المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 200 - بتاريخ: 03 - 05 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٠٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 200

- بتاريخ: 03 - 05 - 1937

ص: -1

‌إلى الشباب

حول الديمقراطية أيضاً

لأستاذ كبير

لست أدري والله أي يومي (الرسالة) أمجد وأعلى، أهو الأمس وقد قصدت إلى عالي الأدب تنشره. وسامي المثل تضربه؟ أم هو اليوم وقد ضمت إلى ذلك مناجاتها لشباب البلاد وتوجهها إليهم لتحاورهم فيما يمس حياتهم، ولتلتمس معهم سبيل الهداية إلى ما هو أحرى بالقصد وأجدى على الوطن؟

ولقد أصاب مقالها الأخير في الديمقراطية مكاناً من النفس هز أوتارها، فإننا في أول عهدنا بحكم أنفسنا كما تقول وقد تشعبت أمامنا السبل ونشطت الآمال من عقالها؛ ولابد لنا من أن نسترشد في هذا العصر بالعقل الرزين والمنطق المتين، كما لابد لها أن نستلهم الشرف والوطنية، وأن ننأى عن كل مضنات الخطأ أو الإسفاف. وليس أحق من الرسالة بأن تلج هذه المعاني وتعالجها معالجة صريحة قويمة؛ وليس أحق من شباب البلاد بأن يرمي في هذا الحوار بسهمه ويدلي بدلوه، فإن المستقبل للشباب، ومصير البلاد آيل إليهم بعد حين؛ وما يكون اليوم خطأ يكون عليهم في المستقبل حملاً ثقيلاً، بل ربما يكون في سبيلهم عقبة لا يطيقونها ولا يقومون على تذليلها إلا بتضحيات ومشقات. فإذا نحن قلنا إن مصلحة البلاد في توخي هذه السبيل أو تلك فإن الشباب أول من يعنيه هذا القول، وينبغي لهم أن يكونوا أول المصريين اهتماماً للبحث وسعياً وراء المصلحة، لأنهم الذين سيجنون ثمار الخير إن كان خير، أو يحملون أوزار الخطأ إن كان لا قدر الله خطأ.

ولقد ثارت في الأيام الأخيرة كلمة في صحيفة من الصحف، ثم تبعتها كلمة أخرى في صحيفة أخرى، تناول فيها كاتباها موضوع الديمقراطية؛ وهاهي الرسالة تردد المعنى نفسه وتبحث فيه على أسلوبها ونبالة مراميها. وهذا الترديد في نفسه عظيم الدلالة، لأنه يدل على إن في النفوس معنى تحاول أن تستجليه، وذلك المعنى طبيعي لمن كان في عصرنا هذا يعيش بين تيارات مختلفة في مشارق الأرض ومغاربها؛ فبعض البلاد قد أتجه وجهة يسمونها الفاشية أو الدكتاتورية، ويحاول أنصارها أن يدعو لها ويمهدوا لحكمها بكل ما استطاعوا من وسائل الدعاية، ويدعمون حجتهم بأمرين: الأمر الأول إن تلك البلاد تهددها

ص: 1

أخطار جمة من جميع النواحي، فلا قبل لها بمقابلة تلك الأخطار إلا بجمع الشمل وضم الصفوف واتحاد الأفراد تحت إرادة واحدة لا يشذ عنها أحد. والأمر الثاني إن الطغاة القائمين على تلك الدول قد أصلحوا مرافق البلاد وزادوا في مجدها وقوتها ورفعوا شأنها بين بلاد العالم

ولسنا في صدد مناقشة هذه الحجج، ولا نريد أن نبين ما فيها من وجوه المغالطة والمداورة. وحسبنا أن نكرر هنا تلك الكلمة البديعة التي جاءت في افتتاحية العدد الأخير من الرسالة:(أنا أفهم إن المرء يقهر فيخضع، ويؤسر فيسترق، لأن الأمر في ذلك لا يخرج عن قانون الطبيعة من تغلب الأقوى وسيادة الأصلح، ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف يستأسر شعب بأسره لواحد منه فيلقي بزمامه إليه، ويعول في جميع أموره عليه، والشعب مهما صغر لا يقل عن شعب، والفرد مهما كبر لا يزيد على فرد)؟

ولعل مصر أبعد بلاد العالم عن فكرة الطغيان ولعل شعب مصر أشد شعوب العالم كرهاً لحكومات الطغاة. ولقد جربت تلك المحاولة مرات في مصر الحديثة، وجربتها من قبل دول فلم تدم تجربتها طويلاً على أساس ثابت. وجربها ساسة فأسفرت تجربتهم عن فشل، وعادوا من التجربة بصفحة شوهاء؛ ولم يفوزوا بما أرادوا من ثبات الحكم بل ضاعت مجهوداتهم في مناضلة روح الشعب الثائرة، ولم يستطيعوا التفرغ لإصلاح ولا لتجديد. وحسب البلاد أنها عرفت إن مآل الطغيان إلى الانهيار، فلا نحسب أحداً يحدث نفسه بتجربة أخرى في ذلك السبيل، ولا نظن أحداً يجرؤ على الدعوة إليها صراحة، لأن الشعب كله يشعر بأن ذلك جرم اجتماعي لا ينبغي له أن يتسامح فيه. فلذلك لا نرى ثمة حاجة تدعو إلى التعرض لفكرة الدكتاتورية بالنقد أو الهدم إذ قد كفانا الماضي شرها فهدمها في عقائد الشعب وأظهرها له في ابشع صورها وأشنع آثارها

ولكنا مع ذلك نحمد للرسالة الغراء أنها هتفت بذلك الاسم الحبيب إلى النفس وهو (الديمقراطية) لأن الشباب جدير بأن يجعلها قبلته وشعاره. فإن الشعب الذي يحترم نفسه لا يتسامح في أمر حكم نفسه، بل يصر على أن يكون مرجع كل أموره إلى إرادته، ويصر على أن يكون رأي الفرد وإرادة الفرد ومجهود الفرد وحرية الفرد أساساً ثابتاً للمجتمع لا يحد من ذلك كله إلا حد الدستور وحد القانون

ص: 2

ولكن الحكم الديمقراطي لا يكون حقيقياً إلا إذا كان متغلغلاً في كل نواحي الحياة غير مقصور على حكومة الدولة. فجدير بنا في هذا العهد أن نتجه إلى شبابنا نناشده أن يقيم كل حياته في مجتمعاته ومشروعاته على ذلك الأساس الحر الديمقراطي فيكون في مدارسه وفي جمعياته وفي نواديه صادراً عن عقيدة ثابتة في أن الفرد الكامل الحر هو الوحدة الصالحة للمجتمع الصالح الحر. وإن المجتمع الذي يقنع بأن يسير وراء إرادة فرد سيراً أعمى لا عن عقيدة بل عن خمول واستخذاء لن يكون مجتمعاً جديراً بالحياة.

(مصري)

-

ص: 3

‌ندرة البطولة

للأستاذ أحمد أمين

قالوا - إنا نتلفت يمنة ويسرة فلا نجد في عصرنا بطولة من جنس بطولة العصور الماضية، ولا نجد نبوغا رائعاً قوياً كنبوغ من نبغ في الأجيال السابقة. فتش - إذا شئت - في كل لون من ألوان البطولة، وفي كل ناحية من نواحي النبوغ تجد هذه الحقيقة واضحة

فهل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟

وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون وعمر بن مسعدة؟

وهل تجد في قيادة الحروب أمثال خالد بن الوليد وأبي عبيدة؟

وهل تجد في سياسة الأمم أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز؟

وهل تجد في الغناء أمثال اسحق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟

وهل تجد مؤلفاً في الأغاني كأبي الفرج الأصفهاني؟

وما لنا نذهب بعيداً ويوم فقدنا السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده لم نجد عوضاً عنهما في العلم بالدين والأخلاق والسياسة؟

ويوم فقدنا البارودي وحافظاً وشوقي لم نجد لهم خلفاً في شعرائنا

ويوم فقدنا عبده الحمولي ومحمد عثمان نتبلغ من الغناء بالقليل

ويوم فقدنا الشيخ علي يوسف لم نر من يسد مسده في الصحافة

ومن الغريب أنهم يشكون في أوروبا شكايتنا، ويلاحظون عندهم ملاحظتنا، فيقولون أن ليس عندهم في حاضرهم أمثال فجنر وبيتهوفن، ولا أمثال شكسبير وجوته، ولا أمثال رفائيل ولا أمثال دارون وسبنسر، ولا أمثال نابليون وبسمارك

فهل هذه ظاهرة صحيحة؟ وان كانت فما سببها؟

قد كانت كل الظواهر تدل على إن الجيل الحاضر أحسن استعداداً وأكثر ملائمة لكثرة النبوغ وازدياد البطولة، فقد كثر العلم وسهل التعلم، ومهدت كل الوسائل للتربية والتثقيف، وكثر عدد المتعلمين في كل أمة، وفتح المجال أمام النساء كما فتح أمام الرجال، فأصبحت وسائل النبوغ ممهدة للجنسين على السواء، وتقطر العلم إلى العامة فأصبحوا يشاطرون العلماء بعض معلوماتهم، وانتشرت الصحف والمجلات تغذي جمهور الناس بالعلم والأدب،

ص: 4

وأتصل العالم بعضه ببعض اتصالاً وثيقاً في المواصلات والعلم والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك

كل هذا يجب أن يكون إرهاصاً لكثرة النبوغ والتفنن في البطولة، لا لقلة النبوغ وندرة البطولة؛ فلم أصيبت الأمم كلها بهذا العقم وكان مقتضى الظاهر أن كثرة المواليد تزيد في كثرة النابغين، وكان مقتضى الظاهر أيضاً أن عصر النور يلد من الأشخاص الممتازين أكثر مما يلد عصر الظلام

يظهر مع الأسف - إن الظاهرة صحيحة وإن الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيرا من النوابغ، ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو (طابع المألوف والمعتاد) لا (طابع النابغة والبطل)

بقي علينا معرفة السبب في ذلك

من الأسباب القوية على ما يظهر أن الناس علا مثلهم الأعلى في النابغة والبطل، فلا يسمون بطلاً أو نابغة إلا من حاز صفات كثيرة ممتازة قل أن تتحقق؛ وهذا طبيعي، فكلما رقى الناس ارتقى مثلهم الأعلى

قد كنا إلى عهد قريب نعد من يقرأ ويكتب، وبعبارة أخرى (من يفك الخط) رجلاً ممتازاً لأنه نادر وقليل، فكان ينظر إليه نظرة تجلةً واحترام؛ فلما كثر التعليم بعض الشيء كان من أخذ الشهادة الابتدائية شاباً ممتازاً؛ فلما كثرت انتقل الامتياز إلى البكالوريا، ثم إلى الشهادة العليا، ثم إلى شهادات جامعات أوروبا، ثم أصبحت هذه أيضاً ليست محل امتياز، وارتفعت درجة النبوغ إلى شيء وراء هذا كله

والناس - على جملة - استنارت أذهانهم إلى حد بعيد، واكتشفوا سر العظمة، فأصبحت العظمة المعتادة لا تروعهم، إنما يروعهم الخارق للعادة، وأين هو تحت هذه الأنوار الكشافة؟

ثم شعر الناس بعظمتهم هم أيضاً وبشخصيتهم؛ والبطولة تأتي - في الغالب - عندما يسلس الناس زمام نفوسهم للبطل، فهم بطاعتهم له واستسلامهم لأمره وإشارته يزيدون في عظمته، ويغذون بطولته - فإن كانوا هم أيضاً يشعرون بعظمة أنفسهم قلت طاعتهم وقل تبجيلهم وخضوعهم لكائن من كان، وبذلك لا يفسحون للبطل بطولته فلا يكون. فلو وجد اليوم

ص: 5

شخص في أخلاق نابليون وصفاته ومميزاته ما حققوه في عصرنا، ولا كان إلا رجلاً عادياً أو ممتازاً بعض الامتياز؛ فأما أن تطيعه الخلائق هذه الطاعة العمياء وتبيع نفوسها رخيصة في سبيل مجده، وتسفك دماءها أنهاراً لتحقيق عظمته، فذلك ما لا يكون اليوم كما كان بالأمس

قد تضرب لي اليوم مثلاً بموسوليني ومصطفى كمال وهتلر، ولكن الفرق عظيم جداً، فهؤلاء يؤثرون في شعوبهم من ناحية أنهم خدام للشعوب لا سادة لهم، وأن الشعب إذا عظمهم فلأنهم يخدمونه، ويوم يثبت له أنهم لا يعملون لخيره ينفضون يدهم عنه. فأين هذا من الطاعة العمياء التي كانت لنابليون؟ ولهذا نرى كلاً من هؤلاء يتملق شعبه ويحاول أن يقيم البرهان كل يوم على إنه عامل لخيره ساع في سعادته لشعوره التام بأنه إنما يحكم الشعب بإرادة الشعب لا بإرادته هو، فإذا هو لم يتمتع بهذه الثقة سقط من عرشه، وهذا - من غير شك - يقلل شان البطولة

