الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 198
- بتاريخ: 19 - 04 - 1937
حول مؤتمر الامتيازات
منطق الواقع
مصر الآن أمام اثنتي عشرة دولة في (مونترو): تزيف الادعاء بالقانون. وتكفكف الغلواء بالحزم، وتكشف المغالطة بالحجة. وتقول للذين ظلموها وظلموا العدل: هأنذي أمامكم وجها لوجه، وعقلا لعقل، ولسانا للسان؛ أخاطبكم بلغاتكم كأنني منكم، وأجادلكم بعلومكم كأنني فيكم؛ فهل تجدونني أقل منكم فقها لفلسفة التشريع، وعلما بمدنية العدل، وفهما لسياسة الحكم؟ هاهم أولاء بعض أبنائي أوفدتهم إليكم يحملون كلمتي ويمثلون إرادتي؛ فهل رأيتم أروع خطابا من النحّاس، وأبرع برهانا من مكرم، وأقطع بيانا من ماهر؟ أليسوا هم حجتي العليا على أنكم تدافعون عن نظام لا يجد مساغاً من طبيعة الناس. ولا مساكاً من منطق الأشياء؟
لماذا تخشون أن يكون أمثال هؤلاء قضاة في ديارهم بين مجرميكم،
وهم يجرون مع أخياركم في عنان، ولا يتخلفون عن أقطابكم في
ميدان؟
لماذا تأبون أن يتساوى الوطني والأجنبي في الحق والواجب وأنتم ترون هذا النهر المبارك يضفي عليكم النعمة، ويميزكم على أبنائه في القسمة؟
ذلك ما تقوله مصر لخصومها (الممتازين) الذين احتشدوا في مونترو يفاوضونها في تنظيم العدوان، ويعارضونها في محو الإهانة. وهذا القول لا عيب فيه إلا اعتماده على الحق الذي زهق في دول أوربا. واستناده إلى المنطق الذي اختنق في كتب الفلاسفة. فلو أنه قيل على أسلوب الزمن الحاضر، وجرى على منهاج المنطق الحديث، لما قابله المكابرون إلا بالتصفيق. والمنطق الحديث منطق الفعل لا منطق القول. وإذا كان مدار المنطق الكلامي على القياس، فإن مدار المنطق العملي على الواقع؛ والواقع في قانون الطبيعة له سلطان الأمر الموجود وقوة الشيء المحكوم به؛ والمفاوضة فيه تختلف عن المفاوضة في النية المكتوبة والفكرة المقترحة.
كان بيننا وبين جيراننا في المزرعة حد جرى عليه الخلاف فلم يتم، فاختلط الحق بالحق
ودخل من ملكنا في ملك الجار مقدار كبير. وفي الأسبوع الماضي ندبت الحكومة مهندسا يبين الحق المشتبه، ويعين الحد المجهول، فمسح الأرض ورد المأخوذ، ودق الحديدة وحرر المحضر، وأمضاه الجيران وفيهم العمدة. وكان الحد بين مزرعتين، ولكن الخلاف بين قريتين، فاتفقنا نحن وهم على أن نقيم الحد في اليوم التالي ونجعله مصفًى ومروًى بينهما طريق. ولكننا علمنا في الليل أنهم طمعوا فيها تحت أيديهم فلا يودون أن ينزلوا عنه. وتعليل هذا التحول يسير على من عرف غرائز الناس وخبر طبائع الريف. وفي الصباح الباكر كانت القرية فريقين: فريق الفأس والعمل وقد ذهب إلى المزرعة، وفريق المنطق والكلام وقد ذهب إلى القرية العنيدة. وانعقد مجلس القريتين في دار العمدة؛ ثم انطلقت الألسنة البليغة تتجاوب بالعواطف الشاعرة تجاوب البلابل في أعشاش الربيع. وكانت قوافي الأغاريد ترن موسيقاها بألفاظ الصداقة والود والمصاهرة والمجاورة والقانون والحق، فتطرب الآذان، وتهتز القلوب، وتشرق الأوجه.
فلما انتهينا إلى أن هناك حدا يجب أن يقام، وحقا يجب أن يُعطى، تكشر الوجه الضاحك وتنكر الصوت الرخيم، وانتفخت لغاديد الشر، فتهور بالكلام وتهدد بالمعارضة؛ وكان فيهم رجل رشيد، فكان يملأ الدلو من حين إلى حين ويفرغه على القوم فتقر الفورة ويهدأ الحديث. وفي فترة من تلك الفترات الساكنة، اقترح أن نجعل لجيراننا الطامعين أجلا متى حل وجب عليهم أن يردوا الحق من غير اعتراض ولا مطل. وارتاح القوم لهذا الحل لأنه يترك لهم العين ويأخذ منهم الأثر، ورضينا به نحن لأنه يحسم النزاع بين القريتين، ويذهب عن النفس المسالمة شعور الهزيمة.
وكان الخلاف أشد ما كان على مدة الأجل فبدأت بشهر وانتهت بخمسة. وكان الذين وضعوا أيديهم على الحق بالباطل أبسط لسانا في الرفض، وأصلب عوداً في القبول؛ أما نحن والقانون والحكومة فكان (ارتكازنا) على خلاء
كتبنا الاتفاق وأمضوه بعد وقفات طويلة على كل نص من نصوصه؛ ثم أخذنا نستعد لنشيد الختام في تمجيد الوئام والسلام، لولا رسول أقبل من الغيط يعلن إن رجال الفأس والكريك لم ينتظروا نتيجة المؤتمر. فحفروا المصفى، وشقوا المروى، وأقاموا الطريق، وحرثوا الأرض، وأنجزوا في ساعتين، ما لا ينجز في يومين.
كان هذا الحبر أضخم الدلاء التي صبت على المؤتمر، فشدهنا نحن، وخجلوا هم. وتذكر الجيران الأعزة حينئذ عواطف المصاهرة والمجاورة فقالوا: هذا هو الحق! ذلك ملككم وما ينبغي لأحد أن ينازعكم فيه!!
كان في قدرة مصر أن تتخذ سياسة الأمر الواقع، فتلغي بإرادتها المطلقة هذه المعرة التي ورثتها عن الترك كما يورث الزهري الإفرنجي عن الأب المريض. ولو أنها آثرت هذه الخطة لوجدت حجتها في القانون لا في القوة، ولكن مصر الكريمة المضيافة لا تزال تجري على أعراق آبائها الميامين فلا ترفع اليد ما دام يغنيها اللسان
على أن قوة الحق المصري، وقدرة المفاوض المصري، جعلتا القانون الأعزل أرفع صوتا من المدافع، وأبعد نفوذاً من القنابل. وأعجب العجب أن الأمم اللاتينية التي سايرت نهضتنا وعاشرت أمتنا قرناً وثلث قرن، كانت هي وحدها التي تجهل أن مصر دولة من دول البحر الأبيض لا أمة من أمم أفريقيا، وأن لها دينا سماويا يهدي إلى الحق، وتشريعاً مدنياً يرمي إلى الخير، وخلقاً شرقياً يدعو إلى المحبة، وأن رعاياها كانوا قبل الامتيازات وبعدها يتقلبون في خيرات النيل، ولا وزر لهم إلا أخلاق هذا الشعب النبيل
أحمد حسن الزيات
علي بك فوزي
للأستاذ أحمد أمين
لم يتجل لي وفاء المصري وإخلاصه كما رأيته أول أمس في جنازة أستاذي وصديقي علي بك فوزي. فقد استقبل النعش في محطة مصر عدد كبير من أصدقائه وساروا في مشهده يعزي بعضهم بعضا إذ أبى الفقيد أن يكون له ولد ولا مال ولا جاه: فكان أول مشهد عظيم رأيته لله وحده وكان أنبل ما رأيت منظر أحمد باشا شفيق وقد تقدمت به السن وصعب عليه السير يتحامل على صديق، ويسير من المحطة إلى جامع الكخيا، ثم أسلم عليه وأسأله هل تعرف الفقيد فيقول: لا لم أره في حياته: ولكني سمعت بنبل أخلاقه فرأيت وفاء للفضيلة أن أسير في جنازته.
رحمة الله عليه، فقد كان أمة وحده، ولم أر له نظيراً في كل من عاشرت. ولئن كان أكثر الناس نسخاً متشابهة من كتاب تافه مطبوع، فقد كان نسخة خطية من كتاب قيم نادر. متمدن على آخر طراز من طراز المدنية في ملبسه وأناقته وآدابه ولباقته، متصوف إلى آخر حدود التصوف في زهادته واحتقاره للمال والجاه والمناصب. وفوق ذلك كله في روحانيته السامية.
لم يفخر في حياته بنسب؛ على أنه كان جديراً أن يفخر به لو وجد الفخار مدخلا إلى نفسه، فقد كان جد أبيه المملوك الشارد الذي قفز بفرسه من القلعة؛ وناهيك بعظمة المماليك أيام سطوتهم.
ولم يفخر بعلمه وهو الواسع العلم العميق التفكير؛ يجيد العربية إجادة قل أن يكون له فيها نظير؛ ويتكلم الإنجليزية كأحد أبنائها؛ ويحذق الفرنسية والألمانية والتركية. ثم لا ينظر إلى اللغات على أنها مقاصد بل على أنها وسائل للثقافة، فأتخذ هذه اللغات كلها أداة يتعرف بها الثقافات المختلفة ويقف على أحسن ما ألف فيها؛ هذا إلى ضحة في النقد وقوة في الملاحظة وشخصية بارزة لا تخضع لأي مؤلف مهما عظم. ومع هذا كله تجلس إليه إن لم تكن تعرفه فكأنه أمي غبي جاهل بكل شيء، فهو ذهب خالص غطى بقشرة من طين لا تعرفه حتى تحكه وتحكه وتصل إلى باطن نفسه؛ ولا يكون ذلك إلا لتلاميذه وخلصائه، وحتى مع هؤلاء يقدم إليك نتيجة معارفه الواسعة وتفكيره العميق وهو مختف وراء ذلك
يحاول ألا يشعرك بنفسه، وإنما يشعرك بالفكرة نفسها، فكأن كلمة (أنا) لم تكن في معجمه.
عرفته أول مرة أستاذاً لي بمدرسة القضاء يدرس لنا التاريخ الإسلامي؛ وتطاير إلينا قبل قدومه أخبار منثورة عن تاريخ حياته. إنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم سافر في بعثة إلى إنجلترا، ثم عاد منها بعد أن نال إجازة من جامعتها. وهي أوصاف لم نتحمس لها كثيراً. فكنا قد شاهدنا بعض من سافروا إلى أوربا ورجعوا بشهاداتهم الضخمة وألقابهم العديدة وكانوا كالبندقة الفارغة: منظر ولا مخبر، ورواء في العين، ولا شيء في اليدين؛ فقلنا لعله أحد أولئك الذين لم يكسبوا من أوربا إلا اعوجاجاً في اللسان ورطانة في الألفاظ وإنكاراً لعظمة أي شيء مصري، وعصبية لكل تافه أجنبي.
وحبسنا أنفاسنا عند قدومه نستطلع طلعته
دخل علينا رجل قصير القامة. يحاول أن يخفي قصره بطول طربوشه وارتفاع حذائه، أسمر اللون في وسامة، واسع العينين في خجل، كبير الرأس في عظمة.
يتأبط كتباً كثيرة العدد لا يتناسب حجمها مع حجمه بين عربية وإنجليزية، ويأبى أن يحملها الفراش عنه كما اعتدنا أن نرى من غيره.
وأكبر ما راعنا منه أنه بدأ درسه بعبارة عربية فصيحة التزمها في كل درسه، وفي كل دروسه بعد، وفي كل أحاديثه معنا في الدرس، لا أعرفه شذ عنها مرة واحدة، في طلاقة وعذوبة واستشهاد بالأدب العربي والشعر العربي، مما لم أعرفه لأزهري ولا لمدرس من دار العلوم. يجيد فهم عبارة الطبري على صعوبتها، وابن خلدون على عمقها، والكتب الإنجليزية العميقة. ويوضح ذلك كله بصياغة شهية لذيذة، ويطبعها كلها بالطابع العربي فلا تسمع لفظة إنجليزية، ولا تستعصي عليه عبارة يريد أن يترجمها من لغة أجنبية.
ومما زادنا إعظاماً له أنه لم يكتف بالدرس بل اتصل أيضا بنفوسنا. فكان يخرج من الدرس أحياناً إلى شرح حالة نفسية أو ظاهرة اجتماعية يصل بها إلى أعماق نفوسنا، وأخذنا بالنظام الشديد، وكان يقدسه كل التقديس، فيشمئز من الكلمة النابية ومن اللفظة تكتب منحرفة قليلا عن موضعها. ومن النكتة إن كان فيها قليل من الشذوذ.
ولا تسل عنه في ورق الامتحان، فقد كان يصحح أوراقنا في دقة غريبة، ويأتي بالأوراق مدونة فيها ملاحظاته في اللفظ والمعنى والأسلوب والخطأ الإملائي والخطأ التاريخي،
وينتقدنا انتقاداً لاذعاً لكن طريفاً.
من أجل هذا كان الأستاذ المحبوب والأستاذ الجليل والأستاذ الظريف والأستاذ العالم.
لم تطل دراسته في مدرسة القضاء، وانتقل إلى وظيفة إدارية. ولم يطلب الانتقال لرغبة في مال فهو يحتقر المال، ولا في جاه فهو يحتقر الجاه، ولا رغبة عن التعليم فهو يحب التعليم ويصارحني أن أكبر غلطة أرتكبها أنه تحول من التعليم إلى الإدارة، ولكنه كان شديداً، وكان عاطف بك ناظر المدرسة شديداً، وكان لكل شخصيته القوية. ولكل آراؤه في سياسة الطلبة، فتصادما تصادماً نفسياً من غير أن ينبس أحدهما بكلمة؛ وكان أن خرج (علي فوزي) من المدرسة آسفين عليه كل الأسف شاعرين أنه لا يمكن أن يعوض، وكان (عاطف) أول من حزن على خروجه بعد أن حاول كل محاولة في استبقائه
وكان حساساً إلى درجة لا تتصور. تجرحه الكلمة الخفيفة لا يشعر بها أحد، والإشارة القليلة تصدر من رئيسه فيظنها بالغة منتهى الشدة، والإيماءة المعتادة فتحز في نفسه وتصل إلى أعماق قلبه.
فكيف يستطيع بعد أن يكون موظفاً؟ لقد تداول عليه وزراء عديدون لا أسميهم، كل منهم جرح نفسه جرحاً بل جروحاً. وأي الرؤساء يتحاشى حتى الهنات الهينات مع مرءوسيه؟ وأي الرؤساء يدرك مقدار السهام المسمومة التي يوجهها إلى نفس كنفس علي (فوزي) وهو لا يرى أنها سهام أصلا بل قد يظنها نوعا من الملاطفة؟ - لقد رآه وزير يكتب خطاباً بالإنجليزية فأعجبته بلاغته فقال له: لعلك تحسن أن تكتب مثل هذا بالعربية! فما كان أشدها وقعاً في نفسه.
ثم هو يعشق العدل المطلق الدقيق، ويؤلمه أشد الألم الظلم الخفيف. وكان كل يوم يرى تصرفات في الوزارات لا تتفق والعدالة التي ينشدها: هذا يحابي المتملقين، وهذا ينصر الأجانب على المصريين، وهذا يمنح ترقيات وعلاوات لغير المستحقين
ثم ما هذا النظام السخيف للدرجات؟ فهذا موظف في الدرجة الأولى وآخر في الدرجة الثانية! إنه يفهم أن يبدأ الموظف بمرتب صغير يزيد على القدم والكفاية، ولكنه لا يفهم تقسيم الموظفين إلى طبقات يعلو بعضها بعضا، ويدل بها بعضهم على بعض
لا. لا. ثارت نفسه على كل ذلك، ففي هدوء وسكون، ومن غير أن يشعر أحد من أصدقائه
دبرّ أمره وأعد عدته للخروج من الوظائف الحكومية، وألح في طلب إحالته إلى المعاش، فكان له ذلك. ورضى بنحو خمسة وعشرين جنيها في الشهر على ثمانين وما كان يتبعها من علاوات وترقيات وحسبان معاشات
بل ليست الوظيفة وحدها هي التي يجب الفرار منها، بل يجب الفرار أيضا من مصر، فما مصر هذه التي يحكمها الأجنبي وتستسلم له؟ وما مصر التي يستمتع فيها صعاليك الأجانب بما لم يستمتع به سادة أهلها؟ وما مصر التي تجلس في مقهى من مقاهيها فتشعر أن الرومي الذي يقدم لك القهوة خير منك وأعز منك، ويستطيع أن يحتقرك وأن ينكل بك ولا تستطيع أن تفعل به ما يفعل بك؟ وما مصر التي لم تستطع أن تكون غنية في أطبائها وعلمائها وتجارها وصناعها ولم تزل عالة في كل ذلك على غيرها؟ لابد إذن من الهرب من الوظيفة ومن مصر معا
خرج من مصر ساخطاً غاضباً آسفاً حزيناً، خرج هائما على وجهه يمثل دور جده. لقد كان جده المملوك الشارد، فكان هو الحر الشارد
خرج إلى أوربا هائما في ممالكها، ولكنه كان فيها مستوحشا، نعم إنه يتكلم لغتها ويفهم مدنياتها ولكن ليس قومها قومه، ولا دينها دينه، ولا روحانياتها روحانياته. ثم ألقى عصاه في الأستانة عقب الحرب واطمأن إليها، فهي هي البلدة المستقلة بين ممالك البلاد الإسلامية؛ وهي هي التي لا تذلها الامتيازات الأجنبية؛ وهي التي يجد فيها غذاء روحه وعواطفه بمساجدها العظيمة ومآذنها التي تشق السحاب. من أجل هذا اختار السكن فيها، وفي الأحياء الوطنية لا الأجنبية، وأتخذ مجلسه في مقهى تركي بلدي تحت شجرة زيزفون بجور حائط مسجد با يزيد
ثم حاول أصدقاؤه جهدهم أن يحولوه عن رأيه ويعدلوا به عن غربته. فذهبت محاولتهم عبثا. عرضوا عليه وظائف مختلفة الألوان كان آخرها مدير دار الكتب. فكان جوابه: متى عرفتم سبب خروجي من الوظيفة وسبب خروجي من مصر لم تعرضوا هذا العرض؛ فالأصل قبل الفرع، والحرية مع الفقر خير من الذل مع الغنى
قد رزق عيناً يرى بها غير ما يرى جمهور الناس؛ فكثيراً ما كان يحتقر من يجله الناس. ويجل من يحتقره الناس، لأن له مقاييس في التقدير تختلف عن مقاييس الناس، ليس في
مقاييسه اعتبار لثروة ولا جاه، ولا منظر، ولا حسب، ولا نسب.
حتى مكانه العام الذي كان يختاره لمقابلة أصدقائه لا يختاره لوجاهته، وإنما يختاره لنظافته، ولأن صاحبه مسلم، ولأنه يتنفس فيه جواً شرقيا لا غربيا، ولأنه ليس فيه امتيازات أجنبية، وهكذا من اعتبارات متعددة لم استطع أن أعرف منه إلا بعضها.
ويفضل أن يزور حلاقا كان زميلا له في المدرسة على أن يزور باشا من الباشوات أو من يعده الناس كبيراً من الكبراء
قد أعظمه في عيوننا صغر الدنيا في عينه؛ فليس للمال عنده إلا وظيفتان: قليله يتبلغ به ويسد حاجاته الضرورية، وكثيرة للمروءة. وأعرف له في ذلك فصولا غاية في السمو، فقد كان حيناً يسكن في أسرة أوربية عميدها فرنسي، وربة الدار ألمانية ولهما ابن وبنت، حتى إذا نشبت الحرب العظمى جند عميد الأسرة، فأحلت الأسرة فقيدنا محله على رأس المائدة.
وكان كثيراً ما يدور الجدال على المائدة في نظريات الحرب وخصوصا الفتى والفتاة، فكان الفتى يذهب مذهب أبيه ويتعصب لفرنسا وحلفائها، والبنت تذهب مذهب أمها وتتعصب لألمانيا وحلفائها؛ ثم كان من الفتى أن طعن تركيا في سمعتها وقيمتها، ولم يكن يعرف عصبية الفقيد لتركيا، فلم يعد علي فوزي يطيق البقاء بعد في البيت، ولكن ماذا يصنع ووفاؤه يقضي بمراعاة هذه الأسرة بعد غياب عميدها، وعصبيته التركية تأبى أن يسكن في البيت بعد ما كان من الفتى؟ لا يحل هذا الإشكال إلا احتقار المال. فقد تظاهر بأنه يأخذ درسا على السيدة الألمانية ودفع ما كان يدفع أيام سكناه لم ينقص منه شيئاً وإن قلل ذهابه بعد ذلك لأخذ الدرس.
وكان منظره في استانبول غريبا: يجلس في مقهى عرفه البؤساء والمحتاجون فهو يمنحهم ما أمكنه وهو الفقير الذي لا دخل له إلا معاشه الخمسة والعشرون جنيها، ينفق منها ثلثها على نفسه وثلثيها على مروءته، وطويل أن نعد مآثره في هذا الباب
أحب العزلة وأكثر التفكير. فهو في بيته وحده، إذ لا زوجة له ولا ولد. وفي تروضه وحده غالبا؛ هو وحده في أكثر أوقاته، صديقه الكتاب، ثم ضعفت أعصابه ففقد صداقة الكتاب أيضاً إلا نادراً، وكان تفكيره في العالم حيناً وفي نفسه كثيراً
وهذه حالة تستتبع الوحشة وتستتبع التشاؤم، وتستتبع الحزن والانقباض، وكذلك كان شأنه
غلب عليه الخجل في غلو، والخجل - كما يقول بعض علماء النفس - سببه كثرة تفكير الإنسان في نفسه، فهو إذا مشى ظن أن الناس كلهم ينظرون إليه وينقدون مشيته؛ وإذا تكلم ظن أن الناس كلهم ينصتون إليه وينقدون كلامه؛ وإذا تحرك أو سكن أو تنفس فالناس يعدون حركاته وسكناه وأنفاسه؛ فكان هذا الخلق فيه أكثر شقائه. وبلغت به الحالة أن كان في آخر أيامه إذا جلس في مقهى اختار مكانه وراء عمود، وإذا سكن في (بنسيون) صحا قبل أن يصحو الناس وعاد بعد أن ينام الناس حتى لا يراه الناس: وإذا عزم على الرياضة فليلا حتى تستره ظلمة الليل، وإذا مشى في الشارع ليلا اختار من الشوارع أخلاها من الناس.
