المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 2 - بتاريخ: 01 - 02 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 2

- بتاريخ: 01 - 02 - 1933

ص: -1

‌رسالة الشباب

عن يسارك وأنت خارج من ميدان الأبرا إلى عابدين باب عتيق ضخم، لا تجد بينه وبين جيرته انسجاما في طراز، ولا التئاما في ذوق، تدخله فكأنما تدخل داراً من دور الترك، أو ديراً من ديور الروم: دهليز قاتم رحب، وفناء كالح رطب، ودرج رخامي يصعد بك طبقتين إلى جمعية القرش!

في هذا الربع الموحش يعمل الشباب النضر! ومن هذا الطابق الرهيب ينبثق الروح الذي يهز القلوب، ويشغل الأذهان، ويملأ الصحف، ويحرك الأيدي ويرصد الأهبة لافتتاح (مصنع الطرابيش) عما قليل!

تدخل فتجد مقترح المشروع وكاتب سره وهو فتى لا تزال على محياه الأبلج قسمات اليفاعة! يجلس في غرفة عارية من الأثاث، على مكتب مغطى بأشتات الورق ومن حوله رفاقه الأبرار يجيبون دعاءه، أو يناقشون آراءه، أو يطلبون إمضاءه، والعواطف المشبوبة النبيلة تجيش في هذه القلوب الغضة فتنسيها في النهار الراحة وفي الليل النوم! جلست هنيهة في هذه الغرفة الجرداء الوسيعة، أرى الإخلاص يتمثل في المخايل، والأمل يتدفق في الحديث، والشباب المرح اللاهي يحول إلى كد دائب وصبر غالب ووقار مرهوب، ثم اسمع أخبار اللجان ومعدات المهرجان وحركة المطبوعات وجمع التبرعات وإصدار الطوابع إلى مختلف الجهات، فقلت لنفسي: يا لله! أقيادة جيش تقرر الخطط وتحفظ السلام وتعز الوطن، أم خلية نحل تدير الأمر وتجمع الرحيق وتصنع العسل؟!

لقد كان الشباب في نهضتنا السياسية الروح الذي أحيا الشعور، والضوء الذي هدى الجمهور والدعوة التي دار عليها الرأي!

وهاهم أولاء في نهضتنا الاقتصادية يرفون رفيف الأملاك حول بنك مصر وشركاته؛ ويضيفون إلى هذا البناء الرفيع المحكم شرفات تزيده جمالا وروعة! يريدون (والشاب قادر إذا أراد) أن يتجمع من القرش الواحد رؤوس أموال لمصانع شعبية. كما يتجمع البحر من قطرات المطر، والجبل من ذرات الرمل!!

فمن ذا الذي لا يساهم في هذا المشروع الخطير بهذا القرش الحقير وفي كل لحظة تلفظ اليد أمثاله في توافه الأشياء وضئال الأمور!

إن نشئنا ليؤدون رسالة الشباب كما تؤدي الزهور رسالة الفردوس.

ص: 1

ولقد رأيت إخوانهم في فلسطين والشام والعراق ينتعشون بهذا التعبير، ويسيرون على هدى هذا الشعاع.

فافسحوا في المجال لعزم الصبي ينهض برأي الكهولة!

فان الوطن لا ينهض إلا بشبانه، وأن الشجر لا يثمر إلا بأغصانه،

أما الشيوخ فكالجذوع، هم الأصل والمدد والسند، ولكنهم الصق بالأرض وأميل إلى السكون وأقرب إلى الجمود، فلا تقوى على تحريكهم رياح الأمل، ولا تغرد على حطبهم طيور السماء!

أحمد حسن الزيات.

ص: 2

‌خواطر وصور

(قروش) فكرية

مهداة إلى (القروش) النقدية!

للأستاذ عباس محمود العقاد

الشعور السعيد

أسعد الشعور ما امتزج فيه شعور الإنسان بنفسه وشعوره بغيره، أو ما كان فيه الشعور بالغير ضربا من الشعور بالنفس. ومن هذا القبيل شعور الأب بابنه والحبيب بحبيبه والمشهور بشهرته: يرى نفسه في غيره ويرى غيره في نفسه، فيلتقي فيه الرضى عن النفس والرضى عن الدنيا. وهما تمام الرضى الذي يحيل الألم والشقاء سروراً وسعادة.

كراهة الأخيار

قد يكون الشرير الذي يشتد بغضه لأهل الخير من أقرب الأشرار إلى الأخيار. لأنه يحس بما فقد ويحس بما امتاز به غيره فيحسدهم. والحسد إعجاب معكوس، أما الشرير الذي لا يبغض أهل الخير فإدراكه للخير قليل، وطلبه للامتياز والرجحان ضعيف.

حرية الفكر

فرق بين من يجترئ على العقائد الراسخة لقوة في نفسه، وبين من يرتاب فيها لتحلل في طبيعته يعجزه أن يمسك العقيدة القوية ويحتويها.

إصابة الجاهل

الساعة المعطلة تكون أضبط الساعات جميعا في لحظة من اللحظات، وكذلك العقل الصغير الخابي يصيب مرة حيث لا تصيب كبار العقول.

أنانية الشيوخ

دين المنفعة يغلب على الشيخوخة لأنها عهد الضعف والأدبار، لا لأنها عهد الخبرة والمعرفة.

ص: 3

العظماء

حاجة الناس إلى العظيم حاجتهم إلى إرضاء غرورهم لا إلى إرضاء غرور العظيم.

الشعر والشيخوخة

إذا قال الشيخ لا حاجة بي إلى الشعر فلا ترث للشعر بل ارث له هو لأنه ينعى نفسه.

وإذا قالت الأمة لا حاجة بي إلى الشعر فصدقها، واعلم أنها قد شاخت، فلا حاجة بها إلى الشعر، ولا إلى غيره من علامات الفتوة والحياة.

الخوف وحب الحياة

الخوف المفرط من الموت علامة الجهل بقيمة الحياة لا علامة المعرفة بتلك القيمة، لأن الذي يؤثر كل حياة على كل موت يقبل الحياة على أي شكل من الأشكال، ويقبلها على اقبح الأشكال، والذي يقبلها على أقبحها لا يعرف لها قيمة تصان.

الزهد والمتعة

الزاهد الذي يروض نفسه على الزهد بتقبيح الدنيا ليس بزاهد، لأنه لا يترك إلا نجسا قبيحا حين يترك دنياه، والأشرف منه نفساً ذلك الذي ينعم بالدنيا لأنها عنده نفاسة وجمال.

تفاؤل القوة والضعف

يتفاءل المرء ثقة منه بالقدرة على مغالبة الخطوب، أو قلة مبالاة بعواقب الهزيمة، وهذا تفاؤل القوة.

ويتفاءل المرء خداعا لنفسه كي لا يجشمها التأهب لملاقاة الخطوب والتفكير في عواقبها، وهذا تفاؤل الضعف.

الانتقاد والحرية

ليست كثرة الانتقاد دليلا على الحرية في كل حين.

إن الناس يكثرون الانتقاد حين يجهلون الحرية، لأنهم لا يرون للآخرين حقا في التصرف كما يشاءون.

الكبرياء

ص: 4

الكبرياء اعتداء، أو رد اعتداء.

الواقعيون والخياليون

التعويل على المحسوسات دأب جميع الناس، لكن صاحب النفس الكبيرة يحس ما لا يحسه أصحاب النفوس الصغار، فيعده هؤلاء من الخياليين. . لأن محسوساته غير موجودة عندهم، فهي ضرب من الخيال.

ص: 5

‌صديق

للأستاذ احمد أمين

الأستاذ بكلية الآداب

- 1 -

لي صديق اصطلحت عليه الأضداد، والتقت فيه المتناقضات، سواء في ذلك خلقه وخلقه وعلمه.

حي خجول، يغشي المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته، ويصادف أول مقعد فيرمي نفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده، وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة، ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين، وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاود الهرب، وهكذا دواليك حتى يحين موعد الانصراف، فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء حامدا الله على أنه لم يخر صعقا، ولم يدركه حينه كربا وقلقا.

من اجل هذا اكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء. أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها، يشعر أنه عبء ثقيل على الناس وانهم عبء عليه، يحب العزلة لا كرها للناس ولكن ستراً لنفسه، ويأنس بالوحدة وهي تضنيه وتبريه.

ثم هو (مع هذا) جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه، ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم، ويدمي شعورهم فلا يأبه لذلك، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.

يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أحيا من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه.

وهو طموح قنوع، نابه خامل، يرمي بهمته إلى أبعد مرمى، وتنزع نفسه إلى أسنى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك، فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء، وأكبر البلاء، ولا يسأم ولا يضجر. وكلما نال منزلة ملها، وطلب أسمى منها.

ص: 6

وبينا هو في جده وكده، وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشؤونها، والنعيم والبؤس والشقاء والهناء وسمع قول المتنبي:

ولا تحسبن المجد زقا وقينة

فما المجد الا السيف والطعنة البكر

وتركك في الدنيا دويا كأنما

تداول سمع المرء أنمله العشر

فهزئ به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه بما قسم له، وبينا يأمل أن يكون أشهر من قمر، ومن نار على علم، يسافر في الشرق والغرب ذكره، ويطوي المراحل أسمه إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل ويردد مع الصوفية قولهم (ادفن وجودك في ارض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه) يعجب من يراه مجدا خاملا، ومعرفة نكرة، وعاملا مغمورا.

وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره، ويعدو طوره. ومتواضع ينخفض جناحه، وتتضاءل نفسه. يتكبر حيث يصغر الكبراء. ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتأله على العظماء حتى تظن أنه نسل ألا كاسرة ووارث الجبابرة ويجلس إلى الفقير المسكين يؤاكله ويستذل له، هو نسر أمام الأغنياء، وبغاث لدى الفقراء لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه الصغير.

يحب الناس جملة، ويكرههم جملة. يدعوه الحب أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم فحار في أمره، فامتزج الحب بالكره، فاستهان بهم في غير احتقار.

صحيح الجسم مريضه. ليس فيه موضع ضعف ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة. يشكو المرض فيحار في شأنه الطبيب فيحنق على الأطباء ويرميهم بالعجز، وما العاجز إلا جسمه لم يستطع أن ينوء بنفسه.

كذلك كان رأسه. مضطرب. مرتبك. كأنه مخزن مهوش، أو دكان مبعثر وضع فيه النعل القديم بجانب الحجر الكريم، يؤمن بقول الفقهاء: القديم على قدمه، ثم يدعو إلى التجديد. ويتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب أهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب الجبر، وحب الغني بمذهب أبي ذر وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة قد أكلتها الأرضة، ونسج الزمان علها خيوطه، وأحدث الكتب الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكل من هذين ظل في عقله، وأثر في رأسه. يسره تأبط شرا في بداوته وصعلكته و (جوته) في حضارته وإمارته ويؤمن لشاعرية هذا وذاك. يسمع إلى الملحدين فيصغي إليهم، وإلى المؤمنين فيحن

ص: 7

شوقا لذكراهم، يهمل في صلاته ويحافظ على صومه. إن ألحد فكره لم تطاوعه طبيعته، وإن كفر عقله آمن قلبه. ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر الداعر والعابد. وكلهم على اختلاف مذاهبهم يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد البليغ الكلام.

سرت معه سيرة من جنسه، فأحببته وكرهته، ونقمت منه ورحمته، وكنت أنس به واستوحش منه، يبعد عني فأتوق إليه، ويطول مقامي معه فأتبرم به.

وأخيرا، لم يقو جسمه على هذه الأضداد مؤتلفة، والمتناقضات مجتمعة. فعاجله الشيب في شبابه، وتقوس ظهره في ربيع عمره، وأصبح مترهل العضل، منسرق القوى، يظنه من رآه أنه بلغ أرذل العمر، ولداته في رونق الشباب وميعة النشاط.

بلغني مرضه، فلم أدركه إلا جنازة فشيعته إلى أن أنزل حفرته وأجن في رمسه ونفضت من ترابه الأيدي!

وعدت موجع القلب باكيا، ضيق الصدر، مكروب النفس، أخذني من الحزن عليه ما تنقض منه الجوانح، وتنشق له المرائر، فعلمت أن حبي له كان أعمق من كرهي إياه، وأن نقمتي عليه لم تكن الا مظهراً من عطفي عليه، أني كنت أقسو عليه رحمة به! رحمة الله عليه فقد حطم بعضه بعضا، ومضى قتيل روحه شهيد نفسه!

ص: 8

‌مسارح الأذهان

مشروع القرش

دلالته على مبدأ التضامن القوي

للدكتور محمد حسين هيكل بك

أذاعت جماعة مشروع القرش في العام الماضي أكثر من نشرة كتب فيها كبار الكتاب وذوي الرأي حتى لقد أصبح الإنسان يشعر حين يفكر في كتابة شيء جديد للمشروع وأصحابه بشيء من المشقة غير قليل. ذلك شأني على الأقل لأنني لا أريد أن أتناول موضوعا إلا أن يكون له مساس أو اتصال بالقرش ومشروعه. وقد طلبت إلى جماعة القرش منذ اعتزمت إصدار هذا العدد من (الرسالة) أن أكتب ففكرت وفكرت وفكرت حتى انتهيت أخيرا إلى ما اكتب اليوم عن دلالة هذا المشروع من ناحية الاتجاه الاقتصادي وتأييده لمبدأ التضامن الاقتصادي على غيره من المبادئ وتأييده لهذا المبدأ في حدود الاقتصاد القومي اكثر من تأييده إياه في المدى الواسع الذي يعتبر العالم كله وحدة اقتصادية يجب أن تعمها روح التضامن من غير تقيد بالتفكير القومي ومن غير خضوع للمبادئ الاشتراكية المتطرفة.

أنا لا أظن أن الذين بدءوا التفكير في مشروع القرش بدءوه متأثرين بهذا المبدأ الاقتصادي أو ذاك. بل أغلب الظن أنهم بدءوه متأثرين بخضوع مصر الاقتصادي لغيرها من الأمم خضوعا تستطيع بشيء من المثابرة أن تتخلص من نيره. وإذن فهي فكرة الاستقلال الاقتصادي تدفع إليها عاطفة وطنية كالعاطفة التي دفعت إلى النهضة في سبيل الاقتصاد السياسي هي التي حركت في نفوس السابقين إلى فكرة مشروع القرش الدعوة إلى مشروعهم وإبرازه من حيز الفكرة إلى حيز العمل. لكن ذلك لا يغير شيئا من دلالة المشروع على نحو ما قدمنا بل هو يزيده تأييدا. فلو أن فكرة الاستقلال الاقتصادي وحدها هي التي كانت الدافع والمحرك ولم تخلطها فكرة التضامن القومي لرأينا الدعوة إلى هذا الاستقلال تلبس ثوبا آخر وتظهر في صورة أخرى. ومن قبل دعا الداعون إلى تأليف شركة لإنشاء بنك مصر تحقيقا لفكرة الاستقلال الاقتصادي ونجحت الدعوة نجاحها الباهر

ص: 9

ومن قبل فكر بنك مصر وألف الشركات المختلفة التي يساهم فيها ويشرف عليها وكان لها من التوفيق الحظ الأكبر. وفي هذه الظروف جميعا كانت فكرة الاستقلال الاقتصادي هي الحافز الأول، وكانت العاطفة الوطنية التي تطمح إلى هذا الاستقلال طموحا صادقا هي اكبر عون على الاكتتاب ثم على النجاح.

وكان ممكناً إنشاء مصنع للطرابيش على الطريقة التي أنشئت بها شركة غزل ونسج القطن، وشركة مصايد الأسماك، وكان ممكناً إنشاء مصنع للأصواف بالطريقة ذاتها. لكن مشروع القرش تأثر بالفكرة التي قدمنا فوجهته في سبيل الاستقلال الاقتصادي وجهة جديدة! وجهة تضامن عام في حدود الاقتصاد القومي لا يطبعها الطابع الفردي الذي يطبع الشركات المختلفة التي تصبو أولا وبالذات إلى الربح، بل يطبعها طابع الإيثار من جامعي القرش ومؤلفيه ومنظمي استثماره الإيثار الذي يجعل المرء يحب لغيره ما يحب لنفسه ويعمل لخير غيره بمقدار ما يعمل لخير نفسه، وان كان إيثارا محدودا بالحدود القومية. ولهذا الإيثار القومي عذره وفضله. له عذره في أنه رد فعل طبيعي لثائرة الغرب وحرصه في أن يستأثر بخيرات العالم كله وأرزاقه تاركا للشرق ما يكفي لإقامة حياته كي يجد ويشتغل أجيراً لحساب الغرب الذي يؤيد أثرته هذه بالمدفع والغواصة والطيارة وله فضله في أنه إنهاض قومي لمصر كي تشعر بما تقدر عليه من غير كبير مشقة أو تضحية. وإنهاض يقوم به شبابها فتيات وشبابا لخير الوطن غير ناظرين جزاء ألا أنهم أدوا للوطن خدمة شعروا بأن أداءها واجب عليهم.

والشعور بالتضامن الاقتصادي على الوجه الذي يلقى شباب القرش على الناس درسه مقدمة لحيوية قوية تربط الأمة بروابط التضامن الأكيدة فيما سوى الميدان الاقتصادي من مرافق حياتها. فالرجل الذي يدفع القرش ويلبس طربوشاً

مصرياً بثمن معتدل يشعر بأنه يؤدي خدمة وطنية تعود عليه هو في الوقت نفسه بفائدة سريعة. وهذه إحدى فضائل التضامن في كل شيء. وهذا الشعور يجعل كل مصري يقدر أن كل خدمة يؤديها الإنسان لوطنه وكل قرش يدفعه له يعود عليه وعلى أمثاله بفائدة مضاعفة لما دفع. فكما أن قرشك الذي دفعته في العام الماضي سيجعلك تلبس الطربوش تدفع ثمنه خمسة عشر قرشا بدلا من خمسين كذلك يجب أن تسأل عن كل قرش تدفعه ماذا

ص: 10

يعود عليك أو على الوطن من نفعه؟ فإذا لم يعد بمثل هذه الفائدة المضاعفة فاعلم أن الذين ائتمنوا عليه يغتالونه وأنهم لذلك غير أمناء، وانهم لا يقدرون معنى التضامن القومي وواجبهم إزاءه بل يقدرون فائدتهم الشخصية ناسين فائدة مواطنيهم، ناسين بذلك فائدة الوطن، مضحين بمصالحه في سبيل منافعهم الذاتية، وفي سبيل وصولهم السريع إلى الثروة على حساب غيرهم.

إذا صدقت رسالة مشروع القرش التي قدمنا وكانت بشيرا بتقدير المصريين لمبدأ التضامن ولو في الحدود القومية فقد آن للمصريين أن يستبشروا حقا بمستقبل قريب تتطور فيه النظرة إلى الحياة من مختلف نواحيها تطوراً محسوساً. فنظرية التضامن لا تقف عند الميدان الاقتصادي بل تمتد به إلى ميادين النشاط جميعا، وفي مقدمتها ميدان الإنتاج الفكري والفني. ونظرية التضامن لا يحدها زمن، بل هي تقوم على أساس أن الثروة المادية والثروة المعنوية لأمة من الأمم هما جميعا ثمرة مجهود الأجيال المتعاقبة، وأن لأهل القبور فيها نصيبا اكثر مما لأهل الدور، وأننا جميعا وحدة متماسكة في السعي والعمل بدأت من أول الزمن إن كان للزمن أول وتستمر على الزمن ما بقى الزمن. فإذا وقر الشعور بهذا الرأي في النفوس كان من آثاره أن يحس كل بأنه مدين للمجموع اكثر مما هو دائن له، وان تضامنه مع المجموع في المجهود العائد على المجموع وعليه بالفائدة من خضوعه لسلطان الأنانية الغرور. وهنالك يشعر حقا بان واجباً عليه أن يبني لا أن يهدم، وأن يكون منتجا اكثر منه مستهلكا؛ وأن يعمل لخير غيره عمله لخير نفسه. وهنالك تزول البغضاء من النفوس فتحل محلها المحبة وتتلاشى فكرة التنافس لتقوم مقامها فكرة التعاون ويقضي في النفوس على شهوات الحقد والغيرة والغرور الكاذب لتقوم مقامها فضائل العطف والحنو والتواضع الجميل. وأنت قدير متى صورت هذا التطور كله لنفسك أن تصور الشجاعة الجديدة التي تغمر وادينا الخصب الجميل وان تقدر سعة الخطوات التي تخطو في سبيل الحق والخير والسعادة.

لعل شبان القرش وفتيانه يوافقونني على أن هذه النوازع النفسية الجميلة تجول بخواطرهم مبهمة عند البعض أقل إبهاما عند الآخرين ولعلهم إذا خلوا إلى أنفسهم وفكروا في الأمر يرون أنهم لم يفتحوا عهد مصنع الطرابيش أو مصنع الصوف وكفى، وإنما هم يفتحون

ص: 11

السبيل إلى طور جديد يريدون أن يطبعوا به حياة وطنهم. ولعلهم يقدرون عظمة هذا التطور الجديد وعظمة ما يجب على الشباب من مجهود تنهض بعدته أجيال الشباب المتعاقبة لتزيده قوة وإثماراً. ثم لعلهم يحسون أن في الحياة قرشاً غير القرش المادي الذي أدفعه من جيبي. فيها القرش المعنوي والقرش الروحي الذي يعاون على إذكاء معنى التضامن الروحي في النفوس بمقدار ما يعاون القرش المادي على تحقيق معنى التضامن الوطني في الحياة الاقتصادية. هذا القرش المعنوي، وهذا القرش الروحي، الذي يستطيع كل مصري أن يؤديه استطاعته أداء القرش المادي.

- في أي ناحية يجب أن ينفق وأي مصنع يجب أن يقدم كأثر من آثاره؟! هذا ما أترك للشباب البحث فيه ويقيني أنهم مهتدون إلى خير ما يثمر البحث في هذه الناحية كما اهتدوا إلى خير ما أثمر البحث في ناحية القرش. وهم اقدر على تصوير التضامن المعنوي والتضامن الروحي وما يثمران!. .

ص: 12

‌مجمع اللغة العربية الملكي

لأستاذ كبير

في مجلة باريس التي ظهرت أول يناير فصل قيم، دقيق مستفيض عن المجمع العلمي المصري، الذي أنشأه بونابرت في القاهرة في شهر أغسطس سنة 1798. تقرأه فيعجبك لفظه العذب وأسلوبه المتين، ودقة صاحبه في البحث وعنايته بالتفصيلات، وعنايته قبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء بتمجيد فرنسا وبونابرت، وما كان لهما من أثر بعيد في أحياء مصر الحديثة، وتمهيد السبيل أمامها إلى الرقي المادي، والمعنوي جميعاً.

وربما أحسست (وأنت تقرأ هذا المقال) شيئا من الحزن الخفي يمازج هذا الفخر الظاهر، الذي يملأ نفس (المسيو ف. شارل ليرو) كاتب هذا الفصل. لأن هذا الجهد العنيف الخصب المعجز، الذي أنفقه الفرنسيون أثناء إقامتهم القصيرة بمصر في أواخر القرن الثامن عشر لم يؤت الثمر الذي كان ينتظره بونابرت وأصحابه، والذي كان الفرنسيون يودون أن يكون شيئاً غير الفخر والذكرى.

ولعلك تعلم أن هذا المجمع العلمي المصري الذي أنشئ في القاهرة منذ قرن وثلث قرن، على نظام المجمع الفرنسي، وسعى إلى نفس الأغراض العلمية والأدبية التي كان يسعى لها هذا المجمع وسعى بعد ذلك إلى أغراض عملية كانت تحتاج إليها سياسة الفاتحين وإدارتهم. لعلك تعلم أن هذا المجمع لا يزال قائماً إلى الآن أعيد تنظيمه سنة 1859 وهو الآن يعمل كما كان يعمل آخر القرن الثامن عشر يبحث أعضاؤه عن الرياضة والطبيعة والطب والعلوم الاقتصادية والسياسية والفنون والآداب، ويبحث الآن كما كان يبحث من قبل عن حلول عملية لبعض المسائل التي تمس الزراعة والري والصحة وما إلى ذلك وهو يعتبر كأنه فرع من المجمع العلمي الفرنسي المستقر في باريس ولأعضائه إذا ذهبوا إلى مدينة النور أن يشهدوا جلسات هذا المجمع. وهو دولي كما يقولون فيه علماء يمثلون الأجانب الذين يقيمون في مصر على اختلاف جنسياتهم، وفيه مصريون. ولكن مصر لا تكاد تحسه ولا تشعر به وإن إعانته الحكومة المصرية بالمال، وإن كثر ما ينشره من الكتب والمذكرات، وإن أصدر نشرته في نظام واضطراد لأن لغته ليست اللغة العربية وإنما هي اللغة الفرنسية غالباً والإنجليزية أحياناً. ولست ادري أنشر هذا الفصل في مجلة باريس

ص: 13

بمناسبة المرسوم الملكي الذي صدر في منتصف الشهر الماضي بإنشاء المجمع الملكي للغة العربية أم هي مصادفة مطلقة؟ أرادت أن تشتغل مجلة من اكبر المجلات الأوربية بالمجمع العلمي المصري القديم، وفي الوقت الذي تشتغل فيه الصحف المصرية والأندية المصرية بالمجمع الملكي الجديد.

ولكن شيئا يدعو إلى التفكير على كل حال حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس وهو نشاط الفرنسيين وإسراعهم إلى إنشاء هذا المجمع وفتور المصريين وإبطاؤهم في إنشاء مجمعهم اللغوي.

أيام قليلة لا تكاد تبلغ الخمسة كفت لأن يتكلم بونابرت في مجمعه العلمي إلى بعض العلماء الفرنسيين الذين كانوا يرافقونه ويصدر إليهم أمراً بان يجتمعوا فيضعوا له نظماً ويرشحوا له أعضاء ولأن يجتمع هؤلاء العلماء فيضعوا النظام ويرشحوا الأعضاء ولأن يصدر المرسوم ويعقد المجمع جلسته الأولى وما هي إلا أسابيع قليلة حتى يجمع العلماء الفرنسيين الذين كانوا مفرقين في الإسكندرية ورشيد ليأخذوا مجالسهم في مجمع القاهرة ولا يكاد يعقد المجمع جلسته الأولى حتى يبدأ البحث وتقرأ المذكرات وتنشر الرسائل وكانت المطبعة والمعامل قد أعدت من قبل وما هي الا أعوام حتى يظهر هذا الأثر الخالد لهذا المجمع وهو كتاب وصف مصر.

أما نحن فنفكر في مجمعنا اللغوي منذ أعوام طوال ونحاول إنشاءه فلا نوفق. فكرنا فيه أن صدقتنا الذاكرة في أوائل هذا القرن وقبل الحرب الكبرى وفكرنا فيه وحاولنا إنشاءه أثناء الحرب وفكرنا فيه بعد الهدنة وفكرنا فيه بعد الاستقلال، واعددنا له مشروعا ومشروعا ومشروعاً وكان بعض هذه المشروعات يضيع فلا يهتدى إليه، وبعضها ينام فيطيل النوم وبعضها يقبر قبل أن تنبعث فيه الحياة. وأخيرا وبعد التفكير والتقدير، وبعد الذهاب والإياب، وبعد السفر والإقامة صدر المرسوم، وقيل في البرلمان أن المجمع اللغوي قد أنشئ. وهو قد أنشئ حقاً ما دام المرسوم الذي ينشئه ويحدد أغراضه ويرسم شكله ويبين له خطة العمل قد صدر ونشر وتحدثت عنه الحكومة في البرلمان. ولكنه منشأ بالقوة لا بالفعل، لأن مكانه لم يعرف وأعضاءه لم يختاروا وأبحاثه لم تنشر، والوجود بالقوة خير من العدم على كل حال. أنفق بونابرت أياما لينشئ مجمعاً ينتج بالفعل في واد مجدب من العلم

ص: 14

والفن والأدب. وأنفقت مصر ثلاثين عاما لتنشئ مجامعها وتنشر أبحاثها.