ولهذه الأسباب التي ذكرت أنها كانت تؤذن بكثرة النوابغ هي بعينها التي قللت النوابغ؛ وتعليل ذلك معقول، فكثرة العلم واستنارة الشعب جعلت النبوغ عسيراً لا سهلاً يسيراً

ومصداق ذلك أن الأمم فيما مضى كانت تمنح المشعوذين والمخرفين ألقاب البطولة، وتنظر إليهم نظر تفوق ونبوغ؛ من أمثال من كانوا يسمونهم (الأولياء) فيكفي أن يتظاهروا بالجذب ويتصنعوا الصلاح ويدعوا معرفة الغيب ليهرع إليهم الناس ويقبلوا أيديهم ويلتمسوا منهم البركة ويرفعوهم فوق النوابغ والأبطال؛ وأحياناً يلقبوهم (بالأقطاب) فلما فتح الناس عيونهم، وعقلوا بعد غفلتهم، واكتشفوا حيلهم ومكرهم لم تعد لهم هذه المكانة، وحل بعض محلهم المصلحون الاجتماعيون الذين يخدمون أمتهم بعملهم. ومعنى ذلك أن الشعوذة والمخرفة حل محلها مقياس المنفعة وسار الناس في طريق التقدير الصحيح وهو الاحترام والتبجيل على قدر ما يصدر من الشخص من خير عام حقيقي

ومن أجل هذا أيضاً رأينا التيار في هذه الأيام يتجه إلى تقليل شأن البطولة في الأعصر الماضية، فلم يعد البطل القديم في الأدب والسياسة والفن والعلم يقدر التقدير الكبير الذي كان يقدر به من قبل، لأن الناس أخذوا يحللون كل بطل، ويبينون سر بطولته، (ومتى ظهر السبب بطل العجب) ولم يقنعهم ما كان يحيط به من غموض فألقوا أضواء كثيرة

ص: 6

على من كانوا يسمون الأبطال، فأحياناً يؤديهم البحث إلى إنكار بطولة بعض الأشخاص بتاتا، وأحيانا يقللون من قيمة البطل، بل وأحياناً يرون بطلاً من أنكر الناس قديماً بطولته

ذلك لأن مقاييس البطولة تغيرت وأصبحت عند المحدثين خيراً منها عند الأقدمين، ولأن المحدثين رأوا أن القدم نسج لكثير من الناس أثواباً من البطولة لم تكن موجودة أيام حياتهم، وكلما تقدم الزمن منحهم الناس شارة بطولة جديدة - فلما عرض هذا كله للنقد وأزاح أهل العلم الحديث ستائر القدم تبين البطل في صورته الحقيقية أو قريباً من صورته الحقيقية، فأحياناً يرتفع الستار عن لا بطل، وأحياناً يرتفع عن بطل، ولكن دون ما كان يقدره القدماء؛ ونادراً ما يبقى البطل بطلاً كبيراً حتى بعدما ترتفع حجب القدم

ولهذا نجد كثيراً من المعاصرين هم في الحقيقة نوابغ، وهم يفوقون بمراحل بعض نوابغ الأقدمين، ولو كانوا في العصور الماضية لارتفعت منزلتهم فوق ما ارتفعت اليوم، ولكن لم نمنحهم نحن لقب البطولة للأسباب التي أشرنا إليها قبل من أننا رفعنا إلى حد بعيد المثل الأعلى للنبوغ، ولأننا نحلل النابغ ونكتشف سره، وذلك يقلل من تقديره، ولأنه معاصر والمعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ

وقد يتصل بهذا إن كثرة النبوغ تصنيع الاعتراف بالنبوغ، فكل أمة راقية الآن لديها عدد كبير من المتفوقين في كل فرع من فروع العلم والفن - في القانون - في الأدب - في الطبيعة - في الكيمياء - في الرسم - في التصوير. فلما كثر هؤلاء في كل أمة أصبح من العسير أن تميز أكبر متفوق منهم لتمنحه صفة النبوغ؛ ومن العسير أيضاً أن تسميهم كلهم نوابغ، لأن النبوغ بحكم اسمه ومعناه يتطلب الندرة، فلما كثر النابغون أضاعوا اسم النبوغ. وعلى العكس من ذلك الأمم المنحطة. لما لم يوجد فيها إلا قانوني واحد أو أديب واحد أو موسيقي واحد كان من السهل أن يمنح لقب النبوغ.

ثم إن الديمقراطية التي سادت الناس في العصور الأخيرة ونادت بالمساواة وألحت في الطلب أوجدت في الشعوب حالة نفسية كان لها أثرها في موضوعنا إذ أصبح الناس لا يؤمنون بتفوق كبير، لا في المال فهم يريدون الاشتراكية، ولا في السياسة فقد يتبوأ الحكم حزب العمال فيدير الأمور كما يديرها الأرستقراطيون في السياسة بل أحسن منهم

فدعتهم هذه الحالة النفيسة إلى أن يكفروا بالتفوق أو بعبارة أخرى يكفرون بالنبوغ؛ وبعيد

ص: 7

أن يعترف بنبوغ في جو يكفر به - لقد كان الناس قبل أكثر إيماناً بالفروق في المال والكفاية والعلم فكان هذا الإيمان وسيلة صالحة لظهور النبوغ، فلما جحدوا كل شيء كان النبوغ مما جحدوا

وأخيراً كان من أثر هذه الديمقراطية تعميم التعليم، والبحث في خير الوسائل لنشر العلم، فقامت النظريات المختلفة في التربية والتعليم وأصبح العلم شعبياً بعد أن كان أرستقراطياً

واستخدمت الوسائل المختلفة لتبسيط العلم وتحببه إلى النفوس، وغيرت نظم المدارس، فأنشئت رياض الأطفال مكان الكتاتيب، والمدارس الناعمة بدل المدارس الخشنة، واخترعت البيداجوجيا وسائل لتسهيل الدرس وإيصاله إلى الذهن من أقرب طريق

كان من نتيجة ذلك كثرة المتعلمين وقلة النابغين، واتساع البحر وقلة عمقه، وذلك لأن من كان يتفوق في الماضي كان يصادف عقبات لا حد لعددها ولا حد لصعوبتها، فكان من الطبيعي ألا يجتازها إلا الأقلّون، ولكن من يجتازها تكون لديه الحصانة الطبيعية ويكون قد تعود اجتياز العقبات واحتمل مشقة السير، فكان ذلك سبب النبوغ من ناحيتين، من ناحية قلة من يجتاز العقبات ومن ناحية من يجتازها

أما وقد أصبح التعليم معبداً ميسراً فقد زاد عدد المتعلمين وقل النابغون وأصبح الفرق بين العهدين كبذرة تربى في حديقة بستان وبذرة تنبت في الجبال حيث الرياح العاصفة والشمس المحرقة والمطر الذي لا نظام له. فأين نبت البستان من نبت الجبال، وأين الحيوان المستأنس من الحيوان المستوحش؟

وبعد، فما أحق هذا الموضوع بالدرس، وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة.

أحمد أمين

ص: 8

‌قرائي الذين يحبونني

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لكل كاتب قراؤه. وما من كاتباً يعدم قارئاً من كل طبقة، ولكن المعول على الأوفياء الثابتين على الولاء، فإن هؤلاء طريق الرزق، ووسيلة الاطمئنان والدعة، ولولاهم لما عرف المرء متى يمكن أن يتاح له أن يأكل، وإن كان لا يجهل كيف يجوع. ولست اعرف ماذا يصنع غيري ليهتدي إلى طبقات قرائه، ولكني اعرف إن مصلحة البريد أغنتني عن عناء السعي ومشقة التفكير في الوسائل المعينة على الاهتداء، فإن رسائل كثيرة تأتيني منها فأستخلص منها العلم الذي اطلبه والمعرفة التي اشتهيها. وما اكثر ما قلت لنفسي أن الجاحظ وأبن المقفع وعبد الحميد الكاتب ومن إليهم من هؤلاء الزملاء والرصفاء، كانوا مساكين. أوه جداً - فما عرفت الدنيا في أيامهم مصلحة البريد. وقد كان من الصعب ولاشك أن يعرفوا مبلغ حب الجمهور لهم وإعجابه بهم وماذا كان يمكن أن يبلغ من رواج كتبهم لو أنها كانت تطبع وتباع في المكاتب، وقد حرمهم هذا الحال الاستقلال عن الأمراء ومن إليهم. ومن الصعب أن يعمل المرء في الظلام. نعم كان الواحد منهم لا يعدم تشجيعاً من الشعب، ولكن هذا كان فلتة لا تحسب ولا يعول عليها. ومن السهل أن يتصور المرء إن الجاحظ مثلاً كان يلقى في الطريق واحداً يتقدم إليه ويقول له:(اسمح لي. . هل أنت الذي يسمى الجاحظ؟.)

فيهز رأسه أن (نعم) وهو راجف القلب لأنه يخشى الاعتراف الصريح المقيد، لئلا يكون هذا السائل من الشرطة

فيقول الرجل: (لقد صدقوا. . اعني أن أسمه في محله. . على كل حال. . ثابر يا بني!. . فأني أتنبأ لك بمستقبل باهر. .)

ويربت له على كنفه ويمضي عنه مبتسماً، وعينه إلى الملك الذي ينبغي أن يكون محتفظاً بمكانة على يمينه، مرهف الأذن مقيماً سن القلم على الدفتر المفتوح ليقيد له هذه الحسنة - حسنة التبرع الكريم بالتشجيع

وإذا كانت الرسائل التي ترد إلي دليلاً على شيء، فأني أكون أحب الناس - أعني الكتاب - إلى ثلاث طبقات: - المرضى، واللصوص، وقد نسيت الطبقة الثالثة. . لا بأس من يدري؟. . ربما تذكرتها أثناء الكلام. وقد عرفت هذا من الرسائل التي يحملها إلي البريد،

ص: 9

كما قلت. وهذا نموذج منها: (. . . . وبعد فإني لم اسمع باسمك من قبل، ولكني مرضت ودخلت المستشفى، وجاءني زائر فترك لي كتاباً أتسلى به، غير إني لم استطع أن أتصفحه في أول الأمر لشدة وطأة المرض، فلما خف قليلاً مددت يدي إليه وبدأت أطالع. وأؤكد إنه سرني جداً. وأنا صحيح الجسم في العادة، ولكن الأمراض لا أمان لها، كما تعرف، فأرجو أن تبعث إلي بمجموعة من كتبك كلها - ومعها جملة ثمنها - استعداداً للطوارئ فإن الحيطة واجبة وإن كان الأمر كله بيد الله

وتقبل سلام المعجب بك المعتمد بعد الله عليك)

وفي وسع القارئ أن يدرك مبلغ حيرتي، فإنه لا يسعني إلا أن أتمنى لمثل هذا الرجل الصحة والسلامة، ولكن المصيبة والبلاء العظيم إنه إذا صح وسلم كان خليقاً أن لا يعود إلى كتبي ليقرأها، فما العمل؟. . هذه هي المسألة - كما يقول هملت - وليس ذنبي إن الأمراض تحبب الناس في كتبي، فإذا كنت أسر حين أقرأ في الصحف إن الملاريا انتشرت فإن لي العذر، فما كان هذا ظني، ولا خطر لي قط على بال، ولكن مشيئة الله جعلتني مثل (الحانوتي) الذي يسره ويفرحه ما يحزن الخلق ويبكي المفجوعين. ولهذا ترونني إذا سمعت بفشو مرض أدخل مسروراً على أهل بيتي وأقول لزوجتي:(خذي يا امرأة. . (وألقي إليها بكل ما يكون معي، قل أو كثر) خذي وانفقي بلا حساب، فإن ما عند الله أكثر)

فتعجب وتسألني: (ماذا جرى؟. . . هل ربحت ورقة يانصيب؟.)

فأقول منكراً عليها هذا الخاطر: (وهل مثلي يعنى بورق اليانصيب؟ سبحان الله يا امرأة في طبعك!)