تملكه خلق الرحمة فظهر منه في كل شيء: رحم الناس فخرج لهم عن ماله. ورحم المرأة فأبى أن يتزوج، ورحم الحيوان فعاش نباتيا. وأخيراً رحم نفسه. وويل للإنسان إذا رحم نفسه وأشفق عليها! إنه ليعذب في ذلك عذاباً لا يعذبه أحد. نعمة كبرى أن يرحم الإنسان غيره، وشقوة كبرى أن يرحم الإنسان نفسه، فالرحمة استضعاف للمرحوم، فإذا استضعف نفسه فهناك الألم وهناك والحسرة، وهناك فقدان الثقة بالنفس، وهناك انسحاب من الجهاد في الحياة، وهل الحياة إلا جهاد؟
رحم الله (علي فوزي) فقد عاش غريبا، ومات غريبا، وأخشى أن يبعث غريبا
أحمد أمين
في التاريخ السياسي
الدستور الهندي الجديد
هل يكون نذير ثورة قومية جديدة
لمؤرخ كبير
الهند الآن في مفتتح عهد جديد من تاريخها قد يكون بدء استقرار وسكينة، وقد يكون فاتحة مرحلة جديدة من النضال بين الوطنية الهندية وبريطانيا العظمى. والمسألة الهندية تعود فتشغل الأذهان في الهند وفي إنكلترا، وتستغرق أعظم جانب من اهتمام السياسة البريطانية. ذلك أن دستور الهند الجديد قد بدئ تطبيقه منذ أول أبريل الجاري، وهو الدستور الذي أقره البرلمان الإنكليزي بعد مناقشات طويلة عنيفة، وصدر في يناير سنة 1935 باسم (قانون حكومة الهند) مؤلفا من أربعمائة وإحدى وخمسين مادة، وخمسة عشر ملحقا على أن يبدأ تطبيقه منذ أول أبريل سنة 1937.
وقد اقترن تطبيق الدستور الجديد بحوادث داخلية خطيرة. ذلك أن الانتخابات التشريعية أجريت طبقاً لنصوص الدستور الجديد في شهر فبراير الماضي، في إحدى عشرة ولاية تضم مجالسها التشريعية 1585 كرسياً، فتقدم لها نحو خمسة آلاف مرشح؛ هذا عدا المجالس التشريعية العليا التي تضم 260 كرسيا؛ وبلغ عدد الناخبين نحو ثلاثين مليونا منهم خمسة ملايين امرأة؛ ففاز حزب المؤتمر الوطني وهو أعظم الأحزاب الهندية وحزب الوطنية المتطرفة، وزعيمه الباندت جواهر لال نهرو بالأغلبية المطلقة في ست ولايات من الإحدى عشرة. وكان المفهوم أن الحكومة المحلية الجديدة تؤلف من الأغلبية البرلمانية على قاعدة المسئولية الوزارية طبقاً للدستور الجديد؛ ولكن حزب المؤتمر رفض أن يضطلع بأعباء الحكم في الولايات التي فاز فيها. فلجأت الحكومة البريطانية إلى اختيار أعضاء الحكومات الجديدة بطريق التعيين حسبما نص عليه الدستور أيضا، بيد أن هذا الإجراء لا يمكن أن يعتبر في بداية العهد الجديد حلا موفقا، بل ربما كان بالعكس نذير مرحلة جديدة من النضال بين الوطنية الهندية والسياسة البريطانية
وترجع هذه المقاطعة من جانب حزب المؤتمر، حسبما صرح وزير الهند اللورد زنلاند في
مجلس اللوردات إلى ما طلبه حزب المؤتمر من ضمانات خاصة لتولي أعباء الحكم؛ خلاصتها أن يتعهد الحاكم بأن يتبع مشورة وزرائه وألا يخالف القرارات الدستورية، وألا يستعمل سلطته الخاصة في التدخل أو الضغط على الوزارة، وهي عهود أبى الحكام أن يقطعوها لحزب المؤتمر. وترتب على ذلك أن قرر الحزب التنحي عن قبول أعباء الحكم، فخلق بهذا التنحي موقفا في غاية الخطورة والحرج؛ ويتأهب الحزب الآن ليخوض عن طريق المعارضة البرلمانية نضالا عنيفا لا يمكن التنبؤ بعواقبه.
والدستور الهندي الجديد هو أقصى مرحلة بلغتها السياسة البريطانية في تحقيق الأماني الهندية في سبيل الحكم الذاتي؛ وكان أول خطوة قطعتها السياسة البريطانية في هذا السبيل سنة 1919، غداة الحرب الكبرى، حينما رأت أن تثيب الهند البريطانية عما قدمت لبريطانيا العظمى من جليل المعاونات في الحرب الكبرى. ففي ديسمبر سنة 1919، استصدرت الحكومة البريطانية دستور الهند الجديد المعروف بدستور مونتاجو وشلسفورد؛ والأول وزير الهند والثاني نائب الملك في ذلك الحين؛ وبمقتضى هذا الدستور منحت الهند لأول مرة بعض الحقوق والمزايا الدستورية المحدودة؛ فألغى المجلس التشريعي الذي كان خاضعا لرأي نائب الملك، وأنشئت مكانه هيئة تشريعية جديدة تضم هيئتين: الأولى مجلس الدولة والثانية الجمعية التشريعية وتؤلف الأولى من ستين عضوا منهم ستة وعشرون معينون، والثانية من مائة وأربعة وأربعين عضوا منهم أربعون معينون؛ واختصت الحكومة المركزية بالنظر في الشئون السياسية والمالية والدفاع الوطني والإشراف على الإمارات وقصرت مهمة الحكومات المحلية (حكومات الولايات) على معالجة الشئون الإدارية؛ ونص في الدستور الجديد على انه مؤقت وأنه تمهيد لإنشاء الحكم الذاتي، وأنه سيعاد النظر فيه بعد فترة انتقالية قدرت بعشرة أعوام
ولكن هذه المنحة الضئيلة كانت صدمة شديدة للأماني الهندية، فاضطرمت الهند من أقصاها إلى أقصاها بفورة قوية من السخط، وظهر مهاتما غاندي في الميدان يذكي ضرام الحركة الوطنية بدعوته إلى المقاطعة السلمية والعصيان المدني، وجازت الهند مرحلة عنيفة من الاضطراب؛ ولجأت السياسة البريطانية إلى وسائل القمع المنظم. وفي سنة 1928 بدأت اللجنة الدستورية أو لجنة الإصلاح الدستوري التي ألفت برياسة السير جون سيمون مهمتها
في درس المسألة الهندية، وكان تألفها تطبيقا لدستور ممونتاجو وشلفورد، إذ نص على إعادة النظر فيه بعد عشرة أعوام، وحددت مهمة اللجنة الجوهرية بما يأتي:
أن تبحث في كيفية سير الإدارة الحكومية، ونمو التعليم وتقدم النظم النيابية في الهند البريطانية وما يتعلق بذلك من الشؤون، ثم التقرير عما إذا كان يرغب في تطبيق مبدأ الحكومة الذاتية وإلى أي حد، أو ما إذا كان يجب توسيع أو تعديل أو تقييد مرحلة الحكم الذاتي القائمة، ويدخل في ذلك بحث ما إذا كان يرغب في إنشاء قاعة تشريعية أخرى في المجالس التشريعية المحلية. واستمرت اللجنة في طوافها ودراستها بالهند مدى أشهر، وانقسم الرأي العام في الهند إزاءها قسمين، فريق يؤيد التعاون معها، وفريق وهو الأغلبية يدعو إلى مقاطعتها. وفي أواخر سنة 1929 ألقى اللورد ايروين نائب الملك تصريحه المشهور بأن الغاية التي تتوخاها الحكومة البريطانية من الإصلاح الدستوري هي الوصول بالهند إلى مركز الأملاك المستقلة (نظام الدومنيون) فبث هذا التصريح في الحركة القومية روحا جديدا، وأيقنت أنها سائرة إلى الظفر، ونزل غاندي إلى ميدان النضال كرة أخرى، وقام بحملته الشهيرة في سبيل العصيان المدني، وعادت السياسة البريطانية إلى خطة القمع العنيف، وقبض على غاندي وآلاف عدة من أنصاره، ولكن الاضطراب بلغ حدا اضطرت معه السياسة البريطانية إلى التراجع، فتفاوض نائب الملك مع غاندي، وأطلق سراح الزعيم الكبير، واتفق على أن يشهد مؤتمر الهند الذي أُزمع عقده في لندن لبحث المسألة الهندية وأن تلغى حكومة الهند جميع إجراءات القمع التي اتخذتها
وفي أثناء ذلك صدر تقرير لجنة سيمون في مجلد ضخم، وفيه بحوث ضافية عن أحوال الهند الاجتماعية والطائفية. وخلاصة رأي اللجنة هو أن تجربة الإصلاح الدستوري مدى الأعوام العشرة ليست كافية لتقرير الخطة الدستورية الملائمة، وإن الشعب الهندي، نظراً لظروفه الجنسية والطائفية، وما يفرق بين عناصره من اختلافات عميقة في الدين واللغة والتقاليد والعادات والخواص، ليس أهلاً للتمتع بحكومة ذاتية مسؤولة؛ وأما فيما يتعلق بالتوصيات، فقد أوصت اللجنة بعدة إصلاحات نظامية وإدارية خلاصتها أن تعتبر الهند البريطانية دولة متحدة قوامها الولايات، وأن تعدل حدود الأقاليم الحالية، وأن يمنح حق الانتخاب لبعض الطبقات بشروط معينة، وأن يستبقى المبدأ الطائفي في توزيع الدوائر
الانتخابية، وأن تفصل ولاية بورما عن الهند لأنها تكون وحدة مستقلة، وبعض توصيات ثانوية أخرى لإصلاح التعليم والنظم الإدارية. وهكذا جاءت توصيات لجنة سيمون ضربة جديدة للأماني الهندية القومية؛ بيد أن الحكومة البريطانية أشارت يومئذ إلى أن توصيات اللجنة لا تخرج عن الآراء الاستشارية، وإن مسألة الهند برمتها ستبحث في المؤتمر الخاص بذلك؛ وعاون اللورد ايروين بتصريحه بأن الحكومة البريطانية تبغي بالإصلاح الدستوري أن تصل بالهند إلى مركز (الدومنيون)، على تهدئة الرأي العام والتمهيد لعقد المؤتمر في نوع من التفاهم والوئام.
وفي أكتوبر سنة 1930 عقد مؤتمر الهند المعروف بمؤتمر المائدة المستديرة في لندن، وشهده غاندي ممثلا للهند مع عدد كبير من الزعماء الهنود يمثلون مختلف الطوائف والأحزاب. ولكن المؤتمر عقد في جو من الاضطراب والخلاف. وانشق ممثلو الهند على أنفسهم في المسألة الطائفية. فرأى غاندي أن يتمسك بالانتخاب المطلق، ورأى المسلمون أن يحتفظوا بالحقوق والنسب الطائفية. ولما اشتد الجدل والخلاف، وعجز المؤتمر عن الوصول إلى اتفاق شامل، أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستتناول الأمر بيدها ما دام الهنود أنفسهم لم يتفقوا
وهكذا استعادت الحكومة البريطانية حريتها في العمل، واتخذت تقرير لجنة سيمون ومقترحاتها أساسا لوضع الدستور الهندي الجديد؛ وصدر قانون الهند الجديد في يناير سنة 1935 بعد مباحثات ومفاوضات شاقة بين الحكومة والأحزاب، وبعد مناقشات عنيفة داخل البرلمان وخارجه، وبدئ بتطبيقه في الهند البريطانية منذ أول أبريل سنة 1937 حسبما نص فيه؛ فغدت الهند دولة اتحادية، واستقلت ولاية بورما بشئونها، وأجريت الانتخابات الأولى طبقا للدستور الجديد حسبما قدمنا
وقد شرح نائب الملك اللورد لنلثجو مذ كان رئيسا للجنة الهند قواعد الدستور الجديد في بيان رسمي جاء فيه: (يقضي النظام الحالي بأن تشرف الحكومة المركزية على أعمال الحكومات المحلية وتراقبها. ولكن الدستور الجديد يرفع هذا الإشراف، وتغدو الحكومات المحلية مستقلة في معظم شئونها، ويتمتع السكان بحكوماتهم المسئولة. أما الحكومة المركزية الجديدة فسوف تغدو حكومة اتحادية
(بيد أن الحكومة المركزية تحتفظ بالنظر في مسألة الدفاع عن البلاد وفي مسائل السياسة الخارجية، وليس لوزرائها أن ينصحوها في هذه الشئون. كذلك يعتبر كل حاكم ولاية مسئولا عن حفظ الأمن والنظام في ولايته، وله الحق في أن يتخذ ما يجب من الإجراءات الضرورية دون رأي وزرائه)
(وسيتلقى حاكم الولاية التعليمات مباشرة من وزير الهند، كما يتلقى التعليمات من الحكومة المركزية. وهكذا نستطيع أن نقول أن الولايات الهندية ستحكم طبقا لآراء الوزراء الهنود المسئولين أمام البرلمانات المنتخبة، ماعدا بعض مسائل خاصة تبقى خاضعة لإشراف البرلمان الإنكليزي)
والآن يطبق الدستور الجديد في ظروف دقيقة ويقف حزب المؤتمر الوطني بعد ظفره بالأغلبية البرلمانية المطلقة في الولايات الست موقف المعارضة. ولقد أعلن زعيم الحزب الباندت نهرو قبيل بدء الانتخابات إن حزبه يعارض الدستور الجديد منذ البداية، وإنه يخوض الانتخابات لا لكي يتعاون مع الحكومة، ولكن لكي يستعين على محاربتها بالأغلبية البرلمانية؛ وقد نفذ الحزب وعيده فأبى أن يضطلع بأعباء الحكم في الولايات الست لأنه لم يحصل على الضمانات المطلوبة، واضطرت السلطة التنفيذية أن تقيم حكومات من عندها؛ وبذا يشل تطبيق الدستور الجديد منذ الساعة الأولى. والمعارضة تقوى كل يوم وتشتد؛ فماذا تزمع السياسة البريطانية أن تفعل؟ إن السياسة البريطانية لابد أن تجد لها مخرجا من هذا المأزق سواء بالتفاهم والمفاوضة، أو بالمضي في تجاهل المعارضة وتحديها؛ بيد إنها سوف تؤثر خطة اللين بلا ريب؛ وقد رأت السياسة البريطانية أن تقف في تحقيق الأماني الهندية في سبيل الحكم الذاتي عند هذا الحد المتواضع بعد أن لوحت للهند أبان اضطرام الحركة الوطنية، بأمنية الاستقلال الذاتي. أما اليوم وقد خبت الحركة الوطنية، وسرى إليها التفرق والوهن، فإن الهند لا تستطيع أن تطمح إلى نيل المزيد دون أن تخوض مرحلة جديدة من النضال.
(مؤرخ)
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
قد يكون أنصار المادية المفرطة معذورين في زعمهم أن ليس ثمة إلا الجسم وأجهزته والمخ وآثاره، فإنهم يرجعون الظواهر العقلية على اختلافها إلى مصدر ثابت ومنبع معين. كما إن المثاليين الغلاة يتفادون بعض الصعوبات حين يذهبون إلى أن النفس وحدها هي الحقيقة، وما وراءها صور وأوهام فإن هؤلاء وهؤلاء لا يعترفون غلا بأصل واحد ماديا كان أو روحياً يبنون عليه تفسيراتهم وحلولهم. أما من يقولون بالجسم والنفس، بالمادي والروحي، بالثنائية على العموم، فإنهم يصطدمون بعقبة لم يجدوا السبيل إلى تذليلها. وكيف يمكن ربط المختلف والتوفيق بين المتنافر وضم أمرين من طبيعتين متغايرتين أحدهما إلى الآخر؟ لهذا كانت الصلة بين الجسم والنفس عقدة العقد ومشكل المشاكل في كل مراحل التاريخ.
فقديما نرى أفلاطون، وهو أكبر ممثل للثنائية لدى اليونان، مضطرباً وغامضاً إزاء هذه المشكلة، فيقول حينا إن النفس متميزة كل التميز من الجسم وإنها الإنسان على الحقيقة، ويظن حينا آخر أنهما على اتصال وثيق وبينهما عراك دائم، فالجسم يصرف النفس عن الفكر ويجلب عليها آلاماً كثيرة بميوله وأهوائه، وهي من جهة أخرى تحاربه وتجد في الخلاص منه، ولكن كيف يتم هذا التفاعل ويلتقي الجسم بالنفس ويؤثر كل منهما في الآخر؟ هذا ما لم يجب عليه أفلاطون. ولعل أرسطو قد حاول التخلص من هذا المأزق حين ذهب إلى أن النفس صورة للجسم؛ والصورة والمادة متصلان ومتداخلان بحيث يكونان شيئاً واحداً. بيد أن هذا الحل غامض كذلك ولا يخطو بنا إلى الأمام كثيراً. ومع هذا فقد قرر له نجاح كبير في القرون الوسطى؛ فإن أغلب الفلاسفة المدرسيين يزعمون أن النفس صورة للجسم في الوقت الذي يقررون فيه أنها جوهر روحي ذو شخصية مستقلة، وهذا تناقض مكشوف.
وفي التاريخ الحديث يعيدها ديكارت جذعة، ويثير هذا الموضوع في شكل حاد، ويقول بجوهرية الجسم والنفس معاً مميزاً الأول بالحيز والثانية بالتفكير؛ وهذه هي الثنائية
الأفلاطونية في أجلى مظهر. ولكن عبثاً حاول ربط هذين الجوهرين أو إيجاد علاقة بينهما. ثم طمع أتباعه في أن يتلافوا هذا النقص فلم يكونوا أعظم منه خطأ. وربما كانت فكرة التناسق الأزلي التي قال بها ليبتز هي أشهر محاولة في هذا الباب، فهو يعتقد أن الجسم والنفس نسقا أزلاً بحيث يتفقان وإن صار كل منهما في طريق خاصة؛ وخضوع الأول لقوانين السببية لا يحول دونه، والارتباط بالأخيرة التي تخضع لقوانين الفانية. وما أشبههما بساعتين محكمتي الصنع تلتقيان في قياس الزمن، وإن كانتا تبينانه بأشكال مختلفة. تصوير جميل ومهارة في التوفيق، شأن ليبتز في كل فلسته؛ غير أنه في الواقع توفيق صويري وربط خيالي، فإن مؤداه أن لا صلة بين الجسم والنفس، أو أن الصلة بينهما أنهما لا يتعارضان ولا يتعاكسان.
لم يغفل ابن سينا هذه المشكلة ولم يتردد في حلها وتوضيحها، وكيف يغفلها وهو من أنصار الروحية والثنائية؟ وقد سبق لنا أن لخصنا البراهين العديدة التي يستدل بها على جوهرية النفس وروحانيتها. وفي رأيه أن الجسم والنفس متصلان اتصالاً وثيقاً ومتعاونان دون انقطاع. فلولا النفس ما كان الجسم، فإنها مصدر حياته والمدبرة لأمره والمنظمة لقواه. ولولا الجسم ما كانت النفس، فإن تهيؤه لقبولها شرط لوجودها، وتخصصه بها مبدأ وحدتها واستقلالها؛ ولا يمكن أن توجد نفس إلا أن وجدت المادة الجسمية المعدة لها! فهي منذ نشأتها تواقة إلى الجسم ومتعلقة به ومخلوقة لأجله. وفي أدائها لمهامها الكثيرة تستخدمه وتعول عليه. ويكفي أن نشير إلى التفكير الذي هو عملها الخاص فإنه لا يتم إلا أن أرقدتها الحواس بآثارها. وواضح أن العقلي ذو دخل كبير في الجسمي، فرب فكرة هيجت الجسم وأحدثت فيه انفعالات كثيرة، وللجسمي أيضاً أثر على العقلي، فقد تنتج الحركة فكرة ويبعث اعتدال المزاج على الغبطة والسرور. يقول ابن سينا:(انظر إنك إذا استشعرت جانب الله وفكرته في جبروته كيف يقشعر جلدك ويقف شعرك، وهذه الانفعالات والملكات قد تكون أقوى وقد تكون أضعف، ولولا هذه الهيئات ما كانت نفس بعض الناس بحسب العادة أسرع إلى التهتك أو الاستشاطة غضباً من نفس بعض)
فهناك علاقة إذن بين الجسم والنفس وتأثير متبادل؛ وهذا قدر يتفق عليه كل أنصار المذهب الروحي ولا يعز عليهم إثباته، ولكن المشكلة هي: كيف يتم هذا التأثير وكيف
يلتقي الجسمي بالنفسي؟ لكي يجيب ابن سينا على هذا السؤال يلجأ إلى طبه مستمداً منه بعض الملاحظات الفسيولوجية، فيوزع أولاً قوى النفس المختلفة على أجزاء الرأس ويعد لكل واحدة منها مقراً معيناً. فالحس المشترك مثلاً متمركز في أول التجويف المقدم للدماغ، والمصورة في آخر هذا التجويف، والوهم في نهاية التجويف الأوسط، والحافظة في التجويف المؤخر. ويلاحظ ثانياً أنه لابد لهذه القوى من خدم تنفذ أوامرها ومطايا تحمل آثارها. ومطيتها جميعاً جسم لطيف روحاني منتشر في الجسم، يخرج من القلب ويمتد إلى سائر الأطراف، ولا أدل على هذا من أنه إذا تصلب أو انسدت مسالكه انقطعت الحركة والإحساس. وهذا الجسم هو الروح التي تمد الأعضاء بالحرارة الضرورية للحياة وتربط القوى النفسية بعضها ببعض. فكأن القلب الجزء الرئيسي الذي يلتقي فيه الروحي بالمادي والعقلي بالجسمي. حقاً إن الدماغ يشرف على الجهاز العصبي ويتقبل الاحساسات ويدفع إلى الحركة، ولكنه هو أيضاً خاضع للقلب ومحتاج إلى الحرارة العضوية التي يبعث بها إليه.
هذه الفسيولوجيا تصعد إلى جالينوس وأبقراط وتمت ينسب إلى أرسطو. فإن تركيز قوى النفس في مناطق خاصة من الدماغ أمر عنى به جالينوس، ثم أخذه عنه العرب في شيء من التصرف، فتراه لدى الفارابي كما نراه لدى ابن سينا وأغلب الأطباء والفلاسفة المسلمين. والروح التي تربط القوى النفسية بأجزاء الجسم وتنفذ أوامرها ليست شيئاً آخر سوى الأبنيما التي قال بها اليونانيون الأول. وذلك أن ديوجين الأبولوني يزعم أن التفكير إنما يتولد من ذلك الهواء الذي يسبح في أوردة الجسم وشرايينه. ويقول هيرافليط إن التنفس يغذي النفس بالهواء الذي لولاه ما كانت حياة ولا عقل ومن هنا تولدت نظرية الأبنيما التي لعبت دوراً هاماً في الفسيولوجيا وعلم النفس القديم.