وشيء أخر يدعو إلى التفكير حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس. فالمجمع المصري القديم الذي أنشأه بونابرت لم يكن مقصورا على جنسية بعينها، وكان فيه منذ إنشائه قسيس يوناني شرقي، وهذا المجمع لا يزال إلى الآن دوليا، لا تستطيع أمة أن تقول لها فيه الكثرة حتى ولا مصر التي تؤويه وتنفق عليه وتمكنه من الحياة ونشأ عن ذلك أن مصر هذه التي تؤوي وتمد بالمال لا تستطيع أن تقول أن مجمعها المصري يعترف بلغتها على أنها اللغة الرسمية ومجمعنا اللغوي الجديد دولي أيضاً، سيمثل فيه الشرق العربي كله، وستمثل فيه أمم أوربية مختلفة، يشتغل بعض أبنائها باللغة العربية. وقد تكون اللغة العربية لغة المجمع الجديد وقد يستعين أعضاؤه بالفرنسية أحياناً وبالإنجليزية أحياناً أخرى، وربما كانت هذه اللغة أو تلك ايسر وأدنى إلى أن يفهم بعض الأعضاء بعضاً. وكذلك يكون في مصر مجمعان دوليان أحدهما علمي قديم والآخر لغوي جديد. وكذلك تضرب مصر للناس أحسن الأمثال في الإيمان بأن العلم يجب أن يكون فوق الأوطان والقوميات واللغات الخاصة!

وشيء آخر يدعو إلى التفكير حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس، وهو أن المجمع الذي أنشأه بونابرت كان يعقد جلساته في اتصال غريب لا يعرف الراحة ولا الهدوء، وهو الآن يعقد جلساته مرات في الشهر أثناء سنة العمل، لا يستريح إلا في الصيف حين يتفرق الأعضاء.

أما مجمعنا اللغوي الجديد فسيجتمع شهرا في العام في الشتاء أو في الربيع، فإذا فكرت في أن المجمع العلمي المصري واحد من مجامع تعد بالعشرات. وانه لو استراح من العمل لم يكد العلم يخسر كثيراً وأن مجمعنا اللغوي الناشئ بالقوة سيكون يوم ينشأ بالفعل واحداً من مجامع لا تبلغ أصابع اليد الواحدة عداً، وأنه يريد أو يراد له أن يضع معاجم في اللغة منها العادي ومنها التاريخي وان يجدد اصطلاحات العلوم والفنون وينشئ منها ما لم يوجد وأن يشرف بعد هذا كله على حياة الأدب واللغة وصفائهما. نقول إذا فكرت في هذا كله وافقتنا على انعقاد مجمعنا اللغوي شهرا كل عام في الشتاء أو في الربيع أقل جدا من أن يتيح له النهوض ببعض ما يطلب إليه. ولكن المجمع اللغوي قد وجد على كل حال ولو بالقوة

ص: 15

(وماش خير من لاش) كما يقول المثل ومن يدري لعل أعضاءه لا يكادون يجتمعون لأول مرة حتى تشرب قلوب بعضهم حب بعض ويعز كل منهم على صاحبه ويكرم في نفسه، فلا يفترقون بل يبقون في القاهرة يعملون طول الخريف وطول الشتاء وطول الربيع، ولا يفترقون في الصيف الا كارهين!.

ص: 16

‌صور من التاريخ الإسلامي

أبو ذر الغفاري

للأستاذ عبد الحميد العبادي

الأستاذ بكلية الآداب

العربي القديم من أبسط الناس طبيعة، وأوضحهم سريرة، وأصرحهم لسانا، وأشدهم استمساكا بما يراه الحق، وأعظمهم حمية، أن يجري عليه ذل أو ضيم. ثم هو من اكثر الناس قناعة، وأرضاهم من حطام الدنيا بالكفاف.

ذلك الخلق، الذي قد لا ترضى عن بعض نواحيه النظريات الأخلاقية الحديثة، يرجع إلى البيئة الطبيعية والاجتماعية التي نشأ العربي في حجرها، صيغ على مثالها. فالبادية محدودة الحاجة، ونظام القبيلة الاجتماعي إنما هو نظام الأسرة مكبراً. وكم للناس من فضائل هي وليدة بيئتهم، وإن شئت فقل: كم من فضائل الناس ما هو مرزوق غير مجلوب، وموهوب غير مكسوب!.

ولقد جاء الدين الإسلامي مطبوعا في جملته بالطابع العربي، موسوما بسمته، قد سلك إلى الحقيقتين الدينية والاجتماعية اقرب السبل، وعبر عنهما أوجز تعبيره وأبلغه، فهو من ناحية يأمر بالتوحيد المحض، ومن ناحية أخرى يأمر بالتسوية بين الناس في الحقوق العامة، وبالأخذ من الدنيا بحساب.

ولكن شاء الله أن ينبعث العرب من جزيرتهم غزاة فاتحين، وان يحووا مواريث أمم التبس عليها أمر الحقيقتين المذكورتين، فلم يلبث العرب أن تأثروا بتلك الأمم وانتقلت إليها أدواؤها وأصابهم ما أصابها من لبس واضطراب. فأما الحقيقة الدينية السهلة فقد صيّرها غلاة الفقهاء والمتكلمين، وأهل الأهواء والنحل، أمراً صعباً مستصعباً، له ظاهر وباطن، وقريب وبعيد.

ليس من موضوعنا أن نفيض فيما طرأ على الحقيقة الدينية في صدر الإسلام، ولكن موضوعنا مقصور على ما عرى الحقيقة الاجتماعية فنقول إن هذه أيضاً قد ضل عنها رجال السياسة ضلالا بعيدا. فأفسدوا بذلك النفس العربية الساذجة، وأبدلوها بالزهد في

ص: 17

الدنيا شغفا بها، وتهالكا عليها. نعم أن أبا بكر وعمر أنفقا جهدا غير يسير في سد ذرائع هذا الخطر، وبدءا في ذلك بأنفسهما. فكانا مضرب المثل في القناعة والزهد وخشونة العيش. وحاول ثانيهما أن يحمل الناس على القصد والاعتدال فلم يقسم بينهم الأرض المفتوحة عنوة، ثم زاد فمنع قريشا من الخروج إلى البلدان المفتوحة الا بأذن وإلى أجل. فلما شكوه خطبهم خطبة قال فيها تلك المقالة التي تفيض قوة وتصميما. . . . . ألا وان قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات من دون عبادة، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا! أني قائم دون شعب الحرة فآخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار. فلما ذهب عمر لسبيله وولى عثمان تنفست قريش وسرى عنها، وأقبلت تستغل لين ذي النورين وحياءه الجم، فانطلقت إلى الأمصار تقتني المال الوافر والعقار الواسع والاقطاعات المترامية على ضفاف دجلة والفرات والنيل، وتتملك أرضا هي بحكم نظام عمر وقف على عامة المسلمين يشركون جميعا في غلته. فأثرت قريش وربلت، وصارت إلى رفاغة عيش لهم تلم لها من قبل بخيال. يحدثنا أبو الحسن المسعودي فيقول:(وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من أصحابه الضياع والدور، منهم الزبير بن العوام، بنى داره بالبصرة وهي المعروفة في هذا الوقت. . . . . وابتنى أيضاً دورا بمصر والكوفة والإسكندرية وما علم من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية. وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخطاطا بحيث ذكرنا من الأمصار. وكذلك طلحة بن عبيد الله التيمي، ابتنى داره بالكوفة المشهورة به هذا الوقت المعروفة بالكباسة بدار الطلحتين وكانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل اكثر من ذلك (!) وبناحية سراة (؟) اكثر مما ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج؛ وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها وكان على مربطه مائة فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ريع ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا. وقد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات، وجعلها مجصصة الظاهر والباطن. ومات يعلى بن أمية وخلف خمسمائة ألف دينار وديونا

ص: 18

على الناس وعقارات وغير ذلك) ثم يقول المسعودي (وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيمن تملك من الأموال في أيامه، ولم يكن مثل ذلك في أيام عمر بن الخطاب، بل كانت جادة واضحة وطريق بينة).

مهما يكن من المبالغة في هذا النص، فهو لا ريب يشير إلى حال كانت لا بد مثيرة لمعارضة جادة غير هازلة، فالعهد بصاحب الشريعة الإسلامية والشيخين كان لا يزال قريبا، ومبادئ الإسلام الديمقراطية لم تنمح بعد من الأذهان، وقد وجد نوعان من المعارضة لهذه الحال: نوع يستند إلى العنف والقوة المادية، وكان بالأمصار الكبرى، حيث الجند الذين شادوا الدولة بسيوفهم والذين اصبحوا يرون قريشا استأثرت بحقهم في الفيء، وبلسان هؤلاء يقول شاعر من أهل الكوفة: -

يلينا من قريش كل عام

أمير محدث أو مستشار

لنا نار نحرفها فنخشي

وليس لهم فلا يخشون نار

ومن هذا القبيل معارضة أهل المدينة. ولكنها كانت ذات صوت خافت ممجمج لأن المدينة لم تعد محل القوة المادية في الدولة العربية فقد خلفها في ذلك الأمصار المذكورة. والحق أن الأوس والخزرج قد أدوا الواجب الذي من اجله لقبوا (بالأنصار) ثم أخذ نجم مجدهم السياسي في الأفول. وأما النوع الآخر من المعارضةفكان يستند إلى الدليل الشرعي وإلى مبدأ الحق والعدالة. وهذا كان يحمل لواءه عاليا رجل قوال اللسان، ثبت الجنان، صريح في الحق كل الصراحة: ذلك أبو ذر الغفاري.

كانت غفار من القبائل الضاربة حول المدينة، وكانت في الجاهلية تحترف قطع الطريق واعتراض القوافل التي تمر من أرضها وهي حرفة لم يكن بها بأس في عرف ذلك الزمان، فنشأ أبو ذر نشأة أعرابية، واتصف بما يتصف به الأعراب عادة من صدق اللهجة وصراحة القول، ومرن على حياة البادية بما فيها من خشونة وسذاجة. ويقال أنه بقوة عقله وصفاء ذهنه أدرك ما عليه قومه من فساد العقيدة، فاطرح الأوثان ووحد الإله وذلك قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين. فلما نبئ عليه السلام وبلغت أبا ذر دعوته، وجد مشاكلة قوية بين هذه الدعوة وبين ما كانت نفسه اطمأنت إليه من قبل، فرحل إليه من فوره، وما هو إلا أن لقيه وسمع منه القرآن حتى أسلم وكان خامس خمسة هم كل الجماعة

ص: 19

الإسلامية آنذاك. ولقد أبى إلا أن يجهر في مكة بدينه الجديد فتعمدته قريش بالأذى ثم ذكرت أنه من قوم تمر عيرها من أرضهم، فكفت عنه.

عاد أبو ذر بعد ذلك إلى البادية فدعا قومه إلى الإسلام فأسلم بعضهم، ثم أسلم سائرهم عندما هاجر الرسول إلى المدينة، وبذلك أصبحت غفار من القبائل التي ظاهرت الرسول في محاربته قريشا. وقد لبث أبو ذر في قومه إلى أن تمت الهجرة وانقضت أيام بدر وأحد والخندق ثم قدم المدينة وخرج مع الرسول في غزوة تبوك ولزم صحبته إلى أن توفي عليه السلام فكان بذلك من أكبر رواة الحديث.

وقد وردت أحاديث تشير إلى أخلاق أبي ذر فيروى أن النبي سمعه يقول لآخر (يا بن الأمة) فقال عليه السلام (ما ذهبت عنك اعرابيتك بعد) وتخلفت بأبي ذر راحلته عن الجيش في غزوة تبوك فتركها أدرك الجيش ماشيا وحده فقال الرسول (. . . يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده)، وورد فيه أيضاً (ما أفلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة اصدق من أبي ذر).

وأقام أبو ذر بعد وفاة الرسول بالمدينة، فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب ألحقه عمر في العطاء بأهل بدر تشريفا لقدره وان لم يكن منهم، فعرض له خمسة آلاف درهم في السنة. ثم خرج إلى الشام، وغزا مع معاوية ارض الروم سنة 23 هـ وجزيرة قبرس سنة 27 هـ.

فلما وقف تيار الفتوح العربية منتصف خلافة عثمان أقام أبو ذر بالشام فرأى ما آل إليه المسلمون من الحال التي سبق وصفها. رأى رجال الدولة تسمى الفيء مال الله توصلا بهذه التسمية الخادعة إلى الاستئثار به أو التصرف فيه كما يشاءون. ورأى المجتمع قد استحال فريقين متباينين: أغنياء مترفين وفقراء معدمين، فأثارت تلك الحال حفيظة أبي ذر وهو الذي شهد دورة الفلك كاملة، ورأى العرب في جاهليتهم وما صاروا إليه في خلافة عثمان، فنصب نفسه لمكافحة تلك الحال مهما جر عليه ذلك. فأعلن برنامجه في الإصلاح. فأما الفيء فيجب أن يسمى (مال المسلمين) لا (مال الله) وأما الأغنياء فيجب أن يرد فضل أموالهم على الفقراء، وذهب أبو ذر إلى المسلم (لا ينبغي له أن يكون في ملكه اكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم) أخذ ذلك من ظاهر قوله تعالى

ص: 20

(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) وبذلك البرنامج أصبح أبو ذر داعية اشتراكيا صريحا. وقد شاعت دعوته في فقراء الناس ومجاويحهم فثاروا بالأغنياء وطالبوهم أن يشركوهم في أموالهم، فتوجه الأغنياء بالشكوى إلى أمير الشام لذلك العهد: معاوية بن أبي سفيان.

أحب معاوية قبل كل شيء أن يختر صدق أبي ذر فيما يدعو إليه، فبعث إليه في جنح الليل بألف دينار ولما كان الصبح أرسل إليه يستردها بحيلة إحتالها فوجد أبا ذر قد فرقها كلها، فعلم معاوية أن الرجل يفعل ما يقول. فأقبل يجادله فيما يدعو إليه وعلى سبيل الترضية له قبل أن يسمي الفيء (مال المسلمين) بدلا من (مال الله) ولكن أبا ذر أصر على أن ينزل الأغنياء عن فضل أموالهم للفقراء، وعبثا حاول معاوية أن يقنعه بأن الآية التي يستدل بها إنما نزلت في أهل الكتاب وحدهم. وأعيا معاوية أمر أبي ذر فجنح إلى أخذه بالشدة فنهى الناس عن مجالسته وتهدده بالقتل فلما لم يجد كل ذلك رفع أمره إلى عثمان فأمره بأشخاصه إليه، فأشخصه إليه على شر حال.

لم يكن أبو ذر في المدينة بأسعد منه في الشام فقد حاول عثمان أن يصرفه عن دعوته، ويريه أنه لا يملك أن يجبر الناس على الزهد وعلى أن يؤدوا غير فريضة الزكاة، وان كل الذي يملك هوان يدعو المسلمين إلى الاجتهاد والاقتصاد. ولكن أبا ذر كان يريد برنامجه كاملا، وولع به أهل المدينة والتفوا حوله، فرأى عثمان آخرة الأمر أن يحصر الخطر في أضيق دائرة ممكنة فنفى أبا ذر إلى الربذة وهي مكان في البادية ناء عن المدينة. والظاهر أن عثمان لم يرد أكثر من إبعاد أبي ذر عن الناس، فالروايات تقول أنه أجرى عليه رزقا يناله كل يوم وأنه لم يمنعه إلى الاختلاف إلى المدينة من حين لآخر حتى لا يرتد أعرابياً.

لم يكن أبو ذر ثائرا ولكن طالب إصلاح أرتآه. ومما يدل على عدم نزوعه إلى الثورة أنه وهو في منفاه مر به ركب من أهل الكوفة ممن كان منحرفا عن عثمان فطلبوا إليه أن ينصب راية يلتف حولها كل من كان على شاكلته وشاكلتهم، فأبى ذلك بتاتا ونهاهم عنه: وأما مذهبه في الإصلاح فلا شك أنه ابن بجدته، فالإسلام لا يحظر الثروة ولا الملكية، ولا يوجب على المسلم حقا في ماله غير الزكاة، وكل ما ينهي عنه الإسلام في هذا الصدد إنما هو أن تجعل الثروة غرضا مقصودا لذاته.

ص: 21

وعندي أن حركة أبي ذر الاشتراكية تمت بنسب قوي إلى حركة مزدك الشيوعي الذي ظهر بفارس على عهد قباذ وكسرى أنو شروان، والذي كاد يقلب نظام المجتمع الفارسي رأسا على عقب لولا عزم أنوشروان وحزمه. فإذا عرفنا أن اليمن خضعت لفارس قبيل الإسلام وان يهوديا من أهل صنعاء يعرف بابن السوداء ادعى الإسلام في خلافة عثمان وجعل يطوف الأمصار الإسلامية داعيا إلى الثورة، وانه هو الذي حرك أبا ذر لما أنس فيه من الميول الاشتراكية، إذا عرفنا ذلك كله فقد وضحت الصلة بين الحركة الشيوعية الفارسية القديمة وبين الحركة الاشتراكية التي أوشكت أن تقع في الدولة الإسلامية على عهد ثالث الخلفاء الراشدين.

لبث أبو ذر في منفاه نحو ثلاث سنين يعاني ألم الوحشة وكبر السن وخيبة الأمل فلما أدركه الموت في سنة 32 هـ كانت وفاته مؤثرة ودالة على شدة ثباته على مبدأه حتى النهاية، وعلى أنه حقا قد مشي وحده، ومات وحده، يروي ابن سعد في طبقاته أنه عندما حضرت الوفاة أبا ذر حارت امرأته في أمرها لتوحدها في تلك الفلاة (فكانت تشد إلى كثيب تقوم عليه فتنظر ثم ترجع إليه فتمرضه، ثم ترجع إلى الكثيب، فبينما هي كذلك إذا هي بنفر تحذ بهم رواحلهم كأنهم الرخم على رحالهم، فألاحت بثوبها، فاقبلوا حتى وقفوا عليها، قالوا ما لك؟ قالت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا ومن هو؟ قالت أبا ذر. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السياط في نحورها، يستبقون إليه حتى جاءوه. فقال لهم. . . . . . . . . ولو كان لي ثوب يسعني كفناً لم أكفن إلا في ثوب هو لي، أو لامرأتي ثوب يسعني لم أكفن إلا في ثوبها، فأنشدكم الله والإسلام الا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريدا. فكل القوم قد كان قارف شيئا من ذلك إلا فتى من الأنصار قال أنا أكفنك فإني لم اصب مما ذكرت شيئا، أكفنك في ردائي هذا الذي على وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي. قال أنت فكفني. . . فكان ذلك الفتى الأنصاري هو الذي تولى تجهيزه ثم دفنوه جميعا.

وهكذا انطفأ سراج هذه الشخصية الفذة العجيبة. أنها لا شك من تلك الشخصيات التي يقدمها الزمن عادة بين أيدي الأحداث الخطيرة إنذارا للناس وإقامة للحجة عليهم إذا لج بهم الغرور فلم يرعوا ولم يزدجروا.

ص: 22

على أن روح أبي ذر لم يكن ليغيب مع جثمانه في تلك الفلاة البلقع، فقد ظل صوته داويا إلى أن تحقق ما أنذر به المدينة من (غارة شعواء وحرب مذكار) ووقفت الفتنة الكبرى التي يقال أنها أنتجت كل فتنة حدثت في الإسلام. ولقد كانت غفار ممن نهض فيها وألقى في نارها حطبا.

ص: 23

‌العلم والخلق

للدكتور منصور فهمي

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب

وجهة العالم في أن يدرك الأمور على ما هي عليه، ونشاطه في أن يكسب للمعرفة من ميدان الجهل، وأن ينشر النور حيث يخيم الظلام. ووجهة الخلقي في أن يصور الأمور على ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وأن يلفت الأنظار إلى مثل عليا تحفز بالناس للتسامي إليها والارتفاع بأنفسهم وبالحياة الراهنة إلى ما هو أرفع من أنفسهم وأرفع من الحياة الراهنة.

ولطالما اضطربت الإفهام واستغلق الأمر على الباحثين حيث تعرضوا لاستجلاء الصلة بين العلم وبين الأخلاق فحسبوا أن الوشائج بينهم مقطوعة حين نظروا إلى وجهتين مختلفتين: وجهة من يصف ويعلل، ووجهة من يرتضي مثالاً ويوجه إليه، وجهة من يهز صوته الفكر ويتردد صدى هذا الصوت بين جوانب الدماغ، ووجهة من تؤم نغماته تجاويف القلب وتسري في أقنية الدم، وعلى أسلاك العصب لتدفع بالنفس كلها إلى العمل.

ولطالما رأى غير قليل من المفكرين أن العلم النظري وثمراته التطبيقية لا تؤثر في الناس لتهذيبهم على نحو ما تؤثر العقائد الدينية والفلسفة والمثل العليا، حتى أن بعض قادة الفكر في الزمن الحديث أمثال (بسكال) و (ديكارت) اصطنعوا لأنفسهم ذلك الرأي فتخطوا العلم ليجدوا في الدين وفي العرف مرشدا لسلوكهم ومأمنا لأحكامهم وتقديرهم في اتخاذ الحسن من الأفعال وتجنب القبيح منها، وفي اتخاذ السبيل لراحة النفس واطمئنانها. بل قد ذهب غير قليل من مفكري عصرنا إلى إساءة الظن بالعلم فحملوه أوزار الحروب القاسية، وأخطار الفراغ الممل، وأضرار الثورات الاجتماعية العنيفة ومساوئ المطامع والتنازع الحاد، حتى وقد يبالغون في لوم العلم إلى حد أن يروا على نحو ما يرى (أيشتين) في أنه ذلك المسيء إلى الحريات الإنسانية، فمن ينظر إلى تلك المصانع وما فيها من آلات منوعة، وأعمال موزعة، يتبين أنها تتناصر جميعا على استعباد عدد من العمال وفير، وتسخيرهم تسخيراً آلياً تضمحل معه نفوسهم، وتهن من تأثيره كرامتهم، بل ربما يذهب الذاهبون في مذهبهم العدائي للعلم إلى حد أقسى مما تقدم، فلا يشفع له عندهم فضل

ص: 24

المحسن إلى البشر إذ يقاوم الأمراض الفتاكة، وييسر المسافات البعيدة، ويرفه الخلق في كثير، فمع ذلك ورغم ذلك قد ينكرون على العلم قيمته وفضله لأن من يستطيع الإحسان في شيء قد تكبر تبعته ويعظم إثمه إذا هو استخدم سلاحه للإساءة والعدوان وهو عارف لمواضع الإحسان. وأي إساءة اعظم من إساءة الحروب المعززة بجهود العلم؟ وأي عدوان أشد من تحويل عدد عديد من الناس إلى صنف من المخلوقات يستغرق في الإنتاج شهوة ومن غير قصد، ويستغرق في الاستهلاك شهوة، ومن غير حد؟.

على أن هذا النحو من النظر العدائي ربما كان بعض مصدره ما تتعرض إليه النفوس واللغات أحياناً من الخلط بين الوسائل وغاياتها، وبين العلل ومعلولاتها، وبين الحال والمحل مما هو شائع ذائع.

وعلى هذا النحو خلط الكثيرون بين العلم المحض الخالص وبين نتائج العلم وتطبيقاته في شؤون الحياة، وكذلك قد ظلموه على نحو ما يظلم السيف المهند في يد الجندي الجبان.

وليس حظ السذج والعامة في الخلط بين العلم وتطبيقاته بأربى من حظ بعض الخاصة وأشباههم في هذا الأمر. وقد يطلب الكثيرون من معاهد العلم ودوره أن تفيض عليهم وعلى أبنائهم من المتعلمين بما ينتفع به الناس انتفاعا عمليا حتى شاعت في السنين الأخيرة عندنا وعند غيرنا من الأمم بدعة العلم العملي والتعليم العملي ونادى بها أكثر من كاتب، وقال بها أكثر من مشتغل بشؤون التعليم. ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء لأعترفوا للعلم بطبيعته النظرية، وقدروا له حرصه على المعرفة لذاتها فحسب دون تقدير لنتائجها الضارة أو النافعة.

لكن غير المشتغلين بالعلم الخالص من أفراد الناس بخاصة هم الذين وجهوا نتائج العلم للخير والشر وللحسن والقبيح، دون أن يكون للعلم في ذاته دخل في ذلك التوجيه. فما على العلم إذن وما له إذا استخدم الإنسان بعض آثاره ليعيث بها فسادا أو ليصلح بها في الوجود؟.

ليس في قانون البحث العلمي ما يلزمنا أن نحكم بأن غازا من الغازات يجب أن يتوجه لحيث يحيي أو لحيث يميت! وليس في قانون العلم أن جوهرا من الجواهر يجب أن يكون سما ناقعا أو بلسما نافعا! لكن طبيعة الإنسان بما فيها من رفعة أو ضعة هي التي تستخدم

ص: 25

السم لتجعل منه الدواء أو لتجعل منه الداء، وهي التي تستخدم الشيء الواحد ليكون نعمة أو نقمة. فمدار الخير أو الشر إذن إنما هو منوط بالإنسان. . . على أن الناظر المدقق لو أنه تأمل مليا لوجد أن العلم يشمل عدة عناصر تهيئ النفس للتسامي والخير. ذلك لأن العلم بشيء من الأشياء، وتكشف الحق في جهة من الجهات، وإطلاق النور في مكامن الديجور كل ذلك إنما يشعر بعظمة العقل وجدارة الإنسان، وفي الشعور بالعظمة والجدارة أول مصدر للخلق ونبالته. ولست أريد في هذه الكلمة الوجيزة أن أتعرض لما يحدثه العلم واصطناعه في تقوية الاستعدادات الخلقية الكريمة، وحسبي أن أنبه طالب العلم إلى أن العلم في جوهره نبيل وأن المنتمي إليه يجب أن يكون نبيلا. فيا طالب العلم لا تأثم في حقه فتتوجه به إلى منخفض من الحياة، وإلى ما في الدنيا من ضعة! واعمل دائما على أن تعلو بعلمك إلى السماء وتحلق به حيث شرف النفس ورفعة المقصد وآفاق المعاني السامية وعالم الخير.

ص: 26

‌التجديد في الدين

للأستاذ أمين الخولي

المدرس بكلية الآداب

مقال لمشروع القرش، وحول مشروع القرش، يحضر النفس ذكر الشباب، والتضامن والاستقلال والحياة والقوة وتجديد مجد مصر. . ثم نحن الآن في رمضان: صوم وزهد وتدين. . فمن تداعى هذه المعاني يأتلف العنوان (التجديد في الدين).

عنوان قد يطلع على البعض جريئا بل ربما كان مزعجا لكثير من المتدينين الذين يتعجلون الحكم على الأشياء قبل اختبارها ويبتدرونها بتلك الأحكام الغاضبة السريعة. فان يفعلوا ذلك قبل الفراغ من المقال فهذا هو الذي يفقد أحكامهم قوتها وحرمتها. وإن يتريثوا حتى يقرءوا فسيرون أنهم كثيرا ما يثورون في وجه من لا يستحق منهم الا التقدير.

عنوان قد يكون نابيا قلقا عند غير المتدينين. لأنهم يرون في الشيوخ صورة المحافظة المسرفة، بل يعتبرونهم حجر عثرة في سبيل التجدد على اختلاف ألوانه. ويحملونهم تبعة الكثير مما أوقف الشرق وأخره. ويرونهم جند الرجعية ومرجعها. ويصدر الكثيرون عليهم أحكاما رهيبة. لكنها سرية قل من يجرؤ على مجاهرتهم بها. فأصحاب تلك الآراء والأحكام قد يعدون هذا العنوان دعابة مازحة ومفارقة فكهة. لكنهم إن يتعجلوا الحكم كذلك قبل أن يقرءوا فهذا بعض تطرفهم الذي يفقد جهادهم قوته ويعوق نجاحه. وان يطمئنوا حتى يقرءوا فسيرون أن كثيرا مما ثاروا فيه على الدين ليس من الدين في شيء وأن الدين غير المنتسبين إلى الدين.

