المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 20 - بتاريخ: 01 - 11 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٢٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 20

- بتاريخ: 01 - 11 - 1933

ص: -1

‌عدلي.

. .

يجب أن يكون الناس قد انتهوا من الحرج والضيق، ومن العسر وسوء الحال إلى حيث أصبحوا ينكرون أنفسهم ويمرون سراعاً ببعض الأحداث الجسام التي كانوا يقفون عندها فيطيلون الوقوف، ويفكرون فيها فيطيلون التفكير. ويتذوقون آلامها متمهلين متعمقين كأنهم يجدون في تذوقها على مهل وفي أناة شيئاً من اللذة يدعوهم إلى استبقائها ومد أسبابها. فهم كانوا إذا ألم بهم الحدث من هذه الأحداث وجموا له وجوماً طويلاً ثقيلاً، ثم يذهب عنهم الوجوم شيئاً فشيئاً فيحسون لذع هذه اليقظة المؤلمة، ثم يفيقون فيقدرون خطر الحدث الذي أصابهم، ويذكرون من أصابهم فيه ويطيلون ذكره، ويتمثلون مواقفه المختلفة، ثم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم ويتصورون فقيدهم مواجها لظروف الحاضر والمستقبل، ويسألون أنفسهم عن مواقفه التي كان يمكن أن يقف من هذه الظروف لو امتدت له أسباب الحياة. ويتخذون من هذا التفكير المتنوع الطويل سبلاً إلى الألم متنوعة، ووسائل إلى الحزن متباينة، تأبى نفوسهم أن تقطع الصلة بينها وبين من فقدت، حتى إذا عملت الأيام عملها، وتكاثرت خطوب الحياة على ما يملأ النفوس من ذكرى، فالت أن تسدل عليه من النسيان ستاراً، جاهدت هذه النفوس ما وسعها الجهاد، لتقاوم الظروف، وتمانع النسيان وتستبقي شخص الفقيد ماثلا أمامها تنظر إليه وتحزن عليه وتبكيه أو تبكي أنفسها فيه.

كذلك كان الناس حين كانت حياتهم حياة تستحق هذا الأسم، وحين كانت أيامهم أياما، أما الآن فقد تغير الناس لأن حياتهم تغيرت، وقد تبدل الناس لأن أيامهم تبدلت، فقدت الحياة في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يذوقون لذتها وآلامها الا مسرعين. وفقدت الأيام في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يقفون عند أحداثها وخطوبها الإلماما. كثرت عليهم الأحداث والخطوب، وثقلت عليهم الأرزاء والمحن، وعجزت أعصابهم عن المقاومة، فعجزت نفوسهم عن الحزن كما عجزت نفوسهم عن الفرح. أصبح كل واحد منهم وكأنه الكرة الخفيفة الوثابة تتدافعها الحوادث، وتتقاذفها الكوارث، فلا تكاد تقع على حادثة أو كارثة، أو لا تكاد تقع عليها حادثة أو كارثة، حتى تثب وتقفز مسرعة، خفيفة، عنيفة، تبتغي حادثة أخرى وكارثة أخرى، أو تبتغيها حادثة أخرى وكارثة أخرى.

وهذا وحده هو الذي يفسر موقف الناس من هذا الخطب العظيم الذي ألم بهم حين نعت إليهم الأنباء عدلي يكن رحمه الله، فقد وقعت هذه الأنباء عليهم وقع الصواعق، فوجموا لها،

ص: 1

ولكنهم أفاقوا مسرعين من هذا الوجوم، لأنهم تعودوا وقع الصواعق في هذه الأيام. أفاقوا وجزعوا، واشتد عليهم الجزع، حتى كاد يشبه اليأس، ولكن جزعهم كان قصيراً محدود الأمد، فلم يمض يوم وبعض يوم حتى شغلوا عن هذا الخطب ولم ينسوه، وإنما صرفوا عنه صرفاً، صرفتهم عنه هذه الضرورات القاسية والآلام الملحة التي لا يعرفون كيف يخلصون منها أو يثبتون لها. وما رأيك في قوم لا يستقبلون النهار إذا أشرقت شمسه إلا بالخوف من بياضه، ولا يستقبلون الليل إذا نشر ظلمته على الأرض إلا بالإشفاق من سواده، يصبحون وهم يجهلون إلى أين يدفعهم النهار المضيء، ويمسون وهم يجهلون إلى أين يذهب بهم الليل المظلم.

كيف تريد من هؤلاء الناس أن يبتلوا مرارة الحزن ولذع الألم، أو يستعذبوا حلاوة الفرح وموقع السرور من نفوسهم؟ لقد فقدوا أو كادوا يفقدون هذه الملكات القوية الرقيقة الحساسة التي كانت تنقل إلى نفوسهم صور الحياة كما هي. فهي تمكنهم من أن يتعظوا بما يبعث العظة منها، ويبتهجوا بما يثير الابتهاج، هاهم أولاء يفكرون في أزماتهم على اختلافها، ويجدون في التخلص من هذه الأزمات أو الإذعان لها، ليس منهم إلا طالب أو مطلوب، ليس منهم إلا غالب أو مغلوب، ليس منهم إلا بائس أو منتظر للبؤس، وليس منهم إلا محرج أو مدفوع إلى الحرج، فهم معذورون إذا صرفتهم الحوادث صرفا عن ذكر هذا الفقيد العظيم، وعن إطالة ذكره والتحدث فيه، وهو مع ذلك مازال في دار الغربة حيث قبضه الله إليه، لم يعبر جثمانه البحر بعد إلى وطنه ليوارى في ترابه، ويدفن في ثراه المقدس.

هم معذورون. وعدلي رحمه الله أشد الناس قبولا لعذرهم هذا، لأنه كان أحسن الناس تقديراً لحالهم هذه. ولأنه أشد الناس عطفا عليهم وبراً بهم، ولأنه كان على امتيازه وأرستقراطيته الظاهرة يشاركهم فيما يجدون، ويقاسمهم ما يشعرون به من الحزن والألم وسوء الحال. والمصريون أكرم على أنفسهم من أن يكون سكوتهم عن عدلي بعد موته بقليل نسياناً له، أو تقصيراً في ذاته، فليس عدلي من الأشخاص الذين يقدر عليهم النسيان، وليس المصريون من الشعوب التي يهون عليها الجميل. ومهما يكن الأمر في ذلك فان ذاكرة التاريخ أقوى وأثبت وأعمق من ذاكرة الناس؛ وسيذكر التاريخ دائماً أن أربعة من المصريين كانوا أئمة

ص: 2

النهضة الوطنية الاستقلالية، أو قل كانوا أئمة الثورة المصرية التي شبت نارها بعد أن خمدت جذوة الحرب، والتي هبت فيها الأمة المصرية تطالب بأن يعرف الناس لها أنها أمة حرة كريمة تريد أن تعيش في بلد حر كريم. كان هؤلاء الأئمة الأربعة عنوان الحياة السياسية الجديدة في مصر ثم في الشرق كله، وسيظلون عنواناً لهذه الحياة على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، وعلى تباين ميولهم وأهوائهم، وعلى ما بين شخصياتهم العظيمة الفذة من الاختلاف، ولن يستطيع مؤرخ أن يصور حرية مصر وحرية الشرق في هذه القطعة من الزمن التي تبتدئ بعد الحرب دون أن يعتمد في تصويره على هؤلاء الأئمة الأربعة في السياسة: سعد ورشديوثروت وعدلي رحمهم الله!

كان سعد من هذه الثورة المصرية الشرقية بمكان الجذوة القوية المضطرمة التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، والتي لا يمسها شيء إلا اضطرم، ولا يدنو منها شيء إلا التهب. والتي تبعث أشعتها القوية المحرقة إلى أبعد الأماكن منها فتذكي فيها ناراً، وتثير في جوها أواراً، وتخرج أهلها عن أطوارهم، وتدفعهم إلى حب الحياة بعد الموت، والعزة بعد الذل، والاستقلال بعد الخضوع والإذعان.

وكان رشدي من هذه الثورة بمكان الفقيه الذي يعرف كيف يستخرج الحق من الشبه، ويرد إليه حظه من الوضوح الذي لا يدع للشك فيه سبيلا، ثم يدافع عنه بالحجة الساطعة والرهان المستقيم والعاطفة الصادقة الحارة.

وكان ثروت من هذه الثورة بمكان المدبر الماهر ذي الحيلة الواسعة والمدخل الخفي والمخرج اللطيف كلما تحرجت المواقف وتعقدت الأمور.

وكان عدلي من هذه الثورة بمكان العقل الهادئ الرزين الحكيم، الذي لا يقوم إلا على بصيرة، ولا يقبل إلا على ثقة، وبعد تفكير طويل، وروية متصلة، ولا يأتي من الأمر شيئا إلا في أناة ووقار وهدوء، قلما تظفر بمثلها عند الزعماء. . . ولو أن الثورة المصرية الشرقية فقدت واحداً من هؤلاء الأربعة لما كان لها شكلها الذي نعرفها به، ولا طبعت بهذا الطابع الذي يميزها من غيرها من الثورات.

كانت أمزجة هؤلاء الأئمة الأربعة عناصر تكونت منها هذه الثورة المصرية الشرقية. وقد اختلفوا واختصموا، وجاهد بعضهم بعضا جهادا عنيفا. ولكن مزاج الثورة المصرية كان في

ص: 3

حاجة قوية إلى هذا الخصام والجهاد ليحيا ويقوى ويثبت للأحداث، ويبقى على رغم الخطوب. ثم أذن الله لهؤلاء المختلفين أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من ائتلاف، ويثوبوا إلى ما كان بينهم من مودة وحب، ومن تعاون واتفاق، فصفا بعضهم لبعض، وسعى بعضهم إلى بعض، ورضى بعضهم عن بعض، ورضيت الأمة عنهم جميعا، ورضى الله عنهم فأثرهم برحمته واختارهم إلى جواره، يسعى بعضهم إلى أثر بعض إلى دار الخلود وقد أدى واجبه، ونهض بما كان ينبغي أن ينهض به من الحق. وكان سعد أسبقهم إلى الخلود، وكان عدلي آخرهم انتقالا إلى دار الخلود. ولقد تحدث الناس عن سعد ورشدي وثروت فأطالوا الحديث، وسيتحدثون، وستكون أحاديثهم أجل وأوضح، وأدل على عظمة هؤلاء النفر كلما بعد بيننا وبينهم العهد، ومضت على وفاتهم الأيام، ولكن الناس لم يتحدثوا بعد عن عدلي لأنه عاش إلى هذا العهد، فكانت حياته مانعة من الحديث فيه، ولأنه مات في هذا العهد فكانت المحن المقيمة صارفة عن إطالة الحديث فيه.

وليس الحديث عن عدلي سهلا ولا يسيرا، فأنت لا تكاد تعرض لخصاله حتى تعجبك كلها، وحتى تدعوك كلها إلى أن تحمده وتثني عليه. وإذا أنت حائر لا تدري ماذا تأخذ منها وماذا تدع، ولكن نواحي ثلاثا من حياة هذا الرجل تفرض نفسها على الكتاب والمفكرين فرضا. فإما أولاها فهي امتيازه الشخصي في حياته الخلقية، وفي ما كان بينه وبين الناس من صلة. فعدلي أقل الناس تعرضا للنقد من هذه الناحية: كان رضي الخلق، وكانت هذه الخصلة أظهر خصاله وأوضحها، ولكنها على ذلك لم تكن تسبق إلى الناس ولا تظهر نفسها لهم، ولا تطمعهم في صاحبها، وإنما كانت تحيط نفسها بسياج من الآنفة والترفع، يحسبه الناس ضرباً من الغطرسة، ولونا من الكبرياء، فيهابونه وينأون عنه، فإذا أتيح لهم أن يدنوا من رجل ويخلصوا إلى نفسه، لم يجدوا غطرسة ولا كبرياء، وإنما وجدوا أنفة وعزة وترفعا عن الابتذال. ووجدوا من وراء هذا كله نفسا صافية نقية، وقلبا طاهرا وفيا، وضميرا كريما حيا. وظهر هذا كله في معاشرة حلوة، وحديث عذب ولسان عفيف، وصلات ترفع الذين يدنون من عدلي إلى حيث هو، ولا تهبط بعدلي إلى حيث يكون المتصلون به والساعون إليه.

والناحية الثانية مذهبه السياسي. فقد كان عدلي كغيره من أصحابه مؤمنا بحق مصر في

ص: 4

الاستقلال، حريصا على أن تظفر مصر بهذا الحق، لم يكن يتهم في ذلك أحد. وكان عدلي كأصحابه يرى أن المفاوضة مع الإنجليز قد تؤدي إلى الظفر بهذا الحق، وتنتهي بمصر إلى ما تريد. ولكن طريقه في تنفيذ مذهبه هذا وإخراجه إلى الحياة العملية هي التي تميزه من غيره، وهي التي تظهر طبيعته ومزاجه، كأوضح ما تكون الطبيعة والمزاج. فلم يكن عدلي صاحب قوة وعنف، ولم يكن عدلي قادرا على أن يوجد بينه وبين الشعب على اختلاف طبقاته هذه الصلة القوية التي تجعله مرآة للشعب من جهة، وملهماً للشعب من جهة أخرى. إنما كان عدلي رجلا يحب الشعب ويؤمن به، ويحرص على حقه دون أن يلهمه أو يستلهمه. كان يصدر عن عقله وتفكيره الهادئ الرزين، اكثر مما يصدر عن عواطفه الحارة وشعوره العنيف. وكان لا يحسن الحديث إلى الشعب، لأنه لم يكن يجد هذه الكلمات والجمل الساحرة التي تنفذ إلى قلوب الشعب. وكان كل ما يستطيع أن يرى ويسمع ويفكر، ثم يعمل تاركاً لغيره مالا يقدر عليه من إلهام الشعب واستلهامه. فلما ألف وزارته الأولى وأعلن برنامج هذه الوزارة متفقاً عليه مع الوفد، كان هذا البرنامج مظهرا واضحا قويا، لطبيعة هذا الرجل المستقيمة ومذهبه الصحيح في فهم حقوق الشعب وتقديرها. فأنظر إليه يحرص في هذا البرنامج حرصا شديدا على أمرين: الأول أن يستخلص لمصر حقوقها من الإنجليز بالمفاوضة، والثاني أن يعرض على الشعب المصري نتيجة المفاوضة لينظر فيها ويقرها، وأن يكون هذا الشعب ممثلا في جمعية وطنية لا تقف مهمتها عند إقرار المعاهدة وتنظيم العلاقة بين مصر والإنجليز، بل تتجاوز هذا إلى شيء عظيم الخطر حقاً وهو وضع الدستور، وتنظيم سلطة الشعب، وتنظيم العلاقة بين السلطة التشريعية وغيرها من السلطات التي يتكون منها سلطان الدولة؛ ومعنى ذلك أن عدلي كان يؤمن بأن الأمة وحدها مصدر السلطات، وبأنها ما دامت كذلك فهي التي يجب أن تضع الدستور وأن تعلنه لا أن تتلقاه. ومن يدري؟ لو أن الظروف واتت عدلي ومكنته من تنفيذ برنامجه لعل مصر أن تكون قادرة على أن تجتنب كثيرا من الأزمات الداخلية التي ألمت بها فجرت عليها شرا كثيرا.

ولست أدري لعل موضع الخطأ في برنامج عدلي رحمه الله أنه جعل دعوة الجمعية الوطنية نتيجة للمفاوضات لا مقدمة لها. فلما لم تنجح مفاوضته لم تدع الجمعية الوطنية،

ص: 5

وتلقت مصر الدستور ولم تصدره. ولكن أكان عدلي قادرا حقا على أن يدعو الجمعية الوطنية قبل المفاوضة، وقبل أن يستخلص لمصر حريتها من الإنجليز؟ وماذا عسى أن تكون قيمة هذه الجمعية الوطنية التي تدعي وتعقد وتشرع الدستور وغير الدستور في ظل الحماية الأجنبية؟ وماذا يكون موقف هذه الجمعية الوطنية من الإنجليز؟ وماذا يكون موقف الإنجليز منها إن شجر بينها وبينهم خلاف: مهما يكن من شيء، فقد كان فهم عدلي لحقوق الشعب وتصويره لهذه الحقوق ملائمين أشد الملاءمة لأرقى المثل الدستورية العليا.

الناحية الثالثة: وفاء هذا الرجل العظيم لمذهبه في السياسة، ورأيه في حق الشعب، وثباته على هذا المذهب، وامتناعه أن يتحول عنه مع الظروف، فقد أخفق في مفاوضة الإنجليز واستقال وعجز عن أن يدعو الجمعية الوطنية، ولكنه قضى بقية حياته مؤمنا بأن المفاوضة هي أوضح السبل إلى الاستقلال، مؤمنا بأن سلطة الشعب هي القوام الشرعي الوحيد لكل حكومة، وهي العماد الشرعي الوحيد الذي يجب أن تعتمد عليه الحكومات فيما تأتى من الأمر في السياسة الداخلية أو الخارجية؛ ولم يكد يصدر الدستور حتى عرف عدلي كيف يرضي نفسه وضميره في السياسة، فتقدم إلى أمته في الانتخابات؛ فلما قضت عليه أذعن لقضائها ورضي به، لا يحمل لأمته غلا، ولا يضمر لها حقدا، ولا ينكر عليها أنها انصرفت عنه إلى غيره، ولم تمنحه ثقتها وهو على ذلك كله مؤمن أصدق الإيمان بأن هذا الدستور الذي صدر لا يفيد الذين اقسموا على الإخلاص له وحدهم، وإنما يقيد المصريين جميعا وهو من بينهم. ومن هنا تستطيع أن تفهم أن عدلي قد أبى كل الآباء بعد صدور الدستور أن يؤلف وزارة، أو يؤيد وزارة أو يشترك في وزارة لا تعتمد في صراحة وإخلاص على الدستور؛ ومن هنا نستطيع أن نفهم إسراعه إلى الائتلاف مع سعد حين دعي إليه، وإخلاصه في تأييد هذا الائتلاف، وقبوله رياسة الوزارة في هذا الائتلاف، لأن هذا الائتلاف كان قوامه إرجاع الحياة الدستورية، وكان اعتماده على الدستور، وكان بقاؤه رهيناً ببقاء الدستور؛ ومن هنا تستطيع أن تفهم كيف اعتزل السياسة وانصرف عنها حين وقف الدستور، وكيف أسرع إلى قبول الوزارة حين عرضت عليه ليرد الدستور. ثم من هنا تفهم أيضاً كيف أنكر ما كان من تغيير الدستور القديم، وكيف أسرع إلى الاحتجاج على هذا التغيير، وكيف أسرع إلى التعاون مع المؤتمر الوطني الذي أنكر ما حدث من تغيير،

ص: 6

وألح في أن ترد الأمور إلى نصابها، كيف أنفق بقية حياته عزيزا كريما أبيا يرقب الحوادث وينتهز الفرص وينتظر أن يدعوه الواجب الوطني فيستجيب له. ولكن دعوة الموت سبقت دعوة الواجب الوطني، فأسرع عدلي إلى حيث أراد له من هذه الحياة الخالدة. حياة الكرامة والنعيم. وتريد الأقدار أن يموت عدلي حيث مات صديقه الحميم ثروت في باريس بعيدا عن الوطن، وتريد الأقدار أن يموت عدلي كما مات صديقه الحميم ثروت ومصر في أزمة سياسية عنيفة تعتمد عليه وتعقد به أوسع الآمال. فإذا هي تمتحن فيه وتحرم معونته، ثم تريد الأقدار أن ينتقل عدلي إلى وطنه في نفس السفينة التي نقل فيها ثروت، وهي (البروفيدنس)! أفترى الأقدار قد رعت حرمة هذه المودة الصادقة الخالصة التي كانت بين هذين الرجلين العظيمين، فأرادت أن تلائم بينهما في الموت كما لاءمت بينهما في الحياة؟

طه حسين

ص: 7

‌النقد والتقريظ

للأستاذ أحمد أمين

أصل كلمة النقد من نقد الدراهم وهو امتحانها ومعرفة الجيد والرديء منها، فهي بهذا المعنى لا تقتصر على ذكر العيوب والتشهير بها، بل تدل على استعراض الشيء والوقوف على محاسنه ومساويه.

وقد تستعمل في معنى الذم والعيب خاصة، ومنه حديث أبي الدرداء:(أن نقدت الناس نقدوك، وأن تركتهم تركوك) فاستعمل الكلمة بمعنى العيب والذم.

وهي بهذا المعنى ضد التقريظ، فالتقريظ مدح الشيء والثناء عليه، مأخوذ من قرظ الجلد دبغه بالقرظ، وقرظه بالغ في دباغه. وسموا المدح تقريظاً (لأن المقرظ يحسن ويزين صاحبه كما يحسن القارظ الأديم) وبهذا المعنى يستعملها الكتاب المحدثون فيعنون بالنقد ذكر المساوئ وبالتقريظ ذكر المحاسن.

ولست أعرض في مقالي هذا للكلمتين من الناحية الأدبية، فلا أعرض لمذاهب النقد الأدبي ومقاييسه، كما لا أعرض لأساليب التقريظ وألوانها، وإنما أعرض لظاهرة نفسية تلفت النظر: هي أن الناس على اختلاف درجاتهم في البداوة والحضارة، والرقي والانحطاط، مولعون بالنقد أكثر من ولوعهم بالتقريظ، ومولعون بالبحث عن العيوب وإظهارها والمبالغة في تصويرها اكثر من ولوعهم بالبحث عن المحاسن وإظهارها وتصويرها، وهم في ذلك بين اثنين: أما ممثل على المسرح يمثل دور الباحث عن العيوب المتجسس على السقطات، يستبشر كلما عثر على خفايا الزلات، ويقيس نجاحه بمقدار ما كشف من أخطاء، وأما مشاهد لهذا المنظر، أكثر ما يهتم له العيب الفاضح والسقطة الشنيعة، يطيل التصفيق لكاشف الزلل ويمنح الإعجاب من أصاب من آخر مقتلا.

ومظاهر ذلك في الحياة كثيرة، فلا تكاد تجد عظيما بأجماع، ولكنك كثيرا ما تجد أصاغر بإجماع، لأن النفوس ترتاح لمنظر الحقير إذ خرج من ميدان المنافسة، ونزل عن مستوى المقارنة، ويضنيها العظيم فتتلمس وجوه النقص فيه، وتخلقها إن لم تكن، وتبالغ فيها إن كانت، لأن العظيم يكلفها العناء في إدراك شأوه وبلوغ منزلته.

ومن مظاهر ذلك أن مجلات عديدة في العالم كله تعيش على النقد، وليس (فيما أعلم)

ص: 8

مجلات تعيش على التقريظ، وقد أدركت هذه المجلات إدراكا صحيحاً هذه الظاهرة النفسية، ورأت أن رواجها يكون أتم كلما ارتفعت نغمة هجوها، وكلما كان نقدها أقذع، وسهامها أنفذ، والجرائد في العالم تبذل المدح بالحبة، والنقد بالقنطار، ومن آية ذلك أن الناس في كل أمة يقدرون (غالباً) جرائد المعارضة أكثر من قدرهم جرائد التأييد، فإذا تغيرت الحكومات وأصبحت جرائد المعارضة بالأمس جرائد تأييد اليوم، نزلت قيمتها من ناحية أنها لم تعد تروي رغبات الناس وشهواتهم.

ثم، مالنقد الأدبي؟ أليس هو الغالب إرضاء لعاطفة البحث عن الغلط والتشهير به؟ إذا مدح النقاد فبحذر وقدر أكثر مدحهم (طعم) يستدرجون به القراء لإقناعهم بأنهم عدول في تقديرهم، منزهون في ذمهم ومدحهم، حتى إذا اطمأن لهم القارئ بالغوا في النقد وأسرفوا في اللوم، واكثر الناشئين من الأدباء يتطلبون الشهرة من طريق مهاجمة النابغين والتعرض لهم، والتسميع بهم، حتى إذا تصدوا للرد عليهم رفعوا من شأنهم إذ جعلوهم في منزلتهم، وقديماً حكى لنا (بشار بن برد) أنه (وهو ناشئ) هجا جريراً فأعرض عنه واستصغره، ولو أجابه لكان كما يقول أشعر الناس. قد يكره الناس الناقد الجريء، ولكنهم يهابونه ويلتفتون إليه ويشجعونه على أن يبني نفسه من أنقاض ما هدم من غيره.

ومن اكبر مظاهر هذه الظاهرة ارتياح الناس للهازئين الساخرين، وما يصدر منهم من هزؤ وسخرية، على شرط ألا يكونوا هم موضع الهزؤ والسخرية، فأوسع أبواب الظرف والكياسة، وأشد ما يستخرج الضحك والإمعان فيه ما لذع به الناس في أعراضهم وأخلاقهم وملكاتهم، والذي يعدّه الناس لطيف الروح خفيف الظل، بارع الظرف، هو من يومئ الإيماءة الفاتكة ويرشح لسانه باللفظ يقتل به البريء الغافل، ويضحك به اللاهي الماجن.