فتقول ضاحكة: (ولكن ألا تخبرني؟. . إنني أكاد أموت شوقاً إلى المعرفة)

فأقول وأنا أرمي إليها بالصحيفة التي قرأت فيها خبر المرض المتفشي، وعجز وزارة الصحة عن مكافحته:(خذي واقرأي، وأشكري الله، وقبلي يدك بطناً وظهراً، فلن نجوع أو نفتقر، مادام في الدنيا شيء اسمه مرض وشيء آخر اسمه وزارة الصحة. لقد جعلوها وزارة. . . رفعوها ورقوها ووسعوها. . أليس هذا باعثاً قوياً على الاطمئنان والثقة بالله؟)

وقد بالغت حين قلت إني محبوب من اللصوص وما أردت إلا أن لصاً واحداً - على ما

ص: 10

يظهر لي الآن - هو الذي يحبني، فلقد تلقيت مرة كتاباً يذكر لي فيه إنه سمع باسمي وشهرتي، فعرف إني كاتب عظيم جداً، فهو يكتب إلي مستنجداً فقد اتهموه بسرقة كلب. والقضية معروضة على القضاء، وكان محبوساً رهن التحقيق، ثم أفرجوا عنه بالكفالة الشخصية، وهو يحتاج إلى محام يدافع عنه ولكنه لا مال معه فهل أستطيع أن أدله على محام كريم، أو أعينه بطريقة أخرى. .؟ وهو يترك الأمر بين يدي واثقاً من مروءتي وكرمي فإن مثلي لا يخيب من يقصده

هذا هو الزبون الجديد، وقد قلت لنفسي لما تلقيت هذا الكتاب العجيب: (والله نجحت يا مازني!. . بلغت شهرتك أخفى الزوايا وتغلغلت إلى لصوص الكلاب. . ما شاء الله!. أحسب أن اللص حين يخرج إلى السرقة بعد اليوم، ستقول له زوجته أو أمه أو لا أدري من غيرهما:

(هل أنت متأكد إن معك كل ما تحتاج إليه؟)

فيقول: (أيوه. . أيوه)

فتقول: (أحذر أن تكون نسيت الطفاشة!. . العدة كلها معك؟. .)

فيقول: (قلت لك أيوه. . ألا تسمعين؟)

فتقول: (والمازني؟. . هل أخذته معك؟. .)

فيقول: (أوه. . طول الليل وأنا أقرأ كتابه. . وهل أستطيع أن أعمل شيئاً دون أن اقرأه؟. . أتظنينني مغفلاً؟ أم تحسبين أني حديث عهد بالفن؟)

فتقول: (لا. . إنما أردت أن أطمئن. . وأسمع. . أمش بحساب. . والبس القفاز قبل أن تلمس أي باب أو مفتاح أو حائط. . حاذر!)

فيقول: (اطمئني. . كل شيء على ما يرام. . ومعي المازني فلا تخافي ولا تقلقي)

ويلمس صدره حيث وضع الكتاب تحت ثوبه

ولكل قاعدة شذوذ واستثناء. وقد حدث منذ بضعة أيام ما كاد يغريني بتغيير رأيي في طبقات القراء الذين يحبونني ويؤثرونني على من عداي من كتاب هذا الزمان. ذلك أني كنت مدعواً إلى مأدبة عشاء فأتفق أن أجلسوني إلى جانب سيدة عجوز شمطاء، ودار الكلام على الأكل وكان بعض الذين يخاطبونني يدعوني:(الأستاذ) والبعض يؤثر أن

ص: 11

يرفعني درجة فيقول لي: (يا بك) ولكنه لم يعنى باسمي أحد كأنه عيب لا يليق أن يذكر ولاسيما على مسمع من السيدات

ثم التفت إلى العجوز وقالت: (إني سعيدة)

فقلت باختصار: (أهنئك)

فألحت في صرفي عن جارتي الأخرى، وكانت فتاة هيفاء نظيرة الحسن وصوتها كالتغريد

(صحيح. . سعيدة جداً. . كل كتبك قرأناها)

فتركت الفتاة وأدرت وجهي إلى هذه العجوز وسألت باهتمام: (صحيح؟)

فقالت باضطراب رابني: (كلها كلنا)

فقال مردداً قولها: (كلكم؟. . كلها. .؟ شيء جميل؟)

فقالت: (ابني على الخصوص. . إعجابه بك لا حد له)

فأردت أن استوثق وسألتها: (هل هو مريض؟)

قالت: (أعوذ بالله. . إن صحته جيدة جداً)

فقلت لنفسي إن هذا جديد، فيحسن أن أتقصى الأمر وسألتها:(ألم يصبه مرض قط؟)

قالت: (أبداً. . أبدا. . قوي جداً. . كسيد نصير)

قلت: (عجيب هذا. .)

فقالت: (كتبك كلها عندنا تراها في كل غرفة. .)

فسألتها: (أهي حسنة التجليد؟)

قالت: (لا. . كما اشتريناها. . كل بناتي وأحفادي يقرءونها ويحملونها معهم حيثما يكونون)

قلت: (شيء جميل)

فقالت: (أوه. . لشد ما يفرحون الليلة حين أقول لهم إني كنت جالسة إلى جانب تيمور بك)

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 12

‌أمراء للبيع.

. .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي الملقب طوير الليل أحد أئمة الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة:

كان شيخنا الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن مجد الدين بن دقيق العيد لا يخاطب السلطان إلا بقوله: (يا إنسان)، فما يخشاه ولا يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء. وكان هذا عجيباً؛ غير إن تمام العجب إن الشيخ لم يكن يخاطب أحداً قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه (يا إنسان)، فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين، ولا يرى أحسن ما في هؤلاء وهؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية.

ثم كان لا يعظم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء، فإذا خاطب منهم أحداً قال له (يا فقيه). على إنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين بن الرقعة. ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله (يا إمام)؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة لا يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثة؛ فهو كالبرهان إجلاله إجلال الحق لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى.

وقلت له يوماً: يا سيدي أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة، فإن علوت قلت (يا إنسان) وإن نزلت قلت يا إنسان؛ أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها، ثم جعله الملك إنساناً بذاته في وجود ذاته حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة، يستويان في العنصر ويتباينان في القدر، وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟

فتبسم الشيخ وقال: يا ولدي إيش هذا؟ إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها؛ فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون ديناً؛ ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود. والمنافق رجل مغطى في حياته ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم

ص: 13

يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين فإذا نافق فقد كذب وغش وخان.

وما معنى العلماء بالشرع إلا إنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهراً بعد دهر، ينطقون بكلمتها ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها فهي أداة لإظهاره وإظهار جماله معاً.

أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور يظهر النور نفسه فيه ويظهر حقيقته البلورية، وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير

وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها، فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي، ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة فهو معه في كل حالة يسأله: - ماذا تفعل وماذا تقول؟

والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطونني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟

إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر أو في بعضه دون بعضه فهو زائف كله. وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع أمثال هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم. . . فينزلونهم بذلك منزلة البهائم تقدم أعمالها لتأخذ لبطونها. والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله. . .

فإذا رأيت لعلماء السوء وقاراً فهو البلادة، أو رقة فسمها الضعف، أو محاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتاً عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها

قال الإمام وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام. فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش إذ هو في الدم كالقلب لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره. ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام القوة قوة لا تغلب. وانتزع خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل

ص: 14

وتبديل في طباع الناس حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلق في جنازته حين مرت تحت القلعة: الآن استقر أمري في الملك، فلو إن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لأنتزع مني المملكة

وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر؛ فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجراً، فأتبعه الصالح بعض خواصه يتلطف بها ويقول له: ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا إن تتخشع للسلطان وتقبل يده. فقال له الشيخ: يا مسكين أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي. أنتم في واد وأنا واد:

ثم قدم إلى مصر في سنة 639 فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتخفى به وولاه فطابت مصر وقضاءها. وكان أيوب ملكاً شديد البأس لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيباً، ولا يتكلم في أحد بحضرته ابتداء؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر. فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته ليسمع هذا الملأ العظيم: يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكر انتهى إلى علمه في حانة تباع فيها الخمر. فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة وأعتذر إليه

فحدثني الباجي قال: سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر فقلت يا سيدي كيف كانت الحال؟

قال يا بني رايته في تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره، فكان ما باديته به

قلت: أما خفته؟

قال: يا بني استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط. ولو إن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته الدنيا كلها؛ بيد إني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لاشيء في صورة شيء

نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم فالذي يأمرهم فينا

ص: 15

هو الشرع لا الإنسان. وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها. فإذا كان ذلك فههنا المعنى بازاء المعنى، فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت

وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها فيكون باطلاً مزوراً في صورة الحق وههنا تكون الذات مع الذات فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف

كلا يا ولدي! إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها. فإذا تفككت واحتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير. وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخزه؟

إن العالم الحق كالمسمار؛ إذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كل خشبة. . .

قال الإمام تقي الدين: وطغى الأمراء من المماليك وثقلت وطأتهم على الناس؛ وحيثما وجدت القوة المسلطة المستبدة جعلت طغيانها واستبدادها أدباً وشريعة؛ إلا أن تقوم بازائها قوة معنوية أقوى منها. ففكر شيخنا في هؤلاء الأمراء وقال إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد؛ إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن وأن كان قبيحاً في ذاته ولا أقبح منه؛ ويرون كل قبيح عندها هو القبيح وإن كان حسناً ولا أحسن منه

وقال: ما معنى الإمارة والأمراء؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله. وكان ينبغي أن تكون هذه الإمارة أعمالاً نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها في الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس

وفكر إن الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين ويجب شرعاً بيعهم كما يباع الرقيق

وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم؛ ثم احتدم الأمر وأيقنوا أنهم بازاء الشرع لا بازاء القاضي أبن عبد السلام

ص: 16

وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصحح لهم شيئاً من هذا حتى يباعوا ويحصل عتقهم بطريق شرعي

ثم جعلوا يتسببون إلى رضاه ويتحملون عليه بالشفاعات وهو مصر لا يعبأ بجلالة إخطارهم ولا يخشى اتسامه بعداوتهم، فرفعوا الأمر إلى السلطان فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه

واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه، وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي

وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبال بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر فاكترى حميراً أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام. فلم يبعد إلا قليلاً نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي، وسار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به. واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك

فأرتاع السلطان فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع به غضب الأمة، وأطلق له أن يأمر بما شاء وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه، ولبس طيلسان العلماء كما يلصق الريش على حجر في صورة الطائر

ورجع الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم وضرب لذلك أجلاً بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل القاهرة ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي

وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه فلم يعبأ الشيخ به. فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما لا يملك ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه مادام هذا الرأي لا يمر في منافعه ولا في شهواته ولا في أطماعه كالذين

ص: 17

نراهم من علماء الدنيا. أما والله لأضربنه بسيفي هذا فما يموت رأيه وهو حي.

ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب

فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فأنقلب إلى أبيه وقال له: أنج بنفسك، إنه الموت، وإنه السيف، وإنه وإنه

فما أكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير بل قال له: يا ولدي! أبوك أقل من أن يقتل قي سبيل الله

وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت فليس فيه الإنساني بل الإلهي؛ ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف؛ فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها

وتناوله بروحه القوية فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسر من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال: يا سيدي ما تصنع بنا؟

قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم

- وفيم تصرف ثمننا؟

- في مصالح المسلمين

- ومن يقبضه؟

- أنا

وكان الشرع هو الذي يقول (أنا)، فتم للشيخ ما أراد ونادى على الأمراء واحداً واحدا واشتط في ثمنهم لا يبع الواحد منهم حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ. وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه ليشتروه. . .

ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع:

أمراء للبيع! أمراء للبيع. . .