ومعظم أطباء الإغريق لا يرون في الأبنيما مصدر القوة والحرارة الإنسانية فقط. بل يعدونها منبع التفكير، وكثيراً ما يخلطون بينها وبين النفس. والرواقيون بوجه خاص وإن قالوا بجسميتها يصفونها بكل الصفات الروحية. وقد قدر لهذه الفكرة أن تحيا إلى أن استكشفت الدورة الدموية التي قامت على أنقاضها. ويظهر أن قسطا بن لوقا البعلبكي والمترجم المشهور المتوفى سنة 835 ميلادية هو أول من أدخلها في العالم العربي، فقد
كتب بحثاً صغيراً فرق فيه بين النفس والروح فبينما الأولى في رأيه جوهر روحي بسيط غير قابل للفناء إذا بالثانية جسم لطيف يشرف على أعمالنا العضوية والعقلية، وإذا ما توقف عن الحركة كان الموت. فالروح إذن أداة النفس وبواسطتها يتحرك الجسم ويعد للإدراك، وبذا استطاع قسطاً أن يوفق بين الأبنيما التي يعول عليها الأطباء والنفس التي ينادي بها الفلاسفة، وقد سار على سنته من جاء بعده من مفكري الإسلام.
وأما الصلة بين القلب والدماغ وأثرهما في الظواهر النفسية فتلك نقطة خلاف بين أرسطو وجالينوس. ففي حين أن الفيلسوف يرى أن القلب هو مركز القوى النفسية الرئيسية نجد الطبيب يصعد بذلك إلى الرأس ويعتبره المهيمن على كل الحياة العقلية. وابن سينا، وإن كانت منزلته الطبية لا تقل عن درجته الفلسفية، لا يتردد في أن ينتصر لأرسطو. ويصرح، على أي أساس لا أدري، أن الفلاسفة هم أصحاب الرأي والذين يستطيعون الفصل في مثل هذه المسائل، ومع هذا فإنه لا ينكر ما للدماغ وأعصابه من دخل في الحركة والإحساس. ومهما يكن فلعل هذه الآراء هي منبع تعريف العقل المشهور الذي ردده المتأخرون من مؤلفي العرب، فهم يكادون يجمعون على أنه قوة أودعها الله في القلب ولها شعاع متصل بالدماغ.
لا نظن أنا في حاجة إلى مناقشة هذه الفسيولوجيا البائدة فإن كشف الدورة الدموية قد قضى على فكرة الأبنيما وما يتفرع عنها، ودراسة الجهاز العصبي الحديثة لا تدع مجالاً لتلك الآراء التي كانت تعد القلب المركز الرئيسي للحياة النفسية. والنظرية القائلة بتوزيع المخ إلى مناطق نفوذ مستقلة تقوم كل واحدة منها بعمل خاص، وإن كانت قد صادفت أنصاراً عديدين في القرن التاسع عشر، لا تفسر الظواهر العقلية تفسيراً مقنعاً. على أن ابن سينا كان يمزج الفسيولوجيا بعلم النفس النظري، ويخلط المادي بالروحي دون أن يوضح كيف يتفاعلان؛ والصعوبة كل الصعوبة في توضيح هذا التفاعل. فهو إذن لم يوفق لحل مشكلة الصلة بن النفس والجسم ولم يأتنا فيها بجديد؛ وكل ما عمله هو أن ضم أفكاراً أرسطية إلى أخرى جالونيسية على الرغم مما بينهما من تنافر أو تعارض.
(يتبع)
إبراهيم مدكور
في الأدب المقارن
القصص
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الميل إلى تأليف القصص والاستمتاع بسماعه طبيعيان في الإنسان، فهو كما يميل تبعاً لغريزة الاستطلاع إلى مشاهده حوادث الحياة تترى أمام عينيه، يميل إلى حكايتها لغيره كما رآها أو تخيلها؛ ويميل إلى الاستماع إلى غيره يرويها له، يشبع بها غريزة الاستطلاع وملكه الخيال من نفسه. والحياة ذاتها ليست سوى قصة متتابعة الحوادث متوالية الفصول. وليس بد لمن شاء وصف بعض مظاهرها أو ظروفها من اللجوء إلى القصص، وإلى القصص يلجأ بداهة كل صديقين تلاقيا بعد طول فراق، وبالقصص يشغف الأطفال أشد الشغف، وبه شغف الإنسان في عهد طفولته التاريخية.
كان القصص أول صور الأدب ظهوراً، بل كان جماع الأدب والعلم والثقافة العامة لدى الجماعات الأولى، يشمل معارفهم بالخلق والطبيعة والتاريخ وعقائدهم وتقاليدهم، فما من شيء من ذلك كله إلا حاكوا له قصة، ولا مظهر إلا اخترعوا له حكاية تعلله، فكان قصص تلك العهود مملوءاً بالخرافات والأوهام، دائراً حول الآلهة والملوك والأبطال والقبائل، وبالجملة كان قصصاً رومانسياً تكثر فيه الخوارق والعظائم والمفاجئات والمخاطرات. وقد تخلف من كل ذلك تراث حافل من نثر وشعر، يتمثل في أساطير الأولين من مصريين وفرس وإغريق ورومان، وبارتقاء الجماعة العقلي يتخلص العلم رويداً رويداً من آثار القصص والخرافة ويختص الأدب بتلك الآثار وتتمثل في شعر الملاحم وما شاكله.
وإذا ما ظهر النثر الفني فقد ولت في آثاره أساطير الأولين تلك، وإن بطل الاعتقاد في كثير منها، وخطا القصص إلى المرحلة الثانية من مراحل تطوره، فاتخذ وسيلة لإسداء المواعظ وإذاعة التجارب وتحبيذ الفضيلة. أو لشرح النظريات العلمية أو الفلسفية ووضع لذلك على ألسنة الطير والحيوان، أو أفواه الأرواح والجان، وصيغ أحياناً في شكل حوار، كما يرى في قصص إيزوب وجمهورية أفلاطون وحكايات لافونتين وكتاب أميل لروسو؛
ويتطور القصص الشعري أيضاً فتظهر الرواية الشعرية التمثيلية، وتحل محل الملحمة، وينفصل التاريخ مستقلاً عن الأدب متخلصاً جهده من الأساطير، وإن ظل الاتصال بين التاريخ والأدب وشيجاً طول العصور.
فإذا اطرد رقي الحضارة ونمو العلم وازدهار الأدب ورواج النثر الفني، خطا القصص إلى مرحلته الأخيرة نحو الكمال، فصار فناً مستقلاً من كل غاية خارجة، غايته الوحيدة غاية كل الفنون، وهي الجمال والشعور وتصوير النفس الإنسانية، وصارت له قواعده وتقاليده المفهومة، وبلغ مكانة ضرب راق من ضروب الأدب كالملحمة والدراما والخطابة، وسامي به النثر الشعر وباراه جولانا في ميدان النفس الإنسانية وأداء لوظيفة الأدب، وظهر في مضماره من فحول الكتاب من يضاهون فحول الشعر منزلة ونبوغاً، بل ظهر من الأدباء من يجمع بين الشعر والقصص، وذهب الوهم الذي كان سائداً من قبل من أن القصص مطلب هين، وقنص شهب البزاة سواء فيه والرخم.
وللقصص، إذا ما بلغ هذا الطور السامي من أطوار رقيه مزايا يختص بها دون غيره من ضروب الأدب منظومه ومنثوره فهو يمتاز برحب المجال رحباً يمكن من يمارسه من تناول أطراف الحياة المترامية، بين جد وفكاهة ووصف وحكمة وعلم وأدب، وهو يفسح للخيال متسعاً بعيد الآفاق، ويمتع اللب بما يعرض من دقائق الحياة وتفاصيلها إلى جانب جلائلها وبعيد أقطارها، وبه يعرض من أحوال الحب وأطواره ما يضيق الشعر نفسه ذرعاً باستقصائه إلى لمحات خاطفة، وقبل القصص كان النسيب وقفاً على الشعر دون النثر، والقصص لسهولة متناوله يذيع في الخاصة والعامة على حد سواء، على حين كان الشعر وقفاً على خاصة المثقفين.
ولذيوع القصص في الخاصة والعامة وجد فيه المصلحون وسيلة عديمة النظير لتر آرائهم ودعاياتهم، بتصوير الحال التي يكرهون وإبراز مساوئها وعرض ضحاياها والتنديد بجناتها وتشخيص سبل ملاقاتها، كل ذلك في أسلوب قصصي شائق تقبله النفس وتسيغه وتقتنع به اقتناعاً كان صعب المنال لو عرض عليها الأمر في صورة النصح أو الوعظ. ومن أشهر القصصيين الدعاة تولستوي وأبسن وآبانيز وغيرهم ممن كان لهم أكبر الأثر في الفكر الحديث وأعظم الضلع في التطور العقلي والمادي، وهو أثر قل أن يجاريه أثر الشعر في
سالف العصور.
فالقصة ضرب من الأدب مرن، يجمع مزايا الشعر كالخيال والعاطفة إلى مزايا النثر كالرحب والدقة والاستقصاء والفائدة العملية، وهي بهذا تلائم العصر الحديث أكبر ملائمة، وهذا سر ذيوعها حتى كادت تعطل ما عداها من ضروب القول، فقد تهيأت الأسباب من القرن الثامن عشر إلى اليوم لنهوض القصة الفنية، التي تدرس نفس الفرد وحياة المجتمع وتحلل العواطف وتشرح الآراء والمبادئ، وذلك برقي السواد الأعظم من الأمة بعد أن كان هملاً في غابر العصور، وانتشار التعليم العام وبروز شخصية الفرد وذيوع مبادئ الحرية والديمقراطية، هذا إلى ارتقاء الطباعة واعتماد الأدباء على الجمهور القارئ لا على رعاية الأمراء والوجهاء.
ولم تقتصر القصة في رقيها هذا الحديث على أن تميزت واستقلت ضرباً قاتماً من ضروب الأدب، يتوفر على ممارسته بعض أقطاب الأدب، بل تطورت القصة تطوراً داخلياً، وتميزت فيها ضروب من القصص يتوفر على كل منها بعض القصصيين: فهناك القصة التاريخية التي تدور حول الملوك والعظماء السابقين، والقصة البيتية التي تصور المجتمع المتواضع تصويراً شائقاً، والقصة لنفسية التي تحلل بواطن النفوس معتمدة على نظريات علم النفس الحديث أحياناً، والقصة الإصلاحية التي تحاول تحسين حال العامل أو تعديل بعض النظم القانونية أو الاجتماعية، أو تقويم بعض المعتقدات والتقاليد، والقصة المستقبلية التي تتنبأ بما سيصير إليه الإنسان وتحاول تسديد خطاه إلى ما يجب أن ينزع إليه في مستقبله، والقصة البوليسية التي تعرض حيل المجرمين وخطط متعقبيهم من الشرطة، وقصة المغامرات التي تصف أعمال بعض الأفاقين ورحلاته في المجاهل.
هكذا يتطور القصص، من نوادر وأساطير بدائية واهية القصد منتشرة النظام، إلى صور فنية محكمة، ومن أشباح مبهمة وحوادث متضاربة إلى شخصيات ناطقة وسياق منطقي منسجم، ومن الخرافي والخارق والبعيد إلى الواقع والعلمي والحاضر، ومن الماضي بآلهته وأبطاله وعظمائه إلى الحاضر بمشاكله العادية وأفراده المشهودين، ومن اللفظ الطنان والخيال الشارد والعاطفة الثائرة إلى المعنى المتدبر والتأمل الهادئ والوصف المفصل؛ وهذه الصفات التي تكتسبها القصة في طورها الراقي تكتسبها معها أو بعدها الرواية
التمثيلية التي هي أسبق من صاحبتها إلى الظهور، فتهجر الشعر إلى النثر، والخيال إلى الدقة، وتدرس النفس والمجتمع دراسة القصة لهما، لا تكادان تختلفان إلا شكلاً وطريقة تناول. فصاحب الرواية التمثيلية يترك أبطاله يرسمون شخصياتهم وأخلاقهم بأفواههم، وصاحب القصة لا يدعهم يفعلون ذلك إلا إلى مدى؛ ثم هو يتولى عنهم الشرح ويحللهم تحليلاً دقيقاً، ويكون من الأدباء من يجمعون بين كتابة الرواية التمثيلية والقصة المقروءة.
كان للإنجليز قصصهم وأخبارهم وأساطيرهم قبل أن يتحضروا كما كان لغيرهم من الشعوب. وكان كل ذلك يتداول شفاهاً، فلما تحضروا وعرفوا الكتابة كان الشعر كعادته أسبق إلى الرقي، فظهرت فيه قصص تشوسر المسماة حكايات كنتربري، ثم ارتقت الرواية التمثيلية في عصر إليزابث على يد شكسبير ومعاصريه رقياً عظيماً؛ وبدأت القصة النثرية في مرحلتها الثانية، فاتخذت وسيلة لغيرها: اتخذها صاحب كتاب (يوفيواس) وسيلة لشراح آداب الجنتلمان، واتخذها مؤلف (يوتوبيا) وسيلة لتصوير المدينة الفاضلة، واتخذها كاتب (أطلانطس) وسيلة لبسط النظريات العلمية، وفي كل هذه كان الفن هزيلاً والشخصيات مطموسة أو معدومة والسياق متداعياً.
ثم تهيأت الأسباب الاجتماعية والمادية والمعنوية سالفة الذكر اللازمة لدخول القصة طورها الثالث، طور الفن المنسجم المهذب الذي يتوفر على تحليل النفس ودرس المجتمع، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر، وقد بدأ ذلك التطور تدريجياً كما هو الشأن في كل تطورات الطبيعة والمجتمع الإنساني، فانسلخت القصة رويداً رويداً عن المقالة الاجتماعية التي كانت منتشرة إذ ذاك في الصحف الدورية على أيدي ستيل وأديسون: كانت تلك المقالة تهتم بالأحوال الاجتماعية، وتتعرض لشخصيات المجتمع تحللها، وأولعت بشخص واحد يدعى سير رودجر، تتتبعه في شتى المواقف وتنطقه بشتى الملاحظات وتحيطه بمختلف الشخصيات، فكان من مجموع تلك المقالات قصة ذات تصميم وشخصيات وبطل وحوار ووسط اجتماعي وهلم جرا، ولم يبق أمام الكتاب الذين جاءوا بعد أديسون وستيل، إلا أن يزيدوا التصميم إحكاماً والحوار تسديداً والشخصيات بروزاً.
وكان تاريخ القصة بعد ذلك خلال القرنين السالفين تاريخ تطور ورقي مستمرين، أحكمت أوضاعها وتعددت ضروبها وتتابعت أزياؤها، وظهر فيها كبار المؤلفين رجالاً ونساء: منهم
فيلدنج وديفر وسمولت كتاب قصص المغامرات، وجين أوستن وشارلوت برونتتي ومسز جاسكل مؤلفات قصص المجتمع، وسكوت صاحب القصص التاريخية، ودكنز وبتلر أصحاب القصص الإصلاحية، وكونان دويل مخترع القصص البوليسية الذي صير اسم شرلوك هولمز علماً على ذلك الضرب من القصص، إلى غير هؤلاء من القصصيين الذين لا يحصون، وإلى غير تلك من ضروب القصص التي لا تستقصى. وفي تلك القصص تناول القصصيون أطراف الحياة المتباعدة وأمتعوا النفوس وأرضوا الفن، وما زالت القصة في صعود وكأنها لما تبلغ ذروتها.
وفي خلال ذلك الوقت كانت الرواية التمثيلية تتطور وتبعث بعثاً جديداً، على صورة مماثلة للقصة المقروءة، قوامها النثر السهل المرسل والواقع الحاضر، ومرماها درس المجتمع والشخصيات وتحليل الآراء والمذاهب، وظهر في مجالها أرنولد بنيت وبرناردشو وجالزورذي وغيرهم، وإلى الأخيرين يعزى الفضل في كثير من الإصلاح الذي طرأ على النظم الاجتماعية والمذاهب الفكرية في الجيل الأخير، حتى شبه شو بمكنسة كهربائية ذهنية، تنقي أوضار العقول من خرافات وتعصب وحماقات وتقاليد فاسدة.
وكان للعرب في جاهليتهم قصصهم وأخبارهم وأيامهم وأساطيرهم، متداخلاً كل ذلك في شعرهم ونثرهم، مختلطا بثقافتهم ودينهم، وقد تخلف كثير من ذلك بعد ذهاب الجاهلية، وظل مختلطاً بالأدب ممتزجاً بالتاريخ، يظهر في كتابات الجاحظ والأصمعي والطبري والاصبهاني، وغيرهم من الكتاب والمؤرخين على السواء؛ وحيكت نوادر جديدة حول أعلام الحب والحرب، وكابن أبي ربيعة وأبي نؤاس وعنترة ومهلهل؛ وحوى القرآن الكريم طرفاً جليلاً من شائق القصص، وما زالت السور المحتوية على قصص يوسف ومريم ونوح من أقرب سور القرآن إلى نفوس الخاصة والعامة؛ ثم انتشرت الكتابة وذاع النثر الفني، فدخل القصص طوره الثاني: الطور الذي فيه يستخدم وسيلة لغيره، فاتخذ في كليلة ودمنة وسيلة لبث الحكمة، وفي رسالة حي بن يقظان ذريعة لشرح مسائل الفلسفة، ولا حاجة إلى القول بأن خصائص القصة الفنية في هذه الكتب وأمثالها كانت ضعيفة واهية.
ثم تمهدت بعض أسباب دخول القصة في طورها الثالث الفني: باستقرار الحضارة والرفاهة، ونضج الثقافة ورواج سوق الأدب وكان ذلك في القرن الرابع، فبدأت تنمو بذور
القصة الفنية التي تدرس المجتمع وتحلل الشخصية وتهتم بالتصميم الفني والفكرة الموحدة، ويبدو كل ذلك في مقامات بديع الزمان، فهذا الكاتب يمثل في العربية من هذه الوجهة مكان أديسون وستيل في الإنجليزية، وقد أبدى في ثنايا مقاماته من نفاذ النظرة وبداعة الوصف وبراعة الفكاهة وتنوع الموضوعات ما هو جدير بأسمى أنواع القصص؛ واخترع شخصية أبي الفتح الإسكندري فكان على الأرجح المؤلف العربي الوحيد الذي أخترع شخصية شائقة واضحة من صنع الخيال المجرد. ولم تكن شخصيات المقامات التالية فيما بعد إلا نسخاً مكررة منه لا ابتكار فيها، وشخصية أبي الفتح الإسكندري تعين من مراحل تطور القصة العربية نفس المرحلة التي تعيها شخصية سير رودجر ديكفري من تطور القصة الإنجليزية.
فمقامات البديع في الأدب العربي بمثابة مقالات أديسون وستيل في الأدب الإنجليزي: تعين بدء ظهور القصة الفنية الاجتماعية التحليلية، بيد أن تطور القصة العربية وقف عند هذا الحد لا يتخطاه. ولم يبلغ مرحلته التالية، لأن الأسباب اللازمة لذلك لم تكن مكتملة: فالمقامات ذاتها قد ظهرت متأخرة، ظهرت في أوج رقي الأدب العربي في القرن الرابع. وكان أجدر أن تأتي متقدمة في القرن الثاني مثلاً، فيليها باقي التطور المنشود الذي تلا مقالات أديسون وصاحبه في الإنجليزية، وما ذاك إلا لنزعة الجمود والتقليد التي كانت دائماً مخيمة على الأدب العربي، تمنع المغامرة الأدبية والابتكار والتنويع في الأشكال والموضوعات، وفقدت المقامات بعد بديع الزمان صبغتها الاجتماعية وأصبحت لعباً بالألفاظ والمعاني.
أضف إلى نزعة الجمود تلك استمرار اعتماد الأدب على الأمراء دون جمهور الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب أو يحاولون الأخذ بيده وقيادة طريقه: فالحريري مثلاً حين تتابع بديع الزمان وكتب مقاماته لم يكتبها بداع من داخل نفسه يدعوه إلى تناول مشاكل المجتمع ومطامع الشعب بالدرس ولعرض والإصلاح والتوجيه، بل امتثالاً لإشارة بعض الأمراء ممن (إشارته حكم، وطاعته غنم) كما يقول هو في مقدمته ومحال أن ترقى القصة الاجتماعية في مجتمع أدباؤه متنصلون من مشاكل شعبه لائذون بظل أمرائه.
زد على ذلك مكانة المرأة في المجتمع، التي كانت قد بلغت قبل أن يكتب البديع مقاماته حداً من التدهور بعيداً، بعد ما كان من امتداد الفتوح واختلاط الأجناس وتفشي التسري والعبث. فضرب على المرأة الحجاب، وخيم عليها الجهل واعتزلت المجتمع، والمجتمع بغير المرأة لا يخرج القصة الفنية التي تدرس الحب وتقدس الزواج وتشرح العواطف، وإنما ينتج الشعر المستهتر البذيء كشعر بشار وأبي نؤاس. وقد كان إنهاض حال المرأة نصب عيني أديسون وستيل وغيرهما ممن تلاهما من القصصيين كما كان الحب مداراً أكثر القصص، كما كان من النساء جم غفير من القصصيات كما تقدم.
وإلى نزعة التقليد التي كانت تسود الأدب العربي، كان ذلك الأدب ينزع إلى الصنعة اللفظية: فمقامات البديع ذاتها مثقلة بالصنعة والمحسنات، ولا غرو، فإذا كان الأدب قد تخلى إلى حد بعيد عن مشاكل المجتمع، فلم يبق له من مواد القول إلا النذر اليسير، فلما أعوزه الافتنان في المعاني التفت إلى اللاعب باللفظ، وإلى هذه الزركشة اللفظية قصد الحريري أول ما قصد في محاكاته للبديع، ولم يفكر قط في ابتكار جديد من جهة المعاني والأفكار ولم يحاول الزيادة عليه من جهة تناول الموضوعات الاجتماعية، بل اكتفى بالتقليد الشكلي، فجعل في كل مقامة شخصين يروي أحدهما عن الآخر، وتنقسم المقامة بذلك إلى قسمين. دهليز للقصة كما يقول العامة، والقصة ذاتها التي تبدأ بظهور البطل، ولم تجئ شخصية بطله في وضوح شخصية أبي الفتح وتعدد نواحيها.
