المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 199 - بتاريخ: 26 - 04 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ١٩٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 199

- بتاريخ: 26 - 04 - 1937

ص: -1

‌من أحاديث الشباب

حول الديمقراطية

- لا يا عزيزي؛ أنا لا أتابعك على هذا التفسير. إن رأى الإمام محمد عبده جلي صريح. وكلمة (ينهض) في قوله المأثور: (لا ينهض الشرق إلا بمستبد عادل) أساس فكرته وعمود رأيه؛ فإن النهوض لا يكون إلا من القعود؛ والأمة القاعدة أو الراقدة لا يبعثها إلا القرع الشديد والهتاف القوي؛ ولا يمكن أن يكون هذا القارع الهاتف رأيها العام لأنه مفقود، ولا ضميرها الاجتماعي لأنه ميت؛ إنما يكون رسالة من الله على لسان نبي، أو هداية من الطبيعة على يد مصلح؛ وتنفيذ الرسالة الإلهية، أو الدعوى الإصلاحية، يرجع إلى خليفة يحكم بأمر الله، أو طاغية يحكم برأي نفسه. فإذا كانت الأمة قد نهضت بالفعل، كان الاستبداد بأمورها كفاً لنزعاتها عن الطموح، وحبساً لملكاتها عن العمل؛ لأن النهضة معناها غافل أحس وجوده، وخامل فهم نفسه، وجاهل عرف حقه، وعاطل أبصر واجبه، وضال وجد سبيله. والحياة التي تسري في أفراد الشعب الناهض، هي بعينها الحياة التي تجري في أعواد الربيع المنبعث: تتحرك في الأمة على صوت النذير في الغفلة، كما تتحرك في الطبيعة على هزيم الرعد في الشتاء. ومتى نفخ الله من روحه في خمود الحي، سيره على سنة الوجود وبصره بغاية الحياة؛ وهنا يكون المستبد مهما عدل سحاباً يحجب النور الذي أنبثق، وسموماً يصوح الزهر الذي تفتح

فقال صاحبي الشاب وقد ألقى باله لما قلت ففترت حماسته بعض الفتور:

- ولكن المستبد برأيه أو الحاكم بأمره يختصر الآراء في رأيه، ويجمع الأهواء على هواه. فنأمن التشرد الذي يضل، والتردد الذي يعوق، والتواكل الذي يضعف، والتساهل الذي يحابى. فقلت له:

- ذلك يصح والشعب لا يزال قطيعاً من الحيوان الأبله. لابد له حينئذ من الراعي وعصاه. أما إذا أصبح هذا القطيع أمة لكل فرد من أفرادها كرامة وإرادة ورأي ومصلحة، فبأي منطق تلغي هذه العقول الملايين التي جعلت لنفكر، وتنسخ هذه النفوس الملايين التي خلقت لتريد، لتجعل مكانها نفساً واحدة تغصب قوة الشعب لتقوده، وتسرق ثروته لتسوده. ثم يسرف عليها سلطانها فتتخذ الناس عبيداً والبلاد ضيعة؟

ص: 1

أنا أفهم أن المرء يقهر فيخضع، ويؤسر فيسترق، لأن الأمر في ذلك لا يخرج عن قانون الطبيعة من تغلب الأقوى وسيادة الأصلح؛ ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف يستأسر شعب بأسره لواحد منه، فيلقى بزمامه إليه، ويعول في جميع أموره عليه، والشعب مهما صغر لا يقل عن شعب، والفرد مهما كبر لا يزيد على فرد. والقوة والثروة والسلطان هي في ذلك الجمع الذي فيه الجندي والفلاح والعامل، لا في ذلك المفرد الذي فيه السرف والترف والبغي؟

لقد مات ذلك الإنسان المغفل الذي كان يجعل إلهه حيواناً يربيه ثم يمجده، أو جماداً يصنعه ثم يعبده

إن الديمقراطية يا صديقي أخلق النظم بكرامة الإنسان وسلامة العالم. هبط وحيها على الإنسان المفكر الحر في أثينا، ثم أصابها ما أصاب رسالات الخير في الأرض من شيوع الجهالة، وبلادة الحس، وأثرة الهوى، وطغيان الحكم، فصارت عروساً من عرائس الخيال كالحق والعدل والحرية، تتمثل في الأحلام، وتتراءى في المنى، وتقتل في سبيلها الأنفس الكريمة، حتى ظفر بها الأوروبي الحديث بطول جهاده وكثرة ضحاياه ووفرة علمه وقوة شعوره، فأصبح كل فرد بمقتضاها صاحب حق في الوطن، وصاحب رأي في التشريع، وصاحب صوت في الحكم؛ وصار العامل الفقير والصانع الأجير والفلاح المتواضع قادرين على أن يلغوا الوظيفة التي لا تفيد، ويسقطوا الحكومة التي لا تعدل.

الديمقراطية هي المسواة في الحق والواجب، والمشاركة في الغنم والغرم، والميدان الحر للكفايات الممتازة لا يعوقها عن بلوغ الأمد فيه عائق من نسب أو لقب أو ثروة. فكيف يجري في ذهنك هذا الخاطر وأنت من أصفى الشباب حساً وأنبلهم نفساً وأكثرهم ثقافة؟

لم يجد الشاب في نفسه ما يقوله؛ لأن الواقع في ذهنه هو اضطراب الحيرة لا اختمار الفكرة. فعبر عن كل ما بقي في خاطره بهذا السؤال:

- وماذا تقول في موسوليني وهتلر؟

- أقول أنهما مظهر حاد من مظاهر الديمقراطية. كلا الرجلين يعمل بالشعب وللشعب؛ وكلاهما يمثل قوة الأمة وينفذ إرادة الأمة؛ وكلاهما يعتقد أن اليد التي استطاعت أن ترفع تستطيع أن تضع.

ص: 2

ولباب الأمر أن تعترف للأمة بالسلطان ثم تظهره بعد ذلك في أي رجل شئت، وتحت أي عنوان شئت.

أبتسم صديقي الشاب ابتسامة المقتنع، وحيا تحية المسلّم، ثم قال وهو يضع يده في يدي: إن جهودنا معشر الشباب كانت مسددة إلى غرض واحد هو استقلال الوطن. فلما أسفر الجهاد عن وجوه الفوز اضطربت الجهود وتشعبت الآراء واحتجنا في هذا العهد الجديد، إلى توجيه جديد. فقلت له: ذلك ما ستحاول (الرسالة) علاجه ابتداء من العدد القادم.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌حيرة العقل

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أراني في هذه الأيام لا أكاد أعرف لي رأياً في شئ، لا لأني كففت عن التفكير فلعل الأمر على خلاف ذلك، وعسى أن أكون مسرفاً في النظر والتدبر وفي التماس الوجوه المختلفة للأمر الواحد الذي يعرض لي، وإنما ترجع حيرتي إلى أن إطالة النظر تكشف لي كل يوم عن جديد، وإلى أن تدبر النواحي المختلفة تجعل الجزم عسيراً، وتغري بالتردد، وتدفع إلى الشك، ومن طال وزنه للأمور وتقصيه لوجوهها وتأمله في البواعث والاحتمالات قل بته - وعمله أيضاً - لأن العمل يراد منه الغاية، فلابد من المجازفة والتعرض لعواقب الخطأ من بعض النواحي. وكل رجل عمل يضطر إلى الأخذ بالأرجح فيما يرى، وإلا تعذر عليه العمل بل استحال.

ورجال الحرب والسياسة والمال والتجارة ومن إليهم لا يسعهم إلا المخاطرة لأن غايتهم ليست الاهتداء إلى الحقيقة بل بلوغ الغرض. وكثيراً ما أراني اسأل نفسي لفرط ما أرى من ترددي وحيرتي، (هل أصبحت غير صالح للعمل؟) ولا يسرني ذلك فأروح أقول إن قدرة النفس على التكييف لا حد لها فيما أعرف، وإن العمل الذي يحوج إلى سرعة البت والجزم بلا تردد يضطر المرء إلى النزول على مقتضياته، وما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة، فلا يظهرها إلا انتقال الأحوال به، وأنا مع طول ترددي بين الآراء أراني مع ذلك أتصرف في مواقف العمل بسرعة وضبط وإحكام. وليس هذا من الثناء على النفس، ولكنه من الواقع الذي أعرفه بالتجربة

ومن طول حيرتي بين الآراء أصبحت أثق بخطأي ولا أثق بصوابي، وأقدر الضلال في كل ما انتهى إليه، ولا أطمئن إلى السداد فيه، ومن أجل ذلك لا أزال أراجع نفسي في كل قضية، وأنقض اليوم ما أبرمت بالأمس، ولولا أني معجل في حياتي لكان الأرجح أن أحجم عن المجاهرة برأي مخافة أن أكون قد أخطأت الصواب فيه. وأنا أعزي نفسي - لو أن في هذا عزا - بقول ويندل هولمز - على ما أذكر - إن الحقيقة (كزهر) النرد لها أكثر من وجه واحد، فإذا كنت قد رأيت وجهاً واحداً دون سائر الوجوه فإن لي العذر إذا كان هذا كل ما بدا لي، وأين في الناس من يرى وجوه الحقيقة كلها من كل جانب؟؟

ص: 4

ولهذه الحيرة عللها المعقولة فأنا قد ورثت آراء، وأفدت من مخالطة الناس أراء، واكتسبت من الاطلاع آراء، وكنت أسلم بما ورثت واكتسبت، وأنا في سن التحصيل، وكنت ربما كابرت بالخلاف فيما أخذته من بيئتي، أما ما كنت أفيده من الكتب فكنت أتلقاه بالإكبار والإقرار، لأني لم أجد من يهديني أو يرشدني. فلا البيت كان لي فيه هذا المعين، ولا المدرسة كنت أجد فيها هذا المعلم الحاذق المرشد. وظل احترامي للكتب على حاله حتى احتجت في سنة أن أبيعها، وشق علي ذلك في أول الأمر، وكنت لا أكاد أطيق أن أدخل الغرفة التي كانت مرصوصة فيها. وظللت أياماً أحس كلما نظرت إلى الرفوف التي خلت مما كان عليها أني فقدت أقرب الناس إلي وأعزهم علي، وأشعر أني مشف على البكاء إذا لم أحول عيني عن هذه الرفوف الخالية. ولم يكن ما أتحسر عليه زينتها، وما أضعته فيها من مال خسرته بالبيع، وإنما كانت الحسرة على فقدان أساتذتي وإخواني. وبقيت بعد ذلك زمناً لا أمر بمكتبة عامة إلا أشحت بوجهي عنها من فرط الألم، وإلا أحسست أن يداً عنيفة تلوي أحشائي وتحاول أن تقتلعها. وكان من غرائب ما حدث أني لبثت أكثر من سنة لا أقتني شيئاً من الكتب كأنما زهدتني الحسرة على ما ضيعت في كل جديد غيره

ومن الغريب أن هذا هو نفس الإحساس الذي عانيته لما توفيت زوجتي، فقد ظللت سنوات لا أطيق أن أنظر إلى امرأة، ثم فتر الألم وخفت وطأته، كما هي العادة. وكنت في خلال ذلك قد احتجت أن أنظر بعيني وأفكر بعقلي فألفيتني أشك في كثير من مما كنت أسلم به ولا أكابر فيه بل ما كان لا يخطر لي أن أعترض عليه، وتغير الأمر، فبعد أن كنت أخذ الآراء من الكتب أو الناس، صرت آخذها من الحياة بلا واسطة، وأعرضها على عقلي بلا مؤثر فاعتدت الاستقلال في النظر، والحرية في التفكير، وخلا تفكيري وإحساسي شيئاً فشيئاً من تأثير الكتب، وسواها، وبرزت نفسي بعد طول التضاؤل؛ ثم أخذت أروض نفسي على التماس الجوانب الأخرى التي تخفى في العادة، فصارت وجوه الحقيقة تتعدد فيما أرى، وألفت ذلك حتى صار هذا ديدني مع الناس، فإذا رأيت من صاحب لي ما يسوءني حاولت أن أضع نفسي في مكانه وأن أنظر إلى الأمر بعينه هو، وأن أتمثل بواعثه واحساساته إلى آخر ذلك، فينتهي الأمر في الأغلب بأن أعذر ولا ألوم، ويذهب الألم أو الغضب أو غير ذلك مما أثار صاحبي بما يصنع.

ص: 5

بل ترقيت من هذا إلى ما هو أرفع، فصار نظري إلى الناس نظراً إلى مادة تدرس لا إلى مخلوقات تعاشر ويصدر عنها ما يسوء أو يسر، ولا شك أن الفعل الحميد يحسن وقعه في النفس، وأن السوء يؤلم أو يغضب، وليس يسعني إلا أن أتلقى ما يكون من الناس بالحمد أو الذم، وبالرضى أو السخط؛ ولست بإنسان إذا لم يكن هذا شأني، ولكني أعني أني لا أعجل بالذم والسخط ولا أندفع مع أول الخاطر، بل أراجع نفسي وأجيل عيني في الأمر لأراه من ناحية غير الناحية التي طالعتني في البداية، فيتحول الموضوع من عمل أو قول باعث على الرضا أو الامتعاض إلى مادة للتفكير، وتذهب عنه الصبغة الشخصية، فكأني أمتحن نظرية ولست أزن صنع إنسان أساء أو أحسن.

ويخيل إلى الآن أني أعيش في معمل، فكل ما ألقاه في الحياة من خير وشر، وما اجدني أو أجد سواي فيه، من جد ولهو، أتناوله بالتحليل والبحث لأستخلص منه ما يتيسر لي استخلاصه من الحقائق، ثم أروح أقيسه إلى تجاربي الأخرى وأقارن وأقابل، ولا أزال أفعل ذلك حتى يهدني التعب، وقلما أهتدي، وكثيراً ما أضل، ولكني لا أسأم ولا أضجر لأن هذا صار متعتي النفسية التي لا أعدل بها متع الدنيا، بعد أن وجدت نفسي، وعثرت عليها تحت طبقات الكتب التي بعتها والحمد لله على ما كنت أتوجع وأذم الدنيا من أجله، فلولا أني بعت هذه الكتب لما وجدت نفسي، ولكان الأرجح أن أظل كالذي يعبد أصناماً.

والشك حيرة ولكنه حرية، وسعة الأفق خير من ضيقه، على الرغم من العناء الذي يكابده المرء من إرسال العين وإدارتها في النواحي الخفية أو البعيدة، وإنه لعذاب، وإن جدواه لقليلة، بالقياس إلى الجهد الذي يبذل فيه، ولكنه خير وأمتع من التحجر الذي يؤدي إليه التسليم، بلا نظر، وحسبك من متعته أنه يريك كل يوم جديداً، وقد يكون ما تهتدي إليه وتحسبه جديداً، قديماً جداً في الحقيقة ولكن المتعة في الجهد نفسه لا في النتيجة، والشأن في هذا كالشأن في الألعاب الرياضية فإن الغاية منها ليست الغلبة أو التفوق أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وإنما العبرة فيها بما تفيده من التدريب وما تكسبه بفضل الجهد الذي تنفقه فيها، ولذتها في مزاولتها لا فيما تنتهي به من الفوز وإن كان للفوز قيمته ومزيته، ولكنه ليس كل ما تزاول الألعاب من أجله

ومتى صار كل شيء مادة للدرس والبحث فقد صارت الحياة أوسع وأرحب، وصار المرء

ص: 6

كأنه يحلق فوقها وإن كان يخوضها ويعانيها، وهذا ما أروض عليه نفسي الآن أن أكابد الحياة والناس، وأن يسعني مع ذلك أن أقف منها ومنهم موقف الناظر المتفرج، فكأني اثنان لا واحد، أحدهما يعيش ويجرب، ويسعد ويشقى، ويسر ويحزن، ويجد ويهزل، ويفعل ما يفعل الناس غيره؛ وثانيهما يتلقى هذه التجارب وينشرها أمامه، ويعرضها على عقله، ويقارنها ويقابلها، ويفحصها ويضم المتشاكل منها بعضه إلى بعض، ويجمع ما يمكن أن يأتلف، ويعمل خياله فيما يراه ناقصاً ليملأ الفراغ ويسد الثغرة، ويصنع على العموم ما يصنع الكيميائي في معمله الذي يجري فيه تجاربه، ولا يتأثر بالواقع، ولا يعنيه ما عانى منه، وهذا الازدواج عسير ولا شك، ولست أطمع أن أبلغ منه الغاية وأوفي على الأمد، ولكني أطمع أن أوفق في بابه إلى الكفاية مع المواظبة والصبر، ويطمعني في النجاح أن كل إنسان له أكثر من شخصية واحدة وإن كان لا يدري ذلك.

ويثقل على نفسي خاطر واحد يكاد يصدني عن المواظبة، هو ما جدوى ذلك كله؟. . ما آخر هذا العناء الذي أراه باطلا؟. آخر ذلك كله معروف. وهل ثم من آخر سوى الفناء؟. ولكني أعود فأقول لنفسي إن هذا الآخر لا آخر سواه، سواء أبذل المرء الجهد، أم قعد عنه وضن به، فلا فائدة من التقصير، ولا ضير من السعي. والحياة أن تحيا، لا أن تجمد وتركد وتأسن. أما الجدوى فلماذا أعذب نفسي بالسؤال عنها؟ وما جدوى أي شيء في الحياة؟. إن كل ما أعرفه أني موجود، وأني وهبت قدرة على الإحساس والتفكير، فكيف أعطل هذه المواهب وأبطل علمها؟. وكيف يمكن أن أنعم بالوجود وأتمتع بالشعور به وأنا أعطل ما أعطيت؟ ويعرف الجدوى من أعطاني الحياة، فلندع ذلك له فهو أعرف به.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 7

‌الأسد

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جلس أبو علي أحمد بن محمد الرّوذبادي البغدادي في مجلس وعضه بمصر بعد وفاة شيخه أبي الحسن بنان الحمال الزاهد الواسطي شيخ الديار المصرية وكان يضرب المثل بعبادته وزهده، وقد خرج أكثر أهل مصر في جنازته فكان يومه يوماً كالبرهان من العالم الآخر لأهل هذه الدنيا؛ ما بقي أحد إلا أقتنع أنه في شهوات الحياة وأباطيلها كالأعمى في سوء تمييزه بين لون التراب ولون الدقيق، إذ ينظر كل امرئ في مصالحه ومنافعه مثل هذه النظرة بالمس لا بالبصر، وبالتوهم لا بالتحقيق، وعلى دليل نفسه في الشيء لا على دليل الشيء في نفسه، وبالإدراك من جهة واحدة دون الإدراك من كل جهة؛ ثم يأتي الموت فيكون كالماء صب على الدقيق والتراب جميعاً فلا يرتاب مبصر ولا أعمى، ويبطل ما هو باطل ويحق الذي هو حق.

وتكلم أبو علي فقال: كنت ذات يوم عند شيخنا الجنيد في بغداد فجاءه كتاب من يوسف بن الحسن شيخ الريّ والجبال في وقته يقول فيه: لا أذاقك الله طعم نفسك فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيراً أبداً. قال: فجعلت أفكر في طعم النفس ما هو وجاءني ما لم أرضه من الرأي حتى سمعت بخبر بنان رحمه الله مع أحمد بن طولون أمير مصر، فهو الذي كان سبب قدومي إلى هنا لأرى الشيخ أو صحبه وأنتفع به.

والبلد الذي ليس فيه شيخ من أهل الدين الصحيح والنفس الكاملة والأخلاق الإلهية، هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب ألبتة، وإن كان كل أهله علماء، وإن كان في كل محلة منه مدرسة، وفي كل دار من دوره خزانة كتب، فلا تغني هذه الكتب عن الرجال، فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملةً مرئيةً داعيةً إلى نفسها. ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها ووضعوا في ذلك مائة كتاب، ثم رأوا رجلا فاضلا بأصدق معاني الفضيلة وخالطوه وصحبوه - لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها وأدل على الفضيلة من مائة كتاب ومن ألف كتاب. ولهذا يرسل الله النبي مع

ص: 8

كل كتاب منزل ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير.

وما مثل الكتاب يتعلم المرء منه حقائق الأخلاق العالية، إلا كوضع الإنسان يده تحت إبطه ليرفع جسمه عن الأرض، فقد أنشأ يعمل ولكنه لن يرتفع. ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا لم تكن أخلاقهم دروساً أخرى تعمل عملا أخر غير الكلام؛ فإن أحدهم ليجلس مجلس المعلم ثم تكون حوله رذائله تعلم تعليما آخر من حيث يدري ولا يدري، ويكون كتاب الله مع الإنسان الظاهر منه وكتاب الشيطان مع الإنسان الخفي فيه

قال أبو علي: وقدمت إلى مصر لأرى أبا الحسن وآخذ وأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون. فلما لقيته لقيت رجلاً من تلاميذ شيخنا الجنيد يتلألأ فيه نوره ويعمل فيه سره؛ وهما كالشمعة والشمعة في الضوء وإن صغرت واحدة وكبرت واحدة. وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين الأرواح وبينه نسباً شابكاً، فله معنى أبوة الأب في أبنائه لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر. فهذا هو الذي تكون فيه التكملة الإنسانية للناس وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع.

ومن عجيب حكمة الله أن الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لامسها، وأن القوى الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن أتصل بها أو صاحبها، ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض تصرف عن شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسرها ذاك، وتفقد الشيء ما هو به شيء، فتتحول قيمته. فلا يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من الحق.

وإذا عدم الناس هذا الرجل الذي يعديهم بقوته العجيبة فقلما يصلحون للقوة، فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبار القواد، وكبار الشجعان، وكبار العلماء وأمثالهم؛ كل هؤلاء من باب واحد، وكلهم في الحكمة ككبار المرضى

قال أبو علي: وهممت مرة أن اسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون فقطعتني هيبته، فقلت احتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري (لا أذاقك الله طعم نفسك). وبينما أهيئ في نفسي كلاماً أجري فيه هذه العبارة، جاء رجل فقال للشيخ: لي على فلان مائة دينار وقد ذهبت الوثيقة

ص: 9

التي كتب فيها الدين وأخشى أن ينكر إذا هو علم بضياعها؛ فادع الله لي وله يظفرني بديني وأن يثبته على الحق. فقال الشيخ: إني رجل قد كبرت وأنا أحب الحلوى، فأذهب فاشتر لي رطلا منها وأمتعني به حتى أدعو لك.

فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فإذا هي الوثيقة الضائعة. وجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال له: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك لا أذاقنا الله طعم أنفسنا فيما نشتهي. ثم انه التفت إلي وقال لو أن شجرة اشتهت غير ما به صحة وجودها وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها، لأكلت نفسها وذوت

قال أبو علي: والمعجزات التي تحدث للأنبياء والكرامات التي تكون للأتقياء، وما يخرق العادة ويخرج عن النسق كل ذلك كقول القدرة عن الرجل الشاذ: هو هذا. فلم تبق بي حاجة إلى سؤال الشيخ عن خبره مع ابن طولون، وكنت كأني أرى بعيني رأسي كل ما سمعت، بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفر القاضي أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ذاك الذي يحدث بكتب أبيه كلها من حفظه وهي واحد وعشرون مصنفا فيها الكبير والصغير. فقال لي: لعلك اشتفيت من خبر بنان مع ابن طولون فمن أجله زعمت - جئت إلى مصر. قلت: إنه تواضع فلم يخبرني وهبته فلم أسأله. قال: تعال أحدثك الحديث.

كان أحمد ابن طولون من جارية تركية وكان طولون أبوه مملوكا حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك. فولد أحمد في منصب ذلة تستظهر بالطغيان. وكانت هاتان طبيعتيه إلى آخر عمره، فذهب بهمته مذهبا بعيدا، ونشأ من أول أمره على أن يتم هذا النقص ويكون أكبر من أصله، فطلب الفروسية والعلم والحديث، وصحب الزهاد وأهل الورع، وتميز على الأتراك وطمح إلى المعالي. وظل يرمي بنفسه وهو في ذلك يكبر ولا يزال يكبر كأنما يريد أن ينقطع من أصله ويلتحق بالأمراء، فلما ألتحق بهم ظل يكبر ليلحق بالملوك، فلما بلغ هؤلاء كانت نيته على ما يعلم الله

قال: وكان عقله من اثر طبيعتيه كالعقلين لرجلين مختلفين فله يد مع الملائكة ويده الأخرى مع الشياطين، فهو الذي بنى المارستان وأنفق عليه وأقام فيه الأطباء وشرط إذا جيء بالعليل أن تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويغدى

ص: 10

عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، ولم يكن هذا قبل إمارته. وهو أول من نظر في المظالم من أمراء مصر. وهو صاحب يوم الصدقة، يكثر من صدقاته كلما كثرت نعمة الله عليه، ومراتبه لذلك في كل أسبوع ثلاثة آلاف دينار سوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس. ولكل مسكين أربعة أرغفة يكون في اثنين منها فالوذج وفي الآخرين من القدور، وينادي من احب أن يحضر دار الأمير فليحضر. وتفتح الأبواب ويدخل الناس وهو في المجلس ينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته. وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينار، واقتدى به ابنه خمارويه، فأنشأ بعده مطبخ العامة ينفق عليه ثلاثة وعشرين ألف دينار، كل شهر

وقد بلغ ما أرسله ابن طولون إلى فقراء بغداد وعلمائها في مدة ولايته ألفي ألف ومائتي ألف دينار وكان كثير التلاوة للقرآن، وقد اتخذ حجرة بقربه في القصر وضع فيها رجالا سماهم بالمكبرين، يتعاقبون الليل نوباً، يكبرون ويسبحون، ويحمدون، ويهللون، ويقرءون القرآن تطريباً وينشدون قصائد الزهد، ويؤذنون أوقات الآذان، وهو الذي فتح إنطاكية في سنة خمس وستين ومائتين ثم مضى إلى طرسوس كأنه يريد فتحها، فلما نابذه أهلها وقاتلهم، أمر أصحابه أن ينهزموا عنها ليبلغ ذلك طاغية الروم، فيعلم أن جيوش ابن طولون على كثرتها وشدتها لم تقم لأهل طرسوس فيكون بهذا كأنه قاتله وصده عن بلد من بلاد الإسلام ويجعل هذا الخبر كالجيش في تلك الناحية

ومع كل ذلك فأنه كان رجلاً طائش السيف يجور ويعسف وقد أحصى من قتلهم صبراً أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفا. وأمر بسجن قاضيه بكار بن قتيبة في حادثة معروفة وقال له: غرك قول الناس ما في الدنيا مثل بكار؟ أنت شيخ قد خرفت؛ ثم حبسه وقيده وأخذ منه جميع عطاياه مدة ولايته القضاء فكانت عشرة آلاف دينار؛ قيل أنها وجدت في بيت بكار بختمها لم يمسها زهداً وتورعاً

ولما ذهب شيخك أبو الحسن يعنفه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر طاش عقله فأمر بإلقائه إلى الأسد، وهو الخبر الذي طار في الدنيا حتى بلغك في بغداد

قال: وكنت حاضراً أمرهم ذلك اليوم، فجيء بالأسد من قصر ابنه خمارويه. وكان هذا

ص: 11

خمارويه مشغوفاً بالصيد لا يكاد يسمع بسبع في غيضة أو بطن واد إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة وهو سليم فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع وهو قائم

وكان الأسد الذي اختاروه للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيما، ضارياً، عارم الوحشية، متزيل العضل، شديد عصب الخلق، هراساً، فراساً، أهرت الشدق، يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحة القبر ينبئ أن جوفه مقبرة، ويظهر وجهه خارجاً من لبدته، يهم أن ينقذف على من يراه فيأكله.

وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه، فجذبوه فارتفع؛ وهجهجوا بالأسد يزجرونه فانطلق يزمجر ويزأر زئيراً تنشق له المرائر ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة.

ثم اجتمع الوحش في نفسه وأقشعر، ثم تمطى كالمنجنيق يقذف الصخرة، فما بقي من أجل الشيخ إلا طرفة عين. ورأيناه على ذلك ساكناً مطرقاً لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به، وما منا إلا من كاد ينتهك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل.

ولم يرعنا إلا ذهول الأسد عن وحشيته فأقعى على ذنبه ثم لصق بالأرض هنيهة يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقاً ثقيل الخطو تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ويشمه كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله.

وضربته روح الشيخ فلم يبقى بينه وبين الآدمي عمل، ولم يكن منه بازاء لحم ودم، فلو أكل الضوء والهواء والحجر والحديد، كان ذلك أقرب وأيسر من أن يأكل هذا الرجل المتمثل في روحانيته لا يحس لصورة الأسد معنى من معانيها الفاتكة، ولا يسري فيه إلا حياة خاضعة مسخرة للقوة العظمى التي هو مؤمن بها ومتوكل عليها كحياة الدودة والنملة، وما دونها من الهوام والذر.

وورد النور على هذا القلب المؤمن يكشف له عن قرب الحق سبحانه وتعالى، فهو ليس بين يدي الأسد ولكنه هو والأسد بين يدي الله، وكان مندمجاً في يقين هذه الآية:

ص: 12

(وأصبر لحكم ربك فإنك بأعْيُنِنَا)

ورأى الأسد رجلاً هو خوف الله، فخاف منه، وكما خرج الشيخ من ذاته ومعانيه الناقصة خرج الوحش من ذاته ومعانيها الوحشية، فليس في الرجل خوف ولا هم ولا جزع ولا تعلق برغبة، ومن ذلك ليس في الأسد فتك ولا ضراوة ولا جوع ولا تعلق برغبة.

ونسي الشيخ نفسه فكأنما رأى الأسد ميتاً ولم يجد فيه (أنا) التي يأكلها، ولو أن خطرة من هم الدنيا خطرت على قلبه في تلك الساعة أو اختلجت في نفسه خالجة من الشك، لفاحت رائحة لحمه في خياشيم الأسد فتمزق في أنيابه ومخالبه

قال: وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ فإذا هو ساهم مفكر، ثم رفعوه وجعل كل منا يظن ظناً في تفكيره، فمن قائل أنه الخوف أذهله عن نفسه وقائل أنه الانصراف يعقله إلى الموت، وثالث يقول أنه سكون الفكرة لمنع الحركة عن الجسم فلا يضطرب، وزعم جماعة أن هذه حالة من الاستغراق يسحر به الأسد. وأكثرنا في ذلك وتجارينا فيه حتى سأله ابن طولون: ما الذي كان في قلبك وفيم كنت تفكر؟

فقال الشيخ: لم يكن علي بأس، وإنما كنت أفكر في لعاب الأسد أهو طاهر أم نجس. . . . . .

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 13

‌القاهرة المعزية

وجوب الاحتفاء بعيدها الألفي

للأستاذ محمد عبد عنان

منذ أعوام قلائل احتفلت فرنسا بذكرى إحدى مدنها العتيقة، وهي مدينة قرقشونة (كاركاسون) الرومانية لمناسبة مضي ألفي عام على قيامها؛ ومازلنا نذكر مما أفاضت به الأنباء يومئذ طرافة هذا الاحتفال وروعته وأهميته من الوجهة القومية. وقرقشونة إحدى مدن ولاية (سبتماينا) السبعة، وقد كانت مدى حين معقلا إسلاميا في جنوب فرنسا؛ ومازالت على صغرها وتواضعها شهيرة بآثارها الرومانية وتأريخها الحافل أيام الرومان والقوط والعرب

وان مصر لتستطيع أن تفخر بمدنها الألفية عنوان تراث مجيد وحضارة خالدة؛ ويكفي أن نذكر في هذا المقام عاصمتيها الجليلتين، الإسكندرية ثغرها العظيم التالد، والقاهرة عروس العواصم الإسلامية؛ فقد قطعت الإسكندرية من عمرها المديد أكثر من ثلاثة وعشرين قرنا؛ وأشرفت القاهرة على ألفها؛ وإذا كانت العاصمة الكبرى تقترب من عيدها الألفي بخطى سريعة فإن من بواعث الأسف أن يقترب هذا اليوم التاريخي العظيم دون أن تتأهب مصر للاحتفاء به وإحاطته بما يجب من ضروب الإشادة والتكريم؛ ومن بواعث الأسف إلا يرتفع حتى اليوم صوت رسمي ينبه إلى هذا الحادث القومي الجليل، وينوه بخطورته وأهميته، ويدعو المختصين إلى الاهتمام بأمره

ولقد احتفلت مصر بالأمس بالعيد المئوي لوزارة معارفها، واحتفلت من قبل بالعيد المئوي لمدرسة الطب، والعيد المئوي للمدرسة الخديوية، والعيد الخمسيني لإنشاء المحاكم الأهلية، وغيرها من المواقف والحوادث القومية، وأدركت ما وراء الاحتفاء بهذه المناسبات التاريخية من بعث للماضي، وتكريم للذكريات المجيدة، وإذكاء للعاطفة القومية، ووصل بين مراحل تأريخنا. بيد أن هذه الذكريات والمناسبات الحافلة تبدو ضئيلة متواضعة إلى جانب الاحتفاء بالعيد الألفي للقاهرة

ذلك أن الاحتفاء بالعيد الألفي للقاهرة المعزية يعتبر حادثاً منقطع النظير في تأريخ مصر الإسلامية. وليس بين عواصم العالم الكبرى سوى مدن قلائل قطعت عمرها الألفي؛

ص: 14

وأشهرها وأعظمها من الوجهة التاريخية هي بلا ريب أثينه والإسكندرية ورومه وقسطنطينية. وإذا كان العالم الإسلامي يضم عدة مدن ألفية أخرى، فإنه ليس بينها من تضارع القاهرة في ضخامتها وجلالها وأهميتها السياسية والفكرية والاجتماعية

ألف عام هجرية كادت تنقضي على قيام المدينة الفاطمية المتواضعة، القاهرة المعزية أو قاهرة المعز لدين الله؛ ففي 17 شعبان سنة 358هـ (7 يوليه سنة 969م) دخلت الجيوش الفاطمية بقيادة جوهر الصقلي قائد المعز الفاطمي مدينة مصر أو مدينة الفسطاط غازية ظافرة، وعسكرت عند مغيب الشمس في الفضاء الواقع في شمال غربي الفسطاط؛ وفي نفس الليلة وضع القائد جوهر تنفيذاً لأوامر المعز أول خطة في مواقع المدينة الجديدة التي اعتزم الفاطميون إنشاءها بمصر لتكون لهم منزلا ومعقلا. وحفر أساس قصر جديد في نفس الفضاء الذي نزل فيه جيشه، فكان هذا مولد القاهرة التي سميت كذلك تفاؤلا وتيمناً بالنصر؛ وقامت المدينة الجديدة بسرعة تتوسطها القصور الفاطمية والجامع الأزهر الذي أنشئ بعد ذلك بأشهر قلائل (في جمادى الأولى سنة 359) ليكون منبراً للدولة الجديدة وملاذاً لدعوتها؛ ولم تلبث أن غدت منزل الخلافة الفاطمية مذ قدم المعز لدين الله إلى مصر بأمواله وأهله وبطانته وتوابيت أجداده، واستقر في عاصمته الجديدة في رمضان سنة 362هـ (يونيه سنة 973م)

ولبثت القاهرة مدى حين ملوكية عسكرية لا تضم سوى القصر الفاطمي ودواوين الحكم وخزائن المال والسلاح ومساكن الأمراء والبطانة ومن إليهم من التباع النازحين في ركب الغزاة؛ ولكن لم يمض جيل واحد حتى واحد حتى اتسعت جنبات المدينة الجديدة ونمت نمواً عظيما وترامت معالمها وأحياؤها إلى ما وراء السور الذي أنشأه حولها القائد جوهر واتصلت بمدينة مصر (الفسطاط) وامتزجت المدينتان وتداخلتا وصارتا تكونان معا مدينة من أكبر وأعظم مدن الإسلام في العصور الوسطى. وكان اسم القاهرة يطلق اصطلاحا على المدينة الفاطمية التي يضمها السور الذي أنشأه القائد جوهر ثم وسعه وأعاد إنشائه أمير الجيوش بدر الجمالي في أواخر عهد المستنصر بالله (سنة 486هـ ـ) وأدخل فيه عدة أحياء ومواقع جديدة: وأما المناطق التي بقيت خارج السور والتي كانت تمتد فيما بين الجامع الطولوني وقلعة الجبل إلى الجهة المقابلة على ضفة النيل، فكانت تعرف بظاهر

ص: 15

القاهرة، وكان اسم مصر يطلق دائما على الفسطاط القديمة، ويطلق على المدينتين معا (مصر القاهرة)

ومازالت معالم القاهرة المعزية وحدودها القديمة قائمة يحدها من الشمال موقع باب الفتوح وباب النصر والسور الذي يصلهما وهو بقية من سور أمير الجيوش بدر الجمالي، ويحدها من الجنوب باب زويلة، ومن الشرق سفح الجبل، ومن الغرب موقع الخليج القديم، وما يلي ذلك حتى ضفة النيل، وما يزال الجامع الأزهر قائما وسط المدينة القديمة حيث قام منذ ألف عام تحيط به معظم الأحياء والدروب الفاطمية القديمة بعد أن تغيرت أسماؤها ومعالمها

ولقد شهدت القاهرة في ظل الخلافة الفاطمية ألواناً من العظمة والبهاء والبذخ قلما شهدتها في ظل دولة إسلامية أخرى؛ ومع أنها نمت بعد ذلك نمواً عظيما. واتسعت جنباتها وأحياؤها حتى غدت في القرن التاسع الهجري أضعاف ما كانت عليه أيام الفاطميين، فإنها لم تستطع بمثل ما سطعت في عهدها الأول، ولم تشهد مثل ما شهدت فيه من مواكب الخلافة الفخمة، ورسومها وأعيادها الباذخة ولياليها وحفلاتها الباهرة؛ كانت القصور الفاطمية آية الفخامة والبهاء وإن الخيال ليضطرم إلى الذروة حينما يستعرض تلك الصور الرائعة التي تقدمها إلينا الروايات المعاصرة من عظمة الخلافة الفاطمية وروعتها في مظاهرها العامة، وعن حياة الخلفاء الخاصة داخل القصر وأبهائه وأجنحته المنيفة. وقد كان القصر الزاهر يشرف من الغرب على ميدان شاسع يسع عشرات الألوف من الجند والنظارة يعرف بميدان بين القصرين، وهو اسم شهير في تاريخ القاهرة المعزية شهرة ميدان (القديس مرقص)(سان ماركو) في تاريخ البندقية، وقد سمي كذلك لوقوعه بين القصر الفاطمي الكبير والقصر الصغير المواجه له وهو المعروف بالقصر الغربي؛ وقد لبث (بين القصرين) أيام الدولة الفاطمية مسرحاً لأعظم المواكب والمظاهرات الخلافية والعسكرية، والحفلات العامة، ولبث بعد زوال الدولة الفاطمية عصراً أعظم ميادين القاهرة، وازخرها عمارة وأشدها احتشاداً، وإنك لتستطيع أن تتبع كثيراً من أخبار الخلافة الفاطمية والشعب القاهري في ميدان ما بين القصرين، كما تستطيع أن تتبع كثيراً من أخبار الجمهورية البندقية في ميدان القديس مرقص، كلاهما امتزج بحياة الدولة والشعب، واتخذ مكانة فيها.

ص: 16

ومنذ بضعة أعوام شعرت بعض الجهات الرسمية بأن الجامع الأزهر يدنو من عمره الألفي. وفكرت في أن تحتفل بهذا العيد احتفالا عظيما يتفق مع روعته التاريخية، ووضع بالفعل برنامج لتنظيم هذا الاحتفال. وانتدبت لجنة لوضع تاريخ شامل للأزهر منذ قيامه إلى يوم عيده، ثم وقف المشروع لأسباب غير معروفة؛ بيد أن الذي يثير الدهشة حقاً، هو أن تخطر للقائمين بالأمر فكرة الاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر دون أن تخطر لهم فكرة الاحتفال بالعيد الألفي لمدينة القاهرة، مع أن القاهرة تسبق الأزهر في مولدها بعدة أشهر؛ وقد أنشئ الأزهر في الأصل، لا ليكون جامعة للدراسة، ولكن ليكون مسجداً للعاصمة الفاطمية الجديدة وليكون منبراً للدولة الجديدة ومعقلا لدعوتها

فإذا كان مما يحمد أن فكر القائمون بالأمر في تخليد الذكرى الألفية للجامع الشهير، فإن ما يبعث إلى الأسف أن يفوتهم حتى اليوم التفكير في تخليد ذكرى القاهرة الألفية؛ هذه الذكرى الخالدة تدنو بسرعة. فقد وضعت أسس العاصمة الفاطمية كما رأينا في منتصف شعبان سنة 358هـ ففي منتصف شعبان سنة 1358هـ، أعني بعد نحو عامين ونصف فقط تبلغ القاهرة المعزية عمرها الألفي المديد

وبعد أشهر قلائل من ذلك التاريخ، أعني في جمادى الأولى سنة 1359هـ يبلغ الجامع الأزهر عمره الألفي أيضاً، إذا اعتبرنا تاريخ البدء في إنشائه وهو جمادى الأولى سنة 359هـ.

وإنه لمن بواعث الفخر حقاً أن يكون تاريخنا حافلا بمثل هذه الذكريات العظيمة التي هي عنوان تراث قومي مؤثل

فعلينا أن نفكر مليا في الاحتفاء بهذين العيدين القوميين الجليلين وإذا كان قد فاتنا حتى اليوم أن نؤلف للاحتفاء بهما اللجان الخاصة، وأن نضع البرامج اللائقة، فإن ما يزال ثمة متسع من الوقت لتحقيق هذه الأمنية؛ ولقد ارتبط اسم القاهرة المعزية والأزهر دائماً حتى أنه ليكفي أن تؤلف هيئة واحدة للقيام بهذه المهمة، فتضع للاحتفال بعيد القاهرة الألفي برنامجا خاصا وتضع برنامجا آخر للاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر، يراعى في كل منهما ظروفه ومناسباته الخاصة؛ ومن الطبيعي أن يحتوي البرنامج على وضع تاريخ ألفي شامل لمدينة القاهرة وتاريخ شامل للجامع الأزهر؛ وأن تنظم في العيدين طائفة من المهرجانات

ص: 17

العلمية والاجتماعية الباهرة وأن يدعى لعيد القاهرة رؤساء البلديات في جميع المدن الكبرى ممثلين لحكوماتهم ومدنهم. كما يدعى لعيد الأزهر ممثلو الجامعات في جميع أنحاء العالم، وأن ينظم بهذه المناسبة حج خاشع إلى معالم القاهرة المعزية وآثارها الباقية ومنها الجامع الأزهر. وأن تقام بها الأعمدة واللوحات التذكارية المختلفة، وأن تفتتح بهذه المناسبة طائفة من المشاريع العلمية والخيرية

وأنه لمما يسبغ على هذه الاحتفالات روعتها وجلالها، أن تقام إلى جانب هذه المعالم الخالدة وفيما بينها.

