريا الواقعة بين طرابلس وصقلية يهدد مركز بريطانيا في مالطة، ومن ثم يهدد مواصلاتها الإمبراطورية في البحر الأبيض؛ ومد الطريق البري من طرابلس إلى الحدود المصرية يخفي وراءه غايات عسكرية اكثر مما يقصد إلى غايات سلمية وتجارية؛ ونشاط السياسة الإيطالية في المسالة الإسبانية هو مظهر آخر لتلك النزعة التي ترمي إلى تهديد إنكلترا في جميع النقط الحساسة من نفوذها الاستعماري أو سيادتها البحرية.
ولكن السياسة البريطانية مع ما تبدي من ضبط النفس لا تخفي أنها مصممة على سحق جميع هذه المحاولات الفاشستية والاحتفاظ بسيادتها في البحر الأبيض المتوسط، وتدعين نفوذها وسيادتها حيثما يقتضي الدفاع عن إمبراطوريتها الاستعمارية الشاسعة. والمسالة الإسبانية هي أول مظهر من مظاهر النضال بين السياستين؛ فكما أن رومة تحاول أن تدفع تدخلها في الحرب الأهلية الإسبانية إلى النهاية أو حتى يظفر الجنرال فرانكو وتقوم في إسبانيا حكومة فاشستية تخضع لنفوذ إيطاليا، فكذلك السياسة البريطانية تعمل على إحباط هذه المحاولة بتدعيم سياسة عدم التدخل، وعزل إيطاليا عن باقي الدول، وأظهرها بمظهر المعتدي المهدد لسلام القارة، وإنكلترا تفوز في هذه السياسة بتأييد فرنسا التي تخشى عواقب التدخل الفاشستي في إسبانيا مثل ما تخشاه إنكلترا، وتأييد روسيا السوفيتية التي تناصر الكتلة الديمقراطية، والتي تعاون إسبانيا الجمهورية على مقاومة الثورة الفاشستية منذ نشوبها. ومما يلاحظ أيضاً أن ألمانيا تبدي الآن فتورا ظاهرا في تأييد وجهة النظر الإيطالية مما يدل على أنها قد ملت التدخل في مغامرة لا تؤمن عواقبها؛ هذا إلى أن حوادث الحرب الإسبانية ذاتها تدل على أن الجبهة الثورية الفاشستية قد سرى إليها
الضعف والوهن، فانتصارات الجمهوريين الأخيرة حول مدريد وفشل الثوار في جميع هجماتهم الأخيرة، وما أذيع من وقوع التمرد في بعض الوحدات الثورية في المغرب الإسباني، كل ذلك يؤذن بان مصاير الحرب الأهلية تتطور في صالح الجمهورية الإسبانية. ولنذكر أخيراً أن اتفاق عدم التدخل الذي وفقت الدول إلى عقده وتنظيمه، سينفذ بطريقة فعلية في أيام قلائل بحيث يغدو من المتعذر على أحد الفريقين المتحاربين أن يتلقى المدد من أي ناحية. وفي اعتقادنا أن الثورة الأسبانية التي قامت منذ الساعة الأولى بتحريض الفاشستية ومعاونتها المادية ستنهار عندئذ بسرعة، وتحسم هذه المعركة الطاحنة بفوز الديموقراطية الإسبانية، وبذلك يقضي على تلك العوامل الخطرة التي تلوح في الأفق منذ اشهر مهددة سلام أوربا، والتي كان لشهوات الفاشستية ودسائسها المضطرمة اكبر فضل في بعثها وتغذيتها.
(* * *)
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 5 -
ليس تأثر ابن سينا بأفلاطون من الأمور التي تتطلب إثباتا جديداً، فقد فرغنا منه من قديم وأضحى واضحاً وضوحاً لا يقبل الشك. وإذا كان شيخ الأكاديمية قد استطاع أن ينفذ إلى فلاسفة الإسلام جميعا بالرغم من تعصبهم لأرسطو فان أثره في الأستاذ الرئيس اعمق، وملاءمته لتفكيره أتم واكمل. وقد بينا فيما سبق كيف قال ابن سينا بجوهرية النفس على نحو مما ذهب إليه أفلاطون. ونريد اليوم أن نوضح موقفه إزاء روحيتها فنهيئ بذلك فرصة أخرى لإظهار ما اشتملت عليه فلسفته من نزعات وآراء أفلاطونية.
ابن سينا روحي في طبيعته فالتغيرات الكونية ترجع في رأيه إلى قوى خفية تحدثها وتشرف عليها؛ روحي في طبه، إذ يعتبر النفس الإنسانية مهيمنة على كل الأجهزة والعصارات الجسمية؛ روحي في فلكه فإنه يذهب إلى أن الأفلاك والكواكب إنما تستمد قوتها وحركتها من نفوس خاصة موكلة بها؛ روحي في ميتافيزيقاه، ولا أدل على هذا من أن عالم ما وراء الطبيعة في نظره حافل بعقول قديمة أزلية كلها تفكير ونظر وتأمل؛ روحي أخيراً في أبحاثه السيكلوجية، بدليل أن النفس عنده هي كل شيء والجسم والحواس مجرد آلة لها وأداة. ونستطيع أن نقول أن فلسفته كلها تتلخص في مذهب روحاني تتجاذب أطرافه وتتناجى نواحيه وفيلسوف هذه نزعته لا يدخر وسعا في البرهنة على روحية النفس ولا يمل حديثاً كهذا، بل على العكس يعني به ويذهب فيه مذاهب شتى، فيلجأ تارة إلى بعض الأفكار الرياضية مستعينا بما فيه من لباقة ومقدرة جدلية ليحمل القارئ على التسليم بهذه الروحية. ويركن تارة أخرى إلى معلوماته الطبية. وملاحظاته السيكلوجية فيتخذ منها أدلة أخرى لا تقل عن السابق إفحاماً.
فيقرر أولاً أن النفس جوهر يدرك المعقولات والمعاني الكلية ويشتمل عليها؛ وجوهر هذا شأنه لا يمكن أن يكون جسما أو قائما بجسم، ذلك لأنا إن قلنا بجسميته لزم أن تحل
المعقولات في مكان، وهذا محال. فإنها أن شغلت حيزا فإما أن يكون قابلا للقسمة أولاً، وما لا يقبل للقسمة هو تلك النقط الهندسية التي يتكون منها الخط والتي لا توجد منعزلة مطلقاً؛ فلا يمكن أن تكون محلا لشيء ما. وعلى هذا لم يبق إلا أن تكون المعقولات حالة في مكان قابل للقسمة. وفي هذا الغرض أيضاً صعوبات كثيرة لا سبيل إلى تذليلها ومناقضات لا نستطيع رفعها، وأهمها أن الكلي يصبح قابلا للقسمة تبعاً للحيز الذي يشغله فيصير شكلا هندسيا أو كمية عددية بدل أن يكون فكرة عقلية. وإذا قلنا بقسمته فهل هو مكون من أجزاء مكررة متشابهة أو غير متشابهة؟ إن أخذنا بالأول قادنا إلى نتيجة واضحة البطلان وهي أن يتكون الكل المتنوع المميزات من جزء واحد مكرر؛ وإن ذهبنا إلى الثاني كان معناه إن الكلي قابل للقسمة إلى مالا نهاية، شأنه في هذا شأن الجسم الذي حل فيه. ونحن نعلم أن الكليات وان قسمت إلى أجناس وأنواع ينبغي أن تقف عند حد في هذا التقسيم، فهي في ذاتها قابلة للقسمة إلى نهايته، وتبعا للحيز الذي تشغله يمكن تقسيمها عقلا إلى مالا نهاية، وهذا تناقض صريح على أن هناك معقولات بسيطة لا تقبل القسمة بحال فكيف نتصورها شاغلة لحيز قابل للقسمة؟ وإذا بطل كل هذا فالجوهر الذي تحل فيه المعقولات روحاني غير موصوف بصفات الأجسام، وهو ما نسميه النفس. وواضح إن هذه النفس هي التي تجرد الكليات عن الكم والأين والوضع وتستخلصها من الجزئيات فلا يمكن أن تضعها في حيز جديد؛ ولن يصير الكلى كلياً ولا المعقول معقولا بالفعل إلا إذا انتزع من المكان وفهم في ذاته بعيداً عن عوارض المادة هذا هو اعنف برهان يستدل به ابن سينا على روحية النفس؛ ويظهر انه كان معتدا به كل الاعتداد، فإنه ساقه في كل كتبه السيكلوجية التي وصلت إلينا في أشكال وألوان مختلفة بعضها أغمض واعقد من بعض؛ وربما كان أوضحها نسبيا ما جاء في كتاب النجاة. وليس القول بأن المعقولات لا تشغل حيزاً فكرة مبتكرة اهتدى إليها ابن سينا وحده. فأنا نجدها لدى الإغريق من قديم؛ وأرسطو بوجه خاص يفصل الكلام في وجود الكليات مبينا أنها موجودة في الجزئيات بالقوة وفي الذهن بالفعل. والوجود الذهني هو الوجود الحقيقي؛ وإذا كان بينه وبين الوجود الخارجي من فارق فهو انه مجرد عن الماديات. وأنا لنرى بين المسلمين كذلك الفارابي يحاول من قبل البرهنة على روحية النفس محاولة نظن أنها التي ألهمت ابن سينا برهانه الذي نحن
بصدده، فهو يلاحظ إن المعقولات تتنافى مع الحيز بطبيعتها، وما دامت النفس تدركها وتشتمل عليها فهي جوهر مفارق للمادة. بيد أن الجديد لدى ابن سينا هو ذلك الجدل المحكم والإلزام المبني على أقيسة اقترائية وقسمة ثنائية لا يلبث المرء أن يسلم أمامها بالمطلوب رضى أم لم يرض. وقد لا نستسيغ نحن الآن كثيرا هذا الطراز من الإثبات، فإنه أشبه بالمناقشة اللفظية منه بالبحث العلمي، إلا أنه كان من مميزات القرون الوسطى عامة، ولابن سينا بوجه خاص فيه فائقة. ومع هذا فلن نعدم الحيلة في إنكار بعض مقدماته أو الطعن في بعض قضاياه، ولكنا لا نحب أن نسترسل في أمر نعتقد أنه قليل الجدوى. ومهما يكن من شأن البرهان السابق فإنه يعتمد على مبدأ لا يزال علم النفس الحديث يقره. فان المحدثين يفرقون بين الظاهرة الجسمية والنفسية بأن الأولى هي التي تشغل حيزا في حين أن الثانية مجردة عن المكان، وكل ما تقاس به هو الزمان الذي تحدث فيه. ولئن فات ابن سينا أن ينمي معلوماتنا السيكلوجية ببرهانه هذا فإنه سيعرض علينا ذلك ببراهينه التالية
كم كنا نود أن نجد السبيل إلى ملاحظة النفس في ذاتها لنقف على طبيعتها ومميزاتها. فأما ولا حيلة لنا إلى ذلك فلنلجأ إلى آثارها ووظائفها فإن فيها خير معين على فهم كنهها. وكثيرا ما قام الأثر دليلا على وأعانت الوظيفة على توضيح مصدرها. ومن أهم وظائف النفس والصقها بها الإدراك؛ وأنا لنلحظ فيه ظاهرة غريبة هي أن النفس تدرك ذاتها وتدرك أنها تدرك، وفي هذا دليل قاطع على أن إدراكها مباشر وبدون واسطة. ذلك لأنها لو كانت تدرك بآلة جسدية لا نعدم كل هذا وما استطاعت أن تدرك نفسها ولا أن تكون شاعرة بإدراكها، بل ولا أن تدرك الآلة التي تستخدمها. ويكفي أن نقرن هذا الإدراك العقلي بالأدراكات الحسية أو المتصلة بالجسم لنتبين الفرق بينها. فبينما النفس تدرك ذاتها وتدرك إدراكها لا تستطيع حاسة ما من حواسنا أن تحس نفسها ولا إحساسها ولا العضو الذي يوصل إليها هذا الإحساس، اللهم إلا إن عكس إليها بمرآة ونحوها. وكذلك المخيلة لا تتخيل ذاتها ولا فعلها ولا آلتها، وإنما تتخيل أمرا خارجا عن كل ذلك. وإذن تكون النفس الناطقة من طبيعة غير طبيعة هذه القوى الجسمية.
وفوق ذلك فهذه القوى تتأثر بما تقوم به من مجهود. فان عظم مجهودها أو استخدمت زمنا طويلا بدا عليها التعب والإعياء وعز عليها أن تقوم بوظائفها في دقة. فالقراءة الطويلة
تضعف العينين، والضوء الشديد قد يعشيهما فلا تكادان تبصران، والرعد القاصف قد يصم الإذنين. وليس أثر هذه الاحساسات الشاقة بمقصور على وقتها، فقد يبقى بعدها زمنا، فمن ابصر ضوءاً عظيماً لا يبصر معه ولا عقبه ضوءا ضعيفا، ومن سمع صوتا قويا لا يسمع معه ولا على أثره صوتا ضئيلا، ومن ذاق طعما شديد الحلاوة لا يحس بعده خفيف الطعوم، وعلى عكس هذا يزداد العقل نضجا كلما استخدم وقام بوظيفته، وإذا حل مسألة معقدة كان في هذا ما يعينه على حل ما هو اعقد منها حقا انه قد يبدو متعباً أحياناً ولكن هذا راجع إلى ما يتصل به من ظروف عضويه، فإنه يستعين بالمخيلة كثيرا وهي مرتبطة بالجسم ارتباطا وثيقا.
وأخيراً كل أعضاء الجسم تضعف تبعا لتقدم السن، ويبدأ هذا الضعف عادة بعد سن الأربعين. لكن القوة الفعلية تخالف هذا تمام المخالفة، فهي لا تكتمل إلا حين يجاوز الإنسان هذه السن. يقول ابن سينا:(لا شك أن الجسم الحيواني والآلات الحيوانية إذا استوفين سن النمو وسن الوقوف أخذن في الذبول والتنقص وضعف القوة وكلال المنة، وذلك عند الأنافة على الأربعين سنة. ولو كانت القوة الناطقة العاقلة قوة جسمانية آلية لكان لا يوجد أحد من الناس في هذه السنين ألا وقد أخذة قوته هذه تنتقص، ولكن الأمر في أكثر الناس على خلاف هذا، بل العادة جرت في الأكثر انهم يستفيدون ذكاء في القوة العاقلة وزيادة بصيرة؛ فإذن ليس قوام القوة النطقية بالجسم والآلة، وإذن هي هي جوهر قائم بذاته) وأما ما يبدو من نسيان أو ضعف في التفكير أو خطأ في الأحكام أثناء الشيخوخة فليس راجعا إلى نقص أو اضطراب في القوة العاقلة، وإنما مصدره مؤثرات جسمية وعضوية وبيان ذلك أن النفس تؤدي مهمتين متباينتين ومتعارضتين تقريبا: فهي تسوس البدن وتدبر أمره، كما تقوم بالتفكير والتعقل. وكثيراً ما عز عليها الجمع بين هذين الأمرين؛ فيحول الحس دونها والاسترسال في النظر والتأمل، كما يصرفها البحث العميق ولو مدة معينة عن حاجات الطعام والشراب، فما نظمه من ضعف التفكير أو تعطل العقل لدى الشيخ أو المريض منشؤه أن النفس قد شغلت بمهمتها الجسمية، بدليل أنها تسترد كل قوتها العاقلة إذا ما زال المرض.
هذا مجمل البراهين التي يستدل بها ابن سينا على روحانية النفس، وفيها من غير شك
ملاحظات سيكلوجية جديرة بالتقدير، فأن إدراك القوة الناطقة لنفسها وإدراكها أنها تدرك أساس موضوع السفور الذي هو من أهم مباحث علم النفس الحديث، ويمكننا أن نسلم إلى حد ما أن القوى الذهنية أقدر على تحمل المجهود من الأجهزة الجسمية. وليس بغريب على ابن سينا وهو الطبيب المعروف أن يقوم بمثل هذه الملاحظات ولا سيما وأستاذه أرسطو قد سبقه إلى بعضها ومهد له سبيل توسعتها. ولكن الغريب هو أن تستخدم أفكار أرسطية في إثبات أمر لا يقف أمامه أرسطو موقفاً واضحاً، فإنه غير صريح صراحة أفلاطون في القول بفصل النفس عن البدن وتميزها عنه، فكأن ابن سينا ببرهنته السابقة ينتصر لأفلاطون في الوقت الذي يزعم فيه أنه يردد آراء أرسطية. وإذا ما شئنا أن نحكم على هذه البرهنة في ذاتها، وخاصة في جزئها الأخير، وجدنا قيمتها موقوفة على تفسير الصلة بين الجسم والروح، وهذا ما سنحاوله في الفرص المقبلة إن شاء الله.
إبراهيم مدكور
-
في الأدب المقارن
الطور الفني في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
مما عرف به الإنسان انه حيوان يتذوق الفن، فحب الفن طبع فيه، تبدو مظاهره حالما يأمن على نفسه ويتوفر له قوته وحاجاته، فإذا ما فرغ من الضروري من أموره التفت إلى الكمالي، وطلب الفن والجمال، ومن ثم تظهر بعض الفنون بدائية بين الجماعات المتبدية، وترتقي بينهما وتتنوع بقدر ما تسمح به بيئتها ودرجتها من الرقي المادي والعقلي. والرقص والموسيقى والشعر من الفنون السابقة إلى الظهور، لقلة ما تحتاج إليه من المواد الأولية، أما التصوير والنثر الفني والنحت والعمارة، فأكثر تأخراً عنها لما تحتاج إليه من تقدم الصناعة والمعرفة بالكتابة والاستقرار في موطن
ومهما بلغ الشعر من التقدم في عهد البداوة فما يزال محدود الجوانب قريب الأغوار متشابه الآثار؛ فإذا كانت الحضارة والاستقرار والثقافة والتدوين اتسعت مواضيع الشعر باتساع جوانب العمران، وبعد غوره باستفادته من العلم، وجاد أسلوبه باستخدام التدوين والتروي، واتصلت الجهود فيه وتكاثر الابتكار بتوفر الوقت للتفرغ والتفنن، وظهر بجانب الشعراء أخوه الأصغر سنا وهو النثر، وظهر بجانب الشعراء الكتاب، وبظهور النثر يمتد مجال الأدب حتى يتاخم مجال العلم أو يتداخل وإياه، وإذ يدون الأدب يطلع عليه أبناء الأمم الأخرى ويطلع أدباؤه، على آداب تلك الأمم فيتأثر بها ويؤثر فيها، بعد أن كان الشعر في عهد البداوة معزولا لا يحس به سواه ولا يعلم هو بوجود غيره، وبتقييد الأدب يتوارثه جيل عن جيل، ويزداد تراثه باطراد، بعد أن كان في عهد بداوته سريعا إلى التلاشي في ضباب النسيان، لا يكاد يذكر منه جيل عن أجداده إلا القليل المحرف غير المستيقن
فحين تتحضر الأمة وتتثقف، يصبح شعرها فنيا ويظهر تجانبه النثر الفني؛ على أن هذا يستغرق زمنا، ولا يجئ الفن إلا متأخراً عن الصناعة وعن العلم. فالإنسان يعمد دائما إلى الضروري حتى إذا ما قضى منه وطره تحول إلى الفن أو تحولت الصناعة ذات الغرض المادي إلى فن لا غرضاً في نفسه خارجاً عن ذاته وهكذا ينشأ التصوير والنحت والعمارة والنثر جميعاً، تكون في أول أمرها صناعات تخدم أغراضا مادية وتسد حاجات الإنسان،
من اتخاذ المسكن وزينته وتدوين المهم من الأحكام والمواعظ والأخبار ثم العلوم، فإذا ما اطرد سلم الرقي تخلص الفن من تلك الأغراض الخارجية وصار غرضا في نفسه ومتعة في ذاته، وتعبيرا عن الشعور خالصاً، وعبادة للجمال منزهة.