العنوان حقيقة صحيحة صريحة لا فكاهة فيه ولا مروق (إن شاء الله) ففي الدين فكرة واضحة عن التجديد تبين ناموسا كونيا وتنبه إلى سنة اجتماعية مطردة لا تتبدل. إذ ورد في الحديث (أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها) أو ما هذا معناه. وهو حديث صحيح نص على صحته متقدمون منهم البيهقي والحاكم ومتأخر ون منهم ابن حجر والعراقي. . وراجت فكرة التجديد في الإسلام. وعني العلماء ببيان مجددي كل مائة وتعيين أسمائهم وأعمالهم والترجمة لهم. . . ولا أريد هنا وفي هذه الإلمامة الصحفية، أن أعني باستقصاء تاريخ فكرة (التجديد في الدين) بل اكتفي بأن أشير في ذلك

ص: 27

إلى مجموعة تنتظم من خير التجديد والمجددين صورة كاملة من الهجرة إلى اليوم، وهي تتألف من منظومة للسيوطي في هذا الموضوع سماها (تحفة المهتدين في بيان أسماء المجددين) ومطلع هذه المنظومة:

لقد أتى في خبر مشتهر

رواه كل حافظ معتبر

بأنه في رأس كل مائة

يبعث ربنا لهذه الأمة

منا علينا عالما يجدد

دين الهندي لأنه مجتهد

وعلى هذه المنظومة شرح للشيخ محمد المراغي المالكي الجرجاوي الذي عاش في القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين وسمى هذا الشرح (بغية المفتدين، ومنحة المجدين، على تحفة المهتدين. . . الخ) شرح فيه منظومة السيوطي ثم اكمل أسماء المجددين نظما إلى عصره وشرح نظمه على طريقة شرحه نظم السيوطي.

وفي بيان الدينيين لمعنى التجديد تراهم يقولون: أنه نفع الأمة، ودفع المكاره عن الناس، ونصرة الحق وأهله، وإحياء ما أندرس من أحكام الشريعة، وما هي من معالم السنن وما خفي من العلوم الدينية ويتحدثون عن تغير الحياة واستحداث أشياء تحتاج إلى تناول جديد وحسبك من قولهم في معنى التجديد ما ورد في المجموعة السابقة من عبارة النظم والشرح ممتزجتين وهي:(وإنما كان مجدداً لأنه أي المبعوث فينا مجتهد وشأن المجتهد التجديد. . . .) ولأن اكتفوا في الأزمنة الأخيرة بالاجتهاد المقيد فبحسبهم أن أناطوا التجديد بالاجتهاد وفسروه به أبعدوه عن التقليد الذي هو آفة العقول وعلة الجمود. وتراهم حين يعدون أسماء المجددين في كل طبقة قد يعددون المجددين ويخصون كل مجدد بفرع من فروع العلم أو العمل. فيوسعون الدائرة توسعة محمودة.

تلك فكرتهم في تجديد الدين: وأنها لفكرة في التجديد متزنة رزينة مقدرة لنظام الحياة وتدرجها معادية للجمود وقاضية عليه قاتلة لأهله. . . . وإذا كان الدين وهو وحي الهي والإسلام وهو رسالة لا رسالة بعدها هو الذي يقرر لأهله أن نظام الحياة العاملة يحوجه إلى التجدد ويهيئ الله له على الزمن من ينفي عنه مظاهر الجمود، وعوامل الوقوف؛ إذا كان هذا حال الدين، وذاك شأن الإسلام، فمرافق الحياة، وظواهر المعيشة التي لا ثبات لها ولا استقرار، والتي هي وليدة الظروف وصنعتها، اشد حاجة إلى التجدد والتغير. . . .

ص: 28

وإذا كانت البعثة الدينية التجديدية منة على المتينين، وفضلا من الله ونعمة، فالمنتسبون إلى الدين حين يقاتلون المبعوثين لهذا التجديد، ويجمدون على ما وجدوا عليه آبائهم، إنما ينكرون نعمة الله، ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجا (وما هم ببالغيه) وهم، وبين أيديهم ذلك الأثر، وعليهم ذلك الواجب لا يأثمون بجمودهم إثما واحدا! بل آثاما كثيرة: إثم لأنهم لا يتجددون وإثم لأنهم لا يجددون وإثم لأنهم يعوقون المتجددين المجددين في تعنت أصم لا يميز الخبيث من الطيب مهما تبينا ولا يعرف داعي الله من داعي الشيطان.

مصر والتجديد في الدين

وما ننسى أن الكلمة لمشروع القرش وحول مشروع القرش. فلنعد إلى مصر المتجددة بجهاد شبانها، مصر ذات الحيوية الفياضة وصاحبة الشخصية الخالدة والتي أسدت إلى الإنسانية والحضارة أطهر الأيادي وأشرفها على تطاول السنين وتمادي الأيام. نعود لنقول أن مصر كعادتها في ذلك قد اضطلعت من تجديد الدين بالحظ الأوفر وساهمت فيه بالنصيب الأكبر على سعة الإمبراطورية الإسلامية وترامي أرجائها وانتظامها الواسع الأفيح أقطار الدنيا القديمة. فأنت حين تعرض أسماء أولئك المبعوثين المجددين على رؤوس المئات خلال الثلاثة عشر قرنا من تاريخ الهجرة تراهم يعدون هكذا:

في المائة الأولىعمر بن عبد العزيز

في المائة الثانيةالشافعي

في المائة الثالثةابن سريج العراقي أو أبو الحسن الأشعري

في المائة الرابعة الباقلاني أو الاسفراييني

في المائة الخامسةالغزالي

في المائة السادسة الفخر الرازي

في المائة السابعة ابن دقيق العيد الشافعي

في المائة الثامنة البلقيني أو غيره

في المائة التاسعة السيوطي

في المائة العاشرةالرملي أو غيره

في المائة الحادية عشرة عبد الله ابن سالم البصري

ص: 29

في المائة الثانية عشرة الدردير

في المائة الثالثة عشرة احمد الشرقاوي

في المائة الرابعة عشرة. . . . . . . . . . . .؟

وتجيد نظرك في هذه الجريدة من الأسماء فترى (كما لاحظ القدماء أنفسهم) أن الكثرة المطلقة من هؤلاء المجددين مصرية رجال أنجبتهم وآوتهم وعلمتهم مصر ذات الفضل العتيد على المدنية منذ عرفها بنو آدم، فبين هؤلاء الثلاثة عشرة مجددا ثمانية من المصريين هم: عمر بن عبد العزيز وليد مصر الناشئ بها، والشافعي الذي حمته وفيها علم، وابن

دقيق العيد القشيري المنفلوطي، والبلقيني المنسوب إلى بلقينة قرب المحلة، والسيوطي والرملي المنسوب إلى رملة قرب

منية العطار تجاه مسجد الخضر، والدردير العدوي، والشرقاوي الجرجاوي. وان شئت عددت لمصر منهم تسعة فمصر في القرن الرابع عشر الهجري هي قلب الشرق الخافق وعقله المفكر وقد تصدرت في شجاعة ونبل لحمل أعباء تلك القيادة منذ بدأ ذلك الشرق يمسح عن عيونه آثار النوم ويتهيأ ليقظة نشطة باهرة تمدها عزمة قاهرة تكتب له النجاة وترد له حقه في الحياة. . . ولا أريد اليوم أن أُسمي مجدد هذه المائة أو مجدديها من المصريين حتى لا أحابي أحداً، ولا ألقن رأياً وإنما أترك الكلمة في ذلك لشبان الشرق وشبان مصر.

يا شبان الشرق ها أنتم أولاء تطالعكم قوى التجديد من حيث تخشون عناصر الجمود؛ وها هو الإسلام الدين الحي يدفعكم دفعا إلى مسايرة نواميس الكون؛ ومجاراة نظم الجماعات الإنسانية؛ وهذا تاريخكم المجيد يغذي حاضركم الحديث فلا عذر اليوم لكم إذا لم تثبت تلك العزمات لتسمع الدهر صوتا أصغى إليه أزمانا وحدا له فسار؛ ومضى حيث صرفه واحكم فيه.

يا شباب: هاكم ماضيا مجيدا في الصدارة والزعامة، لم يدع ميدانا إلا حله، وها هي ذي مصركم معلمة الدنيا قد أنهت إليكم لواء هذه الزعامة وقد بايعها الشرق وعرف مكانها وعاندها الغرب وجحد حقها. والحياة العاملة اليوم إنما تكتب للأمة الصناع والشعب الدؤب

ص: 30

فلا بد أن تتصدر مصركم ما تصدرت من باقي الميادين قديما وسيبني ثبات شبانها بمشروعهم العملي صروحا سامقة من القوة المادية تشهد أن الذين عرف أسلافهم كيف يجمعون الفلسفة ويعينون العلم ويذودون عن الأديان يعرفون هم جيدا كيف يؤصلون الصناعة على أساس أبقى على الدهر من الدهر.

ص: 31

‌في الأدب العَرَبيّ

حلقات الأدب في الفسطاط

للأستاذ محمد عبد الله عنان

(2)

لبثت الفسطاط عاصمة الإسلام في مصر منذ قيامها سنة 21 هـ (641م) حتى سنة 358هـ (969م). وفي ذلك العام كان الفتح الفاطمي، وكان قيام القاهرة المعزية التي وضعت خططها الأولى في شعبان سنة 358، ونشأت القاهرة بادئ بدء مدينة ملكية فقط لتكون قاعدة للدولة الجديدة ومنزلا للخلافة الفاطمية، ونشأ جامعها الأزهر الذي أسس بعد قيامها بأشهر قلائل (جمادى الأولى سنة 359هـ) مسجدا للإمامة الجديدة فقط. ومضى زهاء نصف قرن قبل أن تبدو العاصمة الجديدة في شيء مما تميزت به بعد ذلك بين الأمصار الإسلامية من عظمة وروعة وبهاء، وقبل أن يبدأ الجامع الأزهر تاريخه الأدبي الباهر. ولكن ظلت الفسطاط بعد ذلك عصورا تحتفظ بمكانتها الأدبية، ولبثت حلقاتها ولياليها الأدبية شهيرة بين أدباء المشرق والمغرب. وبدأ الجامع الأزهر ينافس المسجد الجامع في حلقاته ومجالسه الأدبية منذ عهد الخليفة العزيز بالله، إذ استأذن وزيره الشهير يعقوب بن كلس سنة 378 هـ أن ينظم بالأزهر على نفقته بعض مجالس القراءة والفقه. وفي خاتمة القرن الرابع، في عهد الحاكم بأمر الله، أنشئت دار الحكمة بالقاهرة ونظمت مجالسها، فكانت مثوى للمجالس العلمية الكلامية والفلسفية.

ولسنا نتحدث عن القاهرة ومكانتها العلمية والأدبية بين الأمصار الإسلامية في العصور الوسطى، ولا عن أزهرها الذي غدا فيما بعد أعظم جامعة إسلامية، كذلك لسنا نتحدث عن دار الحكمة ومجالسها الشهيرة التي كانت تتخذها الخلافة الفاطمية أداة لتحقيق دعوات دينية فلسفية غامضة، فذلك ليس موضوعنا. وإنما نتتبع تاريخ الفسطاط الأدبي، بعد قيام القاهرة، منافستها العظيمة الفتية.

فقدت الفسطاط أهميتها السياسية والرسمية، ولكنها احتفظت عصورا أخرى بأهميتها الاجتماعية والأدبية وفي فترات كثيرة كانت تتفوق على القاهرة بطابعها الأدبي. وهذا ما يشيد به أدباء المشرق والأندلس الوافدين على مصر في عصور مختلفة. ومن هؤلاء أمية

ص: 32

بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي الذي وفد على مصر في أوائل القرن السادس الهجري في عهد الأفضل شاهنشاه. ودرس الحركة الفكرية والأدبية في مصر يومئذ كتب عنها رسالة لم يصلنا سوى شذور قليلة منها. وفي هذه الشذور يتحدث أبن أبي الصلت عن بعض أدباء مصر وعلمائها، ومجالسهم واجتماعاتهم بما يدل على أن الفسطاط كانت ما تزال مركزا هاما للحركة العلمية والأدبية. ووفد ابن سعيد الأندلسي إلى مصر بعد ذلك بنحو قرن، نحو سنة 637هـ (1240م)، ولبث بها أعواماً طويلة يدرس شئونها وأحوالها، فإذا بالفسطاط ما تزال تحتفظ بأهميتها الأدبية، وإذا بها ما تزال مثوى للأدباء ومركزاً لأبهاء الأدب، وإذا لياليها الأدبية ما تزال شهيرة. ويفرد أبن سعيد في كتابه (المغرب في حلى المغرب) فصلا كبيراً للفسطاط عنوانه:(كتاب الاغتباط في حلى الفسطاط) يتحدث فيه عن المدينة، وزياراته لها واجتماعاته بأدبائها، ولا سيما شاعرها الكبير جمال الدين أبي الحسن الجزار، أشهر شعراء مصر في هذا العصر، وما لقيه من كرم وفادته وشهده من رائع أدبه، وقد كان الشاعر الكبير يومئذ، على ما يظهر شاباً في عنفوان شاعريته لأنه توفي بعد ذلك بنحو أربعين سنة في (679هـ1282م) وهو صاحب الأرجوزة التاريخية الشهيرة المسماة (بالعقود الدرية في الأمراء المصرية) وفيها يستعرض ذكر أمراء مصر وملوكها منذ عمرو بن العاص إلى الملك الظاهر بيبرس، وكانت الفسطاط قد عادت يومئذ فاستعادت كثيراً من بهائها السالف، وأهميتها الاجتماعية القديمة بسبب قيام المدينة الملكية الجديدة التي أنشأها الملك الصالح في جزيرة الروضة المقابلة للفسطاط (638هـ) واتخاذها قاعدة للسلطنة، وانتقال البلاط والحاشية إليها، وسكن كثير من الأمراء والكبراء بالفسطاط في الضفة المقابلة لنهر النيل، وهو ما يشير إليه أبن سعيد في قوله، (وقد نفخ روع الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية (جزيرة الروضة)، وكثير من الجند قد أنتقل إليها للقرب من الخدمة، وبني على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر).

ويشير ابن سعيد في كتابه السالف الذكر إلى ليالي الفسطاط واجتماعاتها الشائعة في الليالي القمرية وأشهرها ما كان يعقد في القرافة مما يلي المقطم في قبة الإمام الشافعي التي كانت قد أنشئت على قبره. وكان المسجد الجامع قد عفت أهميته شيئاً فشيئاً مذ قام منافسه القوي،

ص: 33

الجامع الأزهر وغيره من المساجد والمدارس الجامعة بمدينة القاهرة، ولكننا نراه ما يزال حتى القرن السابع مثوى للأدب واجتماعاته، وبرغم عفائه وقدمه ونسيان أمره، كانت تعقد في عرصاته حلقات للقراءة والدرس، وهو ما يشير إليه ابن سعيد أيضاً خلال وصفه للمسجد الجامع في منتصف القرن السابع، بيد أن هذه الحلقات لم تكن من الأهمية والرونق والانتظام مثلما كانت عليه في القرون الأولى يوم كان المسجد الجامع مجتمع الأمراء وأقطاب التفكير والأدب. وكانت يومئذ أقرب إلى الصبغة المدرسية. ومع ذلك فقد بقي للمسجد الجامع حتى ذلك العصر كثير من ذكرياته الأدبية المجيدة. وهي كعبة الأدباء والشعراء. يجتمعون فيه كلما سنحت فرص الاجتماع لعقد الأسمار والمطارحات الأدبية. وإليك نموذجاً لهذه الاجتماعات الشهيرة أورده ابن فضل العمري في موسوعته الكبيرة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) في حديثه عن المسجد الجامع.

(حكي على بن ظافر الازدي. قال: روى لي أن الأعز أبا الفتوح ابن قلاقس وابن المنجم اجتمعا في منار الجامع في ليلة فطر ظهر بها الهلال للعيون. وبرز في صفحة بحر النيل كالنون. ومعهما جماعة من غواة الأدب الذين ينسلون إليه من كل حدب. فحين رأوا الشمس فوق الليل غاربة. وإلى مستقرها جارية ذاهبة. وقد شمرت للمغرب الذيل. واصفرت خوفاً من هجمة الليل. والهلال في حمرة الشفق. كحاجب الشائب أو زورق الورق. فاقترحوا عليهما أن يصنعا في ذلك الوقت الزيه. على البديه. فصنع ابن قلاقس:

انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة

وانظر لما بعدها من حمرة الشفق

غابت وأبقت شعاعاً منه يخلفها

كأنما احترقت بالماء في الغرق

وللهلال، فهل وافى لينقذها

في إثرها زورق قد صيغ من ورق؟

وصنع ابن المنجم:

يا رب سامية في الجو فمت بها

أمد طرفي في أرض من الأفق

حيث العشية في التمثيل معركة

إذا رآها جبان مات للفرق

شمس نهارية للغرب زاهية

بالنيل مصفرة من هجمة الغسق

وللهلال إنعطافة كالسنان بدا

من سورة الطعن ملقى في دم الشفق

(وحكي على بن ظافر أيضاً، قال: أخبرني ابن المنجم الصواف بما معناه: قال، صعدت

ص: 34

إلى سطح الجامع بمصر في آخر رمضان مع جماعة فصادفت به الأديب الأعز أبا الفتوح بن قلاقس ونشو الملك علي بن مفرج بن المنجم وشجاعا المغربي في جماعة من الأدباء. فانضمت إليهم. فلما غابت الشمس وفاتت، اقترح الجماعة على ابن قلاقس وابن المنجم أن يعملا في صفة الحال. فكان ما صنعه نشو الملك:

وعشى كأنما الأفق فيه

لازورد مرصع بنضار

قلت لما دنت لمغربها الشم

س ولاح الهلال للنظار

اقرض الشرق صنوه الغرب دين

ارا فأعطى الرهين نصف سوار

وكان الذي صنعه ابن قلاقس:

لا تظن الظلام قد أخذ الشم

س وأعطى النهار هذا الهلالا

إنما الشرق اقرض الغرب دي

نارا فأعطاه رهنه خلخالا

ونحن نعرف أن الشاعر المصري الإسكندري الأشهر ابن قلاقس كان من شعراء النصف الأخير من القرن السادس الهجري (532 - 607 هـ) وكذلك ابن المنجم من شعراء هذا العصر. وإذن فقد كان المسجد الجامع، حتى أوائل القرن السابع منتدى لأكابر الأدباء والشعراء، وكانت الفسطاط لا تزال شهيرة بلياليها وحلقاتها الأدبية، حتى بعد ذلك بنحو نصف قرن على نحو ما يشير إليه ابن سعيد الأندلسي.

ومنذ أواخر القرن السابع الهجري نرى الفسطاط تفقد أهميتها الاجتماعية والأدبية شيئاً فشيئاً ونرى المسجد الجامع وقد غمره النسيان والعفاء. وقلما نظفر في سير القرن الثامن بما ينبئ عن مكانة الفسطاط أو أهميتها الاجتماعية أو الأدبية. بل نرى الفسطاط في هذا العصر تنتهي إلى ضاحية متواضعة لمدينة القاهرة. ونرى القاهرة تغمر بعظمتها وبهائها وأهميتها العلمية والأدبية عاصمة الإسلام الأولى في مصر. ونراها مثوى كل حركة فكرية أو أدبية. ونرى الجامع الأزهر كعبة العلماء والأدباء لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله، على أن مؤرخ الآداب في مصر الإسلامية لا يسعه - حين يعالج تاريخ الآداب في عصور الإسلام الأولى - إلا أن يلاحظ أهمية الدور الكبير الذي أدته الفسطاط وحلقاتها ولياليها الأدبية، وأداه مسجدها الجامع في تطور الحركة الفكرية والأدبية في مصر.

ص: 35

‌من طرائف الشعر

نداء للشباب

كن قويا، كن عزيزا

للدكتور محمد عوض محمد

الأستاذ بالتجارة العليا

أتحنو عليك قلوب الورى

إذا دمع عينيك يوماً جرى؟

وهل ترحم الحمل المستضام

ذئاب الفلا أو أسود الشرى؟

وماذا ينال الضعيف الذليل

سوى أن يحقر أو يزدرى؟

لقد سمع النسر نوح الحمام

فلم يعف عنها ولم يغفرا

انقض ظلما ليغتالها

وأنشب في نحرها المنسرا

وما رد عنها الأذى ذلها

ولا أنها ما جنت منكرا

فكن يابس العود صلب القناة

قوي المراس متين العرى!

ولا تتطامن لبغي البغاة

وكن كاسراً قبل أن تكسرا

وأولى لمن عاش مثل الثرى

ذليلا لو احتل جوف الثرى

قلوب الأنام كصم الصفاة

وشق على الصخر أن يفجرا

أرى أيدياً لاغتيال تمد

فأجدر بها الآن أن تبترا!

إذا كنت ترجو كبار الأمور

فأعدد لها همة أكبرا!

طريق العلا أبداً للأمام

فويحك هل ترجع القهقرى؟

وكل البرية في يقظة

فويل لمن يستطيب الكرى!

كن جميلا تر الوجود جميلا

للأستاذ إليا أبو ماضي

أيهذا الشاكي وما بك داء

كيف تغدو إذا غدوت عليلا

أن شر الجناة في الأرض نفس

تتوقى قبل الرحيل الرحيلا

ص: 37

وترى الشوك في الورود وتعمي

أن نرى فوقها الندى إكليلا

هو عبء على الحياة ثقيل

من يظن الحياة عبئا ثقيلا

والذي نفسه بغير جمال

لا يرى في الوجود شيئا جميلا

ليس أشقى ممن يرى العيش مراً

ويظن اللذات فيه فضولا

أحكم الناس في الحياة أناس

عللوها فأحسنوا التعليلا

فتمتع بالصبح ما دمت فيه

لا تخف أن يزول حتى يزولا

وإذا ما أظل رأسك هم

قَصِّر البحث فيه كي لا يطولا

أدركت كنهها طيور الروابي

فمن العار أن تظل جهولا

ما تراها والحقل ملك سواها

اتخذت فيه مسرحا ومقيلا

تتغنى والصقر قد ملك الج - وعليها والصائدون السبيلا

تتغنى وعمرها بعض عام

أفتبكي وقد تعيش طويلا

تتغنىُ وقد رأت بعضها يؤ

خذ حياً والبعض يقضى قتيلا

فهي فوق الغصون في الفجر تتلو

سوّر الوجد والهوى ترتيلا

وهي طورا على الثرى واقعات

تلقط الحب أو تجر الذيولا

كلما أمسك الغصون نسيم

صفقت للغصون حتى تميلا

فإذا ذهب الأصيل الروابي

وقفت فوقها تناجي الأصيلا

فاطلب اللهو مثلما تطلب الأ

طيار عند الهجير ظلاً ظليلا

وتعلم حب الطبيعة منها

واترك القال للورى والقيلا

فالذي يتقي العواذل يلقى

كل حين في كل شخص عذولا

أنت للأرض أولاً وأخيراً

كنت ملكا أو كنت عبداً ذليلا

كل نجم إلى الأفول، ولكن

آفة النجم أن يخاف الأفولا

غاية الورد في الرياض ذبول

كن حكيما واسبق إليه الذبولا

وإذا ما وجدت في الأرض ظلاً

فتفيأ به إلى أن يحولا

وتوقع إذا السماء اكفهرت

مطرا في السهول يحيي السهولا

قل لقوم يستنزفون المآقي

هل شفيتم من البكاء غليلا

ص: 38

ما أتينا إلى الحياة لنشقى

فأريحوا أهل العقول العقولا

كل من يجمع الهموم عليه

أخذته الهموم أخذاً وبيلا

كن هزاراً في عشه يتغنى

ومع الكبل لا يبالى الكبولا

لا غراباً يطارد الدود في الأر

ض وبوماً في الليل يبكي الطلولا

كن غديرا يسير في الأرض رقرا

قا فيسقي عن جانبيه الحقولا

تستحم النجوم فيه، ويلقى

كل شخص وكل شيء مثيلا

لا وعاء يقيد الماء حتى

تستحيل المياه فيه وحولا

كن مع الفجر نسمة توسع الأز

هار شماً وتارة تقبيلا

لا سموما من السوافي اللواتي

تملأ الأرض في الظلام عويلا

ومع الليل كوكبا يؤنس الغا

بات والنهر والربى والسهولا

لا دجى يكره العوالم والنا

س فيلقى على الجميع سدولا

أيهذا الشاكي وما بك داء

كن جميلا ترى الوجود جميلا

ص: 39

‌في الأدب الشرقي

الأدب الفارسي والأدب العربي

للدكتور عبد الوهاب عزام

الأستاذ بكلية الآداب

- 1 -

أمة ذات حضارة فاتت التاريخ أوليتها، ونظم أمرتها الحقب الطويلة يقوم عليها ملوك مسلطون رفعوا إلى مستوى فوق البشر أقدامهم، وأقر لهم بهذا رعاياهم، وقد طار صيتهم في الآفاق فملأ جيرانهم رهبة وإكبارا. أمة ذات دين نصر الملوك ونصروه فاشتد قوامه على كل مخالف وارهبوا كل متبوع. نزلت هذه الأمة أرضا وسطا بين مهد الآريين والساميين يجاورها في الغرب بابل وأشور، ويصاقبها في الشرق الهند. ثم يتصل بها من الشمال والشمال الشرقي الترك والصين. فاض بها سلطانها حتى غزت اليونان في عقر دارهم، وغزت كثيرا من أوربا الشرقية الجنوبية. وملكت الشام وفلسطين ومصر. وكانت الحرب من بعد سجالا بينها وبين الروم. كانت بلادها طريقا للتجارة بين الشرق والغرب. وموصلا بين حضارتيهما. وكانت موئلا للفلسفة اليونانية. وملجأ للعائذين من فلاسفة اليونان. تلكم أمة الفرس التي يقول فيها مهيار:

قومي استولوا على الدهر فتى

ومشوا فوق رءوس الحقب!

عمموا بالشمس هاماتهم

وبنوا أبياتهم بالشهب!

وأخرى من الأمم عريقة في البداوة وأبية على كل عسف، حديثة عهد بالخضوع حتى لسلطان الله، أنضجتها البداوة فإذا هي قوية نشيطة ذكية متوقدة، وأورثتها معيشتها وحروبها ضروبا من العزة والشجاعة والفروسية والصبر على المكاره، والقناعة بالقليل، وجمع كلمتها وأنار قلوبها الدين، وتلكم هي أمة العرب.

- 2 -

بينما كان الإسلام يجمع شمل العرب كان الفرس مسيطرين على عرب الحيرة يتخذونهم عوناً على الأعراب، وعلى الرومان (كما كان الرومان يستعينون بالغساسنة في الشام)

ص: 40

وكان الفرس كذلك مسيطرين في اليمن والبحرين. وقد أعظم العرب شأنهم فهابوهم وسموهم الأسد، وسموا قبائل ربيعة التي كانت تجاور الفرس وتأبى عليهم أحياناً (ربيعة الأسد من أجل ذلك) وعرفوا من أخبارهم وعاداتهم ما جعلوه مضرب المثل، وعرفوا كذلك دينهم حتى يقال أن من بني تميم من كان يعبد النار. وفي ذكر القرآن للمجوس كثيراً دلالة على هذا.

فلما استقام للعرب أمرهم خلص اليمن بغير عناء وأسلم الفرس هناك، حتى قاتلوا مع المسلمين الأسود العنسي المتنبىء، وكذلك أجلى عامل كسرى على البحرين أيام أبي بكر، وأسلم هناك من أسلم ودفع الجزية من بقي على دينه. ثم تمادى بالمسلمين الفتح فإذا هم يقاتلون في جهات العراق عرباً وفرساً قد تخالطوا حتى لم يتميز بعضهم من بعض وحتى كان العرب يداً مع الفرس على العرب إبان الفتح، فخالد بن الوليد يقول لأهل الحيرة: أعرب أنتم فما تنقمون من العرب؟ فيحتجون لعربيتهم بأنهم ليس لهم لسان غير العربية. تغلغل المسلمون في فتح بعد آخر، صلحاً وحرباً فإذا هم ينازلون الأكاسرة أنفسهم، وأيقن الفرس أن الأمر جد لا هزل، وكان قد اجتمع أمرهم بعد الفرقة ليزدجر السادس فساقوا على العرب جيشا حشدوا فيه من عدد الحرب وجندها ما لا عهد للعرب به، ولم يكن بد للعرب من المقاومة فاستنجدوا الخليفة عمر فأهمته حرب فارس، وندب الناس إليها فتثاقلوا إعظاما لأمر الفرس واستفز عمر العصبية العربية؛ ورضى أن يدعى إلى الحرب مسلمهم وغير مسلمهم. وقد اهتم الفرس بأمر القادسية أيما اهتمام، وارتقب العرب عقباها من العذيب إلى عدن أبين ومن الأبلة إلى ابلة، كما يقول الطبري.