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 18

‌القاهرة المعزية

ووجوب الاحتفاء بعيدها الألفي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 2 -

تقترب القاهرة المعزية من عيدها الألفي دون أنن يثير ذلك في دوائرنا الرسمية أو الأدبية كبير صدى؛ ومن الغريب أن بعض الأجانب الوافدين الذين يكتبون عن بلادنا الفصول والملاحظات الطائرة لم يفتهم أن ينوهوا فيما يكتبونه عن القاهرة بأنها مدينة ألفية، وأنها موطن الجامعة الألفية الوحيدة في العالم؛ ذلك أن هذه الحقيقة التاريخية تشير حقاً أعظم اهتمام من كل أولئك الذين يضطرمون إعجاباً بعظمة التراث الحافل، ويحنون رؤوسهم إجلالاً لروعة التاريخ

وإذا كانت القاهرة ليست هي المدينة الألفية الوحيدة بين حواضر العالم القديم، وإذا كانت أثينة ورومة والإسكندرية وقسطنطينية تشاطرها هذا الفخر وتفوقها في مداه، بل تشاطرها هذا الفخر حواضر إسلامية أخرى مثل بيت المقدس، ودمشق، وبغداد، فإنها مع ذلك تمتاز على هذه الحواضر جميعاً بأنها تمثل أروع عصور التاريخ جنباً إلى جنب؛ فالآثار الفرعونية الباهرة التي تغيض فيما وراء القرون تشرف عليها مجللة بروعة الخلود، وآثار العصور الإسلامية المختلفة تنبث في جنباتها وتسبغ عليها لوناً إسلامياً عميقاً وتزينها بكل ما ازدانت به هذه العصور المجيدة من فن وروعة وبذخ؛ ثم إن بشائر العصر الحديث وإمارات الحضر الناضج، وكل ألوان الحضارة المعاصرة بما فيها من تطور وتجديد وابتكار، تطبعها بطابعها القوي، فهي من هذه الناحية من أجمل واحدث العواصم القديمة، بل هي تفوق من هذه الناحية عواصم العالم القديم: رومة وأثينة وقسطنطينية، ومع ذلك فإن هذا التجدد السريع لم يجردها من جلالها القديم، ولم يخلع عنها تلك الروعة التي يسبغها تعاقب الأحقاب على الحواضر التالدة

وفي وسع القاهرة أن تتيه على عواصم العالم القديم كلها بتراثها الأثري والفني الباهر؛ ذلك أنها فضلاً عما يحتويه متحفها الفرعوني الشهير من الكنوز الرائعة التي لا تضارعها أية

ص: 20

كنوز أثرية أخرى، تحتفظ بأعظم مجموعة من آثار العصور الوسطى يمكن أن تفخر بها مدينة عظيمة ومنها آثار المدينة الألفية القديمة التي مازالت ماثلة إلى يومنا

والقاهرة ليست مدينة عظيمة فقط، وإنما هي كباقي حواضر العالم القديم عنوان حضارة ومجمع تاريخ؛ وتاريخ الأمصار العظيمة من أهم النواحي في تاريخ الحضارات والدول، ولاسيما في العصور الوسطى، حينما كانت حياة المدينة ترتبط أشد الارتباط بمصاير حضارة أو دولة معينة. وإذا كان تاريخ أثينة والمجتمع الأثيني يعني تاريخ اليونان القديم دولة وحضارة، وإذا كان تاريخ رومة ومجتمعاتها في عصور الجمهورية والإمبراطورية، هو تاريخ الرومان والحضارة الرومانية، وإذا كان تاريخ قسطنطينية في العصور الوسطى، هو تاريخ الدولة البيزنطية وحضارتها، فإن تاريخ القاهرة وتاريخ أسرها الملوكية ومجتمعاتها الرسمية والشعبية هو تاريخ مصر الإسلامية وتاريخ حضارتها في العصور الوسطى

ولا ريب أن العيد الألفي لمصر من الأمصار التالدة أو منشأة من المنشآت الجليلة هو من الحوادث القومية العظيمة التي يحق للأمم أن تفخر بها وتعتز؛ ذلك أن هذه الأعياد الألفية ليست من الأحداث العادية في تواريخ الأمم، بل هي بالعكس أحداث فريدة نادرة، ومثلوها في تاريخ أمة من الأمم دليل على عراقة هذه الأمة في ماضيها وحضارتها ودليل على ما تمتاز به من الحيوية والصفات الأزلية؛ ومصر أمة أزلية بلا ريب، وهي من هذه الوجهة تستطيع أن تتيه على لمم الأرض جميعاً بما حباها الله به من صفات الأزلية والخلود التي ترجع بها إلى ما قبل عصور التاريخ؛ وتتخذ الأمم العظيمة من الإشادة بهذه الذكريات والخواص الأزلية وسيلة للدعاية، وتحيطها بأعظم مظاهر التكريم، وتتبع في ذلك سياسة ثابتة تقوم على تنفيذها هيئات خاصة يقظة لكل ما يجد من هذه المناسبات؛ وقد تضع هذه الهيئات برامجها وتبدأ استعداداتها للاحتفاء بإحدى الذكريات القومية العظيمة قبل وقوعها بأعوام عديدة، فإذا حل موعد الذكرى كانت الاحتفالات العظيمة والمهرجانات الباذخة والمظاهرات القومية الرائعة التي تحج إليها الوفود من كل صوب، والتي تتخذ وسيلة للدعاية الواسعة في سائر الأقطار الأخرى

ولنن يمض سوى القليل حتى تواجه مصر عيدين من أجل الأعياد القومية: هما العيد الألفي

ص: 21

لقيام القاهرة المعزية، والعيد الألفي للجامع الأزهر؛ فماذا فعلت دوائرنا الرسمية والعلمية للاحتفاء بهذين الحادثين العظيمين؛ أكبر الظن أنه لم تتخذ حتى الآن أية خطة رسمية مقررة في هذا الشأن سوى ما رددته مشيخة الأزهر منذ ثلاثة أعوام في شأن الاحتفال بعيد الأزهر، ثم انقطع صداه بعد حين؛ وأكبر الظن أنه سيمضي حين آخر قبل أن توضع برامج أو تتقرر اعتمادات أو تتخذ أهبات في هذا السبيل؛ فإذا وفقت الجهات المختصة إلى اتخاذ أية خطوة عملية كان ذلك بعد فوات الوقت أو في آخر لحظة، وعندئذ يجيء الاحتفال خلواً من الروعة التي يجب أن تحاط بها مثل هذه المناسبات

والواقع أن ما تبقى من الوقت بيننا وبين هذين العيدين الجليلين لا يكاد يكفي لاتخاذ أهبات غير عادية؛ فليس بيننا وبين عيد القاهرة الألفي الذي يقع في شعبان سنة 1358 سوى ثلاثين شهراً؛ ويقع العيد الألفي للأزهر بعد ذلك بعدة أشهر في جمادى الأولى سنة 1359؛ بيد أنه مازال ثمة متسع من الوقت يكفي للعمل الجدي المتواصل في سبيل تنظيم الاحتفاء القومي بهذين العيدين في نوع من الفخامة والجلال

ولقد كانت القاهرة المعزية منشأة فاطمية، نمت وترعرعت في كنف الدولة الفاطمية الباذخة، وشهدت في ظلها ألواناً ساحرة من الفخامة والبذخ والبهاء، يقصها عليك المؤرخون المعاصرون مثل المسبحي وابن الطوير وابن المأمون؛ وكان الأزهر غرس الدولة الفاطمية اليانع، بل كان أينع ما غرست دولة إسلامية، وأعظمه قدراً، وأبعده أثراً، وأبقاه على كر العصور؛ ولقد قامت الخلافة الفاطمية بمصر بعد قيام القاهرة والجامع الأزهر بقليل، في رمضان سنة 362هـ (يونية سنة 973م) حينما قدم المعز للدين الله أول الخلفاء الفاطميين بأهله وماله إلى القاهرة عاصمته الجديدة؛ ففي أعوام قلائل يكون قد مضى ألف عام على قيام الخلافة الفاطمية بمصر، وقد كانت هي الخلافة الإسلامية المستقلة الوحيدة التي قامت بمصر الإسلامية، وعاشت في ظلها أكثر من قرنين

أفلا يجمل أيضاً أن نحتفي بذكرى الخلافة الفاطمية منشئة القاهرة والجامع الأزهر لمناسبة مرور ألف عام على قيامها بمصر؟

إن ذكرى الخلافة الفاطمية ترتبط أشد الارتباط بذكرى القاهرة والأزهر حتى إنه ليصعب أن نحتفي بعيديهما دون أن تشغل ذكرى الخلافة الفاطمية مكانتها في هذين العيدين؛ ولن

ص: 22

يكون للإشارة بهذه الذكرى سوى معناها التاريخي الجليل، ولن تحيط بها أي اعتبارات دينية أو مذهبية؛ ونذكر للتنويه بهذا المعنى التاريخي الجليل، أن إسبانيا النصرانية لم تر بأسا من الاحتفاء بذكرى الخلافة الإسلامية؛ ففي سنة1929 احتفلت جامعة قرطبة بذكرى الخلافة الإسلامية لمناسبة مرور ألف عام على قيامها بقرطبة؛ وقد كان قيام الخلافة الإسلامية في قرطبة كما نعرف سنة 317هـ الموافق لسنة 929ميلادية، وكان أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبد الرحمن الناصر، وهذه الذكرى التاريخية الجليلة هي التي احتفلت بها جامعة قرطبة في سنة 1929، وكان لتصرفها أجمل وقع في العالم الإسلامي

ولقد جرت مصر الفتية الناهضة على انتهاز كل الفرص والمناسبات العلمية والاجتماعية الدولية والاشتراك فيها، والإعلان عن نفسها بأحسن ما تعلن أمة حديثة ناهضة؛ وهي تلبي كل عام عشرات الدعوات لشهود المؤتمرات والمعارض الدولية المختلفة والمهرجانات العلمية ولا تبخل في ذلك السبيل بالاتفاق لأنها تقدر كل ما تجنيه من الفوائد المعنوية والمادية من الاشتراك في تلك الاجتماعات الدولية الكبيرة؛ وقد كانت آخر مناسبة من هذا النوع اشتراكها في معرض باريس الدولي، وهو اشتراك اقتضت نفقاته الرسمية منها زهاء عشرين ألف جنيه؛ فهل تبخل مصر بأن ترصد مثل هذا المبلغ بل أن ترصد أضعافه للاحتفال بعيد القاهرة وعيد أزهرها الألفي؟

إن إقامة مهرجان ألفي لمدينة القاهرة تحج إليه وفود الأمم من أنحاء الشرق والغرب يكون أعظم دعاية لمصر التالدة ومصر الفتية الحديثة معاً، وأعظم وسيلة للتعريف عن ماضيها الباهر وعظمتها السالفة؛ وأن إقامة مهرجان ألفي للجامع الأزهر تشترك فيه وفود الجامعات والهيئات العلمية من جميع الأمم يكون مظاهرة إسلامية علمية رائعة للإعلان عن الدور العظيم الذي أدته الجامعة الألفية في تكوين التفكير الإسلامي لا في مصر فقط ولكن في العالم الإسلامي كله، وعن الصرح العلمي العظيم الذي كان الأزهر قوامه والذي لبث ملاذ التفكير الإسلامي والآداب العربية قروناً مديدة ولاسيما في عصور الاستعباد والانحلال الفكري والاجتماعي

تلك دعوتنا المتواضعة نرسلها للمرة الثانية راجين أن تجد صدى قوياً في دوائرنا الرسمية والعلمية، فتعمل على تحقيق هذه الأمنية القومية الكبرى بكل ما يجب لها من روعة وجلال

ص: 23

محمد عبد الله عنان

ص: 24

‌في الأدب المقارن

الوصف

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

الوصف من صميم الفن ولباب الأدب وأدل ضروب القول على صدق الشعور وذكاء القلب، إذ أن روائع المشاهدات وطرائف المحسوسات وجديد المرئيات من أشد الأمور تأثيراً في نفس الأديب، واستجاشة له إلى التأمل، ودفعاً له إلى القول؛ وليس خير الوصف ما أحاط بكل حقائق الموصوف وأحصى كل دقائق أجزائه، كما تحصي الصورة الشمسية كل صغيرة وكبيرة منن الشيء المصور، وإنما خير الوصف ما أظهر المهم الرائع من أجزاء تلك الصورة، وأبان عن أثرها في النفس، وما تبعثه فيها من ذكريات وأطياف وأشجان وإطراب، وارتحال الأديب من صقع إلى آخر، ومن بلد إلى سواه ومن دواعي لجوئه إلى الوصف، يعرض فيه ما يتوالى على عينيه وحواسه من آثار ومظاهر؛ ومن ثم كانت الرحلة من أهم الأحداث في حياة الأديب بل من أهم مكونات شخصيته.

والوصف من أشد آثار الأدب إمتاعاً للنفس واستدعاء لانتباهها وإرضاء لغرائزها: إذ هو يرضى من الإنسان غريزة التقليد والحكاية لشتى المرئيات والمحسوسات، ويروي منه الميل إلى الإحساس صدى عواطفه لدى الآخرين، فهو يستريح إلى الأديب الذي يصف من المشاهدات ويروي من الاحساسات ما قد يكون القارئ مر به في مختلف أطوار حياته. والوصف أيضاً يحرك الخيال ويمتعه ويفسح له مجال العمل، ويبعد به وراء حدود الحياة اليومية الحاضرة. ومن ثم نرى البيت أو البيتين يعرضان في القصيدة الطويلة مشتملين على وصف رائع لمنظر أو حادث أو إحساس، فيكونان غرة القصيدة وأحب أبياتها إلى النفوس.