إذا ما دخل الأدب هذا الطور الفني، صارت الصنعة الفنية فيه اظهر والتجويد أوضح، وليس يخلو الشعر حتى في بداوته من صنعة ومعالجة وتجويد، وبغير هذه لا يتصور له وجود ولا لسلكه انتظام؛ بيد أن الأديب في الطور الفني يصبح اكثر بصراً بتجويد اللفظ وتنسيق الأسلوب وتجميل المعنى، لما يمتاز به دون شاعر البداوة من ترفه المعيشة ورقة الذوق وسعة القراءة، والاطلاع على الآثار الأدبية والقواعد والآراء، فكلما أمعن الأدب في طوره هذا زاد الأدباء لألفاظهم تخيراً وتسهيلا، ولأساليبهم تقسيما وتذليلا، ولمعانيهم. استقصاء وتوضيحاً
وتزداد موضوعات الأدب اتساعا وبعدا عن أسباب الحياة الشخصية الحاضرة، وتحليقا في عنان الفكر وأجواز الخيال وآفاق الماضي والمستقبل: فعلى حين يكون اكثر ما ينظم من شعر البداوة نتيجة حادث طارئ أو خاطر عابر، يتوفر الأديب في الطور الفني على تقصي غايات التفكير، إرضاء لنزعة التأمل والتفكير في ذاتها وعلى توخي مناحي الفن حبا للفن وحده، ويمسي الأديب ويصبح ولا هم له إلا استقصاء حقائق الحس والمشاهدة وتصويرها في أدبه، وتكثر في الشعر والنثر آثار التأمل الطويل والوصف الفني
وإذا ما تكاثرت الآثار المتجمعة بالتدوين جيلا بعد جيل، وزخر التراث الأدبي بما تجود به قرائح الأدباء من فيض، إذا انقضت سحائب منه أعقبت بسحائب كما يقول الطائي، وكثر نظر الأدباء فيها واستظهارهم لها واحتذاؤهم إياها، لم يعدموا أن ينتبهوا إلى شواهد فيها تتكرر وحقائق تتماثل، وجزيئات تندرج تحت كليات، فاستخلصوا من كل ذلك قواعد يجعلونها نصب أعينهم في الإنشاء، ثم يحتفي بعضهم بجمعها وتبويبها والاستكثار منامثلتها، فتكون من ذلك علوم المعاني والبيان والبديع، وكتب النقد والموازنة والتحليل، وبرغم أن الفن سليقة والأدب ملكة لا اكتساب، والشعر طبع لا تطبع فان تلك العلوم وهاتيك الكتب المستحدثة تترك أثرها في تقويم السلائق، وتوجيه الملكات وتحسين البصر بالأدب وأسبابه وجمع أشتاته ولم أطرافه، ولا يستأثر النثر بهذا التبصر في الأدب بل ينظم
الشعراء القصيد في مزايا الشعر وأطواره وأحوال الشعراء.
ومن ذلك التراث الأدبي الزاخر يكتسب الأدب شيئاً آخر: يكتسب على ممر الأجيال لغة أدبية خاصة وألفاظا خاصة للشعر وأخرى للنثر، قد صقلها الاستعمال الطويل ورفعها استخدام كبار الأدباء إياها إلى مرتبة عالية، وارتبطت بمعان سامية مما يجعلها أهلا لما ينزع إلى تصويره الأدباء من عواطف رفيعة فيصير للشعر والنثر من كل ذلك لغة خاصة متسامية على لغة العصر المستعملة في الكلام الممتازة بسهولتها وإسفافها أحياناً وتطورها المستمر بتطور الحضارة المادية؛ وتظل لغة الشعر والنثر الخاصة تلك في ازدياد كلما أضاف إليها أقطاب الأدب ألفاظا من اختراعهم أو اشتقاقهم أو مما يرفعونه بعبقرياتهم من لغة العامة، أو يقتطفونه من لغات الأمم الأخرى وتتوارث في الأدب بجانب ذلك تعابير خاصة جارية ومجازات وأخيلة وأمثال، يموت بعضها تدريجا ويحيا بعض، ويزداد بمرور الزمان صقلا وانسياغا.
هذا الطور الفني لا شك طور نضج الأدب وبلوغه اشده: فيه يجمح بين حرارة الشعور وعمق الفكرة، وبين طرافة الموضوع وجودة الأسلوب، وفيه يتخلص من أقذاء المادية وشوائب الصناعات، وفي هذا الطور لا في طور البداوة يظهر اكبر أدبائه وفحولة شعرائه؛ وما يزال الأدب في رقيه المطرد وتراثه في ازدياده المستمر، مادامت في الأمة فورة الحياة وصدق الشعور وصحة النظرة، فإذا خمدت النفوس وزاغت النظرات، انقلب الفن صناعة والحرية قيودا، وتمسك الأدباء بالقشور دون اللباب، وبالألفاظ دون الحقائق.
كان أدب الجزيرة العربية في الجاهلية وصدر من الإسلام بدويا: الشعر قوامه والبساطة سمته والقريب الحاضر من شؤون الحياة مادته، محدود المواضيع، غير متسق الأسلوب ولا منظم الأفكار ولا ظاهرا لوحدة في القصيدة. وقد استعاض العرب عن التدوين بالرواية: يروي أشعار كل فحل ناشئ يقوم له مقام الديوان المخطوط، ويقوم الشاعر من راويته مقام الأستاذ يبصره بالشعر ووجوه القول؛ وبطريقة الرواية هذه حفظ من شعر العرب شيء كثير، وبها ترعرعت الصناعة الشعرية حتى بلغت في هذا العصر مبلغا من التقدم يعتد به، وصارت لها تقاليد خاصة في الأوضاع والمعاني والألفاظ، كتصريع البيت الأول من القصيدة وتقديم النسيب في مستهلها، تتجلى كل هذه الميزات في الملعقات، التي
يتحدث صاحب كل معلقة منها في نفس القصيدة، عن أحبابه وشرابه، وحربه واسفاره، وحكمته وأدبه وقبيلته وعزها وهلم جرا
وبازدياد حظ العرب من الرفاهة والتثقف والتهذب، ازداد الشعر تهذيب لفظ واتساق أسلوب كما يتمثل في شعر ابن أبي ربيعة وجميل؛ وظهر النثر يستخدم أولاً في تدوين العلوم ورسائل الأمراء وإجراءات الحكومة، ثم مازال حتى استحال علا أيدي ابن المقفع والجاحظ والبديع، فناً يتطلب الجمال اللفظي والمعنوي ويتوخى نواحي الفن ومذاهب التفكير بعيدة عن النفع المادي والغرض الحاضر. وبلغ الشعر الغاية من الصناعة الفنية والحلاوة اللفظية والتقسيم الموضوعي والتقصي في المعاني والتفنن في الوصف. على أيدي أبي نواس وأبي تمام وابن المعتز ولبن الرومي وغيرهم، وهؤلاء وإضرابهم هم لاشك فحولة شعراء العربية، وإن ظل كثير من الأدباء لنزعتهم من المحافظة يقدمون امرأ القيس وأصحابه من الجاهليين. وظهرت كتب النقد وعلوم البلاغة، ونظم الشعراء القصيد في إطراء فنهم، ودبجوا أشعارهم بالتشبيهات والأمثال يحتفون بطلبها ويكاثرون بعرضها، كقول الطائي:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يعرف طيب عرف العود
وقد سئل بشار فيما قيل: بم فقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه؟ فأجاب: بأني لم أقبل كل ما تورده عليّ قريحتي، ويناجيني به طبعي، ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفكر جيد وغريزة قوية فأحكمت سبرها وانتقيت حرها وكشفت عن حقائقها واحترزت عن متكلفها. فهذا قول أديب صناع يروض المعاني والألفاظ ويعرف خطر التروي وأعمال الفكر ولا يرسل القول على عواهنه ولا يطمئن إلى الارتجال الذي كان شيمة الجاهليين ومن أمثلة التدقيق في انتقاء الألفاظ ونقدها ومراعاة تناسب حروفها ومخارجها أيضاً، أن ابن المعتز عاب على أبي تمام تكرار كلمة (أمدحه) مع الجمع بين الحاء والهاء، وهما معا من حروف الحلق، وذلك في قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى
…
معي وإذا ما لمته لمته وحدي
هكذا يجري تاريخ أدب كل أمة: يبدأ بطور أولي الأدب فيه ظاهر البداوة، يليه طور فني
تابع لتحضر الأمة وأخذها بأسباب الكتابة والعلم، وقد استطال الطور الأول في العربية وغزر ما حفظ من أثاره لظروف خاصة، وإن يكن الكثير مما أثر من ذلك موضع الشك أما الأدب الإنجليزي فلا يحتوي تاريخه على آثار ذات بال تمت إلى الطور الأول المتبدي إلا أساطير وشذوراً اتخذها الأدب فيما بعد مادة لسبحاته الفنية، وإنما يبدأ تاريخ الأدب الإنجليزي الصحيح بعصر اليزابيت الذي كانت الأمة فيه قد تشربت ثقافة اللاتين والإغريق واقتبست كثيرا من حضارة أوربا، وخمدت فيها الفتن واستتب السلام في ظل آل تيودور. ومن ذلك العصر يبدأ الطور الفني للأدب الإنجليزي وهو طور تاريخه تاريخ رقي مطرد للأدب في الأشكال والمواضيع والأفكار والأساليب وتخلص مستمر من شوائب الصناعة وتجرد تام في عالم الفن الصحيح. والأدب الإنجليزي في هذا كله يمثل التطور الطبيعي المعقول لكل أدب: جرى الشعر إلى غاياته وتلاه النثر، وتوسعت جوانب كل منهما تدريجا وتعدد مجالاته وتميزت أشكاله وتبينت أغراضه.
تهيأت لكلا الأدبين العربي والإنجليزي أسباب الدخول في الطور الفني. فازدهرت الحضارة وذاعت العلوم ودونت الكتب وانتشرت الرفاهية وتوفر الوقت للعمل الفني المتصل، بيد أن الأدب الإنجليزي كان ابعد شوطا في مضمار الفن الخالص، واكثر تجرداً من شوائب الصناعة والمادة التي تلازم الأدب أو الفنون عامة في بداءتها، إذ أحاطت بالأدب العربي ظروف حالت بينه وبين التخلص من جميع هاتيك الشوائب. فجاء الأدب الإنجليزي اكثر فنية في الموضوع وفي الأسلوب.
ففي الموضوع احتوى الأدب الإنجليزي من تصوير الطبيعة وسير الأبطال وخرافات الماضين وأوصاف الرحلات وآثار الفنون الأخرى كالتصوير، ما يفيض جمالا وتنسم منه نسمات الفن الخالص والفكر البعيد والإنسانية الشاملة، وكل هاتيك مواضيع لم يولها الأدب العربي مكانة اولى، وفي الأسلوب توفر الأدباء الإنجليز على استخدام اللفظ قدر المستطاع لأداء المعنى وتصوير المنظر مستعينين بجرس اللفظ ونغم الوزن في النظم، في حين اهتم أدباء العربية للفظ في ذاته لا على كونه مجرد وسيلة للمعنى، وظهرت الوحدة الفنية أو الفكرة الجامعة في القصيدة وفي المقالة وغيرهما من أشكال الأدب في الإنجليزية، على حين ظلت القصيدة في العربية وإن أصبحت اكبر تقسيماً وأجود ترتيبا مما كانت عليه من
قبل، عديمة الوحدة مختلطة الأجزاء، تثب من قريب إلى بعيد ومن نسيب إلى مديح، ومن مديح للغير إلى فخر بالنفس ومن فخر إلى شكوى.
ولم يتخلص الأدب العربي من شبهات الصناعة المادي قط: إذ ظل اكثر الشعراء والكتاب يخدمون الأمراء ويتوخون مواقع رضاهم. وليس يخرج الأدب من حيز الصنعة إلى عالم الفن الحر مادام ذا غرض خارج نفسه. وذلك ما لم ينكره أدباء العربية أنفسهم فظلوا يسمون الأدب صنعة أو حرفة أو آلة، وكان النقاد يوازنون بينها وبين صناعة المغنين، ويقول ابن رشيق في تعليقه على حكاية شاعر مدح علوياً ثائراً فدفنه المنصور حياً: إن ذلك الشاعر قد جنت عليه حماقته، إذ ما للشاعر وللزج بنفسه في أمثال تلك المآزق وإنما هو (طالب فضل)؟
واحتفى أدباء العربية بالألفاظ احتفاء متزايداً: فنشأ السجع والطباق والجناس والتورية وما إليها في الشعر والنثر معا، حتى بدأ اللفظ منافسا للمعنى مزاحما له على انتباه القارئ وفهمه، بل صارت له في النهاية المكانة الأولى، وتضاءل المعنى بين يديه واختفى، وأصبحت همة الأدباء موجهة لا إلى الغوص على حقائق الوجود وبواطن الشعور. بل إلى اقتناص شوارد الكلم وبارع النكات اللفظية، فعيسى بي هشام مثلا يقول انه كان يطوف البلدان (وقصاراي لفظة شرود أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها) وعيسى بن هشام أيضاً يعيب على الجاحظ انه (قليل الاستعارات قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله فهل سمعتم له لفظة مصنوعة أو كلمة غير مسموعة؟)
وإنما قصر بالأدب العربي عن غايات الفن المطلق، ما قيد به من اتصال بالأمراء، وما أرهق به من تقليد للقديم: أدخلت الأولى فيه التكلف والصنعة وأبقت فيه غرضا خارجا عن نفسه وصرفت الثانية همه إلى اللفظ البليغ والعبارة الطنانة، التي تدل على بصر باللغة وتمكن من آثار فحولها المتقدمين؛ ويتجلى الفرق بين مدى الأدب الإنجليزي من الفنية الخالصة، ومدى الأدب العربي منها، من موازنة حياة الفن الخالص والتأمل الدائب، والمعالجة المستمرة لأشكال الأدب ومواضيعه، والطرق المتكرر لمذاهبه ومناحيه، التي كان يحياها وردزورث وشلي وتنيسون مثلا، وبين حياة البحتري والطائي والمتنبي المتصلة أوثق اتصال بالأمراء ومنادمتهم وتملقهم، كان الأولون كأنهم كهنة الفن المنقطعون إلى آلهته
في محاريبه المقدسة المصونة وكان الأخيرون يعيشون في جلبة البلاطات وضجة المحافل والمواكب
فالأدب الإنجليزي بعد أن توفرت له أسباب الحضارة والثقافة والتدوين والفراغ، التي لابد منها لبلوغ الأدب أوج رقيه، توفرت له أيضاً مزيتا الاستقلال بنفسه عن إرادة الحكام وخدمتهم ونزعة التجديد والحرية التي لا تقلد الماضي ولا تقف عند حدوده وبهاتين المزيتين إلى تلك الأسباب تجمعت للأدب الإنجليزي كل وسائل التطور الطبيعي وبلوغ آماد الفن الخالص؛ أما الأدب العربي فأعوزته هاتان الميزتان، فقعد به إعوازهما في مجال الفن وأبقى به بعض شوائب الصناعة، ومن ثم أمكن القول بأن الأدب الإنجليزي بلغ طور الفن، أما الأدب العربي في جملته فظل اقرب إلى الصناعة الفنية.
فخري أبو السعود
الجباية في الإسلام
للأستاذ فارس بك الخوري
أستاذ علمي المالية والمرافعات المدنية ورئيس المجلس النيابي
السوري
استندت الجباية عند العرب على الأسس الآتية:
1 -
على القواعد المستنبطة من الكتاب والسنة؛
2 -
على ما استنه الخلفاء الراشدون؛
3 -
على ما أخذوه عن الدول التي غلبوها على أمرها
فلم تكن أموال الدولة في أيام الرسول سوى الغنائم يخرجون خمسها للنبي وأهل بيته ويقتسمون الباقي بين المسلمين. وكانت الخزينة في عهده قائمة على ما يجتمع لديه من الصدقات والزكوات من ماشية ونقود وحبوب وعروض يتصرف بها في وجوه المصلحة العامة. ثم عندما اتسع أمر الإسلام عمد إلى وضع الخراج. فجعل على سكان جزيرة العرب من المسلمين خراج مقاسمة على حاصلات أرضهم من العشر إلى نصف العشر بحسب درجة الأرض من الخصب ونصيبها من الري، فكانت أرض الجزيرة بتمامها عشرية ماعدا خيبر فقد صالح يهودها على نصف حاصلات أرضهم. وكان يسم الماشية العائدة لبيت المال بميسم خاص ويتولى ذلك بنفسه؛ وبلغت هذه الماشية في عهده نحو أربعين ألفاً. وبقى خمس الأفياء يعطي لأهل البيت حتى تولى الخلافة عمر بن الخطاب فعين الرواتب لمستحقيها من أهل البيت ومن القائمين بخدمة الخليفة من الحاشية والبطانة وأجراها عليهم شهراً بشهر، ورد الأخماس على بيت المال لتقسم على المسلمين.
وعندما توسع الفتح لإسلامي واستولى المسلمون على بلاد الروم والفرس في العراق والشام اختلف زعماء العرب في الخطة الواجب اتباعها باستحواز الأرض و (العلوج) الذين عليها، فأراد قوم من الصحابة وزعماء العرب أن يقتسموا الأرضين التي يفتحونها غنيمة بينهم ويكون لكل منهم نصيبه منها مع من عليها من السكان فيبقى السكان اقناناً أي أرقاء ملحقين بالأرض يباعون معها وينتقلون بانتقالها. فقال عمر: فكيف بمن يأتي بعدكم من
المسلمين فيجدون الأرض قد اقتسمت بمن عليها وحيزت إرثاً عن الآباء؟ ما هذا برأي. فقال عبد الرحمن ابن عوف: فما الرأي إذن؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله على المسلمين. قال عمر: إذا اقتسمت ارض العراق بعلوجها وارض الشام بعلوجها فبماذا تسد الثغور وما يكون للذرية؟. وما زالوا به حتى جمع ندوة من المهاجرين والأنصار قوامها عشرون رجلا من أهل الحنكة والعقل واستشارهم في الأمر وقال لهم: سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا إني اظلمهم حقوقهم وإني أعوذ بالله أن اركب ظلماً؛ لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت انه لم يبق شيء يفتح بعد ارض كسرى وقد غنمنا أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن احبس الأرضين بعلوجها واضع عليهم فيها الخراج فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها؟ أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لابد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم؟ فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال ولم تجر عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم. وكان عثمان وعلي وطلحة بين القائلين بقول عمر. فقال: من لي برجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا تبعثه إلى أهم ذلك فان له بصراً وعقلا وتجربة. فولاه مساحة ارض السواد من العراق فمسح سواد الكوفة وجباه مائة مليون درهم، وفعل بالشام كما فعل بالعراق فترك أهله ذمة يؤدون الخراج إلى المسلمين. قال أبو يوسف القاضي: إن الذي رآه عمر من ترك الأرض في أيدي أصحابها وفرض الخراج عليها هو توفيق من الله فيه الخيرة لجميع المسلمين؛ ولو لم يفعل ذلك لما شحنت الثغور وقويت الجيوش على السير في الجهاد.
وفي عهده وضعت القاعدة القائلة (أيما دار من دور الأعاجم ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي ارض خراج؛ وإن قسمها بين الذين غنموها فهي ارض عشر. وكل ارض من أراضي الأعاجم صالح الإمام أهلها عليها وجعلهم ذمة فهي ارض خراج) فضرب على
الأرض الخراجية مالاً مقطوعاً يستأداه أصحابها العاملون بها في حالتي الخصب والجدب؛ وجعل هذا الخراج يختلف باختلاف خصب الأرض وأسلوب الري والقرب من المدن الحافلة بما في ذلك من العون على كثرة الاستغلال وبيع الغلة؛ وجعل العشر في الأراضي العشرية على ما يشرب من ماء المطر ونصف العشر على ما يسقى بالدلو، وجباه على ما يبقى في أيدي الناس من الغلة الأرضية كالحبوب ووضعه أي رفعه عما لا يبقى كالبطيخ والخضر، كما وضعه عن المسلمين في البلاد التي فتحها وأقطعهم إياها، وقال ليس على المسلمين عشر وإنما العشر على اليهود والنصارى. وقال: يا معشر العرب احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور. فهو أول من مسح الأرض ودون الدواوين ووضع أصول الجباية ورقم الداخل إلى بيت المال والخارج منه. وهو الذي رتب الجزية على الرجال من غير المسلمين وكلف غنيهم بثمانية وأربعين درهماً، ومتوسطهم بأربعة وعشرين، وفقيرهم باثني عشر في السنة، وقال درهم في الشهر لا يعوز أحداً. وجعل المعادن لمخرجها على أن يؤخذ منه خمس المستخرج لبيت المال؛ وكذلك ما يخرج من البحر من حلية وعنبر. وهو الذي وضع اكثر القواعد المالية فلم يجرؤ من جاء بعده على مخالفتها، فبقي جانب عظيم منها نافذاً في عهد الأمويين والعباسيين واستمر بعضها حتى الزمن الحاضر.