وقد تقام حفلات التكريم للإشادة بصفات عظيم، أو التنويه بما قام به من عمل جليل، ولكن أكثرها حفلات تأبين، تقام بعد أن اختفى المحتفل به عن المسرح وغاب عن الآنظار، أو بعد أن أعجزته السن وخرج من ميدان العمل والمنافسة، أو هي حفلات تجارية أقيمت لمنفعة المحتفلين لا المحتفل بهم. الحق أن هذه العاطفة، عاطفة البحث عن الخطأ وإذاعته والولوع بالنقد أكثر من الولوع بالتقريظ عاطفة تشارك الإنسان في جميع أدواره.

وتعليلها (على ما يظهر) يرجع إلى غريزة الأثرة وحب النفس، كأن الإنسان يرى أن القول

ص: 9

بعيوب الناس يتضمن القول بتفوقه، والتشهير بأغلاطهم إقرار سلبي بنبوغه، والعمل على تحقيرهم قد ينتج مع الزمن انفراده بالعظمة، والسخرية منهم تستتبع الاعتراف بجلاله وحده.

ولكن المدنية والحضارة، والرقي العقلي والخلقي، تهذب من هذه العاطفة، كما تهذب من سائر العواطف، فالناقد المهذب يكتفي بالتلميح دون التصريح، وبالإشارة دون التجريح، يقول ما في نفسه ولكن يتخير الألفاظ ويتخير المواقف، ويترفع عن ألفاظ الغوغاء وأساليبهم، والمقارنة بين الجرائد والمجلات وأساليب النقد في الأمم المختلفة تؤيد هذا كل التأييد.

ولو سار الأمر على المعقول لخف كثير مما يصدر من لوم ونقد، لأن أساس اللوم إمكان المسئولية، فإذا لم تكن فلا لوم، فلسنا نلوم المرضى إن لم يأتوا بأعمال الاصحاء، ولا نلوم البدوي كما نلوم الحضري، ولا نلوم الجاهل بما نلوم به العالم، ولا نلوم الطفل في المدارس الابتدائية إذا لم يحل معادلة جبرية أو نظرية هندسية.

إنما نلوم الإنسان عندما يكون في الإمكان أن يفعل خيرا مما كان، ولو قدر اللائمون تقديرا حقا ما يحيط بالملوم من حالة عقلية وجسمية وبيئة اجتماعية ومن عوامل حفية معقدة يصدر عنها العمل لخففوا من غلوائهم، ولطفوا من لومهم، ولعلموا أن استحقاق اللوم نسبي يرتبط بالسن وبدرجة الثقافة والمدنية وحالة الفرد في أمته وموقف أمته في العالم.

ولو سار الناقد على المعقول، لوقف موقف المصلح لا موقف الجاسوس، إن الجاسوس يهمه أن يرى الخطأ ليبرهن على كفايته، ويسره أن يرى العيب ليقبض على فاعله، وكلما أوغل في استكشاف العيب الدفين، وتعمق في إظهار جريمة مستورة، كان أدل على قدرته ونبوغه، ويأسف إن لم يكن عيب. كأنه يشعر شعوراً باطنياً أنه إرهاص بأن لا حاجة إليه، والمصلح يستكشف العيب لا ليشهر به، ولكن ليعالجه، وأقصى أمانيه ألا يكون عيب، وإذا كان فأن يداوى، ويعتقد أن مهمته تتم، مع السرور، يوم يزول المرض ويتلاشى النقص، وأنه بنقده ولومه إنما يصف دواء يستأصل الداء، ويأتي عليه.

أسوأ ما نرى أن يكون الناقد كالفرس الجموح ينال من الناس بهوجه وخبطه، أو أن يقف في نقده موقف الغر يداعب بالنار، أو الطفل يلعب بالسكين.

ص: 10

‌المعالي.

. .

للدكتور محمد عوض محمد

الآن وقد بلغت ربوع الألب أيها الصديق!، فما أجدرك أن تلقي عصاك حينا، ثم تنعم النظر فيما حولك من خلق عجيب، ومن روعة آخذة بالألباب. . . . في هذا الجزء الصغير الجليل من العالم أرادت الأرض أن تسمو وتعلو. . أتراها كانت تريد أن تبلغ السماوات، ثم لم تلبث أن رأت هذا السمو قد أبلغها الزمهرير المهلك القارس، فجمد في صدرها الأمل والطموح، واكتفت من الارتقاء بشيء لعلها تراه قليلا، ونراه نحن جليلا؟. وأيا كان ذلك السر الغامض الذي جاش به صدر الأرض، وأياً كان مطمحها البعيد أو القريب، فحسبي الآن وحسبك ما نتأمله فيها من حسن وما ننعم به من جمال.

في هذه البقعة المباركة رفعت الأرض مناكبها، وأمعنت في الارتفاع، وصعدت أعلامها في الهواء وأسرفت في الصعود. واصطدمت السحب بهذه الأطواد الشامخة فسالت السحب غيثا مدراراً، وانحدر الغيث على جوانبها جداول وأنهارا. ثم اجتمع الماء من كل ناحية في هذه البطائح المطمئنة، ولم يزل يجتمع حتى استحال إلى هذه البحيرات البديعة، وقد نزلت اليوم على ضفاف واحدة منها. فراعك حسنها الهائل، وفتنتك عيونها الساحرة، واستهواك قوامها الرشيق، وخدها الأسيل. . . ولقد بهرك منها بنوع خاص هذا الجمال المتجدد في كل لحظة، إذ تبدو لك الصبح في لون، والأصيل في لون، وتبدل في كل آونة ثوبا. . . أرأيت يا صديقي، كيف حرت في أمرك وأمرها، فما تدري أي ألوانها أحب إلى قلبك، وأي أشكالها أشد امتلاكا لعقلك؟

أمنظرها وقت الشروق، وهي هادئة وادعة، وقد انطبعت في صفحتها البلورية الملساء صورة مبهمة قاتمة للجبال الشاهقة التي تحيط بها، وقد حالت الجبال دون وصول أشعة الشمس. فلم ينفذ إلى البحيرة من نورها سوى ضياء هادئ رقيق، يبدي لك من الكون ما حسن، ويخفى منه ما ليس بالحسن. ولولا أني أخشاك يا صديقي لقلت لك أن البحيرة في تلك اللحظة تشبه الحسناء حين تستيقظ من النعاس، ولكني أحسبك لا تعبأ بمثل هذا التشبيه. . .

أم منظرها وقت الظهيرة، حين تظلها سماء صافية زرقاء، وتبدو الجبال من حولها. وقد

ص: 12

زهت بثوبها السندسي الأخضر. . فبدت لك البحيرة في رداء عجيب: في مزيج من فيروز السماء ومن زمرد المروج الخضراء؟

أم منظرها وقد مالت الشمس للمغيب، وقد اشتمل الكون برداء مصفر حزين، وامتدت الظلال وأمعنت في الامتداد؛ وآوت الطير إلى وكورها وخففت من غلوائها. ولاحت لك البحيرة وقد تمثل فيها كل هذا الهدوء الحزين، وعلى محياها ذلك الشحوب الفاتن. في هذه الساعة القصيرة تتبدل تلك الألوان والشكول بسرعة هائلة، فلا تكاد العين أن تقع على منظر حتى يحول ويتغير.

قل لي أيها الصديق! أما استهواك منظر هذه الأطوار التي أحدقت بالبحيرة من كل جانب، وقد اختفى تحت الماء منها شطر وحلق في السماء شطر. فأما شطرها البادي للعيون فقد اكتسى بغطاء محكم من النجم والشجر؛ وأما شطرها الذي غمره ماء البحيرة فانه عار، ومن عناية الأقدار أن غمرته المياه فسترته عن العيون.

ولكن حدثني يا صاح أي هذين الشطرين قد شاقك أمره، فتاقت نفسك إلى إدراك غامضة واجتلاء ما خفي منه؟ هل خطر لك أن تغوص إلى أعماق هذه البحيرة حتى تبلغ أقصى أصول تلك الجبال، فتطلع على ما خفي من سرها، وما أبهم من أمرها؟ أم شاقك منظر هذه القمم الصاعدة في السماء فأردت أن تبلغ ذراها؟ ني لا أظنك تحاول الأولى؛ فقليل من الناس من تستهويه الأعماق البعيدة، فيحاول أن يغوص إليها. ونحن ذوو أحلام ضحلة، لا نجد في البحث العميق إلا عناء ونصبا. وسنبقى مدى الدهر قانعين بالظواهر تخدعنا وتقنعنا.

أما هذه القمم العالية، فأنك تراها أمامك كل حين، تبصرها عندما تستيقظ وتشرف عليك من سمائها النهار كله، وتبدو لعينيك في الليل البهيم مظلمة قاتمة، غامضة رهيبة، لكنها على هذا كله جذابة أبدا. . . . وأحسبك قد استهواك أمرها، وحدثتك نفسك بالصعود إليها. وفي كل نفس دافع ملح يدفعها أبدا إلى المعالي، ويجشمها في سبيلها الصعاب.

وكأني بك، أيها الصديق، وقد جلست فوق صخرة مشرفة على البحيرة وجعلت تتأمل هذه القمم، فتحس شوقا قد تملك قلبك، وضراما متوقدا يستثير همتك إلى صعود هذه الجبال، وبلوغ تلك المعالي. . . أنك تريد أن تسمو حيث يحلق العقاب، ويسبح السحاب، حيث

ص: 13

تنشق ذلك الهواء النقي الزكي، الذي تنشقه البزاة والنسور؛ لا هذا الهواء الأسفل الذي امتلأ بالأدران والأكدار، حيث تنظر من تلك القمم مطلا على هذه الأجساد التي تتحرك على أديم الثرى، فتراها من ذلك الارتفاع الشاهق على حقيقتها، فإذا هي في عينيك دود يزحف، أو حشرات تحبو.

إن بلوغ تلك القمم لخليق حقاً بأن يكون مطمح العين، ومنية النفس. ولا حرج عليك إن كنت قد شغفك حب تلك المعالي وأهمك التفكير فيها. فطوراً يحملك الأمل على جناحيه، ويحلق بك في جو السماء، فتحُال المرام قريبا، وأنه منك قاب قوسين؛ وطورا يثوب إليك الرشد، فتفكر وتقدر، وتقارن بين همتك وقدرتك. . فلا تزال بين ارتفاع وهبوط، وإقدام وإحجام.

ثم كأني أراك بعد ذلك وقد قطبت جبينك، وعضضت على نواجذك؟ فهل صح عزمك على أن تجشم النفس هذا العناء الثقيل وهذا الجهاد الطويل؟ لئن كانت تلك عزمتك التي عزمت، فهل تعلم أي الطرق تسلك كي تبلغ مأربك؟

إن لهذه القمم التي تراها حديثاً شيقاً طليا، سأحاول الآن أن أسر إليك خبره. فلعلك واجد فيه عونا على النجاح أو سلوانا عن الإخفاق. . . .

إن الناس أيها الصديق يبلغون تلك المعالي من طرق ثلاثة، ليس لها رابع: فأما الطريق الأول فسبيل معبد ممهد، تحف به الرياحين، وتجري حوله الآنهار، وقد نبت فيه العشب الندي، وأحاط به الثمر الجني، وأعجب ما في هذا الطريق أن سالكه لا يكاد أن يسير فيه خطوات قلائل، حتى يبلغ مأربه، كأنما الغاية تسعى إليه ولا يسعى إليها، أو كأن الطريق يحمله حملا يبلغه مرامه. فما هو إلا أن يغمض طرفه ثم يفتحه، فإذا الأماني قد تحققت، والمعالي قد دنت ودانت.

وأظنك تعلم يا صديقي أن ليس لأمثالك وأمثالي أن يسلكوا هذا الطريق؛ وأحسبك تعلم أنه مما اختص به أولئك المجدودون، الذين ولدوا في حجر النعيم، ورعتهم نجوم السعد، وحرستهم عين المشتري، وهزت أرجوحتهم يد الزهرة: وفي وسعهم إن شاءوا أن ينزلوا إلى القمة نزولا، حين يحاول الناس أن يصعدوا إليها صعودا. ما من سبيل إلى مجاراتهم أو اللحاق بهم، فلندعهم ولننظر هل لدينا من طريق سواه.

ص: 14

أما الطريق الثاني فلعله أعجب من الأول وأغرب، فهو طريق خفي، شديد الخفاء. غامض كل الغموض، لا ترى له بدءا ولا تعلم له اتجاها. . ملتو غاية الالتواء، معوج شديد الاعوجاج وسالكوه قوم قد رزقوا البراعة والمهارة. فهم تارة يثبون ويقفزون، وتارة يزحفون أو يحبون ويركعون ويسجدون، وطورا يسلكون طرقا مظلمة حالكة، وأحياناً يخوضون في الرجس والدنس. لا تثنيهم رداءة الطريق ولا وعورته، ولا اعوجاجه والتواؤه، وما أنت يا صاح من هذه الشرذمة التي تصل إلى القمة من أقذر السبل. فما أجدرك أن تدع هذا الطريق وتبحث عن سواه.

لم يبق غير سبيل واحد لا مندوحة لك عنه: وذاك هو الطريق الذي يدعوه أهل تلك النواحي (طريق البغال): أسم ستنبو عنه أذنك، وتشمئز منه نفسك. وسترفع رأسك إلى السماء كبرا وأنفة أن تنزل إلى هذا الدرك. أو تنحط إلى هذا المستوى. . . لكن رويدا فليس في الأمر نزول ولا انحطاط، وإنما هو صعود وارتفاع وارتقاء، وقد ينتهي بك إلى القمة التي تنشدها. فلتخفف إذن من غلوائك، واذكر انهم يدعون هذا الطريق بالفرنسية ويسميه الإنجليز - والألمان وأظنك بعد أن تردد هذا الاسم في هذه اللغات جميعا. سيصبح في أذنيك عذبا لذيذا سائغا.

ولئن كان في الاسم ما ينفر السمع، فليس في المسمى ما يبعث على النفور. ولعمري (بل ولعمرك أنت أيضا) انه لأشرف السبل وأمثلها، وأصفاها وأطهرها، وان كان طويلا مضنيا مجهداً. فإذا كنت تريد المضي فيما عزمت عليه، وتحاول الصعود إلى تلك المعالي، فمحال على مثلك أن يسلك الطريق الأول، وأنت أعف قلبا وأنبل نفسا من أن تسلك الطريق الثاني. إذن لا رأى إلا أن تسلك ثالث الطرق، أو تنثني عن مرامك، وتقنع بالإقامة في السفح، مكتفياً من القمة بالتطلع إليها والتحديق فيها. . .

طريق البغال هذا سكة اختطوها على جوانب الجبال، كي يستطيع الرعاة والزراع أن يسيروا فيها ببغالهم وماشيتهم، وكثيرا ما تصعد فيها البغال منفردة، وهي تحمل للناس أثقالهم من موضع إلى موضع. وقد علمها إلف هذا الطريق كيف تسلكه من غير مرشد يرشدها، أو سائق يسوقها.

في هذا الطريق إذن فليسر من ينشد القمة، وأنا زعيم أنه إذا أوتي القوة والجلد، ورزق

ص: 15

الجد والدأب، واستطاع أن يصبر على ما يلقاه من عنت وجهد، وأن يثبت للشدائد التي تنتابه، وللعقبات التي تعترضه، ولم يدع لليأس سبيلا إلى قلبه، وأمدته العناية بشيء قليل من المساعدة، فانه واصل إلى الغاية مهما طال به المسير.

إن هذا الطريق واضح بين المنهج، من سار فيه فلن يضل السبيل. . لكنه على وضوحه وبيانه، ليس سهلاً هيناً، ومتى كان الطريق إلى القمة سهلا يا صديقي؟ فالسائر في هذا الطريق سيجد فيه غلظة وخشونة، فان الأيدي لم تتناوله بالرصف والتمهيد، وحصباؤه خشنة مدببة، لا ترتاح لمسها الأقدام، وقد يصادفك فيه الحين بعد الحين، صخر ناتئ أو شجرة مائلة تعترضك، فلابد لك أن تطأطئ الرأس قليلاً، أو تدور من حول تلك العقبات، أو تحتمل الجرح الذي يصيبك حين يصدمك الصخر الناتئ، أو الجذع المائل، وكثيراً ما يحف بك الشوك ذات اليمين وذات الشمال، فيخدش ساقيك خدشاً ربما أسال منهما الدم قليلا أو كثيرا. . ولا غرابة في هذا كله مادمت تسلك هذا الطريق: طريق البغال!

ولقد تقطع في سيرك الأميال العديدة. فلا تصيب فيه قوتاً ولا شراباً، فتجتزئ بالقليل من خشن الزاد الذي احتقبته، وتصبر على الظمأ والجوع، وفي قلبك من الجلد والإيمان ما يعين على كل هذا الحرمان. . وقد يسعدك الجد بعد طول السير والعناء فتصادف وسط الصخور نبعاً ضئيلاً هزيلاً، فتهش له وتبش وتراه كأنه دجلة أو الفرات، أو الكوثر المقدس. فتبسط إليه كفيك، تتخذ منهما قدحاً تملؤه كي تبرد به لهاتك. ثم ترى أن هذه الوسيلة لا تغني فتنحني نحو الينبوع، ثم لا تزال تنحني حتى ترتمي على يديك ورجليك، وتمد نحو الماء فماً قد جمده طول الظمأ، فلا تزال تعب الماء عبا، وتصبه في جوفك صبا، وتشرب وأنت على أربع حتى تروي غلتك، ولا تسل عن منظرك البديع في تلك اللحظة، ولكن أي غرابة في هذا وأنت تمشي في طريق البغال؟

وقد تكون الطريق في بعض نواحيها سهلة ممهدة يحف بها شجر عال فيه للطير وكور. وكأني بك وقد أطلت عليك من فرع غصينها المياد قبرة صغيرة حديثة عهد بالعالم، ولم تشاهد قبلك إنسانا يمشي على رجلين، فتدهش لرؤية هذا الكائن الغريب في طريق ما رأت به من قبل إلا الدواب، فتسرع إلى أمها وتهيب بها:(أماه! إن بالطريق بغلا جديداً ما رأيت من قبل له شبيها، يمشي على رجليه الخلفيتين، رافعاً رأسه إلى أعلى!. .) فعند ذلك تقول

ص: 16

لها أمها العجوز: (ليس هذا يا ابنتي بغلا بل هو من أبناء آدم، فان أبصرته فابتعدي عنه، واختفى عن عينيه، فانه ليس بالمأمون جانبه.).

هذا بعض ما يقال عنك أيها الصديق وأنت بذلك الطريق. ولو كشف عنك الغطاء فأفهمت ما تتحدث به عنك الأرانب في جحورها والوزغ بين صخورها. إذن لتبسمت ضاحكا من قولها كما فعل سليمان، ولأدركت أن مسيرك هذا لا يخلو من عبث ولهو وتسلية.

ولكن حذار يا صديقي مما قد تلقاه من حشرات فتاكة. فان بالطريق أفاعي وعقارب، قد فاضت صدورها حقداً وضغينة، وهي تعشق الأذى حبا في الأذى ، فان مسك منها ضر ذهبت جهودك كلها عبثا، أو تخلفت بالطريق زمنا طويلا. فامش إذن في تؤدة واحتراس، لعلك تسلم من حممها وسمومها.

والآن قد وصفت لك الطريق إلى القمة فسر فيه على اليمن والبركة. . . بيد أني لا أريد أن أكتمك أن سالك هذا السبيل قد لا يبلغ من مرامه أو ينال من بغيته إلا قدرا زهيدا. فقد يدركه الإعياء حين يعجز الجسد عن مراد الروح، وتخور القوى والأمل في عنفوانه. أو قد تعترضه عقبة كؤود أو هوة ليس إلى اجتيازها سبيل. أو قد تناله تلك الحشرات الفتاكة بسوء، فإذا أصابك هذا (بعضه أو كله) فلا تذهب نفسك حسرات على ما لم تبلغ ولم تنل، وحسبك أنك لم تزل برغم الإخفاق موفور الشرف عزيز الجانب، لم ترتكب في سبيل تلك القمة إثما ولم يدنس لك ثوب. . .

وإلا فهل تؤثر البقاء في السفح؟

ص: 17

‌الديمقراطية

أكثريات وأقليات وتشريع

إن حكم الأكثريات ضرورة لازمة لحكم الجماعات. وأنت ترى الأحكام والشرائع مادامت ترجع في إبرامها إلى إجازة عدد من الناس يخضعون لقانون أساسي، فلا مناص إذن من أن تتقيد الحكومة برأي الأكثرية وتعنو له. ولقد أيدت المحاكم العليا هذا المبدأ حينا بعد حين، وخلال طور بعد طور، على مدى الانقلابات السياسية، وأيده المؤلفون في كثير مما أبرزوا من المؤلفات التي تناولت البحث في النظريات السياسية، كما وضع موضع التنفيذ الفعلي في نظام الحكومات في كثير من دول الأرض. ولا جرم أن حكم الأكثرية الذي يمثل رأي الجماعات له الغلبة حتى الآن في نظام الحكومات الحديثة.

أما في القرون الوسطى فان القول بمبدأ الأكثرية لم يكن أكثر من حيلة لجأ إليها الحكام ليتقوا بها الصراع بين فريقي الشعب كلما بدرت بوادره، بأن يظهروا للناس من طريق الجلاد الفكري مقدار ما يترتب على الصراع البدني في النتائج. وعلى الضد من ذلك ذهب الديمقراطيون في الأعصر الحديثة. فأنهم بعدوا عن التحايل على الناس بالأفكار والنظريات، فأصبح حكم الأكثرية عند بعض المؤلفين عبارة عن (مبدأ عام ثابت له من المسوغات الأدبية والخلقية ما يكسبه مناعة قصوى) كما يقول هنبرج في كتابه (نظريات حكم الأكثرية) ويؤيد الأستاذ (مكيفر) هذا الرأي ولكن بأسلوب آخر فيقول أنه (يجب علينا أن نعتبر أن كل الحكومات التي لا تتجلى في كيانها إرادة الأكثرية صورا بتراء إذا قيست بأنظمة الحكومات الرشيدة) وهذا الرأي يتضمن ضرورة فكرة أن الإرادة العامة هي لدى الواقع إرادة الأكثرية، لا إرادة المجموع كله. ويقول مؤلف ثالث هو الأستاذ (هرنشو) في كتابه (الديمقراطية في مفترق الطرق)، (أن عقيدة الرجل الديمقراطي لابد من أن تحمله على الاعتقاد بأن أكثرية الشعب لا محالة واقعة على الحق يوما مهما طال عليها عهد الخرق والضلال، وإنها لابد من أن تعمل جاهدة يوماً ما على أن تقيم العدل وتضع الحق في نصبا). على ان الأستاذ (هرنشو) مسبوق بهذا الرأي. فان البابا (إنوسان الرابع) في (القرن الثالث عشر الميلادي) قد سبقه إلى القول (بأن استكشاف الحق من طريق الكثرة يكون أهون وأقوم.)

ص: 18

إن الحكم من طريق الأكثرية ليس أكثر من نتيجة منطقية، مقدمتها القول بوجوب المساواة الديمقراطية بين كل الناس. ذلك لأن حكم الأكثرية مضمونه أنه مدام لكل الناس حقوق معلقة في عنق الحكومة، فان (أصواتهم) يجب أن (تعد) لا أن (توزن). وهذه النظرية تختلف تمام الاختلاف عما كان يفهم من معنى الحكومة في العصور الوسطى وفي الدول غير الديمقراطية. فان القاعدة في القرون الوسطى كانت تعطي لمجموع الرعايا المتمتعين بكل الحقوق السياسية حق التصويت العام في المسائل ذات الشأن التي تتعلق بسلامة الدولة. وهذا يتضمن حقيقة تختلف عن مفهوم حكم الأكثرية كل الاختلاف. فان (عدد الأصوات) كان يقترن دائماً بفكرة (الصفة) مقيسة بقيمة الشخص (صاحب الصوت) ومنزلته في المجتمع وكان (مرسيليو البادوي، نسبة إلى مدينة بادوا أقوى من دافع عن هذا الرأي حجة في العصور الوسطى حتى قال الأستاذ (مكلوين) في كتابه (تطور الفكرة السياسية في الغرب) أن (مرسيليو) لم يفكر في حقيقة الفردية الحديثة لتي تنطوي على فكرة تغلب الأكثرية، بل وعى في عقله دائماً فكرة (الشعبية) التي كانت تعطى (للصفة) من القيمة ما (للعدد).

أما النظرية الديمقراطية الحديثة فقائمة على فكرة (بنتام) في أن كل إنسان انما يعمل على الترويج لمصالحه الذاتية، وأنه عندما تتفق أكثرية ما على سياسة معينة، فمن الواجب أن تعتبر هذه السياسة ممثلة غاية ما تنتهي إليه مصلحة العدد الأعظم من الناس. وإلى هذه الغاية ينبغي أن يتجه التشريع. لأنه في ظل هذا النظام تنكمش تلك الميول الشيطانية التي تحاول أن تغلب مصالح (العدد الأقل) من أفراد الجمعية على مصالح (الكل الاجتماعي) وتضعف تأثيرها إلى أدنى حد ممكن.