فحالة المجتمع العربي، ونظام الحكم فيه، ومنزع الأدب العربي، كل هاتيك لم تكن ملائمة لتطور القصص إلى كماله، فوقف عند بدء الطور الثالث، وهو الطور الفني الصميم، فعرف الأدب العربي النوادر والأخبار والسير وما إليها، وعرف الحكايات ذوات المغزى العلمي أو الخلقي، ولم يعرف القصة الاجتماعية والنفسية ذات التصميم المحكم والشخصيات الواضحة، والفكرة الموحدة والغاية المستقلة والموضع الفني، ولم تسم القصة في الأدب العربي إلى منزلة عالية كالتي تمتع بها الشعر والخطابة والنقد، وظل للشعر المكانة الأولى وبقى مستأثراً بأكثر ضروب القول، ولم يظهر في القصة من الأعلام أمثال من ظهر في الشعر والنقد والخطابة، وترك القصص المطول الحافل بالوصف الاجتماعي والخيالي العامة.
فخري أبو السعود
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعَاف النشاشيبي
13 -
في النيل
في (حلبة الكميت): ركب الأمير تميم في النيل متنزهاً فمرَّ ببعض الطاقات المشرفة فسمع جارية تنشد شعراً:
نبهتُ نَدماني بدجلة مَوْهناً
…
والنجم في أفق السماء معلق
والبدر يضحك وجهه في وجهها
…
والماء يرقص حولها ويصفق
فأستحسنهما تميم وشرب عليهما، وما زال يستعيدهما ويشرب حتى انصرف وهو لا يعقل سكراً. فلما أصبح قابلها بهذين البيتين:
شربنا على النيل لما بدا
…
بموج يزيد ولا ينقص
كأنَّ تكاثف أمواجه
…
معاطفُ جارية ترقص
14 -
شهادة. . .
كان أبو عيسى بن الرشيد يقول لعمه إبراهيم بن المهدي:
السكر على صوتك شهادة يا عم. . .
15 -
أتكابر إبليس؟
في (محاضرات الراغب): قال أبو نُؤاس: كنت يوماً في الحمام فقلت قصيدة وفيها:
فتمشت في مفاصلهم
…
كتمشي النار في الفَحَم
ولم يكن معي أحد فتراءى لي شبح فقال: قطع الله لسانك فإنك لا تفلح! أتقول مثل ما يقول العوام؟ ألا قلت:
فتمشت في مفاصلهم
…
كتمشي البرء في السقم
فقلت: هكذا قلت
فقال: أتكابر إبليس؟؟
16 -
أحسن الجواب
قال أبو العيناء: قال لي الخليفة المنتصر يوماً: ما أحسنُ الجواب؟
فقلت: ما أسكت المبطل، وحيّر المحق
فقال: أحسنت والله!
17 -
بالله ألا رحمت غربتها
في (اليتيمة): حكى أبو الخطاب بن عون الحريري النحوي الشاعر أنه دخل على أبي العباس النامي قال: فوجدته جالساً ورأسه كالثغامة بياضاً، وفيه شعرة واحدة سوداء، فقلت له: يا سيدي، في رأسك شعرة سوداء
فقال: نعم، هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها، ولي فيها شعر. فقلت: أنشدنيه، فأنشدني:
رأيت في الرأس شعرة بقيت
…
سوداء تهوى العيون رؤيتها
فقلت للبيض إذ تروّعها
…
بالله ألا رحمت غربتها!
فقلَّ لبث البياض في وطن
…
تكون فيه البيضاء ضرتها
ثم قال: يا أبا الخطاب، بيضاء واحدة تروِّع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء؟
18 -
المقادير تصير العي خطيباً
قال الطبري في تاريخه:
يحكى أن الحجاج ذُكر عنده رجل بالجهل فأراد اختباره
فقال: أعظامي أم عصامي؟ أراد أشرفت بآبائك الذين صاروا عظاماً أم بنفسك
فقال الرجل: أنا عصامي عظامي، فقال الحجاج: هذا أفضل الناس، فقضى حوائجه. ومكث عنده ثم فتشه فوجده أجهل الناس. فقال له: تصدقني كيف أجبت بما أجبتني به حين سألتك عما سألتك؟
فقال: لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما، فقلت كليهما، فإن أضرني أحدهما نفعني الآخر
فقال الحجاج عند ذلك: المقادير تصير العيَّ خطيباً
19 -
إذا تمت صارت سياسة
في تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء لهلال بن المحسن الصابي قال أبو الحسن بن الفرات:
أصل أمور السلطان مخرقة فإذا تمت واستحكمت صارت سياسة
20 -
بكت رحمة للورى بالدم
قال أبو الأصبع بن رشيد الأشبيلي لما هطلت بأشبيلية سحابة بقَطْر أحمر في يوم السبت الثالث عشر من صفر عام (564):
لقد آن للناس أن يقلعوا
…
ويمشوا على السنن الأقوم
متى عهد الغيث (يا غافلا)
…
كلون العقيق أو العندم
أظن الغمائم في جوها
…
بكت (رحمة للورى) بالدم
21 -
اقرأ قرآنك
قال الشاطبي في (الاعتصام):
كان في الزمن القريب رجل يقال له الفزارة أدعى النبوة وأستظهر عليها بأمور موهنة للكرامات والإخبار بالمغيبات، ومخيلة لخوارق العادات، تبعه على ذلك من العوام جملة. وكان مقتل هذا المفتري على يد أبي جعفر بن الزبير.
قال الحسن بن الجباب: لما أمر بالتأهب يوم قتله، وهو في السجن الذي أخرج منه، جهر بتلاوة سورة (يس) فقال له أحد الدعار ممن جمع السجن بينهما: إقرأ قرآنك، لأي شيء تتفضل على قرآننا اليوم؟ فتركها مثلاً بلذوعيته،
22 -
تعالوا نتكرم اليوم
قال أبو الحسن القروي يوماً لندمائه: تعالوا نتكرم اليوم
فقالوا: وأي يوم لا يتكرم فيه سيدنا؟
قال: قولي (نتكرم) من (الكرْم) لا من الكرَم
قالوا: وكيف؟
قال: نأكل سكباجة وحصرمية، وحلوى دبسية ونشرب العنبي. ونتنقل بالزبيب، لنكون قد استوفينا مرافق الكرْم ومنافعه
قال بعضهم: ينبغي أن نستوقد بقضبانه أيضاً ليتم التكرم.
فقال: أحسنت وجودت، وأمر بذلك كله وطاب يومهم
23 -
إن غبت عنا دخل الصبح
قال القاضي الفاضل:
بتنا على حال يسر الهوى
…
وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له:
…
إن غبت عنا دخل الصبح!
24 -
صدق الأمير
في شرح (النهج) لأبن أبي الحديد:
ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني في مسئلة كلامية، فجعل النوشجاني يخضع في الكلام ويستخذى له، فقال: يا محمد، أراك تنقاد إلى ما أقوله قبل وجوب الحجة لي عليك وقد ساءني ذلك منك، ولو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة وهيبة الرياسة لصدقت وإن كنت كاذباً، وعدلت وإن كنت جائراً، وصوبت وإن كنت مخطئاً؛ ولكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة؛ وإن أنقص الملوك عقلاً وأسخفهم رأياً من رضى بقولهم: صدق الأمير. . .
25 -
هناك والله قرارة اللؤم
وقف إعرابي فسأل قوماً فقالوا: عليك بالصيارفة.
قال: هناك (والله) قرارة اللؤم
26 -
كبرت
في (نفح الطيب):
قال أبو محمد بن حزم الحافظ: كنت يوماً في مجلس الرئيس الفقيه أبي بكر بن زهر، فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان، وكان ابن زهر يكرمه، فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم؟
فقال: كبرت!
فلم أفهم مقصده، وأستبردت ما أتى به؛ وفهم مني أبو بكر ابن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر.
فقال لي: أقرأت شعر المتنبي؟
قلت: نعم: وحفظت جميعه.
قال: فعلى نفسك (إذن) فلتنكر، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم، فذكرني بقول المتنبي:
كبرت حول ديارهم لما بدت
…
منها الشموس وليس فيها المشرق
فأعتذرت للخراساني وقلت له: قد (والله) كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي هندي حين لم افهم نبل مقصدك.
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
- 1 -
هل الفلسفة الإغريقية وليدة الفلسفة الشرقية؟
تمهيد
تشغل الباحثين منذ أقدم عصور التاريخ مشكلة لم يهتدوا إلى حلها حتى اليوم حلاً حاسماً يقف تيار الاعتراضات من الجهات المعارضة. وإن كانت بحوث المستشرقين والمستمصرين في العصر الحديث قد وصلت إلى ترجيح إحدى كفتي الميزان في هذه الفكرة العويصة التي يترتب عليها تغيير اتجاه الحكم على اليونان وعلى الشعوب الشرقية القديمة إلى ناحية غير التي كان يسير فيها قبل ظهور نتائج هذه البحوث. تلك المشكلة هي: هل الفلسفة اليونانية ابتدعت في يونان وليس لها أية صلة بالشعوب الشرقية؟ أو هي تراث نظمه الإغريق؟ وإذا كانت الأولى، فهل يرجع مبدؤها إلى القرن السادس فقط كما زعم (أرسطو) حين قرر أن (تاليس) هو أول الفلاسفة جميعاً؟ أو يمكن اصعاد الفلسفة إلى عصور غابرة إغريقية محضة؟ وإذا كانت الثانية، فما هو أول تلك الشعوب الشرقية الذي نشأت الفلسفة بين ربوعه؟
قرر أرسطو أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في تاريخ العقلية البشرية في تلك المستعمرة اليونانية التي تدعى (أيونيا) والتي سبق أن أسسها قوم من الإغريق القدماء الذين هاجروا في عصور ما قبل التاريخ إلى آسيا الصغرى وأسسوا بها تلك المدن التي لم يلبث الإغريق الأصليون أن احتلوها وبسطوا عليها سلطانهم السياسي والأدبي، فأفسحوا بذلك الطريق أمام العقل الإغريقي الجبار، وحلوا عقاله الذي كان قد أمسكه في آسيا عن الصولان في عصور ما قبل الاستعمار الجديد. وأول من بدأت العقلية الإغريقية القديمة تتمثل فيه هو:(تاليس المليتي) أول فيلسوف في الدنيا. وإذاً، فالفلسفة إغريقية الأصل والعنصر، وهي لا تصعد في رأي أرسطو إلى ما وراء القرن السادس قبل المسيح، ولكن (ديوجين لاإرس) المؤرخ
الإغريقي الشهير الذي عاش في القرن الثالث قبل المسيح يحدثنا في كتابه (حياة الفلاسفة) عن فلسفة المصريين والفرس في العصور الغابرة حديثاً ممتعاً يدل دلالة قاطعة على أن الشرق قد سبق الغرب إلى الفلسفة بزمن بعيد. وأنه كان أستاذه في كل ما وراء الطبيعة كما كان أستاذه في العلوم الطبيعية والرياضية بأنواعها، وأن الغرب جلس في الأزمان المظلمة مجلس التلميذ المستلهم من الشرق العالم المستنير.
فأنت ترى تعارض هاتين الفكرتين وتصادمهما منذ أكثر من ثلاثة وعشرين قرناً، وترى كذلك أن لكل منهما أشياعاً ومؤيدين، ففريق يسلك منهج أرسطو فيؤكد أنه ليس للشرقيين فضل في هذه الثروة العقلية العظيمة إلا ما ظهر لفلاسفتهم بعد الإسلام من مجهودات في شرح الفلسفة اليونانية وتوجيهها؛ أما في العصور الأثرية فلم يعرف التاريخ عنهم إلا الدين المقيد بالوحي ولم يحفظ لنا عنهم مجهودات شخصية تشرف العقلية البشرية، بل إنهم نسبوا كل شيء عندهم إلى السماء، حتى تلك المتناثرات الأخلاقية المنتزعة من الفضائل العملية والمصوغة في حكم مقتضبة، ويتخذون دليلاً على هذا ما تزدحم به كتب التاريخ من ازدهار الدين وإجداب الفلسفة في الشرق كل هذا الوقت الطويل الذي تلا العصور الأثرية، ويقولون: إنه لو كان للشرق فلسفة لشملها ناموس التقدم ولشاهد العالم تطوراتها المختلفة كما حدث في بلاد الإغريق. ومن أشهر أصحاب هذا الرأي في العصور الأخيرة (بارتلي سانت - هلير) إذ يقول في مقدمة ترجمته (للكون والفساد) ما نصه: (أما من جهة الفلسفة الشرقية فإننا لا نعرف، بل ربما لن نعرف أبداً من أمرها شيئاً معيناً بالضبط فيما يختص بعصورها الرئيسية وانقلاباتها، فإن أزمنتها وأمكنتها وأهلها تكاد تعزب عنا على سواء. إنها مستعصمة دون إدراكنا مدعاة للشكوك لما يغشاها من كثيف الظلمات، حتى لو عرفنا منها هذه التفاصيل مع الضبط الكافي لما أفادنا ذلك إلا من جهة إرضاء رغبتنا في الاطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيراً. إن الفلسفة الشرقية لم تؤثر في فلسفتنا مع التسليم بأنها تقدمتها في الهند وفي الصين وفي فارس وفي مصر فإننا لم نستعر منها كثيراً ولا قليلاً. فليس علينا أن نصعد إليها، لنعرف من نحن ومن أين جئنا
ثم قال:
ولقد تصديت فوق ذلك لتبيين أن العبقرية الإغريقية هي التي دانت العالم بهذا النفع العلمي
الجليل دون أن تكون مدينة فيه لغيرها، فإذا كانت الشعوب المجاورة لها آتتها شيئاً من العلم فما هو إلا مدد مبهم غاية في الإبهام. لا مراء في أن المصريين والكلدان والهنود لهم في ماضي الإنسانية مقام كبير، ولكنهم مع ذلك في الفلسفة أو في العلم بعبارة أعم ليسوا شيئاً مذكوراً في جانب الإغريق الذين لم يكونوا ليتعلموا منهم.
وقال أيضاً: (وإن العلم على جميع صوره كان معدوماً في الشرق فأخترعه الإغريق ونقلوه إلينا).
ولهذا الرأي مقلدون في مصر كما هي الحال في كل فكرة تطعن على الشرق.
وفريق آخر يذهب إلى ما نقله (لاإرس) من أن الفلسفة الإغريقية ليست إلا تراثاً شرقياً متغلغلاً في القدم ويستندون في هذا إلى براهين أهمها ما يأتي:
1 -
إن جهود المستشرقين قد وضعت أمام أنظارنا مدنيات شرقية ضاربة في التقدم بسهم نفاذ كمدنيتي مصر والعراق مثلاً، وأنبأتنا بأن هذه المدنيات سابقة على مدنية الإغريق بعدة قرون. وأثبتت لنا علائق متينة بين بعض ما تحتويه هذه المدنيات وبين الفلسفة الإغريقية ممثل علاقة نظرية (تاليس) الشهيرة القائلة بأن أصل الكون هو الماء بأنشودة خلق الكون الدينية العراقية التي تصرح بأن كل شيء في الكون منشئوه الماء إذ تقول في مطلعها ما ترجمته:(حين لم تكن السماء العليا بعد قد فازت باسمها ولم تكن الأرض هي الأخرى قد تسمت بهذا الاسم كان أبوهما: (أبسو) وأمهما (تياما) وهما: (الماء) أو جوهر كل شيء ممتزجين امتزاجاً تاماً قصد التناسل والإخصاب).
فإذا لاحظنا أن الأنشودة العراقية كانت قبل (تاليس) بعهد بعيد، وأن سيادتها في القرن السادس قبل المسيح كانت على أتم ما تكون قوة وتغلغلاً في النفوس، ولاحظنا الصلات التجارية والاجتماعية في ذلك العصر بين العراق وأيونيا استطعنا أن نرجح في سهولة كفة تأثر تاليس بتلك الأنشودة العراقية القديمة، بل استطعنا أن نجزم بأن من المستحيل أن يكون تاليس قد ابتدع نظريته في أصل الكون.
2 -
إن العلماء المشتغلين بالبحث في الإنسان وخواصه والفروق الموجودة بين طوائفه المختلفة قد قرروا أنهم التقوا أثناء بحوثهم بأدلة قاطعة على أن بعض النظريات الإغريقية لا يمكن أن تكون من أصل إغريقي، لأنها توفرت فيها جميع شرائط العقلية الشرقية
وخواصها.
3 -
إن الباحثين الأثريين قد عثروا على كلمات: العدالة والفضيلة والنفس الحياة الأخرى في الشرق قبل مبدأ تاريخ وجودها في الغرب بقرون لا يعرف مداها، بل إنهم قد تأكدوا من أن الغرب لم ينطق بهذه الكلمات إلا بعد اختلاطه بالشرق.
4 -
إن علماء الرياضة قد فرغوا من تقرير أنه من غير الممكن أن تبنى الأهرام في بلد لم تقطع فيه الهندسة العلمية أشواطاً بعيدة.
وفي هذا رد بليغ على الذين يزعمون أن مصر لم يكن فيها هندسة علمية، وإنما كان فيها هندسة عملية فحسب.
5 -
هناك أدلة أخرى لم تصل من القوة العلمية إلى ما وصلت إليه الأدلة السابقة، وإن كان أنصار هذا الرأي يستأنسون بها مثل رحلة تاليس إلى مصر والشرق الأقصى، ومثل وجود العناصر الأولى من منطق أرسطو في المدارس الهندية السابقة لعصره، ومثل وجود الكلام عن الجوهر الفرد في المدارس الهندية كذلك أو وجود فكرة التناسخ عند المصريين والهنود وغير ذلك ممن يسند هذا الرأي الأخير ويقويه.
إذا عرفنا كل هذا وتبينا أن هذه الفلسفة اليونانية العظيمة إنما هي وليدة الأساطير الشرقية. فقد وجب على كل باحث في الفلسفة أن يبدأ بحوثه بفلسفة هذه الشعوب الشرقية، ليكون على بينة من العناصر الأساسية التي تكون منها الجسم المراد درسه
غير أن هناك عقبات ومصاعب اعترضت ولا تزال تعترض سبيل دارس الفلسفة الشرقية وتقفهم موقف الحروجة والعسر مثل:
1 -
ما يزعمه بعض المتحاملين من المحدثين من أن فكرة بدء الخلق في الشرق تستمد عناصرها من الدين أكثر مما تستمدها من الفلسفة: وإن شئت فقل: إن الدين والفلسفة في الشرق شيء واحد، ولهذا لم يعرف للتاريخ نظرية فلسفية ظهرت في الشرق القديم مستقلة عن الدين، وإنما مهد النظريات الحرة البعيدة عن كل التأثيرات الدينية من غير استثناء هو بلاد الإغريق. وهذا هو الباعث الأول الذي قلل من أهمية دراسة الفلسفة الشرقية في نظر علماء العصور الحديثة وحط من قيمتها عندهم.
2 -
إن المصادر التي وصلت إلينا عن فلسفة تلك الشعوب الشرقية قليلة لا تكفي لإشباع
الرغبة العلمية عند الدارس المتقصي الذي لا يرضى من المشكلة بأقل من الإحاطة بجميع نواحيها، وإن كانت هذه الندرة في المراجع لم تحل بين الباحثين المحدثين وبين معالجة هذه الفلسفة الشرقية ووضع المؤلفات الضخمة عنها مثل كتب:
(أ)(هيكل تاريخ الفلسفة الهندية) تأليف (ماسون أورسيل) وقد ظهر في سنة 1923.
(ب)(تاريخ فكرة وحدة الوجود الهندية) تأليف (أولتترامار) ظهر في سنة 1923.
(ج)(تاريخ الديانات) تأليف (دينيس سورا) ظهر في سنة 1924.
(د)(أصول الديانة الإسرائيلية): (الجيوفية القديمة) تأليف (س. كوسان) ظهر في سنة 1931.
(هـ)(تاريخ الفلسفة الصينية) تأليف (زانكير) ظهر في سنة 1933.
على أن هاتين العقبتين المتقدمتين لا تمنعاننا من أن نعتبر دراسة الفلسفة الشرقية هي أول ما يجب على المشتغل بدراسة الفلسفة الاعتناء به، أما امتزاج الفلسفة بالدين الذي كان من عوامل حروجة دارس موقف الفلسفة الشرقية فسنجتهد في حله بأن نعين مهمة كل من هذين الممتزجين اللذين عقد امتزاجهما الموقف وجعله من المشاكل العويصة.
ولكن قبل أن نعالج هذا الموضوع ينبغي لنا أن نشير إلى أن تلك العقبة الأولى الناشئة عن امتزاج الفلسفة الشرقية بالدين ليس مسلماً بها من جميع العلماء والباحثين المحدثين، إذ يصرح بعضهم بأن هذا الامتزاج ليس خاصاً بالشرقيين في العصور القديمة، وإنما هو طبيعة إنسانية عامة كما وجدت في مصر والعراق في الأزمان الغابرة، كما وجدت كذلك في أوربا في القرون الوسطى. وليس القديس (أوجستان) والقديس (توماس) والقديس (أنسلم) - وهم من مشاهير فلاسفة المسيحيين في أوربا - إلا مظاهر لهذه الفترة البشرية التي نشأت على مزج الدين بالفلسفة، بل إن (ديكارت) و (اسبنوزا) و (كانت) أنفسهم - وهم أعلام فلاسفة العصر الحديث - ليسوا إلا مظهراً آخر من مظاهر هذا الانعطاف الطبيعي. وإذاً، فرمى الشرق القديم وحده بهذه النقيصة - إن صح إنها نقيصة - ضرب من العنت والجور اللذين يجب أن يتنزه عنهما الباحث المحايد.
وسواء أصح الرأي الأول أم الثاني، فإننا سنحاول هنا أن ندرس الفلسفة الشرقية الممتزجة بديانات الشعوب التي ظهرت فيها، عاملين - كما قدمنا - على تمييز الفلسفة من العقيدة ما
استطعنا إلى ذلك سبيلا.
وسنبدأ دراستنا بأقدم هذه الديانات الوثنية عهداً، وهي الديانة المصرية التي لم يعرف التاريخ أعرق منها في أغوار الماضي البعيد.
(يتبع)
الدكتور محمد غلاب
-
هتاف الشيطان
للأستاذ عبد المغني علي حسين
كنا في حجرة استقبال، بدار إنجليزية، بإحدى مدائن إنجلترا، والفصل شتاء، والوقت ليل؛ فالستائر مسدلة، ونار الفحم موقدة، ونحن في غمرة من الدفء الشهي، ذلك الموج الخفي. في اللجي الأثيري. وكانت الطبيعة في تلك الليلة غضبى والريح تهب من جميع الجهات إلى جميع الجهات، يجن جنونها فتثب على الشجر المنحف العاري تعركه عركاً وتكاد تمزقه وتشظيه، لولا تلويه، فتختلط زمجراتها بعويل الشجر. كانت الريح في الفينة بعد الفينة تهوي علينا من المدخنة، كأنما تبحث عنا جاهدة، فإذا استعصت عليها الأبواب والنوافذ لم تتحرج أن تأتي البيوت من سقوفها، فتنقض علينا تنفث في وجوهنا السناج والدخان. ثم ترتد من المدخنة لتكر على زجاج النوافذ تحصبه برشاش المطر.