كانت منابع بيت المال في عهد الخلفاء الراشدين منها المقرر ومنها الطارئ؛ فالمقرر هو الخراج والعشر والصدقات والجزية، والطارئ هو العشور والغنائم والافياء والأموال المستخرجة من العمال وعوائد المصادرة وأمثال ذلك. فالخراج هو ما كان يوضع على الأرض التي استولى عليها المسلمون وتركوها في أيدي أهلها ملكا لهم، فكانوا يجعلونه أحياناً خراجا موظفاً ثابتاً كما جرى في سواد العراق، وأحياناً خراج مقاسمة. وبقيت ضياع البطارقة والأمراء المنهزمين ملكا لبيت المال يقبلها العمال ويستثمرونها لحساب الخزينة العامة. والعشر هو الحصة الشائعة المضروبة على حاصلات الأرض التي اسلم أهلها عليها من ارض العرب أو العجم كالمدينة واليمن، لو ملكها المسلمون عنوة من قوم لا تقبل منهم الجزية كعبدة الأوثان والمجوس؛ ومثلها الأرض التي احتازها المسلمون وقسموها بين الغانمين.
والصدقات هي ما يعطيه المسلمون من أموالهم المنقولة ومكاسبهم؛ وكانت في الغالب بمعدل
واحد في الأربعين أي ربع العشر؛ وتجبى على الأكثر من الماشية، فكانوا يعينون لأهل البادية مصدقين يجبون الصدقات ويردونها على بيت المال لتصرف في مصالح الخلافة. ولعل هذا الأساس بقي معتمداً عليه في الإسلام وتجلى في عهد الخلافة العثمانية بأموال الأغنام والسائمة التي مازالت إلى اليوم تجبى على هذه النسبة نفسها توسعت منابع الجباية بعد ذلك فتناولت مطارح أخرى من ذلك المكوس (الجمارك) التي كانوا يسمونها العشور لأنها كانت تؤخذ بمعدل واحد من العشرة، وأول ظهورها في الإسلام على عهد عمر بن الخطاب عندما كتب إليه أبو موسى الاشعري عامله في العراق يستشيره بما يأخذه الأجانب من تجار المسلمين الذين يدخلون بلادهم لبيع بضاعتهم، فكتب إليه عمر أن خذ أنت منهم كما يأخذون من تجارنا وخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن المسلمين ربع العشر بقدر الزكاة المفروضة عليهم فانتشرت قاعدة التعشير في ثغور المسلمين وحدودهم واستمرت طول أيام دولتهم. ليس لدينا إحصاء يعرف منه ما كان يدخل بيت المال في عهد الراشدين من الخراج أو العشور أو الزكوات أو الأخماس أو غيرها من منابع الخزينة، وجل ما نعلمه من هذه الجهة أن الدخول كانت جسيمة جداً وجميعها تنفق في المصالح العامة ولا يختزن شيء منها قدم أبو هريرة على عمر بمال من البحرين فقال له عمر: ما معك؟ قال: (خمسمائة ألف درهم) فدهش عمر لكثرته وقال له: (أتدري ما تقول؟) قال (نعم مائة ألف خمس مرات) فصعد المنبر وقال: (أيها الناس جاءنا مال كثير، فان شئتم كلنا لكم كيلاً، وان شئتم عددنا لكم عداً، وهذا مثال على دهشة العرب بوفرة الأموال التي كانت ترد عليهم من فتوحاتهم ذهبا وفضة وعلى الإسراع في توزيعها بين المسلمين. وكان أبو بكر وعلي لا يقلان عن عمر في الزهد بالمال وتقسيمه بين الناس بالعدل
كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بالنقود الكسروية والرومية من الدراهم والدنانير وبقى هذا حالهم إلى عهد عمر فضرب الدرهم وجعل وزنه من الفضة أربعة عشر قيراطاً من قراريط المثقال العشرين، فكانت كل عشرة دراهم من دراهمه تزن سبعة مثاقيل؛ ثم ضرب دراهم أخرى جعل وزن الواحد منها اثني عشر قيراطاً. وكان يضربها على نقش الدراهم الكسروية ويزيد في بعضها عبارات إسلامية كعبارة التوحيد أو عبارة الحمدلة. وضرب بعده عثمان دراهم نقش عليها عبارة التكبير. وحذا الخلفاء والأمراء حذوهما فضربوا
الدراهم والدنانير بعبارات وأوزان مختلفة. وكان أعظم الذين ضربوا النقود معاوية وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ويزيد بن عبد الملك وغيرهم. وإنما كان عبد الملك بن مران أول من ضرب الدنانير الإسلامية الصرفة بدون نقوش كسروية، فكان وزن ديناره يتراوح من أربعة غرامات وخمس الغرام إلى أربعة غرامات وثلثي الغرام، فهو بذلك يقارب نصف الجنيه الإنكليزي الذي وزنه أربعة غرامات وربع الغرام من الذهب وأما الدرهم الفضي فكان وزنه اقل من ثلاثة غرامات، واكثر عبد الملك من ضرب هذه النقود العربية في أيامه في الشام ومصر والعراق، وانتشر استعمالها فاستغنى العرب بها عن نقود الروم والفرس، وصار للعرب نقود خاصة بدولتهم تم بها استقلالها المالي.
فارس الخوري
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
ديباجة الكتاب
أهديت إلى الأديب الكبير الأستاذ (خليل مردم بك) مائة نقلة من (نقل الأديب) فأعطاني - وهو السخي السري - هذه اللؤلؤة العمانية أو الكلمة المردمية
كالْروض مؤتلقاً بحمرة نوره
…
وبياض زهرته، وخضرة عشبه
وكأنها - والسمع معقود بها -=شخص الحبيب بدا لعين محبه
بل هي فوق القول البحتري ووصفه (أفسحرٌ هذا) أم هو كلام روحاني؟!
قال (الخليل) - وقوله ديباجة الكتاب -: (كنت احسب أن هدية الأستاذ (نقل) كاسمها فإذا هي سحر وخمر ونقل؛ وذلك إن عنوانها يستدرج القارئ ويوهمه أنه نقل فكه ليس غير، وهذا لعمري أول أبواب السحر، فإذا جاز هذا الباب (أو جازت عليه تلك الحيلة) وجد نفسه في روضة فردوسية بين أقداح ونقل فالنقلة تغري بالقدح. والقدح يستدعي النقلة. وهكذا دواليك حتى تستخفَّه نشوة الطرب وتتلاعب بنفسه ولبه:
سقوني وقالوا: لا تغنّ. ولو سقوا
…
جبال حنين ما سقوني لغنتِ
فيا ليت شعري كيف يستجيز من حرم الصهباء على نفسه أن يغوى الناس بالخمر، ويفتنهم بالسحر؟
1 -
هذا بلاغ للناس
سئل علي بن عيسى الرماني فقيل له: لكل كتاب ترجمة فما ترجمة كتاب الله؟
فقال: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به)
2 -
النيل
الأندلسي:
ما اعجب النيل، ما أحلى شمائله!
…
في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع
…
تهب فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماء كما زعموا
…
وإنما هي أرزاق وأرباح
3 -
بقية السحر في مصر
ابن المغربي:
أيا ساكني مصر، غدا النيل جاركم=فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
وكان بتلك الأرض سحر وما بقى
…
سوى أثر يبدو على النظم والنثر
4 -
الهرمان نهدان
الشهاب الحجازي:
يا هرمي مصر لقد
…
حسنتما رباها
عروس حسن قد غدت
…
وأنتما نهداها
5 -
مراتب الكلام
أبو هلال العسكري في (الصناعتين):
لكل مقام مقال، وربما غلب سوء الرأي وقلة العقل على بعض علماء العربية فيخاطبون السوقي والمملوك والأعجمي بألفاظ أهل نجد ومعاني أهل السَّراة؛ لأن العامي إذا كلمته بكلام العلية سخر منك، وزري عليك كما روى عن بعضهم انه قال لبعض العامة: بم كنتم تنتقلون البارحة؟ (يعني على النبيذ) فقال: بالحمالين. . .
ولو قال له: أي شيء كان نقلكم لسلم من سخريته. فيجيب أن يخاطب كل فريق بما يعرفون، وتجنب ما يجهلون
6 -
في هذا مرة وفي هذا مرة
عن أبي بكرة: كنت عند النبي (صلوات الله عليه) وعنده إعرابي ينشده الشعر. فقلت: يا رسول الله، أشعراً أم قرأناً؟
فقال: في هذا مرة، وفي هذا مرة. . .
7 -
ظرف الدهر
في تاريخ بغداد لابن الخطيب: حدث النضر بن حديد قال: كنا في مجلس وفيه أبو العتاهية والعباس بن الأحنف وبكر بن النطاح ومنصور النمري والعتابي، فقالوا لمنصور: أنشدنا؛
فأنشد مدائح الرشيد؛ فقال أبو العتاهية لابن الأحنف: طرفنا بملحك فأنشد أبياته:
تعلمت ألوان الرضا خوف عتبه
…
وعلمه حبي له كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت مكانه
…
ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟
فقال أبو العتاهية: الجيوب من هذا الشعر على خطر، ولا سيما إن سنح بين حلق ووتر. فقال بكر: قد حضرني شيء في هذا فأنشد:
أرانا معشر الشعراء قوماً
…
بألسننا تنعمت القلوب
إذا انبعثت قرائحنا أتينا
…
بألفاظ تشق لها الجيوب
فقال العتابي:
ولا سيما إذا ما هيجتها
…
بنان قد تجيب وتستجيب
قال النضر: فما زلت معهم في سرور. وبلغ اسحق الموصلي خبرنا فقال: اجتماع هؤلاء ظرف الدهر
8 -
أمسلم هو؟
في (لسان الميزان): مما يذكر من سرعة جواب المتنبي وقوة استحضاره انه حضر مجلس الوزير ابن خنزابة وفيه أبو علي الآمدي الأديب المشهور فأنشد المتنبي أبياتاً جاء فيها:
إنما التهنآت للأكفاء
فقال أبو علي: التهنئة مصدر، والمصدر لا يجمع. فقال المتنبي لآخر بجنبه: أمسلم هو؟
فقال سبحان الله! هذا أستاذ الجماعة أبو علي الآمدي قال: فإذا صلى المسلم وتشهد أليس يقول: (التحيات)
قال: فخجل أبو علي وقام
9 -
لا ندعه يبرد
قيل لأعرابي: ما تسمون المرق؟
قال: السخين
قال: فإذا برد؟
قال: لا ندعه يبرد
10 -
هل رأيت أحدا يهب ولده
قال جحظة: قال علي بن الجهم لخالد الكاتب: هب لي بيتك الذي تقول فيه
ليت ما أصبح من رقةَّ (م)
…
خديك بقلبك
فقال: يا جاهل هل رأيت أحدا يهب ولده؟!
11 -
لئلا يرى في عينها منة الكحل
أبو النصر الزورني:
ولا أقبل الدنيا جميعاً بمنة
…
ولا أشترى عز المراتب بالذل
وأعشق كحلاء المدامع خلقة
…
لئلا يرى في عينها منة الكحل
12 -
وهوميروس عند الجمهور
في (الكلم الروحانية): سئل ديوجانس عن اشعر اليونانيين فقال: كل واحد عند نفسه، وهوميروس عند الجمهور.
محمد اسعاف النشاشيبي
الديمقراطية
تساوي الفرص لا تساوي الأنصبة
للأستاذ أديب عباسي
ليس بين مسائل الاجتماع ما يسيء جمهور الناس فهمه ويخطئون دلالته كما يسيئون معنى الديمقراطية الصحيح في مختلف مناحيها ونواحي تطبيقها على شؤون الحياة الاجتماع. فهي في رأي قوم تحلل من قيود الاجتماع وخروج على كل عرف وعادة؛ وعند قوم غيرهم هي قسمة عادلة وملك مشاع لكل ما بيد الناس من متاع تالد ومال طريف؛ وعند فئة أخرى لا يكاد يعدو معنى الديمقراطية نطاق السياسة ومجال الحكومة، بل هذا المعنى الأخير للديمقراطية يكاد اليوم يطغى على كل معنى سواه وذلك لكثرة ما يحمل محامل السياسة ويورد مواردها العديدة في هذه الأيام.
أما أن الديمقراطية بمعناها الأعم ودلالتها الأدق ليست على الحصر هذا ولا ذاك مما مر، فشيء يحتاج إلى بعض البسط والبيان؛ فليست الديمقراطية انطلاق النفوس على سجاياها فلا قيود تراعي ولا حدود تلتزم، ولا هي تعني تسليط النوكي والكسالى على جهد المجدين فينالون منه ويصيبون مثل ما يصيب المجد بالعرق الصبيب والجهد الدؤوب؛ ولا هي تحصر في نطاق السياسة الضيق وان وسعته الجرائد وضخمه الساسة ليست الديمقراطية بمعناها الأدق أمراً من هذه الأمور. وإنما هي بدلالتها الصحيحة ومعناها العام تيسير على الناس وتهيئة لهم ليقفوا من فرص الحياة المتاحة موقفا عادلا فيشتركوا شركة متساوية في هذه الفرص المتاحة لا في الأنصبة المحققة ونتائج الجهد المبذول.
وبعبارة أخرى تكون الديمقراطية ديمقراطية المثل الأعلى إذا انصرفت إلى تهيئة الأسباب وتيسير السبل التي تجعل كل فرد من أفراد الأمة ينال على قدر استعداده وكفايته من فرص النجاح ووسائل التوفيق. وإذا شبهنا الحياة بميدان للسباق فالديمقراطية الصحيحة أن ينطلق المتبارون من نقطة واحدة بعد أن يعدوا أعداداً عادلا لهذا السباق، لا أن يكبل البعض أو يحجز عن السباق أو يترك بلا أعداد ثم يحاسب على تخلفه ويلام على إبطائه!
وإذاً فالديمقراطية الصادقة هي ديمقراطية التيسير على الناس لإظهار كفاياتهم واقتدارهم الموهوب والمكسوب. وكل ما يؤدي إلى هذه النتيجة الأخيرة فهو في صميم الديمقراطية
الحق، وكل ما يؤدي إلى عكسها فليس من الديمقراطية في شيء. وفيما يلي شرح لوسائل تيسير الديمقراطية على النحو الذي عرفناها به.
وفي أول هذه الوسائل بل أولها أن يعم التعليم وينتظم التثقيف جميع أفراد الأمة ثم يسار فيه على نهج واضح من الاختصاص والأفراد. وعموم التعليم يجئ في أول وسائل الديمقراطية لأن عصرنا هذا عصر العلم والسرعة والاقتصاد، لإنجاح فيه مضمون إلا لمن توسل للنجاح فيه بوسائل من علم يتقن أو فن يكتسب والأوربيون على أتم الإدراك لهذه الحقيقة فتراهم لا يألون جهداً ولا يدخرون وسعا في تعميم التعليم وتيسيره بحيث ينتظم جميع أفراد الأمة ويصيب كل منه على قدر استعداده وكفايته. وهم يبالغون ويشددون في هذا التعميم والتيسير فلا يكتفون أن يعدوا وسائل العلم والتثقيف ويتركوا أمر اكتسابها لاختيار الجمهور وهوى الأفراد، بل تراهم يفرضون العلم والثقافة فرضا على جميع أفراد الأمة فلا يستطيع أحد أن يستمر على أمية أو يمضي في جهل حتى لو أراده. والأوربيون بعد لا يكتفون بأن يعمموا التعليم ويفرضوه على جميع الأفراد، بل تراهم ينوعون العلم ويعددون فروع الاختصاص حتى يصيب كل فرد من العلم ووسائل النجاح ما يتلاءم وكفاياته الخاصة ومواهبه الموروثة. وهذا هو الذي من اجله تفتح الجامعات ودور الفن الخاص حيث يستطيع كل فرد أن ينال من العلم والفن كماً وكيفاً خير ما يستطاع نيله. على أن حرص ذوي الشأن هناك على استغلال كفايات الأفراد أحسن استغلال لا يدعهم يتركون الأفراد وهواهم واختيارهم لما يشاءون من العلم والفن بل تراهم في كثير من الأحوال يتدخلون في حرية الأفراد ويحددون اختيارهم ويربطون بنوع ابرز كفاياتهم، فترى المربين وعلماء النفس يتوسلون باختبارات الذكاء العام والخاص، ليدركوا مبلغ قابلية الفرد للعلم وليدركوا في أي نواحي المعرفة والمهارة يستطيع أن يجيد ويبرز نسبيا أو إطلاقا ثم يدفعونه في ناحية ابرز كفاياته فتكون النتيجة خيرا له ولقومه
ولا يكتفي أولو الشأن هناك بأعداد الفرد أحسن الأعداد وتزويده بأحسن زاد من العلم والخبرة، بل تراهم يزيلون من طريقة الكثير من العثرات والعقبات المصطنعة غير الطبيعية؛ فلا مذهب سياسي ولا عقيدة دينية ولا منزلة اجتماعية ولا نفوذ شخصي بمعطِ فردا فرصة من النجاح لا تؤهله لها كفاياته على وجه الدقة أو التقريب. هذا ولسنا نزعم
أن جميع الدول الأوربية بلغت من فهم الديمقراطية وتطبيقها هذا المبلغ، وإنما الذي نزعمه أن معظم هذه الدول الأوربية تفهم الديمقراطية هذا الفهم ويسعى مخلصا لتطبيقها، ومن هذه الدول من بلغت شأواً بعيدا في التطبيق.
ولا يقف الأوربيون من تحقيق الديمقراطية عند هذا الحد الذي شرحنا، بل تراهم يبذلون قصارى الجهد ليهيئوا لجميع أفراد الشعب جواً روحيا متقاربا لا في دور التعليم وحسب، بل في كل مرحلة أخرى من مراحل الحياة. فترى الحكومات الأوربية تبذل الجهود الكبيرة والأموال الوفيرة لإنشاء الحدائق العامة ودور التمثيل والسينما والمكتبات العامة وخلافها من المؤسسات الاجتماعية الروحية، فلا يكون ميسورا لأفراد دون أفراد سبيل الاستمتاع بما تيسره هذه المؤسسات من متع روحية غالية.
ويدرك الأوربيون العلاقة الوثيقة بين صحة الجسم وبين صحة الفهم وجودة الإنتاج، فترى الحكومات والجماعات غير الحكومية تبذل أقصى الجهد لإنشاء الأطفال نشأة صحيحة سليمة، ولا نزعم هنا انهم بلغوا المثل الأعلى في هذا الشأن وإنما نزعم انهم ساروا شوطاً بعيداً في تحقيق هذا المثل ولا زالوا يسعون ليصلوا نهاية الأمد.
هذا ومعظم الدول الأوربية تسعى للمباعدة بين الأفراد وبين روح الاتكال، وللظن ببذل الجهد أركاناً إلى ثروة تورث أو مال يأتي عن غير طريق السعي والعمل، فتراها تقتطع لنفسها من أموال الإرث مبالغ طائلة، فتقلل بذلك من روح الاتكال في الأفراد الوارثين، وتبذل هذا المال المقتطع في تيسير الكثير من أسباب الثقافة والاستمتاع والصحة لمن تعوزه إليها الوسيلة.
وليس هذا كل ما يفضي إليه فهم الديمقراطية وتطبيقها على النحو الذي أبنا في أول هذا المقال، فمما لا ريب فيه أن الديمقراطية التي تفهم هذا الفهم وتطبق هذا التطبيق تكون الوسيلة التي ليس فوقها وسيلة لتحسين أنواع الإنتاج المختلفة كماً وكيفاً، ولبث روح الرضى والاطمئنان في نفوس الجمهور إذ ليس في الحق ابعث على الرضى في نفوس الأفراد من شعورهم بأنهم يعملون في أحسن ما اعدوا له من عمل وأن الحكومة والهيئة الاجتماعية قد أعدتا لهم احسن الوسائل الحسية والفكرية والروحية لتوجيه كفاياتهم في خير وجهتها ثم الانتفاع من هذه الكفايات بإبرازها قوية واضحة أحسن الانتفاع.
أديب عباسي
تلخيص وتعليق
أسبوع الجاحظ
لمندوب الرسالة
أتينا في الرسالة (195) على خلاصة ما قيل في اليوم الأول من أسبوع الجاحظ الذي قامت به كلية الآداب، وقد كان هذا غاية ما أدركته الرسالة وهي تحت الطبع، ونعود فنقدم إلى قرائنا إجمال ما قيل في الأيام التي تعاقبت بعد ذلك.