على أن هذه النظرية كثيراً ما هوجمت ونقدت. فان (إدمونديرك) الخطيب السياسي المعروف، كثيرا ما تكلم ضد ما سماه (استبداد الأكثريات) فقال:(ان رجحان الأكثرية من حيث العدد لا يتضمن مطلقا رجحانها من حيث الكفاية أو الميل إلى الخير، وحتى لا يتضمن رجحانها من حيث القوة والبطش. والحكمة من نصيب الأقليات إطلاقا، كما أن من نصيبها الإخلاص والاستقامة تغليبا. في حين ان اليأس والسلطان لا يعوزانها في أكثر الحالات) وفي هذا تأييد لقول سير (هنري مين) اذ قضى بحكم قاطع (في أن الأقليات،

ص: 19

التي كانت في بعض الاحيان أقليات ضئيلة، هو الذي كون لإنجلترا صيتها القصي وسلطانها العريض).

ولاحظ الكاتب المعروف (جيمس مارسون): (أنه في كل الحالات التي تربط فيها المصالح المشتركة والشهوات بين الأكثريات تكون حقوق الأقليات في خطر محقق) وقضى بأن الدواء الوحيد هو أن يوسع أفق الحكم وتقسم الجمعية إلى عدد عظيم من الأحزاب والفرق التي تمثل كل منها ناحية من نواحي المصلحة، كي يتعذر بذلك نشوء ما يسمى (إرادة الأكثرية) بحال من الأحوال. ولقد حاول أحد حكام المديريات في الولايات المتحدة أن يطبق هذه النظرية ليتقي بذلك شر تحكم الأكثريات، فاتخذ للتمثيل النيابي قاعدة (الملكية) وقاعدة العدد معا، ولقد نجحت هذه (الحيلة) السياسية بعض الشيء في التوفيق بين رغبة البيض في الحكم المطلق وتمثيل العبيد في مجالس النيابة.

ولكن العقدة الحقيقية لم تحل بهذا وحده. فقد فكر حاكم آخر هو الحاكم (كانون) المعروف بمؤلفاته القيمة في أن يحمي الجمعية لا من استبداد الأكثرية العددية لا غير، بل في حمايتها من استبداد (الأقليات المنظمة) أيضاً قال (كلما كانت المملكة أوسع نطاقا وأوفر في النسمات عددا، وكلما اختلفت حالات الرعية وتنافرت الأغراض والأهواء، كانت الصعوبة التي تحسها الحكومة في معاملة رعايها على مقتضى ما تتطلب فكرة المساواة الديمقراطية أعظم وأعقد، وأصبح من الهين على فريق معين من الجمعية أن يستبد بفريق آخر ويعبث بمصالحه ويسلبه حقوقه). وعلى هذا ينبغي أن يقوم أساس التمثيل النيابي على مراعاة (العدد) ومراعاة المصالح. وسمى الأكثرية العددية (الأغلبية المطلقة) وسمى الأكثرية المصلحية (الأغلبية المشتركة) أو بالأحرى (أغلبية التشارك).

على أن لأغلبية التشارك ميزة على الأغلبية المطلقة، أو بالأحرى الأكثرية العددية، تنحصر في أنها تقلل من متاعب الحكومات بالإقلال من عدد الذين يبرمون المشكلات العامة. ولكن لا يخفى مع هذا أن اختيار الوسيلة التي يجب أن تتبع في تحديد نسبة معينة للتمثيل النيابي، وفي وقاية الحكومة من طغيان المصالح الخاصة، ثم وقاية الأقليات في الوقت نفسه، لمشكلة من أعقد المشاكل التي تواجهها الجمعيات الديمقراطية في العصر الحديث.

ص: 20

ففي ظل النظام الحاضر في الولايات المتحدة مثلا، يقوم

التمثيل النيابي على قاعدة الأكثرية العددية. وهذا على ما

يظهر من طبيعة الأشياء أدنى صور الحكم النيابي إلى

السهولة، وأبعدها عن التعقيد، بل نقول أنه يلوح في الظاهر

أنه أقرب أشكال الحكم إلى تحقيق ما تتطلب الديمقراطية من

المساواة. ولكن على الرغم من كل ما يلوح في هذه النظرية

من البساطة والغرارة، فإنها غير مطبقة في الواقع. فان

اختلاف الولايات التي تتمتع بالحكم التمثيلي من حيث السعة،

كما ان النسبة التمثيلية التي تحتم الظروف أن يجري عليها

انتخاب مجالس التشريع، كلاهما يجعل مناقضة هذه القاعدة

والفكاك منها أمراً محتوما. ففي احدى وثلاثين ولاية من

الولايات المتحدة تقع على شرائط نيابية تجعل حكم الأكثرية

العددية مستحيلاً. خذ مثلا لذلك جزيرة رود فانك تجد ان كل

مدينة لا يحق لها أن ترسل الا نائبا واحدا ليمثلها في مجلس

سناتو الولاية. وعلى هذا تجد أن مدينتين مثل (بروفدنس)

وتعدادها. . . 250 (وبوتكت) وتعدادها. . . 64 نسمة

تهزمها لدى التصويت البرلماني ثلاث قرى إذا اتحدت مثل

(جرينتش) وتعدادها 367 و (فوستر) وتعدادها 905 و

ص: 21

(شارلستون) وتعدادها 759 نسمة. أما في (كونتكوت) فلكل

مدينة ممثلان. وبذلك تجد أن مدائن لا يزيد عددها على 250

نسمة تمتع بنفس النسبة التمثيلية التي تمتع بها مدنا عظيمة

يزيد تعدادها على 100000 نسمة. وفي ولاية (اوهيو) خمسة

أقاليم صغيرة تعدادها 67282 ولها في الوقت نفسه نفس

النسبة التمثيلية التي لغيرها من الأقاليم العظمى مثل إقليم

(فرنكلين) ولا يقل تعداد النسمات فيه عن 359459 نسمة. ثم

تجد أن أربعة عشر إقليما تعداد نسماتها 226212 يمثلها

أربعة عشر نائبا، وإقليما واحداً هو إقليم (كويا هوجا) وتعداده

1 ، 201842 ليس له أكثر من سبعة عشر نائباً، فزيادة نسبة

العدد في إقليم (كويا هوجا) تبلغ ستة أضعاف ما في الأربعة

عشر إقليما الأولى. ولكن قيمة الأضعاف الستة لا تساوي في

تشريع الولايات المتحدة اكثر من ثلاثة نواب.

والمحصل من هذا كله إن جماعات الريف في الولايات المتحدة تمنح من السلطان في الحكم والتشريع أضعاف ما تستحق عدديا لينتقص المشرع بهذه الوسيلة سلطان الأكثرية في المدائن العظمى. ولا يمكن أن يقال مع مثل هذا النظام أن التشريع هنالك خاضع لإرادة الأكثرية العددية. وعلى هذا تجد أن مجالس التشريع في الولايات المتحدة غير خاضعة لا لما سميناه الأغلبية المطلقة، ولا لما سميناه (أغلبية التشارك)، ولكنها على الرغم من ذلك (ناقمة) من ناحية انها لا تجعل رأي الأكثرية راجحا على الدوام، وهذا النقص آت من

ص: 22

ناحية عدم مجاراتها لمفهوم النظريات الديمقراطية القائمة على تغليب الأكثرية العددية إطلاقاً وبلا حساب، بل وبلا تقدير لأية نتيجة من النتائج التي تترتب على تغليب الأكثريات تغليبا يؤدي بها إلى الاستبداد. على ان كثيرا من العوامل ذات الأثر في أحكام النظام الداخلي في مجالس التشريع، وفي نظام اللجان، وفي الدور الذي تلعبه الأحزاب بحيلها المعروفة، ووسائلها التمردية يفضي حتما إلى حالة يخضع معها التشريع، ولو خضوعاً نسبيا، إلى الأقليات الصغيرة.

فهل لنا ان نتساءل: هل تحكم الأقليات العالم متسترة بقناع التعبير عن إرادة الأكثريات؟ وهل الديمقراطية على ما نفهمها من الكتب غيرها لدى التطبيق؟ وهل لنا أن نتخيل ان (الوهم) هو الذي يسوق الناس إلى حيث يريد بهم تفاعل قوى إنسانية مسلطة عليهم؟ وهل لنا مع هذا أن نعتقد ان الاختيار لدى الجماعات أضعف أثرا منه في الافراد؟ بل نتساءل هل الفردية هي القوة الشاملة التي تحتكم في نظام الأشياء الإنسانية؟

أ. م

حول مقال (تين)

نشرنافي العدد الثامن عشر مقالا عن (تين) بعث به إلينا من حلب السيد صبحي العجيلي. ولم يدر بخلدنا أن شهوة النشر تدفع بأحد شبابنا إلى أن يطفئها من منهل غير مشروع، حتى أرسل إلينا الفاضل عبد الحليم محمد حموده من أدباء الاسكندرية مقالا عنوانه (لصوص الأدب) يثبت فيه أن مقال العجيلي منقول برمته عن كتاب الدكتور هيكل (تراجم مصرية وغربية) وقد رجعنا إلى هذا الكتاب فوجدنا النقل ظاهرا لا شبهة فيه.

فهل يريد هؤلاء السادة أن نطالع كل كتاب ونطلع على كل صحيفة قبل أن ننشر شيئا في الرسالة؟ ذلك ما لا يضطلع به الجهد ولا يتسع له الوقت ولا يزكو به الأدب.

قصة الحارس

كان الأديب السيد محمد المدني المعلم بمدرسة الصناعات الزخرفية موفقاً في ملاحظته على ترجمة السيد محمد ناجي الطنطاوي الدمشقي لهذه القصة فقد قال إن المترجم على دقته أخطأ فهم الأصل في كثير من المواضع فجاءت الترجمة شوهاء خاطئة، مثال ذلك أنه

ص: 23

ترجم هذه الفقرة:

? ، ، ، ، ،

بقوله: (مكثت هناك كالحارس أو كشرطي متقاعد شجاع شديد البأس على باب قلعته، وكنت لا أخاف شيئاً) والصواب: (وهناك أقمت للحراسة جندياً متقاعداً طيب القلب شديد البأس لا يهاب شيئاً، يحرص كل الحرص على فعل ما يؤمر به، شديد البطش بمن يحاولون الصيد في ارض غيرهم). وترجم بقوله (فأقمت عنده بأسم مستعار) والصواب (أني أسأت التعبير عن قصدي).

ص: 24

‌من صور بغداد

حديقة. . . .!

كان ألذ ما أتذوقه من جمال بغداد وقفة في حديقة النادي العسكري كل صباح!! فكنت تراني أحرص عليها حرص العابد المتحنث على أداء صلاته، أو العاشق المتوجد على لقاء فتاته، كنت أغشى كل يوم هذا المجتلي الساحر، في رونق الضحى أو في متوع النهار، فأجد الشمس قد لألأت ذوائب النخل وغوارب النهر، وأخذت ترشق بأشعتها الظلال الندية من خلال الشجر، وبنات الهديل يبحثن كعادتهن في عساليج التين وأغصان التوت بأرجلهن ومناقيرهن، وهن يرجعن على التعاقب الحان الخريف؛ والحديقة مطلولة النبات منضورة الزهر تتنفس بالفاغية تنفس الطفل الحالم، والسكون مرهوب الجلال أنيس الوحشة يعمق ثم يعمق حتى تكاد تسمع النبات وهو ينبت!؛ والنادي خلواً من أهله فلا تجد الا بستانياً يعمل في صمت، وغلاماً يكنس في هدوء، وطفلين جميلين يجيئان أحيانا فيجلسان في الشرفة أو يمشيان في الحديقة، فلولا نشوز خادمهما الكهل، ومنظر هندامه الزري الشكل، لحسبتهما زهرتين من زهورها، أو عصفورين بين طيورها،! فأسير في الروضة متئد الخطى مرسل النفس مرهف الحس، تارة بين مماشيها، وتارة فوق حواشيها، فأقف عند كل شجرة، وأحيي كل زهرة، واسأل النبتة الوليدة بالأمس ما حظها اليوم من سر الحياة ونعمة الوجود! ثم أصعد درجة إلى الشرفة، وأنعم ساعة بتلك الوقفة، فأتنسم هواء النهر ملء رئتي، وآخذ جملة المنظر بمجامع عيني،! وأي منظر يسحر اللب ويملك الطرف كهذا المنظر الفاتن؟! الحديقة من ورائي تضوع بالنسيم الأريج وتروق بالرواء البهيج وتروع بالسكون الملهم! ودجلة الخالد من أمامي تتجاوب أصداء الأمم خافتة في لجاجه، وتتهادى خفاف القوارب راقصة بين أمواجه، وأنا بين الشجر والماء كالطائر بين الأرض والسماء، يسبح خاطري في أجواء الماضي القريب والبعيد صاعدا إلى فكرة، أو هابطا على ِذكَره، أو حائماً حول منظر كهذا المنظر تدفق به قلب في قلب، وامتزجت فيه نفس بنفس، وتجمعت الأحلام والأماني كلها فوق رقعة صغيرة من أرضه، وتحت سرحة فينانة من روضه!

لا تظنن هذه الحديقة فيحاء قد تأنقت فيها يد الطبيعة وتألق بها فن

ص: 25

الإنسان! إنما هي مربع من الأرض على قدر ما يتسع له فناء كبير في

منزل فخم، يشقها ممشيان معروشان قد تعارضا على شكل صليب

قسماها إلى أربعة أقسام سواء، وفي هذه الأقسام وما أُلحق بها قام دوح

السدر، وبسق سرح الكافور، وانتظمت على جوانب مماشيها أشجار

النارنج، وانتثرت على معظم أرضها ألوان قليلة من النَّور الجميل

والورد العطر. فسماؤها كما ترى للشجر وأرضها للدهر وجوها

للعطر وهي كلها لنوع من الجاذبية يجعلها على بساطتها فتنة الفنان

وجنة المفكر!

ليت شعري ما مصدر هذا السحر الذي يشع في عيني ويشيع في نفسي كلما دخلت هذا المكان؟ أهو ذاك البناء المتآكل الذي يقوم في جنوبيه كأنه المعقل البالي أو الدير المهجور، أم هو ذلك النهر الجميل الذي يجري في غربيه كأنه الزمن الدافق أو الكتاب المنشور، أم هو ذلك المزيج العجيب من جلال القدم في المكان وجمال الطبيعة في البستان وعظمة الحياة الماثلة في النهر؟؟

ليس للروح العسكري في هذا المكان الشعري مظهر ولا أثر. فما تعهده من الخشونة في الثكنات، والعنف في الحركات والقسوة في النظرات والكلمات، يحول هنا إلى ذوق فنان ورقة شاعر وهدوء فيلسوف!

كادت هذه الخواطر الجريئة الملحة تذهلني عن حديقتي واليوم عيد من أعياد الطبيعة برزت فيه عارية من الحلل غانية عن الحلي! والخريف في العراق هو الربيع احترقت غلائله الوردية في لظى يوليو!! فهو على تجرد أرضه من الأنوار والازهار، وتحجُّب سمائه أحياناً بالغيم وأحيانا بالغبار، جميل البسمات عليل النسمات رفاف الأديم. فها نحن أولاء بين أعقاب الخريف وطلائع الشتاء والشمس لا تزال في ثغر السماء ابتسامة حلوة! تضاحك النهر الحبيب فتزيده طلاقة. وتداعب الزهر الكئيب فتكسبه أناقة، وتطالع الجو المقرور فتقبسه حرارة، وتصارع برد الموت في أوراق النارنج وأطراف التوت فتطيل

ص: 26

بقاءها فترة أخرى من الزمن! وهذه اليمامات السواجع، مازلن يأوين إلى أعالي الشجر يمرحن في الضوء وينعمن بالدفء ويهتفن بالأهازيج كأنهن في أمَنَةٍ من حلول يناير وهو منهن على ليال قلائل!! وهذا دجلة السعيد يتنفس موجه بالنعيم، ويطفح غرينه بالذهب، ويقذف تياره بالغثاء والزبد، بعد ما بخره القيظ فنش حتى انكشف ضميره، وانقطع خريره، وكاد يزحف الشبوط والزورق فيه على القاع! فالبواخر تصعد صافرات في سرعة، والأطواف تنحدر صامتات في بطئ، والقفف تعبر موقرات في هوادة، وقوارب الصيادين وزوارق الملاحين تتعارض وتتحاذى في عباب النهر كأنها الخواطر الحائرة في الفكر العميق، والطيور الصائدة تحوم على وجوه الماء بأجنحتها الشهب حومان الآمال على ستر الغيب الصفيق، والبجعة الملكية تطعن في صدور الموج بمنقارها الطويل العريض وهي تسبح آمنة في حمى البيت العتيق، وأنفاس دجلة اللاهث من عبء القرون تتصاعد إلي حاملة أنين الأمواج وخفق المجاديف وغماغم الكرخ فتختلط بتجاوب اليمام على الشجر، وتناوح الرياح بين الغصون، وحشرجة الاوراق الذاوية على الارض، فتتألف من هذه الأصوات الخافتة موسيقى روحية شجية تبعث رواقد الأحلام وتثير كوامن الآلام وتقطع بين النفس وبين وجودها الحاضر!!

أيه يا دجلة يا سجل الأمم وراوية العصور! لشد ما فنيت في خريرك ضحكات، وامتزجت بنميرك دموع، وخفيت في ضميرك أسرار!! لقد رأيتك بالأمس ضارعا قد لصق خدك بالأرض حتى همّ بخوضك الخائض، وهمدت حياتك حتى أوشك أن يسكن عرقها النابض، ثم رأيتك اليوم وقد غاثك الغيث فجاشت ينابيعك الثرة بالنماء والثراء والقوة، ثم أقبلت كدأبك منذ آلاف السنين داوي الدارات صخاب اللج تعرضها مُلحا على بنيك فيعرضون عنك إعراض البطر، ويؤثرون على فيضك الميمون وذق المطر، ثم يهينون كبرياءك يا أبا الحضارات فيجعلون مبلغ همك حمل الأرماث ونقل القُفف! فهل يعجبون إذا فار غضبك فجرفت السدود وجاوزت الحدود وأصبتهم بالغرق؟. . . . .

أحمد حسن الزيات

ص: 27

‌نعي هين

ناعٍ سعى بكتاب ود ِمن حدب

على ما حواه لو يواريه!

فقلت لا وجلت نفسي ولا حفلت

أنا عب أم بشير من ألاقيه

أدّ الرسالةَ لا تُحجم بها َجزِعاً

فليس يَكربنُي من أنت ناعيه!

أَثم في الناس مَن آسى لفُرقته

فأرهَبَ الموتَ إذ تعدو عواديه؟

إن الزمانَ رمىَ كبرى مصائبه

فما أُبالي جديداً من غواشيه

وكيف يخشى الردى من ليس يَكربُهُ

لو أنّه اليوم مَن سارت مَنَاعيه

َمضى الذي حَطّمت قلبي مَنيتّه

ومن وددتُ بروحي لو أفدّيه

من عشت أمرح في شتى مأثره

مدى الحياة وفي طولى أياديه

ومن ِبرَغمي أني قد حييت وقد

حواه في الارض جافي الجنب نابيه

ومن ُأردد عمري ذكره وله

أحيا بقلبٍ ثخينِ الجرح داميه

كنزٌ من الود أقدُر نفاسته

حتى دهاني محتوم الردى فيه

أمسيت أبحث عن محض الوداد سدّىً

وكان لي أمس أقصى ما أرجيّه

أقضي مع الناس عمراً خالياً صفِراً

من الودَاد كمَن في القفر يطويه

فخري أبو السعود

ص: 28

‌مطالعات في التصوف

عوارف المعارف. معرفة النفس

- 4 -

ليس الباب السادس والخمسون من كتاب عوارف المعارف الذي أريد

أن أحدثك عنه في هذا الفصل بابا من أبواب التصوف فحسب. وإنما

هو قد جمع إلى المكاشفات الصوفية مذاهب فلسفية ونظريات

بسيكولوجية لها قيمتها من حيث إظهارنا على معرفة ماهية النفس

والروح والقلب والعقل من ناحية. وفي الإبانة عن علاقة هذه الأشياء

بعضها ببعض وتأثير بعضها في بعض من ناحية أخرى.

ويرى مؤلف عوارف المعارف بادئ ذي بدء أن الكلام في الروح صعب المنال. وأن الإمساك عنه خير من التعرض له والإشارة إليه. فقد قال تعالى في كتابه العزيز: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) وهذه الآية الكريمة هي التي هبط بها جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله اليهود أن يخبرهم عن الروح وعن ذلك كيفية تعذيب الروح التي في الجسد. ولم يكن قد نزل على النبي حتى ذلك الحين شيء في الروح فنزلت هذه الآية. وهي تدلل دلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض على أن معرفة ماهية الروح أمر مقصور على الله وحده. وإذن فكيف يتسنى لمخلوق أن يخوض في هذا الموضوع أو يشير إليه وقد أمسك النبي عنه؟ أليس الأجدر بالإنسان أن يتركه جانبا تشبها برسول الله واستمساكا بتأدبه؟ على أن الفلاسفة والعلماء لم يقفوا عند هذا الحد وإنما عرضوا للروح فتناولوها بالبحث والتحليل وحاولوا محاولات شتى، أرادوا أن يكشفوا بها عن ماهية الروح وكنهها ومصيرها بعد الموت. وهم في محاولاتهم هذه اختلفوا فيما بينهم اختلافاً قويا نلمسه في تضاعيف كتبهم التي أودعوها آراءهم ومذاهبهم. ومن هنا ترى مؤلفنا يقول أنه لم يوجد اختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالاختلاف في ماهية الروح. وأنك لتراه يقول ايضاً إن من بين الذين تنأولوا هذا الموضوع قوماً ركبوا متن الشطط فخرجوا على الشريعة وخالفوا أصول الدين. على حين أن من بين الذين

ص: 29

استمسكوا بالشريعة وتكلموا في ماهية الروح قوماً اعتمدوا في تحليلهم للروح على الاستدلال والنظر. وقوماً آخرين كانت طريقهم طريق الذوق والوجد. ومن هنا خاض علماء الصوفية في موضوع الروح وأرادوا تعرف ماهيتها، وكان الأولى بهم والأجدر أن يمسكوا عن ذلك تأدبا بأدب النبي.

وبعد أن أظهرنا مؤلفنا على ما لمسألة الروح من خطر عظيم ودقة فائقة تعلو على إدراك الإنسان نراه يعمد إلى تدعيم رأيه بذكر طائفة من أقوال المتصوفة رأوا رأيه وذهبوا مذهبه في أن الروح أمر يتعذر إدراكه ويدق فهمه. ومن بين الأقوال التي ذكر قول الجنيد الذي جاء فيه: (الروح شيء أستأثر الله بعلمه ولا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود) وقول أبي عبد الله النباجي الذي يظهرنا فيه على أن الروح جسم يلطف عن الحس. ويكبر عن اللمس. ولا يعبر عنه بأكثر من موجود.

وقد اختلف الناس في الروح هل هو قديم أم محدث. واختلفوا أيضاً في أمر الروح الذي سئل عنه رسول الله. فذهبوا في ذلك مذاهب شتى وأدلوا بآراء تختلف فيما بينها اختلافا ظاهرا قويا. ولعل أهم ما يلاحظ على هذه الآراء انها تدور جميعا حول الروح الذي لبس في الجسد. فأنت ترى مثلا أن فريقا قد ذهب إلى أن الروح الذي سئل عنه النبي انما هو جبريل. وان فريقا آخر قد انتهى إلى أنه ملك. ومهما يكن من شيء فقد اتفقت هذه الآراء على أن الروح الذي هو من أمر الله شيء آخر غير الروح الذي في الجسد والذي يرى مؤلف عوارف المعارف أن الكلام فيه مباح غير محظور.

والروح التي في البدن هي قوامه ودعامته استحق بها أسم الحياة، بها ثبت العقل وقامت الحجة. ولولاها لتعطل العقل ولما كانت له أو عليه حجته. هي جوهر مخلوق ولكنها الطف المخلوقات وأصفى الجواهر. بها تترآى المغيبات ويكون الكشف لأهل الحقائق.

وتنقسم الأرواح إلى أقسام: -

(1)

أرواح في البرزخ وتبصر أحوال الدنيا والملائكة. وتسمع ما تتحدث به عن أحوال الآدميين.

(2)

أرواح تحت العرش

(3)

أرواح طيارة إلى الجنان وإلى حيث شاءت من السعي إلى الله أيام الحياة.

ص: 30

وإذا كانت الروح مخلوقة فقد قال بعضهم. انها خلقت من نور العزة وان إبليس خلق من نارها. وقال بعضهم: - قرن الله العلم بالروح فهي للطافتها تنمو به كما ينمو الجسم بالغذاء.

ويتناول مؤلفنا بعد ما قدمت لك أبسط آراء المتكلمين في الروح، وهو يلاحظ أن اكثر متكلمي الإسلام يميل إلى أن الإنسانية والحيوانية عرضان خلقا في الإنسان يذهبهما الموت. وأن الروح هي الحياة بعينها بها صار البدن حيا. فإذا انفصلت عنه أصبح ميتا، ولكنها إذا عادت إليه يوم القيامة عادت إليه الحياة.

وذهب بعض المتكلم إلى ان الروح جسم لطيف مشتبك بالأجسام الكثيفة، وهذا رأي أبي المعالي الجويني.

على أن السواد الأعظم من المتكلمين قد انتهى إلى أنها عرض، ولكن هذا المذهب مردود عليه بالأخبار التي دلت على أن الروح جسم لما فيها من العروج والهبوط والتردد في البرزخ. ومن ثم لا يمكن أن تكون الروح عرضا مادامت قد وصفت بأنها جسم. فليس الوصف الا معنى والمعنى لا يقوم بالمعنى.