كنا في الحجرة أثنين. أما الثاني فسيدة إنجليزية شقراء أرملة في نحو الخمسين، تنحني على النار فتجيل فيها العود، وتعتدل فتضع ساقاً على ساق، وتنظر إلى اللظى بعينين رماديتين حالمتين حزينتين. هي (صاحبة البيت) كما كنا نسميها. كنا نسمر سمراً متراخياً أكثره سكوت، إذ كان الحس موزعاً ما بين تخدير الدفء وتخويف الطبيعة. إلى أن حدث أمر أيقظ منا الحس. وأهاج النفس، فإذا هياج الطبيعة من هياج النفس كخطر النسيم من لفح الجحيم.
ذلك أنه كان على إحدى حوائط الحجرة لوحة فيها رسم فتى وفتاة كلاهما في نحو العشرين أو دونها، أما الفتى فكان صغير الجرم. في وجهه إشراق الذكاء. وفي هيئته جد وحيوية؛ يبسم للدنيا - الدنيا المخاتلة! وأما الفتاة فكانت ناهداً هيفاء بسمتها الحلوة خليقة أن تمحو مرارة الدهر، وتطرد الحزن من أقطار الوجود. شعرها مكور على رأسها على النمط الفكتوري؛ ثوبها طويل محكم يبدي من سحرها النسوي ما لا أظن العري يبديه؛ وقفتها فيها ميل من الدل والطراوة، وعيناها رماديتان حالمتان كان في الفتاة من سيدة الدار شبه، ولكنه ضئيل جداً.
لاحت منّي إلتفاتة إلى تلك الصورة، فقلت أسائل السيدة عنها وأجعلها موضوع حديث. فما إن فعلت حتى رأيتها وجمت وجوماً انقبض له صدري. قالت:(ألا تعرف من تكون الفتاة؟)
قلت (من؟) قالت (أنا). فلم أقل شيئاً، ولكني عجبت من فعل السنين، لئن كانت تلك هي هذه فإن الزمن لم يترك منها إلا بقدر ما ترك في جسم أبي الهول من شكل الأسد. لابد وأن تكون أهوال ألف عام قد حشدت في عمر هذه السيدة حتى صارت مما كانت إلى ما هي الآن.
قلت فمن الفتى الوسيم؟ قالت (زوجي) واغرورقت عيناها الحالمتان، ومن الغريب أن الدموع لم توقظهما من أحلامهما.
حسبت أنني آلمتها بذكرى هناء ذاهب. وحبيب غير آيب، فقلت متعثراً معتذراً: (أخشى أن أكون أدميت جرحاً عله كان اندمل. فقالت (لا أخال مثل جرحي يندمل. وتلا ذلك سكوت وجدته خيراً من الكلام، ووددت لو أن كلاماً لم يكن.
ثم رأيت السيدة تنظر إلي نظرة فيها حنان الأم، وإذا بها تقول:(أوصيك يا بني ألا تذوق الخمر أبداً، فإن كنت شربتها فلا تقربها بعد اليوم). فدهشت لهذا الكلام المفاجئ وعجبت له. قلت (ما هذا الذي تقولين؟) قالت (لقد كانت حياتي مأساة يؤلمني أن أقصها فأحياها من جديد، ولكنها عبرة نافعة لمن هو في سنك، فسأقصها عليك.
كان زوجي في أول عهدنا فتى جم المحاسن، شديد الحب لي وللأطفال، يهوى العش الذي بنينا، وكان في عمله مثال النشاط، جم الكفايات. وشاء الجد العاثر أن ينقل إلى وظيفة (بالجمارك)، فكانت مهمته تقدير المكوس على الخمر التي ترد من الخارج، ومرت الأيام فإذا بي أشم ريح الخمر في فم زوجي، فأبديت له مخاوفي، فطمأنني قائلاً إنه يسترشد في عمله أحياناً بتذوق عينات الخمر، وإنه إنما يفعل ذلك بحذر وما يتناوله لا يذكر. ومرت الأيام فإذا به يعود إلي يترنح من الشراب ثم لم يعد المحب العطوف البسام، بل صار غضوباً إذا كلمته رفع صوته بالجواب الخشن. ثم ازداد فكان لا يفرغ هراؤه ما دمت بمرأى منه. ثم استغلظ فصار يضربني ويضرب الأطفال. كل ذلك وأنا حافظة عهده، أكتم ما أنا فيه عن الناس ثم حدث ما لم يكن منه بد، ففصل من عمله لقلة كفايته وسوء خلقه، واستعجف عيشنا، فأكلنا ما ادخرنا في العهود السمينة ويعلم الله أننا ما كنا نأكل بمعشار ما كان ينفق في الشراب. ثم ساءت صحته، وألح عليه السعال، فكان يسعل الليل بطوله وأنا معه يقظى حتى الصباح. وذات صباح انتبهت من غفوة فلم أجده في فراشه، فحسبت أنه
بدورة المياه، ثم شممت رائحة غاز الاستصباح، فخفت أن يكون صنبوره بالمطبخ بات مفتوحاً فذهبت إلى هناك. فوجدت باب المطبخ مغلقاً، فعالجته حتى انفتح، وتراجعت إلى الوراء خشية الغاز السام، ثم نظرت أمامي فرأيت. . . ويا لهول ما رأيت. . .) وغطت وجهها بكلتا راحتيها وزلزل صدرها بنهنهة خفت أن تحطمه. قالت:(رأيته ممدداً في أرض المطبخ وقد استنشق من الغاز القاتل حتى قضي الأمر).
ثم كفكفت عبراتها، وهدأ صدرها، وجلسنا واجمين صامتين، كأنما الميت ممدد أمامنا ونحن لجلال الموت في خشوع. أردت أن أقول شيئاً أنفس به عنها فلم أجد ما أقول، وماذا يقال في رجل قتل عقله بالشراب. وقتل نفسه بالغاز. عمد إلى أنفس ما أعطاه الله، وإلى أقدس ما أعطاه الله فدمرهما، ومرغ معه في رغام التعاسة سيدة فاضلة وأطفالاً بيض الصحائف.
وحان وقتت انصراف السيدة، فجلست وحدي، أنظر إلى نار الفحم، وإنها لأبرد من نار الصدور، وذهب بي الخيال مذاهب عجيبة، حتى لقد خلت أني أرى الشيطان نحيف الوجه مستطيله محروق الجلد طويل الأصابع أحمر العينين، في مجلس من أعوانه، في جوف بركان خامد، أول ظهور الإنسان على الأرض. قرض الشيطان بأنيابه المعوجة وقال:(ماذا ترون في الدمية التي صنع الله؟) مشيراً بإبهامه إلى أعلى حيث سطح الأرض. قال أحد الأعوان: (إن في رأس تلك الدمية) جوهرة تغشى بصري، لو اعتنى بها ذلك المخلوق، وتبع ضياءها ببصره، كاد أن يرى الله جهرة!). فازداد قرض الشيطان بأنيابه وصاح:(أريد جديداً أيها الأبله) فسكت الجميع زمناً ثم عاد الذي تكلم فقال: (والله ما أحسب ذلك المخلوق إلا مفلتاً من أيدينا بجوهرته تلك، فهي خليقة أن تسمو به إلى حيث النور، ولا يبقى في الظلام خائباً منبوذاً إلا نحن). فوثب عليه الشيطان وثبة فر أمامها فأخطاته. ثم عاد الشيطان إلى مقعده والشرر يتطاير من عينيه، وإذا بجني يهبط عليهم من فوهة البركان وهو يصيح:(أحطت بما لم تحيطوا به، وجئتكم بنبأ عظيم) فصاح به الشيطان: (والله لقد كنت أنتظرك أيها الملعون لأقطع أوصاك بعد هذا الغياب الطويل. قل فلعل عندك ما يشفع لك) فشرع الجني يقول:
(بصرت بقبيل من تلك المخلوقات البغيضة يعيشون في كهوف هذه الجبال، فتخيرت واحداً منهم قوي الجسم مغروراً، فصرت أزين له الفتك بأقرانه، وفي ذات يوم رأيت امرأته تدق
الحب بالحجر لتطحنه، ثم وضعت الطحن في حفرة بالصخر وذهبت لبعض شأنها، فزينت لأولادها العبث، فحملوا الماء وكفئوه على الطحن، ثم أنسيت المرأة طحنها يومين ليفسد، فتصاعد منه ريح خانق. وفي اليوم الثالث حضر الرجل من الصيد ضمئاً يلهث، ونادى على المرأة لتسقيه ولم تكن المرأة بالكهف، فثار ثائره، وبحث عن ماء فلم يجد فانتهزت الفرصة وأرشدته إلى حفرة الماء والطحن ليشرب مما بها فيتسمم فيموت، فلما بلغ الحفرة نظر فيها وعاف رائحتها فزينت له الشرب منها، وكان ظمؤه بالغاً، فشرب قليلاً وسكت ثم عاد يشرب حتى امتلأ، وأنا أكاد أطير من الفرح، ثم رأيته يقوم مترنحاً يضحك ملء شدقيه، فعجبت، وإذا به يسير بين الكهوف يجري وراء النساء كالمجنون فيهربن منه مذعورات، ثم لقي امرأته فهجم عليها كالوحش وقتلها شر قتلة. ثم أخذ يقتل كل من صادفه من الرجال ويعتدي على النساء. ذلك الذي حسبته سيموت قد ازداد قوة وجرأة، وأخيراً ارتمى فنام، ثم صحا بعد ساعات فرجع إليه صوابه كما كان، فعلمت أن ذلك الشراب يفقد الرجل عقله إلى حين.
عاد الرجل إلى كهفه، فلما رأى الخابية مال عليها يكرع وأعاد سيرة الأمس، وتحدث أهل القبيل بهذا الأمر العجيب فجاء الرجال وكرعوا من الخابية، وجنوا مثل صاحبهم، وقد تركتهم ولا عمل لهم إلا صنع ذلك الشراب والعب منه، وتهتيك النساء، وتقتيل الرجال ولا أحسب قبيلهم بعد قليل إلا صائراً أثراً بعد عين)
فما إن سمع الشيطان هذا الحديث حتى وثب على المتكلم ولكن ليعانقه ويقبله. وتصايح الجمع صيحات الفرح، وأخذوا يرقصون ويقفزون. ثم رفع الشيطان يده فسكتوا فقال: (أيها الإخوان! لقد تجدد أملكم بذلك الشراب العجيب فانفروا إلى سطح الأرض. وانتشروا في المشارق والمغارب، وعلموا العدو الأبله صنع الشراب، وزينوا له شربه، فسيفرح الغبي به، ويذيب منه جوهرته اللعينة، فإذا شربه صار لعبة في أيدينا، وإذا أفاق اشتاق غليه فلا نزال به حتى نهلك منه الروح والجسد جميعاً، قولوا معي أيها الإخوان: لنحيي الخمر.
فتدفقوا وهم يرددون هذا الهتاف، ولا يزال هذا هتافهم إلى اليوم.
عبد المغني علي حسين
على أطلال الماضي
ساعة في. . . (سُرَّ مَنْ رَأَى)
(في السنة الآتية يكون قد مر على إنشاء سر من رأى ألف ومائة سنة)
ع
. . . الآن رجعت من التاريخ. إني أرى الدنيا صغيرة خابية لأني كنت في دنيا أكبر منها وأحفل بالنور والعطر: كنت في (سر من رأى)!
جلست أدون رحلتي إلى الحلة (دمشق العراق) ووقوفي على أنقاض بابل (أخت الدهر) وزيارتي السدة الهندية (القناطر الخيرية الثانية) وما أولاني الحليون من ألوان المنن وأنواع الكرم. . . فلم أكد أمضي في المقالة حتى عرضت لي رحلة جديدة إلى سر من رأى. . . ومنذا الذي لا تفتنه سر من رأى؛ ولا تهيج بلابل أشواقه؟ ومنذا الذي نظر في كتب التاريخ أو شدا بشيء من الأدب ثم لا يعرفها ولا يحس أن لها صلة بنفسه؟
رددوا هذا الاسم الجميل عشر مرات بصوت خافت كأنه مناجاة النفس، بطيء كأنه هجس الضمير، وأنتم تنظرون بعيونكم إلى بعيد، تحدقون في غير شيء، فعل من يتذكر أمراً، ثم انظروا كم يثير في نفوسكم من ذكر وحوادث، وفكر وعواطف، أقل ما توصف به، إنها لا توصف، وكيف تحتويها كلمات وهي عالم؟ وكيف تنتظمها لغة الأرض وهي من لغة السماء؟ ومتى كان الإنسان ناطقاً مبيناً؟ إن هذه اللغة رموز ضئيلة، كائنات عظيمة؛ إن العواطف مئات ومئات وما ثم إلا كلمة واحدة. . . وكذلك الجمال والحب والطبيعة. . . لا. إن الإنسان لا يزال طفلا لم يتعلم النطق ولم يحسن البيان!
سر من رأى، وما سر من رأى؟ هي التي نهضت لبغداد لما كانت بغداد عاصمة الأرض. ولما بلغت غاية المجد وابعد الأماني، وبذت كل مدينة، وكان فيها مليونان من السكان، وكان فيها العلم والفن والسلطان. . . نهضت لها تزاحمها وتنافسها، فلم تكن إلا ليال حتى غلبتها وبهرتها، وتربعت على دجلة من فوقها، وسلبتها خلفيتها وأبهتها وحلة أبنائها، وكانت اجل منها وأعظم.
سر من رأى، المدينة الملوكية، التي ولدت فجأة فإذا هي أجل المدن، وإذا في كل ناحية منها عرش، وفي كل بقعة منها عرش، وإذا هي تتشح بالنور وتتضمخ بالعطر، وتنام على
الزهر، وإذا هي تبلغ ما لم تبلغه من بعد الزهراء المدهشة، ولا فرساي. . .
ثم ماتت فجأة، فإذا كل ذلك حلم سريع وبرق خاطف. لم تعش إلا نحو خمسين سنة، (838 - 883) وما خمسون سنة في عمر المدن، إلا خمسون دقيقة، أفرأيت الجميلة التي ولدت بأعجوبة، فإذا هي الغادة الفتانة، ثم إذا هي تقضى بعد ساعة؟
لم تكن تزدهر وتستقر حتى نودي فيها بالرحيل والرجوع إلى بغداد، فهب الناس مذعورين، يحملون ما خف حمله وغلا ثمنه وتركوا المدينة العظيمة للرياح والوحوش واللصوص. . .
قرأت ذلك من حديثها، ثم لم أعد أعرف عنها شيئا، لم أدر ما صنع الدهر بها. . . وأين من يسأل عن الآثار ويبحث عنها؟ ومن يعرف اليوم ماذا جرى بالكوفة ومسجدها؟ والبصرة ومربدها؟ أو يعلم صفة القادسية أو اليرموك؟ من يسأل عنها وهذا مسجد بغداد العظيم، مسجدها الجامع، قد أبتلعته الدور وطغت عليه فلم يبق منه إلا منارته التي تقوم منحنية تبكي هذا المجد العظيم وهذا الماضي الفخم، وتنادي لو وجدت سميعاً: وما كان ذنب هذا المسجد، وما كان ذنب هذه الآثار، إلا إننا نحن وارثوها لا الفرنسيس ولا الإنكليز، أولئك الذين لم يدعوا في بلادهم شبراً من الأرض فيه جمال من جمال الطبيعة، أو أثر من آثار الماضي، إلا كتب عنه مؤرخوهم، ووصفه أدبائهم، وصوره مصوروهم، ونحن الذين أضعنا آثارنا الجليلة، وهدمناها بأيدينا لنبني بأنقاضها دورنا الحقيرة!
أسمعتم بالمدرسة النظامية التي درس فيها حجة الإسلام الغزالي والتي كانت من أكبر جامعات القرون الوسطى؟ أتدرون ماذا بقي منها! منارة مهدمة طولها أربعة أمتار، في زقاق عرضه ثلاثة أمتار، عند جامع مرجان في بغداد، والمنارة مائلة قد انحنت تحت أثقال دار قد ركبتها، وربما هدمت المنارة لتقام عليها الدار، فمن يدري؟ وأين من يدرس الآثار ويعنى بها؟ وهذا قصر الخضراء في دمشق، ما بقي منه إلا اسمه تحمله مصبغة، في زقاق القباقيب. يا لعجائب الزمان! صار مثوى التاج ومحط العرش زقاق القباقيب. . . فمن سأل عنه؟ ومن وصفه؟ ومن حفر في أنقاضه؟ أما لو أن هذه الآثار كانت لغيرنا، إذن لحرقت هذه البقاع حرقاً ثم أخرجت كنوزها، ثم ملأت نفوس أهلها عزة، ثم كانت لهم أجنحة يطيرون بها في معارج العلاء. . . إن تحت هذه الأرض علماً ومجداً وجلالاً، ولكن ليس
فوقها من يحفل العلم والمجد والجلال!
أو ليس من أعجب العجب، يا قومي، أن آثارنا لم يبحث عنها ولم يكشفها إلا هؤلاء الأوربيون؟ إن في دمشق قريتين هما معلولا وجبعدين تتكلمان السريانية منذ خلقتا، فما فكر أحد في درس هذه اللغة ومعرفتها، حتى جاء هذا المستشرق الشاب، رايخ النمسوي من أخر الدنيا ليدرسها. . . بل هذه هي سر من رأى، ما نقب فيها وكشفها للناس إلا هرسفلد الألماني، الذي حفر فيها سنة 1911 كلها وبعض سنة 1913 بإشارة من أستاذه ساره وبنفقة المصرف الألماني وبعض كبار الألمان. بدأ الحفر في قصر المتوكل ثم انتقل إلى الجوسق، وإلى القصر المعروف بقصر العاشق، واستخرج من هذه البقعة الصغيرة كراثم الآثار ونفائس الأعلاق، التي انتقلت إلى ألمانيا، وبقيت لدينا نسخ معدودة من هذا الكتاب الجليل الذي أخرجه هرسفلد في مجلدات كثيرة فيه صور هذه الآثار باهرة مدهشة حقاً؛ وهو يصف في المجلد الأول نقوش الجدران وزخارفها، ويقول أنه لم تكن تخلو دار من هذه النقوش الجصية البارزة الملونة أحياناً؛ وفي الثالث الرسوم والصور، وأكثر هذه الصور مما وجد في حمام الجوسق، وقد حلت هذه الصور مشكلة قصر المشتى الذي كشف سنة 1908، ويتحدث في جزء عن الأواني الزجاجية والخزفية، وقد ظهر أنه كان في سر من رأى معمل الزجاج، ومعمل للأقمشة وجدت بعض قطع ملونة من مصنوعاته.
ومن أهم ما تمتاز به المدينة شوارعها، التي لا تكاد تحوي مثلها (اليوم) مدينة في العالم، فقد كانت كلها مستقيمة متقاطعة بانتظام عجيب، والشارع الأعظم، (وآثاره باقية) يمتد بعرض مائة متر، ودورها التي كان أكثرها كبيراً في خمسون غرفة، وفيه مجار الماء وبرك، ومجار أخرى للماء القذر، وحمامات وسراديب للصيف على نظام يكفل لها حسن التهوية، وكان أكثر الدور على طراز واحد، فهي ذات ردهتين: ردهة حيال الباب تفضي إلى ردهة أخرى مستطيلة، عمودية عليها والغرف من حولهما.
وقد صحب هرسفلد رجل عسكري يدعى (لودلوف) متخصص
برسم المصورات، صنع خريطة للمدينة مفصلة بنسبة
250001 وصحبه رجلان مختصان بالنقوش هما (بارتوس
وبيجر) على أن ما كشفه هرسفلد لا يعد شيئاً، والمتحف
العراقي عامل على موالاة التنقيب في الآثار، وجمعها في
متحف الآثار العربية، وينتظر ظهور أشياء هائلة.
سرنا إلى (سر من رأى) في قافلة مؤلفة من كبار طلاب (دار المعلمين العالية في بغداد) والدكتور كامل بك عياد (أستاذ التاريخ الإسلامي في الدار) و. . . أنا، فجزنا بالأعظمية، وعبرنا النهر إلى الكاظمية، ثم استقبلنا الفضاء.
ولم نقف في الطريق إلا على جسر حربي، وهو جسر قائم في الفلاة ذو ثلاث قناطر. عليه كتابة ظاهرة تدل على أنه بنى في أواخر العهد العباسي على نهر دجيل ليسقي مدينة حربي، فتلفتنا فإذا النهر قد جف والمدينة قد محيت والعهد العباسي قد انقضى، وإذا كل بلاد الله تتقدم وتزداد عمارة، وبلادنا تتأخر وتمعن في الخراب فوقفنا معتبرين. ومضينا مستعبرين.
ولم نسر من بعد إلا قليلاً حتى طلعت علينا (الملوية) وهي منارة جامع المتوكل، عالية تبدو من بعيد كالصرح الهائل، وقد شبهت مكانها من سر من رأى، ببرج إيفل من باريز، فهي علم البلد ورمزه. ثم بلغنا دجلة فعبرناه. ودخلنا (قرية) سامراء نستريح في مدرستها ساعة بعد مسيرة ثلاث ساعات في السيارة. ثم ولجنا حرم التاريخ، يصحبنا معلمو المدرسة الذين أولونا من أياديهم وأرونا من كرمهم وحسن أخلاقهم، ما نذكره لهم بالشكر، فلولاهم ما رأينا شيئاً، ولا عرفنا من أين ندخل أو نخرج في هذا العالم الواسع!
إي والله. هو عالم، وهو شيء عظيم جداً.
سرنا أكثر من خمسة وعشرين كيلاً، وما قطعنا إلا نصف البلد من المسجد الجامع إلى الدور العليا، وإن إلى الدور السفلي لمثلها، وإن هذا كله لنصف المدينة، وعلى الضفة الأخرى مثله.
أنا لا أستطيع أن أتصور كيف كانت هذه البرية الواسعة التي يضل فيها البصر، مدينة عامرة، وكيف كان الناس يقطعونها، وإن بين أولها وآخرها اليوم لمسيرة اثنتي عشرة ساعة على الراكب.
كان أول ما رأينا المسجد الجامع، وهو كبير جداً لو وضعت سامراء الحاضرة فيه لوسعها وفضل عنها، لم يبق منه إلا السور وهو مبني من اللبن مثل سائر الأبنية العراقية، تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وتعرف عند الناس بالملوية أي المستديرة، وهي حلزونية الشكل سلّمها من ظاهرها، مؤلفة من سبع طبقات، ارتفاعها (75) متراً، وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثاً لتقويتها، طول الضلع من أضلاعها (40) متراً، فصار ارتفاع المنارة قريباً من (85) متراً وقد بنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، ثم تركت هذه الصفة في المآذن واتخذ لها سلم من جوفها.