اليوم الثاني
كان القول في هذا اليوم للأستاذين: أمين الخولي، وعبد الوهاب حمودة، وكان على الأول أن يقول في منهج التفكير عند الجاحظ وكان على الثاني أن يقول في أسلوب الجاحظ
وقد ابتدأ الأستاذ الخولي كلامه فقال: يقتضينا منهج البحث والتفكير ونحن نتكلم عن منهج الجاحظ في التفكير أن نعرف هل كان الجاحظ يقول بالمعرفة أم كان سوفسطائياً، لأنه كان يقول بالشيء وضده والحق انه كان يقول بالمعرفة وينتهجها، وله في ذلك من الآثار كتاب المعرفة وكتاب الجوابات وغيرها من الكتب التي لم تصلنا إلا أن موضوعاتها تدل على أن الرجل كان من القائلين بالمعرفة. قال الأستاذ: وطريق المعرفة عند الجاحظ للحواس والعقل على اتهام للحواس واطمئنان للعقل ولا شك أن الجاحظ كان له في الدين والأدب والحيوان وكثير من النواحي، وكان له في كل ناحية من هذه منهج تفكير ينتهجه، فهل كان في كل منهج منها على حظ واحد من الإجادة ودرجة متفقة في السير؟ أننا نرى انه كان في كل مناهج تفكيره متكلما أكثر منه أي شيء آخر، فقد كان الرجل من علماء الكلام، وكان يتخذ الكلام صناعة وتلك كانت شنشنة المعتزلة فإنهم أهل جدل وكلام ومناظرة، وقد أخذ الجاحظ منهجهم واحتذاهم، وقد امعن في ذلك حتى طغى منهجه الكلامي على تفكيره الأدبي. فكان يحفل بالجدل ويعنى باختلافات القوم يسردها وينقدها. ثم عرض لمذهب الرجل في الصدق والكذب وقال: انه كان يحتج للشيء وضده تطبيقاً على رأيه في الصدق!!
وتكلم على منهجه الرواية فأورد كلامه في كتاب الحيوان عن اصطناع الكتب ثم قال:
ومنهج الجاحظ في ذلك مبني على العيان والخبر، ولكنه ينقد ما وصل إليه من الأخبار ويرده إلى اليقين العقلي كما انتقد الخطبة المنسوبة لمعاوية.
وأتى بعد ذلك على منهجه النظري فقال: انه كان يحترم العقل ولكنه مع ذلك لا يرى انه يكفي لسعادة الناس في دينهم ودنياهم؛ ثم هو يحترم أشياء قد جاءت على غير النهج العقلي وإنما هي نظرية سماعية كخلق عيسى وحواء وغير ذلك. وكان يرى أن الشرع إنما جاء حاداً للعقل وكان الجاحظ يشك فلسفياً ولكنه شك المتكلم يكتفي بالظواهر والمظاهر لأنه يعتد بعقله ويحترمه.
قال: وكان الجاحظ يأخذ بالمنهج التجريبي ولكن منهجه في ذلك كان ناقصاً؛ ثم عرض لنظريته في المشابهة بين الإنسان والقرد، وقارن ذلك بنظرية (دارون) ليظهر الفرق بين التجربة الناقصة والتجربة الكاملة الممحصة وضاق الوقت عن أن يتكلم الأستاذ في منهج الجاحظ الفني فاعتذر وقد ختم كلامه بقوله: إن منهجنا في تكريم الجاحظ منهج ناقص، لأن آثار الرجل لم تصلنا كاملة، فلعلنا نعمل على إخراج آثاره للناس فبذلك نكون قد كرمنا الجاحظ حقا وذكرناه وانتفعنا به
وقام من بعده الأستاذ حمودة فقال: إن أسلوب الجاحظ مرآة نفسه وحسه، وصورة عقله ومزاجه، وقد عرف الجاحظ في أسلوبه بخصائص لم يسبق إليها، منها: مزج الفكاهة بالجد، والبرهان المقنع بالتهكم الموجع، وسبب ذلك دمامة شكله، فإن أهل الدمامة قوم تشيع فيهم الدعابة؛ واستدل على ذلك بما كان من حافظ وأمام العبد ونظير واضطرابهم. ثم تتطرق إلى دعابة الجاحظ في شيء من البسط والإفاضة ثم قال: وكان الجاحظ يتخذ التهكم أسلوبا من أساليب النقد والإقناع، ورسالة التربيع والتدوير نمط من ذلك، وبعد أن قرأ الأستاذ فقرات من هذه الرسالة قال: وكثير من المتأدبين يحسبون أن ابن زيدون هو أول من اتخذ الأسلوب التهكمي في رسالته الهزلية إلى ابن عبدوس، وإنما هو تلميذ الجاحظ في ذلك على إن فنه أشبه بالهجاء وابعد من التهكم والسخر
ثم وازن بين الجاحظ وبين ابن المقفع فقال: إن ابن المقفع حكيم يستمد حكمته من نفسه؛ فتجربة الدنيا هي التي كانت تملى عليه ما يكتب، ولكن الجاحظ كان ينهج نهج من درس خطابة أرسطو فتأثر بها إلى حد بعيد، ومن المشابهة بينه وبين أصحاب الخطابة في
الأسلوب استعماله القياس المضمر وهو ما عرف عند البديعين بالمذهب الكلامي؛ وقد كان الجاحظ أول من قال بهذا المذهب واستخدمه وأنكر وجوده في القُرآن وتابعه ابن المعتز ورد عليه ابن أبي الإصبع. . . . قال وإنما أخذ الجاحظ ذلك من كتاب الخطابة لأرسطو. وهناك دلالة قوية تدل على أن الجاحظ قد انتفع بكتاب الخطابة، ولكن هناك يعترضنا سؤال وهو أن الجاحظ قد أنكر أن لليونانيين خطابة، والجواب: أن الجاحظ حينما قال ذلك قاله وهو يرد على الشعوبية الذين كانوا يقولون إن الخطابة عند كل الأمم تنقصا للعرب، فموقف الرد هو الذي ألجأه إلى ذلك الإنكار والجواب الثاني انه لم يطلع على نصوص خطابية لليونانيين والثالث التراجم والمترجمين وانتقد على الخصوص، كتاب المنطق بأنه قرأه في أسلوب سقيم مترجم!!
فالجاحظ لا شك قد تأثر بكتاب الخطابة لأرسطو كثيراً ومنطقه، ليس كتاب البيان والتبيين إلا صدى لذلك الكتاب. وكان الجاحظ على طريقة أهل الخطابة يستخدم التمثيل إذا أحوجه الدليل وأعوزته الحجة؛ ومن ذلك ما كان في رسالته تفضيل السودان على البيضان. . . ثم قال: ومن خصائص الجاحظ: قصر الفقرات والازدواج، وتعمد السجع دون أن يتكلفه، وكذلك الافتنان في الأسلوب، والتنقل، والاستطراد، والتقصي للمعنى حتى لا يترك فيه بقية. أما الخصائص التي يشركه فيها غيره، فالسهولة والسجع وما إلى ذلك من خصائص الكتابة الشائعة في ذلك العصر. وبعد فأسلوب الجاحظ نتاج عقله وفكره أكثر منه نتاجا لروحه وعاطفته؛ هذا في رسائله العامة، أما في كتاباته الخاصة فقد كان يقصد إلى التنميق والتنويق، ويحفل بالديباجة المشرقة، ويعتد بالشواهد والأمثال يقحمها في ثنايا كلامه
اليوم الثالث
وفي اليوم الثالث تكلم الأديبان شوقي ضيف وعبد اللطيف حمزة؛ فتكلم الأول عن الجاحظ بين النقد والبلاغة فقال: لقد كانت مكانة الجاحظ في ذلك كمكانة أرسطو في الخطابة عند اليونانيين، وكان الجاحظ لا يكتب للخاصة فكان يعرف أن كتاباته في حاجة شديدة إلى التوابل لتقريبها لأذهان الجمهور.
ثم قال: والنقد لم يبدأ كفن إلا في العصر الأموي؛ وقد كانت الشعوبية هي أول حافز على النقد لأنها كانت حركة هدامة تشك في كل شيء، وكانت تشك في بلاغة الأدب العربي،
والشك في بلاغة الأدب العربي شك في بلاغة القرآن!
ثم جاءت بعد ذلك بيئة الأدباء واللغويين في المربد وغيره من أندية الثقافة فأدوا كثيرا في خدمة النقد والبلاغة، وقد اتصل الجاحظ بكل هذه البيئات واخذ عنهم. ونحن يصعب علينا أن نحدد ما للرجل في ذلك وان نميز أقواله من الأقوال التي اقتبسها
ومهما سكن من شيء فالجاحظ قد فصل الأدب عن الأخلاق وروى كثيرا من الأدب العاري. وكان يطلب من الكتاب أن يتثقفوا ولكنه لم يطلب من الشعراء ذلك. والحق أن الجاحظ كان ناقدا ممتازا، وكانت له طبيعة في ذلك؛ وكان حر الرأي فلم يقدم القديم لقدمه، ولم يرفض الحديث لحداثته. وكان عربيا ولكنه كان يحترم شعراء الشعوبية ويقدمهم فمدح بشاراً وأبا نواس وأمثالهم. ولقد كان الجاحظ بآرائه حرياً بان يخلق من حوله حركة أدبية حافلة لو أن النقاد تابعوه، ولكنهم انصرفوا عن ذلك واكتفوا بنقد النصوص نقداً لفظياً نحوياً ولغوياً.
وليس كتاب البيان والتبيين فيما أرى صدى لخطابة أرسطو وأنا لا أشك في أن الجاحظ لم يره، وما ذكره ابن النديم لا يفيد ذلك، وأن كان العرب قد وقفوا على شيء من الثقافة اليونانية والجاحظ لم يكن من رجال المنطق. وقد عابه قدامة بأنه لم يذكر أقسام البيان!!
وقد أثرت آراء الجاحظ فيمن جاء بعده، ولعل أهم هذه الآراء مسألة اللفظ والمعنى وقد أطال الجاحظ القول في هذه المسالة وهي عنده قبل كل شيء مسالة دينية لاتصالها ببلاغة القران. وقد اسقط الجاحظ قيمة المعنى وجعل اللفظ هو كل شيء؛ وقال إن المعاني مطروحة في الطريق لكل الناس يلتقطها العامي وغيره وقد فتن العلماء بعد الجاحظ بهذا الرأي ووافقوه عليه. وقلما نجد فيهم واحدا اهتم بالمعنى والبحث فيه، بل انهم اسقطوا المعنى ولم يروا له فضلا!!
ومن بعد ذلك أخذ الأديب عبد اللطيف حمزة في الكلام عن (الجاحظ المعتزلي) فابتدأ القول في نشأة الاعتزال، فعرض لحركة الحسن البصري في مسجد البصرة وما كان بينه وبين وصل، ثم قال: ومضت الدولة الأموية، واتت من بعدها العباسية، وجاء الفرس بمزاياهم وببلاياهم، وأقول ببلاياهم لأنهم جاءوا بالإلحاد والزندقة ورفعوا لواء الشعوبية ولا شك أن المعتزلة هم الذين استطاعوا أن يردوا هجمات الفرس وان يكبتوا الشعوبيين لأنهم تدرعوا
لذلك بالنقل والعقل والفلسفة والكلام فكان المعتزلة قوة كبيرة تجاه الزنادقة والملاحدة.
وبعد أن أورد الأصول المعتبرة عند المعتزلة وشرحها وحدد العلاقة بينها وبين غيرها من الفرق قال: وكان للمعتزلة مدرستان واحدة في البصرة والأخرى بالكوفة، وقد كان من أقطاب الأولى النظام ثم تلميذه الجاحظ، وكان المعتزلة على مقتضى تعاليمهم يتوارثون حرية الفكر فهم ولا شك جماعة أحرار الفكر كما يسميهم المستشرقون. وكان يطلق على كل اتباع رجل منهم اسم هذا الرجل فيقال النظامية لاتباع النظام والجاحظية لاتباع الجاحظ، ولقد كان لهم بحكم مهمتهم في كل ناحية من نواحي الفكر، فكانت حركتهم كما يقول الأستاذ احمد أمين - إرهاصاً لحركة فلسفية منظمة تولاها الكندي والفارابي وابن سينا وأشكالهم.
ولقد أخذ الجاحظ عن المعتزلة جميع مزاياهم، وكان بوقاً عظيماً لآرائهم يذيعها في الناس ويشرحها وقد ينتقدها ثم أشار إلى آثاره في ذلك فقال: إن اكثر رسائله قد ضاعت في أجواء العصور الخالية، وقد وصلنا بعض نصوص تدلنا على أن الجاحظ كسائر المعتزلة يطعن على أهل الحديث الحشويين وله رسالة في مدح النبي ورسالة في الاحتجاج للنبوة، ورسائل أخرى في الرد على اليهود والنصارى والرافضة وقد كانوا أعدى أعداء المعتزلة ثم له رسالة في فضيلة المعتزلة رد عليها ابن الراوندي برسالة سماها فضيحة المعتزلة وهي التي عنى بدحضها ابن الخياط في الانتصار.
ولكن مهما قيل في الجاحظ المعتزلي وأخذه بحرية الرأي لابد أن يكون له نظر في حرية الإرادة وهي مسألة المسائل بين علماء الكلام ومبعث الخلاف بين الفرق المختلفة، وقد كان الجاحظ كما عرفنا معتزلياً شديد الإخلاص لفرقته واكبر الظن أن الرجل قد وجد حلا لهذه المسالة في نظريه الطبيعيات. والظاهر أن الجاحظ قد طبق هذه النظرية على العالم الأخروي، وقد حمله هذا على الكلام في مسالة المعارف أو المدركات على أن مسألة الطبيعيات لم تكن من ابتداع الجاحظ ولكنه شرحها وبسطها وطبقها، وإنما هي لأستاذه النظام؛ وقد جاءت هذه النظرية عند بعض الفرق الأخرى، حتى نظرية العوارف التي أشرنا إليها قد انتهج الجاحظ فيها نهج أرسطو فالمظاهر التي يتجلى فيها اعتزال الجاحظ تبدو في تعصبه للمعتزلة والدفاع عن آرائهم والإشادة بفضلهم، وخصوصاً بفضل أستاذه
النظام، ثم في الأشياء التي عرف بها وخاصة رأيه في حرية الإرادة، وأخذه بحرية الفكر إلى ابعد حد، فان الدولة كانت لا تشجع على حرية الرأي لغير المعتزلة، ومن ثم نعرف أن الجاحظ لم يضف كثيرا لآراء المعتزلة ولكنه تولاها بالشرح والإذاعة.
(البقية في العدد القادم)
م. ف. ع
جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
للأستاذ خليل هنداوي
النظرية الفنية للعقل - الرمزية
بينا أخذ المذهب الطبيعي يضمحل ثم ينتصر بعض أعوام في القصة. كان مذهب جديد يذر قرنه في عالم الشعر والفن. هذا هو مذهب شعراء وفنانين كانوا يزعمون انهم لا يعلمون الأدب كله ولكن تأثيره أخذ يمتد، وحدوده بدأت تتسع، حتى اصبح مذهب العقل والحياة الباطنة، يؤثر في كل أشكال الفن، ويعمل في كل حقول الفن. هذا مذهب (الرمزية) الذي نبتت أصوله عند الشاعر (بودلير) وكان تأثيره (بودلير) أخذاً في الانتشار. ومن يجحد ما كان لبودلير من تأثير في شعراء (الرمزية) ولا سيما في الشعر الحديث الذي تهيمن عليه نفحات (بودلير). وهذه الرمزية الخفية تولدت من آثار (فرلين) ومن آثار (رامبو)
بول فرلين -
إحساس فرلين، خياله، فنه، تطوره
إحساس فرلين
لم يكن لفرلين خاصة معلومة من خواص العقل، لأن حياته لم تكد تقاد بتأملات عقله وإنما بغرائزه وإحساسه، ولم تكن لغرائزه من حاجة ولا غاية، وإنما هو الكسل والإخلاد إلى الدعة وطلب اللذائذ التي شغلته حتى لقي حتفه متسماً بالكحول. أما إحساسه فلم يكن عميقا ولم يكن معقداً. فبينما هو ينظم أبياتاً عاطفية على المذهب الوجداني إذا به ينكر الهوى والتشاؤم العاطفي. ولم يكن يتحرى عن السمو فيما ينشده وكان يجهل الدركات التي تنحط فيها الإنسانية في شدتها وفاقتها. يحب الحب ويترنم بالحب. وإذا لم ينشد اللذة البسيطة فهو لم ينشد أيضاً حب الأهواء. إن جد كان حلماً، والغواني اللواتي احبهن كن اقرب إلى الأوهام. وهذه الأوهام كانت عنده ظلالا وأشباحا. أحلامه هي قلق خفيف يتولد من طفولته، وإحساسه إحساس بسيط سرعان ما يسأم. يلبس حينا رداء الصدق وحينا رداء الكذب. فيه حياة وإبهام. وقد يكون اوجه وسطاً لو لم تسم به المخيلة والفن.
مخيلة فرلين
إن المخيلة الكلاسيكية والرومانتيكية هي التعبير عن المعاني بصور فهمها العقل وحللها، ويقدر على تحليلها أما مخيلة. (فرلين) فقد كانت مخيلة صافية أي أنها كانت تأسرها الصورة دون أن تجرب أن تفهم معنى الصورة. والشاعر يحس إن الصورة لها معنى وإنها تعبير عن حالة في النفس ولكن هذا التعبير ما هو إلا (مطابقة لها) إذ يصعب عليه أن يعبر عنها تعبيراً منطقيا. وهكذا تغدو المخيلة المحدودة بالتعابير المنطقية مخيلة تائهة شاردة. والأهواء الشاردة - عند فرلين - لا تغدو قاعدة أو مذهبا أدبيا. فان مخيلته الصبيانية تملك على أحلام صافية تعبر عن صور صافية. وتملك على أحلام أخرى يهيمن عليها نوع من النطق المشوش. وأحلام تلتحم مع أفكار صافية لتضيعها ثم لتجدها. وهكذا يبدو على أسلوبه الخيالي سيماء الأسلوب المدرسي، والأسلوب المتفكك. وليس لهذه المخيلة من قاعدة إلا الهوى والاختيار الباطني. هذه هو مذهب فرلين إحساس متحرك صبياني يلتقي بسرعة مع مخيلة سريعة الالتقاط للأحلام المتبدلة. إذ يرى واجبه أن يعبر عن هذه الرسالات السرية المحسوسة بشدة وحدة وهي تربط هذه الحركة بهذه الأوهام وهذه الانعكاسات بهذه الأشباح، يغمرها كلها ظلمة لا يمشي فيها نور. لأن روحه الشقية وعبقريته يجدان فيها الراحة والحياة وقد دأب فرلين على التأمل في الفن المدرسي وأصحاب هذا الفن، ذاهبا متحريا عن الفن الذي يستطيع أن يعبر عن نفسه لنفسه، وتخاطب نفسه به نفسه
فن فرلين
إن فرلين لم يبتكر كل شيء فقد تحرى شعراء قبله في أوقات مختلفة عن هذا الفن الرقيق، وفرلين نفسه لم يجحد ما كان (لبودلير ومدام ديسيور دفالمور) من تأثير فيه. كما انه تأثر بشعراء من الإنجليز، تلاهم ودرسهم يوم كان في إنجلترا. على إن بودلير ومن ذهب مذهبه كانوا يحاولون أن يقرأهم الناس ويفهموهم. وكانوا - في الساعات التي تتكاثف معانيهم - يصونون الوضوح في التعبير والتركيب والنحو. أما فرلين فقد ذهب غير هذا المذهب إذ أراد أن يكون إنشاؤه خفياً، وأراد أن يضع حجابا على لغته وأوزانه التي تعبر
عن حالات نفسه الخفية، وبهذا تراه - من اجل غايته هذه - خرق كثيرا من القواعد. فأنت ترى بعض عباراته تتقارب وتتلاحق - غنية عن عناء المنطق - بنغمة باطنية من الهوى الذي يغمرها. وحركتها لا تكون إلا إيقاعا موسيقياً لا يجد فيها الإعراب أسباب جملة صحيحة. وإنما هي جمل موسيقية لا جمل منطقية! على أن عبقرية فرلين تتجلى عي انه عمل على إيجاد أوزان باطنية موسيقية للتعبير عن خطرات النفس الباطنة تحل محل الأوزان الظاهرة وقد كانت عاطفته في ذاك دقيقة مرهفة، وذوقه عميقا في انتقاء الألحان الملائمة المنسجمة التي تعبر عن المعاني، وانك لتجد شعره - سواء كان صافيا أو مبهما - يبدو كأنه يتجرد من كل معنى. وينتهي من وصوله إلى العقل حتى ينسكب في رعشات إحساسنا الرقيقة
تطور فرلين
لقد كان (فرلين) من بدء حياته الشعرية هدفا لأطوار متباينة، ولقد يكون انتقاله من طريق المذاهب المدرسية اقل حركة لو لم يتصل (بالشاعر رامبو) الذي كان تأثيره فيه تأثيراً عميقاً. وقد اتصل به فرلين اتصالا وثيقا طوال سبعة عشر عاما. وهو الذي أوحى إليه بان يزدري هذه الحياة (العاقلة) الفن (العاقل) وهذه التأثيرات الرثة وقد عكف فرلين على شرب الكحول حتى أرعشت قوته، وطوت فتوته، فانتابته الفاقة والشقاء والموت وأصبحت عبقريته الشعرية لا تٍرسل إلا شعاعا. وأصبحت طريقته الموسيقية، من عهد - تمتمة ضيقة الأنفاس.