ولما كان الوصف ضرباً من القول فنياً صميماً، وكان يحتاج لتجويده إلى إطالة النظر وطول التقصي ورياضة الكلام، وكانت موضوعاته أكثر من أن تعد وأوسع من أن تفنى، كان الوصف يبلغ أوج ازدهاره حين يبلغ الأدب طوره الفني، باستقرار الأمة وتحضر

ص: 25

مجتمعها وذيوع الثقافة بين أبنائها، واستعمال الكتابة الخطية وتوفر الفراغ للتروي والمعالجة والمعاودة للمنشئات الأدبية فالوصف من أهم أبواب القول التي تتسع وتترقى في طور الأدب الفني ذاك. ومصداق ذلك واضح في الأدب اليوناني قبل ازدهار الحضارة وبعده: ففي أشعار هوميروس لا يأتي الوصف إلا عرضاً ولا يوصف من الأشياء إلا ما دعت إليه الضرورة، وأكثر الاهتمام مصروف إلى القصص؛ فلما جاء شعراء الدراما واستغلوا نفس موضوعات هوميروس أحياناً، وشوها ببديع الأوصاف الفنية المقصودة لذاتها.

وفي الشعر العربي الجاهلي شذرات من الوصف رائعة، إذ كان ذلك الشعر بلغ من الفنية حداً لا باس به؛ وكان لبعض الشعراء إلمام بالموصوفات يبدون فيه ما عرف به العربي من توقد القريحة ونفاذ البديهة وبلاغة الإيجاز؛ ولهم أوصاف حسنة لبعض أنواع الحيوان ولاسيما الجياد والإبل والظباء، وللمواقع والأطلال والأنواء، وفي المعلقات نماذج لكل ذلك ممتعة، حيث يصف كل من عنترة وامرئ القيس جواده ويصف لبيد ناقته، ويصفون جميعاً أطلال ديار أحبتهم

ومن أجود أوصاف الحرب في الشعر الجاهلي قول القائل:

صريف أنيابها صوتت الحديد إذا

قض الحديد بها أبناؤها الوقر

في جوها البيض والماذي مختلط

والجرد والمرد والخطية السمر

جاءت بكل كمي معلم ذكر

في كفه ذكر يسعى به ذكر

لهم سرابيل من ماء الحديد ومن

نضح الدماء سرابيل لهم أخر

مضاعفات عليهم يوم بأسهم

لونان جون وأخرى فوقهم حمر

وبانتشار الحضارة وذيوع الثقافة اتسع باب الوصف في العربية أعظم اتساع، ووصف الشعراء مظاهر العمران والترف وقصور الملوك ومواكبهم وحدائقهم وجيوشهم وسفائنهم، ووصفوا الخمر ومجالس الشرب والطرب، ووصفوا الجواري والغلمان، ووصفوا الصيد والسباق، وأولع الجاحظ وبديع الزمان بوصف الأحوال الاجتماعية، فصورا مناظر في الحمام وفي السوق ومواقف التخاصم والتقاضي، وأجريا الحوار بين شتى الأشخاص عالهم وسافلهم. وأشتهر أبو نواس بوصف الخمر، والبحتري بوصف القصور، والمتنبي بوصف

ص: 26

الحروب، وابن الرومي بوصف الفواكه والمآكل وتصوير الشخصيات الهزلية

ولما تغلبت الصناعة وطلبت البراعة اللفظية والنكتة المعنوية والتأنق والتظرف، انعدم الحس أو كاد في الوصف، وتعلق الأدباء بوصف توافه الأشياء كالمحبرة أو الإسطرلاب أو القلم أو الكأس، أو ما شابه ذلك مما هو في غنى عن الوصف، وما وصفه إلا تحصيل حاصل وإضاعة وقت، فإن الأصل في الوصف الفني كما تقدم أن يكون له باعث من شعور صميم، لا أن يكون الغرض منه حكاية تفاصيل باردة فاترة. وقد أولع بذلك الضرب من الوصف النظري ابن المعتز وابن خفاجة وكشاجم؛ فلما أوغل الأدب في التصنع وجانب الأدباء كل ذوق وكل معقول في التعمل والأغراب، انقلب الوصف في أيدي أكثرهم ألغازاً، فألغزوا في أنواع المآكل والأسماء والآلات، وبأمثلة هذا الضرب من الأحاجي السقيمة تمتلئ مقامات الحريري وأشعار ابن نباتة المصري وأضرابه

والأدب الإنجليزي حافل منظومه ومنشوره بمحاسن الأوصاف؛ بيد أن باب الوصف فيه مخالف للوصف في الأدب العربي من وجوه شتى: فهما مختلفان في الموضوعات التي اتخذها كل منهما مادة وأدمن طروقها؛ فقد تناول الأدب العربي - كما تقدم - وصف أنواع من الحيوان، ووصف مظاهر اللهو والرفاهية، وتناول بعد ذلك قليلاً من وصف الطبيعة والمجتمع؛ أما الأدب الإنجليزي فهو أحفل بوصف هذين الأخيرين منه بوصف أي شيء آخر، فالطبيعة كانت قبلة أكبر شعرائه وكتابه وشغلهم الشاغل، ووصفها كان دأبهم أياً طرقوا من موضوعات القول، فامتلأ الأدب الإنجليزي بكنوز من أوصاف الطبيعة، تكاثر ما قيل في أي باب آخر من أبواب الشعر والنثر؛ فالوصف الطبيعي مادة جانب عظيم من الشعر الإنجليزي، كما إن الوصف الاجتماعي مادة جانب عظيم من القصص والدرامات

وفي الأدب الإنجليزي ضرب آخر من الوصف يستأثر به دون الأدب العربي، على إنه من صميم الفن وأعلق نواحيه بالإنسانية الشاملة والشعور العميق، ذلك هو وصف آثار الأقدمين من عمائر وحصون وتماثيل وصور وأبناء وعظائم، ففي ذلك كله منادح للخيال ومجال للابتداع ومذاهب للفكر، وتأملات في أحوال الإنسان وتقلب العصور والأحداث، وتعظيم لقدرة الإنسان وتقدير للفنون، وكل ذلك يكاد يكون معدوماً في الأدب العربي، والمثل الرائع الفريد في هذا الباب هو سينية البحتري التي لو كثرت مثيلاتها في الأدب

ص: 27

العربي لكان أرفع قدراً، وكان أعلامه أسير في العالمين ذكراً

ولم يقتصر أدباء الإنجليزية على آثار التاريخ يستوحونها ما فيها من منادح الوصف الشائق والتصوير المجسم، بل عمدوا إلى الخرافة ولعلها أحفل بذلك من التاريخ، إذ كانت أحفل منه بآثار الخيال وأحلام الإنسانية ومثلها العليا في القوة والجمال والسعادة، فاتخذ الشعراء والقصاصون تلك الخرافات مادة وهيكلا لمنشآتهم، ورصعوها بما شاءت لهم براعتهم من أوصاف ووجدوا في أشعار هوميروس وفرجيل وقصص العصور الوسطى وأساطير الشرق والغرب مجالاً لفنهم، فأعادوا سرد ما راعهم من حوادثها ومواقفها سرداً فنياً مسهب الوصف مشبعاً بجميل المناظر والعواطف.

وكما يختلف الوصف في الإنجليزية عنه في العربية في الموضوع اختلافاً كبيراً، يخلفه في الوسيلة مخالفة معدودة، ففي العربية أوصاف بالغة من الكمال والإمتاع، بيد أنها جميعاً تعتمد على المعنى دون اللفظ، وعلى التشبيهات والمجازات، وتحتوي على كأن أو كاف التشبيه ظاهرة أو مستترة، أما في الإنجليزية فيستعين الشعراء بجنب هاتيك جميعاً على وسيلة أخرى، ليست أقل أداء للغرض وتصويراً للمنظر وإشباعاً للخيال والحواس، تلك هي الملاءمة بين صوت اللفظ وبين المعنى المصوغ فيه

وهذه الطريقة التي يلجأ إليها الإنسان عمداً وعن وعي في طور الأدب الفني، قد لجأ إليها في عهوده البدائية، أيام كان يصوغ ألفاظ لغته ويطلق كلاً منها على كائن من الكائنات، أو صوت من الأصوات، أو عمل من الأعمال، أو غير ذلك. فألفاظ الرشاش والشواظ والسلسبيل والسكون وغيرها، تدل بنطقها على مدلولها لأن الأقدمين إنما اشتقوها من هيئة مدلولاتها، فعلوا ذلك عفواً وبداهة، حتى إذا ما بلغ الأدب الطور الفني واستعان الشعراء والكتاب بالتدوين وأطالوا التجويد لما ينشئون استرعت الألفاظ انتباههم بعد أن كان جل اهتمامهم موجهاً إلى المعاني؛ وعند هذا الحد من التطور افترق الأدبان العربي والإنجليزي في طريقة استخدام الألفاظ. فأما الأدب العربي فجعل اللفظ غاية في ذاته، وجعل التأنق فيه مطمحاً مستقلاً، وأما الأدب الإنجليزي فعالج اللفظ وراضه وتأنق في صياغته، ولكن لا على أنه غاية في نفسه، بل على أنه وسيلة للمعنى لا أكثر

فإذا كان في المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو جواد، استخدم الشاعر

ص: 28

الإنجليزي بحراً من بحور الشعر يلائم تلك الحركة، وإذا كان به صوت أو أصوات مختلطة كهدير الأمواج أو قصف المدافع، اختار من الألفاظ تلك التي تحتوي على حروف خشنة قوية، وإذا كان يصف منظراً ساكناً وادعاً لم يذكر ذلك في القصيدة ذكراً، وإنما استعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين مثلاً، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له فنه، ككثرة العطف أو القطع، وتكرار الحروف أو الكلمات أو التراكيب أو الشطور أو الأبيات الكاملة. وقد اشتهر بالتفنن في هذا التصوير اللفظي تنيسون وسبنسر وملتون، بل سائر أقطاب الشعر الإنجليزي، بل جاراهم في ذلك بعض الكتاب مثل ستيفنسن

وقد وقع شيء من ذلك في بعض أشعار الوصف في العربية، ولكنه كان إلهاماً محضاً أو اتفاقاً عارضاً ساقت الشاعر إليه الصدفة السعيدة أو السليقة المجيدة، دون أن يتعمده عن وعي أو يتكلف فيه عناء كالذي تكلفه في استخراج ما به من تشبيه ومجاز. ويتجلى الفرق بين الأدبين في هذا الصدد في علم البديع فيهما: فالبديع في العربية يشمل الجناس والسجع وهلم جرا، وهي محسنات للفظ مستقلاً بنفسه وليست لها علاقة بالمعنى، أما علم البديع في الإنجليزية فيشمل الملاءمة بين جرس الألفاظ وبين المعاني التي تؤديها، ويشمل تشابه الحروف الأولى في جميع ألفاظ الجملة الواحدة لأداء المعنى بطريق الجرس أيضاً، وغير ذلك من حيل بلاغية ليست لها مصطلحات تترجم إليها في العربية، لأنها لم تكن من مألوف أدبائها

واللغة العربية بغزارة مادتها وتلاطم عبابها وتعدد أوزانها وقوافيها، وجمعها بين وعر الألفاظ ولينها، ودقيق الأوصاف وجليلها، وما لها من مرونة في التراكيب ورحب في الأساليب ومطاوعة لفن الأديب، هي خير معوان له على إبراز شتى الصور من جرس الحروف وتتابع الألفاظ وتجاوز التراكب، وتدفع الأوزان ورنين القوافي. انظر إلى الوزن كيف ساعد على إبراز المعنى في قول بشار في صوت مغنية:

تميت به أرواحنا وقلوبنا

مراراً وتحييهن بعد هجود

وقول ابن المعتز في خيل السباق:

خرجن وبعضهن قريب بعض

سوى فوت العذار أو العنان

ص: 29

ترى ذا السبق والمسبوق منها

كما بسطت أناملها اليدان

ساعدت السليقة المواتية أو الجد الموفق بشارا، فجاء بيته ذاك ببحره الطويل وحروف اللين المتتالية الوئيدة الحركة في (تميت) و (أرواحنا) و (قلوبنا) و (مراراً) و (تحبيهن) و (هجود) أصدق مصور لصوت المغنية إذا هي مددته وخالفت بين المدات فيه والقصرات، ويبدو ذلك جلياً إذا قرء البيت على مهل. كذلك حالف التوفيق ابن المعتز فاختار لبيتيه البحر الوافر المتدفق تدفق الخيل في مجالها، وحالفه التوفيق مرة أخرى فذكر العذار والعنان، وفضلاً عن تتابع هذين اللفظين مما يزيد الحركة جلاء فإن ذكرهما مما يزيد الصورة تجسماً، فإن ذكر جزء من الصورة دون بقية الأجزاء كثيراً ما يزيد الصورة وضوحاً، ويبعث من تلقاء نفسه باقي الأجزاء إلى الخيال. ولذلك مثال آخر في قول جميل:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