وأما مصير الروح بعد خروجها من الجسد فقد حدثنا عنه مؤلفنا فيما أورد من كلام ابن عباس. سئل ابن عباس: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب المصباح عند فناء الادهان؟ قيل له: وأين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال: فأين يذهب لحمها إذا مرضت؟

وأكبر الظن أن آراء المتكلمين في الروح ومذاهبهم التي أوجزها لنا مؤلف عوارف المعارف تكفي لإعطائنا صورة لا بأس بها لهذا الخلاف الضعيف الذي كان بينهم حول مسألة هي من أدق المسائل وأعوصها إن لم تكن أدق المسائل وأعوصها جميعا. ولعل دقة المسألة وخطورتها آتيتان من حيث أن باحثها هو مضطر فوق هذا إلى أن يلائم بين رأيه وبين ما دعا إليه الكتاب والسنة. ومهما يكن من شيء فقد رأى المتكلمون أنفسهم امام ما يقال لهم من ان الموجودات محصورة. فكل موجود أما أن يكون قديما او جسما أو جوهرا أو عرضا. ومن هنا كان لابد لهم من أن يتعرفوا ماهية الروح ويطبقوا عليها هذا الذي قيل لهم عن حصر الموجودات. فهل الروح قديمة؟ هل هي جسم؟ هل هي جوهر؟ هل هي

ص: 31

عرض؟ تلك أسئلة رأوا أنفسهم مضطرين إلى الاجابة عنها. وقد أجابوا عنها بالفعل. فرأى فريق منهم أن الروح قديمة لانها أمر والأمر كلام والكلام قديم. ورأى فريق آخر انها جسم. وذهبت طائفة إلى انها جوهر، وطائفة اخرى إلى انها عرض كما أشرت إلى ذلك آنفا. ويرى أبو طالب المكي أن الأرواح أعيان في الجسد كما يرى ان النفوس كذلك. فهو يقول ان الروح تتحرك للخير ومن حركتها يظهر نور في القلب يراه الملك فيلهم الخير عندئذ. وان الروح تتحرك للشر فتظهر في القلب ظلمة يراها الشيطان فيقبل حينذاك بالإغواء.

محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب

ص: 32

‌قص الشعر في الأدب العربي

نشرت الأهرام كلمة تحت عنوان (مبتكر مودة قص الشعر) ذكر الكاتب فيها نقلا عن احدى المجلات الإنجليزية أن مبتكر هذه الطريقة هو المسيو سير بليغوسكي البولندي المعروف وهو يقيم الآن بلندن، والذي أعرفه أن هذا النوع نشأ من عصر بعيد. فقد يجد الباحث في الأدب العربي كثيرا من الصور الشعرية يعرف منها كيف نشأت هذه الطريقة في العصور العربية الزاهية أيام سلطان العباسيين بالمشرق وبني أمية بالآندلس، ذلك العهد الذي مال فيه العرب إلى كثير من ألوان الترف واطمأنوا فيه إلى الدعة وخفض العيش. ولقد كان من آثار هذا الإغراق في النعيم والافتنان في أساليبها أن كانوا يعبثون بشكل الفتاة الطبيعي فيقصون شعرها ابتغاء منظر طريف يمتعون به عيونهم في مجالس الشراب، كما كان يجد الشعراء في ذلك لذة فنية تعينهم على اتساع مدى خيالهم الشعري، ويطلقون على هذه الفتاة الصغيرة (جارية غلامية) ولم يك هذا النوع من العبث بالشكل الطبيعي مقصورا على الفتيات، فقد كانوا يصنعون الأقراط في آذان سقاتهم من الغلمان ويطلقون على كل منهم (غلام مقرطق) وسيجد القارئ في هذه الصورة تأييداً لما ذكرت.

قال عامر بن شهيد أحد شعراء الأندلس يمدح أميرا ينتسب إلى الأسرة العامرية، وقد استهل قصيدته بوصف الخمر وأدواتها والجارية التي قامت على الشراب:

أذن الديك فتب أو ثوب

وانضح القلب بماء العنب

وتأمل آية معجزة

ما قرأنا مثلها في الكتب

ركع الإبريق من طاعته

وبكى فابتل ثوب الاكؤب

ولول المزهر ينفي طربي

وتطربت فأعيا طربي

وربيب قام فينا ساقياً

كالرشا أرضع بين الربرب

ظبية دون الظباء قصصت

فأتت غيداء في شكل صبي

فتح الورد على وجنتها

وحماه صدغها بالعقرب

والذي ينظر إلى البيت السادس يعرف جيدا كيف كانت (مودة قص الشعر) معروفة بين الأندلسيين، ولعل أول من نقلها إليهم زرياب (المغني المعروف) فقد وفد من المشرق في عهد الرشيد بعد أن حقد عليه أستاذه إسحاق الموصلي فأقام كثيرا من عادات البغداديين في ربوع قرطبة وما جاورها وأحدث وتراً خامساً للعود. فمن المؤكد إذن أن هذه الطريقة

ص: 33

نشأت في الدولة العربية ويرجح انتقالها من بغداد إلى قرطبة لسبق الأولى في الحضارة نتيجة اختلاط العرب بالفرس واليونان ولا سيما بعد الفتح العربي؟

علي شرف الدين. دبلوم دار العلوم

ص: 34

‌فلسفة ليبنتز

1646 -

1716

للأستاذ زكي نجيب محمود

1 -

نظرية ذرات القوة2 - التآلف الأزلي

3 -

نظرية المعرفة 4 - الله والعالم

لست أدري كم ندنو من الحق حين نقرر أن لكل أمة طابعا في التفكير يطبع إنتاجها الفكري بوجه عام، ولولا أن ما تبادله الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد لم يجف مداده بعد لزعمت هذا التقييم في يقين لا يعرف الشك. ألا تتميز إنجلترا بالنزعة الواقعية ألمانيا بالنزعة التفكيرية أليست إنجلترا مهدا للأفكار العملية التي تقف عند الواقع المحس (لا تعدوه) بل تكاد ألا تعترف بما وراءه. أليست ألمانيا منبتا خصبا للمجهود العقلي العميق، الذي يضرب فيما وراء الطبيعة، ويوشك ألا يعترف لهذا العالم المادي بحقيقة أو وجود، ثم أليست فرنسا موطنا للنزعة الرياضية؟ ألا يتميز الرجل الإنجليزي بالوضوح الذي أدى به إلى التمسك بالحقائق الواقعة، والفرنسي بالدقة التي طوحت به في بيداء اللاأدرية والشك، لأنه ينشد حقا يبلغ حد اليقين الرياضي فلا يجد. كما يتميز الألماني بالعمق في التفكير الذي انتهى به إلى اعتبار الفكر أصلا للوجود؟ عندي أن هذا كله حق يؤيده تاريخ الفلسفة.

ولم يكن ليبنتز فيلسوفا ألمانيا فحسب، انما كان أب الفلسفة الألمانية الحديثة غير منازع، أفتستطيع إذن أن تصور لنفسك عمق تفكيره وإمعانه في البحث عما وراء الطبيعة؟ وقد شاء له ربك أن يكون مهبطا تجتمع عنده أطراف النقائض، فيمثلها جميعا، ثم يخرجها للناس فلسفة متحدة متجانسة، فهاهو ذا قد تسلم ميراث ديكارت وسبينوزا من ناحية، وباكون ولوك من ناحية اخرى، فالتقت لديه بذلك سلسلتان متضاربتان من التفكير، إحداهما (ديكارت وسبينوزا) تنكر الحقائق الفردية وتؤكد قانونها الخالد: أي أن هذا الإنسان المعين أو تلك الشاة أو ذلك الطائر أو ما شئت من أفراد، ليست حقائق مقصودة لذاتها، انما هي مجرد تطبيق لقانون شامل، فأما هذه الافراد فذاهبة مع الموت، وأما ذلك القانون فخالد لا

ص: 35

يعتريه الفناء. والأخرى (باكون ولوك) تسخر من كل هذا، ولا تعرف الا هذه الحقائق الفردية التي نراها ونلمسها. التقى هذا المذهبان في رأس ليبنتز فوقف منهما، موقفاً وسطا، وأخذ من كل منهما بمقدار، ففرض أن العالم يتكون من ذرات أولية لا تقبل التجزئة وليس لها امتداد، ثم زعم أن كل ذرة منها (يلاحظ إننا نستعمل كلمة ذرة هنا في شيء من التجوز لأن الذرة المادية تختلف عن الذرة التي فرضها ليبنتز في أن للأولى امتدادا وإنها تقبل التجزئة، واما الثانية فروحية تتألف من القوة لا من المادة) حقيقة متميزة مستقلة الا انها في الوقت نفسه تشمل صورة الكون بأسره في جوفها وتمثله أدق تمثيل. وبقدر دقتها في هذا التصوير والتمثيل يكون دنوها من الكمال، فهي فردية من ناحية وكونية من ناحية اخرى. ولابد لنا لكي نفهم ليبنتز على حقيقته أن نتناول بالشرح نظريته في الذرات ثم فكرته في إئتلافها، كما نلم برأيه في المعرفة وطريقة وصولها إلى الذهن. وسنرى أنها محاولة أخرى للتوفيق بين ديكارت ولوك، فقد مزج بين ما ارتآه الأول من وجود آراء فطرية تولد مع الطفل عند ولادته ولا تجيء عن طريق التحصيل، وما ذهب إليه الثاني من ان العقل يخرج إلى هذا العالم صحيفة بيضاء ثم تخط فيها التجارب ما تشاء.

1 -

نظرية ذرات القوة

مم تتكون أجزاء هذا الوجود؟ مم يتكون هذا الرجل وذلك الماء وتلك القطعة من السكر؟ يجيب ديمقريطس أن هذا الوجود على تباين ظواهره إنما يتكون من ذرات اجتمع بعضها إلى بعض، فكونت هذا الشيء أو ذاك، وينكر ديكارت وسبينوزا هذا القول ويؤكدان أن اجزاء العالم على اختلافها إنما تتكون من مادة كونية متحدة لا تنقسم إلى أجزاء لأنها عنصر أولي واحد، ولكن ليبنتز يرد الفكرتين جميعا، فهذه المادة الكونية التي فرضها سبينوزا شاملة للوجود تبرز الكون حقيقة واحدة تتلاشى فيها كل الحقائق الفردية التي نصادفها في الحياة العملية، وتلك الجزئيات التي زعمها جماعة الذريين أصلا للأجسام، لابد ان تكون (نظريا على الأقل) قابلة للتقسيم إلى مالا نهاية، مادامت قطعا من المادة، لأن الذهن لا يستطيع أن يتصور جزءاً ماديا لا يقبل التجزئة، وإذن فهي مركبة ونحن إنما نقصد إلى أيجاد أبسط العناصر التي يمكن اعتبارها أصلا مطلقا للكون. فلابد لنا من الإمعان في البحث حتى ننتهي إلى عنصر لا يقبل التجزئة، ويكون له في الوقت نفسه

ص: 36

وجود حقيقي ملموس. ولا تصلح النقطة الهندسية أن تكون هي العنصر المنشود. لانها تحقق شرطاً واحداً وهو عدم قابلية التقسيم، ولكن لا يتوفر فيها الوجود الحقيقي، كذلك لا يجوز أن نفرض جسما ماديا كائنا ما كان حجمه، لأنه وإن توفر فيه الوجود الحقيقي، لا يحقق شرط البساطة، إذ لا يسعنا الا أن نتصور إمكان تجزئته إلى مالا نهاية له من الأجزاء. يقدم ليبنز هذا الاعتراض، ثم يزعم أن ذرات القوة هي العنصر المنشود. لانها موجودة لا ريب في وجودها. وليست مادية حتى تتهم بإمكان التقسيم. وهي فضلا عن ذلك منبثة في الكون بأسره، هذه القوى الأولية هي التي تتكون منها حقيقة كل شيء، فهي العنصر الذي بنيت منه المادة والروح على السواء. وهي تختلف عن المادة التي فرضها سبينوزا في انها ذرات فردية لا نهائية في عددها وطبيعتها. أما مادة سبينوزا فهي كتلة متحدة متجانسة كما تباين ذرات ديمقريطس في أنها ليست مادة متينة بل مشحونة بالحياة والحركة. وهي ليست مجرد تكرار الصورة بعينها بل متباينة مختلفة إلى أقصى حدود التباين والاختلاف في الكيف والفاعلية. حتى إنك لا تجد في الكون كله ذرتين متشابهتين، لأنه لو كان ذلك لكان خلق إحداهما عبثا لا مبرر له. ولهذه الذرات القوية (نسبة إلى القوة) خاصتان: فهي في آن واحد شاملة للكون ومنعزلة عنه. هي من ناحية وحدات بسيطة مستقلة وليس لها نوافذ تطل منها على العالم الخارجي أو ينفذ لها شيء منه، لا يمكن أن توجد من عدم كما يستحيل أن تعدم بعد وجود الا بإرادة الله. كل واحدة منها عالم صغير يسير بمقتضى طائفة من القوانين كما لو لم يكن في الوجود غيرها سوى الله. وهي من ناحية اخرى شاملة للكون، لانها وإن تكن منعزلة بنفسها مستقلة في سيرها الا أن لها من القوة ما تستطيع به أن تمثل كل ما يحتوي الكون من ذرات قوية، أو بعبارة أخرى كل ذرة ينعكس فيها الكون كله، بحيث لو استطعنا أن نصل إلى فهم واحدة فقد فهمنا الكون بأسره. فكل واحدة تحمل في طياتها ماضي العالم ومستقبله. ويعزو ليبنتز إلى هذه الذرات نوعا من الإدراك يختلف عن إدراك الكائنات المفكرة، أي أن هناك درجات للإدراك لا نهاية لها، ومعنى ذلك أنه لا يعترف بوجود المادة الميتة، إنما أجزاء المادة جميعا ضروب من الأحياء تختلف في كمية الحيوية والتفكير. وبعبارة أخرى يقول: أن هناك درجة من الإدراك الصحيح الكامل، ثم يأخذ هذا الإدراك في النقص والغموض كلما نزلت في سلم الكائنات،

ص: 37

وكلما كان إدراك الذرة واضحاً وتصويرها للكون دقيقاً، كانت أكثر حيوية وأحد نشاطا، والله تعالى هو وحده القادر على ان يكون له إدراكات واضحة لا يشوبها شيء من غموض أو ما يشبه الغموض، وإذن فهو وحده عبارة عن فاعلية خالصة ونشاط مطلق، وكل مخلوق سواه من الإنسان فنازلاً إلى أحط الكائنات، يكون فعالا من ناحية ومنفعلا من ناحية اخرى، وهذا الجانب المنفعل من الذرة، أي الجانب السلبي، هو ما يسمى بالعنصر المادي. أي أن وجود المادة السلبية في الذرة القوية هو الذي يحول دون وضوح إدراكها. وبعبارة واضحة. كلما رجحت في الكائن كفة الجانب الروحي الفعال على العنصر المادي السلبي كان اكثر وضوحا في إدراكه.

وانك لترى العالم مليئا بهذه الذرات المدركة، كل منها مستقل منعزل. ومع ذلك لن تجد بينها فواصل تباعد بينها، بل هي متداخلة بعضها في بعض، متصلة على أشد ما يكون الاتصال، وهذا ما يسميه ليبنتز بقانون الاستمرار. فليس ثمة تناقض أو اضطراب. أبدأ من المادة الجامدة إلى العقل المفكر تجده طريقا واحدة متصلة يتزايد فيها الإدراك شيئاً فشيئا في تدرج غير محسوس، وسر من النبات إلى الإنسان فسترى انك انما تسلك سبيلا ليس فيها حوائل أو عثرات. بل تعلو بك قليلا حتى تنتهي إلى قمة الجبل دون أن تشعر بالصعود!

ويشير ليبنتنز إلى مراحل ثلاث تجتازها في طريقك من الكائنات الدنيا إلى طبقاتها العليا. فذرات الطبقة السفلى. أي ذرات الجماد والنبات تدرك وكفى. فهي أشبه ما تكون بالأحياء الغافية أو النائمة التي لا يرتفع إدراكها إلى درجة الشعور. والمرتبة التالية لتلك هي ذرات الحيوان، ولها فوق الإدراك ذاكرة. ولكنها لا تسمو إلى درجة العقل، وإدراكها شبيه بالأحلام الغامضة، ثم تجيء الكائنات البشرية فوق تلك المرتبة، وهي التي وهبت عقلا وشعورا بالذات. ويذكر لينتنز ان الله تعالى هو أسمى هذه المراتب جميعا فبينما تراها تتفاوت في إدراكها غموضا ووضوحا، ترى إدراكاته سبحانه وتعالى واضحة كلها.

وليست هذه الذرات مطمئنة إلى مراتبها راضية بمقامها، بل تسعى كل واحدة سعيا متواصلا إلى السمو والارتفاع نحو الكمال لا ترضى به بديلا. فهي دائبة أبداً. لا تدخر وسعا لكي تحقق هذا الكمال الأسمى بانتقالها من مرتبة إلى مرتبة حتى تصل إلى هدفها المنشود، وليس من شك في أن ليبنتنز كان بذلك القول بشيرا بمذهب دارون الذي لا يعدو

ص: 38

جوهره هذا التطور نحو السمو والكمال.

ص: 39

‌في الأدب العربي

ابن خلدون وميكيافيللي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

1.

(ليس على الأمير أن يجزع لما يناله من لوم على تلك الرذائل التي لا يمكن دونها إنقاذ الدولة إلا بصعوبة، ذلك أنه إذا بحث كل شيء بعناية، ألفينا أن شيئا يبدو كالفضيلة، إذا اتبع فإنه يؤدي إلى خرابه (أي الأمير)، وألفينا شيئا آخر يبدو كالرذيلة، إذا اتبع فإنه مع ذلك يؤدي إلى سلامه ورخائه).

2.

(ليس أكثر تبديدا للمال من الجود والبذخ إذ سرعان ما تعجز عن مزاولتهما، وتعدو إما فقيرا أو محتقرا، أو تغدو إذا أردت أن تجتنب الفقر، جشعا مكروها. ويجب على الأمير أن يحرص قبل كل شيء على أن لا يكون محتقرا أو مكروها. وإذن فخير أن يشتهر الأمير بالوضاعة التي تثير اللوم دون بغض من أن يرغم الإنسان من طريق البحث عن الشهرة بالجود، أن يوصم بالجشع الذي يثير اللوم والبغض).

3.

(كان بورجيا يعتبر قاسيا، ومع ذلك فإن قسوته أرضت رومانيا (من الولايات البابوية) ووحدتها، وردت إليها السلام والولاء. ولو تأملت ذلك حق التأمل لرأيت أنه كان أكثر رحمة من الشعب الفلورنسي، الذي أراد أن يتجنب الشهرة بالقسوة فترك بستويا حتى خربت. وإذن فما دام الأمير قادرا على الاحتفاظ لشعبه بالوحدة والولاء، فليس عليه أن يهتم بوصمة القسوة لأنه بذلك يكون أكثر رحمة من أولئك الذي يفرطون في استعمال الرحمة، فتثور القلاقل، ويعقبها القتل والنهب).

4.

(وهنا يبدو سؤال: أخير أن يحب الإنسان من أن يرهب أو يرهب من أن يحب؟ ويمكن أن نجيب بأنه من المرغوب أن يكون الآنسان محبوبا مرهوبا، ولكن ما دام اجتماعهما في شخص واحد غير ممكن، فإنه خير وأكثر سلامة أن يرهب الإنسان من أن يحب إذا وجب أن يتصف بإحدى الصفتين).

5.

(لا يستطيع الأمير العاقل ولا يجب عليه أن يحفظ العهد إذا كان مثل هذا الوفاء قد ينقلب ضده، وإذا لم يبق للأسباب التي حملته على قطعه وجود).

6.

(وإذن فليس من الضروري أن يتصف الأمير بالخلال الحسنة التي ذكرتها، ولكن من

ص: 40

الضروري أن يبدو كأنه يتصف بها. . . ولا يستطيع الأمير، ولا سيما الأمير الجديد، أن يراعي كلالأمور التي يقدر الناس من أجلها، لأنه كثيرا ما يرغم، لكي يحفظ الدولة، على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص، والصداقة، والإنسانية، والدين. وإذن فمن الضروري أن يكون عقله متأهبا ليعمل طبقا لتقلب الريح والحظ).

7.

وقال مشيرا إلى سياسة ملك إسبانيا فرديناند الكاثوليكي ضد المسلمين عقب سقوط غرناطة: (إنه ينتحل الدين دائما عذرا للقيام بأعمال عظيمة، وقد ثابر بقسوة صالحة على إخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وليس ثمة أبدع من هذا العمل وأندر منه).

نستطيع من هذه النماذج الموجزة أن نفهم روح الفلسفة المكيافيللية في تصوير الدولة والأمير. وهي فلسفة تقوم على الحقائق العملية. وتحل هذه الحقائق على رغم جفائها وروعتها المكان الأول في بناء الدولة، وفي سياسة الأمير. فالنفاق والشح والوضاعة، والقسوة والإرهاب، والغدر والنكث بالعهد. وإهدار الإخلاص والصداقة والأمانة والدين، وما إليها مما ينافي المثل الفاضلة وتأباه الأخلاق والإنسانية، ليس مما تنكره الفلسفة المكيافيللية، ولا مما يشين السياسة التي تقوم عليها. ومن ثم كان الأمير أو السياسي الأمثل في نظر مكيافيللي طاغية لجأ في تأييد سلطانه إلى أروع الوسائل وأشنعها مثل البابا اسكندر السادس، وابنه شيزاري بورجيا (دوق فالنتينو). ويتناول مكيافيللي طرفا من حياة شيزاري بورجيا الذي عرفه واتصل به في رسالة خاصة، ويبدي إعجابه بتلك الخطوط والوسائل الدموية التي ابتدعها ودبرها شيزاري للبطش بخصومه من الأمراء والقادة وقتلهم غدراً وغيلة. ومن ثم كان ذلك الطابع الاسود الذي ما يزال يدمغ (السياسة المكيافيللية) إلى عصرنا. بيد أنه من الحق أن يقال أن المفكر الإيطالي يبدي في صوغ فلسفته كثيرا من القوة والبراعة وبعد النظر، وأن هذه النظريات والمبادئ التي قد يحكم عليها من الوجهة النظرية الخالصة، كانت وما زالت على كر العصور قوام السياسات الظافرة، وما تزال إلى يومنا عنوان السياسة العملية القوية.

(2)

يتناول ابن خلدون كما قدمنا موضوع الدولة والملك بإفاضة ويبحثه من نواح أوسع وأبعد مدى، ويتفوق على مكيافيللي تفوقا عظيما في معالجته من الناحية الاجتماعية. ويلتقي

ص: 41

المفكران العظيمان في مواطن كثيرة. مثال ذلك ما يقوله ابن خلدون في فاتحة مقدمته عن قيمة التاريخ في درس أحوال الأمم، ثم أقواله عن آثار البطش والسياسة العاسفة في نفوس الشعب، وعن خلال الأمير وتطرفه أو توسطه فيها، وعن حماية الدولة وأعطيات الجند، وعن منافسة الأمير للرعية في التجارة والكسب؛ وعن تطلع الأمير إلى أموال الناس وأثر ذلك في حقد الشعب عليه، وعن تطرق الخلل إلى الدولة وامتداد يد الجند إلى أموال الرعية، وكذا ما يقوله عن كتبهَ (سكرتارية) السلطان فهذه كلها نقط أو موضوعات يعالجها مكيافيللي أو يقترب منها سواء في كتاب الأمير أو في كتاب آخر له هو (تاريخ فلورنس) تتخلله تأملات فلسفية واجتماعية كثيرة. وقد لا يتفق مكيافيللي مع ابن خلدون دائما في الرأي، أو في منحى التفكير، ولكن كثيرا مما يقوله المفكر العربي يتردد صداه فيما يقول المفكر الإيطالي. فابن خلدون هو بحق أستاذ هذه الدراسة السياسية الاجتماعية التي تناول مكيافيللي بعده بنحو قرن بعض نواحيها؛ وهو بالأخص صاحب الفضل الأول في فهم الظواهر الاجتماعية وفي فهم التاريخ وحوادثه وتعليلها، وترتيب القوانين الاجتماعية عليها بهذا الأسلوب العلمي الفائق.

قال العلامة الاجتماعي جمبلوفتش: (إن فضل السبق يرجع بحق إلى العلامة الاجتماعي العربي (ابن خلدون) فيما يتعلق بهذه النصائح التي أسداها مكيافيللي بعد ذلك بقرن إلى الحكام في كتابه (الأمير). وحتى في هذه الطريقة الجافة لبحث المسائل، وفي صبغتها الواقعية الخشنة، كان من المستطاع أن يكون ابن خلدون نموذجاً للإيطالي البارع الذي لم يعرفه بلا ريب) وقال استفانو كلوزيو مقارناً ابن خلدون بمكيافيللي؛ (إذا كان الفلورنسي العظيم (مكيافيللي) يعلمنا وسائل حكم الناس، فإنه يفعل ذلك كسياسي بعيد النظر، ولكن العلامة التونسي (ابن خلدون) استطاع أن ينفذ إلى الظواهر الاجتماعية كاقتصادي وفيلسوف راسخ، مما يحمل بحق على أن نرى في أثره من سمو النظر ومن النزعة النقدية ما لم يعرفه عصره).