ارتور رامبو
نشأ (رامبو) نشأة شعرية، وكتب مقاطيع مختلفة على أساليب مختلفة. وقد حذا حذو (ليكونت دي ليل وبودلير وفرلين قبيل عام 1870 ولكن آثاره كانت تطغى عليها مخيلة محمومة ملتهبة تدفعه دائما إلى المجهول. وسرعان ما تلاشى عنده وجود العالم الحقيقي حتى أمسى عالما لمظاهر باطلة. إن الإحساس الحقيقي هو هو إحساس ابن صدفته وابن حادثه. . . هو الحجر المطروح في الماء،
أما ما هو اكثر اعتبارا فهو تلك الرعشات المترجرجة في الينبوع. هنالك حيث يبصر
العقل العادي - على شاطئ قناة مظلمة مصنعا للخمر يؤكد لنا (رامبو) بأنه يجد على ضفة نهر لامع معبداً! هذه الأوهام هي حقيقة الوجود. (وما عسى يغدو الوجود إذا خرجت منه؟) انه في هذا الوجود لغريبة طبيعية، في هذا الوجود الحقيقي وحده لا يبقى للمنطق المعهود إلا العمل. أما السحر الباطني فله طرائقه التي لا تفهم) ولكن الإنسان يحسها ويتبعها بطريقة خفيفة وحاجة خفية كما هو الحال في أجزاء خاتم غير متطابقة نراها طبيعية ضرورية. وإذا أردت الدخول في عالم الشعر فلا تطلب ذلك العالم البالي السائم الكاذب محاولا أن تعبر عن عالم الظواهر العملية، وإنما يجب أن تغادر هذا العالم وتفر منه إلى عالم جديد. فيه تتفتح الحقيقة الشعرية والأحلام الحية. . . وقد وجد رامبو إن اللغة العادية عاجزة كل العجز عن التعبير عن هذه الحقيقة الوهمية، فعمل على تنقيحها تنقيحاً فنيا، فافترض لكل مقطع لونا وحركة، وعمل لكل فعل معنى من معاني الشعر. وبذا تلونت الكلمات وأصبح لها أوقاع خاصة. . . والكلمة عنده أصبحت تتألف من الحان يجب أن ينظر في توقيعها الموسيقي لا في معناها، وهكذا أخذ شعر (رامبو) ينزاح من زمن إلى زمن عن تأثير الصور الواضحة والمنطق، واخذ يغدو كجوقة موسيقية للحلم الباطني بفصل أصوات (كلماته ورناتها.
المدرسة الرمزية
نشأت مدرسة جديد بتأثير (فرلين)(ورامبو) وفلسفة (شوبنهاور) وهذه المدرسة الجديدة اتخذت لها الرمزية اسما. وحقيقة أمر هذه المدرسة أنها نشأت ناقمة على الشعر التقليدي عاملة على خلق شعر جديد. أما تعاليم هذه المدرسة فليست من الواضح والترابط على شيء. وإذا شئنا أن نحلل معنى (الرمز) كما أرادوه لا يصل بنا ذلك إلا إلى كلام لا يغني! وإنما يفهم هذا الرمز ويفسر معناه العميق الحي من خلال آثار هذه المدرسة ونصوصها.
وأما مذهبها العام فهو إن الشعر إنما هو تعبير عن الإحساس لا عن عقل الشاعر. وهو يتجه إلى إحساس القارئ. الشاعر يعروه إحساس ما فيعبر عنه بلغة عقله فيدركه القارئ بلغة عقله بعد أن يكلف إحساسه بالاهتزاز! وفي هذه الأطوار نرى (التأثر) قد تغير وضعف وانعدم. أن الشعر الحقيقي ينبغي أن يكون اشتراكا مباشرا لإحساس مع إحساس. إذ يجب إلا يتوقف على عرضه والتحدث عنه وإنما يتوقف على (التلقين والإيحاء) كالوتر
يرن باللحن الذي يعطيه. . ويقول في هذا المعرض الشاعر (هنري دي ريني)(إن الشعر اصبح يهجر أسماله الخطابية القديمة التي ارتداها طويلا. اصبح لا يحلل شيئاً وإنما يلقن ويوحي. . .) ويقول مالارمي (أن تسميتك للشيء تذهب بثلاثة أرباع ارتياح الشاعر، وذلك الارتياح الناشئ عن طربه بالتنبؤ عن الشيء قليلا قليلا، إن التلقين هو الحلم) ولكي يدركوا هذه الغاية ولدوا طرائق مختلفة ففروا من الأشياء الواضحة أو انهم لم يبحثوا عنها، لأن جل الأحاسيس الشعرية في زعمهم مشوشة مفعمة بالصور المبهمة والأحاسيس التي لا يمكن التعبير عنها بجلاء إلا بعناء. ويقول (أنا طول فرانس)(لا شعر بلا معنى خفي) فمهنة الشاعر أن يتغلغل في هذه العوالم الخفية والأسرار المحجوبة، فيقرب هذه الخفقات الحية وهذه المعاني المبهمة. ويقول (دوهامل) في معرض كلامه عن (بول كلودل):(إذا كان كلودل خفياً مكتوماً فذاك لأن أبواب المواضيع التي يلجها إنما تعبر عن سر كبير هائل)؛ ولأجل التعبير عن هذه المعاني الخفية والأسرار المكتومة ذهب الشاعر إلى توليد الرموز؛ وليس الرمز في التشبيه والمجاز، إذا مر التشبيه والمجاز من العقل الذي يولدهما ويقبلهما، وإنما الرمز هو تلك الصورة أو جملة صور متتابعة أخذ بعضها بأعناق بعض يحس الإنسان مباشرة أو يحس ولا يدري سبب إحساسه بان هذه الصور لا تترجم عن شيء ولكنها تعبر - أو بعبارة أوضح تنطوي على الفكرة. والتأثير الشعري كالزهرة التي تفسر الغرسة التي هي منها وهي لا تشبهها.
ثم يغدو هذا الشعر الخفي الرمزي موسيقياً، وقد كان تأثير الموسيقى في الشعراء كبيراً في فرنسا. ولبثت الموسيقى تعد فناً بين الفنون حتى عام 1885، فالموسيقى تستطيع أن تستمد من الشعر، كما أن الموسيقي يغترف من معين وحي الشاعر. ولكنها لم تسيطر على بقية الفنون، ولكنها غدت في ذلك التاريخ الفن العتيد الذي يشرف على كل الفنون. ولقد طغت موسيقى (فاجنر) الجرماني على النوادي الأدبية. وهدت كثيرين من اتباعها إلى القدرة على التعبير الرمزي في الموسيقى. ومن ذلك الحين طفق الشعراء يعملون على ابتكار فن يؤثر رنين الألفاظ فيه تأثير الموسيقى دون أن يفتقر إلى العقل ليترجم معانيها، أرادوا أن يجعلوا من الشعر رقية، وهو لا يرتل ولكنه يرقى. . . وٍإذا تلوته يغدو موسيقياً.
وقد قال (كلودل) في مقدمته لآثار (رامبو) ملخصاُ مذهبه (بكلمات لا ينبغي أن تتحرى عن
معانيها وإنما تقنع بتلقينها الصامت) إذ قيمة اللغة - عندنا - فيما تشير إليه اكثر منها فيما تعبر عنه تعبيراً واضحاً. فالكلمات العرضية التي ترقى إلى العقل وترديد جملة دائمة قد تؤلف شيئاً من الرقية، ولكنها تنتهي دائما بتجميد الشعور. وظل الأشياء يقع رأساً على مخيلتنا ثم يأخذ يدور حول نفسه.
وقامت تجربة أخرى هي تجربة (الشعر الحر) فأن الشعر الفرنسي برغم ثورة الرومانتيقيين فقد ظل يرسف في قيوده وأوزانه، فعمل البعض من الرمزيين على الانطلاق والتحرر منها لاسيما الشاعر (غوستاف كاهن). . . المذهب الوحيد هو الموسيقى الباطنة والتعبير الرومانتيقي كان نوعا من هذه الموسيقى. . . وهنالك أنواع أخرى موسيقية يبتكرها التوليد وتخلقها النفس المستوحية.
مثلان من شعراء المدرسة الرمزية
هنري دي ريني
لم يكن (هنري دي ريني) شاعراً رمزياً إلا لأنه عاش في زمن الحركة الرمزية. ورويدا رويدا عاد إلى شعر فيه الروح المدرسية والبرناسية. وبذلك اختلط عليه الأمر وكان في كثير من مقاطيعه فاضحاً للمعاني الرمزية.
نفس الشاعر تنطلق بكليتها نحو حلم، حلم قصيدة من قصائد الرعاة حيث تجتمع أفراح الحواس والقلب والفن وتمتزج في رقة ناعمة صافية. حلم موطن بعيد يعج بالأشكال الإلهية والأفراح الشاعة ولذائذ الحياة. ولكن النفس الإنسانية نفس قلقة مضطربة والإنسان ابتكر الفكر والعلم والهوى والخطيئة. أراد أن يبدل الحياة وأن يستعيدها. فتحرى عن حقائقها المكتومة قي مظاهرها. وعن بقائها في فنائها وعن هم المستقبل في طرب الحاضر. وهذه تجربة عميقة مبتذلة أوحت إلى كثير من الشعراء والشاعر المدرسي عبر عن هذه الخطرات بأسلوب واضح وأفكار منطقية ولكن في طبيعة هذا الحلم الباطني اضطرابات وتموجات يحس بها قبل أن يبدأ العقل عمله.
فالحلم ينسل بين أمواج الخيالات الباطلة والقلق الراهن، وعواصف الحياة الحقيقية ترفعه من هذه الاضطرابات المفاجئة وتحيطه بظلال سوداء تنزلق. وليس في هذا مطابقات، لأن
هذه الخيالات إنما تصاغ بتأملات مركبة تركيبا سيئاً وهكذا يظل المقطع - بدون انقطاع - مشوشا يتجاذب الخيال الشعري والعقل الشعري، والصورة والرمز، ثم يغدو الشاعر كجنية سكرى بالحياة الناعمة الخالية من الفكر، والإنسان يغدو صديقاً كئيباً لعيون الأحلام والعلم وليس من الضروري أن يتناوب هذان الصوتان فقد يتعالى الصوت الواحد ممتزجاً بصدى مظلم ضجر يمل الصوت الآخر.
إننا لا نقدر أن نعرف هل يتركب الشعر من أحلام مزوقة ملفقة، أو من أخيلة الماضي والذكريات؟ أن ما نراه في مقاطيع الشاعر كائنات غير مثبتة، ليس لها أسماء ولا أوطان، لا هي أرضية ولا هي سماوية هي بعض كائنات، هي عابرات راحلات غريبات، ظلال، وجنيات، لا ندري هل زوقها الشاعر بحياة الأحلام أو بالحياة التي قضاها، ذلك ما لا ندريه ولا يدريه الشاعر. الشعر الرمزي يتولد من هذا الاهتزاز الغير المحسوس ويتم عمله حيث لا تلفيق ولا حقيقة، ولكن حقيقة ملفقة واحدة هي ابنة الحلم الباطني
على أن هذا الشعر الرمزي في كثير من الأحيان يتخذ له طريقة التعبير المدرسي وإذا كان تعبيره يظل مائعاً، وفكرته تبقى فكرة تلقين متحركة هادئة فان الصورة تخرج شيئاً فشيئا من الضباب الرمزي لكي تتوقع بأشكال موجزة رقيقة ولوحات جميلة، قصور تتآلف من ضباب وحدائق تغرس من أحلام حيث يخيل إلينا أن يداً مفكرة شالت تماثيل من رخام أواني من البرونز وطاقة من الزهر. ووردة واحدة ساطعة خافقة.
جول لافورج
يختلف تأثير شعر (لافورج) عن تأثير (شعر هنري دي ريني) فهو لا يعمل على أن يحيا في مثل أعلى من البساطة والجمال اليوناني، لقد غره شك يائس قاتم تسرب إليه من الشك الرومانتيقي وملأ قلبه يأساً. وساعد على ذلك ما ابتلى به من صحة معتلة وحظ انكد، لقد كان يطمع في أن يحيط عقله بأسرار هذا الوجود. فدرس كثيراً والتهم الفلاسفة التهاماً ولكنه عاد خائباً لأنه لم يجد في هذه التعاليم التي درسها إلا ظلاماً اتهاماً ومتناقضات! ورسا في ذهنه أن اقرب هؤلاء الفلاسفة إلى عقله هم من علموا (الجهل الإنساني) والوهم الضروري وانسياق الإنسان إلى مقادير عمياء. هؤلاء هم فلاسفة (اللا شعور) والقدرية منهم (هارتمان وشوينهاور). العاقل يجرب أن يصل إلى التنسك بشعوره بزوال هذه
الاخيلة، وبتأمله هذا العقل المضطرب اضطرابا أبدياً في هذه الجداول من الكواكب. إن هذا العقل لا يصرفه عن أن يكون شاعرا أي صارف والشعر - بين الأخيلة الباطلة - هو اقل هذه الأخيلة خداعا. وربما هبطت أغنية عليتا لحظة وهزت حظوظنا البائسة السوداء. يمكننا أن نفكر في يساء نواعم، لأن هذه الكائنات حسنة. أو أن نستدعي - كما فعل قيني - الأبواق: الأبواق الكئيبة. بشرط ألا نخدع بأوهامها؛ الشاعر ليس بإله ولا بساحر ولا بكائن يفارق البشر. الشاعر هو موقع، وموسيقي يحسن التوقيع والضرب على القيثار.
كل الشعراء أرادوا أن يترجموا الشعر، واختلفوا اختلافاً شديداً في كنه الشعر ولكنهم ظلوا على أرستقراطيتهم يحقرون الحقيقة لأنها حقيقة الشعب كما انهم خدعوا بالأوهام البهيجة. أما شاعرنا فهو لا يريد أن ينتقي أوهامه انتقاء هو يتقبلها كما هي وكما تتمثل له يتقبل منها على السواء ما ينير فيه كآبته وسامته. وما يذهله عن هذه الحياة في وادي الأحلام. يتقبل منها أوهام الحياة السطحية والأوهام التي تلتف بالكائنات لتسبر أغوارها وتكشف أسرارها
أن (لافورج) قد هدم قاعدة قوية في الفن هي قاعدة وحدة اللهجة الشعرية، وأثر تأثيرا كبيرا في بعض شعراء العصر الحاضر.
اتباع المدرسة الرمزية
تهاوت على المدرسة الرمزية سهام نافذة من النقد ونوزعت نزاعاً عنيفاً وما كاد القرن التاسع عشر ينصرم حتى فقدت هذه المدرسة مذهبها كمدرسة ولكنها مهما ذهب الأمر فيها فقد ساعدت على خلق أجواء جديدة من الفن والشعر تختلف عن الأجواء التي خلقتها المذاهب المدرسية والإبداعية والواقعية. هؤلاء تحروا عن مثلهم الأعلى في دلائل الحياة والأعمال والتجارب العلمية ووضوح الأشكال الفنية. هب علماء وفلاسفة يعلنون أن اليقين الذي حمله العلم إن هو إلا يقين الاصطلاح وأعمال الظواهر أما الحقيقة فلا تزال مكتومة. لم تنجح كل هذه الأسباب في إزاحة الستار عنها. وبهذا بدأ فشل العلم وبفشله فشلت الحقيقة الظاهرة. ولكي نجد الحقيقة سواء كانت الحقيقة الأخلاقية أو الاجتماعية أو الفنية ينبغي لنا أن نفلت من هذا العالم المحسوس الذي لا فائدة ترجى منه إلا الفائدة العملية هذا العالم الذي طالما خدعتنا مظاهره وبياناته الكاذبة وإذا كان للحقيقة وجود فهي موجودة في عالم خفي. .
وإنما على الفنان أو المبدع أن يذهب متحريا عنها في أطواء هذا العالم الخفي.
ولقد كان للمدرسة الرمزية اتباع وأنصار، اتخذوا الصحف الخاصة والمجلات الخاصة، يذيعون بواسطتها عن مدرستهم وآثار مدرستهم، ويردون بمكرهم مكر خصومهم واكبر هؤلاء الأنصار وأكثرهم ذيوعاً:
غوستاف كاهن: ومن آثاره الشعرية (القصور البدوية) وأغاني الحب ومسكن الجنية وكتاب الصور، وهو أول من كتب بلغة الشعر المنثور وجعل للشعر المنثور حدوداً وقواعد! وظل أسلوبه يغلب عليه الأسلوب المدرسي. وقيمة الرمز في شعره نشأت عن عواطفه التي أراد أن يتغنى بها، والتي تعبر عن ألوان النفس الناشئة كأنها رغبة محيطة مبهمة أو قلب دفين! ولكي يعبر عن هذه الألوان المختلفة لجأ إلى الرموز والتعابير المبهمة وكل ما فرضته الرمزية من أنواع التلقين.
و (جورج رودانياخ) الشاعر البلجيكي وهو ممن غلب على أسلوبهم الأسلوب المدرسي برغم ما تناول أسلوبه من معاني الرمزيين ومن آثاره التي نمت بالمدرسة الرمزية (مملكة الصمت) والحياة المسورة. هي مقاطيع تحف بها غفوات حالمة وهدءآت خفية. ونفوس يؤذيها الضجيج ومناظر قد يزورها الطرب أو الكابة تتمشى خلالها أخيلة النسيان والموت. ولقد كان لهذا الشعر الناحل المتزهد تأثير كبير.
و (بول فور) الذي أبدع (المسرح الفني) صاحب (الارانيم) وصاحب طريقة الشعر المنثور التي عاناها كثيرون قبله، فلم يستطيعوا أن يمرنوا على هذه الطريقة حتى جاء ابن بجدتها والضارب فيها كيف يشاء ولقد اخضع الإيقاع لوحي شعري حيث تتعالى الصور بدون أن تنفد طورا واضحة وتارة سرية محزنة، فيه شيء من الواقعية يمتزج مع التلقين الرمزي فتبقى المقطوعة الشعرية معلقة بين خيال الواقع وخيال الاسم كما أن (الإيقاع) يعلق بين الشعر والنثر.
(وفرنسيس جامس) صاحب ديوان (من صلاة الصبح إلى صلاة المساء) وانتصار الحياة. يغلب على أسلوبه هذا القتام الرمزي حيث ترى الرمز يدخل في السر والظل، ويغيب في الأحلام وجامس يرى الشعر - بخلاف غيره - في الأشياء البسيطة التي يلمحها وفي الحظوظ المتواضعة. وتظهر على شعره آثار الفاقة والمسكنة وها هو ذا يقول:
(الهي! دعوتني من الناس فها نذا جئت!
وكتبت بالكلمات التي ألهمتها أبي وأمي. . .
وقد يسخر القارئ من هذه البساطة في المعاني ولكن (جامس) اكتشف ينابيع حية ندية من الشعر. بساطة عميقة مؤثرة. فهو يحب ويجعلك تحب مثله سلامة السريرة والنفوس الشاقة، والحياة الهادئة الضعيفة للأشياء. والموسيقى الباطنة في وزنه وصورة حية من صوره وكلمة ملونة.
كل هذا تراه يعبر بك عن هذه الرقة التي لا تلمس، وعن الجمال الخفي في كل أثر من آثار المبدع الخلاق.
خليل هنداوي
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
زهرة الخشخاش
كنت فيما مضى أرسل عبيري على الأرقين فيرقدون، ولكن النوم لم يعد كافياً للناس في آلامهم، لم يعد الإنسان يكتفي بالوسن فهو يطلب الأحلام. لذلك كنت نسياناً فأصبحت أوهاماً.