فذكر الأعناق هنا بلاغة فائقة، فهو يستسيغ إلى المخيلة منظر الإبل والأباطح والركب، ويرسم حركة المطي معا. ومما يزيد الحركة تصويراً اختيار الشاعر البحر الطويل البطيء النغم. وهناك وسائل أخرى لتجسيم الحركة البطيئة، منها كثرة العطف ففيها دلالة على التطاول والتواني، ومنها كثرة الألفاظ القصيرة فإنها تستغرق نفس القارئ حتى يكاد يلهث بعد قراءتها، ومن ثم يشعر بالبطء في المعنى تبعاً للبطء في اللفظ. ومثال الوسيلة الأولى قول امرئ القيس في تتطاول الليل

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف أعجازاً وناء بكلكل

ومثال الثانية قول المتنبي:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه

وفي أذن الجوزاء منه زمازم

فقد احتوى بيت امرئ القيس على ثلاث جمل معطوفة، واحتوت الشطرة الأولى من بيت المتنبي على خمس كلمات كلها قصير، إذا قرأها القارئ متروياً جاءت بطيئة مشعرة ببطء الجيش أو موحية بضخامته، فلم يذكر المتنبي صراحة ومباشرة أن الجيش كان (ضخماً) فيعتمد على المعنى وحده في إعطائنا الصورة، بل أوحى إلينا بمعنى الفخامة بوساطة كلمات الشرق والغرب والزحف، ولا علاقة لهذه الكلمات في غير هذا البيت بالضخامة

ص: 30

قط، وبذلك استخدم المتنبي اللفظ ونطقه لأداء المعنى وهي هي الوسيلة التي استغلها أدباء الإنجليزية قصداً وعمداً أكبر استغلال وأبدعه. أما الحركة السريعة فيؤديها البحر الكامل المتدفع، وهو لذلك خير ما يصور فيه عدو الجياد، كما في قول المتنبي

أقبلت تبسم والجياد عوابس

يخبن بالحلق المضاعف والقنا

وقول ابن هانئ الأندلسي:

وفوارس لا الهضب يوم مغارها

هضب ولا الوعر الحزون حزون

ففي هذين البيتين تصوير رائع لعدو الخيل. وقد ساعد التوفيق الشاعرين في ألفاظهما بجانب الوزن الذي اختاراه، فتكرار حرف الباء في بيت أبي الطيب مما يزيد وقع حوافر الخيل في بيته جلبة ووضوحاً، وتكرار كلمتي الهضب والحزون في بيت ابن هانئ يوحي إلى المخيلة تتابع الهضاب والروابي أثناء عدو الفوارس، حتى يكاد يتخيل الإنسان سيقان الخيل وهي تنهب تتلك الحزون وتقفز من ربوة إلى ربوة. ويكاد البيت يعرض أمامك شريطاً سينمائياً متحركاً، ومتى بلغ الشاعر هذا المدى من دقة التصوير وروعته، فقد أوفى على الغاية من الفن والشاعرية، كذلك نرى الوزن واللفظ قد اصطلحا على إبراز المعاني في قول مسلم بن الوليد في مفازة:

تمشي الرياح بها حيرى مولّهة

حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد

وقول ابن حمديس:

وراقصة لقطت رجلها

حساب يد نقرت طارها

وقول المتنبي:

في سعة الخافقين مضطرب

وفي بلاد من أختها بدل

ففي بيت مسلم تكاد تحس الرياح المحرقة تلفح وجوهنا ونتمثلها تضرب جوانب الصخور؛ وفي بيت الصقلي تتمثل حركة الراقصة السريعة الخاطفة؛ وفي البيت الثالث تتمثل المتنبي على ظهر ناقته وهي تخالف بين أظلافها ممعنة في الذهاب. لما يمتاز به بحر المنسرح من اضطراب الحركة واندفاعها، على حين يمتاز بحر الخفيف بالتؤدة وزنة الحزن، مما يجعله أليق البحور بالمرائي والوجدانيات، وهو من أهم أسباب سيماء الوقار والشجن التي تتسم بها دالية المعري المشهورة التي مطلعها:

ص: 31

غير مجد في ملتي واعتقادي

نوح باك ولا ترنم شاد

وصفوة القول أن الأدبين العربي والإنجليزي قد احتويا على بدائع من الوصف، هي غذاء اللب ومتاع الخيال؛ بيد إن آثارها في الأدب الإنجليزي أغزر، ونواحيها أكثر تعدداً، ونصيب الطبيعة منها أوفر، ووسائلها أكثر عدداً واختلافاً، وأدباء الإنجليزية كانوا أكثر بصراً بها وأطول رياضة لها، وكان نجاحهم فيها راجعاً إلى المجهود المتبصر الواعي، بجانب الطبع الصادق المواتي على حين كان نجاح أدباء العربية الذي مرت بعض أمثلته راجعاً في أكثر الأحيان إلى عفو الخاطر وهداية البديهة، وما ذاك إلا لأن أدباء الإنجليزية كانوا أكثر عكوفاً على فنهم، وتفرغاً لأدبهم، على حين كان أدباء العربية يولون الأمراء وذوي الهبات من اهتمامهم وتفرغهم ما كان فنهم به أحق، وشاعريتهم به أولى

فخري أبو السعود

ص: 32

‌ثورة دجلة

للأستاذ علي الطنطاوي

(ازدادت دجلة يومي الأربعاء والخميس 3، 4 صفر 1355 زيادة هائلة لم تكن منتظرة، وغدت بغداد عرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، وسيق الناس كلهم للعمل على إقامة السدود، ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين. . . وكان شيء عظيم. . .)

كانت تجري في الوادي حالمة سكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلا آثار هذه القبل المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتيها الصافيتين كل صباح ومساء، تخطفها منها في غفلة من الطبيعة، فلا يبصرها إلا الشفق الذي يطل من نافذة الأفق يرميها بنظرة الكاشح الحاشد، فيحمر وجه دجلة الفتاة من الخجل. وتغمض عينيها من الحياء ثم تسرع في جريها. . .

وكانت تتلقى بين ذراعيها العاشقين المدلهين، كلما دجا الليل وأطفئ مصباح الكون، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب عليهم، وتحفظ أسرارهم، وتمنحهم الخلوة الحلوة الآمنة، وتترع نفوسهم بالجمال والشعر، حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد. . .

وكانت تغضي عن هذا النخيل العاشق، وقد تعانق كل زوجين منه، وتلامسا بالشفاه، واستسلما إلى الغيبة الهنيئة، وعن هذه القصور التي تفيأت ظلاله، سكرى بخمرة الجمال، قد ضمت احناءها على حياة لذة وادعة، ملؤها الحب. . .

وكانت دجلة جمال العراق ونعمته وحياته. . .

وكننت أذهب كل مساء، إلى جسر مود، انحدر من الرصافة، أمشي في طريق ضيق، كأني أهبط وادياً منن أودية بلادي الحبيبة، ثم أصعد حتى أبلغ ضفة الكرخ، فأسلك شوارع الصالحية، حتى أصل إلى المطار. . . حيث أبقى ساعة شاخصاً إلى الأفق البعيد أتبصر فيه طيف موطني الأصغر وأتحسس نسمه فأشم فيه شذا الغوطة، وانشق ريا نشرها العطر، وعرف آسها ونسرينها، وفلها وياسمينها، وزنبقها ونرجسها. . . حتى إذا قضيت من ذلك وطراً، عدت وقد خلا الجسر، فحييت دجلة، وصببت في أذنيها آلامي وأحزاني، وأستمنحتها الراحة والاطمئنان، ثم مضت إلى وكري المنعزل، في (الأعظمية) بنفس هادئة

ص: 33

كدجلة مطمئنة كاطمئنانها. . .

وذهبت في مساء الأمس، كما كنت أذهب، فإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه، قد أمسى جبلاً نتسلقه، وصار أعلى من الشارع وقد كان تحته، وإذا الناس يقبلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الروعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً، يبدو كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة، ولا تموج فيه موجة، قد علا وارتفع وعاد ثائراً هائجاً فضاحا، له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي. . . وإذا هو قد نسي سنه ووقاره. وأضاع حلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويصرخ، ويقرع الأرض بقدميه، ويضرب بقبضته القويتين المخيفتين أبنية الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة، التي أقيمت لتثبيت الجسر العائم والتي ترجح بالقناطير، وتزن الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف الصبي كرته. . . وإذا هو مرعب حقا، يدخل الروع على أجلد الرجال. . .

وكانت الوجوه كالحة، قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد والماء يرتفع، لم يبق بينه وبين الشاطئ إلا شبر واحد. لقد بلغ عمق المياه خمسة وثلاثين متراً وعشرين معشاراً. . . وخمسين. . . إنه لا يزال يرتفع. . . لقد صاقب الشاطئ. . . إن بغداد في خطر!

وطارت كلمة الخطر على الألسنة، ففزع الشعب، واهتمت الحكومة، ووضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ، واستبقوا إلى العمل. . . يقيمون السدود، ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب. . . إنه يقتل أمة منها بضربة واحدة. . .

إن النمر يقفز في حبسه ويثب، لقد جن: إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض، يريد أن يمشي إلى هذه الجنات الظليلة، التي طالما أمدها بالحياة، وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها الموت!

وبدأ الصراع المهول بين الطبيعة والإنسان. . . وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها من يبيع أو يشتري أو يلهو أو يلعب، أو يطعم أو يشرب.،. ليس لها إلا غاية واحدة، هي النجاة من الغرق. . .

ص: 34

وكنت قد بلغت منزلي فصعدت السطح، فانحسرت أمامي صفحة دجلة، وهي تلتوي من حول الأعظمية كالأفعى، تطيف بها كالفضاء النازل، وقد استرخت عند المنحنى وتمددت على الحقول والدور التي هجرها أهلوها، فصار عرضها أكثر من ألفي متر. . . وصارت بحراً خضماً، ولكنه يركض دفاعاً يحمل في طياته الموت والغرق والخراب، وكانت حمرة الشفق تخالط الماء، فيلتهب فيبدو كأنه أتون مستعر، أو كأنه جهنم الحمراء. . .

وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا، فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شاب، يشتغلون لينقذوا بغداد من الغرق المحقق، من ورائهم أربعمائة ألف قلب، تحوطهم بالرعاية والحب. . .

واستمر الصراع المهول. . .

وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة؛ غير أن المرء في يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وبنيه، وصاحبته وأخيه؛ وهنا أم حائرة مولهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي لا تدري أهو في الأحياء، أم أفترسه هذا النمر الجبار. . . وهنا بنت تفتش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسرة قد هيأت متاعها ووقفت على باب الدار تنظر الساعة الرهيبة التي يطغي فيها الماء فيدك أدوارها وما فيها ويدعها فقيرة مسكينة، مسكنها الشارع. . . وشباب عصفت النخوة برؤوسهم فهم يقدمون، يتسابقون إلى الخطر. . . وتلاميذ قد دفعتهم الحمية فأقبلوا يتبادرون الموت، والجنود يعملون في كل مكان بهمهم الأسود. . .

كان الصراخ يملأ الجو: هتاف الشباب، وأنغام الجند، وصياح النساء، ونداء الأولاد، والنهر فوق ذلك كله يهدر هديره المستمر المرعب، فيكون له في هذا الليل دوي مخيف، والحركة متصلة، والشوارع ممتلئة بالناس. . .

ولكن السلامة توالت. ووقف النهر عن الارتفاع، ولم يقع الشق (أي الكسر) الذي كانوا يخشونه، وكان قد تصرم الهزيع الأول من الليل، فأمن الناس، وتفرقوا إلا قليلاً قاموا يحرسون النهر، ودخلوا بيوتهم، وولجت داري أستريح، فما لبثت أن ذهبت في رقدة عميقة.

رأيت المياه تنساب في كل جهة، تغني أغنية الرعب، تقتلع البيوت ثم تلقي بها إلى بعيد،

ص: 35

وتلج في باطن الأرض ثم تقلبها بما عليها، وتصعد في الجو، ثم تنزل كالبلاء المصبوب. . ثم انصدع صدع عظيم وهويت إلى قعر الهاوية، وكان حولي مئات من النمور والفهود والأفاعي، وسمعت رعداً شديداً، ورأيت برقاً ومطراً، ثم عادت السيول تجري، تدحرج آلافاً من الصخور.

. . . فتحت عيني. . وإذا الحلم حقيقة، وإذا الصيحة في الحي والقيامة قد قامت، وخفارات الحراس، وأبواق الجنود تصدح باستمرار، والنساء يولولن ويعدون، والأطفال تبكي وتركض في كل مكان، والرجال تصيح طالبة النجدة؛ وتبينت وسط الضجة الكلمة الرهيبة: كسر النهر. . النهر انكسر!