تركنا المسجد وسرنا في وجهة واحدة، كيلا نضل في وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب، كانت قبل ألف ومائة سنة، دوراً عامرة، وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتى بلغنا أنقاضاً حولها سور كبير، أخبرنا بها معلم المدرسة أنها أنقاض قصر أُم عيسى ابنة الواثق، وعلا بنا على تل عال وقال: انظروا، فنظرت فلم أر إلا برية واسعة. لا شيء فيها. . . فقال: أمعن، أنظر، وحدق في الأرض، ففعلت فرأيت شيئاً أدهشتي، وخفق له قلبي، رأيت تلالاً صغيرة منتظمة، على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، تمتد إلى ما لا يدرك البصر آخره. . . فقلت وأنا مشدوه: ويحك ما هذا؟ قال: حديقة!
وأي حديقة هي؟ حسبي أن أقول: إنها شيء هائل!
ومضينا. . . نمر على الأطلال. حتى بلغنا آثار سور كبير جداً كأنه سور مدينة. . . فقال دليلنا: هذا بلاط الخليفة، فترجلنا وسرنا في طريق مبلطة باقية آثارها، ونحن نتخيل كم مر في هذه الطرقات من خلفاء وأمراء، وكم شهدت من جلال وجمال، حتى بلغنا مصيف المتوكل، وهو أول ما استقبلنا من القصور، ونسيت أن أقول إن البلاط بلدة واسعة، فيها عشرات القصور تبدو أنقاضها ناطقة بعظمتها، وفيها مسجد كبير، وفيها البركة المتوكلية المشهورة، بركة البحتري، فولجنا المصيف، وهو قصر كبير تحت الأرض، به غرفة محفورة فيها حفراً، وهي متصلة يفضي بعضها إلى بعض، ولها نوافذ كثيرة، تضمن لها حسن التهوية، وفي وسط القصر بركة. . . وقد كدنا نهلك من حرارة الشمس ونحن فوق الأرض، فلما هبطنا إلى جوف القصر كدنا نهلك من البرد. . .
وكان الصديق الأستاذ كامل بك يسرد فلسفته العلمية ويقص علينا قصة القصر وبناءه، وفنه
وقيمته التاريخية ولكن واحداً منا لم يكن يصغي شيئاً أو يفهم شيئاً مما يقول. . . فكف وعلم أن الكلام الآن للقلب وعواطفه الحية، لا للعقل ومقاييسه الجافة، وفلسفته الباردة. . .
كنا نتخيل هذا القصر، وقد كان يعج بالحياة، ويفيض بالحب؛ كنا نسمع الأصوات، ونبصر الألوان، ونشم عبق العطر ونحس كأنا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء، وخلوات الحب.
كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة. . . أفيؤدي ذلك كله بمثل هذه السرعة وهذه السهولة، ويشمله العدم ولا يبقى له وجود قط؟
أي امرئ عرف الحب، وكابده وأدرك معناه، ثم يؤمن بأن العدم يقوى عليه! لا. إن ذلك كله موجود! موجود في زاوية من زوايا هذا الكون الفسيح، إنه خالد لا يفنى أبداً، إن في هذا القصر ذكريات جمة، تحتويها هذه الجدران الخرساء، وهذا اللبن البارد، إن فيه صدى تلك الهمسات التي كانت تتناجى بها الشفاه؛ إن فيه خفقات تلك القلوب؛ إن فيه رنات تلك القبل.
إن سؤال الديار، واستخبار الأطلال، أقدم فنون الشعر العربي، فهل ترى الشعراء كلهم مجانين؟ أتراهم كانوا عابثين؟
لا. إن في هذه الأطلال الحياة. . . إن كل شيء في الوجود حي يذكر ويأمل ويشعر ويحلم، ولكنه لا ينطق ولا يفكر. . .
آه. . . لو أن هذه الجدران كانت تنطق، وتتحدث وتصف ما تشعر به. . .
وخرجنا من القصر، ونحن نحس كأنا قد خرجنا من أنفسنا وانتقلنا إلى عالم آخر، عالم تمتزج فيه الأحلام بالحقيقة؛ عالم شعري ساحر. . . فمررنا على جب واسع للماء خبرنا دليلنا إن بعض الجاهلين من الإدلاء والتراجمة يدعون بأنه سجن، ويختلقون حوله الأكاذيب. . . وهؤلاء الإدلاء والتراجمة بلاء أزرق، وقد سمعت واحداً منهم يشرح لبعض الإفرنج تاريخ المسجد الأموي في دمشق، فقال لهم ما نصه:(هذه هي المنارة التي بناها الوليد بن هارون الرشيد لسيدنا عيسى، ولذلك سميت منارة عيسى) وهم يكتبون في دفاترهم ما يقول، فينشرونه على إنه كتاب علمي عن الشرق وأهله، وليس العهد ببعيد بتلك الكاتبة الفرنسية التي كتبت كتاباً عن دمشق قالت فيه: ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة
قبر النبي في مكة القريبة من دمشق!!
أقول إننا سرنا إلى مسجد القصر. وقد حفر فيه هرسفلد واستخرج منه آثاراً رخامية ومحراباً جميلاً حملها إلى ألمانيا ثم انتهينا إلى البركة، ولست أكتم القراء إني كنت أظن أن البحتري يبالغ قي وصفها، على طريقة الشعراء الخياليين وأقرر ذلك في دروسي، وأقول ما عسى أن تبلغ هذه البركة، حتى تظل دجلة كالغيرى منها تنافسها وتباهيها. وحتى تبدو في الليل كان سماء ركبت فيها، وحتى أن السمك المحصور لا يبلغ غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها! فلما رأيت أنقاضها رأيت شيئاً عظيماً. رأيت بحراً، رأيت ميدان سباق، دائرة قطرها نحو مائتي متر، فأكبرتها وهي جافة فكيف لو رأيتها وهي ممتلئة بالماء، ومن حولها الغرف المفروشة المزخرفة، وقد عقد فيها مجلس الخليفة، إذن لرأيت أكثر مما قال البحتري، فرحم الله الشاعر وألهم شعراءنا تخليد ما يرون من جمال بلادهم، وعظمة مصانعهم، على نحو ما خلد البحتري البركة، والجعفري وطاق كسرى!
ثم سرنا إلى قصر الخليفة الرسمي ووقفنا في إيوانه الكبير، وهو بني على شكل إيوان كسرى، ولكنه أجمل وأصغر، وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عقد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كتب فيه من تاريخ، نبصر المعتصم وقد أخذ كأسه ليشرب فأبلغوه إن امرأة مسلمة أسيرة في بلاد الروم صاحت: وا معتصماه.
امرأة أسيرة، وأمير المؤمنين يشرب كأسه هانئاً؟ امرأة تنادي: وامعتصماه، والمعتصم لا يجيب؟ إن هذا لن يكون
وأرى المعتصم يخرج في الجيش اللجب الذي تضطرب له سر من رأى، وتميد لثقله الأرض، وتصعق لهوله المردة، وترتجف الرواسي حتى يحط على عمورية، فيدكها دكاً ويعود مثقلاً بالمجد والظفر والغنائم.
وأسمع أبا تمام ينشد آيته الخالدة.
السيف اصدق إنباءً من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
…
نظم من الشعر أو نثر من الخطب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت
…
منك المنى حفلاً معسولة الحلب
أبقيت جد بني الإسلام في صعد
…
والمشركين ودار الشرك في حبب
ثم انظر حولي فأرى كل شيء قد تبدل
تغير حسن (الجعفري) وأنسه
…
وقوض بادي الجعفري وحاضره
تحمل عنه ساكنوه فجأة
…
فعادت سواء دوره ومقابره
إذا نحن زرناه أجد لنا الأسى
…
وقد كان قبل اليوم يبهج زائره
(غدا موحشاً قفراً) كأن لم يقم به
…
أنيس ولم تحسن العين مناظره
كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة
…
بشاشتها والملك يشرق زاهر
ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها
…
وبهجتها والعيش غض مكاسره
فإن الحجاب الصعب حيث تمنعت
…
بهيبتها أبوابه ومفاخره
وأين عميد الناس في كل نوبة
…
تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره
لقد هجر الحياة. ونأى عن النعيم، وجفاه. . . حتى دجلة. . . دجلة أعرضت عن القصر، ونأت عنه وقد كانت تسيل على أعتابه. وجفته وكانت مع الدهر الدوار. . . والزمان الغدار، حتى دجلة التي أفاضوا عليها المجد، ووضعوا فيها الحياة، وأعطوها أكثر مما أخذوا منها. . . حتى دجلة التي تجري منذ ملايين السنين، فلم تجد اكرم ولا اعز ولا اعظم، من أصحاب هذا القصر وبناته. . .
حتى دجلة نسيت وكانت!!
ثم ودعنا البلاط وسرنا - وقد أودعناه قلوبنا وصببنا فيه نفوسنا ودموعنا. . . سرنا في الشارع الأعظم نصف ساعة في السيارة - وقد رأيناه بيناً، عرضه مائة متر والشوارع تتفرع عنه في نظام عجيب، وهندسة محكمة - والبيت قائمة على الجانبين وقد استحال أثرها إلى تلال من التراب كأنها القبور. . .
فمررنا على معسكر أشناس، وهو أشبه بميدان فسيح جداً حوله سور. حتى انتهينا إلى المسجد المعروف اليوم بجامع أبي دلف وهو أكبر من مسجد المتوكل وفي رواق قائم على خمس قناطر ومنارة كالملوية ولكنها أصغر منها. فوقفنا عليه.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فانتهت الرحلة هنا، وعدنا ونحن صامتون خاشعون. . .
ولقد علمنا لماذا يريدون منا أن نتجرد من ماضينا. لأننا لا نستطيع أن نبني المستقبل الفخم، إلا على أنقاض الماضي الفخم.
(بغداد)
علي الطنطاوي
تلخيص وتعليق
أسبوع الجاحظ
لمندوب الرسالة
بقية المنشور في العدد الماضي
اليوم الرابع
كتابا الحيوان، والبيان والتبيين هما أهم ما للجاحظ من الآثار التي وصلتنا، والتي انتفع بها الكتاب والأدباء، ولقد كان اليوم الرابع للقول في هذين الأثرين الكبيرين، وكان درس الحيوان منوطاً بالأستاذ (كراوس) وكان الكلام في البيان والتبيين على الأستاذ مصطفى السقا.
وقد تكلم الأستاذ كراوس عن الحيوان كلاماً مستفيضاً فوضح غرضه وأهميته، وأهتم كثراً بتحقيق الصلة بينه وبين كتاب الحيوان لأرسطو فقال: إن أبا منصور البغدادي قد ذكر إن الجاحظ لم يعمل شيئاً إلا أن سلخ معاني كتاب الحيوان لأرسطو، ثم ضم إليه ما ذكره المدائني من حكم العرب وأشعارها في منافع الحيوان، وكان البغدادي هذا يطعن على الجاحظ، وكان كثير النيل منه، فقوله قول خصم لا يصح أن نقبله على علاته، ونحن وإن كنا نعتقد أن الجاحظ قد أتصل بالثقافة اليونانية ووقف على آراء أرسطو في الحيوان، إلا أننا نعتقد أنه ألف كتابه ليعارض كتاب أرسطو، وليقيم الدليل للشعوبية على إن العرب أصحاب علم ومعرفة كسائر الأمم، وقد أشار الجاحظ إلى ذلك إذ يقول في مقدمة الحيوان:(وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان إعرابياً، وإسلامياً جماعياً، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة. وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب كما يشتهيه المجد، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب)
ولذلك كان الجاحظ يهتم كثيراً بحشد أشعار العرب وأقوالهم وحكمهم في الحيوان، كما كان يهتم بالسخر من أقوال صاحب المنطق والضحك منها، فالبغدادي قد غبن الجاحظ وتجنى
عليه وتنقصه بغير حق.
وتكلم الأستاذ السقا من بعد ذلك عن البيان والتبيين فقدم بين يدي الموضوع كلاماً طويلاً يتصل بشخصه أكثر مما يتصل بأمر الكتاب، فذكر أيامه في دار العلوم وهو طالب، وقال: إنه كان يكره البيان والتبيين ويستثقله وينفر منه، حتى حببه إلى نفسه نصيحة أستاذ مخلص، فأقبل عليه وأنتفع به في ثقافته الأدبية، وبلغ من إعجابه به أن كان يعاود قراءته، ثم عرض لموضوع الكتاب وذكر أبوابه وفصوله، وتكلم في أسلوبه وطريقته وأفرغ عليه كثيراً من الثناء والتمجيد، ومن العجب أنه ذكر تعريف الإنسان الذي نقله الجاحظ عن أرسطو فقال: إنه الحي الميت!! وقد سمعناه يعيده ثانيةً بهذا النص، وإنما هو الحي المبين على ما نعرف، ولكنه نطق التعريف كما جاء محرفاً في الكتاب!!
اليوم الخامس
وكان القول فيه للأستاذين إبراهيم مصطفى وأحمد الشايب، وكان موضوع الكلام للأستاذ إبراهيم مصطفى عن (دعاية الجاحظ)، وقد التبست الدعاية بالدعابة على السامعين، فانتظروا من الأستاذ أن يفيض عليهم من فكاهات الجاحظ ونوادره ولكنهم دهشوا إذ رأوه لا يمس ذلك ولا يقترب إليه، فجاءوا باللوم العنيف على الأستاذ، وقالوا: إنه أهمل موضوعه وخرج عليه وما كان مبعث هذا كله إلا تلك (النقطة) الخبيثة التي أهملتها يد الطابع، فأساء إلى الأستاذ وأساء إلى السامعين!
وقد أبتدأ الأستاذ القول في دعاية الجاحظ بما كان بينه وبين أبي هفان إذ قيل لأبي هفان: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟! فقال: امثلي يخدع عن عقله؟! والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرةً، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة!
وعلق الأستاذ على هذه النادرة فقال: ونحن إذا تأملنا هذه النادرة نجد إن أبا هفان الشاعر قد تراجع أمام الجاحظ الناثر، أو بالأحرى نجد الشعر قد أنهزم أمام النثر، ذلك لأن الجاحظ قد نصر النثر على الشعر، فاستخدمه في موضوعات لم تكن له من قبل، وراضه على سبل استعصت على الكتاب السابقين، ثم إن الجاحظ في نثره قد أهتم بالتقرب من الجمهور ما استطاع، فأخذ يطرق الأمور التي تشغل بالهم، ويكتب في المعاني والأغراض التي تحيط
بهم في حياته الأدبية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، ولما قامت الفتنة بين المأمون والأمين وأندفع الناس في تيار تلك الفتنة، كان ذلك مما مكن الصلة بين الجاحظ والجمهور، لأنه أبتدأ يؤلف لهم في هذا الذي انصرفت إليه عقولهم، فكتب كتاب الإمامة لهم، فوقع عندهم الموقع الحسن، وقد قرضه المأمون وأثنى عليه، وإن تقريظ المأمون في الواقع لأدق وصف لكتب الجاحظ وكتاباته.
على أن الجاحظ في تقربه من الجمهور والعامة لم يكن إلا متبعاً لتعاليم المعتزلة الذين أخذوا يعملون لدفع الجمهور للعلم، وتقريب المعارف من نفوسهم بشتى الوسائل الممكنة، ونحن إذا تأملنا كثيراً من كتبه نجده قد أختار موضوعاتها مما يليق بالجمهور ويروج عندهم مثل كتاب البخلاء
ولقد كان الجاحظ يدخل على نفوس العامة من ناحية أخرى هي ناحية الدعابة والتفكه، فإنه كان يحفل بذلك ويعتد به، ولست أذكر من فكاهات الجاحظ وأساليبه في ذلك ومبلغ قوته في التصوير، فإن من قرأ منكم شيئاً من كتب الجاحظ فقد أدرك ذلك وتحققه، ثم عرض الأستاذ لكتاب التربيع والتدوير فقال: إنه نمط من فكاهة الجاحظ، ولكنه ملأه بالأسئلة عن أشياء لا تصح، وفيها ما يدور في أذهان العامة والجمهور، ولم يعمل الجاحظ على أن يجيب عنها، وقد قال الجاحظ في آخره: فإن أردت أن تعرف الفاسد والصحيح من هذه الأسئلة فألزم نفسك باب داري، وقراءة كتبي
وعرض للجاحظ في موقفه من المرأة فقال: إن الجاحظ لم يتزوج ولم يؤكد علاقته بالمرأة، ولكنه قد دافع عنها وأكبر من شأنها، وله كتاب (الحرائر والإماء) كتبه في مناصرة الإماء والثناء عليهن وتفضيلهن على الحرائر.
ثم تكلم عن أسلوب الجاحظ بما هو معروف، وقال إنه لم يؤثر في أحد من بعده تأثيراً فنياً، وإن ابن العميد الذي كان يتعصب للجاحظ، ويلقب في ألسنة الأدباء بالجاحظ الثاني لم يكن له من خصائص الجاحظ شيء، حتى القاضي الفاضل الذي يقول في كلام له: أما الجاحظ فما منا معاشر الكتاب إلا من دخل في كتبه الحارة، وشن عليها الغارة، وخرج على كتفه منها كاره، لا نعرفه قد تأثر بالجاحظ في قليل ولا كثير، ثم أخذ يقارن بين الجاحظ وبين المبرد في طريقته وأسلوبه، ولم ينس ثعلباً في هذه المقارنة. . وانتهى بعد ذلك إلى القول
بإن الجاحظ كان داعية كبيراً، قد استطاع أن يتصل بالجمهور إلى حد بعيد، وأن يؤدي لنفسه وللمعتزلة من هذه الناحية شيئاً كثيراً، فكان مثله في ذلك مثل الصحفي الماهر في أيامنا الحاضرة.
وقام من بعد ذلك الأستاذ أحمد الشايب للكلام في مآخذ الجاحظ فابتدأ القول بكلام الناس في ثقافة الجاحظ واتساعها وثنائهم عليه من هذه الناحية، وقال إن الجاحظ كان واسع المعارف حقاً، قد اتصل بكل النواحي الفكرية والعقلية في ايامه، ولكن ثقافته كانت ثقافة عامة أو قل ثقافة صحفية يتلقفها من دكاكين الوراقين، وقد كان ذلك مذموما في عصره حتى كانوا يقولون: هو صحفي إذا أرادوا الذم، ونحن نرى أن الجاحظ وإن كان قد ألم بكل شيء ولكنه لم يتبحر في شيء، فثقافته أخذ من كل شيء بطرف كما يقولون.
قال الأستاذ: ولقد أخذت أنظر الجاحظ في كل ناحية من نواحي ثقافته فما وجدته إلا على ما وصفت، ثم أنتقص كلامه في الحيوان، وأورد في ذلك كلام الباحث الفرنسي كارادفو في كتابه (مفكروا الإسلام) وقد كان غاية ما حاوله الأستاذ أن ينتقص جهد الجاحظ وآراءه في الحيوان والنقد والبلاغة، وفي كل ناحية من النواحي التي كتب فيها. وقال إنه كان ينتهب آراء غيره، وكان يخلط بين النقد والبلاغة، على أن هناك فرقاً بين الناحيتين، ولقد كان الجاحظ في مؤلفاته يثير كثيراً من المشاكل ويمس الأمور المعضلة القائمة في عصره فيستطيع أن يشخصها ويكيفها ويلقى فيها الأسئلة القوية، ولكنه كان يتركها عند هذا الحد، فلا علاج يشفي، ولا جواب ينتهي بالقارئ إلى رأي حاسم، ولذلك كان من السهل على الجاحظ أن يؤلف في الشيء ضده وأن يناقض نفسه بنفسه ما دام هو يقف في ذلك عند الآراء الشائعة والمسائل الذائعة في كل فرقة. ولقد روى أن أحد الأمراء أرسل إلى الجاحظ يطلب منه أن يحتج له في رأي، فكتب له الجاحظ بما طلب، فعاد الأمير يقول له: إن الخادم قد غلظ في تبليغ الرسالة إليك وإنما أريد أن تكتب في نقيض هذا الرأي، فلم يتورع الجاحظ على أن يكتب له.
قال الأستاذ: وقد كان الجاحظ من المتكلمين، وكان الجدل والكلام في عصره على غاية ما يكون من الشدة، ولكني لم أعرفه قد كتب كتاباً في أصول الجدل أو ألف في علم الكلام كما كانت تقتضيه وظيفته ويقتضيه عصره، ثم أنتقد الجاحظ في تحقيقه، وأورد كلاماً
للمسعودي في ذلك إذ يقول: زعم الجاحظ إن نهر مكران الذي هو نهر السند من النيل. واستدل على إنه من النيل بوجود التماسيح فيه، وهذا تحقيق باطل ناقص، لأن الجاحظ أقامه على قياس منطقي نظري فاسد النتيجة ولو طاوعنا الجاحظ في قياسه لكن كل نهر فيه التماسيح هو من النيل، لأن النيل فيه التماسيح.
وكان من رأي الأستاذ أن غاية ما للجاحظ هو الأسلوب ففيه براعته وشخصيته ومميزاته. . . ثم انتقده بالتكرار الممل، وقال إن الجاحظ كان يستعمل عبارات ثابتة يكررها كثيراً حتى كأنها (كلشيهات) فهو ينقلها من كتاب إلى كتاب ومن موضع إلى موضع، ومثل لذلك بكلامه في اصطناع الكتب إذ أورده في كتابه الحيوان، وأعاده في المحاسن والأضداد، وكذلك كلامه عن الحسد وعبارات كثيرة يدركها كل من وقف على كتبه.
اليوم السادس
أما اليوم السادس وهو اليوم الأخير فقد اضطلع به الدكتور طه وحده، وكان عليه أن يملأ فراغه فمدَّ رواق القول على كثير من نواحي الجاحظ مع أن موقفه في القول كان عند (فكاهة الجاحظ) فتكلم أولاً عن إطراء الأدباء للجاحظ وما يجب أن يكون له من هذا الإطراء؛ ثم تكلم عن دعابة الجاحظ بما تكلم به الأستاذ إبراهيم مصطفى من قبل، فقال إن الجاحظ قد نصر النثر على الشعر وجعله أقرب وأعذب في نفوس الجمهور والعامة، ولقد أشرت إلى ذلك فيما كتبته في تقدمة نقد النثر لقدامة، وقد قلت إن الجاحظ أثر في ابن الرومي من هذه الناحية، فمهد له طريق التقصي في المعنى والإسهاب.