وكانت القادسية أول موقعة عظيمة حشد لها الجمعان ما استطاعوا، ولكنها لم تكن أعظم الوقائع ولا آخرتها فموقعة نهاوند التي سماها العرب فتح الفتوح، وهي آخر الوقائع العظيمة، كانت بعد القادسية بسبع سنين، وبينهما وقائع، وكان ملك الفرس يزدجرد، لا يزال يكر على العرب في الحين بعد الحين، ويستمد الترك وقد تعقبه العرب إلى أقصى الشرق، واستمر على ذلك حتى سنة 31. سبعة عشر عاما بعد القادسية فبينا يتهيأ لصلح العرب على بعض الأقاليم قتله بعض اتباعه كما قتل دارا من قبل بينما يتعقبه الاسكندر المقدوني. وبذلك تم للعرب الاستيلاء على فارس رغم الثورات التي كانت تظهر في الحين

ص: 41

بعد الحين إلا جهات في طبرستان وجيلان لم تفتح إلا بعد قرنين وبقى بعد ذلك أمراء في جهات نائية قرونا طويلة.

- 3 -

فتح العرب الأقطار باسم الدين فلم يكن الا أن يسلم الفارسي فإذا هو واحد من المسلمين الفاتحين، ثم كان حكمهم على رغم مصائب الحروب وفظائعها عدلا لا عنف فيه. وكان في الفرس على هذا من وجدوا في الفتح الإسلامي مخلصا من اضطهاد ديني، فقد كانت الزردشتية شديدة على من شذّ عنها، أو وسيلة إلى جاه.

فالديلم من جند الفرس انحازوا للمسلمين (بعد القادسية وأسلموا) وعاونوا في واقعة جلولاء، ثم استوطنوا الكوفة. ونجد من الفرس مثل (أبي الفرخان) الذي عاون العرب في فتح الري فولي عليها. ونجد مرزبان مرو يخذل يزدجرد ويرسل أمواله بعد أن قتل إلى أمير العرب هناك.

وقد أعطى العرب الفرس الذين قاتلوا معهم حظهم من الغنائم وفرض عمر في العطاء لمثل المرزبان في المدينة وأحسن العرب إلى الفلاحين الذين لم يقاتلوا. ويقول الطبري (عن أهل فارس) وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا في زمن الأكاسرة فكانوا كأنما هم في ملكهم الا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم فاغتبطوا وغبطوا. وقد بقى الفرس أحراراً في دينهم وبقيت معابد النار في الجهات كلها ولا سيما في فارس. فقد حكى المؤرخون كالاصطخري وابن حوقل أنه لا توجد قرية في فارس بغير معبد للنار، وان جمهور أهلها من عبدة النار وانهم في شيراز لا يمتازون من المسلمين في مظاهرهم وكانت معابد النار تحمى ويعاقب مخربوها.

وإنما تناقص عدد الزردشتيين بدخول كثير منهم في الإسلام، وقد دخلوا فيه أفواجا حتى شكا عامل خراسان إلى عمر بن عبد العزيز قلة الجزية فأرسل إليه أن الله بعث محمداً صلعم هاديا ولم يبعثه جابيا. على أنهم بقوا كثيرين إلى عصر قريب. ويقول أن كرمان حين حاصرها محمد خان قاجار كان فيها 12 ألف أسرة زردشتية.

إنما أفيض في هذا لأبين أن العرب والفرس بعد الفتح لم يكونوا في نضال مستمر. وان العرب لم يستعبدوا الفرس كما يحسب بعض الناس. لم يفعل العرب الا أن حطموا الحدود

ص: 42

الوطنية فشاركوا الفرس في جماعة أوسع. ونالوا من العلوم والآداب التي تعاونت عليها الأمم الإسلامية، ونالوا عليا المناصب. فالبرامكة مثلا كانوا يدبرون للعباسيين ملكا أعظم وأوسع مما كان يديره بزرجمهر لانوشروان.

- 4 -

الآداب الفارسية الحديثة تؤرخ من القرن الرابع الهجري (تقريباً) - كما يأتي - فماذا أصاب اللغة الفارسية في ثلاثة القرون التي تلت الفتح الإسلامي؟ وماذا أصاب الفرس في هذه القرون؟

في إجابة هذين السؤالين يجب أن نفرق تفريقاً تاماً بين الكلام على الفرس، والكلام على اللغة الفارسية.

فأما اللغة الفارسية فالكلام عنها من جهتين: من حيث أنها لغة تخاطب ومن حيث أنها لغة العلم والأدب. فأما من الوجهة العلمية فقد وقفت اللغة وقفة طويلة، ولم يؤلف فيها إلا كتب قليلة معظمها في الدين، ويمكن أن يقال أنها عقمت تماماً بعد قرنين من ظهور الإسلام، فالكتب التي ألفت في العصر الإسلامي وبقيت على الزمن لا تتجاوز عصر المأمون، وهي كتب دينية قليلة أراد بها الزردشتيون الدفاع عن دينهم والإبقاء عليه. ولكن كان للغة الفهلوية عمل أعظم من هذا أبقى أثراً هو حفظها آداب الساسانيين وتاريخهم في كتبها لتكون مصدرا للترجمة إلى اللغة العربية، ولتكون من بعد أساساً للآداب الفارسية الحديثة. فقد بذل رجال الدين أو الموابذة وملاك الأراضي أي الدهاقين جهدهم في حفظ كتبهم، وكان الساسانيون من قبل ذوي عناية بالكتب وحفظها. ويمتاز إقليمان في إيران بأن كانا موئل الآثار الفارسية: فارس وخراسان (كما امتازت طبرستان بوعورة أرضها وكثرة غاباتها فبقى فيها استقلال الفرس مدة طويلة) فأما خراسان فكانت مبعث الشعر الفارسي الحديث، وأما فارس مهد الدول الفارسية القديمة فقد لاذ بجبالها جماعات من الزردشتيين، فعكفوا على درس آدابهم القديمة وحفظ كتبها. فحصن شيز في جهة أرجان كان مسكن مجوس خبراء بإيران وتاريخها. وكان به صور الملوك والعظماء وتاريخهم، هكذا يقول الاصطخري وابن حوقل، ويؤيد هذا ما يقوله المسعودي: أنه رأى في اصطخر عند أسرة فارسية كبيرة كتاب الملوك يتضمن صور الملوك وأزمتهم ووصف آثارهم. ويتصل بهذا ما

ص: 43

رواه صاحب الفهرست عن أبي معشر إن الفرس القدماء خزنوا كثيراً من كتبهم في أصفان في بناء عظيم بقي إلى زمان أبي معشر، أن الناس عثروا على كتب فيه، ثم يقول ابن النديم (اخبرني الثقة أنه أنهار سنة 350 أزج آخر عن كتب كثيرة لا يهتدي إلى قراءتها). والذي رأيته أنا بالمشاهدة أن أبا الفضل ابن العميد أرسل في سنة نيف وأربعين كتباً متقطعة أصيبت بأصفان في سور المدينة وكانت باليونانية إلخ.)

ففي أمثال حصن شيز وبناء أصفان حفظت الكتب القديمة التي ترجمت إلى العربية أيام الدولة العباسية.

ص: 44

‌في الأدب الغربيّ

حزن أولمبيو

لفيكتور هوجو

ترجمة ابن عبد الملك

لم تكن الحقول غبراء، ولا السماء كدراء حين أقبل يقضي ذمام هذه الربوع التي سال في ثراها قلبه الجريح المثخن وإنما كان ضوء النهار يتألق في أفق لازوردي غير محدود، ويتدفق على بساط من أديم الأرض ممدود. وكانت النسائم عابقة بالعطور، والمروج حافلة بالخضرة والزهور.

وكان الخريف طلق الجوانب، والسماء مذهبة الحواشي، والربى حانية الخمائل المونقة على السهل وقد ضربت في خضرتها صفرة قليلة.

والطيور هاتفة بأغاريدها الشجية القدسية ووجوها إلى الله الذي ينم عليه كل كائن، ويسبح بحمده كل شيء، كأنما كانت تقول له شيئا عن الإنسان!!

أراد الولهان أن يرى كل شيء: يرى الغدير الطامي الذي يصطفق بجانب العين، والطلل البالي الذي استنفد ما في كيسيهما بالصدقة، وسرحة الدردار العتيقة المعوجة وخلوات الحب في أجواف الغاب المترامية، والشجرة التي استغرقا تحتها في القبلات فذهلا عن كل شيء.

بحث عن الحديقة والبيت المنعزل والبستان الحادر، والدرابزون الذي يغيب البصر من خلاله في ممشى منحرف. وكان يمشي متكسر الوجه من الحزن، شاحب اللون كثير الهم فيرى وا أسفاه لدى كل شجرة شبح الأيام الخوالي يقوم منتصبا على وقع خطاه المتئدة الثقيلة!.

تجول طول النهار على طول المسيل وقد ملك إعجابه وجه السماء الضاحك، ومرآة البحيرة المصقولة.

ثم قيد بصره ما راعه من صور الطبيعة في الحقول، فتأملها مليا ثم ذهب مع أحلامه حتى المساء.

تجول طيلة النهار ذاكراً والهفي عليه مخاطره اللذيذة ناظرا من أعالي السوج دون أن

ص: 45

يجرؤ على الولوج كأنه صعلوك من صعاليك الهند.

فلما آذنت الشمس بالمغيب أحس في صدره وحشة القبر وفي قلبه لوعة الهم، فجأر بالشكوى وهتف بالنجوى يقول:

أيها الألم! لقد أردت أنا المشترك الخاطر المسعور الفؤاد أن أعلم هل الإناء لا يزال محتفظا بالسائل؟ وان أرى ماذا فعل هذا الوادي السعيد بما خلفت فيه من قلبي؟.

ما اقدر الزمن اليسير على أن يغير كل شيء!

ايه أيتها الطبيعة ذات الوجه الضاحك والجبين الأغر! ما أسرع ما تنسين! وما أشد ما تقطعين العلائق الخفية التي تربط قلوبنا بكثرة استحالاتك وتغير حالاتك!.

أن غرفنا التي اتخذناها من ورق الشجر الألف قد تهدمت.

والشجرة التي حفرنا عليها اسمينا قد ماتت أو تحطمت.

وورودنا النابتة في الحظيرة قد عبثت بها أيدي الأطفال الذين يقفزون فوق الحفرة!

والعين التي كانت تشرب منها ساعة القيظ وهي هابطة من الغاب قد قام على موردها جدار!!

لله ما كان اجمل يدها حين كانت تغترف بها الماء ثم تدعه يتساقط من خلال أصابعها كنثير اللؤلؤ الرطب!!

لقد رصفوا الطريق الغليظ الوعر الذي كنا نسير فيه جنبا إلى جنب فترتسم على رمله النقي قدمانا، ويكون أثر قدمك الرقيقة الأنيقة بجانب قدمي سخرية حسناء، وضحكة استهزاء!!

والحاجز الحجري الذي قام على حد الطريق حقبة طويلة ذلك الحاجز الذي كان يحلو لها أن تجلس فوقه في انتظاري قد هد ركنه اصطدام العجلات الموقرة بالأعباء، وهي آيبة تئن في المساء!!

والغابة أصبحت حطاما هنا وبسقت أدواحها هناك! ولم يكد يبقى من كل ما حللناه وتقمصناه شيء حي!

وأكداس الذكريات تبددها الرياح الأربع ككومة من التراب الخامد البارد قد ألوت بها الريح الدبور!!

ص: 46

وا ويلتاه! ألم يعد لنا إذن وجود؟ هل مضت مدتنا وانقضت لذتنا؟ أما يرجعها إلى صرخاتنا الضارعة الضائعة شيء؟

النسيم يداعب الغصون وأنا أبكي! ومنزلي ينظر إلى ولا يعرفني!

والآن سيمر غيرنا من حيث مررنا، وسيرد آخرون هذا المورد الذي عنه صدرنا، والحلم الذي بدأناه سيواصلون رؤياه، ولكنهم مثلنا لا يستطيعون أن يبلغوا مداه!

وذلك لأن الناس في هذه الحياة لا ينعمون ولا يكملون، سواء في ذلك الخبيثون والطيبون.

وسيستيقظون جميعا في مكان واحد من الحلم، إذ كلهم يبدءون في هذا العالم ثم يتممون في غيره.

أجل ستأتي نوبة آخرين، فينعمون في ظلال هذا الكون الساكن الآمن الفاتن بما وهبت الطبيعة للحب من خيال وجلال ولذة!

وسيرث غيرنا حقولنا وطرقاتنا وخلواتنا، ويستولي من لا تعرفين على غابتك يا حبيبتي! ويقبل بعض النسوة الهوج إلى هذا الماء يبتردن فيه فيكدرن غمره الذي لمسته قدماك العاريتان فتقدس!

يا الله! إذن ذهب الحب الذي أحببناه في هذا المكان باطلا! ولم يبق لنا شيء من هذه الربوات المزهرة التي امتزج فيها لهبانا فانصهر بهما جسمانا واتحد قلبانا.

هيهات قد استرجعته الطبيعة التي لا ترحم ولا تتألم!

بالله! نبئنني أيتها المسايل الممرعة، والجداول المترعة، والعرائش الموقرة بالعناقيد، والأغصان المثقلة بالأعشاش والأغاريد! وخبرنني أيتها المغائر والآجام والأدغال! هل تطربن قلباً غير قلبنا بهذه الأغاني، وتناغين حباً غير حبنا بهذه الأناشيد؟

لقد كنا ندرك مرامي كلامك، ونجعل مشاعرنا كلها أصداء لرجع أنغامك، ونرهف أسماعنا لالتقاط ما يبدر أحياناً من بليغ شعرك، دون أن نميط الحجاب عن خبيئة سرك!

أيتها الطبيعة المجلوة في هذا الخلاء الجميل!

متى رقدت أنا وهي تحت صفائح القبر فهل تظلين جامدة أمام موتنا وموت حبنا، توالين حفلاتك وأعيادك، وتواصلين بسماتك وإنشادك؟

ألا تقولين لطيفنا إذا ما رأيتهما يجولان بين رباك وخلواتك، وفيما ألفا من جبالك وغاباتك،

ص: 47

ما يقوله جميع الأصدقاء لإخوانهم القدماء من سرائر القلب ونجاوى الضمير؟

هل تستطيعين أن تري دون أن يلوعك الحزن ويرمضك الأسى شبحينا يطوفان بمواقع خطواتنا، ومواضع خلواتنا، وأن تريها تقودني في عناق مكتئب إلى ينبوع منتحب يئن في خفوت وهمس؟

وإذا ما لجأ عاشقان إلى جوارك، واختفيا عن العواذل تحت ستارك، وخبآ سرورهما بين أزهارك، فهل تسرين إليهما هذه الكلمة:

(أيها الراتعان في رياض الحياة! اذكرا من طوح بهما الدهر في قفار الموت!)

لعمرك ما هذه المروج والعيون والغابات والسماوات والبحيرات والسهول والحزون إلا عادة مستردة! يعيرنا الله إياها لحظة من الزمن لنضع فيها قلوبنا وأحلامنا وغرامنا ثم يستردها.

ثم يطفئ بعد ذلك سراجنا ويدفن في حلك الليل شعاعنا. ثم يوحي إلى الوادي الذي انطبعت فيه صورنا ونفوسنا أن يطمس آثارنا، ويمحو أسماءنا وأخبارنا.

لا بأس!! أنسينا أيتها الدار! وانكرينا أيتها الحديقة! ولا تذكرينا يا ظلال! واحتل عتبتنا يا عشب! وغط آثار قدمينا يا عوسج! وغردي أيتها الطيور! وتدفقي أيتها الجداول. وتكاثري أيتها الأوراق. فان الذين طويتم صحيفة ذكرهما لا ينسيان!

وكيف ننسى وانتم خيال الحب نفسه! أنتم الواحة التي يلاقيها المسافر في وقدة الصحراء، والخلوة العظمى التي بكينا بها أحرّ بكاء، وكل منا يده في يد الآخر!

كل الأهواء تمضي مع العمر. بعضها يحمل نقابه وبعضها يحمل مديته كدبر النحل يسافر جذلان شاديا وجماعته تضمحل وتقل وراء الأكمة.

إلا إياك أيها الحب فلا شيء يمحوك! أنت السحر وأنت الفتنة! وسواء أكنت مشعالا بدويا أم مصباحا حضريا فأنت الذي تشرق في العيون وبين الضلوع، وتستولي علينا بالبسمات وخاصة بالدموع! أن الناس في الشباب يلعنونك، ولكنهم في المشيب يعبدونك!

ص: 48

‌بيت الراعي

للشاعر الفرنسي الفريد دفني

- 2 -

- 1 -

أيها الشعر أيها الكنز. يا جوهرة العقل. أن عواصف القلب كزوابع البحر لن تستطيع أن تعوق رداءك المتعدد الصبغة عن أن يجمع ألوانه، لكن ما أن يراك السوقة وأنت تلمع فوق جبهة نبيلة حتى تضطرب حواسهم لبريق سناك الناصل في أعينهم، الغامض على أفهامهم، فتنطلق ألسنتهم بالنيل منك وقلوبهم تكاد تنخلع من الهلع.

- 2 -

إنما يخشى حماسة الإلهام ضعاف النفوس. أولئك الذين لا يقوون على الاستقلال بعبئه والصبر على لظاه. وفيم تنكبه والحياة تضاعفها نيران العاطفة ولكم من قبس الهي تصيبنا ناره من حين إلى حين. تلك هي الشمس وهو الحب وهي الحياة ومع ذلك فهل من يود أن تنطفئ نارها. أننا نعتز بها ونحن ساخطون عليها.

- 3 -

لقد أستحقت إلهة الشعر ابتسامات التهكم وإمارات الاستهتار التي يستثيرها مرآها منذ أن اتجهت ببصرها إلى العاهرين فأضطرب مقالها ونزل صدقها منزل الشك وحرم عليها أن تعلم الحكمة وأصبحت اليوم إذا صاحت بعابري الطريق أن أفسحوا أفسح لها السائر في غير هيبة ولا احترام.

- 4 -

يالك من فتاة لا عفة لها. يا ليتك صنت وقارك يا سليلة ارفيوس. إذا ما كنت تذهبين إلى حيث لا يليق بك إلى الشوارع وملتقى الطرق تنشدين الأغاني بصوتك المختنق المتهدج. إذا ما كنت تلصقين بجانب فمك باقة الشعر اللاذعة كالذبابة، وبجانب عينك الزرقاء معنى الرمز المستهتر.

5 -

لقد سقطت منذ حداثتك. ففي اليونان أسكرك عجوز بقبلته وكان أول من خلع عنك ثوب

ص: 49

كهنوتك ثم أجلسك على فخذيه بين جماعة من الشبان، ولا يزال على جبينك آثار من غض قبلاته! وفي ولائم هوراس كنت تغنين وأنت تثملين بالشراب، وجاء فولتير فقادك إلى البلاط تحت أبصارنا جميعاً.

- 6 -

يالك من قسيسة خبت نارها. هاهم أعظم الناس خطراً لا يضعون على جباههم من تاجك إلا بعضه. هاهم تقف أقدامهم وكأنما يتعثرون في خطاياك حتى أنه لمن الإهانة لأحدهم ألا يكون شاعراً. ينثرون أفكارهم مع رياح المنصة فتدور بها عمياء كالقدر ثم تحملها إلى غير مستقر.

- 7 -

متكبرون متعالون في مواقفهم الكاذبة وأن مادت الأرض تحت أقدام أولئك التريبون خطبهم الفانية تتملق الجماهير التي تلتف حولهم وتصفق لعباراتهم أولئك الجماهير الذين يتجددون باستمرار في هذه المسارب الضيقة. هؤلاء النظارة لا يحملون لأولئك الممثلين السياسيين إلا أزهاراً لا رائحة لها وما لها من غد في أغلب الأحيان.

- 8 -

ُافْقهم تحده جدران صالتهم حيث يقومون بألعابهم الكاذبة والشعب يسمع عن بعد ضوضاء مجادلاتهم ولكنه لا ينظر إلى تلك الألعاب الا كما ينظر أبناؤه ونساؤه مضطربين إلى ذلك الحدث العجب. آلة البخار ذات المائة ذراع.

- 9 -

ترى الفلاح المعتم يسخط عندما يوقف محراثه ويترك فلاحته لينتخب ومع ذلك ها هو أحد محامي اليوم قد استقر في أعماق نفسه احتقار ما نصيبه الخلود. ذلك المحامي الذي يشك في خلود النفس ويعتقد في خلود أقواله هو. أيها الشعر أنه يسخر من رموزك الموقرة وأنت للمفكرين الحقيقيين موضع الحب الذي لا يفنى.

- 10 -

كيف تصان الأفكار العميقة ما لم تتجمع نيرانها في ماستك النقية التي تحفظ سناها المتركز. تلك المرآة الصافية الوهاجة المتينة (بقايا ما يبيد من دول) ذلك الحجر الخالد

ص: 50

الذي تعثر به أقدامنا عندما نبحث عن أنقاض المدن الفانية فلا تجد لها من أثر.

- 11 -

أيتها الماسة الفريدة ليضيء شعاعك للعقل الإنساني مواضع خطواته البطيئة المتخلفة. ليضعك الراعي على قمة منزله لكي نستطيع أن نرقب عن بعد الشعوب تطوى سبيلها. لما يصح النهار وما نزال عند أوائل أشعته الفضية التي تسبق بزوغ الفجر وتميز أفق السماء من مستوى الأرض.

- 12 -

ما تكاد الشعوب تفطن لنفسها وسط حشائش العوسج التي نبتت حولها وهي غارقة في سباتها. ها قد أخذت أيديهم المتضافرة تشق سوقها لتضع الجهاز الأول. ما تزال البربرية تمسك أقدامنا في غمدها. وما يزال رخام الأزمنة الساحقة يعلو إلى ما فوق خواصرنا. ما أشبه كل رجل نشيط بالإله (ترميس).

- 13 -

على أن روحنا الوثابة تفيض بالنشاط، فلنشق الحجب عن مكنون قواها والمكنون موجود وان توارى عن النظر. للنفوس عالم تجمعت به كنوزها وان لم نستطع لها لمسا. بين أحضان الله تضام الوجود وفي منطقه تركزت حكمة البشر كما تركزت أجسامنا في فضاء الأرض.

محمد عبد الحميد مندور

ليسانسيه في الآداب

ص: 51

‌العُلوم

بين الكأس والطاس

بقلم الدكتور احمد زكي

أستاذ الكيمياء بكلية العلوم

الخمر قديمة كالإنسان، خلقها من خلق الهم، وأبدعها من أبدع الحس، وأرادها أن تبقى على الدهور والأحقاب من أراد ألا يكون الكون خيراً كله ولا شراً كله.

الخمر لا وطن لها لأن الأرض وطنها، عرفها المصري والفينيقي، والإغريقي والروماني، ويعرفها التركي والألماني، والفرنسي والأمريكي، والخمر لا دين لها فقد اعتنقت جميع الأديان؛ عصرها كهان المجوس، وباركها أحبار اليهود، واتخذها يسوع رمزاً لدمه فعتقها من بعده القسيسون والرهبان، وحرمها الإسلام فاستحلها الخلفاء لما صارت الخلافة ملكا عضوضا. لم يحل لهم أنس إلا بها ولم يطب نغم إلا عليها ولا لذ غزل الا في دبيبها ونشوتها.

والخمر لا مدنية لها فقد عرفتها كل المدنيات، عرفتها أبان إشراقها ونشأتها وازدادت بها علما وهي في كبد سمائها وأوج صولتها، ثم غربت على الأكثر فيها كما تغرب الشمس في لجة البحر المحيط. كذلك شربها المدني في كؤوس من ذهب بين عمد المرمر وعلى رنين القيثار، وشربها الوحشي حيث لا كأس غير صحاف القرع ولا عمد غير غاب الغيل، ولا رنين غير زمر القصب وقرع الطبول.

وجاءت المدينة الحاضرة بعلمها وعددها، وبطبها وإحصائها وبتجاريبها في الأفراد وتجاريبها في الجماهير، وخرجت على أن لعنة الناس في الخمر وخسرهم في ذوب الرحيق. وتكونت في كل أمة أمة تدعو إلى السبيل الجديدة وتبشر بالرسالة الجديدة باسم العلم وباسم الاقتصاد في قوى العمال لزيادة الإنتاج. وزادت الدعاية حتى أن أمة من اكبر الأمم عددا أكثرها عدة وأحدثها حضارة صوت ناخبوها بتحريم الخمر، فصدر القانون بطلاق بنت الحان، فأغلقت المخامر أهدرت الدنان، وحاطوا أمريكا بسياج ثقيل من عسس يمنع الداء أن يدخل، والداء بالجسم دفين، والجسم قد يعتل من جرثومة تغزوه ولكن اكثر

ص: 52

علته من جرثومة للموت ولدت فيه. وما هي الا سنة فأخرى حتى سالت الخمر في أمريكا سيلان الماء فيها، سدت عليها منافذ الماء، ومهابط السماء، فتفجرت كالزيت من منابع في أرضها، في عقورها ديارها، فعبها الناس اغتراقا، وعبها رجال القانون معهم؛ ومتى أبطل مداد الأوراق ما جرى به مداد الأعراق؟ ولما أصبح القانون، ذلك الشيخ الوقور المهاب، يصفع في السر أقل ويصفع في الجهر أكثر جاء منتخبوهم منذ أسابيع فرحموا الشيخ فعقروه، وهكذا عادت الخمر الشيخة تتهادى إلى عرشها، فلما استقرت فيه نظرت للإنسان فابتسمت وكان من ورائها الأجيال فابتسمن أيضا.

وبعد فما الخمر الا الكحول، وهو ماء ولا ماء، ماء في مظهره ونار في مخبره، وقد اتخذ أشكالا عدة، وأسماء عدة فأسموه البيرة أسموه النبيذ وأسموه الوسكي وكل هذه تحويه أن قليلا أو كثيرا وهي تفقد أسماءها بفقده، ومن السخف ما يباع أحيانا بأنه بيرة لا كحول فيها. والبيرة تنتج من تخمير الشعير وبها ما بين 4 إلى 10 في المائة من الكحول ومقدار لا بأس به من أجسام صلبة ذائبة شبه السكر نتجت من تحلل النشاء الذي كان بالشعير. والبيرة المعتادة لونها اصفر وطعمها مرير بسب عشب يضاف إليها. والنبيذ ينتج من تخمير عصير العنب وبه ما بين 6 إلى 8 في المائة من الكحول ولونه أحمر ويتعاطاه الكثير من الفرنجة على الطعام كما يتعاطون الماء. وهناك نوع آخر من النبيذ ويسمى البرط وبه ما بين 15 إلى 20 في المائة. وبالأنبذة غير الكحول مواد سكرية وحوامض كحامض الطرطير تعطيها طعما ذاعقا. أما حسن طعمها وطيب ريحها اللذان يشيد بهما الشعراء فيرجعان على الأكثر إلى اتحادات بين ما بالأنبذة من حوامض وما بها من كحولات إذ (تتأستر) هذه بتلك فتنتج ما يشبه الزيوت العطرية طعما وطيبا. ويزيد هذا (التأستر) على الزمن، لذلك تختزن الخمر فلا ترى الشمس أحقابا طوالا. قال أبو نواس يتمدحها:

عتقت حتى لو اتصلت

بلسان ناطق وفم

لأحتبت في القوم ماثلة

ثم قصت قصة الأمم

وأما الشمبانيا فهي أخت النبيذ، فأبوهما الكرم، إلا أن لونها أصفر، ويرجع هذا إلى أنهم يعصرون العنب سريعا فلا يمهلون الصبغة التي بقشرته أن تجري في العصير فتخمره،

ص: 53

وغير هذا فانهم يختزنون هذا العصير في أبان تخمره في زجاجات مقفلة سنتين وثلاثا فينحبس بها غاز الكاربون الناشئ من التخمر تحت ضغط كبير، لذا تفور الشمبانيا عند فتحها، ولذا كان طعمها حريفاً كالكازوزة بسبب هذا الغاز ومقدار الكحول الذي بها كالذي بالنبيذ تقريبا.