فهل يحدث هذا النداء المتواضع أثره؛ وهل يبادر أولو الأمر فيتخذوا الأهبة العاجلة لتحقيق هذه الأمنية القومية الرفيعة؛ وهل تشهد القاهرة المعزية، ويشهد الأزهر كلاهما عيده الألفي في فيض من الروعة والجلال؛ أم تغيض هذه الذكريات العظيمة في غمر الجدل والمناقشات العقيمة؟

محمد عبد الله عنان

ص: 18

‌في الأدب المقارن

أثر المجتمع في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

إنما يقصد الأديب فيما ينشئ إلى التعبير عن شعوره وأفكاره لأنه يحس حافزاً يدفعه إلى ذلك التعبير، ويشعر براحة وغبطة إذا ما طاوع ذلك الحافز، بيد أنه يتأثر في كل ما يحس ويفكر ويكتب ببيئته الجغرافية ووسطه الاجتماعي وجيله الذي يحيا فيه، لا ندحة له مهما بلغ من استقلال الشخصية والأصالة في الابتكار عن التأثر بكل ذلك، بل لا نغالي إذا قلنا إن عبقرية الأديب ليست إلا مجموعة مؤلفة من تلك العوامل، والأديب الذي يعتزل مجتمعه لا يتأثر به سائر أدبه إلى الاضمحلال وأن يكون سطحيً، وكلما كان الأدب صادقا حيا كانت صلته بمجتمعه شديدة التوثق، وكان هو مرآة لذلك المجتمع واضحة، وإن لم يمنعه ذلك أن يزخر بآثار الفردية القوية والشخصيات المتميزة

فالأديب يتأثر بالمجتمع تأثراً تلقائيا غير مقصود ولا محسوس أحياناً، ثم هو يتأثر به تأثرا واعيا مقصودا، وذلك حين يلجأ الأديب عمدا إلى وصف ما يحيط به من أحوال المجتمع، وما يحمد منها وما يذم، ومن يصادفهم ويخالطهم في المجتمع من أفراد ذوي خلائق متباينة، يلذ للأديب أحيانا عرض كل ذلك في أدبه كما تعرض الصور والدمى في المعارض والمتاحف، ويغتبط أي اغتباط بقدرته على تصوير ما راعه من تلك الحقائق والسلائق على ما هي عليه، وقد يزيد فيجلوها في مجلا الفكاهة والسخرية، أو يزيد فيندد بما يرى من مساوئ ويدعو إلى الإصلاح ويوضح وسائله، ويؤلف لنفسه مبادئ يرضاها في السياسة والاجتماع والاقتصاد والدين وهلم جرا، ولا يعود معبرا عن شعور الفرد فحسب، بل يصبح قائد فكر بين الجماعة كذلك

هكذا يصبح للأدب غرض اجتماعي إصلاحي، ولا ريب أن غرض الأدب الأول هو غرض كل الفنون، من التعبير الصحيح عن صادق الشعور بحقائق الحياة وجمالها، فإذا ما ظهر بجانب ذلك غرض اجتماعي أصبح للأدب غرضان، بيد أنهما لا يتنافران بل يأتلفان في يد الأديب القدير أحسن ائتلاف، ويصوران الحياة أصدق تصوير وأجمله، أما في يد الداعية المتحمس لدعوته الاجتماعية دون كبير احتفال بجمال الفن وروعة الأسلوب،

ص: 19

فيوشك أن يخرج الأثر المنشأ من عالم الأدب إلى حيز العلم، فيندرج تحت عنوان الاقتصاد أو التربية أو السياسة أو غير ذلك، أما الأديب الصميم فلا غنى له عن الجمال والصبغة الفنية، ووظيفته الكبرى في بيان الشعور وما اتصل به من أفكار

وتدبر أحوال المجتمع ونقد أخلاق بنيه لاشك مجال للأدب رحيب، ومسرح لفن الأديب خصيب، ومهما تغيرت أحوال المجتمعات على تتابع الأجيال، فإن طباع الإنسان المركبة فيه واحدة لا تتغير، ومظاهره من كرم ولؤم ونبل وإدعاء وغرور ونفاق، وولع بالمظاهر وتفاخر بالنعمة المحدثة، كل هاتيك أمور تتكرر ولا تتبدل، وتبدو في شتى الأشكال والأزياء وهي في الصميم سواء، ومن ثم نرى صوراً لها في شتى آداب الأمم على تباعد عصورها ومنازلها: فالمسيو جوردان المحدث النعمة الذي رسمه موليير متعثرا في أذيال ثروته مكاثرا بها في سذاجة، هو أحد (النوابين) المحدثي النعمة الذين أولع بتصويرهم كتاب الدرامة الإنجليز في أواخر القرن الثامن عشر، وهو هو ذلك المحدث النعمة الذي صدع رأس عيسى بن هشام في المقامة المضيرية بتعداد محتويات بيته وأثمانها ومزاياها؛ فالأديب الحاذق يفطن إلى الخطوط الرئيسية في الصورة الشخصية التي يبغي رسمها، فإذا ما صورها لم تكن صورة فرد من الأفراد، بل جاءت صورة ضرب من الناس في شتى الأمم والعصور

وقد ترك المجتمع آثاره الواضحة على تعاقب العصور في الأدبين العربي والإنجليزي، واختلط أدباهما بتأريخهما اختلاطاً شديدا، ولا غرو فالأدب من البين الفنون أشدها بالحياة اليومية والأحوال الاجتماعية والأحداث السياسية ارتباطا، وتبينت في ذينك الأدبين سمات الأجيال المتتابعة، وكثرت فيهما النظرات الاجتماعية كما كثرت التأملات الفردية، وقام فيهما من الآثار ما قوامه تدبر أحوال المجتمع ونقد أخلاق أبنائه، بجانب الآثار التي قوامها نظر الأديب في ذات نفسه وبوحه بأشجانه وإطرابه؛ بيد أن الأدب الإنجليزي كان أبعد في تناول الشؤون الاجتماعية مدى، وكان أدبائه أكثر شغلاً بالدعوة إلى الإصلاح، وإن لم يهملوا التعبير عن خوالجهم الفردية، ولم يقصروا في تصوير شخصياتهم المستقلة

ترى طابع العصر الأليزابيثي في أدب شكسبير ومعاصريه: فهو عهد فتوح ومغامرات، فامتلأت رواياته التمثيلية بذكر الشجعان والأسفار والحماسة الوطنية وتاريخ إنجلترا، وهو

ص: 20

عصر لم تبدد الثقافة بعد أوهام سواد أبنائه، فمسرحياته تعج بذكر الشياطين والسحرة والأشباح والعرافة والتطير، ولم تكن نفوس أبناء ذلك العصر قد رقت ولا أذواقهم قد صقلت، ولذلك تكثر في رواياته المذابح والمبارزات وسفك الدماء؛ وكان عهد تعصب ديني، ومن ثم يسخر أدبائه من أبناء النحل الأخرى كاليهود، ولم يكن الحكم الدستوري قد توطد بعد، وما تزال للملك اليد الطولى والكلمة العليا في السياسة الداخلية والخارجية، ومن ثم ينسج شكسبير لنفسه في رواية هنري الرابع وغيرها نظرية سياسية قوامها الملكية المستبدة العادلة، ويعدها أساس نظام الكون

ونرى أثر عهد الإصلاح الديني في إنجلترا في أدب عهد المطهرين: إذ خفت صوت الأدب وغيره من الفنون التي لا يطمئن إليها عادة المتشددون من المتدينين، وأتصف الأديبان الكبيران اللذان ظهرا إذ ذاك - ملتون وبنيان - بالاهتمام بالشؤون الدينية والتأثر بالكتاب المقدس موضوعاً وأسلوباً؛ ونرى أثر عصر المجون الذي تلا ذلك في مسرحياته المملوءة بالسقاط؛ حتى إذا ما أشرق العصر التالي وقد اطمأنت النظم الدستورية وانتشرت الثقافة والثروة في جمهور الشعب أوغل الأدب في تناول الشؤون الاجتماعية، ولم يقنع بالأشكال الموجودة أصلا، فاتخذ لنفسه شكلاً أدبياً هو أليق لتصوير المجتمع ونقده وهو القصة؛ وفي قصة القرن الثامن عشر وفي شعره يتجلى ما كان يسود مجتمع ذلك العهد من تأنق وتصنع، وحرص على تعلم اللغات وممارسة بعض الفنون، ويجري ذكر خروج الأرستقراط للصيد بخيلهم وكلابهم، ويبدو من ذلك ما كان يتخلل المجتمع من نفاق ورذيلة وإدمان للشراب وإفراط في الطعام وما كان يعصف بالطرق العامة من عبث الأشقياء

اتخذت القصة وسيلة لوصف المجتمع، وقد أدت غرضها ذلك خير أداء، وكيف لا تؤديه والقصة في يد الأديب الحصيف ليست إلا قطعة من المجتمع الحي المتحرك منقولة على القرطاس؟ قطعة من المجتمع طوع بنان الأديب يؤلفها كيف شاء ويرسم بها من الأشخاص من شاء ويبرز بها من الآراء ما يختار، فلا غرو ازدادت القصة الاجتماعية رقياً وذيوعاً في القرن التالي، ازدياد المبادئ الديمقراطية انتشاراً أعقب الثورة الفرنسية، وانتشار التعليم العام، وتعقبه مشاكل المجتمع بظهور الصناعة الكبيرة، وانتشار المذاهب الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة كالاشتراكية والشيوعية، ونزاع الرأسماليين والعمال، ونهضة المرأة

ص: 21

ورقي علوم الاجتماع والنفس والتربية، وخاض الأدباء غمار كل هاتيك الحركات والتيارات المتضاربة، ونقلوا في غضون قصصهم صور هاتيك المعارك الفكرية والأحوال المادية، وفي قصص مريديث ودكنز وبنلر وهكسلي وبنيت من آثار كل ذلك ما لا يستقصي، ومن تلك القصص تستخرج صور لتلك الحركات أوضح مما قد تعرضه التواريخ المنظمة

وطمت هذه النزعة الاجتماعية الإصلاحية وهذه الصبغة العلمية التحليلية، في القصة المعاصرة، فأقطاب القصة والدراما المعاصرون أمثال شو وهاردي وولنر وجالزورذي، كلهم متأثرون بالكشوف العلمية الحديثة والنظريات الاقتصادية الجديدة، والأحوال الاجتماعية الراهنة، ولكل منهم مبادئه ودعواته حتى أصبح الأدباء يختلفون ويعتركون، لا على المذاهب الأدبية والآراء النقدية الفنية كما كان الشأن فيما مضى، بل على المذاهب الفكرية والآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذه المبادئ لا على مبادئ الفن والأدب ينقسمون شيعاً ومدارس، ويسرف بعض الكتاب كبرتراندرسل في التحمس للدعوة الاجتماعية واطراح الأسلوب الأدبي، حتى تخرج بعض مؤلفاتهم من عداد كتب الأدب، ولا تعد إلا في كتب العلم إن كانت لها قيمة هناك!

كان الشعر العربي في الجاهلية حقاً ديوان العرب كما دعوه: كانوا يقولونه في شرح أحوالهم الفردية، من حب وذكر للديار ومناجاة للمطايا، وفي شرح أمورهم الاجتماعية، من التمدح بالقرى والتفاخر بالبلاء في الحرب والتوعد بالثأر وإباء الضيم، يرسلون كل ذلك على السجية فيجيء رائعاً بصدقه معجبا برجولته، ويصوغونه فيما اتفق من لفظ وعر وأسلوب شديد، فظل شعر ذلك العصر ممثلاً صادقاً له رغم عبث العابثين به، بل لعله كان أهم مصادر تأريخ ذلك العهد حين دون تأريخه، فقد ظل المؤرخون يذكرون ما يذكرون من حوادث وحقائق ويتبعونها أبيات الشعر مستشهدين

وظهر أثر عهد الاستقرار والثروة والنجاح في ظل الأمويين في غزليات ابن أبي ربيعة وجميل وأضرابهما، ومفاخرات جرير والفرزدق وأشياعهما، ثم ظهر إثر الإفراط في تلك الثروة والفراغ والإسراف في اجتناء لذات الحضارة، في شعر بشار وأبي نواس وأمثالهما، ثم كان العهد التالي بدء التدهور والانحطاط المادي والخلقي: فهوت مكانة المرأة إلى

ص: 22

حضيض من القهر والازدراء والجهالة، وفشت الرشوة والمحاباة والمصادرة بين الحكام، وكثر الفقر من جراء ذلك وإدعاء الفقر والتسول والاحتيال باسم الدين والطب والأدب والعلم، وذاع الفساد وفاحش القول ومبتذل التندر

يبدو أثر كل هذا في تنديد المعري بالمرأة وسخر غيره من الشعراء منها، وتلك الأقاصيص التي أفتن الجاحظ والأصفهاني وابن دريد في جمعها وتأليفها، عن عبث النساء وغدرهن وخيانة الزوجات وجوب تشديد الحجاب عليهن، فكان ابن دريد مثلاً يخترع الحكايات يفسر بها الأمثال السائرة فيتخذ ذلك الضرب من حديث النساء مادة لها. وبدا أثر تلك الحال السالف شرحها أيضاً في مقامات بديع الزمان والحريري، حيث لا يزال بطل المقامات يتنقل من تسول إلى احتيال إلى خديعة، ولا يزال الحارث ابن همام يؤكد حرصه في أسفاره إذا ما هبط بلداً أن يتعرف إلى واليه أو قاضيه أو بعض ذوي الكلمة فيه، يتقي بمعرفته ظلم الغاشمين والمرتشين من عمال الحكومة، ويتحاشى غوائل الإرهاق والمصادرة والسجن. ويقف كاتبا المقامات المذكورة صفحات طويلة على استعراض ضروب الشتائم والبذاء يتقاذفها أشخاص الأقصوصة. ويقول ابن الرومي واصفاً حال الموظفين والتجار وإضرابهم:

أتراني دون الألى بلغوا الآ

مال من شرطة ومن كتاب

أصبحوا ذاهلين عن شجن النا

س وإن كان حبلهم ذا اضطراب

وتجار مثل البهائم فازوا

بالمنى في النفوس والأحباب

هذه لمحة خاطفة إلى آثار أحوال المجتمع المتعاقبة في الأدب العربي، إذ كان من المحال تقصي تلك الآثار الاجتماعية التي تنعكس في الأدب، مادته وأشكاله ومذاهبه وألفاظه، وما يزال الناظر في مخلفات والشعراء والكتاب يطلع من آثار مجتمعهم على جديد. وفي نوادر أبي نواس وفكاهات الجاحظ وحكايات الأصبهاني دلائل متفرقة على شتى نواحي الحياة الاجتماعية في عصورهم. وإذا قرأنا في مقامات البديع مثلا أن أبا الفتح اصطنع فيما اصطنع من حيل لاقتناص الدراهم والدنانير حرفة القراءة، فرآه عيسى بن هشام مرة وسط جمع من الغوغاء يضحكهم بألاعيب قردة، علمنا أن تلك الحرفة التي ما تزال مشاهدة في بعض البلدان حتى عصرنا هذا بعد انتشار حدائق الحيوان، كانت تمارس منذ تلك العهود.

ص: 23

وكذلك نعلم أن أبناء السند وفدوا فيمن وفدوا من أبناء الشعوب إلى مقر الخلافة يبتغون الرزق تارة بالصيرفة إذ يقول الجاحظ أنه لا يكاد يوجد ذو تجارة رابحة إلا وصاحب كيسه سندي؛ وتارة بإضحاك العامة - شأن أبي الفتح الإسكندري - بألاعيب الفيل، وذلك إذ يقول دعبل:

هذا السنيدي لا فضل ولا حسب

يكلم الفيل تصعيداً وتصويباً

كل هذه الآثار الاجتماعية ما جل منها وما ضؤل، واضحة في الأدب العربي شعره ونثره؛ بيد أن أغلبها قد جاء في الأدب عفواً أو عرضاً، ولم يقصد لذاته ولم تنظم القصيدة أو لم يصنف الكتاب عمداً لوصفه وبيانه، بله نقده وإصلاحه، فأكثر أدباء العربية بعد الإسلام وبعد استتباب الملك كانوا عن مجتمعهم في شغل، قد يرون من أموره ما لا يرضيهم، وقد تكون لهم آراء في السياسة ومذاهب في الدين لا ترضي أصحاب السلطان، ولكنهم كانوا في أغلب الأحوال يكتمون مثل تلك الآراء والنظريات، وكيف يبوحون بنقداتهم وهم بين رجاء لنوال السلطان وإشفاق من غضبه؟ إن النقد الصريح الحر والنظر الاجتماعي الصادق لا يترعرعان بين ذهب المعز وسيفه، إنما كان يجهر الأدباء بالنقد والمعارضة في الجاهلية وصدر من الإسلام، وهما عهد الحرية واستقلال الفرد؛ فلما توطدت الملكية المطلقة خفتت أصوات الأدباء وقطعت ألسنتهم. وكان شعراء الخوارج الكثيرون الذين أطاح الأمويين رؤوسهم عبرة لسواهم من الشعراء وقد مدح سويف الشاعر بعض العلويين الثائرين فوأده المنصور، وثار المتنبي في صباه يبتغي إصلاح الأحوال المتفاقمة فزج به في السجن

فالملكية المطلقة قد فرضت على الشعب ألا يراجعها في أمر، وانقلبت بالأمة العربية بذلك من النقيض إلى النقيض. كان العرب في جاهليتهم مسرفين في الاستقلال والفردية، فصاروا في ظل الملكية مسرفين في الخضوع والاستسلام، وفرضت تلك الملكية على الأدباء أن يعيشوا عالة عليها وعلى المجتمع، لا يشاركون الشعب آماله وأعماله، ولا يقودون أفكاره وحركاته، فلم يكن المجال متسعاً أمام الأديب العربي، كما كان متسعاً أمام الأديب الإنجليزي، لوصف المجتمع ونقد أحواله والدعوة إلى إصلاحه. فإن هو فعل ذلك عرض نفسه للتهلكة ولم يفد المجتمع فتيلا. إنما يؤمل الأديب الإنجليزي أن يفيد مجتمعه

ص: 24

بآرائه، لأنه يخاطب بآثاره الأدبية الرأي العام في بلاده؛ الذي هو فوق الحكومة يملي عليها إرادته؛ أما في ظل الملكية المطلقة في الدولة الإسلامية، فلم يك هناك رأي عام، وكان رأي الحكومة الأعلى

لذلك عاش أدباء العربية طالبي فضل، يمدحون الأمير ويعيشون من عطاياه، وهي السبيل التي ألجئ إليها المتنبي بعد محنة سجنه، وعاش بها حياته على مضض باكياً مما هو به محسود، واستوزروا للأمراء وكتبوا وعملوا لهم، وطلبوا بذلك النجاح الشخصي لأنفسهم لا النفع الشامل لمجتمعهم. أما أدباء الإنجليزية فقل منهم من عاش في ركاب الملوك ومن فضلهم على هذا النحو، وكان أكثرهم أما مثرين غانين عن العمل لكسب القوت متوفرين على فنهم وحده، وأما مساهمين في الحياة العملية بجانب الحياة الفنية، فكان منهم من ضربوا بسهم في السياسة والدين والحرب والكشف الجغرافي وكبار وظائف الدولة، ومن أولئك فيلب سدني وبيكون ورالي وملتون وبنيان وأديسون وبيرون، وكان أكثرهم في صف الشعب وجانب الحرية

بل كان من أدباء الإنجليز من عاف الاجتماع الإنساني قاطبة، ونقم على أنظمة الملكية والكنيسة، وكره التقاليد والأعراف السائدة، وحاول إنشاء مجتمع جديد تسوده البساطة والمساواة ومن هؤلاء شعراء عهد الثورة الفرنسية، فالكتاب الفرنسيون الذين مهدوا لتلك الثورة أمثال فلتير وروسو اكتفوا بالعمل النظري وتركوا التنفيذ لغيرهم؛ أما معاصروهم ومن جاءوا بعدهم من أدباء الإنجليز، فحاول بعضهم تنفيذ مبادئهم بأنفسهم، ولهذا الغرض أنتقل بركلي إلى أمريكا وشلي إلى أرلندة، يريد كل منهما إنشاء مدينته الفاضلة، وإن كانا قد منيا بالفشل لضخامة المشروع. وعاضد وردزورث الثورة الفرنسية بقوة لمناداتها بمبادئها المعروفة حتى نقم على دولته إعلانها الحرب على فرنسا الثائرة، وكاد ينتظم في أحد أحزاب الثورة، ويركب تيارها الخطر، واستشهد بيرون في حرب استقلال اليونان

ولقد أبدى بعض أدباء العربية في عهد نضج الحضارة والثقافة والأدب شغفاً بتتبع أحوال الناس ومعايشهم وعاداتهم وأخلاقهم وظهر ذلك في كتب الجاحظ؛ على أنه كان يروي الأشياء على علاتها ويخلطها بفكاهاته؛ وفي مقامات البديع، ولم يكن أيضاً يزيد على التصوير المجرد، فإذا ما صرح بسخطه على بعض الأحوال والأحكام والأنظمة، فتصريحاً

ص: 25

سريعاً فيه تسليم واقتناع بعدم جدوى محاولة الإصلاح وعدم إمكان أحسن مما كان. وظهر ذلك الميل أيضاً في شعر أبن الرومي، الذي صور كثيراً من الشخصيات الفكاهية، على أنه كان يتناولها من ناحيته الفردية وينحى عادة على أعدائه الشخصيين؛ وظهر نفس ذلك الميل إلى تتبع أحوال المجتمع في شعر المعري خاصة، وذلك من الأبواب التي تفرد بها أو كاد بين أدباء العربية، وسبق في التصريح بها عصره، وله في ذلك أبيات رائعة ليست إلا خلاصة موجزة لبعض مذاهب السياسة والاقتصاد في العصور الحديثة؛ ومن ذلك اعتباره الحكام خدام الرعية، ونقمته على عدم تساوي توزيع الثروة، وذلك قوله من لزومياته:

مل المقام فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستباحوا حقها

وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وقوله

لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته

فقير معرى أو أمير متوج

وقد يرزق المجدود أقوات أمة

ويحرم قوتا واحد وهو أحوج

على أن الشعر ليس بأصلح المجالات للنقد الاجتماعي والإصلاح الشعبي، وإنما مجال ذلك النثر الذي هو أكثر شيوعاً وأقرب إلى متناول القارئين، والذي هو أرحب صدراً بالشرح والتفصيل والإسهاب؛ والمقالة والقصة فرسا رهان هذا المضمار، ولكن النثر العربي لم ينهض بهذا العبء، ولم يزد أن خطا الخطوة الأولى في هذا السبيل في كتابات الجاحظ ومقامات البديع؛ وقد جاءت هذه الخطوة متأخرة. ولما جاء الجيل التالي لم تتبعها خطوة أخرى، بل أعقبها تقهقر إلى الوراء، فلم تتطور المقامة إلى قصة فنية اجتماعية تدرس المجتمع وتقوده في سبيل الإصلاح، بل تحولت في يد الحريري وغيره إلى معارض للألفاظ المزركشة والألغاز المعماة والحيل الملفقة، فقد كانت الأمة في طريقها إلى الانحلال، والأذهان في انحدارها إلى الخمود، والحكام يزدادون على مرافق الأمة وطأة، والأدب يتقلص رويداً رويداً، ويهجر لباب الحياة إلى قشور الألفاظ.