ثم تكلم في فكاهة الجاحظ فقال: ولقد كانت الفكاهة من النواحي البارزة عند الجاحظ، وما كان الرجل يقصد في فكاهته إلى الضحك والإضحاك فحسب، ولكنه كان يقصد أيضاً إلى التصوير، ويقصد التهكم والسخر، ويقصد إلى النقد والهجاء، وأورد في الاحتجاج لذلك كلامه في نقد الخليل بن أحمد. ثم ذكر بعض فكاهاته فذكر من ذلك قصته مع محمد بن أبي المؤمل البخيل، ثم أنتدب الدكتور محمد عوض ليقرأ طرفاً من رسالة الجاحظ للمعتصم أو للمتوكل يحضه على تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب، وفيها كثير من ألوان الدعابة والشعر الفكه.
قال الدكتور: وعندي أن الجاحظ كان كفولتير، فكما أن فولتير لم يكن عالماً فحسب ولا
أديباً فحسب ولا فيلسوفاً فحسب ولا اجتماعياً فحسب، وإنما كان له في كل هذا وأكثر من هذا، فكذلك نجد الجاحظ له في الأدب والفلسفة والاجتماع إلى آخر ما هو معروف عنه؛ وكما أن فولتير لم يكن في سخره وتهكمه يقف عند حد الفكاهة ولكنه كان يقصد إلى كثير من الأغراض الشريفة، فكذلك كان الجاحظ، فالمشابهة قوية بين الرجلين.
ثم قال: فالجاحظ لا شك من الشخصيات الكبيرة، وأهل العبقريات النادرة، وهو حري بالذكر والتكريم، ونحن إذ نقوم له بهذا الأسبوع بمناسبة مرور أحد عشر قرناً على وفاته، فإنما نحن نؤدي له بعض الواجب، ولا أكتمكم يا سادة إذا قلت لكم إننا في حاجة كبيرة إلى دراسة الجاحظ في كتبه وآثاره دراسة وافية كما تجب الدراسة، فإننا مع الأسف لا نعرف عنه إلا ما هو شائع في المجالس وما يسقط إلينا من نوادره. وكلية الآداب إذا كانت قد فكرت في إقامة هذا الأسبوع فإنها أرادت أن تلفت الأذهان للعناية بالجاحظ، وأن تنبه على وجوب دراسة العبقرية الواسعة الشاملة.
هكذا قال الدكتور الفاضل ولست أدري إذا كانت كلية الآداب لا تعلم عن الجاحظ إلا ما هو شائع في المجالس وما يسقط من النوادر، وإذا كانت لم تقصد إلا لفت الأذهان، فمن الذي يكون عنده العلم بالجاحظ، ومن الذي سيؤدي عنها هذا الحق في النقد والأدب.
م. ف. ع
العاطفة
وهي تحفة في الشعر الوصفي الرائع المبتكر في أغراضه
ومعانيه
للشاعر العالم الأستاذ أحمد الزين
خَلَجاتٌ تهفو بقلب الشجَّيِّ
…
هي سرُّ الحياة في كل حيِّ
هي والرُّوح في فؤادك صِنْوا
…
نِ وفيض من عالَم عُلويّ
هي ذكرى بعد المشيب وسلوَى
…
في اكتهالٍ وصبوة للفَتِيّ
ومُنىً للغلام يهفو إليها
…
وحنان يحوط مهدِ الصبيّ
رافقتْ رحلة الحياة وآخت
…
نِضْوَ أسفارها إخاء الوفيّ
هي للقلب نعمةٌ أو شقاء
…
كم سعيدٍ بها وكم من شقيّ
رُبَّ من يبهر العيون رُواءً
…
ناء من همها بداء خفيّ
ظاهر منه يخدع العينَ عمَّا
…
ضمّن القلبُ من ضنى مطويّ
من غرام مبرّحٍ أو فراقٍ
…
أو منىً عُوجِلَتْ بصوتِ النعيّ
باسم بين صَحبِه فإذا يخ
…
لو بكى شجوَه بدمعٍ شجيّ
وأخي منظَر تراه فَتنْبُو ال
…
عَيْنُ عن منظر رَثيث زَرِيّ
يبصر الناس منه ما يبعث الر
…
حمة في قلب شانئٍ وصفَيّ
ما دَرَوْا أنه على البؤس يحيا
…
بفؤادٍ خالٍ وبالٍ رخيّ
ملأت نفَسه السعادة حتّى
…
لا يبالي بمنظَر أو بِزيّ
نَزَعاتُ النفوس في كلِّ قلب
…
مَيَّزَتْ ببين ساخطٍ وَرضيّ
أسعدتْ آدماً وحوّاَء حينا
…
ثم أشقتهما بإفك الغَوِيّ
ورث النسلُ عن أبيه مُيُولا
…
لم تَدَعْه في ظِلِّ عيش هنيّ
ونفوساً حَيْرَى تقلّبها الأه
…
واء مفتونة بكل طليّ
فهي بين الآمال تمرح نَشْوَى
…
ثم تصحو باليأس من كلِّ شيّ
إنّ للعاطفات حُكماً قويا
…
ظلمُه عاصف بكلِّ قويّ
كم أذلّت جبارَ قومٍ، وغَلَّت
…
من طليق، وأَسلْسَتْ من أبيّ
كم تولّى جهادَها في قديم الدْ
…
هرنُصْح لعالم ونبيّ
جاهَداها بالعقل حيناً وحينا
…
سَخَّرَا بعضَها لقَتل البَقيّ
وهي تَقْوَى مع الجهاد فوَيلْ
…
للوَرَى من جهادِها الأبديّ
دافعات إلى الغواية أحيا
…
نا وحينا إلى الطريق السويّ
كم يواسي بها الفقير وتنجي
…
هـ من البؤس رقّة في غنىّ
كم سقيم لولا ترفُّق آسٍ
…
لقضى نحبَه بداءٍ دَويّ
ومشوقٍ لولا التعلل أودى
…
يأسُه بالدم الطهور الزَّكيّ
وجمالٍ لولا العواطف ساوَى ال
…
قبحَ في عقلِ أبلَهٍ وذَكيِّ
فبها قُدِّر الجمالُ ولولا
…
ها لعاش الوَرَى بقلبٍ خَلِيّ
يا لنفسٍ تعيش بين مُيُولٍ
…
أتْعَبتْها ما بين رُشْد وَغيّ
أحمد الزين
يوم عابس
في الربيع الباسم
للأستاذ محمود غنيم
يا لصباح أغبرِ الأديمِ
…
قد طعن الربيع في الصميمِ
أمطارُه قد شوّهت آذارهْ
…
وريحه قد صوحت أزهاره
قد يظفر الباحثُ بالعنقاء
…
فيه ولا يرى ابَنَة السماء
فقلتُ: هل ضلَّ صباحُ اليوم
…
أم أغرقت شمس الضحى في النوم؟
ويحك يا أيتها الشمس اطلعي
…
يا أرضُ غيضي يا سماءُ أَقلعي
وقفتُ حيرانَ على الطريقِ
…
من غير ماء صرتُ كالغريق
الأرضُ تحتاجُ إلى عوَّامِ
…
فكيف بالسير على الأقدام
من رام أن يسعى يمينا أيسرا
…
ومن مشى قدَّامَ عاد القهقرى
لكنني شحذتُ غرب عزمي
…
وخضتُ موج ذلك الخضمِّ
فلست بالنِّكْس ولا الجبانِ
…
إذا دعا الداعي إلى الميْدانِ
مشيتُ كالنشوانِ كلُّ همي
…
أنيَ أحفظ اتِّزان جسمي
أسأل في الطريق كلَّ سابلِ
…
كأنني أسيرُ في المجاهل
دمع السماء فوق رأسي هامِ
…
والأرض من تحتيَ بحرٌ طامِ
والماءُ قدران على منظاري
…
فسرت أهتدي بصوت جاري
وبعد أن كنت على (غياري)
…
أخشى من الرشاش والغبار
فرطتُ فيه غاية التفريطِ
…
وصرت لا أخشى سوى السقوطِ
وعثرةُ اللسانِ في المقالِ
…
دونَ غبارِ الرِّجل في الأوحالِ
وبينما نحن نجوزُ حارةَ
…
إذ داهمتنا عندها سيارة
تنطلق انطلاق سهمٍ مارقِ
…
سابحة في خفة الزوارق
ينضحُ بالمياهِ جانباها
…
على ثيابٍ ليس لي سواها
فطرزتْ إذ ذاك من ثيابي
…
ما اخطأته ريشةُ السحابِ
فقلت: ويلٌ للفقير العافي
…
من الغنى المترفِ المتلافِ
قال رفيقي: دنت الدروسُ
…
وبعد خمس يضربُ الناقوسُ
فقلت: مهلاً أيها الرفيق
…
ما يفعلُ المدرسُ الغريقُ؟
قال: (أجيمًا) تبتغي و (سينًا)؟
…
أسرع فلست تجهل القانونا
قلت قوانين البلاد جائرةْ
…
إن هي ساوتنا بأهل القاهرةْ
لا تذكر القانون في الأريافِ
…
قد وضعَ القانونُ في الجفافِ
حيث الشوارعُ التي لا تنضحُ
…
ولا بمكث الماء فيها تسمحُ
وهكذا (نشرب) نحن المطرا
…
وساكن المدن به ما شَعَرا
وكل ما في الريف من محامدِ
…
يذهب في أمطارِ يومٍ واحدِ
(كوم حمادة)
محمود غنيم
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الفضيلة الواهبة
- 1 -
وبعد أن ودع زارا مدينة (البقرة الملوَّنة) التي شغف قلبه بها، شيعه عدد غفير مما كانوا يدعون أنفسهم أتباعه حتى بلغوا إلى منعطف الطريق، فقال زارا إنه يريد متابعة سيره وحده. فودَّعه أتباعه وقدموا إليه عصا قبضتها من ذهب بشكل أفعى ملتفة حول الشمس، فسر زارا من هذه الهدية واتكأ عليها قائلاً لأتباعه:
- قولوا لي، لماذا أصبح الذهب ذا قيمة؟ أليس لأنه نادر ولا فائدة منه، ولأنه وديع في لمعانه، ويبذل نفسه في كل حين؟ لم يبلغ الذهب أسمى مراتب الأشياء القيمة إلا لأنه رمز لأسمى الفضائل، فعين الواهب برَّاقة كالذهب، ووهج الذهب رسول سلام بين النيرين.
إن أسمى الفضائل نادرة ولا نفع منها، فهي تتوهج بنورها الهادئ، وليس بين الفضائل من يطاول فضيلة السخاء.
والحق، إنني شاعر برغبتكم، أيها الصحاب، فإنكم تطمحون مثل طموحي إلى الفضيلة الواهبة، فأنتم تريدون أن تحولوا نفوسكم إلى هبات وعطايا، وإلا لكنتم أشبه بالهررة والذئاب. ولهذا تتعطشون إلى حشد جميع الكنوز في أنفسكم فهي لن ترتقي من جميع الجواهر والكنوز لأنها ظامئة أبداً إلى العطاء. تجتذبون كل ما حولكم ليتسرب إلى داخلكم فينفجر ينبوعكم بها كأنها هبة من محبتكم.
إن المحبة السخية الواهبة تستحيل إلى لص يمد يده إلى جمع الأشياء القيمة، وما أرى هذه الأنانية إلا عملاً صالحاً مقدساً.
غير أن هنالك أنانية أخرى تدهورت إلى أدنى درجات المسكنة في مجاعتها المتحكمة أبداً فيها، تلك هي الأنانية التي تطمح إلى السرقة في كل آن، فهي أنانية المرض بل هي الأنانية المريضة، تحدج كل شيء بنظرات اللص وبنهم الجائع، فتزن لقمات الآكلين من
أبناء النعمة وتدبُّ أبداً حول موائد الواهبين. وما مثل هذه الشهوة إلا عرض الداء الدفين ودليل الانحطاط الخفي، وما الطموح إلى السرقة بمثل هذه الأنانية إلا نزعة من نزعات الجسوم العليلة.
أي شيء نراه أقبح الأشياء، أيها الأخوة، أفليس الانحطاط أقبحها؟ وهل يسعكم إلا أن تحكموا بانحطاط مجتمع لا أثر لروح السخاء والعطاء فيه.
إن سبيلنا يتجه إلى الأعالي، وما نقصده إنما هو الارتقاء من نوع إلى نوع، لذلك نرتعش عندما نسمع الانحطاط يهتف قائلاً:(لي كل شيء)
وهل روحنا إلا رمز لجسدنا وهي تطمح إلى الاعتلاء، وهل الصفات التي ندعوها فضيلة إلا عبارة عن هذه الرموز عينها؟
إن الجسد يقطع مسافات التاريخ بكفاحه، لكن ما تكون الروح من الجسد يا ترى إن لم تكن المزيع لكفاح الجسد وانتصاراته؟ وما الجسد إلا الصوت، وما الروح إلا الصدى الناجم عنه والتابع له. ليست الكلمات الموضوعة للدلالة على الخير والشر سوى رموز فهي تشير إلى الأمور ولا تعبر عنها ولا يطلب المعرفة فيها ومنها إلا المجانين.
انتبهوا، أيها الأخوة، إلى الزمن الذي يطمح فكركم فيه إلى البيان بالرموز لأن في هذا الحين تتكون الفضيلة فيكم، وفيه يبعث جسدكم ويتجه إلى الأعالي مجتذباً عقلكم من سكونه ليدفع به إلى مراحل الإبداع حتى إذا ما سار عليها عرف قيمة الأشياء وأحب فأجاد في كل أعماله.
في الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم لأن هذا القلب يفيض باختلاجه كالنهر العظيم فيغمر القائمين على ضفافه بالبركة كما يهددهم بأشد الأخطار.
إنما تنشئ فضيلتكم عندما يعجز المدح والذم عن بلوغ شعوركم، فتطمح إرادة الرجولة فيكم إلى السيادة على كل شيء
إنما تنشئ فضيلتكم عندما تحتقرون النعم والفراش الوثير وعندما لا تجدون راحة إلا بعيدا عن مواطن الراحة
إنما تنشئ فضيلتكم عندما تنصب إرادتكم على مقصد واحد، وعندما يصبح هذا التحول في آلامكم ضرورة لا يسعكم التحول عنها
أفليس هذا شكلاً جديداً للخير والشر؟ أفما تسمعون بهذا القول خرير الينبوع العميق الذي غربت مسالكه من قبل عنكم؟
إنها لفضيلة جديدة تمنح الإنسان قوة وتبعث فيه عزماً، هذه الفكرة المتحكمة في روح بلغت الحكمة لأنها شمس مذهبة التفت عليها أفعى الحكمة.
- 2 -
وصمت زارا مرسلا نظرات الحب إلى اتباعه، ثم ارتفع صوته بنبرات جديدة قائلا: - اخلصوا للأرض، يا اخوتي، بكل قوى فضيلتكم. ولتكن معرفتكم خادمتين لروح الارض، انني اطلب هذا متوسلا.
لا تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق الأرض لتطير بأجنحتها ضاربة أسوار الأبدية، ولكم ضلت من فضيلة من قبل على هذا السبيل.
أرجعوا الفضيلة الضالة كما رجعت بها أنا إلى مرتعها في الأرض. عودوا بها إلى الجسد وإلى الحياة لتنفخ في الأرض روحها، روحا بشرية.
لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آلاف الأمور، ولما يزل هذا الجنون يتسلط على جسدنا حتى أصبح جزءاً منه فتحول فيه إلى إرادة.
لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة فضلاً على ألف سبيل؛ وهكذا اصبح الإنسان عبارة عن تجارب ومحاولات ألصقت بنا الجهل والضلال. وليس ما استقر فينا من تجارب حكمة الأجيال فحسب، بل جنونها أيضاً. ولكم يتعرض الوارثون إلى أخطار.
إننا لم نزل نصارع جبار الصدف، ولم يزل العته سائدا على الإنسانية حتى اليوم
ليكن عقلكم وفضيلتكم بمثابة روح للأرض وعقل لها.
أيها الأخوة فتتجدد بكم قيم الأشياء جميعها، من أجل هذا وجب عليكم أن تبدعوا.
إن الجسد يطهر بالمعرفة، فيرتفع بمرانه على العلم، لأن من يطلب الحكمة يطهر جميع غرائزه، ومن ارتقى فقد أدخل المسرة إلى نفسه.
أعن نفسك، أيها الطبيب، لتتمكن من إعانة مريضك. إن خير ما تبذله من معونة لهذا المريض هو أن يرى بعينه إنك قادر على شفاء نفسك.
إن في الأرض من السبل ما لم تطأها قدم بعد، فما أكثر مجاهلها وما أكثر خفاياها!!
اسهروا وانتبهوا أيها المنفردون لأن من المستقبل تهب نسمات سرية حاملة بشائر لا تقرع إلا الآذان المرهفة.
إنكم في عزلة عن العالم، أيها المنفردون، ولكنكم ستصبحون شعباً في آتي الزمان، ومنكم سيقوم الشعب المختار لأنكم اخترتم نفسكم اليوم. ومن هذا الشعب سيولد الإنسان الكامل.
والحق أن الأرض ستصبح يوماً مستشفى للأعلاء، فإن في نشرها عبيراً جديداً هو عبير الإخلاص والأمل الجديد.
- 3 -
وسكت زارا كمن يقف عند كلمة تتلجلج في فمه، وبعد أن قلب عصاه طويلاً بين يديه، أطلق صوته وقد تغيرت نبراته فقال:
- سأذهب وحدي الآن، أيها الصحاب، وأنتم أيضاً ستذهبون بعدي وحدكم لأنني هكذا أريد.
هذه نصيحتي إليكم، ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي، بل أذهبوا إلى أبعد من هذا، أخجلوا من انتسابكم إليَّ فلقد أكون لكم خادعاً.
على من يطلب الحكمة ألا يتعلَّم محبة أعدائه فحسب بل عليه أيضاً أن يتعلَّم بغض أصدقائه. وما يعترف التلميذ اعترافاً تاماً بفضل أستاذه إذا هو بقى أبداً له تلميذاً. لماذا لا تريدون أن تحطموا تاجي؟
إنكم تحوطونني بالأجلال، ولكن ما هي الكارثة التي تتوقعونها من إعراضكم عني، إن في رفع الأنصاب لخطراً فاحترسوا من أن بسقط عليكم التمثال المنصوب فيقضي عليكم
تقولون إنكم تؤمنون بزارا، ولكن أية أهمية له؟ تقولون إنكم مؤمنون، ولكن ما أهمية جميع المؤمنين؟ ما كان أحد منكم فتش عن نفسه قبل أن وجدتموني، وهكذا جميع المؤمنين، فليس الإيمان شيئا عظيماً. لذلك آمركم الآن أن تضيعوني لتجدوا أنفسكم، ولن أعود إليكم إلا عندما تكونون جحدتموني جميعكم.
والحق، يا إخوتي، إنني في ذلك الحين، سأفتش عن خرافي بعين أخرى فأبذل لكم حباً غير هذا الحب.
سيأتي يوماً تصيرون فيه أصحاباً لي إذا ما وحد بينكم الأمل الواحد، عندئذ سأرغب في الإقامة بينكم للمرة الثالثة للاحتفاء بأنوار الهاجرة العظمى.
وستبلغ الشمس الهاجرة عندما يصل الناس إلى منتصف طريقهم بين الحيوان والإنسان الكامل، وعندما يرون أملهم الأسمى على منتهى السبيل الذي يقودهم إلى الفجر الجديد
في ذلك الحين يتوارى من يسير إلى الجهة الثانية وهو يبارك نفسه إذ ترتفع شمس معرفته لتتكبد الهاجرة.
لقد مات جميع الآلهة، فلم يعد لنا من أمل إلا ظهور الإنسان الكامل. فلتكن هذه إرادتنا الأخيرة عندما تبلغ الشمس الهاجرة.
هكذا تكلم زارا. . .
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
السرو
كنت ولداً لأول مرة جلست فيها تحت ظلك يا شجرة السرو حين كانت أسراب الحمام تفتح أجنحتها للريح فاتبعها من روحي بأطيار تشق الأثير متجهة نحو السماء.
وهأنذا أتقدم اليوم ببطء تحت أغصانك لأطرح على الأرض جسدي المتعب وقد وقفت روحي عن تباع الطيار في اعتلائها. لقد صار الولد شيخاً.
لم تزل تظللني اغصانك أيتها السروة، وقد أصبح جذعك متكأً ليدي المرتجفة، فاقف مستنداً إليه وأجيل أبصاري بين القبور حيث يرقد أجدادي وحيث أرقد أنا غداً.
ما أجملك، أيتها السروة، وأنت متجهة إلى ما فوق كصلاة المؤمنين، وحينما يمر الهواء بين أغصانك يخيل إلى المستغرق تحت ظلالك أنه يسمع ما تسر إليه قلوب أحبابه وقد استحالت إلى تراب في القبور.
لقد مرت على صداقتنا السنون أيتها السروة الهرمة، ومنذ أول عهدي بك لم أزل أتفيأ غصونك لأناجيك مفكراً في زوال الأيام. أنت أعرف مني بحالي، فأنا أستشهدك على إيماني بالخلود واحتقاري لكل مرتجف أمام الفناء.
أحبك أيتها الأغصان القاتمة. أحبك يا زهرة المدافن لأنك رمز الراحة والسكون لمن أتعبته حركة الحياة.
إلى متى تنطلق روحي من أسرها فتجول في الفضاء الفسيح الغير المتناهي كما تجول أسراب الحمام في آفاقها، فيرتفع مثلها فوق المآذن إلى السحاب إلى ما وراء كل منظور.
هنالك السكون بالارتقاء إلى الأوج الأعلى، حيث لا شقاء ولا خداع. تقدم يا ملاك الموت وأطرق الباب فإن وراءه روحاً أهرمها الدهر وهي مستعدة للرحيل.
أيها الهواء الهاب على أغصان السروة القاتمة كأسرار الأبد، كل يوم أنتظر منك مناجاتي بساعة موتي وأنت في أنينك ساكت عنها لأنها في علم الله.