ويوجد عدا هذه من الأشربة الروحية أنواع لا حصر لها يختلف مقدار الكحول الذي بها اختلافا كبيرا، ومن ذلك الوسكي ويحضر من تخمير الحبوب ثم تقطيرها، والكونياك ويحضر بتقطير النبيذ ولذلك ترتفع نسبة الكحول بكليهما إلى 30 و 60 في المائة. ومن الناس من يتخذ من كحول الحريق شرابا وهو يحتوي نحوا من 90 في المائة من الكحول الخالص ويضيفون إليه أصباغا وزيوت تجعله غير سائغ في الحلق، ولكن حلوق الجهال من الفقراء يسوغ فيها كل كريه مر. ويشرب المرء الخمر كائنة ما كانت فتمتص المعدة فالأمعاء الكحول امتصاصا سريعا فيذهب إلى الدم ثم إلى كل غشاء من أغشية الجسم فيحترق فيها إلى غاز الكاربون والماء احتراقا سريعا كذلك، ولا تبقى منه بالجسم بقية، فهو ليس بطعام بالمعنى المعروف ويخرج مقدار من الكحول قد يعلو إلى 8 في المائة في البول ومن الرئة في التنفس، لذلك تشم رائحته في الفم. ومن الناس من يسترق الشراب ثم يحسب أن رائحته علقت بأشداقه فيغسل فاه حاسبا أنه قد تستر، ويسير في الناس مطمئنا ورئتاه تدفعان بالسر في صوت جهير ابلغ من صوت الشفاه.

ويتعاطى الناس الكحول للأثر الذي يكون منه في المخ والأعصاب فأول ما يحدثه نشوة تثور فيها قوى المخ فيشتد الفكر ويحتد الخيال ولكنه فكر ثائر وخيال مضطرب، وتزول عن الإنسان أثناء ذلك الدقة في العمل ويقل ضبطه للأمور فتكثر الأخطاء. قام الأستاذ (دلنج) أستاذ فن العقاقير بجامعة ليفربول بتجارب على زوجه فكان يسقيها مقادير مختلفة من الكحول ويملي عليها قطعا تكتبها على الآلة الكاتبة ويعدّ الأخطاء. وخرج من ذلك على علاقات طريفة بين مقادير الكحول وبين الأخطاء الناتجة دلت في مجموعها على أنه بالرغم من حدة الذهن وسرعة الإلهام تقل قدرة الضبط في الإنسان. قيل لشاعر فكه في ذلك فقال: إذن لا بأس عليّ من الخمر، استوحي بها في الليل، وأصحح أخطاء الوحي بالنهار. ولعل من اجل هذا أن من الشعراء والكتاب من كان لا يكتب إلا إذا شرب، وذلك

ص: 54

مشهور عن الكاتب الإنجليزي المعروف شارلز دكنز، فقد كان لا يكاد يستفيق، كان كالشمعة يضيء للناس وهو يحترق. وتعقب دائما فترة الإيحاء هذه فترة خمود عميق يكل فيها الذهن وتنثلم الحواس.

وفعل الخمر بالعواطف يناهض فعلها بالعقل، فمن الناس من يخف به الفرح حتى ليذهب بوقاره، ومنهم من تأتيه الكآبة فلا يكاد يحبس دمعه، ومنهم من يرتاع فيهلع قلبه خوفا وفرقا، ومنهم من يشجع فيغفل عن عواقب الأمور. ومن المثل الأخيرة الجراحون فان منهم من لا يستطيع حمل المشرط إلا إذا نقع حواسه بنقيع إبنة العنب.

ولعل هذا ما حدا إلى الجمع بين الخمر وبين كل لذة ولا سيما ما اتصل منها بعاطفة كالغناء والنساء. وهو الذي جمع كذلك بين الخمر وبين كل كآبة، فكم من عزيز قوم تجهمت له الحياة في حب أو وشيجة أو مال فلم يطقها، ولم يطق الموت، فأمات نفسه حيا بالكأس تتلوها الكؤوس. وقد وجدوا أن المستهلك من الشراب يزيد في الضائقات المالية التي تعتري الأمم زيادة كبرى.

ولعل اخطر ما في الشراب الإفراط فيه حتى تتأصل عادته. يشرب الشارب فيكثر، ويشرب والمعدة ملأى بالطعام ويشرب وهي خالية فيكون امتصاص الجسم له في الحالة الأخيرة أشد وسريانه أسرع والى المخ أوحى؛ فتقصر فترة الانتعاش الأولى إلى العدم وتسرع الحواس فتغيم والبصر فيتغبش فيرى الواحد اثنين، وتصيت الأذن ويخف الرأس ويضيع الحكم على الأمور ويرغو الفريسة ويزبد وتأخذه رغبة في الشجار والتحطيم، ثم يسقط جسدا هامدا في غشية تتعطل فيها قوى المخ جمعاء إلا النزر اليسير الذي يكفي لإجراء الدم وإخراج الأنفاس، ثم يصحو من نوم عميق محموم الجسد مصدع الرأس فاقد القوى، بالأذن رنين لا يسكت، وبالقلب وجبة لا تسكن، فلا يجد خلاصا من تلك الأعراض المؤلمة إلا بإعادة الجرعة وهي حقا تزيلها وتزيلها سريعا. قال الأعشى:

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

ولكنه شفاء لا يدوم إلا قليلا، فيأخذ المسكين يتداوى من داء بداء حتى يصبح الشراب عادة أشد تأصلا في أعراقه من تأصل الروح فيها، وتسوء في هذه الأثناء معدته لأن الكحول مهيج شديد لأغشيتها، ويعتريه فيه التهاب مزمن لا تنفع فيه حيلة الأطباء، وتتحلل مادة

ص: 55

كبده فتتليف أو تتدهن؛ وتقل مقاومة الجسم عامة للأمراض، ولكن اخطر من هذا أن المخ يفسد فيصبح صاحبه في اضطراب دائم ورعشة لا تهدأ وإذا هو أتاه النوم العاصي فبأحلام مروعة أروع منها أحلام اليقظة إذ ترى عينيه في الجهرة الجرذان تخرج من الحيطان والزبانية تختبئ له في كل الأركان، وتسمع أذنه الأحياء المتحركة تسبه والأشياء الجوامد تلعنه ويتسابق جسمه وعقله إلى الفناء في منحدر زلق لا تقف الرجل فيه!

ص: 56

‌القصص

على هامش السيرة

حفر زمزم

للدكتور طه حسين

(2)

لا هم قد لبيت من دعاني

وجئت سعي المسرع العجلان

ثبت اليقين صادق الأيمان

يتبعني الحارث غير وان

جذلان لم يحفل بما يعاني

لا هم فلتصدق لنا الأماني

ما لي بما لم ترضه يدان

كان صوت عبد المطلب يندفع بهذا الرجز عريضا يملأ الفضاء من حوله، نقيا يكاد يبعث الحنان فيما يحيط به من الأشياء. وكان كل شيء مستقر لا يضطرب فيه الا هذا الصوت العريض النقي وإلا هذه الذراع التي ترتفع بالمعول قوية ثم تهوي بها محتفرة ثم تدعه إلى المسحاة فتغرف بها التراب في المكتل، وإلا هذا الغلام الناشئ يرقب حركة أبيه ويسمع صوته ويرد عليه رجع هذا الصوت كلما وصل في الدعاء إلى هذا البيت.

لا هم فلتصدق لنا الأماني

حتى إذا امتلأ المكتل حمله بذراعيه الضعيفتين وأسرع بشيء من الجهد إلى خارج المسجد فألقى ما فيه ثم عاد وأبوه يرفع المعول في الجو ويهبط إلى الأرض ويملأ فضاء البيت بصوته النقي العريض والعرق يتصبب على جبينه ولكنه لا يحس جهدا ولا يجد إعياء. وكانت الشمس قد ألقت على الأرض رداءً من النور نقيا ولكنه ثقيل همد له كل شيء وآوى له الناس إلى بيوتهم يقيلون. وانقطعت له الحركة وخفتت الأصوات إلا هذه الجنادب التي يروقها وهج الشمس ويسكرها لهب القيض فتصدح بالغناء إذا سكت كل شيء وقد اخذ الغلام يحس لذع الجوع وحر الضمأ ولكنه لا يقول شيئا بل لا يكاد يفكر في شيء، إنما سمعه وقلبه لصوت أبيه، وعيناه للمكتل والتراب، ونشاطه لإفراغ المكتل إذا امتلأ. وهما في ذلك إذا غلام يسعى قد أرسلته سمراء يحمل إلى الرجل والغلام شيئا من طعام وشراب

ص: 57

حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي هذا غداؤك وغداء الصبي قد أعدته سيدتي العامرية هيأته بيدها وهي تعزم عليك لتصيبن منه ولترفقن بنفسك ولترفهن على هذا الصبي الحدث: لقد قال الناس جميعا وهدأ كل شيء لهذا الوهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود وأنت فيما أنت فيه من جد يضني وجهد يهلك لا تقيل ولا تستريح ولا تريح هذا الطفل الذي لم يتعود الجهد والعناء. بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مشيح، إنما هو ماض في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعا في الجو وهبوطا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السلة وما فيها. وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدده ويحصيه ويتمثله. أن فيها لشواء غريضاً وأن فيها للبناً يمازجه عسل هذيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام. وأن فيها لماء عذبا ومن يدري؟. لعل سمراء قد نقعت فيه شيئا من زبيب الطائف، فأنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماض في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة وقد امتلأ المكتل فيهم الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك. ولكن عبد المطلب ينهره نهرا عنيفا (إليك يا غلام فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وأبنه).

ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد أنقطع وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودا وهبوطا، وإنما هو مطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه ثم، يدير عينه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئا أو أن يلتمس أحداً. ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضى والإشفاق:

(هلم يا حار أنظر هل ترى ماء؟ - كلا يا أبت وإنما أرى ذهبا وسلاحا - ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج: أن وراء هذا الأمر لسرا. ولكن هلم يا بني فما أرى الا أن الظمأ والجوع قد أجهداك).

وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهلين واجمين ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعماً وأحسا له ذوقا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة

ص: 58

فيستخرج ما فيها فإذا غزالان من ذهب نقي ثقيل وإذا سيوف ودروع. فيكبر ويرفع صوته بالتكبير ويسرع إليه أفراد قليلون كانوا قد بدءوا يفدون إلى المسجد كدأب قريش حين كانت تخف وطأة القيظ. فإذا رأوا هذا الكنز دهشوا ثم تصايحوا ثم يفيض الخبر فيتجاوز المسجد وإذا شباب قريش وشيوخها يقبلون سراعاً مزدحمين يسرع ببعضهم حب الاستطلاع ويسرع ببعضهم الآخر الطمع في الغنيمة ويسرع بفريق منهم باعث ديني غامض فيه خوف وفيه رجاء وفيه إكبار للآلهة وتوقع للمعجزة الخارقة. حتى إذا توافوا جميعا واستوثقوا من أن عبد المطلب قد وجد كنزاً وعرفوا حقيقة هذا الكنز وقوموا ذهبه الخالص وصناعته البارعة وما فيه من سيوف ودروع أداروا أمرهم بينهم. لمن يكون الكنز؟ قال هشام بن المغيرة إنما هو لقريش فقد وجد في المسجد وكل ما وجد داخل الحرم في أرض عامة فهو لقريش. وقال حرب بن أمية: إنما هو لبني عبد مناف فهم الذين إحتفروا وهم الذين ظفروا وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة. وتنازع القوم وطال النزاع واختصم القوم واشتدت الخصومة وعبد المطلب صامت مطرق لا ينطق بكلمة ولا يأتي بحركة. هنالك صاح به حرب: ما لك لا تقول وأنت الذي وجد الكنز وأنت احقنا بان ترى رأيك فيه!. قال عبد المطلب في هدوء وأناة ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد حتى نستشير الآلهة فما حفرت ولا ظفرت الا بأمر خفي وما أرى إلا أن للآلهة في ذلك إرادة وقدرا لا نبلغهما حتى نسأل الكهان. هنالك وجمت قريش وغضب بنو عبد مناف وأنكروا جميعا في أنفسهم أن يشرك عبد المطلب معهم الآلهة في هذا الكنز الدفين. ولكنهم لم يقولوا شيئا وما كان لهم أن يقولوا شيئا! ومن الذي يستطيع أن يرد قضاء الآلهة؟ حمل الكنز إذن إلى الكعبة وأقبل القوم إلى الكاهن يسألونه أن يضرب بالقداح وها هو ذا يضرب بقداحه ثم يضرب ثم يضرب بين قريش والكعبة فتخرج القداح للكعبة ثلاثا ويصيح عبد المطلب لقد ظهر قضاء الله فليكن ما أراد! تفرقوا يا معشر قريش. . تفرقوا يا بني عبد مناف فليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب. أما هذا الذهب فسيضرب صفائح على باب الكعبة، وأما هذه السيوف فستعلق عليها، وأما هذه الدروع فستدخر في خزائنها. ثم ألتفت إلى أبنه وقال هلم يا حارث اتبعني لنمض فيما كنا فيه. وتفرقت قريش وفي صدورها غل وحنق. ولكن ثلاثة نفر من أهل الظواهر أنتحوا ناحية وأقاموا يرددون الطرف بين الكنز والكعبة وعبد

ص: 59

المطلب. ثم انصرفوا وقد فهم بعضهم بعضا. وأصبح الناس ذات يوم وإذا الكعبة قد جردت مما علق عليها من ذهب وسلاح.

وراح عبد المطلب مع المساء إلى أهله محزونا مكدودا راضيا مع ذلك لم يفارق قلبه الأمل. فاستقبلته سمراء فاترة لم تسع إليه ولم تبتسم له. ولكنها لم تعرض عنه ولم تتجهم له. فلما سألها عن هذا الفتور أطالت الصمت وألح في السؤال. قالت: وبم تريد أن ابتهج ولم تريد أن ابتسم؟ لقد علمت منذ زفني أبي إليك أني قد تزوجت رجلا لا كالرجل. لقد أحببتك ولكني أنكرتك. لقد أملت فيك ويئست منك. ثم عاد إلى الأمل أول أمس ثم ها أنت ذا ترد إلى اليأس مظلما حالكا قبيح الوجه بشع المنظر كأنه الغول. ماذا!؟ يأم بك الطائف أربع ليال يهيب بك ويلح عليك رامزا حينا مصرحا حينا مصراً دائماً حتى إذا أذعنت لأمره وانتهيت إلى ما سيق إليك من خير وادخر لك في الأرض من غنى زهدت فيه وانصرفت عنه وأشفقت أن تسلمه إلى قريش أو إلى عبد مناف. فيقال (ألقى بيده ونزل عن غنيمته فصرفت ذلك عنك وعنهم إلى هذه البنية تحليها بالذهب وتعزها بالسلاح! وماذا تصنع الأحجار القائمة بذهبك وسلاحك!؟ لله أنتم يا معشر قريش!؟ أنكم لتكبرون من هذا البناء المنصوب ما لا نكبر نحن في البادية ولولا حاجاتنا ومنافعنا لما هبطنا إلى بطاحكم هذه حاجين ولا معتمرين ولكنكم قوم ضعاف تكبرون ما لا يكبر ويغركم أن أفئدة الناس تهوي إليكم تحسبونهم يقبلون إليكم بالدين وينصرفون عنكم بالطاعة، وإنما يقبلون عليكم بما عندهم من عروض. وينصرفون عنكم بما تحملون لهم من الآفاق. هلا طاولت قريشا وانتظرت بهذا الكنز حتى تروح إلى، لقد كان فيه غنى لك ولهذا الصبي الذي تعنيه وتضنيه منذ ألم بك ذلك الطائف. هلا تريثت أو اصطنعت الأناة إذا لاحتويت الكنز ولأصبحت أغنى قريش وأكثرهم مالا ولما استطاعوا بنو عبد شمس أن يكاثروك بما يملأ خزائنها من الدراهم والدنانير. إذا لأقبلت إليك بنو عامر بقوتها وبأسها فأعزتك ومنعتك من قريش ولكنك أشفقت وملأ قلبك الفرق وعبثت بنفسك بقية من كبرياء فأفقرت نفسك وقضيت على ابنك هذا أن يكون دون بني حرب ثروة ومالا. قال عبد المطلب محزونا: هوني عليك يا سمراء وأقلي اللوم فما أرى أنك تفقهين مما ترين شيئا. لا أحب لوجهك هذا النضر أن تعلوه غيرة الحرص على المال وما أحب لصوتك هذا العذب أن تشوبه مرارة

ص: 60

الحديث عن المال. وما أرضى لك وإن نسلتك أشراف بني عامر أن تغضي من أمر قريش. أن فيكم أهل البادية لطباعاً غلاظاً ونفوساً يملؤها الطمع أنتم لا تحسون الدين ولا تقدرون الغيب ولا تؤمنون الا بما ترون ولا تخافون الا القوة الظاهرة. لقد كنت احسب أن مقامك الطويل بمكة قد غير نفسك بعض الشيء فإذا أنت اليوم كما كنت يوم أنحدرت من بادية نجد إلى هذه البطحاء. هوني عليك ولا تشغلي نفسك بما لست منه في قليل ولا كثير. لقد أمرني الطائف أن أحتفر ووعدني أن أجد الماء لأسقي الحجيج لا أن أجد الذهب لأغنيك وادخل الخصب على بني عامر. فليس هذا الذهب لي ولا لقريش وإنما مخبوء لأمر يراد وأني لمن قوم لا يحبون الغصب ولا يستأثرون بما ليس لهم ولا يعقدون الحقوق، فان تكن غلظة الأعراب وجفوة البادية وجحودها قد شاقنك فذمي رحالك غداً وألمي بأهلك فهم أحق بك وأدنى إليك. قال ذلك ونهض مغضبا وتركها واجمة بهذا الحديث العنيف تقاوم غيظا لم يلبث أن استحال إلى دموع غلاظ تحدرت على خديها كأنها لؤلؤ العقد قد خانه النظام.

وارتفع صوت عبد المطلب بالتكبير حتى امتلأ به المسجد وفاض من حوله وحتى اضطربت له مجالس قريش في أفناء البيت فخف الناس إليه وهم يقولون: ما نرى ابن هاشم هذا إلا مطروقا يلقى من الجن شططا ويريد أن نلقى منه شططا. اقبلوا إليه سراعاً يزدحمون وقد آلى أشرافهم لئن وجدوه قد ظفر بكنز أو عثر على غنيمة ليغلبنه عليها وليعطنه منها نصيب رجل من قريش وانتهوا إليه. وهو يكبر ويصيح هذا طي إسماعيل هذه بئر زمزم، هذه سقاية الحاج، لقد صدق الوعد وتحقق الأمل.

فنظروا فإذا عبد المطلب قد وجد الماء، وإذا هو يستقي فيشرب ويسقي ابنه، ويرسل الماء بيديه من حوله كأنه يريد أن يسقي الأرض والهواء والناس. هنالك ابتسموا له ورفقوا به وقالوا: لقد بررت بقومك يا شيبة وانبطت لهم هذا الماء يستقون منه إذ ضنت عليهم الينابيع فوصلتك رحم، لتعرفن لك قريش هذه اليد. قال ما أنتم وذاك؟ هذه بئري قد حفرتها، وكشفت طيها بأمر هبط إلى من السماء. وهذا شرب ساقه الله إلى سأسقيكم منه أن أردت. ولكني اسقي الحجيج منه قبل أن أسقيكم فبذلك أمرت وأنا على ذلك قائم. قالوا يا ابن هاشم أنك لتسرف على نفسك. وتشط على قومك وتختلق إلى السماء. أن هذه الأرض ليست لك

ص: 61

وإنما هي لله ثم لقريش، وأن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تنزل إليك ومتى تنزل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان. فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم خلوا بيني وبين الماء. فوالله لن تبلغوا مني شيئا أنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم. ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حري أن يردعني كيدكم ويحميني من ظلمكم. أنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد من أكاثركم به وأني اقسم لئن منحني من الولد عشرة ذكورا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد. وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردون عنه عدوان قريش وكاد الشر أن يقع بين القوم ولكن عبد المطلب قال: يا قوم فيم قطع الأرحام وحفر الذمم وإراقة الدماء؟ أني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلم إلى حكم فليقض بيننا. قال الملأ من قريش لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه. فليكف بعضكم عن بعض ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هذيم فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.

وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام فاجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في معان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر ونفد ما كان معهم من ماء واشتد بهم الظمأ واحرق أكبادهم الصدى وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار بها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد ليس فيها عين ولا بئر ولا شجرة ولا عشب وإنما هي ارض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام وقد يئس القوم من كل روح وقنطوا من كل وجهة فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم يا قوم إنما هو الموت فانتم بين اثنتين: أما أن تموتوا ضيعة وتصبح أجسامكم نهباً لسباع الأرض والجو لا تواريكم يد في التراب ولا تؤوي نفوسكم إلى جدث تطمئن فيه وأما أن يقوم بعضكم على بعض ويواري بعضكم بعضا فيكوم لكل منكم حفرته وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع وألمت بأهلها في بطاح مكة وظواهرها كيف تهتدي إلى أجسادها فتلم بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كل منكم حفرته، وان تقيموا فأيكم ذهب الصدى بنفسه ورآه أصحابه وبكوا عليه. فلا يذهب منكم ضيعة إلا رجل واحد تمتد

ص: 62

به الحياة إلى أقصى أجل. قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته. وتناقل القوم بعض الشيء يفكرون في أولادهم وآخرتهم ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال. ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتقدم رسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم فيعمد كل منهم إلى سنان يخط به حفرته في الأرض.

كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: (يا معشر قريش ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وان فيكم لبقية من قوة وان في ابلكم القدرة على الحركة وفضلا من النشاط لا والله ما أنا بمسلم نفسي للموت حتى يكرهني عليها، هلم فاضربوا في هذه الأرض فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجا) ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث وإذا الآمال تحيا. وإذا النشاط يتجدد وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه وينهض عبد المطلب إلى راحلته حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت به وهمت لتندفع ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مكبرا وهم يلتفتون فإذا عين غزيرة قد أنفجرت تحت خف الراحلة وإذا هي تفور وإذا الماء ينبسط من حولها فينقع غلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!.

هلم يا معشر قريش إلى الماء الرواء! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد. هلم فاشربوا واسقوا ابلكم وأملأوا مزادكم هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القاتمة المحرقة.

والقوم يضجون بالرضى والغبطة وأن للإبل من حولهم لأطيطاً ملؤه الرضى والغبطة أيضاً. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم وتشعر بالسرور والحزن، روى الناس ورويت الإبل، ورويت الأرض وقالت رسل قريش لعبد المطلب عد بنا يا شيبة إلى مكة فقد قضي علينا وان الذي سقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك هو الذي سقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.

ص: 63

وأقبل البشير على سمراء ينبئها بأن زوجها قد عاد إليها سالما موفوراً مظفراً. فقالت وعلى ثغرها ابتسامة الكئيب المحزون: (حبذا شيبة مسافراً وحبذا شيبة مقيماً! ولكن شيبة لن يخلص لي منذ اليوم. أنه لا يريد كثرة الولد. وأي نساء قريش تستطيع أن تمتنع عليه). ثم أشرقت شمس الغد على عبد المطلب وهو يسعى إلى عمر بن عائذ المخزومي ليخطب إليه فاطمة وهي أم جماعة من ولده بينهم عبد الله.

ص: 64

‌قصة عراقية

صديق الكلاب

بقلم احمد حسن الزيات

شرب عبد الواحد وسقانا ثلاثة أقداح من الشاي المعطر. ثم أطلق من حنجرته القوية جشأة طويلة عريضة كخوار العجل، ثم حضأ النار بأنامله وشيع ضرمها في بقية الفحم؛ ثم أشعل منها (سيكارته) العربية وأرسل في رفق دخانها الرقيق الأدكن. وبانت على معارف وجهه شهوة الكلام. وكان كلبي الصغير قد لاذ من قرص البرد بجانب الموقد، فهو ينطوي وينتشر تبعا لما يغلب على جو الغرفة من نفخ النسيم أو لفح اللهب. فرأيته يطيل النظر إليه في طرف ساكن ووجه ساهم. فقلت له مداعبا: لعلك ذكرت بالكلب حبيبتك وهي في خبائها بين كلابها وشائها. فابتسم ابتسامة العذراء الخفرة وقال: الحمد لله ما ذكرت على فقري حياة البر مذ هجرتها، ولكني ذكرت رجلا كان في بغداد يدعى (أبا الكلاب). فسألته وما حديث أبي الكلاب هذا يا عبد الواحد؟ فلمع في عينيه البشر، لأن سروره كان في أن يتحدث وتسمع. وذهب به شيء من التيه لأن شعوره بأنه يعلم ما لا نعلم يرفعه قليلا فوق قدره، لذلك تراه عند الحديث يجلس جلسة النظير، ويلهج لهجة الأمير، ويقرر تقرير العالم.

قص عليَّ هذه الأقصوصة وهو منها على يقين جازم، وما كان أسرني وأسرك لو استطعت أن أنقلها إليك بلغته الجميلة التي تأخذ من لحن بغداد ومن لحن البادية. على أني سأحاول ما أمكنني القدرة أن أترجمها ترجمة صادقة تكشف عن أثرها في نفسه وفعلها في نفسي.

كان في بغداد منذ خمسين عاما أسرة كريمة تعتز بنسب العرب من جهة الأب. وتتصل بنسب الترك من جهة ألام فهي مزاج معتدل من عقليتين متباينتين لا يجمع بينهما غير الدين. والدين في مثل هذه الحال يكون أوثق عقدا وأمتن أسبابا لقيامه مقام الجنسية الجامعة والعصبية القريبة؛ فالوالدان صالحان تقيان لا يفهمان من العروبة إلا النبوة والقرآن، ولا من التركية إلا الخلافة والسلطان، ولا يعرفان عن بغداد وفروق إلا أنهما بلدان في وطن واحد، والولدان جميلان باران يكبر الذكر منهما الأنثى بخمس سنين، وقد درجا معا من مهد الفضيلة، ثم ترعرعا في حنان الأبوين على كفاف من العيش يؤتيه متجر غير نافق.

لم يشغل عبد الواحد باله كثيرا بتفصيل حياة هذه الأسرة الصغيرة. فكان كلامه عنها مرسلا

ص: 65

مجملا لا يحلل طبيعة شخص، ولا يحدد تاريخ حادث، ولا يعين مكان منزل، حتى أسماء الأب والابن والبنت لم يجد في ذكرها ما يفيد الحديث!.

فهو يحذف ما يزعمه فضولا ويسير قدما إلى هيكل الموضوع وعقدة الحادث، فيقول أن الغلام كان عمره اثنتي عشر ربيعا حينما صحب خاله إلى الأستانة. والأستانة يومئذ كانت منتجع الخواطر ومهوى القلوب الطامحة إلى السطوة أو الثروة أو العلم. فهل كانت هجرته إلى دار الخلافة تثقيفا لنفسه، أو تخفيفا عن أبيه، أو مساعدة لخاله، على تدبير متجره وماله؟ كل ذلك يجهله راوي الحديث فما يعلم الا أنه شدا شيئا من العلم في إحدى مدارس القسطنطينية تحت عين وليه وعونه، ثم أندفع في غمار المدينة الصاخبة يداور الأمور ويتلمس المكاسب، ثم أوغل في مدن البلقان وشعاب الأناضول، حينا في خدمة الجيش، وحينا في طلب العيش حتى أنقطع علم ما بينه وبين أهله. كان الغريب النازح يهاجم الأخطار في كل فج ويصارع الأقدار في كل لج، وكل همه أن يجمع من المال ما يضمن له ولأسرته خفض العيش في ظلال بغداد الجميلة. فلما ملأ الدهر يديه بما أمل كان وا أسفاه ربيعه قد أدبر، وربعه قد أقفر، وحلمه قد تبدد!! فان والديه البائسين قد ألح عليهما من بعده الحزن والضر والفقر حتى انطفأ سراجهما في حولين متعاقبين بعد انقطاع خبره لبضع سنين. وأما البنية اليتيمة فقد حنا عليها بعض ذوي المروءات من أهل البيوتات فضمها إلى حرمه، وواسى يتمها الحزين بعطفه وكرمه.