وقد نتساءل أخيرا، هل وقف المفكر الإيطالي على شيء من تراث ابن خلدون واسترشد به، أم وقف على شيء من آثار المفكرين المسلمين قبله في موضوع السياسة الملكية وانتفع بها؟ نعتقد مع العلامة جمبلوفتش أن مكيافيللي لم يعرف حين كتابة (الأمير) شيئا عن ابن

ص: 42

خلدون أو عن آثاره، ولم يعرف من جهة أخرى شيئا من آثار المفكرين المسلمين في موضوعه. صحيح أن بعض نواحي التفكير الإسلامي كانت معروفة في إيطاليا قبل مكيافيللي وفي عصره، وكانت ثمة علائق فكرية قديمة بين مسلمي الأندلس وشمال أفريقية، وبين المجتمعات الفكرية في إيطاليا، وكانت آثار إسلامية كثيرة قد ترجمت يومئذ إلى اللاتينية. ولكنا لا نلمح في أثر مكيافيللي شيئا يدل على أنه عرف ابن خلدون أو أي مفكر مسلم في موضوعه. وإذا كانت ثمة وجوه شبه كثيرة بين المفكرين من حيث فهم التاريخ وتحليله، واستقراء الحوادث، وترتيب القوانين الاجتماعية، فذلك يرجع كما قدمنا إلى تقارب عظيم بين الذهنين، وإلى تماثل في العصر والظروف التي عاش فيهما كل منهما، وإلى تماثل في الخبرة السياسية التي اكتسبها كل منهما بخوض حوادث عصره والاتصال بأمرائه وساسته. وربما يكون ميكافيللي قد عرف شيئاً عن أبن خلدون ومقدمته في أواخر حياته بعد أن وضع كتاب (الأمير) بنحو عشرة أعوام أعني حوالي سنة 1523 أو 1524. ففي ذلك الحين كان الكاتب الأندلسي المنتصر الحسن بن محمد الوزان المعروف بأسم ليو الأفريقي يقيم في رومة ويتجول في المدن الإيطالية الشمالية وهو غرناطي ولد حوالي سنة 1495 م. ونشأ في فاس وتولى لبلاطها بعض المهام السياسية، ثم حج إلى مكة سنة 1516، وعاد بطريق قسطنطينية، وفي أثناء ركوبه البحر إلى المغرب أسّرته عصابة من لصوص البحر الصقليين، فأخذ إلى رومه فنصره البابا بأسم (يوهانس ليو) أو يوحنا الأسد. أنقطع للبحث والتأليف، وألف قاموساً عربياً لاتينياً، وألف كتابه الشهير في وصف أفريقية وترجمه بعد ذلك إلى الإيطالية. وكان في مدينة بولونيا بشمال إيطاليا على مقربة من فلورنس سنة 1524 حسبما يقرر في خاتمة قاموسه اللاتيني، الذي توجد منه نسخة في الاسكوريال. ومن الممكن بل لعله من المرجح أن يكون ابن الوزان قد التقى بمكيافيللي وعرفه في رومه باعتباره علما من أعلام التفكير والكتابة يومئذ. وكان مكيافيللي بالفعل في رومه سنة 1525، قصدها ليرفع كتابه (تاريخ فلورنس) إلى صديقه وحاميه البابا كليمنضوس السابع (جوليا نودي مديتشي) ولو صح هذا اللقاء والتعارف، لكان ثمة مجال للقول بأن مكيافيللي قد وقف على شيء من آثار التفكير الإسلامي التي لا بد أن يكون ابن الوزان قد أذاعها وتحدث عنها بين أصدقائه الإيطاليين، ومن المرجح أن يكون ابن خلدون

ص: 43

في مقدمة المفكرين المسلمين الذين يشملهم مثل هذا الحديث، لا سيما وقد كان صيته ما يزال قويا ذائعا في أفريقية والمغرب حيث نشأ ابن الوزان ودرس، على أنه مهما كان من شأن هذه الفروض، فلسنا نستطيع أن نقول أن مكيافيللي قد انتفع في صوغ فلسفته السياسية والاجتماعية بشيء من آثار التفكير الإسلامي، فلسنا نلمح في كتابه أثراً لهذا التفكير، ومكيافيللي ذهن مبتدع مبتكر بلا ريب، كما كان ابن خلدون ذهنا مبتكراً مبتدعا. وقد شق كلا المفكرين العظيمين طريقه لنفسه، وألهم وحي نفسه، وكان كتاب (الأمير) فتحاً عظيما في تفكير عصر الإحياء الأوربي، كما كانت مقدمة ابن خلدون فتحاً عظيما في التفكير الإسلامي.

ص: 44

‌من طرائف الشعر

مداعبة شوقية لم تنشر

براغيث الدكتور محجوب

براغيثُ محجوبَ لم أنسها

ولم أنس ما طَعِمْت من دمي

تشقُّ خراطيمُها جَوْربي

وتنفذ في اللحم والأعظمُ

وكنتُ إذا الصيف راح احتجم

تُ فجاء الخريف فلم أُحجم

ترحِّب بالضيف فوق الطريق

فباب العيادة فالسلم

قد انتشرتْ جوقة (جوقة)

كما رُشَّت الأرض بالسمسم

وترقص رقص المواسي الحدادِ

على الجلد والعَلَق الأسحم

بواكير تطلع قبل الشتاء

وترفع ألوية الموسم

إذا ما ابن سينا رمى بَلْغَماً

رأيت البراغيث في البلغم

وتُبصرها حول (بيبا) الرئيس

وفي شاربيه وحول الفم

وبين حفائر أسنانه

مع السوس في طلب المطعم

ص: 45

‌العود

وصف دقيق ممتع للشاعر العالم الأستاذ أحمد الزين

// لامستْ في النفس أوتارَ هواها

غادة بالسحر تغزو من غزاها

كلما مست يداها وتراً

حسد الآخر ما مست يداها

تمنح الأوتار كفا رخصة

أشْجت الأوتار من قبل شجاها

ويكاد العود يدمي كفها

قُبَلا لو أن للعود شفاها

لحنها يبعث في ميْت المنى

نضرة العهد ومعسول صباها

خفْقات يخفق القلب لها

هي أنات فؤادي أو صداها

وحنين كاد من رقته

أن يذيب اللحن في العود مياها

وشجون طالما أخفيتها

نفذ العود إليها فحكاها

واستشف النفس عن أسرارها

لم يدع خافية إلا جلاها

صوَّر اللوعة في مكمنها

كيف تخبو ثم يشتد لظاها

ودبيب الحب في أوله

والجوى ملتهبا حين تناهى

وفناء النفس في من هويت

وترى كل وجود في فناها

وشقاء الحب في نعمته

ونعيم النفس فيه بشقاها

ورضا العشاق من أحبابهم

بالتفات أو خيال في كراها

كل هذا نطق العود به

وتناجى هو والنفس شفاها

لغة الأوتار في عجمتها

تقصر الألسن عن درْك مداها

تسعد المحزون في حرقته

وتواسي داءه إن قال آها

ألهم العود بكاء المشتكي

ملهمُ الطير على الأيك بكاها

تحسب الأوتار فاضت أدمعا

وتباريح الجوى أوهت قواها

يا لها من ناحلات أنحلت

من جسوم لاعج الشوق براها

وضعيفات وفيها قوة

تصرع الأسد فلا تحمي حماها

جل من يبعث في الضعف قوى

أخضعت من بقواه يتباهى

كلما شدَّت على أطرافها

أمعنت في النفس بالسحر خطاها

لا تسل سمعيَ عن ألحانها

سبق القلب إليها فوعاها

ص: 46

‌قبلة!

للشاعر المهندس علي محمود طه

قبلة من ثغرك البا

سم دنيا وحياةُ!!

تلتقي الروحانِ فيها

والمنى والصَّبَواتُ

لغة وُحِّدَتِ الأل

سنُ فيها واللغاتُ

وَحْيُها الحبُّ وما تل

همُ تلك النظرات

لغة دان الشتيت الش

مل فيها وتلائم!

وبها الأرواُُ في غي

ر لَجاج تتفاهم

مَنْ تُرى علَّمها بالأم

س حوَّاَء وآدم

لم تَزُلْ جِدَّتُها

وهي حديث يتقادم!

قبلة من ثغرك البا

سم تَنْدَى شفتاهُ

من رحيقٍ لم يُحَرِّمْ

هٌ على الناس الالهُ

كلما أُترعَ منها ال

قلبُ ضَجَّتْ رئتاهُ

مستزيداً وهي إن عُلَّ

بها زادَ صداهُ!

قبلة من ثغرك البا

سم تمحو كلَّ ما بي!

وتُواريني عن النا

س وعن دُنيا العذاب

وتُنَسِّي القلبَ ما جُرِّ

عَ من سُمٍّ وصاب

قبلة تمزج أنفا

سَكَ بالقلب المذاب!

رُبَّ ليلٍ مَرَّ أفني

ناهُ ضمًّا وعناقا

وأدرنا من حديثِ ال

حبِّ خمراً نتساقى

في طريق ضَرَبَ الزهْ

رُ حوإليه نِطاقا

وتجلَّى البدرُ فيه

وصفَا الجوُّ وراقا

ولزمنا الصمتَ إلاَّ

بعيونٍ تتكلمْ

وشفاهٍ عن جراح ال

قلبِ راحتْ تتبسمْ

صِحْتَ بي رُعْباً وما

راعك قلب يتحطمْ

ص: 48

نبَّأتني النفسُ بالبيْ

ن غداً! والنفس تُلْهَمْ

ثم كانَ الغدُ ما نُبئ

تَ هجراً وفراقا

ونسينا قبلةً سا

غَتْ من الأمس مذاقا

غير أناتٍ صحا القل

بُ عليها وأفاقا

فالتقينا وافترقنا

وكأنْ لمْ نتلاقا!!

ص: 49

‌عزلة!

(. . والعزلة مملكة الأفكار). شاتوبريان

للشاعر الدمشقي أنور العطار

وعًزْلةٍ بَرَّةِ الأفْياءِ ساجيةٍ

رفَّافةِ الحُلْمِ تُنْئي كلَّ أتْراحي

طويتُ في صمتها قلباً شجيتُ بهِ

واعتضْتُ عنه بقلبٍ جدِّ مفراح

يَلقى أخو الهم في أظلال دارتها

كوناً بكونٍ وأرواحاً بأرواح

تَغيمُ روحيَ إما ثار هاجسُها

في لامع مثل قرصِ الشمس مُنْداح

غَيبوبة ملؤها الإحسان شاملة

غسيلة بِشَذًى كالعطر نفَّاح

أصوغُ فيها أناشيدي وأجمعُها

من عابقٍ دائم الاطياب مسماح

يا فرحةَ الرُّوح! تحدُوها غيابتها

إلى مطافٍ خصيب الوحي فياح

تنسى به حزَّةً في القلب مُوجعةً

مشطورةً من أسى كالهمِّ ملحاح

كغصةً ثرّة التعذيب جاهدةٍ

في صدر طفلٍ منيع الوِرد ملتاح

فأن يقتر عليها الحظ حصتَها

تظفر بحُبِّ وإيناس وإسجاج

هَناءةُ العُمْر ما انْساغت مناهلها

إلاّ لقلبٍ غنيِّ البِشْرِ، ممراح

مفَضَّض الحُلْمِ مغمورِ الشِّعابِ هوى

أنقى من النُّورِ في أعطافِ إِصباحِ

فاطربْ ولذَّ وَطِرْ نشوانَ من فرحٍ

في عالمٍ خيِّرِ الالهامِ منَّاح

وأغْنَم سوانح دهرٍ، غير وانيةٍ

من قبل يوم عصيِّ البرءِ لواح

ومرْقبٍ في كفافِ الأفْقِ منفَردٍ

كأنه كَهفُ نَسْرٍ جدِّ طماح

أسرى إليه خيالي غير مكتَرِثٍ

لهيكل راجف الأركان طلاح

فعبَّ منه نقيَّ الوحي فانْبَجَسَتْ

أمواههُ من مَعيِنٍ غير ضحضاح

كأنما ظلَّ يهمي فوق صفحَتِه

شُؤْبوبُ غيْثٍ هتونٍ السَّكْبِ سحاح

وروضةٍ حليتها العين وانبسطت

في ظلِّ واد أنيق الوشْيِ رحراح

أنشأت كوخاً على غدرانها بهِجاً

موَشَّحاً بتعاشيبٍ وأوضاح

من كل نَوارةٍ ضحاكة جذلا

وكلِّ زهرٍ نطوف النشر، فواح

وافيتها والمساء الرحْبُ تغمرني

ظلالُهُ بخيالات وأشباح

ص: 50

سجا الأصيل وقد رفت لآلئُهُ

على إطارٍ بهِيِّ اللمح وضاح

وصفَّقَتْ مائساتُ الدَّوْح يؤْنسها

ضحك الجدأول من تلعات أرواح

كأن سرباً من الأطيار يطربني

تنغيمه بنشيدِ جدِّ مصداح

والشمس خابية الأضواءِ، تنشرُها

عجْلي وتجمعها في ركبها الواحي

غابَت وأبقتْ على الآفاق أصبغة

من رسم أروع سامي الصوغ وشَّاح

هذا المساء تجلَّى في مَحفَّته

نهلان من صورٍ كثرٍ وألواح

يزينه شفق حالٍ بأوشحة

من مائج غائم الأرجاء طفَّاح

ما بين خابٍ نؤوم ظله، كمد

وبين ضاح لعوب النور لماح

ترى تطيف به في حلمه ذِكَر

ترف حيناً ويمحو رفها ماح؟

ليت الزمان مساء ملؤه صوَر

علوية الصنع موشيات أفراح!

أطوف فيه بروح كلها لهف

حوامةٍ فوق جنات وأدواح

حتى أعيد أمانيَّ التي غبرت

والدهرُ عنْ مأمَلي سهوان أو صاح!

ص: 51

‌في الزورق

// لست بناسٍ ليلةً

قضَّيتها في زورقِ

البدرُ فيها ماسة

باهرة التألق

والنيل في مضجعهِ

كغادة في جوسق

ينصت في غفوته

إلى حديث الشيق

وللحبيب شَعرٌ

يموج كالإستبرق

يلمسه النسيمُ لم

س المستهام المشفق

دارت أحاديث الهوى

مثل الطلا المعتق

ثم افترقنا غلساً

وبعدها لم نلتق. .

كرمة ابن هاني. حسين شوقي

ص: 52

‌في الأدب الشرقي

جحا في الأدب الفارسي

للدكتور عبد الوهاب عزام

قال في لسان العرب: (وجحا أسم رجل) وقال في القاموس: (وجحا لقب أبي الغصن دجين بن ثابت) وقال شمس الدين بك في قاموس الأعلام: (هو من قبيلة فزارة، يضرب به المثل في الحمق، وكان في الكوفة إبان ثورة أبى مسلم الخراساني. وجحا الرومي كناية عن خواجة نصر الدين).

وقد ذكر ابن النديم في الفهرست كتاب نوادر جحا.

وأما جحا الرومي أو خواجة نصر الدين فيرو أنه كان معاصر حاجي بكتاش، ويقال انه عاش في عصر السلاجقة. وتحكى عنه نوادر كثيرة في التركية كنوادر جحا في العربية. وفي جوار آقشهر مكان غير مسور وله باب عليه قفل كبير يقال انه قبر نصر الدين.

وقد شاعت نوادر جحا في مصر وأفريقيا الشمالية كلها كما شاعت نوادر نصر الدين في تركيا. ونقلت نوادر الرجلين إلى شرقي أوربا وجنوبيها. ففي صقلية وبلاد أخرى حرف أسم جحا إلى جوفا أو وفي بلاد اليونان والصرب ورومانيا حرف أسم نصر الدين خواجة إلى

ولا حاجة إلى الكلام عن نوادر جحا ونصر الدين خواجه في العربية والتركية فهي معروفة ومطبوعة في مصر.

بعض هذه النوادر مروي في الأدب الفارسي في لطائف عبيد الزاكاني الشاعر المعروف، ولكنها لا تنسب إلى جحا، ولا يستطيع من يعرف الزاكاني ولطائفه أن يذكر أسمه دون أن يمتع القارئ ببعض حكاياته:

ذهب رجل من قزوين في جيش لغزو جماعة من الإسماعيلية وكان مع الرجل ترس كبير. فلما قارب قلاع العدو أصاب رأسه حجر فغضب وانصرف. فقال بعض أصحابه: ما خطبك؟ قال يا أخي أنا لا أحارب قوما عميا. كيف يرمون رأسي بالحجر وفي يدي هذا الترس الكبير؟!

وأخرى من لطائف الزاكاني: أن رجلا شاهد آخر يؤذن وهو يجري. قال: ما شأنك؟ قال:

ص: 53

يا أخي إن الناس يزعمون إن صوتي حسن حين يسمع من بعيد. فأردت أن أخبر ذلك بنفسي.

وقد ذكر جحا في شعر الآنوري بأسم جحي (بكسر الحاء):

أز حسد فتح تو خصم تو بي كرداسب

همجو جحى كز خدوك جرخه ما در شكست

(ان خصمك عرقب فرسه غيظا من انتصارك مثل جحى الذي كسر مغزل أمه من الغضب) وذلك أن جحا قص على جلسائه نادرة فلم يضحكوا لها فذهب إلى داره مغضبا فكسر مغزل أمه.

وذكر جحا في مثنوى مولانا جلال الدين بأسم جوحي وذلك في ثلاث نوادر

الأولى في الدفتر الثاني من الكتاب:

مشى صبي في جنازة والده يبكي ويضرب رأسه ويصيح: يا أبت إلى أين تحمل! أتوضع تحت الثرى! انك تحمل إلى دار ضيقة مقفرة ليس فيها سجادة ولا حصير، ولا سراج بالليل، ولا خبز بالنهار، ولا فيها أثر من الطعام ولا رائحة، ولا سقف ولا باب ولا جار مؤنس. كيف بعينيك في دار مظلمة خربة، وقد كانتا مقبل الناس؟ دار مخوفة ومكان ضيق لا يبقى على وجه ولا نضرة.

وظل يعدد أوصاف الدار على هذا النسق، ويذرف من عينه دمعا قانيا. فقال جوحي لأبيه: أيها الأريب! والله إن هذا الميت ليحمل إلى دارنا. قال أبوه: لا تكن أبله. قال يا أبت استمع إلى أوصاف الدار. انها لا ريب صفات دارنا: لا حصير بها، ولا سراج، ولا طعام، ولا فناء، ولا سطح، ولا باب!

النادرة الثانية في الدفتر الخامس من المثنوي فيقرأها فيه من يعرف الفارسية فليس يجمل أن تذكر هنا.

وخلاصة الثالثة: أن جحا ألح عليه الفقر فأوعز إلى امرأته أن تشكوه إلى القاضي وتستدرجه إلى بيتها. فرفعت أمرها إلى القاضي وأفاضت في بيان ظلامتها. ثم سألت القاضي أن يزورها في دارها لتحدثه في أمرها. وجاء القاضي إلى الدار فجاء زوجها فأظهرت الخوف وهولت على القاضي الأمر حتى اختبأ في صندوق. ويدخل جحا فيقول قد عزمت على إحراق هذا الصندوق فان الناس يحسبونه مملوءا ذهبا، سأخرجه غداً فأحرقه

ص: 54

على أعين الناس. ولما أصبح دعا حمالا فحمله الصندوق وسار وراءه. فنادى القاضي الحمال؛ والحمال لا يدري من أين يسمع الصوت حتى عرف أنه صوت رجل في الصندوق، فسأله القاضي أن يرسل إلى وكيله ليشتري الصندوق. وجاء الوكيل فسأل عن الثمن. قال جحا: ألف دينار فلما تردد الوكيل عرض جحا أن يفتح له الصندوق ليعلم أنه جدير بهذا الثمن. وانتهيا إلى الاتفاق على مائة دينار فنقدها الوكيل وأخذ الصندوق. وبعد سنة احتاج جحا إلى المال مرة أخرى فأوحى إلى زوجه أن تعيد الحيلة مع القاضي فذهبت ترفع إليه ظلامتها من زوجها، ووكلت امرأة أخرى في الكلام حتى لا يعرف صوتها، فأمرها القاضي أن تحضر المدعي عليه، فلما جاء جحا قال القاضي: لماذا لا تنفق على امرأتك ما يكفيها؟ قال إني فقير لا أملك حتى ثمن الكفن إن حظرني الموت. فقال القاضي، وقد عرفه: نعم لقد لعبت معي عام أول فربحت، وهذه نوبتي في الربح. فإن شئت فالعب مع من تشاء ودع اللعب معي.

وقد اثبت جلال الدين هذه النوادر في شرح آرائه الصوفية والأخلاقية كدأبه في ضرب الأمثال والذهاب بقارئه كل مذهب.

في جامع الحكايات لحبيب الله الكاشاني، الحكايات الثلاث التي في المنتوي، وأربع أخرى من نوادر جحا. أترجم منها واحدة:

جاء جحا يوما إلى شاطئ دجلة فرأى بعض العميان يريدون أن يعبروا النهر. فقال ماذا تجعلون لي إن أبلغتكم الشاطئ الآخر: قالوا: يعطيك كل منا عشر جوزات، قال: ليمسك كل منكم بحزام الآخر، وليمسك أولكم بيدي. فلما توسطوا النهر اشتد التيار فذهب بواحد منهم. فصاحوا: ذهب أحدنا يا جحا! قال الآن خسرت عشر جوزات! ثم ذهب التيار بآخر فصاحوا جزعين: وآخر ذهب به الماء! قال يا ويلتا ذهب من يدي عشرون جوزة! وذهب الماء بالثالث فصاحوا: سنغرق جميعا: قال جحا: وما يعنيكم أيها الحمقى! إنما الخسارة علي! أنا الذي أخسر بكل غريق عشر جوزات.

وأخرى من نوادر جوحي في الباب الثالث من كتاب بهارستان لعبد الرحمن الجامي:

كان لرجل على جوحي مائة درهم، فرفع الأمر إلى القاضي فسأله ألك شاهد؟ قال: لا. قال القاضي لجحا فاحلف له. قال المدعي أنه لا يبالي باليمين. فقال جوحي: يا قاضي

ص: 55

المسلمين: إن لم يثق بيميني ففي مسجدنا إمام تقي صادق القول حسن السيرة فابعث إليه وحلفه مكاني ليطمئن هذا المدعي!

ص: 56

‌العُلوم

آراء وأنباء

للدكتور أحمد زكي

المزاج التجريبي:

جمعتني المصادفة في بلد ناء بخبير في اللاسلكي أجنبي، وفي إبان المجلس عرض عليه موظف مصري كبير مشروع نظام للإذاعة اللاسلكية يراد أتباعه في مصر حينما تتم المحطة المصرية الموعودة في يناير القادم. وكان المشروع طويلا عريضا كثير التفاصيل دقيق الأجزاء كثير الفروض، كثير الردود، معجبا في انسجامه، مقنعا في تلاوته، ولا شك أن كاتبه استغرق في مكتبه ساعات عديدة لتدبيره، واستهلك كثيرا من الورق والحبر قبل الانتهاء على صيغته الأخيرة. ولما فرغ صاحبنا المصري من عرضه سأل الخبير رأيه فيه وعن القدر الذي يتاح له من النجاح، فسكت الخبير هنيهة ثم قال: ابدءوا بعشر هذا فستجدون أن معالجة هذا العشر الأول سترسم لكم الطريق إلى معالجة التسعة الأعشار الباقية. لا أدري إن كان خبيرنا المذكور تثقف بثقافة علمية خاصة ولكن الذي أدريه أن عقليته لا شك علمية ورأيه الذي ارتآه صدر عن نفسية مزاجها تجريبي، والمزاج التجريبي وليد المران العلمي. فالعلم يتشكك في كل ما ينتج عن الفكرة الخالصة وعن نشاط الفكر البحت الذي لا يتعدى حدود الجمجمة. والعالِم الحديث كالسفسطائي القديم في فقدانه الثقة بالمنطق الصرف باعتباره أداة كافية لكشف الحقيقة. والعالِم الحديث يبالي بالنتيجة العملية أولا فإن فسرتها النظرية فقد حصل توافق محمود، وإن كان خصام فالنظرية مخصومة مرفوضة. وكثيرا ما تجد هذا المزاج التجريبي في رجال ليس العلم صناعةً لهم، فتجده في التجار وأرباب الصناعة وفي الساسة، وقد يكون طابعا خاصا في أمة، وقد وجدته في الأمة الإنجليزية طابعا لها، لا سيما في رجال تثقفوا بثقافة خاصة كثقافة كمبردج أو أكسفورد، والخبير الأجنبي المذكور من هؤلاء. ولو أنك عرضت هذا المشروع اللاسلكي المنمَّق على مصري ذي ثقافة قاهرية لكان سريعا إلى نقده ونقاشه بكل ما وهب من مزاج نظري ومقدرة فائقة في التخريج المنطقي، ولحَسب بعد الفراغ أنه أتى بنتاج صائب لا يأتيه

ص: 57

الباطل من أي جوانبه، إذا هو طبق ونفِّذ فلن تجرؤ قوانين الطبيعة ولا سنن المجتمع أن تعترضه أو تخالفه. ولقد لبسنا معشر المصريين هذا المزاج النظري ضيّقا لِصق أجسامنا حتى ليصعب علينا خلعه، حتى بعض الذين تدرَّبوا منا تدربا علميا خاصا يميل بهم هذا المزاج حيناً فينسون التجربة وخطرها في أمور العلم وأمور الحياة. قص لي صديق عالم مصري أختصه الله من بين العلماء بنعمة الثراء لسر لا يعلمه سواه، فكانت له أرض واسعة مرضت فأتعبه تسميدها فذهب إلى خبير مصري عالم في السماد فسأله رأيه، وبعد أخذ ورد وفحص وصف له الدواء، فذهب صديقنا إلى أرضه بسن ضاحك ورجاء وافر، ولكنه بعد فترة التجربة عاد إلى صاحبه السَّماد بوجه كاشر وأمل خائب، فسأله أعندك أرض، قال لا، قال نصيحتي للدولة أن تفصل من خدمتها كل سمَّاد لا أرض له ثم تولَّى. فقلت لصاحبي لقد كان أقرب إلى الإنصاف وأدنى إلى الإحسان أن تتمنى على الدولة أن تهب أرضا لكل سمَّاد لا أرض له. فنسى صاحبي الأرض وابتسم راضيا عن هذا الحل الموفق.