ف. ف
البريد الأدبي
الأزهر والجامعة المصرية في عيد أثينا
في هذا الأسبوع تحتفل جامعة أثينا بعيدها المئوي؛ فقد دعيت جامعتنا المصرية ودعيت والجامعة الأزهرية لشهود هذا الاحتفال العلمي، فلبتا الدعوة؛ وانتدبت الجامعة المصرية مديرها الأستاذ لطفي السيد باشا لتمثيلها، وانتدبت الجامعة الأزهرية أحد أساتذة التفتيش. ومما يلاحظ بهذه المناسبة أن الأزهر قد بدا يتخذ مكانته في هذه المهرجانات العلمية الدولية بعد أن لبث دهرا بعيداً عنها، وهذه هي المرة الثالثة أو الرابعة التي يوفد فيها ممثليه إلى الخارج للاشتراك فيها. وقد نشأت جامعة أثينا منذ مائة عام (سنة 1837) معهدا متواضعا على سفح الأكروبول. وكان قيامها من نفثات الاستقلال الذي كسبته اليونان بدمائها قبل ذلك بأعوام قلائل؛ بيد إنها قطعت خلال هذه المائة العام أشواطاً عظيمة، فأضحت جامعة كبرى تتمتع بهيبة علمية لا بأس بها.
وسيشهد عيد الجامعة الأثينية ممثلو نحو خمسمائة جامعة ومعهد، وسيفتتح الاحتفال الرسمي ملك اليونان ويلقي خطاباً في هذه المناسبة وتمتد حفلات العيد مدى أسبوع من 17 أبريل الجاري إلى 22 منه؛ وقد وضع برنامج حافل يشتمل على خطب وأحاديث علمية مختلفة وعلى حفلات ومآدب اجتماعية، ونزهات ورياضات خلوية مختلفة؛ وسيلقي ممثل الجامعة المصرية وممثل الأزهر - كل كلمته في هذا المهرجان.
ذكرى مكتشف البلهارسيا:
تستعد الجمعية الطبية المصرية للاحتفال في الشهر القادم بذكرى العلامة الألماني تيودور بلهارس لمناسبة مرور خمسة وسبعين عاما على وفاته: وقد اقترن اسم هذا العلامة إلى الأبد بأحد الأمراض المصرية المتوطنة وهو (البلهارسيا) التي ما زالت تفتك بمئات ألوف من المصريين؛ وكان بلهارس أستاذاً بمدرسة الطب المصرية، فعكف أعواماً على دراسة جراثيم الأمراض المتوطنة، ووفق بعد مباحث طويلة إلى اكتشاف ديدان مرض البلهارسيا وبعض الجراثيم والطفيليات المتوطنة الأخرى، وقد رأت الجمعية الطبية المصرية أن تقوم بواجب الوفاء لهذا العلامة الذي خدم الطب والعلم في مصر، فتكرم ذكراه في حفلة جامعة تقيمها بكلية الطب في مساء يوم الأحد 9 مايو القادم، وسيلقي بعض حضرات الأساتذة
والأطباء المصريين كلمات في ذكرى العلامة الراحل، وفي حياته واكتشافاته الطبية، ومن المحقق أن دوائر العلم الألماني ستحتفي بهذه الذكرى أيما احتفاء، فاشتراك الجمعية الطبية المصرية في هذا التكريم تصرف محمود وعنوان على التضامن العلمي الذي لا يعرف واجباً ولا حدوداً.
جوائز مدينة باريس الأدبية:
من أنباء فرنسا الأدبية أن مجلس باريس البلدي، قد قرر إجابته لاقتراح مسيو رنيه جيوبن أحد أعضائه أن ينشئ جائزة أدبية قدرها خمسة وعشرون ألف فرنك (نحو 230 جنيه) تسمى (جائزة مدينة باريس الكبرى)، وتتولى منحها هيئة محكمين من الكتاب وأعضاء المجلس البلدي؛ وتمنح عاما بعد عام لكبير من الكتاب أو الشعراء أو المفكرين، فتمنح في العام الأول لكاتب (روائي) مثلاً تحوز مؤلفاته قصب السبق؛ ثم تمنح في العام التالي (لشاعر) وفي العام الثالث (لكاتب وصفي أو ناقد)، وفي العام الرابع (لمؤرخ أو فيلسوف) وهكذا، ويمكن منح هذه الجائزة عن مؤلف بعينه أو عن جميع التآليف مجتمعة، كذلك قرر المجلس البلدي أن يرفع الإعانة المقررة (لجمعية الأدباء) من عشرين إلى خمسين ألف فرنك في العام.
وهذه الجائزة الأدبية التي تقررها مدينة باريس ليست إلا واحدة من عشرات بل من مئات من الجوائز الأدبية المختلفة التي تقررها الهيئات الرسمية وغير الرسمية من جمعيات علمية وأدبية وصحف وغيرها لتشجيع العلوم والاداب، ورعاية الحركة الفكرية وإذكاء همم الكتاب والأدباء والفنانين، فأين جوائزنا نحن؟ ومتى تفكر هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية في ترتيب الجوائز الأدبية الموقرة التي يمكن أن تسبغ بهيبتها الأدبية على أدبائنا وكتابنا شرفاً يتسابقون إليه، كما تسبغ بقيمتها المادية على جهودهم نوعا من المؤازرة والتشجيع؟
كتاب عن الرحلات القطبية
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن المكتشف الأمريكي الشهير روبرت بيري وعن رحلاته القطبية المختلفة عنوانه: ومؤلفه المؤرخ الأمريكي هوبز وقد أشتهر هوبز منذ بعيد بكتاباته عن القطب والرحلات القطبية، فهو من هذه الوجهة أستاذ موضوعه؛ وهو يسرد
في كتابه الجديد رحلات بيري القطبية منذ رحلته الأولى إلى الجزيرة الخضراء في سنة 1886، وهي السنة التي أكتشف فيها رأس الثلج الشهير. وبيري من أشهر المكتشفين والرحل في عصرنا؛ وكان مولده في ولاية بنسلفانيا سنة 1856؛ وألتحق بالبحرية الأمريكية سنة 1881؛ وفي سنة 1886 رحل إلى الأرض الخضراء رحلته الأولى؛ وفي سنة 1891 رحل إليها للمرة الثانية وقطع الجزيرة من جنوبها إلى شمالها على ظهر زاحفة ثلجية، وأنفق في رحلته ثلاثة عشر شهراً واستطاع أن يتحقق من أن الأرض الخضراء جزيرة تحدها الثلوج من الشمال كما تحدها من الجنوب. ثم قام برحلته الثالثة إلى الأرض الخضراء في سنة 1893ومكث في الجزيرة نحو أربعة أعوام؛ وكان بيري يستعين في رحلاته برجال (الإسكيمو) وإليه يرجع الفضل في دراسة خواص هذا الجنس المدهش الذي يعيش بين الجليد الخالد. وفي سنة 1898 قام بيري برحلة جديدة على ظهر الباخرة القطبية (روزفلت) حول الجزيرة الخضراء من الشمال والشرق، ولبث بيري طول حياته يتطلع إلى القطب واكتشافه؛ وفي سنة 1905 قام بأعظم رحلاته في اتجاه القطب الشمالي، ووصل في سنة 1908 على ظهر السفينة القطبية روزفلت إلى رأس شريدان، وهي أبعد نقطة وصل إليها إنسان، وقضى الشتاء في تلك الوهاد الثلجية؛ وفي أبريل سنة1909، وصل بيري إلى القطب الشمالي وحقق بذلك أمنية حياته؛ وكتب بيري عدة كتب خلابة عن رحلاته؛ ورقى إلى رتبة الأميرال في سنة 1911، وتوفى في واشنطون ستة 1919.
وقد استعرض مستر هوبز في كتابه الجديد حياة بيري ورحلاته بأسلوب شائق واستخلصها من كتبه ومذكراته ومعلوماته الخاصة، فجاء من أبدع الكتب التي صدرت عن الرحلات القطبية.
قضية أدبية غريبة
رفعت إلى محكمة نيويورك العليا قضية أدبية غريبة تشغل دوائر النشر والأدب تدور حول هذا السؤال (هل يحق للعالم الذي أضحت حياته العامة ملكاً للتاريخ أن يتمسك بإخفاء بعض حقائق في حياته لاعتبارات خاصة؟) وخلاصة القضية إن العلامة الباثولوجي الأشهر الدكتور كارلاند شتايز الذي يحمل جائزة نوبل للعلوم، والذي يشغل مركزاً هاماً في معهد روكفلر للمباحث الطبية رفع قضية على شركة نشر قاموس الإعلام يطلب فيها
الحكم على الشركة بأن تمتنع عن نشر صورته وترجمته بقسم (أعلام يهود أمريكا) في طبعتها الجديدة، وأن تدفع له عشرين ألف جنيه تعويضاً عما لحقه من الضرر المحقق في حياته الخاصة وفي مهنته.
وقد ولد الدكتور لاندشتاينر في النمسا من أبوين يهوديين ولكنه نبذ اليهودية وأعتنق الكثلكة في سنة1890 وتزوج من سيدة كاثوليكية، ويقول محاميه أنه، أي الدكتور، يعيش منذ خمسين عاماً في وسط مسيحي، ويغضي عن علائقه الدينية القديمة؛ وحق الخصوصية هنا قائم ويجب أن يحمى. ثم إن للمدعي ولداً في التاسعة عشرة من عمره لا يعرف شيئاً عن أصل والده اليهودي، فإذا وقف على هذه الحقيقة في القاموس المشار إليه فإنه يصطدم لذلك وقد يعرضه للمذلة في الوسط المسيحي الذي يعيش فيه.
ويقول الناشرون إن قاموس الإعلام هذا عمل تاريخي جليل، وإن كل ما يتعلق بحياة المدعي من الوقائع والحقائق إنما هو ملك للتاريخ وإن نشرها له عدوان فيه على حقوقه الخاصة
وهكذا تجد المحكمة العليا نفسها أمام مأزق دقيق.
النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
لأستاذ كبير
المستر بيير كربتيس القاضي السابق بالمحاكم المختلطة مؤرخ محقق، كتب في تاريخ مصر كتبا قيمة اعتمد في إخراجها على مصادر ووثائق أكثرها لم ينشر بعد، رجع إليها في دار المحفوظات المصرية بتصريح من جلالة الملك الراحل.
ويقول لنا الأستاذ صروف إنه يوشك أن يصدر في تاريخ مصر كتابا آخر. وليس القاضي كربتيس أول رجال الولايات المتحدة الذين كتبوا عن مصر، بل إن للكثيرين منهم على التاريخ المصري فضلا كبيرا. ويمتاز هؤلاء المؤرخون ببعدهم عن التأثر بالمصالح والعواطف السياسية. ولذلك تراهم ينظرون إلى الحقائق نظرة المحايد المحقق الذي يبحث ويتحرى ولا يهمه بعد ذلك لجأت نتيجة البحث وفق ما يحب أم لم تجئ؛ ومن أجل ذلك كانت كتبهم جديرة بأن تلقى من الكتاب المصريين المؤلفين منهم والمترجمين ما تستحقه من العناية.
ولكن يؤسفنا أن نرى هؤلاء المؤلفين والمترجمين لا يعتمدون إلا على مصادر من نوع واحد، ويغفلون المصادر الأمريكية مع أنها من أهم المراجع وأصدقها، ومع أن أصحابها بحكم مراكزهم كانوا ملمين بالشئون المصرية وكان لبعضهم يد في تصريفها.
لذلك اغتبطنا حين أخرج الأستاذ صروف ترجمته لكتاب إسماعيل الخديو المفترى عليه، ونرجو أن نرى في القريب ترجمة لكتاب (إبراهيم) وأخرى لكتاب (فارمن) وثالثة (لماكون) ورابعة (لإدون ده ليون) وغيرهم من الكتاب المنصفين
وهذا المقام الذي نضع فيه المؤرخين الأمريكيين هو الذي حملنا على قراءة الترجمة العربية لكتاب كربتيس بعد أن قرأنا الأصل الإنجليزي منذ عامين أو أكثر.
ومن أجل هذا أيضا رأينا من الواجب علينا أن نبدي رأينا في الترجمة لأن موضع الكتاب
جليل، يفتح في التاريخ المصري فتحا جديداً. ولأن المؤلف قاض نزيه وكاتب كبير، ولأن المترجم من الكتاب المعروفين، ولأن دار النشر الحديث قد بذلت في إخراجه من العناية ما يجعلها جديرة بالثناء العظيم.
وقبل أن نبدأ بالنظر في هذا الكتاب يحسن بنا أن نضع أمام القراء المبادئ الأساسية التي سنسترشد بها في نقدنا، والتي نرى لزاما على كل مترجم أن يراعيها إذا شاء أن تكون ترجمته دقيقة أمينة سليمة.
(1)
فأول ما يجب على المترجم أن يكون ملما بموضوع الكتاب الذي يترجمه، وإلا دفع في الخطأ من حيث لا يدري؛ ذلك بأن لكل علم ولكل فرع من علم مصطلحاته الخاصة التي يجب أن يعرفها المؤلف والمترجم. ويصدق هذا على التاريخ كما يصدق على العلوم الطبيعية والرياضية. ففي التاريخ معان وضعت لها مصطلحات اتفق عليها، وأصبح المؤلفون والمترجمون في غير حاجة إلى اختراع ألفاظ جديدة للتعبير عنها، بل أصبح من واجبهم أن يتقيدوا بها إن وجدت، وإلا وقعوا في الفوضى والاضطراب. وقد توجد في الكتاب المترجم أغلاط مطبعية وغير مطبعية، وأسماء الأشخاص وأماكن محرفة وغير محرفة، ولا يستطيع المترجم أن يثبتها على حقيقتها إلا إذا كان عارفا بها أو كان في استطاعته الرجوع إلى المصادر التاريخية التي تمكنه من تحقيقها. وتعريب الأسماء من اللغة الإنجليزية يحتاج إلى كثير من العلم والدقة، وإلا خرج الكتاب مشوها بعيدا عن التحقيق التاريخي قليل القيمة غير مطابق للأصل المترجم.
(2)
كذلك يجب أن تكون الترجمة كالأصل من غير زيادة ولا نقص، ولسنا نرمي بذلك إلى الترجمة الحرفية التي يتقيد صاحبها بالألفاظ فيحتم على نفسه أن يأتي لكل لفظ بما يقابله ولكل عبارة بمثلها مساوية لها في الطول وعدد الكلمات: ليس هذا هو المقصود بل المقصود أن يعبر المترجم عن جميع المعاني الواردة في الأصل المترجم بلغة سليمة وأسلوب صحيح، والأمانة في الترجمة تحتم على المترجم أن لا يحذف من الأصل شيئاً إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطراراً، ويجمل به مع ذلك أن يذكر سبب هذا الحذف في هامش الكتاب أو في المقدمة إن شاء.
(3)
ويتفرع من هذا مبدأ ثالث عظيم الأهمية يتوقف عليه جمال الترجمة وسلاسة
الأسلوب، ذلك أن اللغة الإنجليزية تكتب جملا منفصلة قليلة الروابط اللفظية مع أن الفقرة الطويلة تعبر في الغالب عن معنى واحد شامل مرتبط الأجزاء متسلسل الجمل. والفقرات كذلك مرتبط بعضها ببعض. لكن هذه الروابط روابط ملحوظة غير ملفوظة في كثير من الأحيان، ويتوقف إدراك المعنى على فهم هذه الروابط بين الجمل والفقرات، وتختلف اللغة العربية في ذلك عن اللغة الإنجليزية، فالعبارة العربية تحتاج إلى الروابط اللفظية بين الجمل، ومتانة الأسلوب تستدعي حسن الانتقال من فقرة إلى فقرة، وإلا كان هذا الأسلوب مفككا غير فصيح وبعيدا عن الذوق العربي، وكل خطأ في فهم هذه الروابط والتعبير عنها يفسد الأسلوب ويغير المعنى. وربما كان ذلك أصعب شيء في الترجمة، وهو الذي يجعل الكتب المترجمة ركيكة الأسلوب أجنبية في حقيقتها، وإن كتبت بألفاظ عربية. والمترجم القدير هو الذي تقرأ كتابه فلا تشعر أنه مترجم، بل تحس بأنك تقرأ كتاباً عربياً فصيحاً.
(4)
وثمة مسألة أخرى ترتبط بالمسألة السابقة وهي الأمثال والتشبيهات ونحوها، وهل تترجم بلفظها أو بمعناها. ونحن نرى أن يترجم معناها. واللغة العربية غنية بالأمثال والحكم والتشبيهات، ولا يعجز الأديب المطلع عن العثور لكل تشبيه أو مثل إنجليزي على ما يقابله في اللغة العربية، فإذا لم يجده فلا ضير عليه أن يترجمه بشرط ألا تكون الترجمة عسرة الفهم ولا بعيدة عن الذوق العربي السليم.
(5)
وكثيرا ما يقصد المؤلف أن يؤكد بعض المعاني تأكيداً خاصاً لأهميتها في نظره، وكثيراً ما يسبغ على بعض المعاني ثوباً روائياً أو شعرياً يقتضيه غرضه، وواجب المترجم القدير في مثل هذه الأحوال ألا يغفل عن ذلك في الترجمة ليكون أميناً على معاني المؤلف وروحه معا.
تلك أهم المبادئ التي سنبني عليها نقدنا لترجمة الأستاذ فؤاد صروف وبقدر انطباقها على الترجمة يكون حكمنا عليها وموعدنا بذلك العدد القادم إن شاء الله
الغنيمي
في الكتب
المطالعة التاريخية للمدارس الابتدائية
للأساتذة: محمد رفعت بك وزكي علي ومحمد مصطفى زيادة وأحمد
نجيب هاشم والسيد أحمد خليل
للأستاذ أحمد الشايب
هذه أول مرة في تاريخ الحياة المدرسية المصرية يعرض فيها التاريخ على التلاميذ عرضا علميا فنيا جميلا، يحاول به الأساتذة أن يصلوا بين الأطفال وبين العصور الأولى أقوى صلة وأجملها، وأنفعها، وأحبها إلى النفوس الغضة الحديثة العهد بالحياة. وما ظنك بدرس في التاريخ - أو كتاب في التاريخ - يشرك الطفل في بناء الماضي درسا، وقصصا، وعملا، ومتعة، فيستمع به الناشئ إلى أحاديث الملوك السابقين، ويرى آثارهم مصورة، ويدخل إلى منازلهم، ويلعب مع أطفالهم، ويصنع مثل لعبهم، ويتنقل بين الزراع، والصناع، والتجار، في المزارع، والمصانع، والمتاجر، لا مشاهدا ومتحدثا فقط، بل مشاركا، مفيدا من الماضي خير الفضائل وأنبل الصفات. ذلك، وأكثر منه، وخير منه، هو ما قام به هؤلاء الأساتذة الأفاضل مؤلفو كتاب المطالعة التاريخية للمدارس الابتدائية. وقد قرأت جزءه الأول الذي وضع في حياة المصريين القدماء، فإذا به يصور الخطوة القديمة لحياة مصر والمصريين، ولكنها مع ذلك خطوة واضحة، بهية، استطاع واصفوها محتالين متلطفين أن يمزجوها بخطأ الطفولة ومواهبها حتى لقد خشيت أن يستحيل أطفالنا، بهذا الأسلوب الفني الجميل، أبناء فراعنة، وأطفالا تاريخيين.
لترك الباحثين يختلفون حول التاريخ، أعلم هو أم فن، ولنقف عند طور الطفولة وما يلائمه موضوعا وشكلا، فلن نرى - فيما نعرف - خيرا من هذا الكتيب ولا اصلح منه لأبناء المدرسة الابتدائية، سواء في ذلك اختيار المعلومات، وتنوعها، وشمولها، وطريقة عرضها، وسهولة أسلوبها، وما أعقبها من التمارين العملية. . وأما الرسوم والأشكال فهي وحدها مدرسة في إيضاحها وفي جمالها الذي يفتن الأطفال، ويبهر الأبصار.
عرف المؤلفون، أو المربون، طبيعة الطفولة فكان تاريخهم قصصا، سهلا، مشوقا، متصلا
بحياة التلاميذ وما يألفون، وعرفوا غرائز البنين وشغفها بالعمل، فحولوا الدرس من هذا الشكل النظري إلى تمارين عملية تسد هذه الحاجة الغريزية، ولم يقفوا عند هذا المران التقليدي حتى عمدوا إلى قوة الخيال، فاعتمدوا عليها لتجسيم الصور الوصفية، وكلفوا التلاميذ من ذلك قسطا حسنا ينزع بهم إلى هذه العادات العملية المحققة؛ ولحظوا فتنة الأولاد باللعب الصغيرة، والمناظر البهيجة، فيسروا لهم الحصول على العرائس والكرات، وزخرفوا صفحات الكتاب بأجمل ما ترك الفراعنة من صور وأشكال.
وبعد هذا ينتقلون بالطفل بين جوانب الحياة القديمة، آباء عاطفين وأصدقاء مخلصين، فهم به اليوم في النوادي الرياضية يرونه المصارعة. وحمل الأثقال والترامي بالكرات، وغدا يأخذون بيده إلى المدرسة فيشهد زملائه لاعبين كاتبين حاسبين، وبعد غد يعرضون عليه الجيش المصري بأسلحته وعرباته وسفنه يفتح في الأقطار، ويكون الإمبراطورية القديمة. ثم يدخلون معه منزلا لإحدى الأسر الراقية ليشهد مثل النظام، والطاعة، والألفة، وحسن الآداب. وقد يحملونه على سفن الملكة حتشبسوت إلى بلاد الصومال بأفريقية ليعود بالأشجار العطرية، والحيوانات العجيبة. . وهكذا لا يتركون ناحية من هذه البيئة الفرعونية حتى يغرقوه فيها سامعا، مبصران عاملاً، خائلاً كأنه يشترك في تمثيل رواية أو حفلة ألعاب.
ليس في الكتاب هذه العبارة الجوفاء، والمبالغات الممقوتة التي يلجأ إليها كتاب التاريخ للأطفال حين تعوزهم المادة الممدودة، وبراعة الأسلوب. ولقد سررت حين رأيت (خوفو) ينتهز فرصة فراغ المصريين من الأعمال الزراعية أيام فيض النيل فيملأ فراغهم وجيوبهم ببناء الهرم الأكبر، كما سررت بهذه الناحية التهذيبية التي تصل بالأبناء إلى غاية الدرس التاريخي، وتحملهم على التعلق بأسباب المجد والفضيلة، فهذا الملك أحبته الرعية لإخلاصه في خدمتها، والإسكندر المقدوني بكرت إليه إمارات النجابة، فكان ملكا كبيرا، وهؤلاء الرسل أدوا رسالة الإنسانية وصبروا في سبيلها فكانوا البررة الكرام، وهذه مصر المحبوبة العزيزة أصبحت بفضل هذا الماضي المجيد محج السائحين والباحثين من كل الأقطار.
أما بعد، فلو كان لي طفل أو تلميذ في مدرسة ابتدائية، لما تركته ليلة دون أن أتدارس معه في هذا الكتاب، وأفيض على نفسه منه معرفة، وتسلية وتهذيبا. . . ولعل التلاميذ قد ظفروا
من هذا الكتاب بحياة مدرسية حديثة حقا، تجمع بين العلم والفن الجميل.
أحمد الشايب