عاد المهاجر إلى وطنه يحمل في جيبه المال وفي قلبه الآمال فما وطأت قدماه ثرى العراق الذهبي حتى ازدحمت الذكريات على خاطره، ومرت الحوادث المزعجات أمام ناظره، ولكن شعوره في لذة العودة إلى الأرض التي ابصر عليها الدنيا، والسماء تقبل منها الروح، والهواء الذي رف عليه بالصبا، والماء الذي نضح قلبه بالنعيم، والأسرة الحنون التي يراه إليها الشوق. والمستقبل الباسم الذي ينتظره في بغداد، قد شعب فؤاده وشفى كبده ومسح ما به.

عرف المحلة والدار بعد لأي لطموس المعالم القديمة. ثم قرع الباب بيد مرتجفة فإذا المالك الجديد يخرج إليه! فاقبل عليه المسكين لهفان ضارعا يسأله: هنا كان مهبط نفسي فأين أبى؟ وهنا كان مسقط رأسي فأين أمي؟ وهنا كان لي مهد وأخت وملعب وجيرة، فقل لي

ص: 66

بربك يا سيدي أين تحمل بكل هؤلاء القدر؟ وكان بين المسئول والسائل حوار قصير عرف منه البائس أن ريح المنون قد عصفت بأهله. فارتد إلى الفندق لا يملك دمعة ولا قلبه، ثم قضى حينا من الدهر ذاهب القلب يكابد غصص الكرب ويعالج مضض الهموم حتى رأم الزمان والأيمان جروح صدره.

وقع في نفس الوحيد الحزين أن يتزوج ليعيد إلى سجل الوجود اسم أسرته فاقترحت عليه جارة له عجوز أن تخطب إليه فتاة يقولون أن بينها وبين بني فلان عاطفة رحم. ويؤكدون أنها تنزع إلى عرق كريم لطبعها المهذب وجمالها المحتشم فاطمأن قلب الخطيب إلى رأي الخاطبة واختلفت العجوز بينه وبين ولي الفتاة حتى تم الوفاق وسمي الصداق وعينت ليلة الزفاف.

زفت العروس إلى زوجها فبهره ما رأى من جمال وأحس من ظرف وسمع من أدب، فافتر في وجهه السرور وحمد الله على حسن توفيقه، ثم أتقضى شهر العسل على خير ما يجد زوج من زوجه.

وفي ليلة تجاذب العروسان أطراف السمر وشققا بينهما الحديث حتى أفضى إلى علاقتها بوليها فلان (بك) فأحب الزوج أن يعرف درجة القرابة بينهما، فغضت الفتاة من طرفها وشاعت حمرة الخجل في وجهها، وقالت في صوت خافت متهافت من الخزي والخوف: الحقيقة أنه ليس بيني وبين هذا الرجل قرابة!! وإنما هو نبيل محسن أواني ورباني بعد ما فجعني البين في أخي، والموت في أبي، وأنا يومئذ في حدود الثانية عشر. ثم تتابعت الأسئلة من الزوج، وتسارعت الأجوبة من الزوجة وكان كل من أنجاب عن خبايا الغيب حجاب امتقع لونه وأقشعر بدنه، واشتد وجيب قلبه، وكانت هي كلما رأت منه ذلك نسبته إلى إنخداعه في أصلها فمضت تفصل المأساة وتصور الفاجعة بالكلام والدمع، عسى أن تعطف قلبه على مصابها، فلا يفكر في طلاقها وعذابها، ولكنها لم تكد تلمس الحجاب الأخير حتى رأت زوجها قد وقف شعره وانتفخ سحره وارتعدت أطرافه، ثم أنفجر صارخا يقول: وا ويلتاه! وا مصيبتاه! لقد تزوجت أختي!. . . . ثم خر مغشيا عليه. فلما ثاب إليه بعض رشده نظر إلى أخته فوجدها فاقدة الوعي فتركها وابتدر الباب وخرج مسرعا لا يلوي على شيء ولا يلتفت إلى أحد!.

ص: 67

خرج طريد القدر من بيته خروج (أوديب الملك) من قصره ثم هام في الطرق الضيقة المتشابكة يسأل الرائح والغادي عن مفتي بغداد، فلما ادخل عليه باح له بسر الخطيئة فهول عليه التركي بعقابها، وبالغ في جرائرها وأعقابها. ثم أفتاه بعد الاستشارة والاستخارة والرؤيا أن الله لا يكفر هذا الجرم إلا إذا صدف عن متاع الحياة، وخرج عن أثيل الملك، واستتر بأخلاق الثياب، وقضي بقية عمره في جمع الخبز للكلاب الشوارد!

أذعن الخاطئ البريء لحكم الفقيه الأحمق ونزل للزوجة الأخت عما يملك، وارتدى طمرا من غليظ الكرباس وجعل على عاتقه مخلاة ومضى يقرع كل بيت ويقصد كل مطعم ويجمع الفتات والخبز ثم يقف بالميدان فيقسمه بالسوية على من أجاب الدعوة من كلاب الحي.

لم يمض غير قليل حتى عرفه الناس وألفته الكلاب فصار يمشي في الأزقة وخلفه منها قطيع، وينام في العراء وحوله من شدادها حرس مطيع، وتحين الوجبة العامة فلا تجد كلبا طليقا في بغداد إلا أجاب نداءه. وتناول من يديه المحمومتين غداءه، ولكن الوالي رأى على طول الزمن أن يدي أبي الكلاب على رعيته عافية وربيع فسمن هزيلها وكثر قليلها حتى اختنق بلهاثها النهار؛ وصم بنباحها الليل، وأصاب الناس من عظاظها وأمراضها شر كبير. فأقام في ظاهر المدينة حظيرة واسعة ثم أمر الشرطة فصادوا الضواري وألقوها فيها. فكان أبو الكلاب على عادته يجمع الطعام والعظام ثم يذهب إلى ضيوف الحظيرة فيطعمها ويسقيها ثم يتهالك على الأرض من اللغوب فيرقد مكانه حتى الصباح.

وفي ضحوة يوم من الأيام أولم الوالي لأسراه وليمة السفاح فما نجا من بعدها لاهث ولا نابح، وجاء أبو الكلاب فرأى ألافه الخلصاء على أديم الأرض صرعى لا يتملقن بعين ولا يبصبصن بذنب!! فعظم على المسكين أن يرى مثال الصداقة يموت وشبح الجريمة يحيا فتساقط بجانب السور مهدود القوى صريع اليأس ولبث مكانه لا يأكل طعاما ولا يذوق مناما حتى لحق بربه.

ص: 68

‌مدام دي لوزي

بقلم أناتول فرانس

من (علبة الصدف)

- 1 -

دخلت فمدت بولين دي لوزي إلى يدها. ثم لزمنا الصمت حينا. وكانت قد ألقت في شيء من الإهمال على أحد الكراسي طرحتها وقبعتها من الخوص.

وفتحت على المعزف صلاة أورفيه. ثم دنت من النافذة، ونظرت إلى الشمس تهبط في الأفق الدامي. فقلت لها آخر الأمر، أتذكرين الكلمات التي نطقت بها منذ عامين يوما بيوم، في اسفل هذا التل، وعلى شاطئ هذا النهر الذي تديرين إليه عينيك الآن؟ أتذكرين أنك، وأنت تديرين حولك يدي المتنبئة، قد أريتني معدما أيام المحنة، أيام الجرائم والهول؟

لقد وقفت على شفتي إعلان حبي إليك وقلت: (عش، وجاهد في سبيل العدل والحرية!) سيدتي، لقد مضيت جريئا منذ دلتني على الطريق يدك التي أغمرها كما كنت أحب بالدموع والقبل. لقد أطعتك، فكتبت، وخطبت. أنفقت عامين أجاهد في غير هوادة أولئك الأغمار الجياع الذين ينشرون الاضطراب والبغض، والزعماء الذين يسحرون الشعب بهذه المظاهر العصبية يصورون بها حبا كاذبا، والجبناء الذين يضحون في سبيل الفوز القريب.

فاضطرتني إلى الصمت بحركة من يدها وأشارت أن استمع! هنالك سمعنا في ثنايا الهواء العطر، هواء الحديقة حيث تصدح الطير، صيحات بالموت تأتي من بعيد:(إلى المشنقة أيها الأرستوقراطي! ليوضع رأسه على الرمح!).

وكانت شاحبة، ساكنة قد وضعت إصبعا على فمها.

قلت، إنما هو الطلب يجد في أثر أحد البائسين. فهم يهاجمون الدور ويقبضون على الناس نهارا وليلا في باريس. ولعلهم يدخلون هنا. يجب أن أنصرف حتى لا أعرضك للشر. فمع أني لا أكاد أعرف في هذا الحي، فأنا في هذه الأيام ضيف خطر.

قالت: أقم!

وللمرة الثانية مزقت الصيحات الهواء الهادئ في المساء. وكان يخالطها وقع الخطى وطلق النار. كانوا يدنون وكنا نسمع: (سدوا المنافذ، لا يفلت الوغد!)

ص: 69

وكانت مدام دي لوزي ظاهرة الهدوء، يعظم حظها منه كلما قرب الخطر.

قالت لنصعد إلى الطبقة الثانية؛ فقد نستطيع أن نرى من ثنايا النافذة ما يحدث خارج البيت.

ولكنها لم تكد تفتح الباب، حتى رأت في الدهليز رجلا ممتقعا مختلط الهيئة، تصطك أسنانه، وتصطدم ركبتاه من الاضطراب. وكان هذا الشبح يغمغم بصوت مختنق: أنقذوني خبئوني!. . . ها هم أولاء. . لقد اقتحموا بابي؛ وأغاروا على حديقتي. . هم يدنون. .

- 2 -

عرفت مدام دي لوزي (بلونشونيه) الفيلسوف الذي يسكن الدار المجاورة، فسألته في صوت شديد الخفوت:

هل بصرت بك طاهيتي؟ فهي يعقوبية!

أجاب لم يرني أحد.

قالت الحمد لله، أيها الجار!

ثم قادته إلى غرفة نومها حيث تبعتهما. ولم يكن بد من الحيلة، ولم يكن بد من أن تجد مخبأ تخفي فيه (بلونشونيه) أياما، أو ساعات على الأقل، حتى تخدع الطالبين وتتعبهم. واتفقنا على أن أراقب المسالك إلى البيت حتى إذا آذنتهما أنسل الصديق البائس من باب الحديقة الصغير.

ولم يكن في أثناء ذلك يستطيع أن يثبت على قدميه. كان رجلا مصعوقا.

وحاول أن يفهمنا أنهم يجدون في طلبه، هو عدو القسيسين والملوك، لأنه إئتمر بالدستور مع مسيو (دي كزوت) وأنضم في 10 أغسطس إلى المدافعين عن قصر التويلري. ولم يكن هذا كله الا اتهاماً دنيئاً. إنما الحق أن (لوبان) كان يتبعه بحقده وموجدته؛ كان لوبان جزاره، وكثيرا ما هم أن يضربه بالعصا ليأخذه بأن يحسن وزن اللحم، ولكنه الآن يرأس لجنة الحي الذي يقوم فيه حانوته.

وبينا هو يغمغم بهذا الاسم مختنق الصوت، خيل إليه أنه يرى لوبان نفسه، فأخفى وجهه بيديه. وكان لوبان يصعد حقا في السلم. فأحكمت مدام دي لوزي رتاج الباب ودفعت الشيخ خلف ستار. ودق الباب، وعرفت بولين صوت طاهيتها، التي كانت تصيح بها أن افتحي،

ص: 70

وان لجنة البلدية بالباب ومعها الحرس الوطني، يريدون أن يفتشوا، يزعمون أن بلونشونيه في البيت، وأنا واثقة بأنهم مخطئون، فما كنت لتخفي وغدا كهذا، ولكنهم لا يريدون تصديقي.

فصاحت مدام دي لوزي من وراء الباب حسن! فليصعدوا! أطلعيهم على البيت كله من أسفله إلى أعلاه.

وسمع البائس بلونشونيه هذا الحوار فأغمي عليه خلف ستارة، ولم ترد عليه الحياة إلا بعد مشقة حين نضحت صدغيه بالماء. فلما أفاق قالت الغادة للشيخ في صوت خافت: اعتمد على صديقي، واذكر أن النساء مكرة.

ثم أقبلت في هدوء ودعة كما لو كانت تعاين بعض شؤون البيت إلى السرير، فجذبته من مكانه قليلا، وفضت الغطاء واستعانت بي فهيئنا بين وسائده الثلاث فراغا مما يلي الحائط.

وبينا هي في ذلك إذا ضجيج عظيم للأحذية، والقباقيب، والكرانيف والأسواط الغلاظ يسمع في السلم. فقضينا ثلاثتنا دقيقة ملؤها الروع، ولكن الضجيج صعد قليلاً قليلاً فوق رءوسنا. فعرفنا أن الحرس قد بدءوا بقيادة الطاهية اليعقوبية يفتشون على البيت. وكان السقف يضطرب، وكان يسمع للقوم نذير، وضحك غليظ، وضرب بالأرجل والحراب في الجدران. فتنفسنا ولكن لم تكن في الوقت سعة. واعنت بلونشونيه أن يدخل في الفراغ المهيأ بين الوسائد.

وكانت مدام دي لوزي، تهز رأسها وهي تنظر إلينا. فقد كان للسرير بعد هذا العبث شكل مريب. فحاولت أن ترده إلى هيئته الأولى، ولكنها لم تفلح.

قالت: لا بد من أن أنام فيه. ثم نظرت في الساعة، فإذا هي السابعة مساء.

فقدرت أن إسراعها إلى النوم في هذه الساعة سيبعث الريبة. ولا سبيل إلى التفكير في تكلف المرض: فان الطاهية اليعقوبية خليقة أن تفضح هذا المكر.

فلبثت على هذا النحو مفكرة لحظات، ثم إذا هي بهدوء وبساطة وحياء، ملؤه الجلال تخرج من ثيابها أمامي، ثم تدخل في سريرها وتأمرني أن أخلع نعلي وأتجرد من ثيابي وهي تقول: يجب أن تكون خليلي وان نفاجأ في هذه الحال. فإذا أقبلوا لم تجد من الوقت ما تهيئ فيه زيك وتصلح من شكلك. فتفتح لهم في لبسة المتفضل وقد أنتثر شعرك. . .

ص: 71

وكان كل شيء قد تم كما قدرنا حين هبط الحرس الوطني صاخبا ساخطا.

وأخذ بلونشونيه البائس رعشة عنيفة كان السرير يضطرب لها اضطراباً.

وكان تنفسه من القوة بحيث كان يجب أن يسمع من خارج الغرفة.

قالت مدام دي لوزي: يا للخسران لقد كنت شديدة الرضى بهذه الحيلة. وبعد فلا ينبغي أن نيأس فلعل الله أن يعيننا.

واضطرب الباب لصدمة قوية.

قالت: من الطارق؟

فأجيبت: هم ممثلوا الأمة.

قالت: ألا تنتظرون حينا؟

قيل: افتحي وإلا كسرنا الباب.

قالت: هلم فافتح يا صاحبي.

وما هي إلا أن كانت المعجزة فانقطع اضطراب بلونشونيه وزحيره فجأة.

- 3 -

وكان أول الداخلين لوبان وقد اتخذ منطقته وتبعه اثنتا عشرة حربة.

فأدار بصره بين مدام دي لوزي وبيني ثم قال: بخ، بخ! لقد استكشفنا عاشقين! معذرة أيتها الحسناء!

ثم التفت إلى الحرس وهو يقول: إنما الأخلاق للثائرين. ولكن هذه المصادفة رغم حكمته قد ملأته سرورا.

فأقبل حتى جلس على السرير وأخذ بذقن الحسناء الأرستقراطية وهو يقول: نعم أن هذا الفم لم يخلق ليردد في الليل والنهار: أبانا الذي في السماء!.

ولو قد فعل لعظمت الخسارة، ولكن الجمهورية قبل كل شيء. إنما نبحث عن الخائن بلونشونيه. هو هنا، لا اشك في ذلك. لا بد لي منها. لأتقدمنه لتضرب عنقه. ولأكونن بذلك سعيداً.

قالت: فتشوا عنه إذن.

فنظروا تحت الأثاث وفي الخزائن، وادخلوا الحراب تحت السرير، وحبسوا الوسائد

ص: 72

بالخناجر.

وكان لوبان ينظر إليه بمؤخر عينه وهو يحك أذنه. فأشفقت مدام دي لوزي أن يوجه إليه أسئلة محرجة، فقالت أنت تعرف البيت كما اعرفه يا صاحبي. فخذ المفاتيح وطوف بمسيو لوبان بكل مكان. وأنا اعلم أنك ستجد لذة وسرورا في إرشاد المخلصين للوطن.

فقادتهم إلى الكهف حيث نثروا ما فيه من حطب وشربوا عددا ضخما من القناني. ثم شق لوبان بكرنفته الدنان المترعة. فلما خرج من الكهف الغارق في النبيذ أذن بالرحيل. فصحبتهم حتى أغلقت من دونهم الباب، وأسرعت أعلن إلى مدام دي لوزي أن قد نجونا.

فلما سمعت هذا النبأ عطفت رأسها إلى الفراغ بين السرير والحائط، ونادت: مسيو بلونشونيه! مسيو بلونشونيه.

فأجابها رجع نفس ضئيل.

هنالك صاحت الحمد لله! لقد روعتني فقد كنت أرى أنك قضيت!. ثم التفتت إلى قائلة: مسكين أنت أيها الصديق لقد كنت تجد لذة عظيمة في أن تقول لي من حين أنك تحبني، لن تقولها لي بعد اليوم.

ص: 73

‌العَالم النسَائي

شعوري نحو مصر والمصرية

كاتبة هذا المقال سيدة سويسرية واسعة الثقافة دقيقة الملاحظة

صافية الشعور وقد وعدت الرسالة أن توالي الكتابة في هذا

الموضوع فلها الشكر. (المحرر)

مصر اسم يخلب اللب ويسحر القلب ويستثير حتى في أجفى الناس طبعاً صورة هذا البلد الفاتن والطبيعة الخصيبة والبدر اللامع ويلهم النفوس ذكرى هذا الماضي العريق والمدنية القديمة والعظمة الفرعونية وقصص ألف ليلة وليلة الرائعة، وقد أنهكتها جهود المدنية الأولى فاستجمت بعد هذا الشوط البعيد حقبة طويلة من الدهر ما تزال تتذوق فيها خيال هذا الماضي العظيم وسلطانها السالف!

وكم من عاشقين غمرتهم شمسها الضاحكة بالفرح والسعادة ودفء القلوب!

وكم من خياليين جاشت نفوسهم في ربوعها ومجاليها بالأخيلة السعيدة والأحلام البهيجة!

وكم من مترفين ملئوا فراغ حياتهم وخيالهم بمباهجها ومناظرها وقضوا شهوة التطلع من عجائبها ومن المتناقضات فيها!

أليست تجمع في الواقع الكثير من هذا التناقض؟ فيجاور الجاه العريض والرغد الوفير البؤس الساحق والفقر المدقع؟

الست ترى السيارات الفخمة ذات الفرش الوثيرة عند مداخل الملاهي والغلمان الضريرين يستدرون الرحمة ويسألون العطف في أسمال رثة؟!

على أن المدنية تسير فيها الآن بخطى واسعة سريعة. ففي الحين بعد الحين يبدو بين الناس رأى ناضج أو صناعة رائجة فتكون الدليل الساطع على الفوز والنجاح. على أن كثيرا ما فارت حماسة الناس ثم قرت، واتقدت شعلتهم ثم خبت، ما أشد حاجتهم إلى ملكة الاستمرار والاستقرار!

ولطالما سئلت عن رأيي وشعوري في مصر. وكان جوابي واحدا لا يتغير، أنها ككل بلاد العالم فيها الطيب والخبيث، على أننا إذا قدرنا أن العوامل الاجتماعية وظروف الحياة

ص: 74

تخلق الأمم كما تخلق الفرد وجب ألا يغيب عن أذهاننا تأثير هذه الظروف والعوامل حين الحكم على مصر التي تجاهد الأيام لاستعادة عظمة القرون الأولى.

فإذا أردت أن أتحدث عن شيء فيها فأنا أتحدث عن أقوى العوامل أثرا في تكوينها، وهو المرأة في مختلف أطوارها وأدوارها ومسؤولياتها وواجباتها.

وقد يبدو للنظرة الأولى أن أثرها ضئيل، فما وجه العلاقة والخطر بين هذا المخلوق الخانع قليل الحظ من العلم ومن عظمة الأمة ومجد الوطن؟

لقد قضيت الآن في مصر ثلاث سنين شعرت فيها بجاذبية غريزية تجذبني نحو المرأة، واغلب ظني أنها تحتاج إلى عناية اكثر وجهد أوفر، فأنها أس الحركة الروحية وجماع الأسرة وروحها الجياشة وشريك الزوج ومربية الأطفال وربة الدار.

ولقد استطعت أن اقدر وأنا أعيش في بيئة مصرية محضة أن المرأة لا تستطيع أن تكون كل ذلك إلا إذا بذلت أعظم مجهود وتغلبت على كل صعوبة فأنها ما تزال ترسف في أغلال العادات وتعليمها لا يزال ناقصا، وشعورها العميق الذي ولده التقليد القديم بأنها مخلوق تافه الشأن ضئيل الوجود يقتل في نفسها أسمى معاني الحياة.

وهي بطبيعتها مقلدة غير مستقلة، فكم شاهدت سيدات الأسرة الواحدة لا يختلفن في القناع والمعطف والفراء وقد نبذن عصابة الرأس الشرقية التي كانت تلائم الوجه الشرقي كل الملائمة.

على أن البدء عسير عادة، والمرأة المصرية ما تزال في خطوات التطور الأولى، بل قد يكون البدء في بعض الأحيان مثيرا للإشفاق والنقد، فإننا إذا لاحظنا زينتها وتجملها رأينا ما يبعث أحيانا على السخرية، فليس اضحك من وجه شرقي الملامح زاد الكحل عينيه الدعجاوين سوادا، وشفتين خضبهما الأحمر القاني، وشعر قد حاله الأوكسجين إلى اصفر فاقع.

فنصيحتي إلى المصرية العزيزة أن القصد والبساطة في التجمل والزينة هما سر رشاقة المرأة وأناقتها.

ص: 75

‌اشتراك الفتاة في الحياة العملية

أنا إن أقدمت على الخوض في هذا الموضوع فلست أبشر بمبدأ جديد لم تعرفه مصر، أو افتح بابا موصدا في هذا البلد العزيز فكلنا يعرف ما تقوم به الريفية المصرية من الأعمال فهي والرجل على قدم المساواة في العمل بل قد تبذه في كثير من نواحي الحياة مما يقصر عنه باع فلاحنا وتضرب فيه الريفية بسهم عظيم، على أنني بمعالجة هذا الموضوع أريد أن أوجه النظر إلى حياة الفتاة المدنية فاستعرض بعض نظمها وأتتبع بعض أدوائها علني أوفق إلى إيصال صوتي إليها.

وفي نطاق هذه الكلمة أخرج من دائرتي بنات الطبقة الفقيرة المعدمة فهؤلاء غير ملومات ولا يمكن أن ينسب إليهن أو إلى أوليائهن أي تقصير فهن بحكم ظروفهن قد هدتهن الطبيعة إلى استنباط وسائل العيش فكن اقدر من غيرهن على خوض غمار الحياة على رغم ما بهن من فاقة وما يحيط بهن من إملاق، ولكنما أنظر إلى فتاة الطبقة الوسطى وفتاة الطبقة الغنية لأرى هل نظرت إحداهما إلى الحياة نظرة عملية تتفق وعصرنا الحديث؟

قد ينكر البعض علي هذا التساؤل ولكني أريد أن أصل إلى الحقيقة لا يشوبها ملق ولا يموهها خداع، أريد أن أنظر إلى أخواتي وأترابي بعين الحقيقة والواقع.

حقا أن البعض متعلمات والبعض مقبلات على التعليم ولكني أرى الكثيرات لا يأخذن الحياة بعلمهن فيمهدنها لمستقبل عملي مجيد. أرى الكثيرات وقد قنعن بقشور التعليم دون اللباب وقبعن في عقر دارهن مكتفيات ببضع كلمات جوفاء يتشدقن بها خلال التفنن في التبرج وقضاء الساعات أمام المرآة.

الحق أن مثل هذه النتيجة لا تساوي عناء الدرس وليس فيها لهذا البلد غناء.

هلا كان منهن من نظرن إلى أنفسهن والى وطنهن وجعلن من حياتهن متسعا لخدمة الاثنين! ماذا يفيد الأمة وآنساتها متأنقات جميلات ولكن على حساب الرجل التعس الذي يعولهن؟ ماذا يفيد الأمة وآنساتها مستهلكات غير منتجات منفقات ثروات الرجال في المخازن الأجنبية لقاء ثوب أنيق أعجبهن وأداة زينة استغوتهن؟ أريد أن تستثمر الفتاة العلم الذي تعلمت. أريد أن تشعر الرجل أنها لم تعد ذلك الحيوان المدلل الذي يعيش على حسابه ولمتعته. أريد أن تقاسم الفتاة الرجل في العمل والكسب والتمتع بالحياة. أريد فتاة مصرية عاملة تعمل وتزاحم في الحياة بالمنكبين تستشعر لذة العمل وتنهض بمصرنا العزيزة وتربأ

ص: 76

بنفسها أن تكون قعيدة البيت أسيرة المرآة، أريد الفتاة أن تثأر لخمولها الماضي الطويل وتستقبل الدنيا بنفس ملؤها العزم والحزم تزينها الكرامة ويتوجها العفاف.

ترى هل من تستجيب لدعائي؟ ترى هل من تنهض من أجل مصر؟ أن قلب مصر ليخفق، وان مصر لتزخر بالحياة وان هو الا أن نتسابق إلى العمل حتى نهز العالم بجلال نهضتنا ونمضي كما بدأنا مصريين لنا نفوس أبية وأيدي فتية وأثر في الحضارة غير منكور.

تحية أبو العلا

مدرسة بمدرسة غمرة الابتدائية

ص: 77

‌النقد

لاتينيون وسكسونيون

أترضى أم نسخط حين تعنى الصحف السيارة بالأدب والنقد وحين تتفق مع كبار الأدباء والنقاد على أن يحرروا لها ما تحتاج إليه من الفصول فيهما؟ في ذلك ما يدعو إلى الرضى من غير شك فهذه الصحف السيارة منتشرة وهي اشد إنتشاراً من الكتب وأدنى إلى نفوس الناس وعقولهم والى عيونهم وآذانهم من المحاضرات والأحاديث فهي إذا تخدم الأدب والنقد حين تذيع رسالتهما في اكثر عدد ممكن من الناس، وهي إذا تخدم الناس حين تنشر فيهم الثقافة الأدبية وترفع دهماءهم إلى حيث يستطيعون أن يروا ويذوقوا جمال الأدب الرائع وآيات الفن الرفيع. وهي لهذا وذاك تخدم الأدباء والنقاد أنفسهم لأنها تعرفهم إلى اكبر عدد ممكن من الناس في أقطار مختلفة من الأرض فترفع ذكرهم وتعلي قدرهم وتنشر دعوتهم وتكسب لهم الأنصار والمؤيدين وهي بعد هذا كله وقبل هذا كله تخدم نفسها حين تستعين بالأدباء والنقاد على كسب القراء وتستعين برضى القراء على احتكار الأدباء والنقاد. كل هذا حق ولكن هناك حقا آخر يظهر أن ليس من سبيل إلى الشك فيه وهو أن عناية الصحف السيارة بالأدب والنقد لا تخلو من ضرر، ومن ضرر قد لا يكون قليلا. فالأدب والنقد في حاجة إلى الأناة والروية وإمعان التدبر وإطالة التفكير فإذا لم يظفر الأدب والنقد بهذا كله فهما عرضة للضعف والفتور وهما عرضة للتقصير والقصور وهما عرضة لتجاوز الحق والتورط في الباطل وهما عرضة لهذا كله للإساءة إلى أنفسهما وللإساءة إلى الأدباء وللإساءة إلى القراء أنفسهم. فإنما يكون الخير في نشر الأدب والنقد إذا نشرا على وجههما جميلين رفيعين منصفين متبرئين من هذه العيوب التي تفسد جمال الفنون العليا. وأظنك لا تخالفني في أن حياة الصحف السيارة وضروراتها وحاجتها القاهرة إلى أن تظهر في نظام وتصدر في وقت معين وتعطي قراءها ما تعودت أن تعطيهم في كل يوم أبعد الأشياء عن ملاءمة ما يحتاج إليه الأدب والنقد من الأناة والروية ومن التدبر وإطالة التفكير. ولعلك قرأت في بعض الكتب التي قصت علينا حياة أناتول فرانس وفصلت لنا بعد موته أطرافا من سيرته وأطواره في حياته الأدبية أنه شقي بهذا ثم تعوده فسخر منه وازدرى الصحف والأدب والقراء ونفسه أيضاً وعبث بهذا كله. فكان في بعض الأحيان

ص: 78

من اقل الناس عناية بما يكتب للصحف وتحريا فيه للحق ولا سيما حين كان يكتب لبعض الصحف الأجنبية فكان يلفق لهذه الصحف أي شيء ويضع اسمه في آخره ويأخذ أجره على هذا التلفيق ساخرا بالصحيفة وقرائها معتزاً باسمه منتفعاً بما يقع في يده من المال كل شهر أو كل أسبوع.