لقد احتقر الإنسان عبيري المنوم فطمع بدمي المسكر، فهو يطعن قلبي بالنصال ويسقي من جراحي أشباح سلوانه.
لا تكاد زهرتي ترتفع عن التراب حتى أحس بالمسبر الجارح في قلبي مستنزفاً منه السائل المخدر يسكبه الناس في أحشائهم فيذهب بالأشباح إلى رؤوسهم.
عندما يرتشف الإنسان كأس دمي تستنبت روحه الأوهام أجنحة ترفعه إلى الأوج فإذا هو روح منعتقة من قيودها تقف لحظة في برزخ الحيرة ثم ترجع إلى أدراجها إلى الماضي أو تقتحم حجب المستقبل لترفرف على تذكاراتها أو آمالها.
مضى الزمن الذي كنت القي فيه ببذوري إلى الناس فيجدون بمنقوعها الوسن الهادي بعد منهكات الجهود، ذلك زمان كنت فيه مبعث الأحلام الهادئة الجميلة. ذلك زمان كنت فيه احمل الآمال الباسمة بالإيمان. فأقف إلى جنب فراش الأم لأريها سعادة طفلها. وأحوم حول فراش اليتيم لأريه أمه محنية فوق جبينه تهديه بركتها بقبلة سماوية.
في ذلك الزمان كنت زهرة التعزية أعيش بسكون وانقضي بسلام بعد حياة تنيرها بسمات الربيع.
من هدى الناس إلى دمى يستقطرونه شرابا يقتلهم ويقتلني ولكن على ما احزن. . . أفليس الشاعر أخي، أفليست أشعاره كدمي كلاهما يقبضان على الروح ويرفعان بها إلى أجواء الخيال.
أن شعر الشاعر ودم الخشخاش كلاهما السم القاتل أمن يجود بهما ولمن يسكر بهما.
لقد كان الخشخاش جالباً للنوم وكان الشعر منزلا للتعزية فما كلاهما اليوم إلا سيال للسكر والجنون.
(ف. ف)
19 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الجاهلية: شعرها، وعاداتها، ودياناتها
ترجمة حسن حبشي
ومهما يكن من أمر صاحب هذه القصيدة فان أبياتها تنضح بالوثنية، وأسلوبها يدل على ذلك، كما أن أهميتها القصوى تتضح لنا من أنها أثارت جوته بعد أن قرأ ترجمتها باللاتينية فقام بطبع ترجمة لها بالألمانية مع نقد جميل للشعر في (الديوان الشرقي - وفي هذه القصيدة نرى الشاعر يصور كيف يلج به الثأر لخاله الذي قتله هذلي، ويصف بطولة القتيل وخلقه والغزوة التي قام بها وانتصاره (الشاعر) في النهاية على خصومه وظهوره عليهم فيقول:
إِن بالشِّعب الذيِ عندَ سَلْعٍ
…
لقَتيلا دَمُه ما يُطَلُّ
خلّف العِبَْء عليّ وولى
…
أنا بالعِبْءِ له مستقل
ووراء الثأرِ مني ابنُ أختِ
…
مَصع عقْدَتهُ ما تُحَل
مُطرِق يَرشح سَماً كما أطْ
…
رَقَ أفْعَى يَرْشح السُمَّ صِلُّ
خَبر ما نابَنَا مُصْمَئِلٌّ
…
جلَّ حتى دَقَّ فيه الأجل
بزَّنى الدهرُ وكان غَشوماً
…
بأبيٍ جارُه ما يُذَل
شامس في القُرِ حتى إذا ما
…
ذَكّتِ الشِّعرَي فَبرْد وظِل
يابسُ الجنبينِ مِن غير بؤس
…
وندِي الكفين شهْم مُدِل
ظاعن بالحزْم حتى إذا ما
…
حلّ: حلَّ الحزْم حيث يَحُل
غيث مزْنٍ غامر حيْث يُجدِي
…
وإذا يَسْطو فليْث أبل
مسبل في الحيِّ أحْوى رِفِل
…
وإذا يغْزُو فسِمْع أزَل
وله طعمان أرْى وشَرْى
…
وَكِلا الطعْمَينِ قد ذاقَ كل
يركبُ الهوْلَ وحيداً ولا يَصْ
…
حُبُهُ إلا اليماني الأفَل
وفتُوٍّ هَجِروا ثم أسْرَوْا
…
ليلهم حتى إذا إنجاب حلوا
كلّ ماض قد تردَّى بماض
…
كسَنا البرقِ إذا ما يُسل
فأدَّرَكْنا الثَّأرَ منْهُمْ ولمَّا
…
يَنْجُ مِ الحيَّين إلاَّ الأقلُّ
فاحتْسَوْا أنفاسَ نوْم فلمَّا
…
هوَّموا رُعْتُهُم فاشْمَعلُّوا
فَلئِنْ فلَّتْ هُذَيل شَباهُ
…
لبما كان هذيْلاً يَفِل
وبمَا أدْرَكَهَا في مَناخٍ
…
جَعْجعٍ ينْقُبُ فيهِ الأضّل
وبمَا صَبَّحَها في ذُرَاها
…
منْهُ بعْدُ القتْلِ نَهب وشَمل
صليَتُ منى هُذيْل بِخرْقٍ
…
لا يَمل الشّرَّ حَتى يَمَلوا
يُنْهلُ الصَّعْدَة حتى إذا مَا
…
نهِلَتْ، كان لها منهُ عَل
حلتِ الخمر وكانت حرَاماً
…
وبلاْيٍ ما ألَمَّتْ تحُلْ
فاسقِنيها يا سوادَ ابنَ عمرو
…
إني جسمي بعد خالي لخَل
تضحكُ الضبْعُ لقتلى هُذيْلٍ
…
وترى الذيب لها يَسْتَهل
وعِتاقُ الطيرِ تَغدو بِطاناً
…
تتخطاهم فما تستْقل
ولم تكن الفضائل التي استوعبها العربي عن الشرف معدودة كأنها صفات شخصية فطرية أو مكتسبة، بل إرثاً ورثه الخلف عن السلف منذ القدم، ولا بد له من أن يحافظ عليه تماماًً حتى يسلمه إلى أبنائه دون أن تشوبه شائبة ما، ولم يكن الأمل، في الخطوة بخلود النفس هو ما يحفز الشاعر العربي لأن (يقول القول ويفعل فعال الشرف)، بل كان الرغبة في أن يقاسم أسلافه ذكرهم، وينافسهم صيتهم. وهو بهذا ابعد ما يكون عن الفلاح الاسكتلندي، حين يقول في مثله الدارج (الإنسان بشخصه أياً كان اصله) لأنه كان ينظر نظرة الشك والريبة إلى هذه الجدارة التي ليس لها اصل مأثور عند الآباء:
ومَا تَسْتَوِي أحسَابُ قوٍم تُوُرثَت
…
قديماَ وأحسَابُ َنبْتنَ معَ البقْلِ
وإن الحسب عندهم أشبه بحصن حصين قد جد في إقامته الآباء للأبناء أو كجبل شامخ يضرب بقنته في أجواز الفضاء، يرتد عنه مهاجموه بالفشل دون أن ينالوا منه شيئاً، وكان الشعراء يعرفون جيداً المفاخر والمثالب فيتشدقون بالأولى بشرف أجدادهم وكرم أرومتهم، ويتخذون الثانية أداة ينالون بها من أعدائهم دون رعاية أو اهتمام بقواعد الأدب والحشمة.
لقد وجهت عنايتي أن أورد في هذا المجال بعض الصفات الخاصة للشعر العربي إذا ما
قورن بالشعر العبري أو الفارسي أو الإنكليزي، ولكن لما كان إيراد الأمثال ذا جدوى غير منكورة فإني أبدأ حالا بالتكلم عن القصائد الشهيرة بالمعلقات التي تحتل مكانة سامية وذروة رفيعة في الأدب العربي.
الأرجح أن كلمة معلقة قد اشتقت من قولهم (عِلق) أي الشيء النفيس الثمين العالي المستوى. إما لأن الإنسان يتعلق بها تعلقا شديدا، أو لأنها تعلق في مكان شريف أو بين واضح كبيوت المال أو في خزائن عامة وعلى مر الزمن تنوسي المدلول الحقيقي لكلمة معلقة، وأصبح من الضروري إيجاد تفسير مقبول منصوب لها وهنا ظهرت الخرافة التي أصبحت فيما بعد مألوفة لطول تكرارها وكثرة استعمالها، والتي تزعم أن تسمية المعلقات بهذا الاسم، راجعة لتعليقها بأستار الكعبة تقديرا لفضلها الذي قضى لها به المحكمون في عكاظ على مقربة من مكة؛ حيث يجتمع الشعراء متنافسين في إنشاد أروع ما دبجته قرائحهم، وأنها كانت تكتب بماء الذهب، على القباطي الواردة من مصر قبل تعليقها على الكعبة.
(يتبع)
حسن حبشي
-
لمحة. . .!
للسيد عمر أبو ريشة
أوقفي الركب يا رمال البيد
…
انه تاه في مداك البعيد
ظمئت نوقه وجف فم الحا
…
دي وغصت لهاته بالنشيد
والأشداء يلهثون كخيل ال
…
غزو عادت من يومها المشهود
عصفت في جفونهم ريحك الهو
…
جاء والشمس عربدت في الخدود
والصبايا من الهوادج ينظر
…
ن إلى الأفق نظرة المفئود
ليس يبصرن منك غير هضاب
…
في هضاب مبعثرات الحدود
غابت الشمس يا رمال وهذا ال
…
ركب في قبضة العياء الشديد
وخبا الليل يا رمال ال
…
ركب أخنته وطأة التسهيد
فهوى فاقد الرجاء يرى المو
…
ت مشيحا بمنجل من حديد
فتراءت إليه نار على البع
…
د فكانت إيماءة للشريد
فسرى في سنائها فأطلت
…
خلفها مكة الفخار التليد
يا عروس الرمال يا قبس التا
…
ئه في مهمه الضلال المبيد
أمَن الركبُ في جمالك فردي
…
هـ إلى ذكريات تلك العهود
يوم أرخى على جوانبك الوح
…
ي جناحين من سماء الخلود
حاملا آية النبوة ما بي
…
ن شفاه علوية التأييد!!
صَباها قبله على فم طفل
…
قرشي النجار سامي الجدود!
وحواليه من حمام الفرادي
…
س حسانٌ مرنَّحات القدود
ساحبات بيض البرود كما لو
…
جمد النور فوق تلك البرود
يتزاحمن وإثبات ويلثم
…
ن من الشوق مبسم المولود!
فإذا بالسماء تهمي تسابيح
…
وتدوي أصداؤها في الوجود
وإذا الكون بعد عيسى تعرى
…
نصب عيني محمد من جديد!!
درج الطفل والهداية تحبو
…
هـ بتاج من السناء فريد
(وبحيرا) في الدير يضرب في ال
…
ناقوس بشرى بالسيد المنشود
والذؤابات من قريش سكارى
…
في هوى الجاهلية العربيد!
هتكت كبرياؤها سنن العق
…
ل وصالت بشرعها المردود
كم بنات لم تنفطم وأدتها
…
كفُ باغ على القضاء عتيد
كم وراء الجدران في الكعبة العص
…
ماء من عابد ومن معبود
جلجلت صرخة النبي فردَّت
…
رجع أصدائها أعالي النجود
وأشاحت يسراه بالمعول الصلد ويمناه بالكتاب المجيد!!
فتهاوت تلك الصفوف من الأص
…
نام عن أوج عرشها المعقود
وتبارت - الله اكبر تعلو
…
من شفاه المؤذن الغريد!!!
أخذت غضبة البداوة تخبو
…
بعد إعنات ضلة وجحود
إنها النفس لا تبدل طبعا
…
الفته فكيف نفس الحقود
ومن الصعب أن يشاهد أعنى
…
قبس الحق في الليالي السود
يوم (بدر) فض النزاع وبث ال
…
رعب في كل أشهب صنديد
فقريش مغلوبة وأبو سف
…
يان في شبة رجفة الرعديد
والميامين في المدينة يطوو
…
ن سيوف السلام طي الغمود
فأتم النبي آيته الكبرى
…
على شعبه الكريم الودود
وانطوت تعدها الهيولي فثارت
…
فتنة في النفوس ذات وقود
وتلاشت كأنها حلم الذع
…
ر بجفن المسهد المكدود!!
الفجاءات كم تزلزل عزماً
…
وترد الرشيد غير رشيد!!
دفقت موجة الهدى تغسل الشر
…
ك وتروي النفوس بالتوحيد
وتبث الوئام والحب والرح
…
مة ما بين سيد ومسود
مذهب ضجت الأعاجم منه
…
وتعاموا عن شرعه المحمود
ورأوا فيه ما يدك عروشاً
…
شيدوها بالظلم والتهديد
فرمت بالكتائب الخرس (روما)
…
وبأبطالها الغزاة الصيد
وطغى الهول والكتائب ماجت
…
في خضم من القنا والبنود
فأطلت تلك الفلول من العر
…
ب بعزم النبوة المشدود
وانحنت فوق ضمر تعلك اللج
…
م وتنزو مجنونة في الصعيد!
وأغارت ترمي الفوارس رمياً
…
وتحز الوريد أثر الوريد
كلما انهار حائط من جنود
…
اتبعته بحائط من جنود
وضفاف (اليرموك) ترسل منها
…
زمزمات الحداء لابن الوليد!!
جولة ترعف الصوارم فيها
…
وتصيح الأكف هل من مزيد
جولة كفَّنت بها الروم حلماً
…
بين أنقاض صرحها المهدود!!
وكأن اندحارها لم يرد (ال
…
فرس) عن نشر بغيها المعهود
سخرت كل فيلق كسروي
…
لم يذق قبل نكبة التشريد!
مزقته في القادسية تلك ال
…
بيض والسمر في اكف الأسود
إن طود الرمال تحمله الريح
…
وتذريه في الفضاء المديد
بسطت كفها الهداية والشر
…
ق تفيَّا بظلها الممدود
رافعاً مشعل الحضارة والغر
…
ب صريع في غفوة من جمود
إن في الشام من معاوية
…
السمح بقايا من الدهاء السديد
وببغداد مسحة من نعيم
…
تتغنى بذكريات (الرشيد)
وبغرناطة من الملك النا
…
صر آثار روعة (للنشيد)
أمة يعربية تركت في
…
مسمع الدهر آية التمجيد؟
إنما عقلها البنون فزجوا
…
بالمروءات في بطون اللحود
أسكرتهم لذائذ الترف الأه
…
وج عن يقظة القضاء العنيد
وتلوَّت ما بينهم تنفث ال
…
سُمّ أفاعي حفائظ وحقود!
وتناسوا ما بثه السيد الأع
…
ظم من سنة الوئام الأكيد
وخبت نارهم وصُبَّت عليهم
…
عاصفات التعذيب والتنكيد
فإذا جبهة الشموخ لطيم
…
تتنزى بالجرح عند السجود
وانتهت سيرة الجدود إلينا
…
فجررنا القيود أثر القيود
والتفتنا فلم نجد غير ملك
…
مزقته أصابع التبديد
ونهدنا للذود عنه ولكن
…
ما حملنا غير الإِباء الحميد!
ورجعنا فكم جريحا كئيب
…
يتلوا وكم قتيل شهيدا!!
يا عروس الرمال يا قبس التا
…
ئه في مهمه الضلال المبيد
نحن في هذه البلاد كذاك ال
…
ركب غشى في طالع منكود
انظري فالجموع شاخصة الأب
…
صار ترنو إلى ضياك الوحيد
فأمددي الكف للكرام فغبن
…
أن تعيش الكرام عيش العبيد!
(حلب)
عمر أبو ريشة
-
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الطفل والزواج
لي سؤال أخصك به لأسبر أعماق روحك يا أخي:
- أنت في مقتبل العمر وتتمنى أن يكون لك زوجة وولد، ولكن قل لي الست الرجل الذي يحق له هذا التمني؟ أأنت الظافر المنتصر على نفسه، الحاكم على حواسه السائد على فضائله؟ أم أن تمنيك هذا ليس إلا شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه وبين نفسه؟
إن ما أريده منك هو أن تتوق بانتصارك وحريتك إلى التجدد بالولد إذ عليك أن تقيم الأنصاب الحية لانتصارك وحريتك، فترفع هذه الأنصاب إلى ما فوق مستواك. وهل بوسعك أن تفعل إذا لم تكن منين البنية من رأسك إلى أخمص قدميك؟
ليس عليك أن ترسل سلالتك إلى الأمام فحسب، بل عليك بخاصة أن ترفعها إلى ما فوق فليكن عملك في حقل الزواج منصبا إلى هذه الغاية.
عليك أن توجد جسداً جوهره أنقى من جوهر جسدك ليكون حركة أولى وعجلة تدور لنفسها على محورها، فواجبك إذاً إنما هو إبداع من يبدع.
ما الزواج في عرفي إلا اتحاد إرادتين لإيجاد فرد يفوق من كانا علة وجوده. فالزواج حرمة متبادلة ترسو على احترام هذه الإرادة.
ليكن هذا معنى زواجك وحقيقته أما ما يدعوه الدخلاء الأغبياء زواجاً فأمر أحار في تصريفه؛ فما هو إلا مسكنة روحية يتقاسمها اثنان، ودنس يتمرغ به اثنان ولذة بائسة تتحكم في اثنين، ولكن الدخلاء يرون في مثل هذا الزواج رباطاً عقدته السماء
وما أنا بالمرتضي بمثل هذه السماء، سماء الدخلاء أطبقت شباكها عليهم، تباً لهاً وسحقا لمثل هذا، الإله الذي يتقدم متراجعا ليبارك اثنين لم يجمع هو بينهما.
لا يضحكنكم هذا الزواج، فكم من طفل من حقه أن يبكي على أبويه
رأيت رجلا وقورا فحسبته بالغا من النضوج ما يدرك به معنى الأرض، ولكنني رأيت امرأته بعد ذلك فلاحت لي الأرض كأنها مأوى المجانين. أود لو تميد الأرض بي عند ما أرى رجلا فاضلا يتخذ له زوجة حمقاء. من الناس من يتجرد كالأبطال سعياً وراء الحقائق فلا يلبث حتى يصطاد رباطاً مزيفاً يدعوه زواجاً ومنهم من اشتهر بحذره في علاقاته وبصرامته في اختياره، فإذا هو بين ليلة وضحاها قد افسد حياته ووقف يدعو هذا الإفساد زواجا. ومنهم أيضاً من كان يفتش عن خادمة لها فضائل الملائكة، فإذا هو ينقلب فجأة خادما لامرأة وقد حق عليه أن يتصف هو بالفضائل الملائكية.
فتشت في كل مكان فما رأيت إلا مشترين يقلبون السلع وعيونهم تتدفق مكراً، ولكن امكر هؤلاء الناس لا يتوصل في آخر الأمر إلا إلى ابتياع هرة يدسها في جلبابه.
إن ما تدعونه عشقاً إنما هو جنون يتتالى نوبة بعد نوبة حتى يجئ زواجكم خاتماً هذه الحماقات بالحماقة المستقرة الكبرى. ويا ليت حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل كانا إشفاقاً يتبادله إلهان يتألمان، ولكن هذا الحب لا يتجلى في الغالب إلا تفاهما بين إحساس حيوانين وما خير الحب لو تعلمون إلا تحول واضطرام في ألم وخشوع إن هو إلا المشعل ينير أمامكم مسالك الاعتلاء وسيأتي يوم يتجه فيه حبكم إلى مقر ابعد وارفع من مستقر ذاتكم لقد بدأتم بتعلم الحب لذلك ترتشفون الآن المرارة الطافية كالحب على كأسه.
إن في كاس كل حب إطلاقا وحتى في كاس أرقى حب مرارة لابد لكم من تجرعها؛ وهذه المرارة هي التي تنبه فيكم الشوق إلى الإنسان الكامل وتلهب فيكم الظمأ إليه أيها المبدعون إذا كان هذا الظمأ هو الذي يدفع بك إلى طلب الزواج يا أخي وإذا كنت تشعر بشوقك يندفع كالسهم نحو الإنسان الكامل فإنني اقدس إرادتك واقدس زواجك
هكذا تكلم زارا. . .