فالأدبان العربي والإنجليزي قد تأثرا في مختلف العصور تأثراً كبيرا بأحوال مجتمعيهما، وهو أمر لم يكن منه بد، بيد أن الأدب الإنجليزي كان أكثر بالمجتمع تأثراً وأكثر فيه

ص: 26

تأثيراً، وأشد تشابكاً وتفاعلاً معه، لما أحاط به من ظروف مساعدة، مرجعها سيادة الحكم الديمقراطي وانتشار حرية القول والعمل وقوة الرأي العام؛ أما الأدب العربي فلبلوغه أوج ازدهاره في ظل الملكية المطلقة، قد كان يقتصر تأثره بالمجتمع وتأثيره فيه على ما جاء عرضاً غير مقصود، وما تم بحكم الظروف وطبائع الأشياء، وكان تناول أدبائه لشؤون مجتمعهم رفيقاً محدوداً، وفيما عدا ذلك كان كل منهم عاكفاً على وصف خطراته وأشجانه وصبواته، مولعاً بذم أعدائه ومساجلة صحابته، إلى غير ذلك من الشؤون الفردية

فخري أبو السعود

ص: 27

‌وفاة شاعر تركيا الكبير

عبد الحق حامد بك

1851 -

1937

ولد عبد الحق حامد بك يوم 5 فبراير سنة 1851 بجهة ببك من الآستانة. والده خير الله أفندي من المؤرخين المعدودين. وجده حكيم باشي مُلا عبد الحق

تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة (كوليج روبرت) الأمريكية، وتلقى دروسه العربية والفارسية على معلمين خصوصيين وهم الأستاذ بهاء الدين، وسليم ثابت، وخوجا إحسان. وقد ظهرت عليه مخايل النجابة والذكاء من صغره حينما كان يقرأ في المدرسة المذكورة فعرف له ذلك معلموه في المدرسة ومعلموه الخصوصيين

يعرف عبد الحق حامد من اللغات عدا التركية - الإنكليزية والفرنسية والعربية والفارسية معرفة تامة، وله في أدبيات هذه اللغات تعمق ونظر نافذ شهد له به كل من عرفه من أهل تلك اللغات

ولما كان له من العمر ستة عشر عاماً عين والده سفيراً لطهران فذهب معه، وهناك توفي والده فعاد إلى الآستانة ولازم قلم الترجمة في الباب العالي. ثم أخذ ينشر أسفاره وابتدأت شهرته تذيع بين الأدباء فتعرف وهو شاب بسبب شهرته بالأديبين الكبيرين في ذلك الوقت شناسي ونامق كمال الدين؛ عرفا للشاعر مزيته وقدرا نبوغه في ذلك الحين. وكان بالأخص الصديق الحميم لنامق كمال الذي يكبره باثني عشر عاما

عين وهو في الخامسة والعشرين من عمره كاتباً ثانياً بسفارة تركيا في باريس، ثم رقي إلى (باشكاتب) بسفارة تركيا في لوندرا، ثم عين شاهبندراً في بومباي، ثم عاد إلى (باشكتابة) سفارة باريز مرة ثانية؛ وآخر وظائفه الحكومية تعيينه سفيراً في بروكسل 1908. وأخيراً عاد إلى تركيا بعد إعلان الحرب فانتخب عضواً في مجلس الأعيان وتولى فيه نيابة الرياسة مراراً وإلى حين وفاته شغل دورتين في انتخاب مجلس الأمة الكبيرة في عهد الجمهورية 1931، وكان في المجلس المذكور أكبر الأعضاء سناً

آثاره الأدبية

ص: 28

أبتدأ أثناء إقامته في أوروبا (وقد قضى عشرين عاماً في لندرا) ينشر آثاره البديعة متبعاً طريقة جديدة مما أقتبسه من الآداب الغربية فاستحق بما أبدع من التجديد أن يشغل أعظم محل من الأدبيات التركية. وطار صيته وتسنم ذروة الشهرة بما كتب في رثاء زوجه فاطمة التي توفيت أثناء عودته من الهند ودفنت في بيروت. فكان لأثره المسمى (مقبر) أثر في الأدبيات التركية بلغ درجة الإعجاز. ثم انتشرت مؤلفاته الكثيرة التي منها:

مقبر - أولو - ماجراي عشق - أشبر - ته زاد. صبروتبان - طارق بن زياد - نظيفة - فينتين - ديوانه لكلرم - نسترين - صحرا - عبد الله الصغير - تفيله - طيفلر كجيدي - زينب - ساروانبال - فتنت - آلام وطن - دوهتري هندي - طورخان - ايجلي قيز - روحلر - بالادن برسس. ابن موسى - ارخيلر - غرام - يبانجي دوستلر - وغير ذلك من آثاره النادرة المثال. وقد منع من النشر أكثرها زمن عبد الحميد بدعوى أنها مسممة لروح الشباب، مهيجة للأفكار على حكومة الاستبداد.

ولكنه تبوأ بتآليفه هذه أعظم مكان في نشر الأدبيات الغربية التي بدأ بنشرها قبله شناسي ونامق كمال، ولكن عبد الحق حامد فاقهما وأربى عليهما بما وفق إليه من الأسلوب العذب والصناعة الأدبية الفائقة، فنال عنوان أمام المجددين دون رفيقيه الذين تقدماه. وظل مدة ستين عاماً أستاذاً للأدباء الأتراك فأسدى إلى اللغة التركية والأدب التركي من التجديد والاختراع ما ليس له نظير ولن يكون له نظير فيما بعد.

يقول الأدباء الأتراك: لولا حامد لتأخر انتشار الأدب الغربي في بلادنا عصراً كاملا، ولظل مكان حامد فارغاً كما سيظل الآن خالياً؛ ولكن لله الحمد جاء حامد وأدى ما لم يمن غيره ليؤديه للأدب فكان أدبه حياً ملهماً من شعور الأمة، لا بل الأمة هي التي تستلهم من شعوره الحساس وروحه الفياضة، فهو في شعور الأمة وحياتها من الخالدين إلى الأبد.

وخلاصة ما يقال شعر حامد بك وطريقته الأدبية، أنه لم يتقيد بالمألوف القديم من شعر الدواوين، بل أبتدع طريقة عصرية جديدة، لا يقال أنها اليوم أساس المدرسة الأدبية التركية، بل ستكون في المستقبل أيضاً منبع الإلهام الفياض لآداب الأجيال المقبلة.

كان يرجح الأدب الروائي في مؤلفاته وينتخب موضوعات تاريخية يبرزها في صور شائقة ممتعة (لتقرأ أكثر منها لتمثل) بلغة سهلة ممتعة تدل على براعته واقتداره في صنعته

ص: 29

التي جعلته نسيج وحده.

توفي مساء الاثنين 12 أبريل الجاري عن 86 عاماً قضاها في خدمة وطنه وخدمة الأدب حتى أنه قبل وفاته بيوم واحد استجمع قواه وقام إلى مطالعة كتبه والبحث في تأليفه الأخير الذي يقال أنه سيكون أعظم أثر أدبي عصري، وتذاكر مع الأديب الكبير أحمد فاضل وأنشده بيته الأخير وهو قوله:

ذوق يوق كيجه سنده كوندزنده

بن نه ايله يم بوير يوزنده

ومعناه تقريباً:

مالي ودنيا كثرت أكدارها

لا ليلها يصفو ولا نهارها

وكانت وفاته تشابه وفاة شاعرنا الزهاوي من بعض الوجوه. فبينما كان جالساً في نادي الشرق أحس بألم شديد اضطره إلى الذهاب إلى بيته واستدعي إليه الطبيب؛ وبعد فحصه أوصى بألا يخرج من البيت ويلزم الراحة التامة. وبعد ذهاب الطبيب أشتد عليه المرض، وتحسنت صحته في الغد فأحضر له طعام فلم يقبله، وطلب فاكهة أكلها (كما أكل الزهاوي كماة) ثم قام كما قدمنا إلى كتبه وتأليفه ومذاكرة الأديب أحمد فاضل وأنشده بيته الأخير الذي ترجمناه. وفي اليوم التالي أشتد به المرض إلى الظهر، ثم نام نوماً هادئاً إلى الليل، وانتبه مدة ثم نام النومة الأبدية رحمه الله. وخلف عدا بناته من زوجه فاطمة ابنه عبد الحق، حسين وحميد. وقد تزوج بعد فاطمة بالسيدة الإنجليزية نيللي التي عاشرته عشرين عاماً، ثم تزوج بعدها بالسيدة لوسيان البلجيكية التي مات عنها. ولم يولد له من الأخيرتين أحد

وقد شيعت جنازته باحتفال فخم لم يسبق لأديب أن شيع بمثله؛ اشتركت فيه الأمة التركية بدافع المحبة والتقدير لشاعرها الكبير. وأرسل رئيس الجمهورية أحد ياوريه نائباً عنه من أنقرة. ووضعت جنازته على عربة مدفع ملفوفة بالعلم التركي. ودفن في المقبرة العصرية في زنجير لي قويو؛ وهذه المقبرة أنشأتها البلدية حديثاً، وسيكون الشاعر العظيم أول دفين فيها. وسيقام له تمثال في مكان لائق. رحمه الله واسعة

رفيق آطالاي

ص: 30

‌على هامش كتاب

نظام الطلاق في الإسلام

للأستاذ محمود حمدان

كنت من زمن أرى أن ما تعارف الناس من أمر إيقاع الطلاق جملة، وفي أي مناسبة، ويميناً، وتعليقاً - عبث لا يتفق مع الحكمة، ويجعل أقوى العقود رباطاً، وأقدسها حرمة، وأهمها في الحياة قدراً، أوهن من بيت العنكبوت. فما كان الله ليجعل المرأة الضعيفة تتقاذفها الأهواء كالريشة في مهب الهواء

وكنت قد طلبت الفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فما وجدت في الكتب التي بين يدي. ولا عند الأشياخ الذين تلقيت عنهم جواباً عما يخالجني. فكنت أسكت وفي النفس شيء لا أستطيع أن أبوح به. وكنت كلما وقع بيدي مقال لبعض المصريين حول موضوع الطلاق أقرأه بشغف لعلي أجد فيه ضالتي، فلا أجد إلا ثرثرة متحذاق فأطرحه كاسف البال

وبعد أن تركت الأزهر الشريف كان يتاح لي في بعض الأحيان أن أقرأ للمرحوم الأستاذ رشيد رضا مواضيع مختلفة، فصرت ألمس روحاً غير الذي كنت ألمسها في الأزهر: صرت ألمس روح الحرية في الفهم وتحكيم العقل والرجوع إلى القرآن الكريم، فاطمأن قلبي وشعرت بنور الإسلام يغمرني ويكونني خلقاً آخر

قلت أذن لتحل مشاكلنا على ضوء العقل الذي وهبنا الله، ونور القرآن الكريم الذي حفظه الله كما انزل ليكون حجة على الخلق إلى يوم الدين، لا على رأي غيرنا، ولا بمقتضى كتب لم يكتب الله لها العصمة

ورجعت إلى مشكلة الطلاق فاقتنعت بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة ولا يقع ثلاثاً لمخالفة ذلك لمقتضى اللغة ولصريح القرآن وللعقل أيضاً، لأنه حصل فسخ عقد النكاح بقول المطلق: أنت طالق. فلم يبقى محل لإيقاع الفسوخ الأخرى بالوصف العددي، وأفتيت بهذا مراراً. وأثناء اشتغالي بالمحاماة الشرعية أفتيت في حادثة من هذا القبيل لو وصلت إلى المحكمة لقضي بالتفريق بين الزوجين ببينونة كبرى كما يقولون

بيد أنه لم يتح لي دراسة هذا الموضوع دراسة وافية من جميع نواحيه حتى علمت من قراءتي للرسالة الغراء - نفع الله بها وحفظ صاحبها - بصدور كتاب (نظام الطلاق في

ص: 31

الإسلام) للعلامة المجتهد الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي. فقلت: ابن بجدتها، علم غزير، وذكاء وفير، والمهنة مستوجبة للدرس، والظروف مؤاتية.

قرأت الكتاب بشغف قوي وبما يستحق من عناية وإنعام نظر، فرأيته - ولا أريد أن أمدح - نعم الكتاب هو، وافياً بالغرض، قائماً على الحجة القوية من كتاب الله وسنة رسوله مسترشداً بالعقل وقوانين اللغة، بعيداً عن اللغو ومواطن الزلل، ورأيت الإخلاص للحق مماثلاً فيه بدليل توفقه - بأسلوب سهل - للإحاطة بأطراف الموضوع في موجز كهذا (وهو بالنسبة لخطورة الموضوع وجيز) وبدليل بعده عن الخوض في (سب سادات مضوا) شأن كثير ممن يتعرضون للكتابة في مواضيع اختلفت فيها الآراء وتشعبت الأقوال.

ومسأله الكتاب: إخراج الطلاق من حيز العبث الذي أدخله فيه الناس إلى حيز الحكمة التي ابتغاها الشارع الحكيم من مشروعيته، واعتباره علاجا لإصلاح ما قد يطرأ على الرابطة الزوجية من أمراض تنغص العيش، وتذهب بالسكينة المنشودة من الزواج (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها) والذي يجعل لإصلاح العلاقة الزوجية لا يستعمل لقطعها إلا إذا تعذر الإصلاح وكان العلاج هو القطع. ومن هنا أذن الله للرجل في الطلاق وجعل له فيه أداة ومهلة يتروى فيها ويراجع نفسه (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وبهذا تتجلى حكمة الطلاق ويبدو أنه تشريع منظم غاية التنظيم.

وقد حرص المؤلف على تقرير هذا المعنى في المواضيع المناسبة؛ غير أن ما أشترط لصحة وقوع الطلاق غير كافي للحيطة من العبث به وتعجيل الفراق. فقد أشترط في طلاق المدخول بها أن يكون الطلاق في طهر لم يمس فيه وقال: (فإذا رد الرجل مطلقته في عدتها إلى عصمته بالرجعة تجدد العقد بينهما، فكأنه وصله بعد إذ قطعه، فيمكن قطعه وفسخه مرة أخرى، وكذلك الثالثة. ص 72) وهذا كله يتصور في طهر واحد، كأن يطلق في طهر لم يمس فيه ثم يراجع نفسه فيرجعها بشروط الرجعة - ثم يرى طلاقها فيطلقها في نفس الطهر قبل أن يمس ثم يعود إليه صوابه فيرجعها، ثم يرى طلاقها في نفس الطهر أيضاً قبل أن يمس فيطلق. وحينئذ يقع الفراق الذي لا رجعة بعده في طهر واحد، ويكون قد تعجل الطلاق وخالف الحكمة في تفريقه. وليس فيما حقق الأستاذ ما يمنع المطلق من إيقاع الطلاق على الصورة الذي ذكرنا أو ما يبطل طلاقه لو فعل.

ص: 32

والذي أراه يتمشى مع الحكمة هو التمشي مع نصوص القرآن الكريم، وذلك بعدم إجازة الرجعة التي تترتب عليها صحة الطلاق الثاني إلا عند نهاية العدة لقوله تعالى:(فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) وقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) فإنه رتب الإمساك (وهو الرجعة) على بلوغ الأجل. وبلوغ الأجل في حق الرجعة يراد منه قرب بلوغ الأجل لأن الرجعة لا تصح بعد بلوغه

وحرمان الزوجين من بعضهما مدة العدة أدعى للوفاق بينهما فيما بعد. لأن الزوجة بسبب هذا الحرمان تصلح من شأنها، والزوج بسببه لا يقدم على طلاق آخر إلا إن كانت الضرورة ماسة جداً خلاف ما لو راجع حالا فإنه لا يشعر بشيء يزجره ويذيقه بالفعل خطورة ما أقدم عليه

وقرب بلوغ الأجل، أي نهاية العدة، يكون في الحيض الأخير أو الطهر الذي قبله، فإن حصلت المراجعة في الطهر الذي قبل الحيض الأخير ومست الحاجة للطلاق الثاني طلق إن شاء قبل أن يمس كما في الحديث. وإن حصلت الرجعة في الحيض الأخير صحت الرجعة ويطلق في الطهر الذي بعدها إن شاء قبل أن يمس. وهكذا في الطلقة الثالثة

وبهذا النظام لا تقع الفرقة النهائية إلا في ظرف واسع كاف للتروي ومراجعة الرأي. وهو وقت يقرب من ثلاث عدد. ومن لم يحسن العشرة فيه كان مستحقاً لعقاب الحرمان الأدبي من رفيقه، أو ألا يرجع إليه إلا بعد زوج آخر، وهو ما لا ترضاه النفوس غالباً

بقي: هل يبطل الطلاق في الحيض أو يقع ويحرم؟

رجح المؤلف بطلانه، وهو رأي بعض الأئمة؛ ورجح غيره حرمته فقط، وسمي بالطلاق البدعي. استدل المؤلف بحديث ابن عمر من روايات متعددة ذكرها فيما بين الصفحة 23 والصفحة 28، واحتج القائلون بالوقوع بحديث ابن عمر نفسه من روايات أخرى قال المؤلف عنها:(ليس فيها شيء صريح وألفاظها مضطربة وهي تخالف ما ثبت صريحاً بالروايات الصحيحة، وتخالف أيضاً ما يفهم من ظاهر القرآن)

وأنا أصدق المؤلف فيما قال في الروايات التي تمسك بها خصوم رأيه، ولم أطالعها، ولكنني أقطع النظر عنها وأقول: إن الروايات التي تمسك بها هو لا تساعده على رأيه لأن

ص: 33

قوامها:

1 -

ما روى مالك في الموطأ عن نافع (أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها، فليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)

2 -

وما روى ابن وهب في كتابه الجامع: (قال ابن أبي ذئب أن نافعا أخبرهم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. وهي واحدة)

وهذان الحديثان هما من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرح فيها بقوله فليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق. فلو كان الطلاق الأول الذي طلقه ابن عمر غير واقع لم يكن فائدة لقوله فليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، بل كان ينبغي أن يقول فليمسكها حتى تطهر ثم إن شاء ثم إن شاء طلقها قبل أن يمس، ولا داعي لتعدد الحيض والأطهار

وأعجب للمؤلف كيف يقول: (فلو كانت الروايات التي يحتج بها القائلون لوقوع طلقة ابن عمر في الحيض صحيحة لكان الأمر بمراجعتها تم التربص بها إلى أن تطهر ثم يطلقها إن شاء الله في الطهر الثاني قبل أن يمس - أمراً بإطالة عدتها زمناً أكثر مما أريد من الرفق بها) أعجب له لأن التربص بها إلى أن تطهر الأطهار المعدودة في الحديث ثم يطلقها إن شاء هو مناط الحكمة في تفريق الطلاق (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وليس لإطالة عدتها بل لاحتمال رجوعه عن إرادة الطلاق فيما بعد. أما الطلاق الأول فقد وقع والتربص عدة حيض وإطهار كما في الحديث دليل على وقوعه، وإلا فهو حر في طلاقها حين تطهر الطهر الأول. وقوله في الحديث وإن شاء طلق قبل أن يمس فيظهر أنه إن شاء طلاقاً ثانياً، ولا ينافيه قوله بعد ذلك (وهي واحدة) لأن الضمير فيها للطلقة الأولى المفهومة من سياق الكلام والتي هي محط السؤال، فلا جرم يكون الجواب عنها بالإضمار ولا يمتنع

ص: 34

ذلك، وهو أسلوب عربي صحيح، ولا نسلم للمؤلف (أنه لا يمكن أن يعود الضمير إليها).

وأما الروايات الأخرى التي أستند إليها المؤلف فاثنتان وهما:

1 -

رواية ابن جريج عن ابن الزبير (وقال عبد الله فردها علي ولم يرها شيئاً)

2 -

ورواية مسلم والنسائي بحذف كلمة ولم يرها شيئاً

فهاتان الروايتان ليستا من لفظ النبي عليه السلام، بل هما من فهم عبد الله بن عمر بحسب سماع ابن الزبير وفهمه، والأخذ بلفظ النبي عليه السلام أولا من الأخذ بفهم غيره

والرواية الثالثة وهي رواية الأمام أحمد (. . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليراجعها فإنها امرأته) تحتمل على الأقل الوقوع والأمر بالمراجعة. وعدم استعمال لفظ المراجعة في القرآن بهذا المعنى لا ينفي استعماله في الحديث

وبعد فهل الروايات التي تمسك بها القائلون بوقوع الطلاق في الحيض، أو بالتالي هل وقوع الطلاق في الحيض يخالف ما يفهم من ظاهر القرآن كما قال المؤلف؟

الجواب عندي أن حديثي مالك وابن وهب الذين تمسك بهما المؤلف يفهم منهما ما يساعد على تأويل القرآن الكريم بما لا يخالف وقوع الطلاق في الحيض

فالذي يفهم من الحديثين أنه أوقع الطلقة الأولى وكانت في الحيض، وأمر بالتريث حيضاً وأطهاراً بين هذه الطلقة وبين إيقاع الطلقة الثانية إن شاء المطلق ذلك وقال (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)

فالطلاق للعدة المأمور به في القرآن معناه أن تطلق المرأة الطلقة الثانية بنهاية العدة من الطلقة الأولى، ويكون تفسير أية الطلاق هكذا:

(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) أي الطلاق المعهود في قوله (الطلاق مرتان) من سورة البقرة وهي أول سورة نزلت بالمدينة، (فطلقوهن لعدتهن) أي أوقعوا الطلقة الثانية لعدة الأولى أي بنهاية عدتها كما فسر ذلك الحديث حيث أوقع الأولى وأحصى العدة بتعداد الحيض والأطهار وقال بعد ذلك (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)

وليس غريباً أن يكون هذا هو التفسير فالقرآن يفسر بعضه بعضا فالحديث مبين للقرآن (لتبين للنساء ما نزل إليهم)

فمن آيات الطلاق مع الحديث يؤخذ أن الطلاق لا يقع إلا متفرقاً بين كل طلقة وأخرى

ص: 35

مقدار عدة، وإن الرجعة لا تصح إلا بنهاية العدة.

وحيث كان الطلاق يختل نظامه إذا لم يراع فيه ذلك فقد أكد الله هذا المعنى بتكريره في آيات الطلاق فقال تعالى في سورة البقرة (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) فرتب الإمساك والتسريح على بلوغ الأجل. وذكر مثله في سورة الطلاق.

والحاصل أنني أستنتج من هذا البحث ثلاثة أمور:

الأول: وقوع الطلاق في الحيض.

الثاني: أن الرجعه لا تصح إلا قرب نهاية العدة

الثالث: وهو مترتب على الثاني - أن الطلاق الثاني لا يقع إلا قرب نهاية العدة من الطلاق الأول، والطلاق الثالث لا يقع إلا قرب نهاية العدة من الطلاق الثاني

وبذلك يصبح نظام الطلاق في الإسلام ثابتاً لا يتسرب إليه الخلل ولا يمكن العبث به مهما حاول ذلك المحاولون.

فأرجو من فضيلة الأستاذ العلامة الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر مؤلف كتاب (نظام الطلاق في الإسلام) أن يتفضل بالجواب عما رآه هذا العاجز سواء بالسلب أو بالإيجاب مع الأدلة الوافية لنستنير برأي الراجح، وله منا جزيل الشكر ومن الله عظيم الثواب

داود حمدان

ص: 36

‌حديث الأزهار

للكاتب الفرنسي الفونس كار

زهرة الأقحوان

نهضت الصبية مع الصباح وسارت نحو البراري. وكانت العصافير قد فتحت عيونها للنور وبدأت تزقزق وقد أحنت رؤوسها مثقلة بتيجان من لآلئ الأنداء

سرحت الغادة أنظارها على المرج، فاستوقفتها زهرة الأقحوان، زهرة النظارة والجمال، مفتحة عينها الصفراء، محدقة بالسماء

انحنت على الزهرة وقالت لها: سوف تكشفين لي سر الأسرار يا ابنة الأرض والسماء. سوف تعلن لي وريقاتك ما لا يعرفه في الإنسان إلا إله الإنسان، سوف تقولين لي إذا كان يحبني. . . وأخذت الفتاة الزهرة بين أناملها وأخذت تنزع وريقاتها

ودفعت الزهرة بالأنين لأول ورقة سقطت من تويجها على الأرض. وقالت: لقد كنت مثلك أيتها الصبية جميلة ومليئة بالحياة، مثلك كنت سعيدة، وكما أحببت أنت أحببت أنا، وما سال النسيم الذي هام بي عن سر غرامي أحداً، بل كان يمر بي كل ساعة ويحمل من عبيري كلمة الغرام حرفاً فحرفا. كان يقتلع هذه الحروف من قلبي كما تقتلعين أنت اليوم وريقاتي من تويجي بلا شفقة ولا رحمة. لقد سرق مني كل عبيري، وما عبيري إلا شعوري يحيط طهارتي بسياجه المنيع

ذهب الشعور كلمة فكلمة، وبقي قلبي عارياً كما سيبقى تويجي بين أناملك الآن. كنت أتعذب وأتأسف على عواطفي المخلوبة، على وريقاتي البيضاء. . .