وتدفق سيل العرم!

إن هذا النهر الذي جاء من قمم الأناضول الشاهقة وسلك على السهول الممرعة، والصحاري المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني. فجاء يستريح على هذه الحقول التي زخرفها الربيع وأزهر فيها النارنج، وفتح الورد والقرنفل والفل، واترع نسيمها العطر. فيحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس هذه الحياة الرخية السعيدة بزور اليتم والفقر والنكد.

ولكن الذنب علينا؛ لو أنا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه، لهجع فيه إلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبركة واليمن إلى أراضينا وبلادنا!

تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخضم من الناس، أدفع النساء والشيوخ والشباب، لأصل إلى الشاطئ فأعمل عملاً ولست أدري ماذا أعمل؟ ولست أحسن السباحة، ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي، ولم أفكر في شيء من ذلك لأن الإنسان لا يفكر في ساعة الخطر، وإنما يعمل. . فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص. وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللب، كاشراً عن أنيابه يزمجر ويزأر، ويبرق ويرعد

إن الماء يندفع إلى العلاء بقوة الديناميت، ثم ينزل على الحقول، فيقضي فيها مكتسحاً كل شيء في طريقه، يقتلع الأشجار الضخمة، ويقذف بها كأنما هي عيدان الكبريت، وينسف البيوت كأنما هي علب من الورق، ويتدفق من كل جهة. . . وقد ابتلع صوته المدوي كل ضجة، وملأ الأسماع بترتيلة الموت المستمرة. . . وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا

ص: 36

توصف. .

وأقدم الناس، يسبقون الماء ليقيموا في وجهه السدود، ليقيدوا هذا النمر الهائج بحمية منقطعة النظير، وحماسة نادرة المثال. . . وأقدمت أخوض هذه اللجة من الناس، لأصل إلى هذه اللجة الطامية من الماء أمشي في ظلمتين: ظلمة هذا الحشد المزدحم. وظلمة الليل البهيم، أتعرض لرهبتين: رهبة الليل وسواده، والسيل واندفاعه. أصغي إلى لحنين: لحن الروع على ألسنة الناس، ولحن الهول على لسان النهر. . .

ولم أخش شيئاً. . .

إنها ساعة الخطر. . .

بوركت يا ساعة الخطر! أنت لحظة الإنسانية. أنت التي تورق فيك أغصان الحب، ويزهر فيك الإخلاص، ويعود الناس فيك إخواناً متحابين. قد خرجوا من أطماعهم ومات في نفوسهم الحسد والبغضاء وعاش فيها الحب والتضحية والإخلاص والوئام. .

تقدمت إلى الأمام ولكن لم أصل إلى شيء، لأن الناس كانوا يستبقون العمل، ويهرعون إلى الموت، كأن العمل غنيمة، والموت وليمة. . وكانوا يصرخون صراخ الحمية. ويهتفون باسم الوطن والمروءة والشجاعة. . ومرت على ذلك ساعة كاملة والصدع يتسع، والماء يزداد اندفاعاً، فكلت الأيادي النشيطة، وجمدت الصيحات والأناشيد على الشفاه، وخامر الناس اليأس. .

هنالك انتبهت فإذا أنا أسمع النشيد الذي ارتقبه واصبوا إليه، ليس نشيد الوطن والمروءة ولكنه أجل وأقوى، النشيد الذي له قوة السيل، وعظمة البحر، وبهاء الشمس، وصلادة الصخور. النشيد الذي لا يقوم له شيء، النشيد الذي كان أجدادنا يهتفون به، كلما حاقت بهم ضجة فيدكون به كل حصن ويكتسحون كل عدد، ويخلصون من كل خطر. النشيد الذي يحيل الجبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلا. .

ذلك هو نشيد الرجال والنساء والأطفال بصوت واحد يجري على قرع الطبل، فيشق الليل، ويخشع له كل من يسمعه حتى النخيل والحقول، والسحاب والنجوم، وهذا النمر الثائر

الله أكبر - الله أكبر - لا إله إلا الله

الله أكبر - الله أكبر - ولله الحمد

ص: 37

وبدأ الصراع كرة ثانية. .

وأقبلوا على العمل بهمم لا تثنى، وقلوب لا تلين، وسواعد لا تكل. .

وصب النشيد في عروقهم روح الظفر. . .

فظفروا. . .

وعندما كانت الشمس تطبع أول قبلاتها على جبين الكون كان الموكب الظافر قد رجع، يحمل أجمل أزهار الرياض التي أنقذها وحماها من الغرق. . يمشي فيه الجند والطلاب، بصفوف منتظمة، قرأت فيها أروع شعر الحياة. . . كما تلوت في هذه الجماهير المنثورة في كل مكان أبلغ (نثرها). . .

وكان الإشراق يكسو الوجوه، وغناء النصر يرقص على الألسنة. . .

فوقفت أحيي هذه المواكب الماجدة، حتى غابت عني في طريقها إلى بغداد:

ألف تحية أيها الأبطال الذين مشوا إلى الموت، لينقذوا بلادهم من الموت.

ألف تحية أيها الشعب القوي العامل الجريء.

ألف تحية أيها الطلاب المبرؤون الذين حملوا الفئوس والمعاول، وأقاموا من جسومهم الملساء الناعمة سداً في وجه هذا السيل الطامي. . .

ألف تحية أيها الجنود البواسل، يا حماة الديار، يا من وطنوا نفوسهم على محاربة كل من يريد ببلادهم شراً، سواء لديهم أكان جباراً من جبابرة الإنس، أو عفريتاً من عفاريت الجن، أو قوة من قوى الطبيعة. . .

لكم مني ألف تحية وألف سلام!

(بغداد)

علي الطنطاوي

ص: 38

‌سر مجهول في تحريم لحم الخنزير

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 2 -

ويمكننا بعد هذا أن نحكم بأن الخنزير من جنس السباع مثل الكلب، لأنا إذا جرينا على ما جاء في القاموس من أن السبع هو المفترس من الحيوان فالخنزير يفترس الحيوانات كالسبع، خصوصاً إذا لم يجد ما يأكله من العشب. فإنه يصير إلى أن يكون آكل لحوم، فيفترس الحيوانات الحية، ويأكل من لحومها، كما جاء في كتاب (الحجج البينات في علم الحيوانات)

وكذلك إذا جرينا على ما جاء في كتاب النهاية لابن الأثير من أن السبع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهراً وقسرا، لأن هذا يوجد في الخنزير أيضاً، أما إذا جرينا على ما ذكره أبو حنيفة من أن كل ما أكل اللحم فهو سبع فأمر الخنزير في السبعية عليه أظهر، لأنه لا يشترط فيها الافتراس كما اشترطه فيها غيره، بل يكتفي فيها بأكل اللحم، ولذلك عد الفيل ونحوه من جنس السبع

فأما إذا جرينا على ما ذكره الشافعي من أن السباع المحرمة هي التي تعدو على الناس فإنا نجده ضيق في ذلك بما لم يضيق به غيره، ولكن الخنزير يدخل في السباع على ذلك أيضاً، لأن الخنازير كثيراً ما تجاهر الناس العداء وتحمل على الإنسان بدون أن يغيضها، كما جاء في دائرة معارف البستاني

على أن الحديث الوارد في تحريم (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام) يظهر منه أن لأنياب السباع أثراً في تحريمها، بل الظاهر منه أنها هي العلة في هذا التحريم. ولاشك أن هذه العلة في الخنزير اظهر منها في سائر السباع لأن قوة نابه لا توجد في غيره منها، وقد بلغ من أمرها أن يتغلب بها أحياناً على الأسد، كما جاء في كتاب حياة الحيوان وغيره من الكتب القديمة والحديثة في علم الحيوان

وإذن يكون تحريم لحم الخنزير لسبعيته، وتكون هذه السبعية هي التي جعلت الإسلام ينظر إليه هذه النظرة البغيظة. وإذا كان الإسلام قد أهتم بأمره أكثر من غيره من السباع فأنزل تحريمه في القرآن الكريم، وحكم بنجاسته مع تحريمه ولم يحكم بنجاسة غيره من جنسه،

ص: 39

فإن الجاحظ رحمه الله قد بين حكمة ذلك في كتاب الحيوان (ج4 ص13) وإن كانت هذه الحكمة قد جاءت في الموازنة التي عقدها بينه وبين القرد، لا فيما نحن بصدده من ذلك الأمر السابق؛ وهذا ما قاله في تلك الحكمة: إنما خص الخنزير بالذكر دون القرد مع استوائهما في المسخ لما فيه من قبح المنظر، وسماجة التمثيل، وقبح الصوت، وأكل العذرة مع الخلاف الشديد، واللواطة المفرطة، والأخلاق السمجة. وقد زعم ناس أن العرب لم تكن تأكل القرود، وكان بعض كبار القبائل وملوكها يأكلون الخنزير، فأظهر الله لذلك تحريمه إذ كان هناك عالم من الناس، وكثير من الأشراف والوضعاء، والملوك والسوقة، يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة.

ثم ذكر أن الخنزير يكون أهلياً ووحشياً كالحمامير والسنانير مما يعايش الناس، وكلها لا تقبل الآداب، وأن الفهود وهي وحشية تقبل كلها ذلك، كما تقبله البوازي والشواهين وغيرها، والخنزير وإن كان بهيمة فهو في طباع ذئب

فهذه الخصال التي اجتمعت في الخنزير هي التي جعلت الإسلام يهتم بأمر تحريمه ذلك الاهتمام؛ والمهم منها في نظرنا ما ذكره الجاحظ من شغف كثير من الناس بأكل لحمه واستطابته فإن هذا في الحقيقة هو الذي اقتضى أن يعنى بأمر تحريمه في الإسلام هذه العناية.

وقد أجمع الفقهاء بسبب ذلك على تحريم لحم الخنزير واختلفوا في تحريم لحم غيره من السباع، لأنه لم ينص على تحريمها في القرآن كما نص على تحريمه، ولكن جمهورهم على تحريم لحمها أيضاً، ومن خالفهم في ذلك قال بكراهة لحمها دون تحريمه. وقد اختلفوا أيضاً في تحريم الخنزير البحري، قال الربيع: سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء، فقال: يؤكل

وروي أنه لما دخل العراق قال فيه حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى، وروي هذا القول عن عمر وعثمان وابن عباس وغيرهم، وقد أبى مالك أن يقول فيه شيئاً، وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع. وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكاراً صاد له خنزير ماء وحمله إليه فأكله، وقال كان طعمه موافقاً لطعم الحوت سواء. وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عنه فقال: إن سماه الناس خنزيراً لم يؤكل، لأن الله حرم الخنزير

ص: 40

وهذه العلة التي ذكرناها في تحريم لحم الخنزير قد علل بها تحريم لحم الكلب أيضاً، ولا يخفى أن الخنزير والكلب يتساويان في نظر الشارع من هذه الناحية. وقد صرح ابن حميد السالمي الفقيه الإباضي بهذه العلة في تحريم لحم الكلب فقال في باب أحكام صنوف الحيوانات من أرجوزته المسماة (جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام)

وما الكلابُ عندنا حلالُ

ولا السَّنانير كما يقالُ

لأنها من السباع الضارية

وبعضهم أحلها علانَيه

وهذه العلة أظهر في الخنزير من الكلب، لأنها تعتمد على وجود الناب الذي يحصل الافتراس به، وقد سبق أن الخنزير أقوى الحيوان ناباً، حتى إنه يتغلب بقوة نابه على الأسد وغيره

أما حكمة تحريم لحم السباع فحفظ الإنسان من صفاتها الوحشية المنافية لبقاء العمران، لأن غذاء الإنسان له تأثير كبير في صفاته وأخلاقه. وقد غالى بعض الشرائع فحرم لحم الحيوان مطلقاً لأنه يورث في نفوس البشر ما يورث من القسوة والغلظة. والشريعة الإسلامية تنظر إلى لحم الحيوان نظرة معتدلة، فتبيحه في اعتدال ولا تحرمه على أهلها. وقد روي أن من داوم على أكل اللحم أربعين يوماً قسا قلبه. وقيل في ذلك أيضاً (إنما أهلك الناس الأحمران النبيذ واللحم) وعن عمر رضي الله عنه قال: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر وإن الله يكره أهل البيت اللحميين. ولعل الأيام المقبلة تظهر في تحريم لحم السباع حكماً أخرى غير هذه الحكمة.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 41

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

38 -

فمن لها بزياد أو بحجاج

الأبيوردي الأموي:

دهر تذأب من أبنائه نقد

وأوطئت عرب أعقاب أعلاج

وأينع الهام لكن نام قاطفها

فمن لها بزياد أو بحجاج

وكم أهبنا إليها بالملوك فلم

نظفر بأروع، للغماء فراج!