تخير الموت
كثير من يتأخرون في موتهم، وكثير من يبكرون. فإذا قال قائل للناس بالموت في الزمن المناسب رفعوا عقيرتهم مستغربين. وزارا يعلم الناس أن يموتوا في الزمن المناسب. ولكن إن لمن يعرف الحياة أن يتخير الموت في أوانه؟
أفما كان خيرا للدخلاء على الحياة لو انهم لم يولدوا ولكن هؤلاء الدخلاء يريدون أن يولي
الناس أهمية كبرى لموتهم، وكم من نواة تباهي بأنها كسرت وهي جوفاء. . . انهم يعلقون أهمية على الموت لأنهم ما عرفوا بهجة الموت فالناس لم يعرفوا حتى اليوم كيف يقدسون أبهج الأعياد. ولسوف أنبئكم بالموت الذي يقدس، الموت الذي يدفع الأحياء ويجتذبهم بحوافزه وآماله إن من اكمل عمله يأتي ظافرا وحوله من يحفزهم الأمل وتنطوي فيهم الأماني. تعلموا أن تموتوا هكذا، ولكن اعلموا أن لا ظفر لمن يموت إذا هو لم يبارك ما اقسم الأحياء بإتمامه.
تلك هي الميتة الفضلى، تليها في المراتب ميتة من يسقط في المعركة وهو ينشر عليها عظمة روحه غير إن ما يحتقره المجاهدون والظافرون على السواء إنما هو ميتتكم الشوهاء التي تزحف لصا وتتقدم أمرا مطاعاً
ما اجمل ميتتي إذا أنا تخيرتها فجاءتني لأنني اطلبها
ولكن متى يجدر بالإنسان أن يطلب الموت؟
إن من يتجه إلى مقصد في الحياة وله وريث وجب عليه أن يتمنى الموت في الزمن المناسب لغايته ولوريثه، لأنه يأنف حرمة لهما من أن يلقي بالأكاليل الذابلة على هيكل الحياة
إنني لا أريد أن احبك الخيوط وانسحب إلى الوراء كمن يفتلون الحبال.
من الناس من لا يتجاوز بأعمارهم الحد اللائق بالحقائق والظفر، وخليق بالفم المجرد عن أسنانه ألا يتناول بيانه جميع الحقائق. على الطامحين إلى الظفر أن يودعوا الأمجاد في الزمن المناسب ليتمرنوا على فن الرحيل عن الدنيا في الزمن المناسب أيضا، ومن واجب المرء أن يتوقف عن عرض نفسه للآكلين عندما يكفون عن تذوقها ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من يود الاحتفاظ بمحبة من حوله. ولكن من الأثمار كالتفاح من تقضى طبيعته الحامضة عليه أن ينتظر النضوج إلى آخر أيام الخريف، فإذا هو ماثل للنظر باصفرار الشيخوخة وتجاعيد أساريرها.
ومن الناس من يدب الهرم إلى قلوبهم أولاً، ومنهم من يدب الهرم إلى عقولهم، ومنهم من يشيخون في ربيع الحياة غير أن من يبلغ الشباب متأخراً يحتفظ بشبابه أمداً طويلا.
ومن الناس من ضلوا السبيل في حياتهم، فأضاعوا عمرهم؛ فعلى هؤلاء أن يعملوا على
بلوغ التوفيق في موتهم على الأقل. وهنالك أثمار لا تنضج لأنها سهراء في الصيف ولكنها تبقى معلقة بأغصانها لأن جبنها يصدها عن السقوط هكذا نرى في العالم أناساً يلتصقون التصاقا باغصانهم فهل من عاصفة تهب على الشجرة لتسقط ما عليها من أثمار تهرأت ورعى الدود قلبها؟ ليتقدم دعاة الموت العاجل وليهبوا كالعاصفة على دوحة الحياة غير إنني لا أرى غير دعاة للموت البطيء يعظون بالصبر واحتمال كل مصائب الأرض.
إنكم تدعون إلى مكابرة الأرض ومجالدتها، أيها المجدفون والأرض صابرة عليكم صبرها الجميل.
والحق أن ذلك العبراني الذي يمجده المبشرون بالموت البطيء قد مات قبل أوانه، ولم يزل جم غفير يعتقد بان ميتته المبكرة كانت مقدورة عليه
وما كان هذا المسيح العبراني قد عرف إلا دموع قومه وأحزانهم وكيد أهل الصلاح والعدل، لذلك راودته فجأة شهوة الفناء.
ولو انه بقى في الصحراء بعيدا عن أهل الصلاح والعدل لكان تعلم حب الحياة وحب الأرض، ولكان تعلم الضحك أيضاً.
صدقوني، أيها الاخوة، إن المسيح قد مات قبل أوانه، ولو انه بلغ العمر الذي بلغت، لكان جحد تعاليمه، وقد كان له من النبل ما يكفيه لاقتحام العدول عنها. ولكنه لم يبلغ النضوج، ولم تبلغه المحبة في الشباب، فكره الناس وكره الأرض وهكذا بقيت روحه مثقلة ولم ينشر جناحه المهيض إن في الرجل من الطفولة ما ليس في الشباب، فالرجل الناضج اقل حزنا واقدر على فهم الحياة والموت، لأنه يشعر بحريته للموت وبحريته في الموت، وإذا امتنع عليه أن بثبت شيئاً أنكره.
حاذروا أن يكون موتكم تجديفاً على الأرض والإنسان أيها الصحاب تلك هي النعمة التي استجديها من وداعة روحكم
ليرسل فكركم وفضيلتكم آخر أشعتهما في احتضاركم كما ترسل الشمس الغاربة آخر أنوارها على الأرض، وإلا فأن ميتتكم ستكون فاشلة. إنني هكذا أريد أن أموت ليزداد حبكم للأرض من اجلي، أيها الأصحاب. أريد أن أعود إلى الأرض التي خلقت منها لأجد الراحة في أحضانها.
لقد كان زارا يرمي إلى هدف وقد أطلق سهمه الآن فارموا إلى هذا الهدف بعدي، لأنني من أجلكم أطلقت سهمي الذهبي. فما اشتهي شيئاً اشتهائي أن أراكم تطلقون سهامكم الذهبية أيضاً، ولسوف لبقى على الأرض قليلا لأمتع عيني بهذا المشهد، فاغتفروا لي هذا التخلف إلى حين
هكذا تكلم زارا. . .
القصص
من القصص العربي
حديث سمر
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
على بساط من رمل الصحراء الأحمر، وفي ثنية من ثنايا الجبل السامق نحو السماء، وفي جو رخاء يتموج في جوانبه نسيم العشية البليل، أخذ القوم مجلسهم كالعادة يسمرون ويتفكهون! انهم فتية شبوا في ظلال الخفض والرفاهية، لم يثقلهم من الدهر هم. ولم يشغلهم من الحياة شاغل، فكلهم في بيته سليل المجد، وربيب النعمة وأخو الفراغ والجدة وكانوا من العمر في طور الشباب تغمرهم الأماني الواسعة وتستخفهم الأحلام اللذيذة، فالدنيا ما زالت في نظرهم حلوة خضرة، تتراءى لهم كالعروس قد جلتها يد الماشطة الصناع، فكلها إغراء وكلها فتنة، فتمردوا على العشيرة. وخرجوا على المجتمع، وجمعوا شملهم بالصداقة، وأقاموا الإخاء فيهم مقام القرابة، وشردوا عن أهلهم إلى البيداء، حيث مجال الحرية الواسع ومراد النظر السادر، وميدان الركض الفسيح!
وكان من عادة القوم أن يسمروا في بيدائهم، وكانوا يجرون في سمرهم على نظام متبع، وحياة رتيبة، فهم في كل أمسية حول واجد منهم يسري عنهم بالنادرة البارعة، ويفكههم بالملحة الشاردة، وكثيرا ما ينثني بهم نحو الماضي المنصرم، فيقص عليهم من ذكرياته الحلوة الطيبة، ومصادفاته الغربية
وها هم أولاء قد أخذوا مجلسهم على عادتهم في نظام واجد وأنصتوا. انتصب ذاكر منهم كان عليه حق الجماعة، ومن واجبه (حديث السمر) في تلك الليلة فقال: لقد انحدرت مع قومي فيما سلف من الزمن إلى بغداد، فاكترينا داراً شارعة على أحد الطرق المعمورة بالناس، وكنا في عيشنا نجري على طبيعة الدهر من الرخاء والبؤس، فمرة يغمرنا اليسر والرغد وطوراً يشملنا العسر والفاقة! لله تلك النفوس الطيبة يا إخوان؛ لقد كنا لا ننكر أن تقع مؤنتنا على واحد منا إذا أمكنه؛ ولقد يبقى الواحد فينا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول، وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، وانحدرنا إلى اسفل الدار،
ننتهب اللهو، ونهتاج العواطف بالطرب، فإذا ما عدمنا ذلك انصرفنا إلى غرفة نتمتع منها بالنظر إلى الناس، ولكن لا اعرف أن النبيذ خلا من أيدينا على أية حال.
فأنا لفي يوم من الأيام، صادفنا فيه افتقار القوت، وسعدنا منه بوفرة النبيذ وإذا بفتى يطرق علينا الباب طرقا، فلما صعد إلينا بعد الإذن ألفيناه حلو الوجه سري الهيئة، ينبئ رواؤه عن الخير، ويدل مظهره على النعمة، ابتدأنا بالتحية واستمر يقول: لقد سمعت بمجتمعكم، وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم. وعلمت كأنما أدرجتم في قالب واحد، فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموني، وخذوني بأوضاع الاخوة لا بواجب الضيافة، فكنا في انس بلقياه، ونشوة من حديثه، ولكنا كنا أيضاً في هم وفكر من تدبير القوت له والحصول على الزاد الواجب لغذائه.
ولم يمضي كثير حتى أشار الفتى إلى غلامه فوضع بين أيدينا سلة خيزران فيها طعام المطبخ من جدي ودجاج وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب وخلة، وأجبنا صاحبنا إلى ما طلب من حق الأخوة فلم نحتشم طعامه فحططنا فيه، ثم أفضنا في الشراب وأفضنا في الحديث، وانبسط الفتى معنا في الكلام فإذا به أحلى خلق الله إذا حدث، وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وامسكهم عن ملامة إذا خولف. ثم أفضينا منه - على طول المقام - إلى اكرم محالفة، واجمل مساعدة، وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء يكرهه فيظهر لنا أنه لا يحب غيره. نطالع ذلك في إشراق وجهه. وانبساط أساريره، فصرنا نغنى به عن حسن الغناء، وشغلنا بأخباره وآدابه، وشغفتنا نوادره وآماليحه، ومع ذلك فما وقفنا على اسمه، ولا حققنا نسبه، وإنما عرفناه بأبي الفضل، وكنا ندعوه بذلك
وجلس في يوم يطرفنا بنوادره ويقص علينا شيئاً من تاريخه فقال: ألا أخبركم بم عرفتكم، ولماذا آثرت صحبتكم؟ قلنا: أنا لنحب ذلك ونطمع فيه، قال: لقد أحببت جارية في جواركم، فشغفت نفسي حبا، وتدله قلبي في هواها! فكنت اجلس في الطريق التمس اجتيازها فاراها! ودمت على ذلك حتى اخلقني الجلوس على الطريق، وأنكرت من نظرات السابلة، ورأيت غرفتكم هذه، ووقفت على خبركم في العيش وأخذكم بالائتلاف والمساعدة، فكان الدخول فيما أنتم فيه اسر عندي من تلك الجارية!
فقلنا: هون على نفسك يا ابن العم، وتمن في تحقيق مأربك، وسنجد في اختداع الفتاة حتى
تصير إليك! فقال: حسبكم يا إخوان: إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراما قط، ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها، وبغير هذا لا يكون الوصول إليها مني على بال.
وأمضى الرجل في اخوتنا شهرين فكنا في اغتباط بقربه، وانس من صحبته، ثم خالسنا الفراق على غفلة فنالنا بذلك ثكل ممض، ولوعة مؤلمة، وما كنا نعرف له منزلا فنلتمسه، لا بابا فنطرقه. فوالله لقد كدر علينا بعده بقدر ما طاب لنا بقربه، وجعلنا لا نرى سرورا ولا غما إلا ذكرناه لأفضال السرور بصحبته وحضوره، والغم بمفارقته وغيابه، فكنا فيه كما قال الشاعر:
يذكرنيهم كل خير رأيته
…
وشر، فما انفك منهم على ذكر
وتصرمت على غيابه عشرون يوماً وكأنها الدهر، وما لنا مطمع في لقياه ثانية، فأن فترات الصفو محدودة، والحياة ضنينة في إرجاع ما كان، فبينا نحن نجتاز الرصافة يوما إذا به يطالعنا في موكب نبيل، وزي جميل، وما ابصر بنا حتى انحط عن راحلته وانحط غلمانه، وإني ما زلت المحه في أعطاف الماضي وهو مقبل نحونا في لهفة يقول: والله يا إخواني ما هنا لي بعدكم عيش، ولا طاب لي انس، ولا عرفت في نفسي معنى الصفو، ولست أماطلكم بخبري فإني أتبين فيكم اللهفة إلى ذلك فميلوا بنا إلى المنزل وهو قريب، فملنا معه عن رغبة، ولما تم بنا المجلس قال: لقد آن لي أن اكشف لكم عن نفسي! أنا العباس ابن الأحنف وطبعا سقط لكم شيء من أمري، وكان من خبري بعدكم أني تركتكم اطلب منزلي لحاجة، فإذا بالشرطة في طلبي، وفي كثير من السرعة مضوا بي إلى دار الخلافة ودارة الملك، فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس؛ إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك، وحسن تأتيك؛ وان الذي ندبتك في شأنه لجليل. فأنت اعرف بخطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن (ماردة) هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وقد جرى بينهما عتب، فهي بدل المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يتعالى على ذلك. فقل شعرا يسهل عليه سبيل الوصل، ويقرب له شقة المعاودة. ثم اطرحني إلى غرفة خالية وقدم القرطاس والدواة وقال هيا يا عباس!!
ولا أكتمكم يا إخوان لقد شرد مني الذهن وتبلد الفكر، فتعذرت على كل عروض ونفرت
عني كل قافية، والرسل في كل فترة تعتبني والأمير يستحثني فما زلت أحاول وأداول حتى انفتح لي شيء فجئت بأربعة أبيات رضيتها إذ وقعت صحيحة المعنى، سهلة اللفظ، ملائمة لما طلب مني، وأخبرت عنها الوزير فقال في لهجة المستعجل: هاتها ففي اقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير الروي، ثم كتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب
…
وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصدَّ مغاضباً
…
وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم
…
إن الميتم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما
…
دب السلوله وعز المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفة
…
تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به
…
راجع من يهوى على رغم
فدفع يحيى بالرقعة إلى من حملها إلى الرشيد، فلما وقف عليها قال: والله ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا، والله لكأني قصدت به قصداً، ثم أخذ يعاود قراءتها وهو يقول: نعم! نعم! راجع من يهوى على رغم أي والله أراجع على رغمي، لقد تمادى الهجر فلا بد أن أراجع، هات يا غلام النعل، ونهض فوصل ما انقطع وكأن الخليفة قد أذهله السرور، فلم يسأل عن الشاعر الذي اطربه، ومضت فترة الرجاء وحسبت أني نسيت فراودت نفسي بالانصراف وغدوت على يحيى أستأذنه في ذلك فقال: مهلا يا عباس! لقد أمسيت أنبل الناس، إن ماردة لما وصلها الخليفة سألت عما حمله على ذلك فعلمت انه الشعر، وقد همها وهم الخليفة أن يعرفا الشاعر الذي قدم لهما هذه اليد فجاء الرسول يسألني في ذلك فقلت له انه (العباس بن الأحنف) فأمر لك الخليفة بجائزة طائلة، وأمرت لك ماردة بأخرى ولك مني يا عباس الثالثة، وان من تمام اليد عندك ألا تخرج إلا في الزي الجليل، والمركب الفاره!!
فهذا يا إخواني ما عاقني عنكم، فهلموا أقاسمكم ما نلت وأشاطركم ما كسبت فأبينا وأبى، وتمنعنا وأصرّ. ثم ذكر لنا الجارية، وقال هيا نمضي إليها حتى نشتريها، فمشينا إلى صاحبها وكانت جارية حلوة ظريفة لا تحسن شيئاً، اكثر ما عندها ظرف اللسان وتأدية
الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى ميل المشتري أسام بها خمسمائة فلما أجبناه بالعجب حط مائة ثم حط مائة، فقال العباس: مهلا يا إخوان، إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي. فأكره أن تنظر إلى بعين من قد ماكس في ثمنها، دعوني أعطه الخمسمائة كما طلب، قلنا: وانه قد حط مائتين، قال: وان فعل؛ فصادف ذلك من مولاها رجلا حراً فاخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين، وحملها إليه! ألا رحم الله العباس وطيب ثراه، فإنه مازال إلينا محسناً يرعى حق الأخوة فينا حتى فرق بيننا الموت!
محمد فهمي عبد اللطيف
البريد الأدبي
العالم الإسلامي اليوم
اطلعنا في بعض الصحف النمسوية الأخيرة على خلاصة آراء ومحاضرات يذيعها الدكتور يوليوس جرمانوس المستشرق المجري في الإسلام والعالم الإسلامي الحاضر؛ وقد جاء الدكتور جرمانوس إلى مصر منذ عامين وقضى نحو أربعة اشهر في تعلم اللغة العربية وحج إلى مكة (لأنه يعتنق الإسلام)، ثم عاد إلى وطنه يلقي المحاضرات ويكتب المقالات العديدة عن العالم الإسلامي، ويعلن في كل فرصة أن أحداً لم يوفق مثل توفيقه إلى دراسة اللغة العربية وشئون العالم الإسلامي قاطبة. بيد أن الدكتور يبدي في معظم الأحيان آراء لا تخرج في جملتها عما نسمعه عن كثيرين غيره زاروا البلاد الإسلامية زيارات طائرة، ثم زعموا انهم يعرفون من أمرها ومن حاضرها ومستقبلها كل شيء فهو مثلا يقول عن اللغة العربية أنها تعتبر بالنسبة إلى اللغات (أو اللهجات) التي تتكلم بها الشعوب العربية مثل اللاتينية بالنسبة إلى اللغات الرومانية التي نشأت عنها، وهذا تشبيه هو ابعد الأشياء عن الحقيقة لأن اللغة العربية لم يصبها في أي عصر من عصور الركود ذلك الموت الذي أصاب اللاتينية ولأنها تكاد تكون بشكلها المصقول لغة الحديث العادي في الطبقات المستنيرة بالبلاد العربية ثم يقول عن الإسلام انه أي الإسلام لا يجوز اليوم نهضة ما، وإنما الشعوب الإسلامية هي التي تجوز مثل هذه النهضة، وان الشباب في جميع العالم الإسلامي يتأثر اشد التأثير بمبادئ مصطفى كمال وإصلاحاته، وأن مصر وسوريا والعراق وغيرها من الأمم الإسلامية ستسير في أثر مصطفى كمال وتنهج منهجه؛ والدكتور جرمانوس يخطئ في هذا الرأي اشد الخطأ فقد أدركت الشعوب الإسلامية منذ بعيد ما تنطوي عليه الحركة الكمالية من الزيف والزيغ والخصومة المضطرمة للإسلام والعالم الإسلامي؛ ولم تبق الحركة الكمالية عنواناً لغير تركيا التي أخرجت من عداد العالم الإسلامي؛ ونستطيع أن نؤكد للدكتور جرمانوس أن مصر لم تتأثر في يوم ما ولن تتأثر بمثل هذه الحركات الإلحادية المفرقة. أما أن العالم الإسلامي لا يجوز اليوم نهضة ما، فكل الدلائل المعنوية والمادية تنم بالعكس عن نهضة إسلامية بعيدة المدى، وهذه حقيقة يقررها كثيرون ممن هم ابعد نظراً واكثر خبرة بشؤون العالم الإسلامي من الدكتور جرمانوس.