ما لي ولك أيتها الصبية؟ دعيني، لا تنزعي وريقاتي، أنا أختك زهرة الأرض يا زهرة العالم، ارحمي الحياة التي وهبنيها الله، فأجود عليك بسر عظيم جزاء على إشفاقك

إن المرأة تأخذ الزهرة وتنضو وريقاتها لنستمع السؤال على جوابها المزدوج: يحبني، لا يحبني. . . .

والرجل يطلب الجواب نفسه من المرأة عندما ينثر وريقاتها البيضاء على الأرض.

أيتها الفتاة، أبقي جوابك في قلبك. . . إن الرجل ليطرحك بعيداً عنه إذا ما نزع وريقاتك البيضاء. . .

ص: 37

(ف. ف.)

ص: 38

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسقاف النشاشيبي

27 -

جنة في نار

دخل بدوي حماماً فاستطابه فقال لصاحبه:

إن حمامك هذا

غير مذموم الجوار

ما رأينا قبل هذا

جنة في وسط نار

28 -

على أنه أقبل في الوقت

في (أغاني) أبي الفرج:

قال أبو المستهل: دخلت يوماً على سلم الخاسر وإذا بين يديه قراطيس، فيها أشعار يرثي ببعضها أم جعفر وببعضها جارية غير مسماة وببعضها أقواماً لم يموتوا. وأم جعفر يومئذ باقية. فقلت له: ويحك ما هذا؟!

فقال: تحدث الحوادث فيطالبوننا بأن نقول فيها. ويستعجلوننا ولا يجمل بنا أن نقول غير الجيد. فنعد لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديماً على أنه قيل في الوقت.

29 -

الأذن الشرعي والقياس اللغوي

في (طبقات) السبكي.

دخل رجل على الجبائي يوماً فقال: هل يجوز أن يسمى الله (تعالى) عاقلا؟

فقال الجبائي: لا، لأن العقل مشتق من العقال وهو المانع، والمنع في حق الله محال فامتنع الإطلاق. قال الشيخ أبو الحسن فقلت له: فعلى قياسك لا يسمى الله (سبحانه) حكيما لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت

فنحكم بالقوافي من هجانا

ونضرب حين تختلط الدماء

وقول الآخر (جرير):

أبني حنيفة. أحكموا سفهائكم

أني أخاف عليكم أن أغضبا

ص: 39

أي نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهائكم. فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق حكيم عليه سبحانه وتعالى. فلم يجد جواباً إلا أنه قال لي: فلم منعت أنت أن يسمى الله (سبحانه) عاقلا، وأجزت يسمى حكيما؟ فقلت له: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته

30 -

ما قتل المحب حرام

قال القاضي المقري: سألني ابن حكم عن نسب المجيب في هذا البيت:

ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب

فأجاب: ما قتل المحب حرام

ففكرت ثم قلت: أراه تميمياً لإلغائه (ما) النافية فاستحسنته مني لصغر سني يومئذ

31 -

أجد بيانها في قلبي

في (وساطة) الجرجاني:

قال يونس ابن عبد الأعلى: سألت الشافعي عن مسألة. فقال: إني لأجد بيانها في قلبي، وليس ينطلق لساني

32 -

بارت قريتك

في (مفيد النعم) للسبكي:

ذكر الزبير ابن عمار أن بعض المتقعرين كتب إلى وكيل له بناحية البصرة: احمل إلينا من الخوزج والكنعد الممقورين، والإوز الممهوج، ولحم مها البيد، ما يصلح للتشرير والقديد

فكتب إليه وكيله: إن لم تكف عن هذا الكلام بارت قريتك، فإن الفلاحين ينسبون من ينطق بهذه الألفاظ إلى الجنون

33 -

عبودية الطاعة وأخوة العبد

كتب أبو حيان التوحيدي إلى صاحب له: كنت أعلمتني أنك استحسنت مني هذين البيتين وهما:

إن كنت تطلب فضلاً

إذا ذكرت ومجداً

فكن لعبدك خلا

وكن لخلك عبدا

ص: 40

وكان سببهما أن صديق لي ضرب عبداً له، فحضره صديق له، فمنعه الصديق فلم يمتنع، فكتبت إليه بهذين البيتين أذكره بحق الصديق في عبودية الطاعة، وأخوة العبد في حق الإيمان قال (تعالى):(إنما المؤمنون أخوة) هذا مع ما في التسلط على المماليك من الدناءة.

34 -

يخاف أن أعلم عليه

في (زهر الآداب) للقيرواني:

قال الفتح بن خاقان: ما رأيت أظرف من ابن أبي دؤاد، كنت يوماً ألاعب المتوكل بالنرد. فاستؤذن له عليه، فلما قرب منا هممت برفعها، فمنعني المتوكل وقال: أجاهر الله بشيء وأستره عن عباده؟ فقال المتوكل لما دخل: أراد الفتح أن يرفع النرد، قال: يخاف (يا أمير المؤمنين) أن أعلم عليه. فاستحليناه وقد كنا تجهمناه

35 -

الوجه الحسن والشعر المطبوع

قال أبو عمر بن سالم المالقي: كنت جالساً بمنزلي بمالقة فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة، وكان يوماً شديد الحر فراودتها على القعود، فلم تمكنني من القعود، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار، وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، فقال لي: إن كنت أدعو الله أن يأتيني بك وقد فعل فالحمد لله، فأخبرته بما كان مني ثم جلست عنده فقال: أنشدني، فأنشدته:

غصبوا الصباح فقسموه خدوداً

واستوعبوا قضب الأراك قدوداً

ورأوا حصا الياقوت دون نحورهم

فتقلدوا شهب النجوم عقودا

وتضافروا بضفائر أبدوا لنا

ضوء النهار بليلها معقودا

صاغوا الثغور من الأقاحي، بينها

ماء الحياة، لو اغتدى موروداً

لم يكفهم حد الأسنة والظبا

حتى استعاروا أعينا وخدودا

فصاح الشيخ وأغمي عليه، وتصبب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة وقال: يا بني، أعذرني فشيئان يقهرانني ولا أملك نفسي عندهما: النظر إلى الوجه الحسن، وسماع الشعر المطبوع

36 -

أنا لا أسمع لوما في حبيب

في خزانة ابن حجة:

ص: 41

كان صلاح الدين الصفدي، مذهبه تقديم أبي الطيب المتنبي على أبي تمام حبيب الطائي. فأتفق أن صلاح الدين اجتمع بابن نباتة بالديار المصرية، وذاكره في أبي الطيب وأبي تمام، فوجده على مذهبه. واجتمعا بعد ذلك بالشيخ أثير الدين بن حيان وذاكراه في ذلك، فقدم أبا تمام، فلاماه على ذلك فقال:

أنا لا أسمع لوماً في حبيب

37 -

كالحسن شيب لمغرم بدلال

(في المثل السائر) لابن الأثير:

قال أبو تمام:

خلط الشجاعة بالحياء فاصبحا

كالحسن شيب لمغرم بدلال

وهذا من غريب ما يأتي في هذا الباب. وقد تغالت شيعة أبي تمام في وصف هذا البيت، وهو لعمري كذلك

ص: 42

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 2 -

الديانة المصرية

يجمع الباحثون على أن الديانة المصرية هي أولى الديانات البشرية التي ظهرت على وجه الأرض من غير استثناء. ويؤكد بعضهم تأكيداً قاطعاً بأنه لم تظهر ديانة في الدنيا إلا ولها في عقائد وادي النيل عنصر، وإن كل الديانات الإنسانية ليست إلا فتاتاً متساقطا حول مائدة بلاد الفراعنة الذين سبقوا جميع سكان الكرة الأرضية إلى حمل لواء المعرفة وفتح كثير من مغلقات العالم وحل الغاز الكون. ومن أشهر العلماء الذين يعتنقون هذه الفكرة العالمان الإنجليزيان:(بري) و (أليوث سميث). أما الأستاذ (دينيس سورا) فيؤمن بالفكرة الأولى وهي سابقية الديانة المصرية على جميع الديانات الإنسانية، ولا يستبعد أن تكون جميع التطورات الدينية قد وجدت في مصر من الوثنية المحضة إلى الروحية المغالية في التجردية، بل إلى (اللأدرية) المطلقة، ولكن الذي يعارض فيه هو أن بقية الشعوب القديمة قد تغذت من تساقط فتات المائدة المصرية، كما يقول بعض العلماء؛ وبراهينه في هذه المعارضة هي:

أولاً: أنه لم يثبت عن المصريين أنهم بعثوا بعثات إلى البلاد الأجنبية للتبشير بدياناتهم حتى انتشرت بين ربوع تلك الأمم.

ثانياً: أن الآثار المصرية التي يعتمد عليها العلماء في حكمهم هذا لا تؤيدهم في دعواهم إذا تأملوا في الأمر تأملا دقيقا، لأنها ليست إلا رموزا وطلاسم قصد بها كاتبوها غايات دينية محضة لا تسجيل حقائق علمية ولا إذاعة أسرار الدين وإبانة تطوراته المختلفة. وإذاً، فلا يمكننا أن نعتمد على تلك الآثار في حكمنا، وفوق ذلك فإن أسرار العقيدة المصرية الأصلية لم تذع بين أفراد الشعب إلا في عصور التدهور أي حوالي القرن السادس قبل المسيح.

ص: 43

وبناء على هذا يكون العامة - وهم الذين يحتكون بالأجانب في المعاملات - قد ظلوا جاهلين بحقيقة هذه الديانة حتى القرن السادس أي بعد ظهور كثير من الديانات الشرقية. وبهذا ينتفي تأثير الديانة المصرية على تلك الديانات.

ولا ريب أن البرهان الأول في رأينا برهان ضعيف، لأن الديانة كما تنتشر بواسطة المبعوثين المختصين، تنتشر كذلك عن طريق الاحتكاكات التجارية والسياسية والاجتماعية، ولا جرم أن هذا كان موجوداً وثابتاً الثبات كله. أما إدعاء أصحاب هذا الرأي جهل الشعب بالعقائد المصرية حتى القرن السادس فهو غير صحيح، لأن الأدب المصري - وهو مرآة الحياة الاجتماعية بما تحتويه من دين وأخلاق وغيرهما - قد أنبأنا في مواضع تجل عن الحصر بكثير من أسرار العقيدة. أضف إلى هذا أن الرسوم والنقوش التي تكتظ بها المعابد تذيع أكثر هذه الأسرار الدينية، وليس سرا ما يعلمه الكهنة والأمراء، ورجال البلاط، وكبار الموظفين، والرسامون والعمال. على أنه إذا جازت سرية ما لدى هؤلاء جميعاً - وهي بعيدة - فلا تجوز سرية ما لدى الأدباء والكتاب الذين افعموا أسفارهم بوصف هذه المعلومات بأسلوب ضاف مسهب. وإذا فالأرجح - أن لم يكن مؤكدا - أن جميع الأمم القديمة من غير استثناء هي تلميذات مصر في الدين كما هي تلميذاتها في العلم والأدب والفن.

غير أنه بالرغم من صحة هذه النظريات القائلة بأخذ الأمم الشرقية دياناتها عن مصر في نظرنا يجب علينا أن نخطو إلى إثباتها خطوات حذرة متبصرة تأتلف مع تلك المعلومات البسيطة التي اكتشفها المستمصرون، منتظرين ما تأتي به المكتشفات المقبلة عن هذه الأمة العريقة التي سمى العلماء بلادها بحق:(أرض الأسرار والعجائب).

قداسة الحيوان وأسبابها عند المصريين

رأى علماء أوروبا في العصور الحديثة، الآثار المصرية مكتظة بالحيوانات المقدسة، ورأوا كذلك بعض الشعوب البربرية المتوحشة في جنوب أفريقيا وفي أطراف أسيا وأمريكا تقدس الحيوانات في هذا العصر الذي نعيش فيه تقديسا لا يقل عن تقديس المصريين إياها في العصور الغابرة، فانخدعوا بهذه المشابهة السطحية وتوهموا أن تقديس المصريين القدماء للحيوانات هو من نوع تقديس المعاصرين المتوحشين لها، وحسبوا أن التقديس المصري

ص: 44

هو: توتيميسم، وهي كلمة تدل على قداسة الحيوان الناشئة عن اعتقاد القبيلة في قرابتها أو صلتها الوثيقة بهذا الحيوان، وهذا (التوتيميسم) موجود حقاً عند المتوحشين العصريين ولاسيما في أطراف أمريكا. وقد عني العلماء باستبطان دواخل هؤلاء المتوحشين، فسألوهم عن هذه الحيوانات المقدسة فأجاب البعض بأنها أجدادهم الأولون، وأنهم حين يقدسون هذه الحيوانات لا يزيدون على أنهم يجلون عنصرهم الأول ويحترمون دماء أسلافهم التي تجري في عروق هذه الحيوانات. ورد البعض الآخر بأنها أقارب أجدادهم، وأكد البعض الثالث أنها من خلفاء أولئك الأجواد، وأعلن الرابع أن الحيوان المقدس عنده إنما هو إله قبيلة.

وقد شاهد العلماء أيضا في بعض الجهات المتوحشة القبيلة تنقسم إلى أربعة بطون: البطن الأول يقدس الكلب، وهو جده الأعلى، والثاني يقدس الخنزير. وهو عنصره الأول. والثالث يقدس الوزغ، وهو مبدؤه الأساسي. والرابع يقدس التمساح، وهو رأس الأسرة الأولى من هذا البطن.

فلما رأى العلماء هذا التقديس للحيوان عند الشعوب المتوحشة ورأوه عند المصريين الغابرين، جزموا بأن أولئك وهؤلاء متشابهون في عقيدتهم وتقديسهم لا يفرق بينهم إلا هذه العصور المترامية الأطراف

وقد أفاض بعض هؤلاء العلماء في هذه الموازنة إفاضة أنزلت أراءهم منزلة خيال الشعراء وأحلام النائمين. وأبرز هؤلاء العلماء الحالمين هو الأستاذ (فرازير) الإنجليزي مؤلف كتاب (الغصن الذهبي)

وقد عارض كثير من العلماء الأدقاء في هذه المشابهة معارضة شديدة وصرحوا بأنها تنقصها الأسانيد العلمية التي يعتمد عليها من ناحية، وبأنها غير متناسقة الجزئيات من ناحية أخرى، واستدلوا بأدلة على أن منشأ تقديس الحيوانات عند المصريين ليس هو (التوتيميسم) وإنما هو سبب آخر سنذكره هنا. وإليك شيئا من هذه الأدلة:

(1)

أن المصريين القدماء كانوا يبيحون زواج الأخ من أخته مع أن جميع قبائل التوتيميسم تعد هذا العمل أكبر جرائمها التي تستوجب السخط والغضب، بل أنها مجمعة من غير شذوذ واحد منها على أن زواج الرجل بامرأة من البطن الذي هو منه محرم، وهذا خلاف

ص: 45

واضح يجعل المشابهة بعيدة كل البعد

(2)

أنه قد عثر على كثير من القبائل المتوحشة تجهل (التوتيميسم) جهلا تاما ولا تنظر إلى الحيوان إلا بمثل الإغضاء والإهمال الذين ينظر بهما إليه أرقى المتمدنين العصريين

(3)

إن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن عنصرهم هو السماء فلا يمكن أن ينتسبوا إلى الإنسان العادي فضلا عن الحيوان

(4)

أنهم صرحوا في عدة مواضع من آثارهم بأسباب تقديسهم لتلك الحيوانات، ولا يمت أي واحد من هذه الأسباب بصلة إلى تسلسلهم من الحيوان. وإذاً، فلا يمكن أن نسمي تقديس المصريين للحيوان:(توتيميسم) إلا إذا خرجنا بهذه الكلمة عن معناها الأصلي، وجعلناها مرادفة للتقديس فحسب بل مرادفتها للتقديس الناشئ عن البنوة أو القرابة. على أن الذين يوافقون من المستمصرين على تسمية تقديس المصريين للحيوان (توتيميسم) يجمعون على قصر هذه (التوتيميسمية) على عصور ما قبل التاريخ كما يجمعون على وجوب فصل عقائد تلك العصور (التوتيميسمية) عن عقائد العصور التاريخية الراقية.

أما منشأ هذه القداسة فهو يرجع - في رأي العلماء المحققين - إلى أنه قد حدثت حروب بين القبائل المصرية في عصور ما قبل التاريخ تجلت عن انتصار بعض هذه القبائل وانهزام البعض الآخر، فرمز المنتصرون لبلادهم ببعض الحيوانات القوية ولقرى خصومهم المنهزمين ببعض الحيوانات الضعيفة، فبقيت هذه الرموز دالة على معانيها ردحاً من الزمن ثم تعاقبت الأجيال فنسيت الأسباب الأولى وبقيت أسماء تلك الحيوانات عالقة بهاتيك القرى ورامزة لها في شكل خفي غامض. ولما كانت النفوس البشرية مجبولة على تقديس ما تجهله فقد قدست مصر تلك الحيوانات دون تفريق بين قويها وضعيفها.

ولما ارتقت مصر نوعاً، ونظمت بلادها وقسمتها إلى مقاطعات وأنشأ سكان كل مقاطعة على حدة راية خاصة بهم ظل بعض تلك الرموز القديمة باقياً ونقش كل منها على مقاطعته، كما اختفى البعض الآخر الذي لأمر ما لم يصلح للحياة، ولكن ذلك البعض الذي بقي لم يظل جامداً على راية حاله الأولى، وإنما تطور انسجاماً مع المدينة الحديثة مثل البازي الذي كان في عصور ما قبل التاريخ رمزاً لأحد الانتصارات الغابرة ثم أصبح في العصور التاريخية رمزاً للإله (هوروس) إله القوة والخير والبركة، وكالبقرة التي كانت

ص: 46

كذلك في العصور الأولى رمزاً لأحد تلك الانتصارات التي سجلت على القرية المنهزمة ضعفها، فرمز إليها بحيوان صغير كالتمساح مثلاً ثم أصبح رمز البقرة رمزاً للإله (هاتور).

ومع طول الزمن اندمج بعض المقاطعات في البعض الآخر وأصبح الكثير منها تحت إمرة إله واحد كما حدث في الماضي أن أصبح المنهزم تحت إمرة المنتصر، وهذا هو مأتى تقديس الحيوانات في مصر القديمة.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 47

‌سر مجهول في تحريم لحم الخنزير

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

في التشريع الإسلامي أسرار لا يعلمها إلا من طهر الله قلوبهم لحكمته، وألهمها من العلم ما لا يقاس به شيء عندها. وقد كان الناس يظنون أن الحكمة في تحريم لحم الخنزير تعبدية إلى أن أخذوا في هذا العصر يلتمسون حكم التشريع، ويعنون بالبحث عن فوائده ومزاياه؛ فحينما بحثوا في حكمة تحريم لحم الخنزير ظنوا أنه استثناء من أصل أحل لحمه، فأخذوا يبحثون في تحريمه عن حكمة خاصة به. وقد ذكروا من ذلك أن الخنزير يصاب في كثير من الأحيان بديدان تنتقل منه إلى من يأكل لحمه، وتتربى في جسده، فتكون منها الدودة الوحيدة الخطيرة؛ وذكروا أيضاً أن في الخنزير ديداناً أخرى تتربى في لحمه يقال لها (تريشين)، ومن عادتها أن تكون محاطة بكيس ينتهي أمره بأن يتحجر فتموت تلك الدودة فيه، ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن تلد ألوفاً لا تحصى من الديدان، وكل دودة منها ينتهي أمرها إلى مثل ما انتهى إليه أمر الدودة الأولى، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير نزلت هذه الأكياس الحجرية الحاوية لهذه الديدان إلى معدته، وذابت فيها بتأثير العصارة المعدية، فتخرج منها ديدانها وتتكاثر في جسمه وتسكن في لحمه، وهذا من أقبح الأمراض وأشنعها وناهيك بمرض يكون فيه لحم الإنسان كله مساكن لتلك الديدان المؤذية.