سفينة في معمل:

والحق أن هناك وجها قد يخفي حتى على من يقضون أصباحهم وأمسائهم في المعامل، فإن تجربة المعمل محدودة وأوجه الشبه التي بينها وبين ظاهرة طبيعية تحدث في العراء الواسع قد تكون قليلة مبتورة، فقد تكون في تجربة المعمل صفات ُمنجحة لا تكون في الطبيعة، وقد تكون فيها صفات مخيِّبة ليست في الطبيعة، وقد يكون في الطبيعة ما ليس في تجربة المعمل، وليس من الهين كل حين إدراك هذه الفروق في الصفات ولا سيما في شئون الحياة ومناطق العرفان التي لا يزال العلم يمشي فيها بخطى محذورة ثقيلة، مستهديا في حُلكتها الكثيفة بفتيل ضئيل من زيت قنديل. وكثيرا ما أدرك العلماء هذه الحقيقة إدراكا قويا خرج بهم عن حدود العمل المعروفة وعن طرائقه المألوفة. مثال ذلك أن التفاح من أكثر الفواكه عبرا للمحيطات، وأطولها سفرا وأكثرها اختلافا بين مناطق الأرض الباردة والحارة، فكانت تتلف منه في تلك الأسفار مقادير هائلة، ففحصوا أسباب هذا التلف فاهتدوا إلى أن من أسبابه الحرارة التي تكون في قاع السفينة ولا سيما في الأقطار الاستوائية، فكان من ذلك أن أودعوه مخازن بالسفينة تبرد تبريدا صناعيا طول السفرة. ثم ارتأوا بعد

ص: 58

ذلك أن الهواء المحبوس سبب قوي في الفساد الحادث، وإن التفاحة تحيا خلاياها وتموت، فهي مثلي ومثلك في حاجة إلى الأكسجين النقي لتبقى حية صالحة، وكذلك في حاجة إلى شيء من الضياء. فمهدوا للتفاح المسافر وسائل الحياة والترف احتفاظا بحيويته، فنقص مقدار العادم إلى نسبة قليلة هي خمسة في المائة. ولكن التفاح تبلغ التصديرة الواحدة منه ثلاثة الملايين من الصناديق. فالخسارة في هذه وحدها تبلغ مائة وخمسين ألف صندوق. من أجل هذا اعتزم معهد الأبحاث بـ (إيست مالنج) بمقاطعة (كنت) بإنجلترا أن يقوم بدراسة حاسمة لا هوادة فيها لخلاص تلك البقية الباقية من العدم. (وإيست مالنج) محطة لبحث النبات عالمية لها معامل واسعة تبلغ المائة من الفدادين، ولها في تربية النبات وانتقاء جذور الأشجار ولا سيما أشجار الفواكه سمعة واسعة، وهي فوق ذلك غنية قادرة، فأرادت أن تلم بكل الظروف المحيطة بالتفاح أثناء سفره، فابتنت في معاملها ما يشبه السفينة، وأقامت فيها كل ما يقوم في السفينة، وجهزتها بجهاز يزيد في حرارتها أو ينقصها حسب المراد، وأتت بحمولة التفاح فأودعتها عنبر (السفينة) وأودعت بين صناديق (البضاعة المسافرة) مائتي وخمسين ترمومترا لرصد الحرارة، وبما أن العنبر سيظل مغلقا طيلة (السفرة) فقد وصلوا الترمومترات بأسلاك كهربائية ليستطيعوا رصد الحرارة من بعيد وبخاصة إذا هاج (البحر) نعم إذا هاج البحر فإنهم أحاطوا السفينة بأكياس منفوخة بالهواء تعوم فيها عومها في الماء، وأقاموا على الأكياس آلات دافعات جاذبات تحرك السفينة مثل حركتها بين الأمواج المصطخبة والرياح العاصفة، أو من أثر التيارات الخبيئة تحت سطح البحر الهادئ. وكان هذا الجهد وكل تلك النفقة حرصا على أن تمثل تجربة المعمل تجربة المحيط بحذافيرها وحتى لا يفلت حذفور غير منظور قد يكون له خطره في النتيجة الحاصلة. ولا يزال القوامون على هذه التجربة قائمين فيها، صكوا أبواب العنبر على التفاح وتدرجوا في رفع حرارته وبدلوا له الهواء إلى غير ذلك من أمور، وأهاجوا عليه (البحر) حينا وهدءوه حينا، وستصل البضاعة في يناير القادم إلى غايتها، وعندئذ يفتح العنبر وتمتحن البضاعة. ثم تشحن السفينة بضاعة جديدة وترحل رحلة جديدة تحت ظروف جديدة، وهكذا حتى يصل التفاح إلى مقره الأخير سليما كله من كل عطب، وعندئذ تتعين الشرائط التي لا بد منها لسلامته، وعندئذ يهدم هذا الهيكل الكبير ويباع حطاما

ص: 59

رخيصا وسلعة بائرة بعد أن يكون قد أكسب الإنسان سراً من أسرار الطبيعة قد يكون في ذاته هيّنا في العلم، إلا أنه في الاقتصاد خطير، فهو يرد إلى الإنسانية على مر السنين ملايين الجنيهات، وهذه بدورها تمثل طاقة إنسانية تنفق في الزرع والجني وتعهد النبات، وطاقة أخرى طبيعية مما بذلته الأرض من عناصرها والهواء من غازه والشمس من أشعتها، طاقات يعزّ على العلم والعلماء أن يروها تهدر هكذا كاللبن الصبيب والدم المسكوب.

روعة في البرتغال:

في ليلة اليوم التاسع من أكتوبر في بلاد البرتغال تساقطت من السماء السوداء رجوم بيضاء بلغت الملايين فروّعت الناس كأنهم حسبوا أن عقود السماء انفطرت فأخذت النجوم تهوي بغير حساب. وهذه ظاهرة كانت منتظرة في هذا العام الذي نحن فيه وقد تكرر إلى ختام العام.

أما سببها فالمذنَّب المعروف بمذنب (تمبل) وهو من مذنبات أسرة الكوكب السيار (أورانوس) وهذا المذنب يطوف حول الشمس في مسار بيضاوي متطاول يقطعه في ثلث قرن، وبما أنه لا يطوف في دائرة نجده في ساعة ما من سنة ما في موضع أقرب ما يكون من الشمس، ثم نجده بعد هذه الساعة بسدس قرن قد حل أبعد مواضعه منها. ثم ينصرم سدس قرن فإذا به في موضعه الأول الأدنى من الشمس، أعني الأدنى من الأرض، فهو باقترابه من الشمس يقترب منا، وهو كالمذنبات يجر وراءه ذيلا من غاز وتراب وأجسام صلبة منها الكبير ومنها الصغير. والمذنب وذنبه يسيران في الفضاء بسرعة هائلة. فإذا مس هذا المذنب بمادته هواء أرضنا بتلك السرعة المروعة احتك به فاحترق فتكونت من ذلك الشهب التي نراها. وقد أدرك هذا المذنب الأرض ورأى الرقباء شهبه في أكتوبر أو نوفمبر من أعوام 902 و934 و1002 و1101 و1202 و1366 و1533 و1602 و1698 و1799 و1833 و1866 و1901. وتجد بامتحان تلك الأرقام أن الفترات بلغت ثلث قرن أو ثلثين أو قرنا بتمامه، وقد فات الرقباء لا شك ظهور هذا المذنب في السنوات الساقطة من سلسلة السنوات المذكورة. أو لعل الأصح أن نقول أن الذي فاتهم إنما هو رؤية الشهب التي تظهر عنه فتدل عليه، فالمذنب نفسه صغير لا تراه العين أكتشفه مكتشفه

ص: 60

بالتلسكوب عام 1866، وعندئذ، وعندئذ فقط، دُرس هذا المذنب ودرست دورته ودرس زمنها وانكشفت العلاقة بينه وبين شهب سجّل التاريخ حدوثها في الأزمان الخوالي. ومنذ حل عام 1930 والعلماء في ارتقاب الرسول الوافد، رسول العلم، رسول الإيمان في حسابات الرياضة وقواعد الفيزياء، رسول الثقة في العقل البشري بنَّاء لقواعد الإيمان النفسي، وقد أتى الرسول وألقى برسالته، فوقعت هذا العام في البرتغال فارتاع لها الجهال. وقديما خاف الناس الشهب وراعتهم المذنبات. أليس أبو تمام يقول:

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة

إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب

وصيروا الأبْرُج العليا مرتبة

ما كان منقلبا أو غير منقلب

تخرصاً وأحاديثاً ملفقة

ليست بنبع إذا عدت ولا غرب

ليت شعري أي مذنب كان هذا؟ وفي أي سنة ميلادية بالضبط كان؟ وهل هو مما سجله علماء الفلك؟ وهل في حسبان تاريخه التقريبي نفع؟

جماد يبصر حيث تعمى العين

نزلت في الصيف الماضي بضيعة من ضياع الريف بإنجلترا في دار رجل طيب الخلق سمح كريم إلا أنه شديد على كل من مس ماله وثروته، كان يذكر ذلك ويفخر به ويعلله بأنه كسب ما كسب من عرق جبينه، لا عرق جبين والد أو عم. لذلك أغمه وأهمه ونحن نزول عنده أن لصا ماكرا لحوحا ألح على بيت للدجاج له يقع بعيدا عن الدار فكان يحمل منه كل ما وجد به من البيض، وغاظ صاحبنا منه أمران، أولهما أنه كان يختلف إلى بيت الدجاج والشمس في السماء ومع هذا يفلت، وثانيهما أنه كان يلبس حذاء من قش حذَرَ أن تنطبع قدمه في الأرض فتدل عليه. وفي ذات يوم ونحن جلوس إلى المائدة يحدثنا صاحبنا الريفي للمرة العاشرة عن السارق ويشكو، إذا بأساريره تُبرق وعينه تلمع وأسنانه تتحرّق تحرق المغيظ جاءه النصر على غير انتظار. فسألناه عن خطبه، فقال فخ سأنصبه للوغد، وعن قريب تسمعون عن رقم قياسي للبيض سيدفعه هذا الكلب النذل عن كل بيضة سرقها. وفي ذات مساء والشمس تغيب والمطر رذاذ كنتُ عند الباب الخلفي للدار أتفقد السماء، فلمحت صاحبنا يهرول من بعيد، قد انكشفت نواجذه بابتسامة عريضة، وتأبط شيئا صغيرا ملفوفا في جريدة. فلما اقترب سألته عما جرى فقال صدت السارق، فقلت فأين هو؟ قال هنا،

ص: 61

وأشار إلى الصندوق الذي تحت إبطه، ثم سألني أتعرف تحميض الصور؟ قلت نعم، قال فهلم إلى معونتي فخبرتي بذلك قديمة منسية. وما كادت تظهر الصورة السالبة على لوح الزجاج الأسود حتى اختطفها يحملق فيها وكأنه تبين ملامح السارق. ولم يُضْح صباح اليوم التالي حتى كان اللص في دار الشرطة ولم يسعه وقد واجهوه بالصورة الا الاعتراف. وخلاصة الأمر أن صاحبنا الفلاح خبأ الكاميرا داخل بيت الدجاج ووصلها بسلك بالباب. وكانت في مواجهة الداخل، فلما دخل اللص فتح الباب فانكشفت العدسة فارتسم المنظر فكانت شهادة لجماد لا تعد لها شهادة الأحياء.

خطر لي بعد هذا الحادث أن مضيفنا كان لا شك رجلا فطنا، وأن صاحبنا اللص كان على حيلته غبيا لأنه خالف عرف اللصوص فزار البيت نهارا، وسألت نفسي وماذا كانت الحيلة لو أنه زار الدار ليلا، وأخذت أداور حلولا في رأسي للتسلية. ثم انتقل فكري من هذا كله حتى كان هذا الاسبوع فوجدت سؤالي يجاب في بعض أنباء العالم، ذلك أن رجلا استخدم لالتقاط الصورة في الظلام مصباحا كهربائيا يشع بالنور البنفسجي المعروف، إلا أنه استبدل بزجاجة المصباح الشفافة زجاجة خاصة سوداء تحجب من الضوء البنفسجي كل إشعاعات الطيف المرئي وهي الشعاعات التي تحسها عين الآنسان وبها تبصر، ولكنها لا تحبس ما فوق تلك من إشعاعات كيميائية تؤثر في الأفلام الفوتغرافية، فأنت إذا نظرت مثل هذا المصباح في حجرة مظلمة فأنت لا تراه، ولكن إذا كان بيدك كاميرا ففتحتها ارتسمت فيها صورته وارتسم كذلك المكان. فلو أن لصا زار بيت الدجاج ليلا وكان به مصباح كالذي نحن بصدده لما أفادته الظلمة شيئا. وإلى جانب هذه الصورة أخذت في الليل بهذه الطريقة، بها السيدة تمثل اللص وإلى جانبها المصباح رأته الكاميرا وضّاءً برغم سواده في العين.

ص: 62

‌القصَص

الجورب الوردي

للقصصي الروسي تشيكوف

أخذ السحاب الجون يتكاثف حتى حجب السماء، وطبق الأرض، وأرسل المطر هتانة، حتى أصبح إقلاعه بعيداً أمده. فجاء اليوم عابس الوجه. لا ترى في أرضه غير البرد الساقط، وطير الزاغ ويبلله القطر، وفي داخل المنازل امتد غبش الليل واشتد قارس البرد حتى أمسيت تشعر بالحاجة الشديدة لحرارة المدفئة.

كان بافيل بتروفيتش سوموف يروح ويغدو في مكتبه متأففا من الجو متبرما به، فسفعات المطر للنوافذ والظلام الشامل للغرفة حملاه على الاستياء الشديد والتذمر المر، ولقد كان ضجره لا يحتمل وما كان في يديه ما يشغله. . فالجريدة لم تصل إليه حتى الساعة والصيد متعذر حصوله، صعب بلوغه، وما كان الوقت وقت عشاء.

لم يكن سوموف وحيداً في غرفة عمله، فقد جلست إلى مكتبه مدام سوموف وهي حسناء نحيلة في غلالة بيضاء وجورب وردي، وكانت منهمكة في تحبير رسالة، وكان إيفان بتروفيتش عندما يحاذيها في جيئته وذهابه ينظر من وراء كتفيها ما تكتب فيرى حروفا كبيرة ودقيقة وضيقة منمقة غاية التنميق! لها ذيول وبها كثير جدا من الطمس والمسح والتلويث وأثر الأصابع، وكانت مدام سوموف لا تحب الورق المسطر، وكل سطر تكتبه ينحدر بتعرجات قبيحة حتى ينتهي إلى الهامش.

سأل سوموف زوجه حين رآها تبدأ الكتابة في الصفحة السادسة (لمن تكتبين مثل هذه الرسالة الضافية يا ليدوتشكا؟)

- إلى الأخت فاريا

- أوه!. . خطاب مسهب. . أنني ضجر. . دعيني أقرأه

- لك أن تقرأه. . بيد أنه لا يلذك

تناول سوموف الصفحات المكتوبة وهو يذرع أرض الغرفة وأخذ يقرأ. .

ارتفقت ليدوتشكا على ظهر كرسيها وجعلت ترقب ما على وجهه من تعابير. . استطال وجهه بعد الصفحة الأولى وظهرت عليه ملامح الرعب!! وفي الصفحة الثالثة قطب جبينه

ص: 63

وحك مؤخر رأسه، وفي الصفحة الرابعة أمسك عن القراءة ونظر بوجه المرتاع إلى زوجه. . وتظاهر بالتأمل. وبعد تفكير قليل تنأول الرسالة ثانية وهو يتأوه وعلى وجهه أثر الارتباك والحيرة ثم الأرجاف والفزع.

لما فرغ من قراءة الرسالة قال متمتما: (حسن!. . هذا لا يجوز! ورمى بالأوراق على المكتب، هذا لا يصدق، ما في ذلك ريب. . .).

فسألته ليدوتشكا وقد امتقع لونها: ما الخبر؟

- ما الخبر؟ تملئين صفحات ستا وتمضين ساعتين في خرفشة لا معنى لها ولا طائل تحتها. . . ولا شيء فيها بالمرة. . آه لو كان بها ولو فكرة ضئيلة! يقرأ المرء ثم يقرأ وفكره مشوش، وذهنه مضطرب كأنما يفك أغلاقا صينية عن صناديق شاي! أوه!

قالت ليدوتشكا وقد ضرج وجهها الحياء: هذا صحيح يا فانا. . كتبته دون عناية

- أجابها: إهمال زائد عن الحد. . ففي رسالة غير منمقة ولا محبرة. . . معان وأسلوب. . وإحساس، أما رسالتك فسامحيني، ان قلت لك بأني لا أتذوق لها طعما. . جمل وكلمات لا إحساس فيها ولا معنى لها. خطابك جميعه. . كمحادثة بين صبيين (عندنا عجة اليوم. . جاء جندي ليرانا. .) انك تكررين المعنى الغث البارد، لك أن تريه وتعيديه بنفسك. أما الفكرة السخيفة فترقص بين السطور كالشياطين ولا حد عندك للبدء من النهاية. . كيف تكتبين هكذا؟

قالت ليدوتشكا تدافع عن نفسها: إذا كنت أكتب بتجويد وعناية. . لا يمكن أن تكون هناك غلطات.

فأجابها زوجها: إنني لا أتكلم عن الأخطاء. . الأخطاء النحوية المروعة. لا يوجد سطر لا يعد إهانة شخصية للنحو. لا وقف ولا علامات ولا هجاء! إنه يأس مريع! إنني لا أمزح يا ليدا فأنا مروع فزع من رسالتك، لا تحزني يا عزيزتي فما كنت أظن في الواقع أنك تجهلين النحو هكذا. . . مع أنك تنتمين إلى بيئة مثقفة ودرجت في بيت علم. فأنت زوجة رجل جامعي وابنة قائد. قولي لي أذهبت إلى المدرسة؟

- نعم لقد تعلمت في مدرسة فون مبكي الداخلية.

فهز سوموف كتفيه واستمر في مشيته متأوها. . . أما ليدوتشكا العالمة بجهلها فتنهدت ثم

ص: 64

نكست رأسها. مرت عليهما دقائق عشر ما نطقا فيها بحرف.

وقف سوموف فجأة أمامها ونظر إلى وجهها برعب وقال: إنك تعرفين يا ليدوتشكا أن الأمر جد! أنك أم!. . . أتفهمين؟. . أم!. . كيف تعلمين بنيك إذا كنت لا تفهمين شيئا؟ أنك ذات عقلية خصبة وذهنية نيرة. . . ولكن ما جدوى ذلك إذا كنت تجهلين كل شيء. فلا تعرفين شيئا من الآداب ولا من العلوم على أننا سنغض النظر عن المعارف، لأن الأطفال سيتعلمون ذلك في المدرسة، ولكنك تعرفين ضعفك في الأدب وبلادتك فيه، تستعملين في بعض الاحيان لغة تجعل أذني في طنين!

ثم هز سوموف كتفيه مرة أخرى وجمع إليه ثوبه واستمر في سيره. . . شاعرا بالغيظ والحنق، وفي الوقت نفسه آسفا على ليدوتشكا التي لم تحتج ولم تعترض، ولكنها اكتفت بأن ترمقه من طرف خفي. وأحسا معا بالضيق الجاثم على قلبيهما، والهم المتمكن من نفسيهما، حتى أذهلهما الحزن عن كل شيء فلم يدريا كيف مر الزمن وكيف قربت ساعة العشاء.

ولما جلسا للطعام شرب سوموف المولع بالطعام الشهي الهني قدحا كبيرا من الفودكا وشقق الحديث فأداره على وجوه أخر. وكانت ليدوتشكا تسمع لما يقول مسلمة راضية. بيد أنها وهي تشرب الحساء أخضلت عيونها بالدمع ثم خنقتها العبرات.

فنهنهت دمعها بمنديل وقالت: (إنها غلطة والدتي! نصحها جميع الناس بإرسالي إلى مدرسة عالية، ومن هناك كنت على يقين من ذهابي إلى الجامعة).

فتمتم سوموف (الجامعة!. . . مدرسة عالية!. هذا كثير يا بنيتي! ما الفائدة من أن تكوني احدى ذوات الجورب الأزرق! الجورب الأزرق هو الشيطان الرجيم في نار الجحيم!! لا يمسي صاحبه رجلا ولا امرأة، وإنما يكون شيئا بين بين، أني أبغض من كل قلبي الجوارب الزرقاء. . . ولن أتزوج امرأة متعلمة).

فأجابته ليدوتشكا! لا أدري كيف أفهمك؟ تغضب لأني لست متعلمة وفي الوقت نفسه تكره النساء المتعلمات! لقد تنكرت لي وسخرت بي لأن رسالتي كانت خلوا من كل فكرة، فارغة من كل معنى، ومع هذا فأنت تعارض في دراستي ولا تستحسن تعلمي.

- لقد أصبت شاكلة السداد يا عزيزتي. قال هذا سوموف وهو يتثاءب ثم ملأ قدحا آخر من الفودكا.

ص: 65

تحت تأثير الفودكا والطعام الجيد أصبح سوموف أكثر رقة ودماثة. أخذ يرقب باهتمام زائد زوجه الحسناء وهي تعمل التوابل. فغمره فيض من الحنان المحض والحب الشديد، ودفعته عاطفة ملحة إلى النسيان والتسامح، ثم أخذ يحدث نفسه ويلومها: إنها غباوة مني أن أغضب هذه الفتاة المسكينة! ما الذي حملني على الجهر بكل هذه الأشياء الجارحة. إنها غبية، ذلك حق. . غير مثقفة. . سطحية. . بيد إن للمسألة وجهين. . . . . .

(والوجه الآخر مفهوم.). . . . ربما يكون الناس على حق عندما يقولون أن سطحية المرأة ترجع إلى حرفتها. ومن المسلم به أن من عملها أن تحب زوجها وتربي أطفالها، ثم تصنع التوابل!! فما الذي ترجوه من التعليم؟ لا شيء على التحقيق.

وهنا ذكر أن النساء المتعلمات غالبا مملات يبعثن الضجر والسأم في النفس، ثم هن دقيقات صارمات عنيدات. ولكن ما أيسر توفيقك مع الغبية ليدوتشكا التي لا تشمخ بأنفها. . ولا تصعر خدها ولا تفهم كثيرا. . . أنه السلام والراحة مع ليدوتشكا ولا خطر منها على المرء أبدا:(لعنة الله على أولئك النسوة البارعات المتعلمات! ولخير للمرء وأحسن عقبى أن يعيش مع الساذجات منهن). ثم دار بخلده وهو يتناول صحنا من لحم الفروج من ليدوتشكا أنه في بعض الاحيان قد يشعر الرجل المثقف بالرغبة الشديدة في الحديث ومبادلة الأفكار مع امرأة حاذقة كاملة التعليم. ولكنه قال: (ما هذا) إذا رغبت في التحدث عن موضوعات عقلية. . . فسأذهب إلى (ناتالا أندريفنا) أو إلى (ماريا فرانتسوفنا)، هذا سهل جدا. . . ولكن لا. لن أذهب فالمرء يستطيع البحث فيالأمور العقلية مع الرجال. ثم قطع بهذا أخيراً!!!

محمود البدوي

ص: 66

‌الشاعر روبنيول

كوميدية في فصل واحد

للكاتب الفرنسي بول برولا

قلت للشاعر والشا

عر ذو سهم يطيش

أنت إن عشت تمت جو

عا وإن مت تعيش

جميل صدقي الزهاوي

(المنظر: ساحة قرية سانجان ديفين الوحيدة. يرتفع الستار فترى حركة غير عادية فالأهلون يتأهبون للاحتفال برفع الستار عن تمثال نصفي من المرمر للشاعر فرنسوا روبنيول الذي اختفى في أوائل الحرب الكبرى واعتقد الناس أنه ميت. يرى التمثال وسط الساحة وقد قام على قاعدة حفر عليها أسم الشاعر وتاريخا ميلاده وموته، وعلى جدار أحد المنازل كتب بحروف بارزة التنبيه الآتي: (ممنوع وقوف السابلة) ثم يرى خفير القرية مشغولاً بترتيب المقاعد حول النصب التذكاري استعدادا للحفلة. جموع من العمال والفلاحين والملاك والنساء والأطفال وبعض رجال المطافئ وأحد الشرطة).