وفاة عميد الشعر الإنكليزي
أشارت الرسالة في العدد الماضي إلى وفاة الشاعر الإنكليزي جون درمكوانز، وكانت وفاته فجأة وهو في عنفوان قوته وشاعريته، ولما يبلغ بعد الخامسة والخمسين من عمره، وقد فجع الشعر الإنكليزي حقا بوفاة درنكوانز، ذلك انه يعتبر منذ وفاة توماس هاردي ورديارد كبلنج عميد الشعر الإنكليزي، وكان مولده سنة 1882 وتلقى تربيته في أكسفورد وبرمنجهام، وبدأ حياته كاتبا في إحدى شركات التأمين، وشغف بالمسرح والشعر منذ فتوته وعاون في إنشاء مسرح برمنجهام التوقيعي الذي كان يشرف عليه الفنان الشهير السير باري جاكسون. وظهرت له أول مجموعة شعرية في سنة 1911 بعنوان (الرجال والأوقات) وظهرت في نفس العام أول قطعة مسرحية له موضوعة بالنظم، ومنذ سنة 1914 يوالي درننكوانز إصدار مسرحياته، وقد أحرزت جميعا نجاحا عظيما، منها (الثورة) وهي شعرية، و (السيوف والمحاريث) بيد أن اعظم قطعه مسرحية بلا مراء هي قطعته الشهيرة (ابراهام لنكولن) وقد مثلت لأول مرة سنة 1919، ورفعت شهرته إلى السماكين، وفي سنة 1921 ظهرت قطعته (أوليفر كرومويل)، بيد أنها لم تكن في نجاحها وروعتها كسابقتها (أبراهام لونكن). وفي سنة 1926 نشر درنكوانز رواية توماس هاردي الشهيرة (عميد كستر بروج) في صورة مسرحية. وكتب درنكوانز أيضاً عدة فصول نقدية بديعة؛ ومن أبدعها وأقواها دراسته لحياة صديقه الشاعر روبرت بروك. الذي توفى في اليونان أثناء الحرب الكبرى.
ومنذ عدة أعوام تزوج الشاعر من الموسيقية الشهيرة، ديزي كندي، وهي سيدة بارعة في ثقافتها وفي فنها، درست الموسيقى في فينا وبرعت في العزف على القيثارة براعة مدهشة، وأحرزت شهرة عظيمة في جميع عواصم القارة.
ويذكر القراء أن الشاعر الكبير وزوجته الفنانة البارعة قدما إلى مصر في شتاء 1933، وسحرت ديزي كندي بفنها الرائع المجتمع المصري الرفيع الذي هرع إلى سماع عزفها في الحفلات التي أقيمت يومئذ.
صاحب الجلالة الملك فاروق يتحدث عن البلاد الإسلامية
قابل مندوب جريدة (ليزانال) جلالة الملك فاروق فأدلى إليه بالحديث التالي:
بدا الملك المحبوب حديثة قائلا:
لقد أصبحنا حلفاء إنكلترا وسنعرف كيف نحافظ على هذا التحالف. إن شعبي يعترف بالجميل، وهو ينسي الماضي، ويعترف بالحاضر، ويفكر في المستقبل! إن مصر كانت ولا تزال (عاصمة الإسلام) في العالم الإسلامي ومركز الحركة الوطنية فيه، وقد كان للعلائق الإنكليزية المصرية الجديدة اكبر أثر في جميع العالم الإسلامي.
- وهل لمصر علاقة سياسية مباشرة مع البلاد الإسلامية؟
- إن علائق المسلمين - ونستطيع أن نقول الشرقيين - هي علائق أخوة وتضامن واتحاد، وإذا كان المصري يهتم بقضيته الخاصة فإنه لا ينسى قط قضايا البلاد العربية الأخرى. وانك لتجد أثر كل حادث يقع في ناحية من أنحاء الشرق بشغل النفوس بسرعة في القاهرة.
- إذن يعتقد جلالتكم بوجود (الوحدة الإسلامية)
- إن هذه الوحدة كما يفهمها الأوربيون ليست موجودة؛ ولكن الشعور بالاتحاد والتضامن يعمر نفوس جميع المسلمين
إن اليقظة التي عمت البلاد الإسلامية - وخاصة البلاد العربية - بعد الحرب العامة، بدأت تظهر بوضوح وصراحة. وسيكون للمسلمين شأن كبير في المستقبل القريب.
- وهل يضمر المسلمون روح (العداء للأجنبي)
المسلمون كثيرو التسامح، وهم لا يضمرون عداء لأحد، ولكنهم يطالبون بحريتهم واستقلالهم، ويبدون استعدادهم لتوطيد علاقتهم الودية مع الأجانب
النقوش الأثرية في الواحات المصرية
كثر تردد العلماء الأثريين في العهد الأخير على الواحات المصرية، فظهر أنها ميدان حسن للبحث والتنقيب، وعثر العلماء فيها على كثير من النقوش القديمة التي ربما كانت ترجع إلى العصر الحجري، وعلى كثير من النقوش الفرعونية قد صورت على الصخور، وعلى جدران بعض الأبنية القديمة التي كشفت عنها الرمال؛ وفيها صور لبعض مناظر الحياة
الاجتماعية القديمة والحيوانات الضارية منقوشة إلى جانب بعض الآلهة المصرية القديمة؛ وعثر المنقبون أخيراً على صور من طراز آخر منها صور تجار من اليونان والرومان، وصور قوافل عربية أو بربرية قديمة، ويقول العلامة الأثري الألماني الدكتور فنكلر انه يستدل من النقوش المكتشفة أن الصحراء الواقعة على جانبي النيل كانت مسكونة منذ نحو ألفي عام من البدو؛ وان هذه القبائل كانت تجري على مثل الفراعنة في عبادة بعض الحيوانات المقدسة، وتوجد صور رجال قد تدلت شعورهم على أكتافهم ورجال قد زينوا رؤوسهم بالريش؛ ويستدل من صور السفن المنقوشة على إن هذه القبائل لم تكن مصرية الأصل، وإنها إنما نزحت من شواطئ البحر الأحمر الشرقية إلى الصحراء؛ ولهذه النقوش أهمية خاصة في الكشف عن أصول الشعوب التي سكنت هذه الوهاد في العصر الغابر.
الكتب
في سنن الله الكونية
تأليف الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
عرض وتعليق - رجاء إلى لجنة ترجمة معاني القرآن الكريم
- واجب علمائنا الطبيعيين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
تفضل حضرة الأستاذ الجليل العالم المؤمن محمد أحمد الغمراوي المدرس بكلية الطب بالجامعة المصرية والمنتدب للتدريس بكلية أصول الدين من الجامعة الأزهرية فأهدى إلي نسخة من كتابه الحديث (في سنن الله الكونية) فقلت عيني فيه بشوق الذي يعرف علم الأستاذ بالطبيعة وفقهه في الدين، لأني واحد من تلاميذ محاضراته ومحادثاته في العلم والدين في نادي المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهره، تلك المحاضرات التي كان لها كبير الأثر في إني صرت (آخذ الإسلام بروح العلم وآخذ العلم بروح الإسلام) كما يجب أن يكون وكما حققه هو في كتابه القيم، اتباعا لمنهاج القرآن وتلبية لدعوته العقول إلى الطبيعة.
والكتاب في العلوم الطبيعية، وقد درسه الأستاذ لطلاب قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر، وقد وازنته بما درسته في دور التعليم وما قرأته في المجلات العلمية من جهة ما فيه من مادة العلم الطبيعي فقط، وأؤكد للقارئ الكريم إنني خرجت منه بأشياء جديدة كثيرة ما عثرت عليها في غيره على كثرة ما قرأت من هذه البحوث التي احبها لأنها تصلني بالحياة وقوانينها وسيرها بالأحياء، في عبارة سهلة مشرقة محبوكة، لأن المؤلف فوق انه عالم طبيعي كبير، هو أديب ضليع ومنطقي يقظ لكل ما يدور حول ما يكتبه. يشهد له بذلك كتاب (النقد التحليلي لكتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين بك) الذي بين به أن له قلما سابقا في الأدب كسبقه في العلم. (وفي سنن الله الكونية) يقع في 222 صفحة عدا الفهارس وهو مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب: الأول في العلم والدين، والثاني في المادة
واصلها وخواصها وأحوالها وأنواعها وتغيراتها. . . . الخ، والثالث في الطاقة وأبحاثها وآثارها. . . . الخ.
وأنت واجد في المقدمة إهابة بالمسلمين ومعاهد الدراسة الإسلامية ألا يغفلوا مباحث الفطرة وعلوم سنن الحياة لأن العلم بها جزء من العلم بدينهم وأصل من أصول قرآنهم الذي يتحدث بخمس آياته عن الطبيعة والنظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وكيف بدأ الخلق. . . وان يعلموا أن رجل الدين لا يسيغ العلم إلا إذا قدم له بروح الدين، ورجل العلم لا يسيغ الدين إلا إذا قدم له بروح العلم، وهي حقيقة نفسية يجب أن يلتفت إليها. وفي التمهيد بحث قيم عن موضوع العلوم الطبيعية واثر دراستها في الوصول إلى فاطر الخلق والتوحيد بها بين العقل والقلب والعلم والعبادة.
أما الباب الأول فهو بحث جديد قيم عن العلم والدين، جدير بان يترجم إلى المجامع العلمية، وان يدرس في المعاهد الإسلامية، لان الأستاذ استطاع أن يبين بوضوح قرآنية اسم (العلم) بمعناه المحدود العصري، وقرآنية (موضوعه) وقرآنية (طريقته) ففتح بذلك فتحا جديدا (لعلم الكلام) الذي يجب أن يكون في هذا العصر بعيدا عن منهج النظار والمتكلمين القدماء الذين كانوا يعتمدون على (تجريدات) الفلسفة اليونانية.
إن قوانين العلم التي استخرجها الأستاذ من القرآن الكريم شيء ثمين جداً سيكون له أثر عظيم في تطور الفلسفة الدينية، وفي لفت الأنظار إلى القرآن الذي أتى بذلك قبل أن يأتي به فلاسفة العلم المحدثون بأحقاب وازمان؛ فالبرهان للإثبات، والحذر من تطرق الظني إلى اليقيني، والغرضي إلى الظني، ومنع الخلط بين الأشخاص في المبادئ ومنع التقاليد وتحكيم العقل العام ثم قانون توافق واطراد الفطرة ثم اعتبار أصل المشاهدة واستعمال الحواس، كل أولئك استطاع أن يتبسط فيه الأستاذ المؤلف بالشرح والبيان وان يستخرج مستنداته من القرآن الكريم، وان يحبكه حبكة علمية بإخراج فني أخاذ.
وأضف إلى ذلك انه عقد مقارنة بين العلم القديم والعلم الحديث فيها كثيرا من أغلاط العلم القديم التي جره إليها طريقته وافتراضاته. وقد وقع بعض المسلمين في خطأ كبير وأثم عظيم باعتمادهم على ذلك الأسلوب الفرضي حتى لقد بلغ بهم الأمر أن كانوا يردون القرآن إليه مع إن منهاج القرآن في طرق الإثبات والاستدلال واضح بينهم ينكر عليهم
الشرود والوهم، ثم عقد الأستاذ فصلا بين فيه أدوار النظر العلمي من جمع الحقائق بالتجربة والمشاهدة، ثم استخراج القانون، وبين طرق اكتشاف قوانين الفطرة بالاستقراء والتلمس، ثم ضرب مثلين يوضحان طريقة التلمس، وختم هذا الباب القيم بهذا الكلام البديع:(إن هذه الحقائق الطبيعية التي يكشف عنها العلم ببحوثه إن هي إلا نوع من كلام الله أو هي كلمات الله الواقعة النافذة كما أن آيات القرآن هي كلمات الله الصادقة المنزلة. وقد سمى القرآن حقائق أسرار الخلق كلمات الله في مثل قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) - (لقمان)(قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)(الكهف). وكلمات الله في هاتين الآيتين الكريمتين لا يمكن أن تكون كلماته المنزلة على رسله لأن كلماته سبحانه في كتبه المنزلة محصورة محدودة في حين أن كلماته المشار إليها في هاتين الآيتين لا حصر لها ولا نهاية. فلا بد أن تكون هي كلماته النافدة في خلقه والتي يبدو أثرها متجسماً فيما نشاهد من الحوادث وفيما يكشف العلم من أسرار الكون فالإسلام متسع للعلم كله حقائقه وفروضه؛ والمجتهد مثاب أخطأ أم أصاب ما دام يريد وجه الحق، وان كان العلم لا يعرف إلى الآن إن سبيل الحق من سبيل الله)
أما بابا (المادة والطاقة) ففيهما يعرض الأستاذ المباحث الطبيعية عرض المطلع عليها في مراجع العلم القديم والحديث، وفيهما مواقف ناجحة في تطبيق بعض الآيات الكونية في القرآن على حقائق العلم مما يضيف ثروة جديدة لنواحي إعجاز القرآن تمتلئ بها عقول الدعاة والوعاظ؛ ففي مباحث الجاذبية والأثير والظواهر الجوية والتمثيل الخضري والضوء والظل والفيء حقائق أشار إليها القرآن يجدر بكل مسلم أن يعرفها ويجدر بلجنة ترجمة معاني القرآن أن تنتفع بها، فلا تقف عند ما كان يفهمه منها العرب الذين انزل عليهم كما أشارت إلى ذلك فيما وضعته من القواعد الأولية التي تسير عليها في الترجمة، فان القرآن ليس كتاب جيل واحد؛ ولنا أن نفهم منه غير ما كانوا يفهمون وبخاصة الآيات الكونية التي لم يكن علمهم ولا علم البشرية ليساعداهم على فهمها كما نفهمها نحن الآن. ولذلك كان القرآن يقول لهم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)(فلا اقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم)(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) وان
في وقوف الأستاذ المؤلف وهو عالم بقوانين الضوء والظل وفي القرن العشرين من قوله تعالى (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) ومن قوله (ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً) وقفة العالم أمام حقيقة لا تزال مخبأة. . لشاهداً قائماً على إن في القرآن آيات لم تكن نازلة للجيل الذي شهد نزولها، فلا يصح أن نتحاكم نحن إلى فهمهم فيها مادام الزمن (اكبر مفسر للقرآن كما قال الشيخ حسن الطويل أستاذ الأمام محمد عبده) قد أرانا بسير العلم وجها آخر يحتمله اللفظ ولا يأباه الأسلوب العربي
ولا يضر القرآن شيئا أن تتغير الأوجه العلمية التي يفسر بها كل جيل آياته، ما دامت نصوصه هو ثابتة. وما دام كل جيل جد فيه ما يرضيه فان ذلك من أسرار إعجازه ومن عجائبه، فإذا فهمنا نحن مثلا معنى اللقاح من قوله تعالى (وأرسلنا الرياح لواقح) على انه تلاقح كهربائي بين الموجب والسالب في السحاب كما فسر الأستاذ الغمراوي. وفهمنا سر الاستدلال على البعث من قوله تعالى (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) كما بينه الأستاذ فاعتقد انه لا يضر القرآن أن فهم من قبلنا في هذين الموضعين وغيرهما وان يفهم من بعدنا غير ما نفهم نحن الآن. على إن الوجه العلني متى صار حقيقة دخلت في صف الميراث العلمي الثابت، فمحتوم على المفسرين أن يأخذوا به، كما يتحتم عليهم أن يؤولوا النص القطعي إذا لم يتفق ظاهره مع ما يلزمه العقل كتقرير القاعدة الأصولية.
وبعد فقد قرأت في مجلة الهلال عدد مارس سنة 1937 قبل أن أقرأ كتاب الأستاذ الغمراوي ثلاث مقالات عن الذات الإلهية لثلاثة من كبار علمائنا الطبيعيين هم: الدكتور علي توفيق شوشة بك مدير معامل وزارة الصحة، والدكتور احمد زكي بك مراقب مصلحة الكيمياء. والدكتور محمد ولي الأستاذ بكلية العلوم، فإذا بالدكتور شوشة بك يقول: إذا كان هناك أناس أحق بمعرفة الله ودرك عظمته والإقرار بوحدانيته فهم العلماء، ذلك لأنهم اكثر خلق الله اتصالا بالطبيعة وأقربهم إلى لمس غوامضها ثم يقول: إنني كلما جلست إلى المكرسكوب أو انصرفت إلى التجارب في معملي لم ازدد إلا خشوعا أمام تلك القدرة الإلهية
وإذا بالدكتور زكي بك يقول في آخر مقاله الطويل الممتع كأنه قصيدة، المطرب كأنه ترتيلة، المثبت لوحدانية الله بأسلوب عجيب. وبعد فتسألونني: ما صورة الله؟ تلك هي
صورته: تلك المشيئة الهائلة العاملة التي لا تنام ولا تغفل، تلك الإرادة الواحدة التي تنتظم العالم جميعا ما عرفنا منه وما لم نعرف، تلك البصيرة النافذة في كل شيء، الشاملة لكل شيء التي هي ملء الأرض السموات التي أنا وأنت من بعضها، تلك الوحدانية الشائعة الجبارة الغامضة، هي الصورة التي شاء الله أن نراها منه)
وإذا بالدكتور ولي يقول (هنالك يشعر الباحث الذي لم يتحيز إلى أي مذهب فلسفي والذي جرد نفسه من المؤثرات التي انكبت عليه أن هنالك سلطة وان هنالك قدرة فوق كل هذه المحاولات، وتنزهت عن كل هذه الصفات التي تعودها في أثناء بحثه واستقرائه) إلى أن يقول: (فالله هو هذه القدرة الباهرة التي تجردت عن الماديات وتنزهت عن كل ما هو مألوف للحواس)
قرأت هذا ثم قرأت كتاب الأستاذ الغمراوي الذي هو حجة من حجج إيمان العلماء، فإذا بي في عجب وأسف من أمر هؤلاء الذين أم يعرفوا من العلم إلا قشوره وزيوفه وهم مع ذلك قد نصبوا أنفسهم دعاة للإلحاد وإنكار الله استنادا إلى العلم! هؤلاء أكثرهم من الأدباء طالبي الشهرة الذين يغرهم ما (يصنعونه) من الألفاظ ويخيل إليهم غرورهم وفتنتهم بما يقولون انهم متى صنعوا جملة من الألفاظ فان مواكب الزمان ستقف عن المسير، وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، لأن أقلامهم هذه معاول فيما يخيل إليهم، إذا ما أعملوها في أهول الحقائق وأعظمها وأملئها للكون إلا وهي (فكرة الله) فان ذلك سيجعل البشرية تستجيب إليهم تاركة ما في صيغتها وما تنادي به الأكوان والأزمان من الإيمان!
اجل إن أقلامهم معاول ولكنها لا تهدم إلا ضمير الجاهل أو طالب اللذة الذي يريد أن يتحلل من قيود هذه الفكرة، ومن رقابتها.
فهل آن الأوان لأن يجرد علماء الطبيعة - لا علماء الدين - حملة تدعو إلى الإيمان بالله عن طريق العلم، حتى يدحضوا بها حجج أدعياء العلم والفلسفة ممن هم في الواقع أعداء الجماعة وأنصار فوضى الضمائر والأوضاع كالشيوعيين الذين يحاربون الإيمان بالله لأنه في زعمهم منشأ الأوتوقراطية فيجب أن ينزلوه - تعالى عما يصفون - عن عرشه، كما انزلوا القياصرة والمملكين!
إني اعتقد أن ذلك من أوجب الواجبات على علماء الطبيعة الذين يعرفون الله اكثر من
غيرهم والذين ما غرر بالناس إلا من طريق الانتساب إليهم. ولن يغني البشرية شيئاً انتفاعها المادي من علوم الطبيعة مادامت لا ترى اليد الجبارة التي تدير قوانينها، ولا تسجد لها طوعا كما تسجد كرها. وها نحن أولاء نرى الإنسانية تستحيل إلى قطعان من الحيوان لها من العلم الطبيعي سلاح لا تلطف وقعه تلك الفكرة الرحيمة التي تستمدها الضمائر من (رحمان) ولا يصده خوف من (جبار) ولا يمنعه خشية (من قيوم) على السموات والأرض، (ديان) للخلائق!
وإذا كان علماء الطبيعة من غير المسلمين لا يعترفون بإله معابدهم لأن له صورة غير صورة الإله الذي يجدون يده في الطبيعة فهم لذلك بعيدون عن محيط الدعوى إلى الإيمان والدين. . . فان من حسن الحظ في الإسلام أن إله الطبيعة الذي وصل إلى الإيمان به علماؤنا عن طريق الطبيعة. . . هو ذاته (الله) كما يصفه القران الكريم الذي ما مجد الطبيعة وظواهرها وما دعا إلى تعرف أسرارها كتاب مثل ما دعا. . . بل لقد بلغ من اعتزازه بها انه لم يترك ظاهرة من ظواهرها إلا اقسم بها. . . فأقسم بالزمان والمكان والحيوان والنفس والفجر، والضحى والليل والنهار والشمس والقمر والرياح والنجم والشفق. . . إلى آخر ما في الدنيا من ظواهر الخلق والأمر. . . أفلا يجب بعد هذا أن يبين علماء الطبيعة المسلمون أسرار هذه الأقسام؟ بلى إن ذلك من أمانة العلم قبل أمانة الدين
(بغداد)
عبد المنعم خلاف