وقد يكون هذا من ضمن الأسباب التي حرم الله بها لحم الخنزير، وإن كان لا يوجد له نظير فيما حرم الله أكله علينا؛ ولكن يبقى بعد هذا أن يقال: هل حرم الله علينا الخنزير لأنه خنزير، أو لأنه من جنس السباع التي حرم علينا أكلها لحكمة عظيمة سنبينها؟ ولقد سألني بعض المخالفين منذ سنين عن الحكمة في تحريم الإسلام لحم الخنزير، فأجبته بأن الله حرمه لأنه سبع من السباع، ثم ذكرت له الحكمة في تحريم لحمها. فسكت سكوت المفحم أو المقتنع، ولم يعقب على كلامي بكلمة تبين لي حقيقة أمره، فاكتفيت منه بذلك وتركته، وهأنذا أفصل هنا ما أجملته في جوابي له:

روي عن أبي هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله علية وسلم قال: كل ذي ناب من السباع فأكله حرام. فهذا الحديث يدل على تحريم ما له ناب من السباع، والناب هو السن خلف الرباعية، كما جاء في القاموس، والسبع هو المفترس من الحيوان كما جاء في

ص: 48

القاموس أيضاً. وجاء فيه أن الافتراس الاصطياد. وجاء في كتاب النهاية لابن الأثير أن السبع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهرا وقسرا، كالأسد والذئب والنمر ونحوهما. وقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع، حتى الفيل والضبع واليربوع عنده من السباع، وكذلك السنور. وقال الشافعي: السباع المحرمة هي التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب، أما الذي لا يعدو منها على الناس فهو حلال، كالضبع والثعلب

فإذا أردنا بعد هذا أن نعرف أمر الخنزير في ذلك وجب أن نرجع إلى ما كتب في علم الحيوان عنه. وقد جاء في كتاب حياة الحيوان للدميري أن الخنزير يشترك بين البهيمة والسبعية، ففيه من السبع الناب وأكل الجيف، ومن البهيم الظلف وأكل العشب والعلف. ويقال أنه ليس لشيء من ذوات الأنياب ما للخنزير من القوة في نابه، حتى أنه يضرب به صاحب السيف والرمح فيقطع كل ما لاقى من جسده من عظم وعصب

وجاء في دائرة معارف البستاني أن الخنزير يمتاز بقوة أنيابه المعوجة، وإن منها نابين في الفك الأعلى ونابين في الفك الأسفل يقدر أن يجرح بها جراحاً غائرة، وهو في الغالب يضرب بها الأماكن الرخوة عند الهجوم عليه، كبطن الفرس والإنسان ونحوهما، وقيل أنه يتغلب أحياناً بأنيابه على الأسد

ثم ذكر أن الخنازير الآبدة أقوى وأضخم من الخنازير المستأنسة، وأنها أشرس منها طباعا، وأعظم أنيابا، وإنها تصطاد بالحمل عليها وهي في كهوفها، وبنصب الفخاخ لها ونحو ذلك، وقد تطارد بالكلاب إلى تقف مصادمة مطارديها، ويكون وقوفها عند رجلي الفرس، وكثيراً ما تتمكن من جرحه في ساقيه بنابيها المخيفين، وقد تأتي إلى جنب الفرس وتطعنه بنابيها في بطنه فتشقه قبل أن يتمكن منها راكبه، وبعض الخنازير في أمريكا إذا حمل إنسان أو وحش على القطيع منها يقف على شكل دائرة، ويدفع بأسنانه الحادة هجمات العدو عليه، وإن كان النمر الأمريكي المشهور بالقوة، وكثيرا ما تقتل هذه الخنازير الكلاب التي تستعمل في صيدها، وكثيراً ما تقتل صيادها أو تجرحه، وكثيراً ما تجاهر الناس العداء بشجاعة لا مزيد عليها، فحمل على الإنسان بدون أن يغيظها، إذا رأت كلباً غير متعود صيدها تحيط به حالاً وتقتله، وهي على العموم شديدة البأس، كثيرة الحمق

وقد ذكر أيضا أن للخنزير ستة أضراس أو سبعة في كل جانب من جوانبه، وأن الأمامية

ص: 49

منها تشبه أضراس آكلة اللحوم، أما الخلفية فتشبه أضراس الإنسان، وهذا يدل على أنه يأكل النبات واللحم

وكذلك ذكر الأستاذ أحمد ندى في كتابه (الحجج البينات في علم الحيوانات) أن الخنزير يسكن الغابات ويتغذى فيها بالجذور والثمار، ولكنه إذا فقد هذا الغذاء يصير آكل لحوم، فيفترس الحيوانات الحية، ويأكل من لحومها

وينقسم الخنزير إلى قسمين: خنزير بري وخنزير بحري. ومن الخنزير البحري نوع يسمى عند الفرنجة (بيروسا) أو الخنزير الملاسمي، ويوجد في جزائر الهند الشرقية، وهو شرس الطباع كالخنزير البري، قادر على السباحة طويلا. وقد ذكر الدميري في كتابه (حياة الحيوان) أن الخنزير البحري هو الدلفين على المشهور، وقد سئل مالك عنه فقال: أنتم تسمونه خنزيراً، يعني أن العرب لا تسميه بذلك، لأنه لا تعرف في البحر خنزيرا

(للبحث بقية)

عبد المتعال الصعيدي

المدرس بالقسم العام بمعهد طنطا

ص: 50

‌بين القاضي منصور الهروي

والوزير أبو سهل الزوزني

للأديب الفارسي عباس إقبال

ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام

مقدمة:

لما قامت الدولة العثمانية فاستولت على أسيا الصغرى والعراق العربي والشام وجزيرة العرب ومصر وشمال أفريقية تقطعت الأواصر العلمية والأدبية التي جمعت بين العهد العباسي بين المسلمين في الأقطار كلها من بخارى وسمرقند إلى القيروان ومراكش

اشتدت المنافسة الدينية والسياسية بين الصفويين في إيران وسلاطين آل عثمان في البلاد الإسلامية الأخرى وانتهت إلى العداء والحرب، فأقامت سدا منيعا بين مسلمي إيران وإخوانهم في الدين، فتقطع ما بينهم من روابط. فمسلمو الشرق الذين كان اهتمامهم بالفارسية يزيد يوماً بعد يوم بحكم الزمان، والذين كانوا ينصرفون عن العربية لزوال دولها المستقلة سلكوا طريقاً غير الطريق التي سلكها مسلمو الغرب تحت سيطرة الترك العثمانيين ولواء السلطان حامي مذهب أهل السنة والجماعة.

وكانت عاقبة هذا أن الإيراني حرم الاستفادة من المؤلفات التي كانت تكتب خارج حدود بلاده والكتب القديمة التي كانت مدخرة في غير وطنه. وكذلك حيل بين رعايا العثمانيين وبين آثار النهضة العلمية والأدبية في إيران. وزاد تعصب الفريقين هذه الفرقة على مر الزمان. واليوم وقد نهضت أهل مصر والشام لأحياء الآداب والمعارف الإسلامية، لا نزال نرى العلماء والأدباء على براءتهم من التعصب والحمد لله يهملون كل ما كتب بالفارسية - إحدى لغتي التمدن الإسلامي العظيمتين - ويصدفون عما كتبه علماء المذهب الشيعي - أحد المذهبين العظيمين في الإسلام. يتبين من مطالعة الكتب والمقالات التي يكتبها فحول الكتاب والمؤرخين في مصر والشام أنهم متمكنون في الآداب العربية وتاريخ الإسلام، بصيرون بكثير من الحقائق الراجعة إلى الإفرنج وآدابهم. حتى إذا عرض بحث عن إيران والآداب الفارسية، أو مذهب الشيعة كبا جوادهم وكثرت زلات أقلامهم. ونرى بعض هؤلاء

ص: 51

الكتاب يحاولون إلى المراجع الفارسية وهم يجهلون لغتها فيتوسلون إليها بالمراجع الأوروبية فيحرفون الأعلام حين ينقلونها من الحروف اللاتينية إلى الهجاء العربي تحريفاً يغير معالم التاريخ والجغرافيا

كتب أحد كتاب مصر (ونمسك عن ذكر اسمه إجلالا لمقام) ترجمة ناصر الدين شاه والوزير ميرزا تقي خان. وكان أخذه عن كتاب إنجليزي فكتب (نصر الدين) و (طاغي خان)، والذي يعرف العربية يدرك الفرق بين ناصر ونصر وتقي وطاغي. وللتحرز من مثل هذا اللبس عني العلماء المدققون من قبل بتأليف كتب مثل (المؤتلف والمختلف) و (والمشتبهات) و (المشترك) وغيرها. واجتهدوا في ضبط الإعلام وتعيين لفظها ورسمها.

وهذا الخلط والمسخ ظاهران في ترجمة دائرة المعارف الإسلامية التي تنشر في مصر الآن فهي مليئة بأغلاط من هذا القبيل لا يتيسر تعدادها.

إنما يريد الكاتب من هذه المقدمة أن يلفت أدباء العربية ومؤرخيها ومحققيها الذين يجتهدون في كشف حقائق التمدن الإسلامي على سنن المحققين من الفرنج، إلى هذه النكتة الدقيقة: وهي أن أمامهم مصدرين عظيمين لتكميل معارفهم في كل ما يرجع إلى التمدن الإسلامي - مصدرين لا يعنى بهما كثير من الباحثين على ما ضمنا من حقائق لا يظفر بها الباحث في الكتب العربية المعروفة. هذان المصدران هما الكتب الفارسية وكتب الشيعية التي ألفت في إيران بالعربية أو الفارسية

أرى كثيراً من فضلاء الشبان في مصر والشام يكتبون رسائل أو كتباً عن حكماء الإسلام وعلمائه ومؤرخيه فلا يستطيعون بلوغ الغاية في التحقيق بما جهلوا الفارسية فحرموا الاستفادة من الكتب في إيران. كيف يستطيع كاتب أن يحقق تاريخ ابن سينا وفلسفته وهو يغض الطرف عن كتبه الفارسية: (دانشامة علائي) و (رسالة نبضية) ومعراجنامه، أو عن اشعاره الفارسية. وكيف يستطيع أن يوفي البحث عن أبي الريحان البيروني وهو يغفل النسخة الفارسية من كتاب التفهيم في صناعة التنجيم وما كتبه عنه مؤلفو الفارسية القدماء مثل أبي الفضل البيهقي في تاريخ آل سبكتكين، ونظامي العروض للسمرقندي في جهار مقاله وفيه حقائق لا تلفى في كتب أخرى؟ ومثل هذا يقال عن كثير من العلماء أمثال الإمام فخر الدين الرازي، والعلامه قطب الدين الشيرازي، والإمام عمر الخيامي، وجار الله

ص: 52

الزمخشري، ورشيد الدين الوطواط، ونصير الدين الطوسي.

من ذا الذي يعنى بالتاريخ وما يحتاج إلى كتبه مثل تاريخ قم (وقد فقد اصله العربي، ولم يبق ألا جزء من ترجمته الفارسية) ومحاسن اصفهان لسعد الدين البافروخي، وكتاب الفهرس للطوسي، ومعالم العلماء لابن شهر اشوب، والفهرست للقمي، وكتاب الرجال للكشي، وكتاب الرجال للنجاشي، وكتاب الرجال الكبير للاستراباذي، وروضات الجنات للخونساري، وكلها من أمهات كتب الشيعة؟ أو كيف يغض الطرف عن كتب التاريخ الفارسية مثل جهانكت للجويني، وجامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الوزير، وتجزية الأمصار وتزجية الإعصار اعني تاريخ الوصاف، وزبدة التواريخ للحافظ ابرو، ومطلع السعدين لعبد الرزاق السمرقندي، وظفرنامه للنظام الشامي، وشرف الدين علي اليزدي، وحبيب السير، وروضة الصفا، ومجمع الأنساب، وتاريخ كراميره وكلها ثقة في التاريخ المغول وعصر تيمور؟

كل متأدب في العالم العربي سمع اسم أطباق الذهب لشرف الدين عبد المؤمن الأصفهاني، كتبه على نسق أطواق الذهب لأبي القاسم الزمخشري، وربما لا يوجد في هذه البلاد من يعلم أن شرف الدين المذكور (ويعرف باسم شرف الدين ابن شفروه) واحد من أشهر شعراء الفارسة له ترجمة في كل كتاب فارسي مترجم للشعراء. وكذلك كتاب الفخري لصفي الدين محمد بن علي بن الطقطي طبقت شهرته الأفاق، ولكن قليلا من فضلاء العربية من يعلم أن في الفارسية نسخة من هذا الكتاب اكثر تفصيلا كتبها هندوشاه النخجواني سنة 724، ويؤخذ من هذه النسخة الفارسية أن أسم كتاب الفخري الحقيقي:(منية الفضلاء في تواريخ الخلفاء والوزراء)

أرجو أن يعذرني القراء الكرام في تطويل هذه المقدمة التي يمكن أن يكتب في موضوعها كتاب والتي يرى القارئ فيها وفيما بعدها أن الفرع قد زاد على الأصل. أن عذري في هذه الإطالة رجائي أن يكون فيها بعض الفائدة

ومن أمثلة ما ذكرنا في المقدمة أعني الأمثلة التي تبين أن الكتب الفارسية تعين على إيضاح مسائل تاريخية ودقائق في الأدب العربي أو تتضمن أحيانا فوائد لا تلفى في الكتب العربية، قصة القاضي منصور الهروي أحد الشعراء النابهين في القرن الخامس الهجري

ص: 53

ومن ذوي الصيت الذائع في البلاد الإسلامية الشرقية في هذا العصر.

القاضي أبو أحمد منصور بن أبي منصور محمد الأزدي الدولي، المعروف بالقاضي منصور أو منصور الفقيه، ولي قضاء هرات في عهد الملوك الغزنويين، وكان منصب القضاء وراثة في أسرته. وكان القاضي مع هذا المقام الجليل، يمضي أكثر أيامه في مصاحبة أهل الطرب ومنادمة أخوان اللهو والتمتع بالعيش الرضي، والوجه الجميل، يرى طبعه الشاعر أن الحياة في السرور والطرب، وكأن لسان حاله بيتا شمس الدين محمد حافظ الشيرازي:

(صديقان أريبان، ومنوان من الخمر المعتقة، وفراغ، وكتاب وزاوية في المرح، لا أبيع هذا المقام بالدنيا والآخرة وأن يكن الناس قد اتخذوني إماما)

والقاضي منصور من معاصري أبن منصور الثعالبي مؤلف يتيمة الدهر وتلميذه أبي الحسن الباخرزي مؤلف دمية القصر، وقد أثبت هذان المؤلفان له ترجمة مختصرة ونبذة من شعره في يتيمة الدهر (4 - 243) وتتمة اليتيمة (46: 2 - 53) وفي دمية القصر (في ذيل شعراء خراسان)

وهذه نبذة مما كتبه الباخرزي:

وكان مغرى بالشراب، مغرما بالأطراب، يمناه متوجة بكاس الرحيق، ويسراه مقرطة بعروة الإبريق. وخمرياته مما يحكم له فيها بالفضل على الحكمي، وغزلياته مما يحصل بها مطاوعة الغزال الإبل)

وكذلك في معجم الأدباء طرف من أخباره وقطع من أشعاره (7 - 189 - 191) ويقول ياقوت إن القاضي منصور كان من مادحي القادر بالله (381 - 422) وأنه توفي سنة 440.

وفي تاريخ آل سبكتكين الذي ألفه بالفارسية أبو الفضل محمد بن الحسين البيهقي (385 - 470)، وهو من معاصري القاضي وأصدقائه، فصل ممتع في ترجمته لا يلفى في مصدر من المصادر المذكورة، ولا في غيره من المراجع المشهورة. ونحن نثبته هنا إفادة للقراء وإثباتا لدعوانا في المقدمة (طبع طهران ص599 - 601) يقول أبو الفضل البيهقي:

وكان بهرات رجل يقال له القاضي منصور له قدم في كل علم وفضل قد سكن إلى الشراب

ص: 54

واللهو، واخذ حظه من الدنيا الغادرة وجعل شعاره: خذ العيش، ودع الطيش. وكان ريحانة الأكابر لا يأنسون بمجلس لا يضمه. وكان صديقا لأبي سهل الزوزني قد أحكمت مودتهما أواصر الأدب. وكانا يتلازمان ويعكفان على المدام. بكر القاضي منصور يوماً إلى لهوه وشرابه، وأرسل إليه أبو سهل أبياتا، فأجاب بديهة على رويها؛ وأعاد أبو سهل الكتابة فأجاب أبو منصور ولم يحضر ومضى اليوم.

وهذه هي الأبيات التي كتبها الشيخ أبو سهل الزوزني:

أيها الصدر الذي دا

نت لغرته الرقاب

انتدب ترضى الندامى

هم على الدهر كتاب

وأَسغ غصة شرب

ليس يكفيها الشراب

واحضرن لطفا بناد

فيه للشوق التهاب

ودعا العذر وزرنا

أيها المحض اللباب

بينك المر عذاب

وسجاياك عذاب

إنما أنت غناء

وشراب وشباب

جودك المرجو بحر

فضلك الوافي سحاب

إنما الدنيا ظلام

ومعاليك شهاب

فأجابه القاضي في الوقت:

أيها الصدر السعيد

الماجد القرم اللباب

وجهك الوجه المضيء

رأيك الرائي الصواب

عندك الدنيا جميعا

وإليها لي مأب

ولقد أقعدني السك

ر وأعياني الجواب

في ذرى من قد حوى من

كل شيء يستطاب

ولو استطعت قسمت الج

سم قسمين لطاب

غير أني عاجز عن

هـ وقلبي ذو التهاب

فبسطت العذر عني

في أساطير الكتاب

وكتب إليه أيضا أبو سهل:

ص: 55

أيها الصدر تأن

ليس لي عنك ذهاب

كل ما عندك فخر

كل ما دونك عاب

وجهك البدر ولكن

بعد ما إنجاب السحاب

قربك المحبوب روض

صدك المكروه غاب

عذرك المقبول عندي

أبد الدهر يصاب

أنت إن أبت إلينا

فكما آب الشباب

أو كما كان على المح

ل من الغيث الضباب

بل كما ينتاش ميت

حين واراه التراب

فكتب منصور بعدما أدركه السكر:

نام رجلي مذ عبرت القنطره

فأقبلن إن شئت مني المعذره

إن هذا الكأس شيء عجب

كل من أغرق فيه أسكره

(باريس)

عباس إقبال

ص: 56

‌زهرة في مستهل الربيع

للأستاذ محمود الخفيف

قد بعثْتُ القديم من أحلامِي

إذ تَبَسَّمْتِ للربيع الجديد

يا ابنْةَ الصبح قد ثكلْتُ غرامي

وتأسَّيْتُ من زمان بعيد

ما لهذا النّدَى يزيد أوامي

ويُثير الجوى بقلبي الشهيد!

فيم أحْيَيْت بابتسامك وجدي

يا عروس الربيع رفقاً بقلبي

كيف أصبْو إلى جمالك وحدي

أيُّ حُسنٍ يخالج اليوم لبي؟

يتساوى القتاد والزهر عندي

وتناسيَّ ماضي العيشَ حسي

يوجعُ النفس أن ترى اليومَ حُسناً

كان بالأمس من بهيجِ رواها

تنظرُ العين لا ترى فيك معنىً

من معاني الجمال إلا شجاها

أغنْيِات المنى تألفن لحناً

صارَ للنفس من صميم أساها!

صوّرَت لي كآبة العيشْ حولي

عند لقياكِ كلّ معنى كئيبِ

ذائب الطل ليسَ عِنْدِي بِطَلٍّ

هو سَحُّ الجفون عند النحيب

وكأنّ الزمان مسَّكِ مثلي

بالضنّى كفهُ وبالتعذيب

إنَّ هذا النّماَء يوحي لنفسي

صوراً هُن من نسيج الفناء

سَوْفَ يُطوَى بهاؤه حين يمسي

يوْمَكِ الضاحكُ المديد الضياء

كلما زاد قلَّ رونق أمسْي

يا لموْتٍ رأيته في النَّماء!

هكذا يا ابنْة الربيع حياتي

غير أني معذَّبٌ بشعوري

حائر النفس بين ماض وآت

غاب في لُجَّةِ الزمان حبوري

سوْفَ تطوي يد المنية عمري

بعد أن يُطفئ الزمان شبابي

لِلوَنى والنحولِ في الدهر سيْري

لا ترى العينُ غيرَ لمع السراب

فسواء صبرْتُ أم رثّ صبري

وسواء مسرَّتي واكتئابي

فيكِ رمز لكل ما هو فانٍ

عابر لن يقيم إلا قليلا

يا عروس الربيع كم من معان

فيكِ زادت غليل قلبي غليلا

يا لقلبي ما طارقات زمان

لم تذَر لي في الكون معنىً جميلا

ص: 57

أنتِ كالعيش فتنة وغرور

وأمانيُّ كلها للنَّفاد

أنتِ كالحب نشوة وفتور

ورُؤى تَمَّحى بلا ميعاد

لمع كلهن مَيْن وزور

الليالي لهنَّ بالمرصاد

خيلت لي عيناي صورة أنس

برهة ثم خيلت لي ثبورا

ورأى القلب فيكِ موحش رَمْسٍ

يضحك الزهر فوقه منثورا

لَسواء زينت ساحة عرس

يا ابنة الصبح أم كسوت القبورا

موْتكِ الباكر المحتم يوحي

لفؤادي الهموم من كل جنس

كم صبي كالزهر غض صبوح

كالرياحين عوده طيب غرس

ناعم كالملاك رقة روح

موته يوجعُ القلوب ويؤسي!

كم فتيٍّ في ضحوة العمر ولى

مثلما متِّ، نابهٍ عبقريِّ

ومحيا من ضاحك الزهر أحلى

قد محاه الفناء قبل الذُّوِيِّ!

كنت ألقاك في الربيع فألقى

ألف معنى في سحر ذاك الشباب

يمعن الحس عند مرآك عمقاً

فأرى الروح من وراء حجاب

وكأني والقلب يسجد خفقاً

هيكل ليس ينتمي للتراب!

ينجلي فيكِ والزمان نضير

ومعاني الربيع تملأ نفسي

أمل ضاحك وعيش غرير

وطيوف تثير كامن حسي

كان لي منك في الصباح بشير

وأنيس إن غاب طائر أنسي

يا ابنة الصبح كم رأى الصبح مني

نظرات المتيم المسحور

من بنات الهديل أقبس لحني

حبذا السجع في صفاء البكور

وسطور الرياض تبهر عيني

فأملي بوشيهن سطوري

كان هذا الزمان حلماً تقضى

أي حلم خياله لن يزولا

أي حسن يبقى على الأرض غضاً

آية الحسن أنه لن يطولا

كم قطعت الرياض طولا وعرضاً

فرأيتَ النماء ثم الذبولا

يا ابنة الصبح قد ذكرت زماني

حين أومأت في رواء بديع

كل شيء بعثت إلا الأماني

أفلا كنت مثل هذا الربيع؟

ص: 58

الخفيف

ص: 59

‌البَريد الأدَبيّ

مظاهر علمية خطيرة:

تفيض الصحف الإنكليزية في التعليق على موقف الجامعات الإنكليزية من الدعوة التي وجهت إليها من جامعة تبنجن الألمانية للاشتراك في عيدها الذي سيقام في يونيه القادم احتفاء بانقضاء مائتي عام تأسيسها، فقد قررت الجامعات الإنكليزية كلها أن تعتذر عن قبول الدعوة وأن تقاطع هذا الاحتفال، ويقولون إن الجامعات الأمريكية قد تحذو حذو الجامعات الإنكليزية في هذه المقاطعة. وقد كان لهذه المقاطعة العلمية وقع عميق في ألمانيا. وقد شرحت الصحف الإنكليزية موقف الجامعات الإنكليزية، فقالت إنه لا يرجع إلى أية بواعث سياسية، ولا يرجع بالأخص إلى أية خصومة نحو ألمانيا أو الشعب الألماني، ولكنه يرجع إلى بواعث علمية محضة، ذلك أن ألمانيا الهتلرية قد أخضعت العلم للسياسة وبالغت في اضطهاد الفكر، وجعلت من الجامعات الألمانية أدوات للدعاية السياسية والجنسية، وسحقت بذلك هيبة العلم وثلت تراث الجامعات الألمانية، وقد كانت في مقدمة جامعات العالم صيتاً وهيبة؛ ولم تبق الجامعات الألمانية كما كانت قبل قيام الحكم الهتلري منابر الإعلان الحقائق العلمية، بل غدت منابر لبث النظريات العنصرية والسياسية والجرمانية الجديدة وتسخير الحقائق العلمية لخدمة مزاعم سادة ألمانيا الجددَ ومبادئهم المفرقة. وقد علقت مجلة (سبكتاتور) الإنكليزية على هذا الحادث بمقال رنان استعرضت فيه حالة التفكير الألماني الحاضر وما انتهى إليه في ظل الطغيان الهتلري من الانحلال، وأشارت بهذه المناسبة إلى ما صرح به وزير المعارف الألمانية في العام الماضي في الاحتفال بعيد جامعة هيدلبرج، من (أن العلم الألماني الجديد يرفض المبدأ القائل بأن شرف العلم وغايته ينحصران في البحث عن الحقيقة دائماً)؛ وأشارت إلى ما وقع في العهد الحاضر من تخريب الجامعات وتشريد الأساتذة بسبب كونهم من اليهود، أو لأنهم من خصوم النظام الحاضر حتى بلغ ما طرد منهم في الأعوام الثلاثة الأخيرة أكثر من ألف وسبعمائة أستاذ بينهم فطاحل العلم الألماني في كل فن وضرب.