ويعظم على الأدب والنقد خطر ما تحتاج إليه الصحف السيارة من السرعة والنظام حين لا يكون الأدباء الذين يكتبون لها في الأدب والنقد مقصورين على أدبهم ونقدهم بل تضطرهم ظروف الحياة العامة والخاصة إلى أن يتجاوزوهما فيكتبوا في السياسة أيضا. فهذه السياسة على أنها من حيث هي شر على الأدب لأنها تستغرق من جهد الأديب وميوله وعواطفه مقداراً عظيما كان ينبغي أن يخلص للأدب، يشتد شرها ويعظم لأنها تتأثر هي أيضا بحاجة الصحف إلى النظام والسرعة وبطروء الأحداث السياسية وتطورها واضطرار الكاتب إلى أن يتبع هذا التطور ويسايره ويكتب في ألوانه المختلفة. فإذا أضفت إلى هذا كله أن للأديب أو الناقد حياته الخاصة بقسميها المادي والمعنوي وحياته الاجتماعية التي تضطره إلى أن يستقبل ويزور ويجامل ويتقبل المجاملة، عرفت مقدار الجهد الضئيل الذي تظفر به فصول الأدب والنقد في الصحف من الأدباء والنقاد.

خطرت لي كل هذه الخواطر حين قرأت فصلا قيما نشرته جريدة الجهاد الغراء لصديقي الأستاذ عباس محمود العقاد صباح الثلاثاء 17 يناير.

أراد الأستاذ العقاد أن ينقد كتاب الأستاذ أنطون الجميل في شوقي شاعر الأمراء. ولم أكن أشك في أن الأستاذ سيشتد على الكتاب ومؤلفه وعلى شوقي أيضا. فمذهب الأستاذ في الأدب العصري معروف واقل ما يوصف به أنه بعيد كل البعد عن الإعجاب بشعر شوقي وعن الإقرار للذين يعجبون بهذا الشعر. وقد أشارك الأستاذ في كثير جدا من آرائه في شوقي والمعجبين بهما. ولكن الشيء الذي أخالف فيه الأستاذ اشد الخلاف والذي أكتب من اجله هذا الفصل هو هذه المقدمة التي بسطها بين يدي نقده لكتاب الأستاذ أنطون الجميل. وعرض فيها لما سماه نقد اللاتينيين ونقد السكسونيين. وأحب أن لا يغضب الأستاذ العقاد إذا اصطنعت الصراحة في بسط رأيي في هذا الفصل فلعله يوافقني على أنه في حقيقة الأمر غير راض عن الكتاب ولا مؤمن ولكنه أراد أن يكون ناقدا مجاملا لبقاً فاستعار من

ص: 79

اللاتينيين ما يعيبهم به من المجاملة واللباقة في النقد لم يرد أن يصارح الأستاذ أنطون جميل بأن كتابه لا يرضيه من كل وجه لأنه حريص على مقدار ولو محدود من المجاملة بين الزملاء. ولم يرد أن يعيد على الناس حديثه في شوقي وشعره لأن شوقي قد مات منذ وقت قصير والنظم الاجتماعية تقضي بشيء من المجاملة للموتى وللذين رزئوا فيهم أشهراً على اقل تقدير. لم يرد هذا ولا ذاك. ولم يكن يستطيع أن يهمل كتاب الأستاذ أنطون الجميل فضلا عن أن يقرضه تقريضاً خالصاً لأن في هذا أو ذاك ظلماً لرأيه وكتمانا لما يعتقد أنه الحق فسلك في نقده هذه الطريقة الغريبة التي لا تخلو من التواء. اعتذر للأستاذ أنطون الجميل بثقافته اللاتينية وأخذه المذهب اللاتيني في النقد عما تورط فيه من خطأ بين وحكم غير مستقيم على شعر شوقي. ولست ادري أظفر الأستاذ العقاد بإرضاء الأستاذ أنطون الجميل أم لم يظفر؟ أوفق إلى مجاملته أم لم يوفق؟ أوفق إلى مجاملة شوقي والذين رزئوا فيه أم أخطأه هذا التوفيق؟ لست ادري ولكني اعلم علم اليقين أنه ظلم الثقافة اللاتينية وظلم النقد اللاتيني وظلم قراءه جميعا وأظن أن إرضاء الأستاذ أنطون الجميل أو مجاملته أهون على الأستاذ العقاد وأهون على الأستاذ الجميل نفسه من ظلم العلم والأدب والقراء جميعا.

واغرب ما في هذا الفصل الذي كتبه الأستاذ العقاد تناقض لست ادري كيف تورط فيه وهو فيما أعلم من أشد الكتاب المعاصرين في الأدب استقامة في الحكم وإيثارا للقصد وحرصا على الإصابة في التفكير. بدأ الأستاذ فصله بأن من العسير جدا أن يوفق الناس إلى الحق حين يعممون أحكامهم على الأمم والشعوب. وعلل ذلك تعليلا حسنا مستقيما ولكنه لم يلبث أن التمس لنفسه وسيلة للحكم العام على الأمم والشعوب. بل على ما هو أعم من الأمم والشعوب على الأجناس. فزعم أولا أن للاتينيين مذهبا في النقد وان للسكسونيين مذهبا آخر وان هذين المذهبين يختلفان فيما بينهما اشد الاختلاف. وزعم بعد ذلك أن أخص ما يمتاز به المذهب اللاتيني (الأناقة). وأخص ما يمتاز به المذهب السكسوني (البساطة) أو (الفطرة).

وفسر هذا بأنك إذا قرأت الناقد الفرنسي رأيت رجلا أنيقا لبقاً يقدم في أحد الصالونات كاتبه الذي ينقده على الأوضاع الاجتماعية المألوفة مجاملا متكلفا وقد يومئ إيماء خفيفا إلى

ص: 80

بعض العيوب ولكن على سبيل النكتة أو على سبيل الحيلة في التماس الدفاع عن هذا الكاتب الذي ينقده أو الرجل الذي يقدمه إلى الصالون. أما الناقد السكسوني فهو لا يحفل بالأوضاع الاجتماعية وإنما يهجم بك فورا على الحياة الفردية، على الحياة الإنسانية، على الرجل من حيث هو رجل لا من حيث هو فرد من جماعة. ومعنى هذا أن نقد اللاتينيين سطحي مخالف لأصول العلم وان نقد السكسونيين هو النقد العلمي الصحيح الذي تجد فيه الفائدة وتجد فيه الغناء. وأنا احب أن يعذرني الأستاذ العقاد إذا قلت له في صراحة أني كنت أنتظر منه كل شيء الا التورط في هذا الخطأ الصارخ والظلم المبين. فليس من الحق بوجه من الوجوه أن الاختلاف بين النقاد اللاتينيين والسكسونيين عظيم إلى هذا الحد الذي يتصوره الأستاذ. فليس هناك نقد لاتيني ونقد سكسوني، وإنما هناك نقد فحسب. فقد يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أحدثته الثقافة اليونانية اللاتينية وورثته عنها الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها. فكل النقاد من الفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والإنجليز قد قرأوا آيات البيان اليوناني واللاتيني وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني وكونوا لأنفسهم أو كونت لهم هذه القراءة ذوقا عاما مشتركا بينهم يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره لأن هذا الجوهر واحد مستمد من هوميروس وبندار وسوفوكل وارستوفان وأفلاطون وسيسيرون وتاسيت ومن إليهم. نعم وهذا النقد الحديث يعتمد على أصول أخرى غير الذوق، أصول تشبه العلم أو تحاول أن تكون علما وضعها أرسططاليس ومن جاء بعده من نقاد اليونان والرومان وسموها علم البيان. يعتمد النقد الحديث عند الأمم الأوربية مهما تختلف أجناسها على هذين الأصلين: الذوق الذي تكونه الثقافة اليونانية اللاتينية، والعلم الذي وضعه أرسططاليس وأصحابه. وللأستاذ أن يدرس على مهل وفي أناة وروية من شاء من النقاد المحدثين في أي أمة من الأمم الأوربية فسيرى أن هؤلاء النقاد جميعا يتفقون في أن نقدهم يقوم على هذين الأصلين اللذين أشرت إليهما. فإذا اختلفوا بعد ذلك فإنما يختلفون في الأشكال والصور باختلاف أمزجتهم الخاصة وباختلاف البيئات التي يعيشون فيها ويكتبون لها.

عسير جدا أن يقال إذا أن هناك نقدا لاتينيا ونقدا سكسونيا وأن هذين النقدين يختلفان في الجوهر والطبيعة، ثم اعتذر إلى الأستاذ بعد هذا من أني لا أستطيع ولا أظن أن أحداً

ص: 81

يستطيع أن يقره على رأيه في النقد اللاتيني، بل أنا لا أقضي العجب من تورط الأستاذ في إعلان هذا الرأي الغريب فليس من الحق أن النقد اللاتيني سطحي وليس من الحق أن هذا النقد يعتمد على الأوضاع الاجتماعية ويهمل الإنسان من حيث هو إنسان. هذا كلام لا يمكن أن يقبل مع أن من الأشياء المقررة التي يتلقاها الشبان في المدارس أن قوام الأدب الفرنسي الكلاسيكي إنما هو بالضبط: إلغاء هذه الفروق والأوضاع الاجتماعية التي تمتاز بها الأمم والشعوب فيما بينها بل التي تمتاز بها البيئات المختلفة في أمة بعينها والاتجاه إلى الإنسان من حيث هو إنسان إلى هذا القدر المشترك بين الناس جميعا من العقل والشعور. على هذه القاعدة يقوم الأدب الفرنسي الكلاسيكي كما يقوم عليه الأدب اليوناني القديم والأدب كله بما فيه من شعر ونثر ونقد، فكيف يقال في أدب يقوم على هذا الأصل أنه سطحي يقوم على الظواهر والأوضاع الاجتماعية.

ولأدع الأدب بمعناه العام ولأتحدث عن النقد وحده ولن أحدث الأستاذ عن نقد بوالو وفولتير وغيرهما من النقاد الذي عاشوا قبل الثورة فان حديث هؤلاء يطول، وإنما أتحدث إلى الأستاذ عن النقد الفرنسي في القرن الماضي، واسأله كيف يستطيع أن يقول أن هذا النقد سطحي يعتمد على (الأناقة) و (اللياقة) والأوضاع الاجتماعية ويهمل الحقيقة الإنسانية البسيطة؟ ألم يقرأ سانت بوف؟ أن قراءة لفصل واحد لهذا الكاتب الذي ملأ الدنيا نقدا لأنه أنفق في النقد صفوة حياته تقنع الأستاذ ومن هو اقل من الأستاذ جدا إلماما بالأدب والنقد بان سانت بوف كان أبعد الناس على أن يكون رجلا من رجال الصالونات يقدم الكتاب والشعراء إلى الناس في أناقة ولباقة وظرف ومجاملة. ولعل الأستاذ يعلم أن أهم ما أخذ به سانت بوف من العيب إنما هو تعمقه أسرار الناس وبحثه عن دخائلهم وتتبعه لحياتهم الفردية فما ينبغي أن يعرف وما ينبغي أن يجهل وعرضه هذا كله على الناس لأنه كان يرى أن فهم الأدب رهين بفهم الشخصية الفردية للأدباء الذين ينتجون. ولو قد وقع شوقي رحمه الله بين يدي سانت بوف كما وقع لمارتين لقرأ الأستاذ العقاد في نقد شوقي صحفا ترضيه كل الرضى وتخالف كل المخالفة ما قرأه الأستاذ في كتاب صديقنا أنطون الجميل. لم يكن سانت بوف رجل صالونات وإنما كان يغشى الصالونات فيرى ما كان يحدث فيها ويتخذه وسيلة لتعرف ما يقع من وراء الأستار.

ص: 82

كان اقل الناس انخداعا بما يتحدث به الأدباء عن أنفسهم وبهذه الصور الخلابة التي يعطونها لحياتهم فيما ينشئون من شعر أو نثر، فكان يبلغ بذلك أقسى القسوة. فليقرأ الأستاذ إن أراد أحاديث الاثنين وليقرأ الصور وليقرأ كتابه عن شاتوبريان وأصحابه وليقرأ كتابه عن بورويال وتين؟ ماذا يقول الأستاذ عنه؟ أكان صاحب أناقة ولباقة واعتماد على الأوضاع الاجتماعية وهو الذي أنفق جهدا عنيفا ليقيم النقد الأدبي على أساس من العلم؟ وقد قرأ الأستاذ من غير شك لا أقول كتبه في نقد الفرنسيين بل أقول كتابه في تاريخ الأدب الإنجليزي.

زعموا أن بشاراً سئل عن جرير والفرزدق أيهما أشعر؟ ففضل حريرا وقال فيما قال أن النوار امرأة الفرزدق فبكاها النائحات برثاء حرير لامرأته:

لولا الحياء لعادني استعبار

ولزرت قبرك والحبيب يزار

فليسمح لي الأستاذ أن اذكره بأن الإنجليز أنفسهم لا يزالون يعتمدون إلى الآن على كتاب تين في تاريخ الآداب الإنجليزية ومع ذلك فليس أدبهم في حاجة إلى من يؤرخه من الأجانب.

وبرونتير ماذا يقول فيه الأستاذ؟ أكان صاحب أناقة ولباقة وظرف وصالونات وهو أقل النقاد الفرنسيين حظا من هذا كله، وهو أول من حاول أن يقيم النقد الأدبي على مذهب دروين في تطور الأنواع وفي النشوء والارتقاء. وأميل فاجبه ولنسون وبيدييه وجول لمتر واناتول فرانس وبول بورجيه وبول سودي والنقاد الذين لا يزالون يملئون الصحف والمجلات الكبرى في فرنسا نقدا في الأدب والفن، ما بال الأستاذ لا يقرؤهم ليتبين أحق أن النقد اللاتيني يعتمد على الأناقة واللباقة والأوضاع الاجتماعية والتماس والنكتة.

لقد فرغت الآن من قراءة فصل للكاتب الفرنسي مارسل دوشومان في مجلة العالمين التي صدرت في أول يناير لو قرأه الأستاذ لعرف أن النقد الفرنسي أبعد ما يكون النقد عن لهو الصالونات وظرفها. في هذا الفصل يحاول الكاتب أن يهدم أسطورة آمن بها الأدباء جميعا عن حياة شاتوريان كانت تصور دعابته ولهوه وكان هو قد انتهى في آخر حياته إلى تصديقها والتخييل إلى الناس أنها قد وقعت بالفعل فإذا الكاتب يثبت بالأدلة القاطعة أن هذه الأسطورة لا تعتمد على أساس ويعتذر إلى القراء لأنه أضاع عليهم قصة غرامية كانوا

ص: 83

يجدون فيها لذة وجمالا. كلا ليس النقد اللاتيني سطحيا ولا يستطيع من قرأ منه شيئا ذا بال أن يقول أنه سطحي بل هو مضطر إلى أن يقول مع الكاتب الفرنسي برونتير أن النقد الحديث إنما نشأ ونما آتى أطيب الثمر وأصحه وألذه في فرنسا وفي فرنسا وحدها.

وأنا أحب أن لا يظن الأستاذ العقاد أني أدافع هنا عن الثقافة اللاتينية على حسابات الثقافات الأخرى. فأنا من أشد الناس إكبارا للثقافة السكسونية وإعجابا بما عرفت منها. ولكني كنت وسأظل من أقل الناس حديثا عنها وحكما عليها لأني لا أحسنها وأحب أيضا أن لا يعتقد الأستاذ أني اكتب هذا الفصل متأثرا بالثقافة اللاتينية التي نشأت عليها كما نشأ الأستاذ أنطون الجميل. فالناس جميعا يعلمون أني نشأت على الثقافة العربية الخالصة ولم أتصل بالثقافة الأوربية الا بعد أن تقدم بي الشباب.

إنما هو الحق الذي يجب أن يقال، والعلم الذي يجب أن ينصف والقراء الذين يجب أن نجتهد في أن لا نقدم إليهم الا ما نثق بأنه الحق الذي لا غبار عليه. والحق الذي لا غبار عليه في هذه المسألة هو أن الأستاذ العقاد تعجل وجامل فأخطأ الصواب، وأقام أحسن الدليل على أن التعميم في الأحكام على الشعوب مزلة للأقدام وسبيل إلى الظلم.

أما بعد فأن لي في كتاب الأستاذ أنطون الجميل رأيا أن لم يظهر في هذا العدد فسيظهر في العدد الذي يليه.

ص: 84

‌الشلوك

عمالقة السود واكثر الهمج وحشية

للرحالة الكبير الأستاذ محمد ثابت

الشلوك طائفة من الزنج تحتل قسما من منطقة السدود في أعالي النيل ويحكمهم ملك يسمى ولا يزالون يتعقبون ملوكهم إلى الجد السادس والعشرين ودولة هذا الـ أو كما يلقبونه تمتد غرب النيل بين كاكا وتونجا وشرق النيل من جنوب كودوك إلى التوفيقية وعلى ضفتي السوباط الأولى ولهم نحو 1300 قرية من أكواخ مخروطية من القش والطين يسكنها نحو أربعين ألفاً. وهم خاضعون تماما لملكهم الذي يبلغه الجواسيس كل أمر جل أو صغر أولاً بأول، ومن أقصى حدود بلاده إلى مركزه المختار في قاشودة على بعد ستة أميال من كودوك. وهم معروفون بالقوام السمهري وبطول السوق وبروز عضلاتهم، جلدهم لامع براق والمقاتل منهم لا يرى خارج كوخه بدون حربته الطويلة ذات السن العريض. ومعها حربتان قصيرتان (ولا يحملون الأقواس والسهام) وسلاح من خشب كأنه الوتد مدبب الطرف ويستخدمون صحافا بعضها من خشب مستدير والبعض من جلد فرس الماء.

وأخص ما يسترعي النظر شعور الرجال التي يرسلونها تنمو ثم يشكلونها أشكالا غريبة بعد أن تبطن بروث البقر. أما النساء فيحلقن مقدم الجمجمة ويتركن شعراً قصيراً جداً في مؤخرها فتبدو المرأة كأنها صلعاء. ويتعهد شعر الرجال (حلاق) عمله محترم لديهم يتوارثه عن أجداده وهو في شهرته ومقامه يلي الرماة والمقاتلة، يأتي الرجل ويجلس أمام كوخ الحلاقة في الشمس المحرقة ويبدأ الرجل غسل الشعر ونفشه ببول البقر ثم يترك مدة في الشمس تناهز نصف ساعة وأنت ترى القمل والحشرات تجري على رقبة الرجل، وأيدي الحلاق والرائحة الكريهة منبعثة منها تعبق في الجو. وخلال ذلك يعد الحلاق المادة التي سيشكل بها الشعر. فيأتي بإناء من فخار ويخلط به بعض الطين والروث والبول والصمغ ويعجنه ثم يبطن به الشعر في مهارة فائقة ثم يجفف في الشمس ويأخذ في قطع زوائد الشعر بمدية حادة ويدهن جسد الرجل ببول البقر الذي يستخدمونه جميعا رجالا ونساء. بعد ذلك يرش فوق الشعر مسحوقا من حرق روث البقر ممزوجا بالثرى ليأخذ الشعر لونه المطلوب. والعادة أن يتعهد الحلاق شعر رجلين معا لكي يعرف كل نظام شعره إذا ما رأى

ص: 85

شعر أخيه ولا تستخدم المرآة عندهم. وأجر هذا العمل شاة أو معزى، ويغلب أن يتعهد الشبان شعرهم هكذا قبل الزواج والحرب وقبل الرقصة الدينية. ولكي لا يفسد نظام الشعر إذا أحس أيلام الهوام التي تتزايد في رأسه كل يوم يضع الحلاق أثناء العملية إبرا من الخشب فتخلف خروقا منها يمكن للرجل أن يحك رأسه بعصي مثلها. وأصعب ما يعانيه الشخص من شعره ليلا إذ ينام على قطعة من خشب يرفعها حاملان وهو لا ينجو من هذا العذاب ولا من عذاب القمل الا إذا مات أحد أفراد العائلة، فعندئذ يجب حلق الرأس وتركها حتى ينمو الشعر ويستأنف تعهده من جديد.

ومما يعانيه شبانهم الاختبار الذي يجوزونه كي يحوزوا لقب المقاتلة في سن الخامسة عشرة فتصحب كل واحد منهم خليلته ويذهب الجميع إلى ضفة النهر، وتمسك كل خليلة برأس صاحبها وتميلها نحو النهر وتأخذ في تشجيعه على أن يحتمل ما سيحل به من ألم. وسرعان ما يجيء طبيب ويشق جبهة الغلام بمدية حادة فلا يجرؤ واحد أن يتأوه وإلا كان خزيا كبيرا، وبعد ذلك تغسل الفتاة الدم في النهر وتنتهي الحفلة. وكل صبية هذا الجيل يلقبون باسم حيوان معين يتخذ شعارهم كالأسد أو الأفعى وما إليها. وكثيرا ما تقطع المدية شريانا فيموت الصبي من كثرة ما يفقده من الدم، والذي يعيش منهم يصبح مساهما في بقر القبيلة ويخول له الحق في الاشتراك في الرقص العام وينظر إليه الجميع نظرهم إلى الرجال. قبيل اجتياز هذا الاختبار يعتبرون أطفالا مفتقرين إلى حماية الرجال وينامون في أكواخ الخدم.

والشلوك أهل مياه وانهار لا عمل لهم سوى الرعي وصيد حيوان السمك فهم يسيرون في المياه بسرعة مدهشة حتى ولو غاصوا فيها إلى أكتافهم. ولا يذبحون ماشيتهم قط بل يستمدون منها اللبن. وبعد ذلك تستخدم بدل النقود في المبادلة وهي لديهم مقدسة ويبتاعون من النوبيين شمالهم الفول السوداني وهو غذاء رئيسي عندهم وقلما يزرعون شيئا، اللهم إلا بعض الذرة والطباق فهم كسالى. وكل عائلة تحل كوخين أو ثلاثة يحوطها سور في جانبه الداخلي إسطبل. البيوت نظيفة تحوي ثلاثة أكواخ واحد للزوج وزوجه والثاني للطبخ والثالث للخدم والأولاد. وأحب مشروباتهم المريسة وزوارقهم جذور منقورة من نخيل، أو أعواد توثق في شكل مجوف يحمله الرجل إذا شاء. والشلوك إذا صادوا فرس الماء حفظوا

ص: 86

لحمه لوقت الحفلات، وإذا صاد أحدهم فرسا بدون مساعدة غيره لبس سوارا من عاج حول ذراعه. وكثيرا ما يهاجمهم وحش كالأسد والفهد فيرديه الواحد منهم بحربته وعندئذ يأخذ جلده ليحفظه ويلبسه في الحفلات ليدل على بسالته.

والشلوك يعيشون في قرى مكتظة عكس أمم الباري والنوير الذين لا تزيد مجموعتهم على عائلة واحدة، فالشلوك لهم نظام عائلي وثيق وقانون موحد لذلك قلما تقتتل شيعهم وكثيرا ما يستعملون السم الذي يلطخون به سهامهم في قتل الغير. وملكهم لا يذوق طعاما ولا شرابا إلا بعد أن يتناول من أحد تابعيه قبلة. أما زينتهم فعقود من خرز ملون تلبس صفوفا بعضها فوق بعض وقد تغطي الرقبة كلها وقسما من الصدر، وهي دليل الغنى والجاه ويلبسها الرجال أيضا. واللون الأزرق عندهم بشير الحظ السعيد لذلك يلبسه الأطفال فكلما كثر الخرز دل على جاه أبويه. وبعض الشبان يلبسون سوارا في الساعد والعقب، وهذا يدل على أنهم قتلوا من الحيوان أسداً أو فهدا أو فيلا. والطبخ والزراعة أو الخزف والمريسة وحمل المياه من عمل النساء. أما الرجال فلا يصح لهم أن يقوموا بهذه الأعمال المهينة إلا إذا طعنوا في السن. ولعمل المريسة يوضع بعض الذرة في سلة مع مسحوق من روث البقر والثرى وكلها توضع في ماء راكد لمدة أسبوع حتى تتخمر، ثم تنقل إلى جرة من فخار وتغلى في الماء ويؤخذ السائل العلوي ويبرد ثم يشرب، وكلما نضبت أضيف الماء إليها وأعيد غليها وهكذا وهذا الخمر قوي مسكر.

ويخال بعض الناس خطأ أن اللحم أهم غذاء لديهم على أنهم لا يأكلون إلا لحوم السمك وأفراس الماء، أما لحوم البقر فلا تؤكل إلا في الحفلات. ومن أطعمتهم المحبوبة خليط من مسحوق الفول السوداني والذرة والسمك النيئ تطهى في جرة من فخار، وكذلك لحم فرس الماء يمزج بالفول السوداني وعشب اسمه صفصاف. وتكثر حفلات الرقص بعد شرب المريسة في الليالي القمرية خصوصا ليلة البدر وكلهم يرقصون والحراب في أيديهم، وقد لعب الخمر بلبهم ويقرع القوم طبولهم المزعجة وسط القرية التي تتجمع بيوتها في شكل دائرة تتوسطها ردهة فسيحة والطبول تقرع من وسطها في باكورة الصباح إعلانا للناس بأن حفلة الرقص ستقام الليلة. وكلما اختلفت قرعات الطبول اختلفت حركات الرقص ودلت على الغرض منه أهو للمطر أم الحرب أم الدين أم الفتيات أم الموت ورقصة

ص: 87

الفتيات تبدأ بعد بزوغ القمر مباشرة والغرض منها تعارف الفتيان بالفتيات إذ ترى الفتيان قبل الغروب مرحين انتظارا لملاقاة فتياتهم ويصرفون زهاء الساعة في تعهد شعورهم ولبس جلود القطط والأنمار والتحلي بصنوف لا تحصى من الخرز والودع وما إليها. وقبيل الغروب تفد الجماهير شبانا وشيبا وتصف جرار المريسة بحجومها الكبيرة وسط الدائرة والى جانبها أطباق من الذرة واللحم نصف المطبوخ، فإذا ظهر النور بدأ المسنون من النساء والرجال في دائرة ومن داخلها جماهير الشباب من الجنسين ويظلون مرحين يتحادثون حتى يقبل الزعيم ومن خلفه اتباعه يحملون الطبول وأدوات الموسيقى فينصت الجمع ويتداخل الفتيان والفتيات في صفين ثم تعزف الموسيقى والطبول وبين أن وآخر يرتل الكل أغنية. وما تكاد تنتهي حتى يعلو قرع الطبل وتموج صفوفهم وبيدهم الحراب التي تتلألأ في ضوء القمر. ثم يسرع أحدهم إلى الوسط مخترقاً صفوف الشابات والشباب وهناك يتمايل ويهاجم كأنه يصارع وحشاً ثم يعاد الغناء ثانية، وبعد ساعة على تلك الحال يشرب الكل المريسة، ويبدو صف آخر من الراقصين بعد انسحاب الأول الذي يظل عاكفا على جرار المريسة يرتشف منها ما يشاء، وأخيراً يختلف الكل في الرقص تاركين الحراب ويتقدم كل شاب في صف الشبان إلى فتاة في صف الفتيات وترفع السواعد بمحاذاة الأكتاف ويقفز كل زوج قفزات منظمة لكن دون أن يلمس الفتى خليلته والفتيات يظهرن دلالهن ويحاولن أسر الرجال واستمالتهم بما يفوق ما تأتيه المرأة الغربية، فهي مثلا تبرز ثدييها بين آن وآخر ثم ترفع عنهما قطعة القماش المهفهفة ثم تعيدها وكثيرا ما يفعل ذلك أمام القاضي في المحاكم فتؤثر فيه وما يكاد الليل ينتصف حتى تكون المريسة قد أخذت بلبهم فيختفي الحابل بالنابل وبمجرد انسحاب الزعماء والمتقدمين في السن يأتي الشبان والشابات بما لا يتصوره العقل بل وبما يستنكره الخلق الفاضل القويم.