المشهد الأول

العمدة. وكيل العمدة

العمدة - (مشرقا من الغبطة) أخيراً حل اليوم السعيد! كاد يفرغ صبرنا ونحن نتعجل هذه الساعة المجيدة!

الوكيل - كل هذا صنع يدك يا سيدي العمدة!. . لقد شاهدتك عن كثب ورأيت بعيني المتاعب الجمة التي تحملتها وحدك لتحتفل بهذا النصب التذكاري!

العمدة - فعلا كدت أرزح من التعب يا وكيلي العزيز وشريكي الفاضل في تهيئة هذا المهرجان الأدبي العظيم. . .

الوكيل - (متواضعا) أوه! شريكك! إن طيبتك الفطرية يا سيدي العمدة لتغالي في تقدير ما قمت به!. . . إني لم أجازف بأكثر من معاونتك و. . .

العمدة - (مقاطعا) حسن! حسن!. . آه يا صديقي. لقد أدرك الكل أخيراً أننا نحمل في

ص: 67

أعناقنا هذه الدية المقدسة نحو ذكرى شاعرنا الكبير فرنسوا روبنيول، مجد قريتنا الخالدة سانجان ديفين!. . . بفضل أشعاره الرائعة لم نعد مجهولين بين مواطنينا في أنحاء فرنسا! جميع صحف العاصمة تتحدث عنا وهي تمجد عبقرية فرنسوا روبنيول!. . .

الوكيل - (ينظر في ساعته) الساعة الآن الثانية والنصف وقد تقرر ميعاد الحفلة في الثالثة!. . . حضر وكيل المديرية ولم نعد ننتظر غير حضرة النائب المحترم الذي سيجيء خصيصا من باريس.

العمدة - آه! نعم! حدثني عن حضرة النائب المحترم! تصور يا صديقي أنه لم يكن قد سمع بفرنسوا روبنيول قبل الآن! أما اليوم فهو يشيع في كل مكان أنه أول من اكتشفه!. . .

الوكيل (ضاحكا) لم يفطن أحد إليه ولم يكن بين سكان القرية من يؤمن برسالته!.

العمدة - تخطيء يا صاحبي تخطيء!. . أنا، لم أشك لحطة واحدة في نبوغه!. . نعم، أعرف أنهم كانوا يذيعون عنه (في حياته) أن به مساً من الجنون لقرضه الشعر. . وكان ذلك مدعاة للسخرية منه والهزء به، ولكني الوحيد الذي اكتشف عبقريته الوليدة!

الوكيل - يا لروبنيول المسكين!. من كان يظن أنه سيصبح شهيراً. . بعد موته!. . من كان يتصور أن يقام له تمثال في القرية وأن يطلق أسمه على أهم شوارعها!؟. .

العمدة - في لهجة (خطيرة) انا نتدارك اليوم خطأ فاحشاً!

الوكيل - ونفخر جميعا بشهرته اللامعة!

العمدة (مقتربا من الوكيل يساره) ولو أن الآنسان عندما يتوسم هذا الوجه يصعب عليه أن يميز في سماته كل هذه الكفاءة النادرة!. .

الوكيل - (كمن يلقى حكمة غالية) يا سيدي العمدة لا يعرف قدر عظماء الرجال إلا بعد موتهم!. . (صمت قصير) يخيل الي أني ما زلت أراه سابحا أمامي في خياله. غائصا في لجة أفكاره العميقة كان يتأهب ولا شك لتدوين روائعه الخالدة!. .

العمدة - بينما الناس كانوا يتهمونه بالكسل ويتشككون في رجاحة عقله!. . حتى امرأته التي كانت لا تخفي عنه احتقارها إياه!. .

الوكيل - أما اليوم فقد عادت فخورة بحمل هذا الاسم العظيم!

العمدة - نعم. أصبحت الأرملة الشهيرة التي تشع حواليها هالة المجد!

ص: 68

الوكيل - يقال أنها اعتزمت الامتناع عن الزواج!. . (ساخرا) إلا إذا أتيح لها أن تقترن بأحد الخالدين، إذ مما لا شك فيه أن روبنيول لو امتد به العمر إلى يومنا لأنتخب عضوا في المجمع الأدبي!

العمدة - يجب أن تعترف أن سلوكها الخلقي منذ ما توفي زوجها لا غبار عليه. .

الوكيل - (متخابثا) نعم. . منذ أن توفي!. . أما قبل ذلك. . على كل حال سوف نراها بعد حين في ثياب الحداد. . وكأنها تمثال الأسى الذي لا تنفع فيه تعزية!. .

(يستمران في الحديث ثم يتجهان نحو التمثال حيث يستقبلان الوافدين، مصافحات بالأيدي، تحيات الخ)

المشهد الثاني

العمدة الوكيل. شرطي. خفير القرية. المجهول

(يبدو المجهول فيتوسط الساحة وهو يتأمل الجمع من خلال نظاراته السوداء وقد أرسل لحيته الكثيفة وارتدى لباسا قرويا)

الشرطي - (لخفير القرية) ألم تلاحظ هذا المخلوق الغريب الذي يرود الناحية منذ هذا الصباح! لا يعرفه من أهل القرية أحد ولا أدري من أين جاء!. . .

خفير القرية - يبدو من ملابسه أنه في فقر مدقع! لا بد أن يكون أحد المتشردين!. . .

الشرطي - لن تغفل عيني عن مراقبته!

(يقف المجهول أمام بعض المارة يسألهم ولكنهم يدبرون في غير اكتراث)

الشرطي - ألم يقرأ المعتوه الإعلان الحكومي: (ممنوع وقوف السابلة)؟

خفير القرية - (ضاحكا) ربما كان لا يعرف القراءة!

الشرطي - لم تغفل عيني عن مراقبته! (يبتعد الشرطي مع خفير القرية)

المشهد الثالث

المذكورون. بعض المارين. معلم القرية

(يقترب المجهول من بعض الملاك ويتكلف الحديث بلهجة قروية)

المجهول - عفواً أيها السادة. أرجو أن تتفضلوا عليّ ببعض معلومات بسيطة. . .

ص: 69

أحدهم - ماذا تطلب؟

المجهول - قدمت إلى هنا بمناسبة المهرجان. . . نعم مهرجان الاحتفال برفع الستار عن تمثال فرنسوا روبنيول، وأريد أن أعلم في أية ساعة تحتفلون به؟

أحدهم - في الساعة الثالثة. . . ولا ننتظر إلا أولي الأمر. .

اثنان منهم - (للمجهول) وأنت من تكون؟

المجهول - كنت أعمل أجيراً في إحدى الضياع البعيدة. أما الآن فقد أصبحت عاطلا ولذا ترونني أتنزه.

المالك الثالث - تنزه يا صاحبي تنزه!.

المجهول - (في شيء من التردد والخجل) هل لي أن أسألكم. . .

المالك الأول - سر في طريقك يا رجل! لا نملك وقتا للرد عليك!. لو أن الآنسان أصغى لجميع الناس لما بقي لديه لحظة لنفسه!

(يبتعدون جميعا عن المجهول)

المشهد الرابع

المذكورون. التمثال

العمدة - (وقد وقف أمام التمثال يقول موجهاً قوله للتمثال): في غاية من الروعة والدقة تمثالك يا أستاذ.

الوكيل - طرفة حقيقة! يا للجبين الناصع! يا للرأس الجميل! والعجيب أننا جهلنا نبوغه المشرق!

العمدة - أعد نفسي سعيداً يا سيدي بأن أحمل إليك بشرى سارة: لقد حصلنا لك من وزارة الفنون الجميلة على وسام جوقة الشرف.

التمثال - هذا منك طيبة لا استحقها يا سيدي العمدة. . بل شرف عظيم يبهظ كفاءتي المتواضعة! لكني مع الأسف أحمله.

العمدة - تحمل ماذا؟

التمثال - (باسماً) وسام الشرف!

الوكيل - يا للخطأ الفاضح!

ص: 70

التمثال - لا. لا داعي للكدر. لن يمنعني ذلك عن حمل وسامين.

(يضحكون ثم يحتاطون بالتمثال مصافحين الخ الخ. .)

التمثال - أشكركم! أشكركم يا أصدقائي الأعزاء! هذا اليوم أجمل أيام حياتي! (يستمرون في الحديث)

المشهد الخامس

المجهول. معلم القرية

(يجيل المجهول الذي ظل مدة من الزمن وحده في جانب من الطريق نظرة فاحصة حواليه فيبصر بمعلم القرية فيبتسم بسمة خبيثة ويتقدم إليه).

المجهول - تنازل واغفر لي فضولي الملح يا سيدي! هل تسمح لي أن ألقي عليك بعض الأسئلة؟ إنها تختص بشاعركم الكبير فرنسوا روبنيول!

معلم القرية - سل ما تشاء.

المجهول - هل كانت لسيدي معرفة شخصية بروبنيول؟

معلم القرية - (يشب بصدره مفاخراً) لقد كنت في المقاطعة أخلص أصدقائه. بل صديقه الوحيد. كان الناس ينكرون عليه نبوغه. وأنا وحدي فهمت تلك الروح الكبيرة الحائرة وعطفت عليها أستمع إلى نجواها السماوية. لذا اختصني المرحوم بشكاواه المرددة، وبهمس قلبه المعذب. إني معلم القرية!

المجهول - وهل تيقنتم من موته؟

معلم القرية - لو لم يمت لعلمنا بوجوده من خمس سنوات مضت على اليوم الذي اختفى فيه فجأة. . بالضبط في أوائل شهور الحرب الكبرى.

المجهول - و. . شكله؟

معلم القرية - كان ذا وجه صبوح. حليق اللحية والشارب. جبين مشرق. عين حالمة. تأمل تمثاله النصفي. إنه هو تماما!.

المجهول - (متأملا التمثال) في الواقع هذا رأس جميل!. وكيف كان يعيش؟

معلم القرية - في أحلامه دائماً. كانت عاداته وطباعه تنم عن بساطة شديدة. وكان أحب شيء إليه أن يرود قمم الجبال وحيداً، ويفكر ويتأمل. أن النفوس الكبيرة لا تجد قوتها إلا

ص: 71

في الوحدة!

المجهول - هذا حق! (صمت قصير) وكيف تكشفتم عبقريته الدفينة؟

معلم القرية - في ذات يوم كتب أحد كبار نقاد العاصمة بحثاً مستفيضا عن أعمال الشاعر فرنسوا روبنيول الأدبية بمناسبة موته في ميدان القتال. وكان مما كتبه قوله: (لقد نكبت الآداب الفرنسية بخسارة أخرى فادحة) ثم قال بعد ذلك: (إلا أن روبنيول من أولئك النوابغ الذين واتاهم الحظ السعيد فتراهم يحيون بعد موتهم. . أنهم يحيون في أعمالهم الأدبية الخالدة، في شعرهم الذي يجالد القرون المتعاقبة زاهيا وضاء كأول فجر أشرف على الإنسانية. .) هذا البحث الأدبي البديع نقلته جرائد مقاطعتنا عن جرائد العاصمة وعقبت عليه بشتى التقريضات. . وهكذا انتشرت دواوينه الشعرية بيننا وأثارت الكثير من الحماس والإعجاب. . (صمت قصير) كيف أمكننا أن ننكر نبوغ رجل مثل هذا!.

المجهول - (يطرق مفكراً ثم يقول) نعم، أنه لخير عظيم للشاعر أن يموت! (بعد فترة وجيزة) وأرملته؟

معلم القرية - لا تجد إلى التعزية سبيلا!. لن تتوانى عن الحضور. سوف تراها بعد قليل.

المجهول - هل لك أن تقدمني إليها؟

معلم القرية - وهل لك حاجة إليها؟

المجهول - نعم. أود أن أقدم إليها قصيدة من الشعر ألفتها للمناسبة تمجيداً لروبنيول.

معلم القرية - (دهشا) أأنت أيضا شاعر؟

المجهول - (متواضعا) نعم!

معلم القرية - (ضاحكا) حسبتك أحد القرويين.

المجهول - أني قروي أيضا (ضاحكا) الشاعر القروي!

معلم القرية - عجيب وربي! ومع ذلك، لم لا؟. انظر! ها هي الأرملة المجيدة!

المشهد السادس

المذكورون. والأرملة

(تبدو الأرملة العظيمة وقد ارتدت كامل ثياب الحداد، بطيئة الخطوة، مرفوعة الرأس، مهيبة الطلعة، فيحتاط بها الناس ثم تجلس على مقعد كبير. عندئذ يتقدم إليها المجهول

ص: 72

فينحني أمامها انحناءة عميقة ثم يخرج من جيب ردائه ملفاً من الورق)

المجهول - سيدتي! إسمحي لي أن أرفع إلى مقامك السامي احتراماتي. . وهذه الأبيات التي كتبتها إشادة بمجد الشاعر العظيم الذي تحملين أسمه الخالد!

الأرملة - (في عدم اكتراث ظاهر) أكانت لك به علاقة سابقة؟

المجهول - كلا يا سيدتي. . غير أني أحفظ جميع قصائده عن ظهر قلب. . ولا أزال شديد الإعجاب بها.

الأرملة - (متقبلة الورقة التي يقدمها في خشوع) عفواً ماذا تُسمى؟

المجهول - جوزيف. . جوزيف فيليو

صوت - ما أسمج الرجل!. . لقد أطال الحديث!

صوت آخر - يغالي في إستغلال الفرص!

الأرملة - (للمجهول) أتقيم في البلدة؟

المجهول - لا يا سيدتي! مضى زمن طويل على هجرتي منها. . هذا هو السبب الذي جعل الكل ينكرون معرفتي.

(تكونت دائرة من الناس حول المجهول والأرملة)

صوت - ما الذي جاء يفعل هنا، هذا الغريب؟

صوت آخر - تأملوا حذاءه البالي. . تأملوا سترته الممزقة وسرواله المتسخ!. . لا شك أنه شحاذ!. .

صوت آخر - ربما كان لصاً؟

صوت آخر - من الصواب أن يطرد خارج القرية!

معلم القرية - على كل حال لا أراه يزعج أحداً. . وله الحق في أن يعجب بروبنيول كغيره من الناس!

الأرملة - (وقد انشغلت أثناء الحوار الأخير بتلاوة الأشعار)

نعم. . . لا بأس بهذه الأبيات!. . (تقرأ بصوت عال)(لا تحزن فما الموت إلا كلمة جوفاء! عندما توارى في التراب)(وتحجب ظلمة القبر عن عينيك دنيا النور، عندما تشعر)(بجثمانك البارد وقد فارقته حرارة الحياة وبدأت ديدان الأرض تأكله) (فلا تصدق

ص: 73

أنك إلى الفناء، لأن قلبك المرتعش ما زال ينبض) (وما زالت في عمق أعماقه نطفة الحياة والخلود!)

(توجه الحديث إلى من حواليها تقول في شيء من التسامح:)

الأرملة - لا بأس بهذه الأشعار! خصوصا والشاعر مبتدئ. . (للمجهول) ربما واتاك النبوغ. . . يوماً ما!. . (تعيد إليه ملف الورق)

المجهول - (في صوت خافت وهو يشير إلى التمثال) نعم مثله. . بعد موتي!

صوت - هذه أشعار تافهة!

صوت آخر - باهتة!

صوت آخر - بائخة!

صوت آخر - ليرحل عنا هذا الشويعر! لقد أتعبنا مرآه!.

المشهد السابع

المذكورون، النائب المحترم. وكيل المقاطعة

(حركة عامة وضوضاء فجائية. يدخل النائب المحترم متبوعا بوكيل المقاطعة. يصافحان الحاضرين ثم يأخذ كل مكانه لبدء الحفلة يجلس النائب المحترم على كرسي الرياسة وإلى يمينه الأرملة وإلى يساره وكيل المقاطعة والعمدة. يسود صمت عميق مدى لحظة ثم يقف النائب)

النائب - الكلمة لحضرة العمدة!

(يقف العمدة وينحني يمينا ويسارا متكلفا الرزانة والوقار ثم يبدأ بقراءة الخطبة وقد وقف إلى جانبه معلم القرية)

العمدة - حضرة النائب المحترم! سيدي وكيل المقاطعة!، سيدتي، مواطني الأعزاء!

إن هذا اليوم ليس يوم حداد. . إننا لا نبكي ميتا. . إذ أن هناك أموات كما قال الشاعر يو. . يو. . (يتوقف عن القراءة لرداءة الخط)

معلم القرية (يلقنه) يحطمون. .

. . . يحطمون بجمجمتهم صخر قبورهم!. . (حركة ارتياح وموافقة من الجميع. يرفع عقيرته)

ص: 74

فرنسوا روبنيول أيها السادة ما زال حيا بيننا! نعم ما زال حياً في ذكريات كل منا. . وسوف يحيا إلى الأبد في ذاكرة البشر لأن العبقرية تهزم الزمن، والفناء لا سبيل له إلى الخلود!

الجميع - جميل جداً! جميل جدا! ليحيا الخطيب!

العمدة - (مستمراً) وا أسفاه! أيها السادة وأنا أستعرض أمامكم صورة هذا المواطن الذي أصبح في الخالدين والذي تشرفت قريتنا المتواضعة بفتح عينيه للنور، تواردت إلى خاطري الحزين كلمة باسكال المأثورة: ما الحياة إلا نوم عميق لا نصحو منه إلا. . إلا. . . .

معلم القرية - (يلقنه) ساعة الموت!

العمدة - (يعيد بقوة) ساعة الموت!. . . وفي واقع الأمر يخيل إلي أن روح فرنسوا روبنيول كانت تنتظر بفارغ الصبر اللحظة التي تفارق فيها جسده البالي كما تتجلى أمامنا. أيها السادة لقد عبر شاعرنا العظيم وادي الألم هذا مجهولا من الجميع، مجحود الفضل، دون أن يتململ راضياً كفيلوسوف قانع بأسم بما ارتضاه له القدر من حظ عاثر ومكان وضيع فكان بعمله هذا حكيما إذ أن المجد أغلى نعم الدنيا ثمناً! وحم القضاء أيها السادة فتلقفت أيد قدسية أعماله الأدبية المتناثرة وضمتها إلى بعضها في دواوين حفظتها للخلود! هكذا أتيح لصحافتنا ولجريدتين من أمهات جرائد العاصمة أن تدرس أشعاره العلوية وأن تزف إلى فرنسا وإلى العالم المتحضر أبكار معانيه الساحرة وأوزان قوافيه الموسيقية. حينذاك أصغى الناس إلى هذه الأنغام السماوية وشاع الحماس في كل الأوساط فكتب ناقد كبير يقول:(إن فرنسا الشاعرة تضم إلى شعرائها الخالدين شاعراً غنائياً عظيماً، هو منهم في الصدر) أيها السادة إن هذا المجد المتلألئ يضيء اليوم قرية سانجان ديفين التي تذكر لأول مرة في تاريخ الأدبيات الفرنسية. فقد تغنى شاعرنا الراحل بمناظرنا الطبيعية الرائعة في قصائده الخالدة. . . وهكذا أصبح لنا بفضله وجود وخرجت قريتنا العزيزة من دياجير الظلمة والجهل إلى نور الشهرة الباهرة.

(تصفيق حاد عنيف متواصل)

(يستمر) نعم أيها السادة، كان فرنسوا روبنيول بين ذلك النفر الممتاز الذي يحيا وقد مات!

ص: 75

لقد صاغ بنفسه هذا المعنى في أبيات كتب لها الخلود!.

(لا تحزن فما الموت إلا كلمة جوفاء! عندما توارى في التراب)(وتحجب ظلمة القبر عن عينيك دنيا النور، عندما تشعر)(بجثمانك البارد وقد فارقته حرارة الحياة وبدأت ديدان الأرض تأكله)(فلا تصدق أنك إلى الفناء، لأن قلبك المرتعش ما زال ينبض)(وما زالت في عمق أعماقه نطفة الحياة والخلود!)

(تصفيق كهزيم الرعد)

أصوات مختلف - ما أجمل هذه الأشعار! بديع! عظيم! يا للشاعر الفحل! يا للعبقرية!

(هنا تنفجر ضحكة هائلة فيلتفت الجميع فإذا بالضاحك هو المجهول! هرج ومرج! يندفع الكل إليه حانقين)

صوت - (في أشد حالات الغضب) من تكون يا رجل؟

صوت آخر - ماذا تعمل هنا؟ لست من أهل الناحية!

سيد - (يأخذ بتلابيبه) اعترف بأنك مرتش من أعدائنا لتثير فضيحة!

أصوات عديدة - ليطرد! ليطرد!

وكيل المقاطعة (للشرطي) أيها الشرطي، فتش هذا المخلوق!

النائب المحترم - سله أن يبرز أوراق إثبات الشخصية!

(موافقة من الجميع)

الشرطي - (يدافع الجمع الحاشد) سأفعل يا حضرة الوكيل! ويتقدم من المجهول ويمسك بذراعه: عجل بتقديم أوراقك!

المجهول - (يخرج من جيبه شهادة ميلاده وأوراقا أخرى)

الشرطي - (لا يكاد يلقي نظرة على شهادة الميلاد حتى يقول مصعوقاً) ما معنى هذا؟ يا للشيطان! تسخر من السلطات الحكومية يا رجل؟

وكيل المقاطعة - (يتقدم هو أيضا ويلقي نظرة جائلة على الأوراق فيصرخ دهشاً): أممكن هذا؟ لا أفهم!

المجهول - لا تفهم؟. . لقد قرأت جيداً! هذه شهادة ميلادي: (فرنسوا روبنيول ولد في قرية سانجان ديفين يوم الأحد 17 يناير سنة 1890) وأنا هو فرنسوا روبنيول: آه يا سادة! أنتم

ص: 76

لا تتعرفون سحنتي والحق معكم: تغيرت كثيراً عما كنت عليه قبل هذه السنوات الخمس التي مضت. . فقد أرسلت لحيتي وشاربي. . تأملوني مع ذلك جيدا. . (ينزع منظاره عن عينيه ويرى يميناً وشمالا) ألا تذكرني يا جنتران؟ ولا أنت يا باتاريل؟ وأنت يا جيشو؟ ألا تذكر أيام كنا ننطلق معا إلى الجبل؟. هذا هو مسكني (مشيراً إلى أحد المنازل)(دهشة عامة. يستمر في حرارة متزايدة) لكم آلمتموني! لقد نغصتم علي عيشي فلم أطق الحياة بينكم. . ولذلك اختفيت. ادعيت الموت فعاد علي ذلك بالخير العميم والمجد العظيم. . . (ضاحكا) لأن الناس لا يعدلون إلا مع الأموات! إذن حسبتموني ميتا أيها السادة! وا أسفاه، ما زلت من سكان هذا العالم! وها أنا ذا أقول لكم: انتهت المهزلة. . . . فتعالوا نضحك معا سويا. . .

العمدة - هذا الرجل مخلوق كاذب!

الجميع - كفى! كفى! إنه يريد الهزء بنا! أخرسوه اطردوه.

النائب المحترم - (في هياج شديد) من العار أن نسمح لهذا الدعي أن يسخر منا!

معلم القرية - إنه مشعوذ سخيف!

المجهول - (في صوت جهوري) هنا مع ذلك شخص لا يمكنه أن ينكر معرفتي! (يشير إلى الأرملة) هذه المرأة!. . (غمغمة عامة: فضول!)

الأرملة - (في احتقار) لا أعرف هذا الإنسان!

الجميع - أرأيت؟ أنت مجنون!. . ألقوا به إلى الخارج! اقبضوا عليه!. . إلى السجن! إلى السجن! (يقفز المجهول إلى المنصة ويصيح بين الضحكات والاحتجاجات العاصفة)

المجهول - أيها الحمقى! إنما أقمتم هذا التمثال لأنفسكم. . لغروركم الوضيع. لم يكن فرنسوا روبنيول بالشاعر الكبير. بل كان فنه كاذبا وعبقريته مزيفة. فلو كان عظيما حقا لما فهمتموه! إنكم إما مجدتموه لأنه مرآة نفوسكم الخاملة، وصورة أذهانكم المحدودة. إنه لم يمت، وها هو ذا أمامكم، لا في صورة تمثال من المرمر بل حيا يرزق، وفي استطاعتي أن أبدي فيه رأيا صريحا خيراً من أي واحد منكم. لأنني. أو بعبارة أخرى لأنني كنت. . .

(لكنه لا يستطيع الاستمرار فصرخات الاحتجاج تغطي صوته (يصيح الكل: انتزعوه من على المنصة) ألقوا به إلى النهر أصبح السخط عاما. يتقدم الشرطي وخفير القرية من

ص: 77

المجهول ويستاقانه في غلظة)

الشرطي - (يجذبه بعنف) كفاك سفسطة! إلى السجن!. . . لا تعاند! تقدم معي!

(يمضي الشرطي بالمجهول فتصدح الموسيقى بنشيد المرسلين)

النائب - (يقف ويشير إلى الجمع بالصمت) يا أصدقائي الأعزاء! هذا الحادث السخيف الذي أثاره مجنون (أصوات نعم نعم) لا ينبغي أن تمنعنا عن أداء واجبنا المقدس نحو ذكرى شاعرنا الكبير فرنسوا روبنيول!