وهذه أول مظاهرة دولية عالمية خطيرة ضد ألمانيا الهتلرية وسيكون لها بلا ريب مغزاها العميق في الحكم على المبادئ والمزاعم المفرقة التي تتخذها ألمانيا النازية شعاراً لها

ص: 60

وخصوصاً في المسائل العلمية التي تعتبر بالإجماع مسائل إنسانية تهم العالم بأسره، ولا يمكن أن تدعي فيها أية أمة أو دولة شيئاً من الاختصاص، ولا يمكن أن تسيرها سوى المباحث والحقائق المجردة عن كل اعتبار قومي أو جنسي أو سياسي.

كتاب عن الواحات المصرية النائية

أصدرت الجمعية الجغرافية الملكية المصرية أخيرا مؤلفا جديدا بالفرنسية عنوانه (الاكتشافات الأخيرة في صحراء لوبية) بقلم الكونت الماسي الرحالة المعروف؛ وفيه يقص المؤلف محاولاته لاستكشاف واحة (زرزورة) وهو اسم كان يجري على الألسن مجرى الأسطورة؛ وكان أول أوربي ذكره هو الرحالة الإنكليزي ولكنسون في كتابه الذي صدر سنة 1835، وهو يصف الاسم بأنه علم على واحة تقع بعيدا فيما وراء الواحات المصرية الغربية؛ وأسفرت الاكتشافات الصخرية في الأعوام الأخيرة عن اكتشاف صحراء (العوينات)، التي لم تكن معروفة في الناحية المصرية من الصحراء؛ وكان عرب الواحات المصرية يعتقدون أنه ليس بعد واحاتهم أي واحة أو بقعة خضراء أخرى تجاه الغرب. ثم اكتشفت واحة الكفرة بواسطة عرب من قبيلة الزاوية التي نزحت من برقة استطاعوا الاتصال ببعض سكان صحراء تيبو المجاورة. وفي سنة 1923 قام البرنس كمال الدين برحلته الأولى إلى العوينات، وتبعه بعد ذلك السير جلبرت كلايتون واكتشف كلاهما بعض الأودية الجديدة. وفي سنة 1933 قام الكونت الماسي برحلة أخرى إلى واحة العيونات، واتصل في واحة الكفرة ببعض زنوج تيبو، واكتشف بواسطتهم بعض وديان أخرى. ويستعرض المؤلف هذه الرحلات الصحراوية الشائقة، ويورد بعض النصوص والمقارنات التاريخية القديمة من أقوال هيرودوتوس وغيره، ويورد صورا لبعض النقوش العتيقة التي عثر عليها في بعض صخور الصحراء

الفن المصري القديم

صدرت أخيراً طبعة إنكليزية لكتاب الفن المصري القديم تأليف الدكتور هيرمان رانكه العلامة الأثري. وأهمية هذه الطبعة في أنها تسهل على القارئ اقتناء هذا السفر وقد كان من قبل بطبعته الألمانية التي أصدرتها شركة فيدون النمسوية الشهيرة محجوبا عن القارئ

ص: 61

لارتفاع ثمنه إلى بضعة جنيهات للنسخة الواحدة، إذ تعتبر الطبعة الألمانية من حيث الصورة الفنية والتلوين تحفة فنية لا يستطيع اقتناءها سوى الهواة ودور الكتب. أما الطبعة الإنكليزية فمع أنها قد احتوت جميع اللوحات والصور الفنية فإن ثمنها لا يتجاوز ثمانية شلنات

ويحتوي الكتاب على تاريخ للفن المصري القديم بقلم الدكتور رانكه وعلى موجز لتاريخ مصر الفرعونية، وبه 340 لوحة وصورة فنية، منها صورة بديعة لرأس الملكة نفرتيتي تبين بوضوح سحابة عينها اليسرى وهو عيب لا يبدو في الصورة الجانبية، وصور عديدة لأبدع التماثيل والرسوم الفرعونية الشهيرة؛ وفي الاستعراض النقدي الذي يقدمه الدكتور رانكه عن الفن المصري القديم مقارنات وملاحظات قيمة جداً من الوجهة العلمية والفنية

كتاب للمرشال دي بونو عن الحرب الحبشية

شغلت الأوساط السياسية والأدبية في أوروبا هذه الأيام بالكتاب الخطير الذي ووضعه المارشال دي بونو أول قائد عام في الحملة الإيطالية على الحبشة عن هذه الحرب وأسماه (العام الثالث عشر، الاستيلاء على إمبراطورية) وسر الضجة العظيمة التي أثارها هذا الكتاب هو ما حواه من أسرار واعترافات عن تأهب إيطالية للحملة قبل ظهور الذرائع التي تذرعت بها لإرسال جيوشها والاصطدام بالأحباش، ثم ما جاء فيه عن الأساليب التي اتبعها للتمهيد للفوز في الحرب. فقد اعترف بأنه وضع مع السنيور موسوليني خطة الحرب من سنة 1933 وجعلاها سراً بينهما لكيلا يطلع عليها الجمهور فيقاوم الفكرة؛ ثم بين ما دفعته إيطالية الرشى لاشتراء بعض الأحباش والجواسيس الذين بثهم في أرجاء الإمبراطورية فصار يعرف كل كبيرة وصغيرة فيها. وأشار أن إيطاليا أنفقت في هذا الباب بسخاء عظيم وقد أفادتها الدعاية فحرمت الإمبراطورية من حوالي 200 ، 000 محارب

ويسهب دي بونو في وصف الاستعدادات العظيمة التي قامت بها إيطاليا قبل الحملة سرا أو كيف زادت قواتها في الإريترية وأنشأت المطارات وأرسلت الطيارات للاستكشاف على الأراضي الحبشية وأخذ الصور.

والظاهر أن إيطاليا كانت متوقعة أن تعلنها بريطانيا بالحرب فقد أشار إلى أن موسوليني أرسل إليه قبيل الحملة يأمره أن يوقف الحرب الحبشية إذا أعلنت بريطانيا الحرب والتزام

ص: 62

الدفاع عن الإريترية.

والكتاب مصدر بمقدمة من السنيور موسوليني نفسه

المبرد

من مزايا ابن خلكان في كتابه ضبط الأسماء وقد قال:

(والمبرد بضم الميم وفتح الباء الموحدة والراء المشددة وبعدها دال مهملة وهو لقب عرف به. واختلف العلماء في سبب تلقيبه بذلك) ثم ذكر قصة (المزملة) التي أوردها ابن الجوزي في (كتاب الألقاب) وان صحت رواية في (إرشاد الأريب) وهي (لما صنف المازني كتاب الألف واللام سأل (المبرد) عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له المازني: قم فأنت المبرد (بكسر الراء) أي المثبت لحق فحرفه الكوفيون وفتحوا الراء - فإن صح ذلك فقد غلب عليه اللقب المحرف على أن ابن خلكان يقول أن الذي لقبه بالمبرد (بفتح الراء) هو شيخه أبو عثمان المازني. مما يثبت قول (وفيات الأعيان) هذه الطرفة: (لقي برد الخيار المغني أبا العباس المبرد في يوم ثلج بالجسر فقال له: أنت المبرد وأنا برد الخيار واليوم كما ترى، اعبر بنا لا يهلك الناس من الفالج بسببنا).

أحد القراء

تركية تحي ذكرى الفيلسوف العظيم ابن سينا

نشطت اللجنة التي تألفت أخيراً برعاية جمعية التاريخ التركي وبرآسة نائب سيواس في المجلس الوطني الكبير شمس الدين وعضوية كبار العلماء المشتغلين في جمعية التاريخ التركي في اتخاذ التدابير اللازمة للاحتفال بذكرى وفاة الحكيم الفيلسوف ابن سينا، وذلك في يوم 20 يونيه القادم إذ يصادف ذلك اليوم بلوغ وفاة الفيلسوف الأشهر العام التسعمائة. وستقام هذه الحفلة الكبرى في أبهاء الجامعة التركية بعد إنجاز جميع المعدات

وتشير جريدة قورون التركية إلى هذا الاحتفال الممتاز قائلة:

(إن الفيلسوف ابن سينا الذي طبقت شهرته الشرق والغرب، كان أبوه من بخارى، وأمه من بلخ، فهو ولا ريب كان تركياً؛ بيد أنه لما كانت اللغة العربية على عهده هي لغة الثقافة في العالم الإسلامي قاطبة فقد كتب ابن سينا جميع تآليفه بالعربية باستثناء مؤلفين وضعهما

ص: 63

باللغة الفارسية.

أما تآليف ابن سينا فتقسم إلى ثلاثة أقسام كبيرة: الطب والفلسفة والأخلاق، ويؤلف كل من هذه الأقسام الثلاثة مجلدات ضخمة، وكتابه الموضوع في الطب باسم (القانون) قد ترجم إلى اللغة التركية ترجمه عالم تركي يدعى توقاتلي مصطفى؛ وهذه الترجمة موجودة اليوم في مكتبة بايزيد وهي مكتوبة بالخط وفي مجلدات يبلغ عددها العشرين مجلداً

وإننا لمغتبطون جداً لانصراف الهمة إلى طبع كتاب ابن سينا (القانون) طبعا جديدا لمناسبة الاحتفال بذكراه. وستنشر لجنة الحفلة مؤلفا تضمنه شخصية ابن سينا العلمية والفلسفية تشرف على تأليف طائفة من كبار العلماء المتضلعين في الطب والفلسفة والأخلاق. وستعرض في الحفلة تآليف ابن سينا المطبوعة والمخطوطة)

ص: 64

‌النقد

إسماعيل المفترى عليه

تأليف القاضي بيير كربتيس

وترجمة الأستاذ فؤاد صروف

- 2 -

ذكرنا في العدد السابق المبادئ الأساسية التي يجب أن يتقيد بها كل مترجم والتي يحكم بمقتضاها على ترجمته. واليوم ننتقل إلى الترجمة نفسها؛ ونحب قبل هذا أن نذكر للأستاذ حسنة من حسناته وهي إصلاحه خطأ مطبعياً وقع في الكتاب. ذلك أن اسم محمود باشا وزير البحرية قد حرف مرة فكتب (محمد باشا) فتدارك الأستاذ هذه الغلطة وذكر اسمه الصحيح

كذلك أصلح الأستاذ غلطة مطبعية أخرى وهي قول المؤلف عند الكلام على امتياز القناة إنه لا يحق لأحد من حملة الأسهم أن يكون له أكثر من صوت واحد فأصلح المترجم ذلك إلى عشرة أصوات كما ورد في الأصل الإنجليزي بعد سطور قلائل

وإذا رجعنا بعد ذلك إلى الكتاب المترجم لم نجد الأستاذ صروف قد وفى بالشرط الأول؛ ولسنا نريد أن نقول إن الأستاذ غير ملم بتاريخ إسماعيل وكل ما يتعلق به. كلا إنا نعتقد أنه ليس في الكتاب المصريين ولاسيما رجال الصحافة من لا يعرف تاريخ إسماعيل، ولكن الأستاذ لسبب ما لم يكلف نفسه عناء البحث عن صحة الأسماء وبخاصة الأسماء التركية فحرف بعضها تحريفاً يضل القارئ ويربكه؛ وبدل أن يرجع إلى المصادر المطولة ليحقق هذه الأسماء وضع بدلها أسماء من عنده كثير منها لا يتسمى به الأتراك.

وقد تكون هذه الأسماء للأشخاص نكرات ولكن هذا لا يعفي المترجم من البحث عنها وضبطها؛ والأتراك في مصر كثيرون ومن السهل على الأستاذ أن يعرف حقيقة الأسماء منهم إذا لم يشأ أن يرجع إلى الوثائق التي وردت فيها أو إلى كتب التاريخ نفسها؛ وبعض هذه الأسماء لرجال شغلوا أكبر مناصب الدولة ولم يكن يليق والحالة هذه أن تحرف. والى القارئ مثل واحد من هذا النوع يدل على الفرق بين الأسماء الأصلية والأسماء التي

ص: 65

أوردها الأستاذ. ذكر المؤلف اسم أحد الأتراك الفارين من الاضطهاد وكتبه هكذا وبدل أن يحقق الأستاذ هذا الاسم ليعرف أن صاحبه هو علي سعاوي أفندي، كتبه موافي أفندي مع أن الحروف الإنجليزية أقرب ما تكون إلى الاسم التركي، وأمثلة هذا كثيرة. كذلك لم يتقيد الأستاذ بالمصطلحات العلمية الدقيقة الصحيحة واخترع بدلها ألفاظاً من عنده لا يقبلها الذوق فسمى الدين السائر بالدين العائم وذكر هذا اللفظ الأخير في مواضع متعددة مع أنه قد استعمل اللفظ الصحيح الأول مرة في الترجمة ولا ندري لم عدل عنه واستبدل به اللفظ الآخر. وسنذكر هذا كله مفصلا فيما بعد

تنتقل بعد ذلك للأمانة والدقة في الترجمة ومطابقة الكتاب المترجم للأصل فنقول إن الأستاذ لم يكن موفقا في هذه الناحية أيضاً فلم يحرص على معاني المؤلف بل تناولها بالحذف والتغيير بغير سبب؛ فالعبارات التي تحتاج إلى شيء من العناية لفهمها أو التعبير عنها قد حذفها أو بدلها، وكثيرا ما وضع بدلها عبارات تؤدي عكس المعنى المراد، بل إن كثيراً من العبارات السهلة العادية قد نالها أيضاً ما نال أخواتها الصعبة. وسيرى القارئ فيما بعد أمثلة من ذلك.

أما أسلوب الكتاب فيختلف باختلاف أجزائه، فالجمل في بعض أجزائه مرتبطة متصلة وفي البعض الأخر مفككة منقطعة العلاقة، وحروف العطف التي استعملها لربط هذه الجمل لا تظهر هذه الصلة؛ ويشعر القارئ وهو يطالع الفصول الأخيرة من الكتاب بنوع خاص أنه يقرأ جملا مترجمة منفصلة لا موضوعا تاريخياً مرتبط الأجزاء.

وأما التشبيهات والأمثال الواردة في الكتاب فقد ترجم الأستاذ الكثير منها ترجمة لفظية سببت غموض المعنى مع أن اللغة العربية كما قلنا غنية من هذه الناحية، ويستطيع الباحث أن يجد فيها ما يغنيه عن هذه الترجمة في معظم الأحيان. وبعضها قد حذفه الأستاذ ولم يترجم لفظه أو معناه هذه كلمة مجملة عن الترجمة ننتقل بعدها إلى بيان الأغلاط التي وقعت فيها. وكنا نحب أن نقسمها أنواعا ونذكر كل نوع على حدة، ولكننا وجدنا في ذلك عناء ووجدنا وقتنا أضيق من أن يتسع إلى هذا الترتيب، ولذلك سنذكر أغلاط كل فصل مجتمعة. وقد أحصينا أغلاط الفصول الأولى من الكتاب فوجدناها لا تقل عن خمسين في كل فصل لا تدخل فيها عيوب الأسلوب

ص: 66

وسنكتفي بذكر أمثلة منها:

(1)

قال الأستاذ صروف مشيراً إلى الفرمان الذي انتزعه محمد علي من السلطان أنه (يقضي باحترام شعائر الإسلام) بنصه على أن وراثة العرش تكون لأكبر أفراد الأسرة. وليس هذا من شعائر الإسلام في شيء ولم يقل المؤلف ذلك بل قال إنه يقضي باحترام التقاليد الإسلامية وفرق بين التقاليد والشعائر

(2)

وترجم الأستاذ بالجهل ومعناها الحقيقي الغباوة أو عدم الفطنة

(3)

وترجم بقوله أنه كان يكره (كل ما هو غربي) وهذا تعميم لم يقله المؤلف بل قال أنه يكره الحضارة الغربية

(4)

وترجم عبارة برواية هزلية وإذا صح ترجمة هزلية فأين ترجمة وهي تؤدي معنى جديدا هو الذي ينطبق على هذه المهزلة، وهل غاب عن الأستاذ لفظ مروعة أو رهيبة أو نحوهما

(5)

اقتصر الأستاذ في ترجمة هذه العبارة كلها على قوله (ووصلا إلى القاهرة من دون أن يدري أحد بالحقيقة) وإذا فرضنا أن عبارة من دون أن يدري أحد بالحقيقة تؤدي معنى ما لا نسلم به فأين ترجمة مع رفيقه الصامت يريد جثة الوالي.

(6)

ترجم الأستاذ هذه العبارة بقوله: إن عباسا (أعتاد أن يسير في طريقه لا يلتفت يمنة ولا يسرة) ولا ندري كيف يستطيع الوالي أن يسير في الطريق دون أن يلتفت يمنة ولا يسرة. وهل هو جندي في ميدان التمرين؟ وليس في العبارة الإنجليزية من الغموض ما يعذر الأستاذ معه على هذا الخطأ في ترجمتها بل هي سهلة لا لبس فيها ولا غموض ومعناها (وساعده على ذلك ما عرف عن سيده من كرهه رؤية الناس إياه)

(7)

،

ترجم الأستاذ العبارة السابقة بقوله (أمر بتصويب مدافعها إلى مدينة القاهرة وكانت تحرسها حامية قوية) والمؤلف لم يقل إن حامية القلعة كانت قوية بل قال إنه (عزز حامية القلعة)

(8)

- ' '

ص: 67

ترجم الأستاذ هذا المعنى كله بقوله (وكان الأمير إلهامي هذا ابن عباس باشا الأكبر) ولا ندري لم أغفل الأستاذ كل ما في العبارة الإنجليزية من معان لم يذكرها كاتبها عبثاً وهل صعوبة ترجمتها تبرر هذا الإغفال؟

(9)

قال الأستاذ في ترجمة ذلك (لولا الضغط السياسي الذي أعاد محافظ القاهرة إلى صوابه وأوقع الفشل في فؤاده) فهل هذا هو المعنى؟ أو أن معنى عبارة المؤلف (لولا قوة دبلوماسية (أو سياسية إذا شاء) أشعرت المحافظ الدساس خشية الله.

(10)

. . ، ،

ترجمت هذه العبارة هكذا: وأمر أن يتسلق صاري أحد المراكب. . . ثم يقفز من الصاري إلى الماء ويسبح زمنا! فهل معنى يقفز من الصاري إلى الماء وهل معنى يسبح في الماء؟

(11)

'. .

ترجمت هذه العبارة هكذا (ومنعه من زيارة أي منزل من منازل العامة) فأضاف العامة من عنده وجعل القارئ يفهم أنه كان يسمح له بزيارة منازل الخاصة. ثم أين سبب هذا المنع وهو حرص محمد علي على أخلاق سعيد؟

(12)

. .

لم يترجم الأستاذ أول هذه الجملة وآخرها واكتفى بترجمة وسطها وكلاهما يؤدي معنى؛ فالجزء الأول يشير إلى أن دلسبس وسعيد كانا يمرحان في مسرات الحي اللاتيني بباريس، والثاني يدل على أن برزخ السويس لم يكن قد استرعى نظره.

(13)

قال الأستاذ في ترجمة ذلك (ولبث دلسبس يترقب الفرص) ولكن أين قول المؤلف إنه لم يكن يتولى منصباً أو يقوم بعمل معين. وهل صعوبة هذه العبارة تبرر حذفها؟

(14)

كل ما ترجم به الأستاذ هذه العبارة هو قوله (لكي تصبح فرنسا سيدة البحار) وترك الجزء المهم وهو قول المؤلف (بسيطرتها على هذا الطريق المائي ذي المركز الحربي الخطير)

ص: 68

(15)

، -

اقتصر في ترجمة العبارة السابقة على قوله (كانت غايته المباشرة أن. .) وترك الصفات التي وصف بها المؤلف هذه الغاية؟

(16)

قال الأستاذ صروف في ترجمة هذه العبارة وخيل إلي وأنا أنظر إلى السماء أنني أرى قوس قزح ذات جمال باهر.

فهل خيل إليه أنه رأى قوس قزح أو أنه رأى قوس قزح حقا؟ وأين هذه العبارة العربية من عبارة المؤلف المنقولة عن دلسبس نفسه والتي يقول فيها (ثم ظهرت على حين غفلة ندأة في السماء امتدت من الشرق إلى الغرب وكانت ذات جمال خلاب افتتن به ناظري) وكل ما وصف به دلسبس هذه الحادثة في حاجة إلى أسلوب غير الأسلوب الذي ترجمه به الأستاذ صروف.

(17)

وصف المؤلف موقف محمد علي من قناة السويس والتجارة الأوربية الهندية بقوله:

-

أي أنه لم يكن من أولئك الذين لا يفعلون الخير ويمنعون غيرهم من فعله وقد ترك الأستاذ العبارة من غير أن يحاول ترجمتها

(18)

قال الأستاذ صروف في ترجمة هذه الجملة (ومرت بمخيلتي صورة ترعة السويس بسرعة البرق) ومعنى العبارة بالضبط (وأخذت أفكاري وأبحاثي عن قناة السويس تمر بخاطري سراعا)

(19)

عرب الأستاذ بسرقسطة فنقلها بذلك مكان

(20)

(قال في ترجمتها وذهب الأستاذ هلبرج مذهبا يتفق وما ذهب إليه القاضي الهولندي الذي تقدمت الإشارة إليه) فأين هذا من عبارة المؤلف التي يقول فيها (إنه يتفق في الرأي مع القاضي المستقيل والأمير المخلوع) ويقصد بالأمير المخلوع سمو الخديو السابق

ص: 69

(21)

تركها الأستاذ من غير ترجمة

(22)

'

ترجمت هذه العبارة هكذا (إنه كان أزهد الناس في العالم). فهل هذا هو معنى العبارة الفرنسية. أترك الجواب عن ذلك إلى الأستاذ الكبير صاحب الرسالة.