الزواج: ولا تتزوج الفتاة قبل الخامسة عشرة وبفضل رقصة الفتيات يمكنها أن تتعرف بالكثير من الفتيان، والزوجة يمكن شراؤها بالقطعان، وللرجل شراء ما استطاع من الزوجات. لأن ذلك دليل الجاه والغنى، وقبل أن تتم صفقة الشراء هذه يجب أن توافق هي على هذا الزوج وفي العادة تكون قد رغبت فيه أبان حفلات الرقص، وهي تحب أن يكون غنيا بقطعانه ومزارعه، والعجيب أن الفتاة تؤثر الزوج الذي يستطيع بماله أن يشتري

ص: 88

زوجات كثيرات غيرها. وقبل إتمام الزواج تقدم الهدايا (الشبكة) كعشر من المعزى وثلاث من الحراب وعشرين خطافا للصيد (سنارة) وما إليها. وخلال تلك الفترة يبدأ التعارف بينهما (نظام شبيه بنظام الغرب) ففي حفلة الرقص يقود الأخ أخته إلى حلقة الرقص والخجل يبدو على وجهها وهناك يسألها زعيم القبيلة أن تعترف بجميع علاقات الحب التي حصلت مع فتيان آخرين من قبل وهي تخشى ألا تقول الصدق لأن الأخبار كلها تصل الزعيم أولا بأول. وبعد تلك المداولات بين الزعماء والعروس تقرع الطبول فينصت الجميع وهنا تكرر الفتاة ذكر أسماء الفتيان الذين أحبوها من قبل فيحضر كل منهم إلى وسط الدائرة ويحكم عليه من الماشية والأغنام ومتى جمعت تلك القطعان قدمت كلها مهراً للزوج، أما الفتاة فلا عقاب عليها متى صدقت في الاعتراف ومتى أقر الزعماء ذلك ولا عار على الفريقين من ذلك فالاعتراف من جانب الفتاة والغرامة من جانب الفتى عقاب كاف وترضية حسنة. والظاهر أن هذا التصرف لا يرمي إلى منع الفساد الخلقي بقدر ما يرمي إلى تزويد الزوجين بالمال والمتفرجين بالطعام والشراب والرقص.

وعند ميلاد غلام تقدم الهدايا للأب من قطعان يربو عددها بالتوالد حتى إذا ما أضحي الطفل رجلاً قدمت له بعد أن يجوز (حفلة الرجال)، وإذا مات أحدهم دفنت الجثة أمام الكوخ الذي كان يقطنه ويلف الجسم في أفخر ما كان لديه من ثياب أن وجدت والى جانب الأسلحة وأدوات الطبخ وكل ما يلزم للحياة الأخرى ما عدا أدوات الزينة. والجسم يمد في القبر على ظهره وتوضع تحت الرأس وسادة من خشب للرجال ومن قش للنساء والأطفال. وإذا مات الزعيم دفن داخل باب كوخه وأغلق سنة كاملة، بعدها يهدم. وعند دفن الميت تقام حفلة (رقص الموتى) فيجتمع الأهل وقد لطخوا جسومهم برماد من حرق روث البقر ويولول الجميع وفق قرعات الطبول البطيئة ويمثل الراقصون ما يدل على شجاعة المتوفى وفضله ويقدم الناس لأهله الطعام والشراب وتستهلك مقادير عظيمة من المريسة وقبل شروق شمس اليوم التالي ينسى الحزن بتاتا.

وفي رقصة الموت يمثلون موقعة يؤخذ فيها النساء والأطفال والماشية أسرى وهذه الرقصة تقدم في أي وقت من النهار بمجرد سماع القوم لقرع الطبول نداء لها فيتزين كل بما لديه من أدوات البسالة من ريش وجلود وحراب وما إليها ويتقدم المقاتلون ذهابا وجيئة

ص: 89

ويضربون الأرض برجولهم وحرابهم التي كثيرا ما تنثني أو تتكسر ثم يهاجمون الأكواخ التي فيها أسرارهم ويسوقونهم فيها بشراسة زائدة وسط تهليل يصم الآذان مسرعين نحو الزعيم والدماء تسيل من الجروح التي تخدش بها وجوههم وجسومهم ثم يتقدم الطبيب بعد فيضمدها بعصير بعض الأعشاب.

وإذا قام نزاع بين قبيلتين أدى إلى قتال عنيف ولا تتنازل إحداهما عن الأخذ بالثأر إلا إذا تساوى عدد الضحايا من الفريقين ولا يمكن لأية قوة مقاومتهم لأنهم يلجأون إلى صيد الناس بسهامهم المسمومة.

تاريخهم: ويرجح بعض الكاشفين أنهم وفدوا من منطقة البحيرات ولم يحلوا مكانهم هذا إلا منذ أربعة قرون. وفي سنة 1504 غزوا سنار لكن غزاهم البقارة سنة 1861 وفي 1874 ثاروا على الحكومة المصرية في السودان وفي 1890 خلال ثورة المهدي ثاروا ضد تجار الرقيق من العرب والدراويش لكنهم هزموا وسيق عدد كبير منهم إلى أم درمان ولهذا السبب تجدهم يبغضون العرب، ويظهر أنهم يمتون بصلة إلى الدنكا وبعض قبائل البحيرات مثل (كافروندو) لتقارب لغاتهم وبعض عاداتهم.

الدين: ولهم إله اسمه (فوك قادر ومسيطر خلق كل شيء إلا أنهم خاضعون لما يسمونه نيكوانج وهو خليط من الوثنية وعادت الأجداد والأرواح، فهم يرون أن أول جد لهم هو نيكوانج الذي يعمل وسيطا بينهم وبين الإله الأعظم الذي لا يدركه أحد وهو (فوك) فهم يقولون في وقت الضيق (أن فوك قد غضب علينا) ويصلون لنيكوانج للشفاعة وروح هذا تحل كل ملوكهم ويرون أن روح الموتى تزورهم في المنام وتؤثر على حياة الأطفال، وهم يتخيلون الله دوامة هوائية تنتابهم كثيرا وتحمل الرماد عقب إحراق العشب في عمد سوداء عالية، ويقولون بأن الله أسود اللون لأنه لا يرى ويسكن الظلام، وإذا مات الإنسان عاد إلى ربه، وعند الصلاة يقول الشلوك: يا إلهي اتركنا وحدنا ننجو فأنت عظيم، لا يمكن لأحد أن يتكلم معك أنت الله ومن تقتل منا يموت. أنت مقر روحنا فاتركنا ننجو، والباقون يستمعون وهم منصتون وحرابهم في أيديهم بعضهم واقف والبعض راكع. ولتقريب فكرة الآلهة من الناس يفترضون له وكيلا شبيها بالإنسان هو نيكوانج. يتوسلون إليه قائلين: نيكوانج قد أعطاك الله الأرض فاحكم الشلوك وارج لنا ربك يجعل البقرة التي سنذبحها

ص: 90

قربانا مقبولاً لديه، ثم يقتلون البقرة ويغسلون دم الحربة بالماء ويخلطون هذا الماء بالروث الذي يخرجونه من أحشائها ويرشونه على الناس جميعا. ورأيهم في الخلق يتلخص في أن الله هو الخالق، خلق طبقتين مسطحتين: العليا وهي السماء والسفلى وهي الأرض ثم خلق النبات والشجر. وأول حيوان ظهر الجاموس ثم الإنسان وكلم الله الجاموسة قائلا: تعالي غداً أعطك حربة. فسمع الإنسان ذلك وذهب خلسة لما خيم الظلام فلم يره الله فتقدم وهو يمشي على أربع وينفر كأنه الجاموس فقال الله من هذا؟ فأجاب أنا من له قرون متجهة إلى الوراء فجزع الله وأعطاه الحربة ولما جاءت الجاموسة تخور قال الله ألست أنت التي أخذت السلاح مني؟ قالت لا بل الإنسان فأعطاها قرونها وأهاجها على الإنسان أنى لاقته.

ولما خلق الإنسان كان أحمر اللون لأنه شغل من طين النهر ثم ذهب إلى التربة السوداء وخلق الجنس الأسود ولما انتهى خلقه فرك يديه فسقط الطين منها فتاتا هو القمل الذي التصق بشعر الإنسان وضايقه ولذلك اخترع له الله الموس للتخلص منه. وفريق منهم يرى أن الله أمر زوجته فولدت توأمين أسود وأبيض وكانت تحب الأسود وتبغض الأبيض وأمر الله بتربيتهما. وحدث مرة أن مد الأب رجله وأمر أن يلعقها الولدان فخضع الأبيض لأنه عبد وأبى الأسود فأحب الله لذلك الأبيض وحاباه وقال لزوجه إن ابني هو هذا وسأملكه على الأسود يبيع فيه ويشتري وسأمده بالأسلحة التي تسوده على كل شيء.

والطبقة الأرستقراطية تشمل أو وأولاده نيارت وأحفاده ني آريت - وأحفاد أحفاده كواني آريت وهؤلاء فقط هم وارثو الملك أما العائلات المتفرعة عن الملوك الأقدمين فتسمى أورورو ولهم نفوذ عظيم. إلى هؤلاء طبقة قوية وهم أطباء السحر تتمثل فيهم قوة القسس والأطباء وام نيكوانج يسمى كي يا تتمثل في التمساح ولذلك قدسوه وفي كل قرية هيكل لنيكوانج وهو كوخ باسق حوله كوخان عاليان يزين أعلاها حراب بيض النعام وذلك لأن نيكوانج وفد من الصحراء يمتطي نعامة. وإذا مات الملك تزوج صغار زوجاته من بعض أقربائه أما الطاعنات في السن فيصبحن خفر المعابد وبنات الزعماء هن بنات نيكوانج وعند زواجهم تقدم الضحايا لزوجة نيكوانج الكامنة في بطن التمساح فيؤخذ عنز ويذبح على حافة نهر. وعجيب أن تفد التماسيح لأكل الدم أما اللحم فيرسل لحارسات المعابد وهم إذا رأوا دوامة ترابية سجدوا لها لظنهم أن الله (فوك) يسير مختبئا فيها وهذه

ص: 91

العواصف تكثر في شهور الجفاف خصوصا بعد اشتعال النار الذي يكثر عندئذ في العشب والغابات.

وإذا تخلف المطر أقاموا رقصته لمدة ثلاث ليال أو أربع حول معبد نيكوانج عند الغروب وهذه هي الرقصة الوحيدة التي يلبسون لها الأردية. والعادة أن ينتظر الزعيم كوجور بعد الجفاف متحينا فرصة يرجح نزول المطر فيها ثم يقرع الطبول للرقص ويصلون وهم وقوف وجوههم إلى السماء في غير حراك ساعات طويلة وكلهم أيمان بأن المطر سينزل سراعاً وفي داخل المعابد ترى مذبحا للضحايا من الغنم يقام من الخشب وترى فوقه بعض الطعام والمريسة يقدمها كل من أراد التقرب من الوسيط نيكوانج.

حفلة تتويج الملك: والملك ينتخبه زعماء القبيلة من أفراد العائلة المالكة، وفي يوم التتويج يفد من فاشودة إلى الضفة الجنوبية لنهرهم المقدس تحوطه مجامع الحرس بحرابهم ويجتمع أهل القبائل بجيوشهم سائرين من القرى نحو أسبوعين على الأقدام. ويجب أن لا يتخلف أحد الزعماء ويلبس الملك جلبابا مخططا وحزاما مزدوج اللون الأزرق والأحمر وطربوشا أحمر قانيا وهو شعار الملكية ثم يركب حماراً ويظهر على ضفة النهر يحوطه الجند من العمالقة وعليهم الجلباب الأحمر فيحيي الجماهير الملك بحرابهم المرفوعة حتى يجلس على جلد نمر ويقدم أهل كاكا أقصى بلاد الشلوك شمالاً عجلا أبيض ويقدم أهل تونجا أقصى بلادهم جنوبا فتاة صغيرة. والبلاد يقسمها النهر المعدني قسمين جار ولواك ولكل منها زعيم وتحت هذين زعماء القرى فيتقدم أهل الشمال بالثور إلى النهر في مواجهة الملك ويهجم زعيمهم فيخترق الثور بحربته ثم تتبعه سهام الناس من كل جانب فيسقط الثور ويسيل الدم إلى النهر ثم يتقدم زعيم الجنوب إلى الملك وبيده الفتاة عارية فيستلمها الملك ويصيح الكل قائلين (أيوه! أيوه!) وعندئذ يمكن لأهل الشمال أن يتخطوا النهر إلى الضفة الجنوبية. ويبدأ التتويج بأن يغسل الملك بالماء الساخن ثم بالماء البارد لكي لا تؤذيه تقلبات الجو حراً وبرداً ثم يعامل بخشونة وقسوة من الجميع وعليه أن يطيع ويخضع لكي يتعلم التواضع ثم يركع له الجميع إجلالا لأنه ابن نيكوانج ثم يلبسونه خفاً في قدميه من جلد فرس الماء الغفل الخشن ليمضي به على مضض فيفهم معنى الفقر والتقشف ثم يقدم له الخدم بعض لحم الغزال وفرس الماء إشارة إلى توافر اللحم والقناعة في أكله ثم تقدم

ص: 92

المريسة بمقادير كبيرة لكن عليه أن لا يسرف في شربها ليدلهم على أنه قنوع ثم يجري إليه ثلاثة شبان بحرابهم تصوب إلى صدورهم فيدفعها الملك بيده إلى تلك الصدور حتى تدمى دلالة على أنه سيحكم حكما صارماً لكنه في عدل ورحمة. وأخيراً يقف الملك ويخاطب الزعماء ثم يتقدم منثنيا فيركع الجميع إجلالا (وهذا ما يفعله القوم دائما كلما رأوا الملك) وهو يتكلم في تؤدة ووقار فيجيب القوم بصيحاتهم (أيوه! أيوه!) كلما فاه بعبارة واحدة.

ص: 93

‌في التلفون

بين بتاح في عهد أحمس بطل استقلال مصر وعبد الجليل أحد

متطوعي القرش.

- ألو! ألو! من أنت؟

- أنا بتاح ومن أنت؟

- أنا عبد الجليل

- في أي مدينة تكون وما جنسيتك.

- أنا في البدرشين، أنا حيث تمثال رمسيس العظيم ملك مصر الفاتح، أنا في منف. . . العاصمة العظيمة التي امتلأت في عهدكم بالحكماء والقضاة ورجال العلم والفن فأين أنت؟

- أنا في نفس المدينة لكن يخيل إلى أن زمن ما يفصلنا. أنه يشبه الجبال العالية والصحارى المديدة الفسيحة. فأية أعجوبة هذه التي جعلت الأرواح تعبر الأزمان لقد أثار إعجابنا عجلاتنا التي تطوي الأرض طياً ولكن ها هو ذا شيء عجيب آخر يطوي الزمن لكن ماذا تفعل في منف.

- أنا أعمل عملا جليلا. لو استطعت أن تمد يدك وراء الأجيال إلى يدي لشعرت بالدم يجري فيها حاراً ملتهباً إن الفرح الذي يملأ نفسي لتتضاءل أمامه كنوز العالم ومفاخره.

- أن الذي تقوله عجيب. . . فأنت تصف ما أحس به تماما. فأني أنتفض سعادة وأني لأشعر أن الدنيا تصغر في عيني أمام هذا المبدأ العظيم الذي تخرج مصر لتحققه. فهل أنتم تفعلون ما فعلناه نحن منذ قرون. ماذا تفعل في منف؟

- أني هنا اجمع القرش

- تجمعون القرش؟ ماذا تعني

- أعني أننا نجمع من كل مصري شيئا يتبرع به. شيئا تافها من ثروته. فإذا جمعنا هذه الثروات الضئيلة جمعنا ثروة ضخمة - وماذا تفعلون بهذه الثروة الضخمة؟ لست أفهمك فلعل الاتصال الذي بني وبينك قد اضطرب، فان عقلي لا يستطيع أن يدرك من الذي يجمع هذه الثروات الصغيرة ولمن يجمعها - ثم لماذا. آه، لعلكم تخشون المجاعة فتجمعون اليوم ما يقيكم شرها غداً وليس هذا شيئا عجيبا. لا يا صديقي لسنا نجمع هذه الثروات الصغيرة

ص: 94

لشيء مما يجري في بالك. بل نجمعها لنشيد بها مصانع تخرج لنا ملابس نلبسها ومآكل نأكلها، وأثاثاً نؤثث به بيوتنا.

ولكن من الذي يقوم بهذا الجمع؟ - الشعب، الشبان الذين أنا أحدهم. فأنا أترك العاصمة حيث الراحة والترف والهدوء. لأجوس خلال منف التي أصبحت قرية صغيرة فيصيبني التعب، وألقى أحيانا الأعراض، وأرى غالبا الفقر، فتذهب نفسي حسرات في الحالين ومع ذلك لست أيأس ولا أتقهقر.

- أنه إحساس الأمة، بدأ غامضاً، ثم اتضح شعورا ثم استحال فكرة ثم تجسد عملا.

- لا بد أن تكونوا شعبا ناضجاً جدا. أن القوة التي فيكم هي القوة التي خلقنا بها الفنون وأوجدنا العلم ولكن في نفسي سؤالا يضايقني فدعني أسألك إياه! ماذا كنتم تلبسون قبل هذه المصانع التي تريدون تشييدها. هل كنتم عراة. ثم ماذا كنتم تأكلون. هل كنتم في صوم؟ - لا، لقد كنا نشتري ثيابنا من غيرنا من الدول كذلك كنا نبتاع طعامنا. هل سمعت صرختي التي دوت. لقد أحسست بمثل مروق السهم في جسمي حين سمعتك تفوه بهذه الحقيقة المريرة. لقد شعرت بالألم، حين عرفت أن أحفادنا يعيشون متسولين لا يعرفون كيف يحيكون ثوبهم أو يصنعون طعامهم. . أنتم أهون من العبيد ماذا كنتم تفعلون لو منعوا عنكم الطعام، وحجزوا عنكم الثياب. - اطمئن، اطمئن يا أخي. فمصر اليوم من أولها إلى آخرها في ثورة على هذا الحال الأسود. وهو ينقشع وتبدو من بعد أضواء فجر جميل. فها أنا ذا قلت لك أننا نخرج فنؤسس مصانع تغسل عن كرامتنا هذه الإهانة التي جعلتك تصرخ. ومصر أنت تعرفها تستطيع أن تنتج لأبنائها كل شيء الثياب التي يلبسون، والطعام الذي يأكلون. ولكن أبناء أوروبا القارة التاجرة التي لم تعرفوها، عودونا أطعمة خاصة، وألواناً من الثياب بعينها، فأصبحنا لا نستطيع أن نعيش بدونها فاستوردناها منهم. ثم خلقوا لنا صنوفا من الزينة فاشتريناها منهم ودفعنا ثمنها غالياً. وبذلك تسربت أموالنا إلى جيوبهم.

إن أشد أنواع الاستعباد استعباد الروح والفكرة. ففي بلادنا اليوم أعداء ولكنا لا نحس بهم لأن معتقداتنا ونظام حياتنا وأسلوب تفكيرنا، لم يصلوا إليها ولم يؤثروا عليها. فنحن أحرار ولكنهم هم أنفسهم المستعبدون فقد جاءوا إلى مصر فغيرت عاداتهم وأخلاقهم وجعلتهم أمة جديدة (لعلك أنت في منف لتحارب هؤلاء الأعداء) - نعم، أنا مع مئات الألوف من أبناء

ص: 95

مصر كل منا في صدره قلب لو وضعت يدك عليه لأحسست بعالم يهتز ويموج، في أيدينا سهامنا وأقواسنا وهي تشتعل حرارة هي حرارة هذه القلوب. ثم ترتفع من حناجرنا أهازيج هي أهازيج الفوز والانتصار. وأمامنا قائد هو أحمس تحيطه الأفئدة وتجري وراءه الأرواح، وتتابعه العيون. لا يقول شيئا إلا فعلناه ولا يشير بيده إلا أسرع إليه الشباب كله، في جسمه جروح لا تعد وفي جبينه شج هو خير من تاج. سنسير اليوم صفوفاً صفوفاً تحجب كثرتها قرص الشمس، وتسير أقدامنا تطرق الأرض طرقة متسقة موسيقية تطمئن لها الروح فتنشط لها النفس. ثم تتقدمنا العجلات الحربية فيها الشبان الذين كشفت ثيابهم عن أذرعهم القوية الجبارة، وصدورهم التي ترتفع وتنخفض انتظاراً للمعركة التييرتفع فيها اسم مصر، أني سعيد يا أخي، أني سعيد، فدعني أغني وأرقص. فان ساعة الفوز قادمة - ولكن ألا تفكر في أنك قد تموت!

- أموت! ما أبدع وما أروع! وهل ثمة ميتة أعز من هذه الميتة؟ لقد مات في معركة أمس صديق لي فلما اقتربت منه أساعده وجدت شفتيه تضطربان وعليهما بسمة. ثم همس في أذني. . ما أسعدني ليهبك الله شرف هذا الموت!

ولقد أصاب سهم جنب ابن عمي، فذاق عذابا لو نال الأهرام لذابت، ولكنه كان يغمض عينه ويضغط على شفتيه، وتملأ الصفرة صفحة وجهه وهو لا يكاد يئن. أنه يستعذب الألم، أنه يستطيب العذاب، ما دام ذلك من أجل هذا الوطن الذي نعيش فيه. إن مصر لتهب القوة والجلد والصبر. أنها لتخلق من الجبناء الضعفاء مغامرين أقوياء. دعني يا صديقي أغني فان ساعة المعركة قادمة، سنمضي مثلكم في جيوشنا السلمية: صفوف منظمة، أساليب محكمة وأيمان يملأ القلب. كل سنة نشيد مصنعاً تصنع فيه الكرامة المصرية العتيدة سليمة من جديد. وفي كل لحظة نبشر بمصر التي وهبت للدنيا الفن والحكمة، وعلمتها الزراعة والصناعة ورفعت للعالم مشعلا لم يرتفع له منذ آلاف السنين.

سيد فتحي رضوان

سرير رقم 33 المستشفى الإسرائيلي 15 يناير سنة 933

ص: 96

‌العَالم المسرحيّ والسِّينمائِي

للأستاذ محمد توفيق يونس

خاتمة الرواية الحديثة

أصاب نقدي على رواية (بنات اليوم) شيء من البتر أثناء الطبع جعل قولي في خاتمة الرواية وحلها غير مفهوم فأحببت أن أوضح هذه الفكرة فأقول:

قام على هذا الموضوع خلاف شديد بين أنصار المذهبين الرومانتيكي والواقعي. فهؤلاء يأخذون على أولئك ختامهم الروائي الذي ينتهي في المآسي بالذبح العام والقتل الشامل. وربما ادخلوا بعض أشخاص الرواية في هذه الرواية لأنها أسهل طريق للتخلص منهم. أما في الكوميديات فغالباً ما يسدل الستار على مكافآت عظيمة، وجوائز سنية، وعيش رغيد يبعد عن الحقيقة كل البعد.

رأى الواقعيون أن المسرح وهو قطعة من الحياة يجب أن لا يفصل عنها. فليس من الفن والواقع في شيء أن يعامل المؤلف القطعة التي اختارها من الحياة كأنها كائن قائم بنفسه. لذلك كان من الواجب عليه، وهو يسير بروايته إلى الغاية، أن يترك في نفوس جمهوره أثراً بأن الدنيا لا تزال مستمرة الحركة فيخرجون وهم يشعرون (بعد أن كوفئت الفضائل، وعوقبت الرذائل، وحققت الرغائب) أن أشخاص الرواية لم يزيدوا ولم يقلوا عن كونهم آدميين سيجدون ولا شك أفراحا جديدة وأحزانا أخرى مكتوبة لهم في سجل القدر. أما في الروايات القديمة فقد كان المؤلف يجعل النهايات حاجزا بين الحاضر والمستقبل كأنما العالم بعد ختام روايته قد وصل إلى نهايته.

الجامحة على مسرح بريتانيا

رفع الستار وبدأت الرواية. الحوار شائق لذيذ، والعمل محكم جميل، والتحليل قوي دقيق، ولكنا نشعر كلما تقدمت الرواية ونما العمل بجو أجنبي، فالحادث غريب، والبيئة غريبة، والأشخاص غير مصريين وإن كان الكاتب (الأستاذ طاهر حقي) قد أعارهم أسماءنا وألبسهم ثيابنا. فليست الرواية مصرية في الواقع؛ وإذا كان الكاتب قد اقتبسها فكان ينبغي أن يعرضها في صيغة تلائم الذوق المصري، ويعنى فيها باللون المحلي حتى لا يجد

ص: 97

المشاهد نفسه في جو لا يحسه ولا يألفه ولا يتأثر به، وأمام أشخاص لا تدنيه بهم معرفة ولا تربطه بأحدهم صلة. وإذا كان التوفيق بين فكرة الرواية الأصلية والصبغة المحلية متعذرا فكان أجدر به ترجمة الرواية كما هي حتى لا يسئ الاقتباس، ويخطئ المغزى، ويخدع الجمهور.

أما التمثيل فلم يكن في مجموعه صحيحا متسقا. ونجاح الرواية في الواقع يرجع إلى بطلتها السيدة فاطمة رشدي، فقد لبست دورها ببراعة وحذق وكانت في موقعها في ختام الفصل الثاني جديرة بالإعجاب حقا.

الرواية السينمائية المصرية

شهدت القاهرة هذا الأسبوع محاولتين جديدتين في سبيل إيجاد الرواية السينمائية المصرية الصحيحة، (الزواج) للسيدة فاطمة رشدي، ثم (كفري عن خطيئتك) للسيدة عزيزة أمير وهي أول من وضع الحجر التاريخي للسينما المصرية. وهذه حركة نقابلها بالغبطة، وإن كنا نلاحظ على روايتنا السينمائية بوجه عام عدم توفر الأصول الفنية فيها، وكثرة ما بها من نقائص وعيوب. ولن تقوم الرواية السينمائية المصرية وتنهض الا على أساس من المعرفة الصحيحة والدرس الطويل. ومن الضروري أن يعهد بها إلى فنيين زاولوا السينما وأدركوا دقائقها، وفهموا حقائقها، وعرفوا أسرارها. وإذا كانت جهود الأفراد تعجز عن القيام بما يتطلبه هذا الاستعداد من نفقات، فلدينا شركة قائمة هي شركة مصر للتمثيل والسينما تستطيع أن تسد هذا الخلل وتقضي هذه الحاجة. ولنا وطيد الأمل أن تدخل الميدان وتساهم في وضع أساس الرواية السينمائية المصرية فنستقدم الخبيرين نسترشد بفنهم ونهتدي بتجاريبهم حتى ينتظم العمل من وجوهه الفنية جميعا.

ولقد رأينا ما كان لاشتراك المسيو روبير بدرويز المخرج بشركة جومون في رواية (كفري عن خطيئتك) من أثر جميل وتقدم محسوس فخرجت الرواية واضحة متسقة منتظمة. ولا يسعنا نحن إلا أن نرحب بهذه الخطوة الحميدة وأن نقابل بالتشجيع ونذكر بالخير مجهود عزيزة أمير والسادة أحمد الشريعي وتوفيق المردنلي ومحمد صلاح الدين وزكي رستم.

ص: 98