(أصوات: ليحيى روبنيول!)

النائب - أيها السادة، الحفلة مستمرة. إن مجد فرنسوا روبنيول هو مجد قريتنا العزيزة سانجان ديفين. . . وموته خسارة لا تعوض على العالم المتمدن!. . .

(يستمر في الخطابة بينما يسدل الستار شيئا فشيئا)

فتوح نشاطي

ص: 78

‌بلياس ومليزاند

للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك

ترجمة الدكتور حسن صادق

راينيولد - نعم. نعم. إنها تجالد كل الوقت الذي تغيب فيه عن البيت.

جولو - آه!. . . أحد الناس يجتاز الحديقة وبيده مصباح ولكن قيل لي أنهما لا يتحابان. . . ويغلب على ظني أنهما يقضيان أغلب الأوقات في جدل عنيف. . . كلا؟ نعم؟ حقا؟

إينيولد - نعم. هذه حقيقة.

جولو - نعم؟. . آه! آه!. . . ولكن فيم يتجادلان؟

إينيولد - في شأن الباب.

جولو - كيف؟ في شأن الباب؟ ما هذا الهراء الذي تقصه علي؟ ألق بالك إلي وأفصح. لماذا يتجادلان في شأن الباب؟

إينيولد - لأنهما لا يريدان أن يظل مفتوحا.

جولو - أيهما لا يريد أن يظل الباب مفتوحا؟. . أوه! تكلم. لماذا يتجادلان؟

إينيولد - لا أدري يا أبي. . . النور سبب الجدل.

جولو - موضوع حديثنا الباب لا النور. . . ما هذا؟! لا تضع يدك هكذا في فمك. . .

إينيولد - أبي! أبي! لن أفعل أبداً ما نهيتني عنه. . (يبكي)

جولو - تكلم. علام البكاء؟ ماذا حدث؟

إينيولد - أوه! أوه! لقد آلمتني يا أبي.

جولو - آلمتك؟ في أي موضع؟ لم أشعر بما فعلت ولم أقصد إليه.

إينيولد - هنا. في ذراعي الصغيرة.

جولو - لم أرد إيلامك يا بني. . . كف عن البكاء. . . سأعطيك شيئا غداً. .

إينيولد - ماذا يا أبي؟

جولو - سأهدي إليك قوساً وسهاما. . . ولكن قص علي ما تعرفه من أمر الباب.

إينيولد - أتهدي إلي سهاما كبيرة؟

جولو - نعم غاية في الكبر. . . لماذا لا يريدان أن يظل الباب مفتوحا؟. . . ما هذا

ص: 79

الصمت الأليم؟! تكلم. أجب. . . لا. لا. . . لا تفتح فمك لتبكي. . . ليس بي استياء ولا كدر. فيم يتحدثان وقت اجتماعهما؟

إينيولد - بلياس وأمي الصغيرة؟

جولو - نعم. في أي شأن يتحدثان؟

إينيولد - يتحدثان عني. دائما في شأني.

جولو - وماذا يقولان عنك؟

إينيولد - يقولان أني سأصير كبيراً طويل القامة.

جولو - آه! يا بؤس عيشي! إني هنا كضرير يبحث عن كنزه في أعماق اليم!. . . إني هنا كطفل صغير ضل في غابة كثيفة. . وأنت. . آه! لا تكترث لما قلت، فقد كنت لاهيا يا إينيولد. سنتكلم جادا يا بني. ألا يتحدثان، بلياس وأمك الصغيرة، عني في غيبتي؟

إينيولد - يذكران أسمك في الحديث.

جولو - آه! وماذا يقولان عني؟

إينيولد - يقولان إني سأصير كبيراً طويل القامة مثلك.

جولو - وهل أنت دائماً معهما؟

إينيولد - نعم. نعم أقضي معهما كل الوقت يا أبي.

جولو - ألم يطلبا إليك قط أن تغادر الغرفة وتلعب في مكان آخر؟

إينيولد - كلا يا أبي. الخوف يستحوذ عليهما إذا بعدت عنهما.

جولو - الخوف يستحوذ عليهما؟. . وكيف عرفت ذلك؟

إينيولد - لأنهما يبكيان دائما في الظلمة.

جولو - آه! آه!

ص: 80

‌الكتب

دائرة المعارف الإسلامية

أغلاط الكراسة الأولى

للدكتور عبد الوهاب عزام

لا يماري أحد في أن شباننا الذين شرعوا يترجمون دائرة المعارف الإسلامية جديرون بالإعجاب لعظم مقصدهم، وصدق عزيمتهم، واعتدادهم بأنفسهم في الاضطلاع بعمل بعيد المدى، عظيم الشقة. وإنا لنرجو أن ينالوا من التأييد والإقبال ما يفي بمثوبتهم على هذا العمل الجليل.

منعتني أعمالي أن أبادر إلى قراءة الكراسة الأولى من الترجمة العربية. فلما أتيحت الفرصة منذ أيام أقبلت على قراءتها إقبال المغتبط المتشوق، فقرأت الكراسة كلها في ساعات قليلة ولم أحس ضجرا ولا تعبا.

وقد ألفيت اثناء القراءة أغلاطا كثيرة أعرضها على القراء والمترجمين في الفقر الآتية:

1 -

فمن الغلط في أسماء الناس والبلدان:

أرزن روم ص 10. والصواب أرزن الروم. وفي الأصل أرضروم فلم يبق المترجم على الاسم التركي، ولا اهتدى إلى التسمية العربية، ومن ذلك القرم ص 11 والصواب القريم، وكبجاك ص 14. والصواب ففجاق، وأحمد تكدر ص 15. والصواب تكودار، وكتاب قرقد والصواب قورقود كما يكتبها الترك، ومن ذلك أتميدان ص 42. والصواب آت ميداني. وهو ميدان في استنبول كان الرومان يسمونه هيبودرم فسماه الترك آت ميداني أي ميدان الخيل، ومن ذلك إروان أسم مدينة ص 49. والصواب أريوان، ومحمد صقلي باشا ص 56. والأتراك يكتبونه صوقوللي فيحسن أن يكتب بالعربية صوقولي، وججرات أسم مدينة في الهند ص 57. والصواب كجرات، وججتاي أسم لهجة تركية والصواب جغتاي بالغين.

2 -

ومن غلط الأسماء الناشئ من الإضافة الفارسية وظن المترجمون أن حرف في الأصل يقابل الياء، وهو كسرة لا غير: آب - ي حياة ص1 والصواب آب حياة، وكتابي قرقد ص21 والصواب كتاب قورقود بغير ياء، وجلزاري إبراهيم ص 35 والصواب

ص: 81

جلزار إبراهيم، وسجلي عثماني والصواب سجل عثماني، ومدخلي حقوقي دول ص 55 والصواب مدخل حقوق دول، وتاريخي حقوق بين الدول ص 56 والصواب تاريخ بغير ياء، ونوسالي ثروتي فنون ص 56 والصواب نوسال ثروت فنون، وسالنامي ثروتي فنون ص 56. والصواب سالنامه ثروت فنون، وطبقاتي أكبري ص 57 وفارس نامي ص 60 وواقعاتي دراني ص 24 وتاريخي أحمد ص 24 وحياتي أفغاني ودرى دراني ص 24 والصواب في هذا كله طبقات أكبري، وفارس نامه، وواقعات، وتاريخ، وحيات ودر بغير ياء في الكلمات الأربع، وأفضع من هذا كله دري سعادت أسم استنبول. والصواب در سعادت.

3 -

ومثل هذا الغلط في نقل العبارات التركية:

فقد ترجموا (آبازه كوشكي) فكتبوا كيوشكي آبازه ص 10 والصواب كوشك آبازه فإن الياء الأخيرة ياء الإضافة في التركية. فإذا نقل التركيب إلى العربية فلماذا تبقى الياء؟ ثم الياء بعد الكاف في كيوشكي غلط آخر. (وطوب عربجلري ص 51 والصواب طوب عربجيلري بالياء الثقيلة وزيادة ياء بعد الجيم. والناس في مصر يقولون عربجي لا عربج. وأصوب من هذا طوب آرابه جيلري) وايج شاهينجلر ص 45 والصواب شاهينجيلر بزيادة ياء بعد الجيم.

4 -

ومن الغلط في رسم الكلمات الفارسية والتركية والكلمات العربية المستعملة في هاتين اللغتين:

سياسة نامه. والصواب سياستنامه أو سياست نامه، وجينليكيوشك ص 31 والصواب جينلي كوشك. وإن أريد الترجمة فالكوشك الصيني، وسياحات ص 31 والصواب سياحت، وأوليه. والصواب أوليا، وخاطيرات ص 56 والصواب خاطرات جمع خاطرة، وخندمير ومير خند ص 60 والصواب خوندمير ومير خوند. وكجوك وبيك ص 50 والصواب كوجك وبيوك، وحياة خان ص 24 والصواب حيات، وآتش كده ص 60 والصواب آتشكده، وقترجي أوغلو ص 10 والصواب قاطرجي، وبيرمي سكز جلبي محمد ص 58 والصواب يكرمي سكز كما تكتب في التركية.

5 -

ومن الغلط في تعريب الكلمات:

ص: 82

أرسلان بج. ولطف علي بج ص 60 وأتا بج فارس ص 59 وسليم جراي ص 11. والصواب في هذا كله بك وأتا بك وكراي بالكاف الفارسية أو بك وكراي بالكاف العربية أن أريد التعريب، فقد عربت من قبل وكتبت بالكاف العربية لا بالجيم.

6 -

ومن الغلط في الترجمة: نهر جرجان رود ص 63 والصواب نهر جرجان فإن كلمة رود بالفارسية معناها النهر، وترجمتهم هذه الجملة: ' بهذه العبارة (ينابيع المياه العذبة) وهي لا تفي بالأصل، ومن الغلط في ترجمة الاصطلاحات العروضية ترجمتهم بمقطع والصواب جزء. ولو رجعوا إلى تعريف الابتداء عند العروضيين لأصابوا التعريف الاصطلاحي الصحيح.

7 -

ومن الأغلاط الظريفة أن الكتاب الأوربيين ترجموا بعض الكلمات العربية ثم حرصوا على الكلمة المترجمة فوضعوها بين قوسين ليستعين عارف العربية بها على تحديد المعنى. فجاء المترجمون إلى العربية فترجموا العبارة الإنجليزية أو الفرنسية بعبارة عربية وأبقوا الكلمة العربية بين قوسين. وظاهر أنه لا حاجة إلى حبس هذه الكلمة بين قوسين بعد أن ردت إلى لغتها. ومعنى هذا أن الكلمة العربية ترجمت إلى الإنجليزية فلما أريد ردها إلى لغتها وضعت كلمة أخرى مكانها لا تؤدي معناها. وبقيت هي زائدة بين القوسين.

ومن ذلك قولهم: وألف كذلك مصنفاً عن حكمة (حلم) الهندوس ص 16 يستنزلون المطر (استسقاء) ص 23، ادارة أوقاف (متولي) ص 57.

8.

ومن الأغلاط المطبعية:

لم يتقدم أكثر جوتز ص 46 وأظن هنا حرف (من) محذوفا بعد أكثر. إبراهيم باشا داماد وزير السلطان أحمد الثالث ص 48 والصواب حذف (داماد)، وثير بالثاء في حاشية الأستاذ محمد مسعود ص 16 والصواب تير بالتاء المثناة. ودراويش جانفرا (جوف) ص 46. ولست أدري من أين جاءت كلمة (جوف) والقوسان المحيطان بها.

9 -

ومما يؤخذ على العبارات العربية، وأكتفي بسردها هنا، أجرى لنفسه عملية الختان ص 27: وكان ترتيبه السابع عشر بين سلاطين آل عثمان ص 29 (يسمى أبو بكر ص 35) وكانت حياة هذا الرجل اقرب إلى الأفقية والمجازفة ص 39، ثم أعدمه هناك ص

ص: 83

10 ثار بدوره ص 10، دخل مذهب الخوارج إلى المغرب في صورة الاباضية ص 13 (يضطر المسلمون إلى إقامة خليفة) ص 14 في مكان (يجب على المسلمين الخ)، قراءة خاطئة بدل مخطئة، وفي حاشية الأستاذ مسعود:(الأيام المسترقة (بكسر الراء) ص 16 والصواب فتح الراء. ولو ترك الأمر للقارئ ولم ينص على الكسر بين القوسين لكان أحزم).

- ثماني مائة كنيسة ومائة بيعة (بما فيها المعابد الصغيرة) ص21 وما بين القوسين لا تسيغه اللغة.

10 -

ومما يؤخذ على رسم الكتاب كتابة أسماء المراجع بحروف كبيرة وتركهم شكل الأعلام والكلمات التي تحتاج إلى الشكل، وتركهم الرموز في الإشارة إلى المقالات فيقولون مثلا:

(انظر مقال عمان) ولو كتبوا (انظر: عمان) أو (ظ. عمان) لكان أوجز ألخ.

هذا ما ألفيته أثناء القراءة واستحسنت أن ألفت المترجمين الكرام أن يتجنبوه في الكراسات الآتية.

وينبغي ان يعلموا ان هذه الأغلاط وأمثالها لا تنقص من عملهم، ولا تغض من أقدارهم. ولعل في التنبيه إلى هذه المآخذ ما يدعو إلى طمأنينة القارئ حين يعلم أن هذه الدائرة العربية لا تقر على أغلاطها، وإن وراءها من ينقدها، ويشفق على قرائها، ويرجو لها كل سلامة.

وبعد فإني أختتم بتكرار الثناء والشكر، ودعوة قراء العربية إلى التأييد والمعاونة ما استطاعوا.

والله يهدينا إلى التي هي أقوم ويسددنا إلى كل عمل صالح.

ص: 84

‌دائرة المعارف الإسلامية

نقد وتقدير

للأستاذ إسماعيل مظهر

(10)

ولكنه كان برغم عقيدته المسيحية محوطا (كذا) بالأتراك (ص 22 نهرا) والأصل الإنجليزي كما يلي:

. . . ،

والفرق بين الأصل والترجمة شاسع بعيد، لأنك عندما تقول بأن فلانا كان محاطا باللصوص شيء يختلف كل الاختلاف عن قولك أن فلانا اتخذ لنفسه بطانة من اللصوص. والذي يرمي إليه الأصل هو أن فلانا هذا (على الرغم من عقيدته النصرانية اتخذ له بطانة من الأتراك) لأن مجرد أن يكون محاطا بالأتراك لا يؤدي المعنى المدرك من الجملة الأصلية، ويدل في جملة ما يدل عليه أنه كان محاطا بهم ولم لم يكن له رغبة في أن يكونوا من بطانته أو حاشيته؛ وأنه كان محاطاً بهم عنفا وأثرا على الرغم من إرادته. وقد جاء في القرآن:(إلا أن يحاط بكم). وليس شيء في هذا بمحمول في الأصل. ومثل هذا التفريط لا يصح أن يقع فيه شباب مثقفون تصدروا إلى إخراج عمل أدبي عظيم كدائرة معارف الإسلام.

(11)

وهنا ننتقل إلى مادة أخرى هي مادة (أباضيون) وقد جاء في هذه المادة (ص 13 نهرا) ما يأتي:

(وانتشر بسرعة بين البربر حتى أصبح المذهب القومي لهم، اتخذوه ذريعة لنضالهم مع أهل السنة من العرب) والنص الإنجليزي كما يلي: -

،

وهنا نلاحظ أولا أن كلمة الإنجليزية لا تأتي مطلقا بمعنى أنتشر. لأن انتشر تؤديها كلمة ولكن الأولى تؤدي دائما معنى التوسع في الشيء أو نشوءه وتطوره. وثانيا أن المترجم قال: (اتخذوه ذريعة لنضالهم مع أهل السنة من العرب) فجاءت الجملة غامضة لأنه لم يفصح عمن اتخذوه ذريعة في حين انها بينة في الاصل، والسبب في هذا راجع إلى أنه أهمل كلمة ولو عني قليلا بالترجمة لقال (اتخذه العرب الأفريقيون ذريعة للنضال مع أهل

ص: 85

السنة) وإذن تستقيم الجملة وتنطبق على الأصل ويزول عنها الغموض.

(12)

وجاء في هذه الصحيفة ما يأتي:

(ولعب أباضيو طرابلس وأفريقية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الدور المهم في ثورة القرن الثاني الهجري التي كادت تجرد الخلافة من أفريقية) والأصل الإنجليزي كما يلي:

. . . . . . . . . . . . . .

وبالمقارنة بين الأصل والترجمة تجد وضوحاً في الأولى وغموضا في الثانية. السبب في هذا أن المترجم أهمل كلمة وهي حجر الزاوية في الجملة فقال: (ثورة القرن الثاني الهجري) وكان يجب أن يقول: (ثورة البربر في القرن الثاني للهجرة) لأنك لم تعرف من الذي ثار، ومثل هذا التفريط مفسدة للتاريخ وتعقيد على المطالع لا سبب له إلا التعجل في إبراز الآثار الأدبية. ثم أن كلمة الإنجليزية لا تؤدي معنى الثورة فعلا، بل تؤدي معنى فتنة، لأن الثورة لا بد من أن يعقبها انقلاب حقيقي في نظم الحكم أو في قوام الدولة كالثورة الفرنسية وكالفتنة المصرية. والفتنة لا تؤدي المعنى المقصود في الثورة الفرنسية أو انقلاب روسيا الحديث. والإنجليز شديدو الحرص على مراعاة مثل هذه الفروق. لأن التخليط فيها تخليط في التصور الذي ينتج عنها.

(13)

(تفرق شمل الاباضيين في صحراء تونس والجزائر) الخ (ص13 نهر21) والأصل الإنجليزي كما يلي:

،

وأنت تقول تفرق شمل الجيش أو الجماعة ولكنه يجوز أن يجتمع شملهم مرة أخرى، ولكن الأصل الإنكليزي يريد أن يقول على الضد مما أراد المترجم أن الأباضيين عاشوا مشردين (آفاقين) في جماعات مصادفة وأتفاق، وشتان ما بين المعنيين لأن كلمة قد أثبتت في المعاجم الكبرى، وكما تدل حقيقة، وأمامها (أتفاقاً، واقع متفرقاً)، (راجع بدجر ص 1009) وفي هذا تفريط لا يستهان به.

(14)

وجاء في نفس الصفحة والنهر: (ولهم أدب ديني تاريخي هام: وجماعاتهم دائمة الاتصال بعضها ببعض تحرص حرصاً شديداً على حماسها المتأجج) والعبارة هنا عبارة

ص: 86

فرنسية في كلمات عربية، ولا تمت للأسلوب العربي بأي سبب، ولكن على الرغم من هذا ترجع إلى الأصل الإنجليزي فتجده كما يلي:

،

والفرق شاسع بين الأصل والفرع، فقد قال المترجم:(ولهم أدب ديني تاريخي هام) والواقع أن الأصل لا يحتمل هذا المعنى مطلقاً، فأن المؤلف يريد أن يقول برغم المترجم:(لهم مؤلفات، دينية تاريخية ذات وزن) والسبب في خطأ المترجم أنه ترجم كلمة (بأدب) ولكنها في هذا الموضع تدل على المؤلفات والآثار الأدبية كما يقول فلا يصح أن نترجمها (الأدب العلمي) بل نقول المؤلفات العلمية، وقول المترجم (أدب ديني تاريخي) يدل على أن هذا الأدب قاصر على الكلام في الدين من طريق اتصاله بتاريخ نشوء دينهم. والأصل يريد أن يقول (مؤلفات دينية وتاريخية) والفرق ظاهر جلي، ولأن في الإنكليزية حرف عطف يا سيدي المترجم، وعلى الرغم من أن المترجم فصَّل من الجملة الواحدة ثلاث جمل مفككة مما نغضي عنه تجاوزاً، فأنه قال في عرض الكلام عن جماعات الاباضية أنها:(تحرص حرصاً شديداً على حماسها المتأجج) وعلى الرغم أيضاً من أن معنى (الحرص) لا أصل له في الجملة الإنجليزية، بل أن تفيد معنى الاحتفاظ بالشيء في مستوى بعينه، فأنه أردف الحماس بالمتأجج وصفاً له. والمتأجج لا أصل لها في الأصل الإنجليزي. فخرج بذلك عن وظيفة المترجم الأمين إلى وظيفة محرر جريدة يحاول أن ينمق كلامه بالخطابيات. ولو أنه أراد أن يترجم كلمة ترجمة حسنة فيها احتفاظ بالأصل، وفيها ما يريد من تأجج الحماسة لقال (حميتهم) لأن الحمية فيها الحماسة وفيها تأجج الحماسة معاً.

(15)

(ولقد أنقسم الأباضيون الأفريقيون ثلاثة أقسام سياسية ودينية على السواء (ص13 نهر 2) والأصل كما يلي:

،. .

وكان الواجب ان يلاحظ المترجم أن كلمة لا تترجم بقسم لأن قسم هو يجب أن تترجم بفرقة أو شيعة. وقال المترجم (أقسام سياسية دينية) وهذا بعيد عن الأصل لأن التعبير الأصلي يريد أن يقول (ثلاث فرق أو (شيع) لكل منها لون سياسي وآخر ديني) والله أعلم.

(16)

(ومن الطبيعي أن يعارض الأباضيون بشدة في اتهام أهل السنة لهم بالكفر (ص13

ص: 87

نهر 2) والأصل كما يلي:

،

ونحن نترك للمترجم الفاضل قوله (يعارض الأباضيون بشدة) لتقابل برغم أنها خطأ. ولكننا لا نستطيع أن نترك ترجمة كلمة بالكفر، لأن كلمة معناها الهرطقة. وبين الكفر والهرطقة فارق ما كان ليجل عن فهم المترجم لو أنه أراد وصبر على مكاره البحث. ذلك لأن الهرطقة درجة من درجات الكفر. والكفر خروج من دين إلى دين آخر، ومن درجاته الهرطقة والزندقة والردة وغيرها فقد يكون الإنسان هرطوقاً أو زنديقاً. ولكنه يبقى مسلماً يحتاج فقط إلى تصحيح دينه، كما يحتاج المترجم الفاضل إلى إصلاح ترجمته، ويبقى مع ذلك مترجماً. ولكن الكفر خروج من الدين. وكلمة هرطوق وجمعها هراطقة، أو أرطوق وأراطقة، من المعربات التي دخلت اللغة العربية وأصبحت صحيحة (راجع محيط المحيط). ولئن غضب الأباضيون على أهل السنة على رميهم إياهم بالهرطقة لا غير؛ فكم يكون غضبهم على المترجم الفاضل على رميهم بالكفر؟ نرجو من الله ألا يسمع الأباضيون خبر ذلك.

(17)

وجاء في (ص 14 نهر 2) ما يأتي: (وهذا النقاء سواء أكان عن إخلاص أو تظاهر يجعل منهم كتلة متجانسة متآلفة متمايزة تمام التمايز بسلوكها وأخلاقها وميولها بين أهل السنة من العرب والبربر) في شمال أفريقية والأصل كما يلي:

، ،

وأريد الآن أن أختتم هذا النقد حذر أن أطنب وإن كانت ترجمة دائرة معارف الإسلام جديرة بأكثر من هذه العناية.

قال المترجم أن هي النقاء، ولا أعلم كيف جاز له أن يستخدم هذا الاصطلاح المبهم، وحقيقتها (صوفية أو تصوف)، (أنظر بدجر ص 820) ولكنها ليست الصوفية او التصوف كما عرفه العرب؛ لأن صوفية العرب جاءتهم من ناحية الهند تغليباً أو من ناحية الإسكندرية ترجيحاً، بل هي الصوفية كما عرفت عند شيعة كنيسة نصرانية، لأن الكلمة هنا قد وضعت لتدل على وجه من الشبه بين الفئة التي يتكلم فيها المؤلف وبين فئة ظهرت في ثنايا الكنيسة النصرانية، ونقاء ترجمة حرفية لكلمة ومنها ولكن الخطأ في أن تستعمل

ص: 88

بنصها الأصيل لتدل على مذهب. وإلا لجاز لنا ان نترجم مثلاً اصطلاح بالغموضية أو الإبهامية في حين أنها وضعت لتدل على مذهب الجمود الفلسفي، ووضع المترجم الفاضل كلمة (تظاهر) لتقابل في الأصل كلمة وحقيقتها مراءاة أو نفاق. (أنظر بدجر ص 750).

وقال المترجم (متمايزة بسلوكها وأخلاقها وميولها بين أهل السنة من العرب والبربر في شمال أفريقية) والحق أن المؤلف يريد أن يقول (مميزة بسلوكها وأخلاقها وميولها عن أهل السنة أو بربر شمال أفريقية) فأن استعمال (بين) يدل على خطأ في الجملة يفسد مرماها وقوله (العرب والبربر) خطأ افظع من الأول لأن تترجم (أو) في الإنجليزية وقد أستعمل بدلها حرف عطف هو (الواو) تقابلها في الإنجليزية فأفسد بذلك المعنى.

على أني لا يسعني إلا أن أهنئ لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية من كل قلبي على عملها المجيد راجياً أن تسير فيه موفقة مسددة الخطو بأذن الله.

ص: 89