(23)

لم يحاول الأستاذ صروف ترجمة هذه العبارة على سهولتها ووضوح معناها الذي لم تسبق الإشارة إليه في الكتاب

(24)

ترجم الأستاذ هذه العبارة بقوله (فالحكم عليه يجب أن يكون مع مراعاة هذا الاعتبار) والمؤلف يقول إن الحكم عليه يحتاج إلى موازين أخرى (غير الموازين التي توزن بها أعمال دلسبس) فأيهما أوضح؟

(25)

، ، ،

لم نعثر في الكتاب على ترجمة هذه العبارة فهل هي خالية من المعنى أو أن معناها لا يستحق الترجمة؟

(26)

(وأن رئيس دولة يمنح أحد رعاياه امتيازاً) زاد الأستاذ من عنده على عبارة المؤلف قوله (أحد رعاياه) وهي زيادة لا مبرر لها أفسدت المعنى ولا ندري ما الذي دعا الأستاذ إليها وهو الذي حذف من عبارات المؤلف ما حذف

(27)

هل معنى هذه العبارة هو (ويسيء إلى ذكراه بنفسه) كما قال الأستاذ صروف أو أن معناها هو (ويكشف عن خبيئة أخلاقه) قد يقول الأستاذ صروف إن هذه العبارة هي وما قبلها (يقضي على طيب أحدوثته) ترجمة لقول المؤلف

وفي هذه الحال يكون قد ترك العبارة الثانية من غير ترجمة

(28)

لم يزد الأستاذ في ترجمة هذه العبارة على قوله (اليوم الذي سبقت الإشارة إليه) فهل هذه

ص: 70

العبارة الغامضة تؤدي معنى عبارة المؤلف

(29)

لم ير الأستاذ أن هذا المعنى يستحق الترجمة فتركه

هذه طائفة من أغلاط الفصل الأول من كتاب إسماعيل ذكرناها على سبيل المثل نضعها أمام القراء حتى لا يخفى عليهم ما كتبه المؤلف نفسه؛ ونقول بعد ذلك إنصافاً للأستاذ صروف أن أسلوب هذا الفصل ليس فيه من التعقيد ما في الفصول الأخيرة

وسنذكر في العدد التالي أغلاط الفصل الثاني إن شاء الله

الغنيمي

ص: 71

‌الكتب

(1)

الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية

تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان

(2)

من حديث الشرق والغرب

تأليف الدكتور محمد عوض

للأستاذ محمود الخفيف

هما كتابان، أشعر بكثير من الغبطة إذ أقدمهما للقراء على صفحات الرسالة، ذلك لأني أرى في كليهما مظهراً من مظاهر الحركة الفكرية الحديثة في مصر، جديراً بالاعتبار والعناية.

أما أولهما فأثر جديد من آثار الأستاذ عنان، والأستاذ عنان كما أعتقد، قد أصبح بآثاره وبحوثه ناحية مستقلة في نهضة التأليف المعاصرة، ذلك أن آثاره تمتاز جميعاً بما تمتاز به الآثار العلمية القيمة، من دقة البحث، مع استقامة النهج ووضوح الغاية، وقوة الأسلوب؛ هذا إلى أصالة وسلامة منطق وبسطة في العلم، تظهر كلها واضحة في تمحيص الروايات المختلفة فيما يعرض الأستاذ من حوادث وفيما يسرد من وجوه الرأي.

عرفنا له تلك الخلال فيما سلف من آثاره، وإنا لنراها اليوم على خير ما يرجى من كتابه هذا، فهو يدور حول موضوع كان ولازال مثار الجدل الشديد ومبعث التناقض والاضطراب؛ ومن ثم فهو موضوع تظهر فيه مدى قوة المؤلف ونشاط ذهنه، وحسبك الحاكم بأمر الله وحوادث عصره، وما اكتنف شخصه من غموض وخفاء.

على أن الكتاب لا يدور كله على الحاكم، بل إن نصيب الحاكم منه لا يزيد على نصفه بكثير. ولقد أحسن الأستاذ صنعا، إذ جعل بقية الكتاب لدراسة أسرار الدعوة الفاطمية وخواص العصر الفاطمي، هذا إلى ما أورده الأستاذ في نهاية كتابه من الوثائق والسجلات الفاطمية.

مهد الأستاذ عنان لبحثه بمقدمة موجزة متينة عن حال مصر قبيل الفتح الفاطمي، ثم بكلمة عن نشأة تلك الدولة في مهدها، وذكر بعد ذلك فتح مصر وأورد طرفاً من سيرتي المعز

ص: 72

والعزيز، كل ذلك في إحكام المؤرخ المتمكن الذي يستطيع على رغم الإيجاز أن يمهد السبيل لموضوعه خير تمهيد.

تناول الأستاذ بعد ذلك سيرة الحاكم، وشرح في جزالة ووضوح خلاله وصفاته وما لجأ إليه من سفك الدماء وما أقام من مراسيم اجتماعية ودينية، وما اكتنف الدولة من الأحداث الخارجية، ثم ما كان من أمر اختفائه، ويعجبك منه في هذا القسم من كتابه مهارة مناقشته الروايات المختلفة ودقة التعليق عليها، تتبين ذلك في مثل شرحه لنسب الحاكم وأخته ست الملك، ثم فيما أورد من روايات عن صفاته ومزاجه وأخيرا في حادث اختفائه.

على أن أهم الأشياء عندي في الكتاب وأولاها بالدرس والاعتبار، هو رأي الأستاذ المؤلف في الحاكم وصفاته، وهو رأي لم يسبقه إليه غيره فيما أعرف، فالأستاذ لا يرى في الحاكم ما اعتاد المؤرخون أن يروا فيه من رجل معتوه أخرق، يبطش لمجرد البطش، ويصدر من الأحكام الغريبة ما يدل على شذوذ وحمق. بل إنه على العكس يراه مصلحاً من كبار المصلحين، كانت أعماله التي اعتاد الناس استنكارها وسائله إلى ما يتوخى من إصلاح لا أكثر من ذلك ولا أقل: نعم كان الحاكم عنده (ذهناً بعيد الغور، وافر الابتكار، وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل، وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق)

والأستاذ لا يرسل القول جزافاً، وكيف يقع لمن كانت له مثل متانة حجته وحصافة رأيه أن يجازف برأي؟ وإنما راح الأستاذ يدافع عن رأيه هذا دفاعا قوياً يبهرك ويستميلك. أليس القتل والطغيان هما من أقوى وسائل الديكتاوريات الحديثة في إقامة نظمها؟ ثم أليست سياسة الحاكم هي السياسة الميكيافيلية التي قد يلجأ إليها كثير من الحكومات في شتى الظروف؟ أليس الحد من حرية النساء مما تلجأ إليه اليوم ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية من وسائل محاربة الخلاعة والفجور اللذين يؤديان إلى انحلال المجتمع؟ إلى غير ذلك من حجج الأستاذ وآرائه النيرة الظريفة التي تشوقك وتلذك. والأستاذ لا يبرر بها مسلك الحاكم كما استدرك، ولكنه يدفع بها ما اتهم به.

بيد أني وإن أعجبتني تلك الآراء واستمالتني في كثير من المواقف، قد أحسست شيئاً من الصعوبة في أن أحمل نفسي على الأخذ ببعضها. نعم رأيت مشقة في أن أنفي الشذوذ بل

ص: 73

الجنون عن شخص يحرم الجرجير لأنه ينسب إلى السيدة عائشة، والملوخية من أجل معاوية، والمتوكلية من أجل الخليفة المتوكل العباسي؟ وكيف أسيغ تشجيعه الدعوة الإلحادية؟ وعلى أي أساس من العقل أحمل قتله قائده الفضل بعد أن هزم أبا ركوة الذي احتل مصر؟ بل كيف يجوز في عقل خروجه ليلا إلى الجبل على ظهر حماره في غير قوة تحميه على الرغم مما كان يضطرم به المجتمع يومئذ من الرغبة في الانتقاض عليه والتخلص من طغيانه.

على أن الأستاذ يصرح في نزاهة المؤرخ وإنصافه (أنه ليس يدعي أنه يستطيع أن يعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ينفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك كثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله)

وقصارى في هذا المجال الضيق أن أعلن إعجابي بهذا الكتاب، وأن أنوه بما أفدته من دراسة أسرار الدعوة الفاطمية ونواحي العصر الفاطمي، ذلك العصر الفذ الذي تجد من آثاره الأزهر المعمور - دراسة لم أظفر بمثلها فيما كتب حديثاً عن الدولة الفاطمية. وكم كان عظيما من الأستاذ عنان ذلك الجهد المرير الذي تستبينه فيما يشير إليه من مراجع مكتوبة وخطية ليس ثمة من يستوعبها إلا من كان له مثل جلده ودأبه وإخلاصه. ولا عجب أن جاء كتابه مظهراً من مظاهر الجد والقوة في نهضتنا الأدبية، وهو مطبوع طبعاً جميلا في دار النشر الحديث ويقع في مائتين وست وسبعين صفحة من القطع الكبير، بآخره ثبت حافل للمصادر، وفهرس أبجدي عام

- 2 -

يأتي بعد ذلك الكتاب الثاني (من حديث الشرق والغرب) للدكتور عوض، وأحب أن أتخطى الكتاب إلى صاحبه برهة فأعرض عليك طرفاً من خلاله، لا أرى مندوحة عن عرضه في مثل ذلك المقام. الدكتور المؤلف بما له من مكانة في حياتنا الأدبية غني عن التعريف، ولكني أذكر لمن لم يعرفه إلا في آثاره أن من أبرز صفاته الذكاء الحاد وعذوبة الروح ومحبة الأدب حباً صادقاً، حتى لو أنه حاول بكل ما في وسعه أن يهجر الأدب لما استطاع ذلك الهجران؛ محدث ماهر طلي الحديث، يميل إلى الفكاهة ولكنها الفكاهة التي يتخللها الجد المرير في غالب المواقف؛ يحب قومه وبلاده حباً مؤكداً؛ مثقف من الطراز الأول في

ص: 74

الأدبين العربي والغربي

ذكرت من خلاله ما ذكرت لأمر يعنيني الساعة، ذلك أن كتابه الذي أقدمه لك صورة صادقة من شخصه، وذلك لعمري خير ما يوصف به كتاب لصاحبه مثل هاتيك الخلال. ولا جرم أن الصدق في الآثار الأدبية أكبر عامل في نفاذها إلى القلوب ودوامها على الأيام، وإنك لتجد الصدق في هذا الكتاب في مقدمة فضائله

وبعد فما موضوع هذا الكتاب؟ أهو سلسلة مقالات في شتى الفنون؟ كلا فلست تجد فيه ما تجد غالباً في المقالات من غلظة وثقل يتقاضيانك كد ذهنك والتحامل على نفسك. إذا فهل هو قصة أو مجموعة من الأقاصيص؟ كلا ليس هو من ذلك الفن من فنون الأدب وإن كنت تحس روح القصة وتتمثل شبحها في كثير من مواضعه. ليس الكتاب من أدب المقالة وإن كان موضوعات متفرقة، ولا هو من القصة وإن كان للكثير من موضوعاته شبحها، وإنما هو (حديث) نعم هو (أساطير وخاطرات خطرت ملكت على الفكر سبله فلم يستطع تشريدها أو الفرار منها)

ينتظم هذا الكتاب ما جاشت به نفس صاحبه من معان وخطرات، فإذا عدت إلى ما سردت عليك من خلاله، أمكنك أن تدرك موضوع الكتاب جملة وتلمح شيئا من روحه.

ذكرني هذا الكتاب الطريف الفذ، بآثار الأديبين الإنجليزيين الكبيرين (اديسون) وصاحبه (ستيل). عمد هذا الكاتبان في كثير مما كتبا في مستهل القرن الثامن عشر إلى نقد بعض أحوال المجتمع ودراسة بعض الأشخاص، بطريقة لطيفة هادئة، لا ترى فيها أثرا للهجوم اللاذع ولا التجريح القاسي البغيض، بل ترى الرفق واللين اللذين يفعلان ما لا يستطيع العنف أن يفعل، كل ذلك في خفة روح ورقة دعابة وروعة تصوير

وأنت ترى ذلك واضحا في كتاب الدكتور عوض، وإني أقرر هنا أنه ما قصر به فنه عن فنهما، ولا نزل به أسلوبه عن مستواهما؛ بل لست أغلو أن ذكرت أن بعض قطع عوض قد فاقت عندي بعضا مما قرأت لهما. خذ لذلك مثلا (في طريق البغال) و (الثور في مستودع الخزف) و (معهد الطفيليات)

اقرأ تلك وأمثالها، فلا يسعك إلا أن تسلم معي أنه يحق لأدبنا العصري أن يفخر بها. ثم اقرأ تلك القطعة:(الكائن الممسوخ) وانظر كيف كان الدكتور ماهرا مهارة يستحق عليها

ص: 75

كل ثناء وتقريظ في معالجة هذا الداء الوبيل، داء الاهتمام بكل ما هو غربي في رفق وقوة معا. لقد أعجبتني تلك القطعة بنوع خاص، وأني أدعو شبابنا إلى قراءتها وأستحثهم على ذلك

الكتاب كله كما قدمت صورة من نفس صاحبه، فسواء استمعت إلى الدكتور أو قرأت له، فستجد الأمر سواء. فستظفر بعذوبة روحه في فكاهاته البارعة، وخطرات نفسه في تهكمه الرقيق العميق، كما ستلمس سموه فيما يتوخى من غرض وما يحرص على بلوغه من غاية. هذا وتحملني صراحة الدكتور أن أذكر له قطعتين لم أسغهما كما كنت أحب، هما (عاصفة في قدح) و (عقد من اليشب). ذلك أني لم أجد محلا للملكين في القطعة الأولى، ولا انسجاما في الزمن في القطعة الثانية. ولقد أذكر أيضا أني لم أفهم ما الذي أحال العسل خلا في قطعة (ثم أرادت أن تجعل منه رجلا) فجعل الزوج بغيضا في عين زوجته

وإني لأحس أن أدب الدكتور أعز علي من أن أمر على بعض هنات سقطت إلى أسلوبه دون أن أشير إليها، ذلك أنه يضع في كلامه عبارات معروفة تظهر نابيه حين يوردها في غير مواضع المزاح كقوله (أذن مؤذن الطعام) ثم كنت أعثر على بعض الأخيلة التي لم أسغها، كقوله:(الهواء مغرب في الضحك) و (سنديان الشقاء) و (مطرقة البلاء) و (شمر عن ساعد الفلسفة) وأمثالها.

على أن هذه كما ذكرت هنات ما أشرت إليها إلا لأني رأيتها غريبة وسط هذا الأسلوب المشرق البديع، في هذا الكتاب الذي أحببته وأكبرته، وأعتقد أن القراء سيحبونه مثل ما أحببت، ويكبرونه مثل ما أكبرت.

(الخفيف)

ص: 76

‌العَالم المسرحيّ والّسِينمائِي

اليتيمة

على مسرح الأوبرا الملكية

إخراج الفرقة القومية المصرية

استأنفت الفرقة القومية موسمها الثاني ابتداء من مساء الأحد الماضي 18 أبريل الجاري، مفتتحة هذا الشطر من الموسم بمسرحية محلية هي (اليتيمة) من وضع الأديب السعيد يوسف موسى

وقد عالج المؤلف في مسرحيته ناحية من نواحي النقص الاجتماعي في البيئة المصرية، إذ جعل من بطل الرواية وبطلتها ضحيتين للتقاليد القديمة الموروثة المتسلسلة في دماء الطبقة العليا في الشعب، الذين لا يزالون يستمسكون بمعتقداتهم في أن الله جعل الناس طبقات في الغنى والجاه والحسب والنسب، وليس في العلم والفضل والقيمة الاجتماعية، ولا يعترفون بعاطفة إلا ما وافق منها تلك العادات البالية.

لهذا نرى صبري باشا يقف حائلا شديد الكثافة بين ولده ووحيده ثابت الطالب الذي يدرس الاقتصاد السياسي في فرنسا وبين ابنة ناظر زراعته المتوفى (أمينة) على الرغم من أنها نشأت في بيت الباشا نفسه وتعلمت وتثقفت كابنته، وعلى الرغم من تعلق ولده بها وولع كل منهما بصاحبه وتعاهدهما على الوفاء والزواج

لا يعبأ الباشا بهذه الاعتبارات، فينتهز فرصة عودة ابنه إلى فرنسا لإتمام دراسته، ثم يرغم حبيبة ابنه على الزواج من أحمد أفندي ناظر زراعته الذي حل محل أبيها

ولما كان هذا الزواج بإكراه وإرغام، فقد اعترى الفتاة يأس وأصابها غم، فاستحال بيت الزوجية جحيما، وانقلب نعمى ذلك البيت الوادع بؤسا وشقاء، واستمر الخصام بينها وبين زوجها واتصلت أسباب التشاحن والتغاضب حتى كره الزوج حياته وكره نفسه.

وفي صباح يوم نشبت بينهما مغاضبة اشتركت فيها (أم أحمد) وجعلت تعير الفتاة وتهجوها وتقول إن الناس يتقولون على بيتهم منذ دخلته إذ يزعمون إنها ما زوجت من ناظر الزراعة إلا لأن ابن مخدومه عبث بها ولوث شرفها وفوجئت الفتاة بهذا الاتهام فدهشت له

ص: 77

وأدركها الحزن واليأس.

وجاء الباشا يعلن أن ابنه عاد من باريس وأنه قادم إلى هذا البيت ليرى (أمينة) وهو لا يعلم أنها تزوجت من أحمد أفندي

ويفزع الزوج لهذا الخبر ويجزع من رؤية هذا اللقاء، فيستعفي الباشا ويذهب إلى الدائرة ويأخذ الباشا في تهدئة الفتاة التي تشكو إليه ظلمها وتتضرع إليه أن يعفيها من هذا العذاب

وبينما هما في ذلك إذ يدخل (ثابت) فتهرع إليه الفتاة وتتعلق بعنقه ويكون بينهما لقاء تطرب له قلوب العشاق وتنفطر له مرائر الأزواج الذين يكرهون على مثل هذه الزوجية، ويطول بينهما العناق وتستمر شكواهما حتى يقول الفتى: أحبك إلى الأبد فيقول الباشا: حتى ولو كانت متزوجة؟. .

وينزل الخبر على الفتى نزول الصاعقة ويموت رجاؤه وينفصل عن الفتاة، فترجوه وتبثه آلامها وتقول إنها أرغمت وأكرهت على هذا الزواج، ولكنه يقول إنها لوثت ودنست بالزواج فهو لذلك يتركها ويدفن أماله فيها.

وحين تيأس الفتاة منه تلقي بنفسها من النافذة وتنتهي القصة

وإلى هنا نجد أن المؤلف عالج الموضوع أوفى علاج وكشف عن مستور هذه العلة وبين سوء أثرها في المجتمع موفقا في ذلك أعظم توفيق، ولذلك نعتقد أن الفرقة أنصفت حين اختارت هذه المسرحية وأخرجتها.

أما إخراج الرواية فقد تولاه مخرج الفرقة الأستاذ عزيز عيد وليست لنا ملاحظات على إخراج هذه المسرحية إلا أنه في الفصل الثاني حين استيقظت (أمينة وثابت) وهما في بيت أحمد أفندي ثم جاء الناظر وأمه طلب هذا إلى والدته أن تجيئهم بطعام الإفطار فخرجت لهذا الغرض، ولكنهم لم يذكروا شيئا عن ذلك فيما بعد ولم يحضر الطعام.

وقد أدى (أحمد علام) والسيدة زوزو حمدي الحكيم دوري البطولة في هذه الرواية وبذلا فيه جهدا جبارا كان عاملا كبيرا في نجاح الرواية إلى أبعد الحدود وفي آخر فصل من الرواية أظهرت (زوزو) منتهى ما تصل إليه عبقرية الممثلة

وكان جميع الممثلين يعرفون أدوارهم ويفهمونها تمام المعرفة والفهم، فظهروا بمظهر الإتقان البالغ الذي يستحقون عليه التهنئة الحارة الصادقة.

ص: 78

الحل الأخير

إخراج أستوديو مصر

لم يكن أصحاب شركات السينما الناشئة في مصر يعنون في الروايات التي يخرجونها بالموضوع والمغزى. ولعلهم لا يرون الموضوع عنصراً مهماً في روايات السينما. وبحسبهم العناية بالمناظر والإخراج، وأن يكون الممثلون من الشخصيات المعروفة. فكانت رواياتهم خالية من المغزى أو هي ذات مغزى تافه، وكان ذلك من أهم المآخذ التي تؤخذ عليهم

نذكر هذا أمام التحدث عن رواية الحل الأخير التي عرضت بسينما رويال، وهي الرواية الثانية لاستديو مصر، وهي من الروايات المصرية القليلة التي تتضمن مغزى وتدور حول فكرة، وموضوعها من صميم الحياة. يسرد المؤلف حوادثها في تسلسل طبيعي حتى ينتهي إلى المغزى الاجتماعي الذي يرمي إليه؛ والمخرج صور هذه الحوادث على طبيعتها من غير تهويل ولا خروج عن الحقيقة. وقد فهم الممثلون ما يرمي إليه المؤلف فقاموا بأدوارهم كأنهم أبطالها الحقيقيون لا ممثلون على الشاشة البيضاء، فتم بذلك التعاون بين التأليف والإخراج والتمثيل على تصوير الغرض وإبراز الحقيقة

ولم يجر المؤلف في هذه الرواية على عادة كثير من المؤلفين في وضع الأدوار والمواقف لتناسب أشخاصا معينين، بل وضع روايته كما يقتضي انسجام الحوادث، ثم اختار لها الممثلين الموافقين فجاءت منسجمة متماسكة. وعمل المخرج على إبراز هذه الحقيقة فوجه عنايته إلى تنسيق المشاهد تنسيقا طبيعيا أكسبها روعة وجلالا، وتجنب المواقف المصطنعة أو المناظر المستفزة للمشاعر

وتعد هذه الرواية بحق مثلا يحتذى في روايات السينما المصرية وتدل على اتجاه أستوديو مصر إلى الإتقان في صناعة السينما، وقد تنبه إلى أهم عنصر من عناصر النجاح في الروايات، وهو الموضوع والمغزى، فإنه الأثر الذي تتركه الرواية في نفوس الجمهور؛ والحوادث التي لا تخرج عن مجال الحقيقة الرائعة إلى التهويل والمبالغة تشعر الجمهور بروعة الحياة الطبيعية التي يعيش فيها إحساسه وفكره

ص: 79

فلعل المتصدين لصناعة السينما يلتفتون إلى هذه الحقائق ويعملون بها، متجهين إلى الفن في ذاته، نابذين غير ذلك من الوسائل التي لا تغني ولا تجدي

(ع)

ص: 80