39 -

أفضل المناديل

في (الكامل):

قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه (وكان يجتنب غير الأدباء): أي المناديل أفضل؟

فقال قائل منهم: مناديل مصر كأنها غرْقئ البيض

وقال آخر: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع

فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئاً. أفضل المناديل ما قال أخو تميم (يعني عبدة بن الطيب):

ثمت قمنا إلى جُرْد مسوَّمة

أعرافهن لأيدينا منادي

40 -

كفيت الدعوة

في (مجمع الأمثال) للميداني

أصل هذا المثل: (كفيت الدعوة) أن بعض المجان نزل براهب في صومعته، وساعده على دينه، وجعل يقتدي به، ويزيد عليه في صلاته وصيامه؛ ثم إنه سرق صليب ذهب كان عنده، واستأذن لمفارقته، فأذن له، وزوده من طعامه. ولما ودعه قال له:(صحبك الصليب) على رسم لهم فيمن يريدون الدعاء له بالخير. فقال له الماجن: (كُفيت الدعوة. .) فصار مثلاً لمن يدعو بشيء مفروغ منه

41 -

فأرجف في السما

كان ببغداد شخص يقال له ابن بشران، وكان كثير الأراجيف فمنع من ذلك، فقعد على الطريق ينجم، فقال فيه ابن صابر:

ص: 42

إن ابن بشران ولست ألومه

من خيفة السلطان صار منجما

طُبع المَشُوم على الفضول فلم يُطق

في الأرض إرجافاً فأرجف في السما

42 -

إنك عن لسانه تنطق

في (طبقات الشعراء) للجمحي:

أتى الفرزدق الحسن البصري فقال: إني قد هجوت إبليس فاسمع

قال: لا حاجة لنا بما تقول

قال: لتسمعن أو لأخرجن فأقول: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس. .

فقال الحسن: اسكت فإنك عن لسانه تنطق. .

43 -

الشيطان أصلح للشاعر

في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي:

من ظريف أمر حسان أنه كان يقول الشعر في الجاهلية فيجيد جداً، ويغبر في وجود الفحول، ويدعي أن له شيطاناً يقول الشعر على لسانه - كعبارة الشعراء في ذلك - فلما أدرك الإسلام وتبُدِّل بالشيطان الملك تراجع شعره، وكاد يرك قوله؛ هذا ليعلم أن الشيطان اصلح للشاعر، وأليق به. . .

44 -

حتى تجوع ببطن غيرك

في (كتاب القضاة): قال سهل بن علي: كنت ألازم خير بن نعيم القاضي وأجالسه وأنا يومئذ حديث السن. وكنت أراه يتجر في الزيت، فقلت له: وأنت أيضاً تتجر؟! فضرب بيده على كتفي ثم قال: (انتظره حتى تجوع ببطن غيرك) فقلت في نفسي: كيف يجوع إنسان ببطن غيره؟ فلما ابتليت بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم

45 -

عمل كل واحد محضرا

قال ابن خلكان: أخبرني ابن مطروح أنه جرى بينه وبين أبي الفضل جعفر بن شمس الخلافة منازعة في هذا البيت:

وأقول: يا أخت الغزال ملاحة!

فتقول: لا عاش الغزال ولا بقى!

فزعم ابن شمس الخلافة إن هذا البيت له من جملة قصيدة هي في ديوانه، وعمل كل واحد

ص: 43

منهما محضراً شهد فيه جماعة بأن البيت له. وحلف لي ابن مطروح أن البيت له، وكان محترزاً في أقواله، ولم تعرف منه الدعوى بما ليس له

46 -

الحظوظ مقسومة

في (معجم البلدان) لياقوت الحموي: رووا عن ابن عباس أنه قال: الحظوظ مقسومة لا يقدر أحد على صرفها ونقلها عن أماكنها. ألا ترى سكة اصطفانوس (في البصرة) كان يقال لها سكة الصحابة، نزلها عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تضف إلى واحد منهم، وأضيفت إلى كاتب نصراني من أهل البحرين وتركوا الصحابة؟

47 -

ما تنكر لله قدرة

في (كتاب قضاة قرطبة)

من المستفيض عن القاضي (أسلم بن عبد العزيز) قوله لرجل من أهل لبلة وقد أتاه وسلم عليه ثم جلس قال:

أتعرفني يا قاضي؟

قال له: لا

قال: أنا قاضي لبلة

فقال أسلم: ما تنكر لله قدرة. . .

48 -

أحسن توجيه

في (خزانة) البغدادي:

كان أمير الدولة أبو الحسين بن صاعد الطبيب قاطع (محمد بن حكينا) ثم استماله، وكان ابن حكينا قد أضر بصره وافتقر فكتب إليه:

وإذا شئت أن تصالح بشار بن برد فاطرح عليه أباه. فنفذ إليه برداً واسترضاه فاصطلحا. وهذا أحسن ما سمعت في التوجيه. قوله (بشار بن برد) أي: أعمى (فاطرح عليه أباه) هذه لفظة بغدادية، يقال لمن يريد أن يصالح: اطرح عليه فلاناً أي أحمله إليه ليشفع لك. ولم يتفق لأحد في التوجيه أحسن من هذا

49 -

أبن ورد يبغي أباه

ص: 44

مر العالم أبو القاسم بن ورد بجنة لأحد الأعيان، فيها ورد، فوقف بالباب وكتب إليه:

شاعر قد أتاك يبغي أباه

عندما اشتاق حسنه وشذاه

فلما وقف على قوله علم أنه (ابن ورد) فبادر من جنته إليه، وأقسم في النزول عليه، ونثر من الورد ما استطاع بين يديه

(النقل ممنوع)

ص: 45

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 3 -

الديانة المصرية - التأليه في العصور التاريخية

أثرت أقاصيص المعارك التي اشتعل أوارها بين المصريين في عصور ما قبل التاريخ في نفوس أبنائهم المصريين المدنيين تأثيراً دفعهم إلى تحوير هذه الأقاصيص الاجتماعية إلى أساطير دينية فزعموا أن (أوزيريس) - وهو إله الإنبات والخصوبة وبالجملة إله النيل - قد استعان بأخته وزوجته (إيزيس) إلهة الحكمة والتشريع والسحر ورمز الوفاء والإخلاص، وبوزيره (توت) إله العلم والتدبير وبعض الآلهة الآخرين على تكوين مملكة إلهية عظيمة في مصر. وكان لهذا الإله أخ وهو (سيت) إله الشر والقحط والاجداب فحقد عليه من أجل هذا الجلال الباهر الممثل في مملكته العظيمة الصافية، ولأنه لا يستطيع مجابهته وجهاً لوجه رهبة منه وفرقاً أمامه، فقد غدر به إذ احتال عليه بحيلة شيطانية حتى أدخله في تابوت كان قد صنعه خصيصاً لهذه الخديعة بحجة إنه يود أن يعرف سعة هذا التابوت، ثم أقفله عليه وقذف به في النيل فحمله التيار إلى المصب وسلمه إلى البحر الأبيض فحمله هذا البحر من المصب إلى (بيبلوس). وفي أثناء ذلك افتقدته زوجته الوفية فلم تجده، فأدركت ما حدث له، فصممت على أن تفتش عنه حتى تعيده إلى الحياة وإلا لحقت به، وظلت تجهد نفسها في البحث عنه حتى عثرت عليه وأعادته إلى الدلتا وقبل أن تتمكن من فتح التابوت فاجأها (سيت) وتغلب عليها بقوته ثم مزق جسم أخيه أشلاء عددها اثنان وسبعون شلوا، ألقى بكل شلو منها في مقاطعة من مقاطعات مصر، وكان عددها إذ ذاك يساوي عدد هذه الأشلاء، فلم يفت ذلك في شجاعة إيزيس ولم يضعضع من عزيمتها، بل ثابرت على جمع هذه الأشلاء المتناثرة حتى استكملتها ووضعت كل واحد منها في مكانه الطبيعي، ثم تلت عليه بعض ما تعرفه من الرقي والتعاويذ السحرية، فعاد إلى الحياة،

ص: 46

ولكنها حياة لا تشبه الحياة الأولى، فلم يلبث على الأرض إلا بقدر ما أنسل (هوروس) ثم غادرها واستبدلها بمملكة الأموات العظيمة حيث أصبحت مهمته محاسبة أهل الدنيا ووزن أعمالهم وإصدار الأمر لهم أو عليهم بالنعيم أو بالجحيم

وقد استخلف على مملكة الدنيا من بعده ابنه (هوروس)، ولكن (سيت) عاد إلى مشاكسة هذا الإله الشاب من ناحية القانون فأعلن انه ليس ابن (أوزيريس) لأن (أوزيريس) قد مات منذ عهد طويل، ولأنه من غير الممكن أن ينسل في هذه الفترة الوجيزة التي عاد فيها إلى الحياة على الأرض. وإذاً فليس للعرش الإلهي وارث شرعي إلا هو. وقد رفع بهذه الدعوى قضية أمام محكمة الآلهة فهبت (إيزيس) تدافع عن شرفها، و (هوروس) يثبت بنوته من (أوزيريس) ثم استشهدت الزوجة المتهمة والابن المجحود بالإله اللبق الفصيح (توت) فشهد بشرف الوالدة وشرعية الولد فحكمت المحكمة بالعرش المقدس لذلك الإله الشاب

ومما يلفت النظر في هذه الأسطورة الشيقة هو أن (إيزيس) أثناء طيرانها للبحث عن أشلاء زوجها بكت حزناً عليه فسقطت من عينها دمعة فوق النيل فزاد لساعته، وكان ذلك في شهر بوونة، فظل النيل يزيد في هذا الشهر من كل عام إلى اليوم. ومن الغريب أن يوم بدء هذه الزيادة يسمى في أرياف مصر إلى الآن بـ (يوم النقطة) أي نقطة الدمع التي نزلت من عين (إيزيس). فأنظر كيف أن هذه الثمانية آلاف سنة لم تستطع أن تمحو هذه الأسطورة من صحائف الوجود؟!

روت بعض الأساطير المصرية الأخرى قصة (أوزيريس) و (هوروس) على نحو يخالف ذلك، ولكن هذه الرواية هي أصح الروايات أو بالأحرى هي أكثر الروايات تنسيقاً على نظام الحقائق

ومهما يكن من شيء، فإن أهم الملاحظات العظيمة القيمة في هذه الأسطورة هو أن روح القانون والأنظمة الشرعية كانت سائدة في مصر سيادة تامة حتى في عهود ما قبل التاريخ، ولولا ذلك لما طلب (سيت) عزل (هوروس) عن العرش بحجة إن بنوته من (أوزريس) لم تثبت، ولأن موته سابق على مولد هذا الإله الشاب بزمن طويل. ولولا سيادة هذه الروح القانونية أيضاً لما اضطرت (إيزيس) إلى الاستشهاد بـ (توت) على براءتها وشرعية ابنها وأحقيته في العرش.

ص: 47

ويجمع على هذه الملاحظة كل العلماء الباحثين ويعدونها برهان رقي الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية وإن كانوا يختلفون في موضوع القضية الواردة في الأسطورة فيذهب البعض إلى تأييد الرأي الذي ذكرناه آنفاً، وهو إن الغاية من القضية كانت إثبات بنوة (هوروس) من (أوزيريس) بوساطة زواجه من أخته (إيزيس) ويرجعون زواج الاخوة بأخواتهم عند قدماء المصريين إلى هذه الأسطورة التي يقول البعض: إن (إيزيس) قد ادعتها لتبرر بها موقفها بعد أن ولدت (هوروس) من ناحية، ولتمكن ابنها من الصعود إلى العرش بوسيلة شرعية من ناحية أخرى.

ويؤكد البعض الآخر من الباحثين أن القضية التي أقامتها (إيزيس) أمام محكمة الآلهة لم تكن لإثبات بنوة (هوروس) من (أوزيريس) وإنما قصدت بها إثبات حق ابنها (هوروس) في العرش بحجة أنه ابنها هي، وهي أخت (أوزيريس) الإله الراحل، لأن احترام المصريين القدماء للمرأة كان يجعل الوراثة عن الخال أمراً محققاً؛ ولكن الذي لاشك فيه هو أن هذه الأسطورة على وجهيها تشهد بالشوط البعيد الذي كانت مصر قد قطعته في المدنية حتى في عصر ما قبل تكوين المملكة الأولى.

ظل ذلك النزاع الذي احتدم لهيبه بين (هوروس) وعمه أو خاله (سيت) إله الشر والغدر رمزا لتلك الحروب العديدة التي كانت تقع من حين إلى آخر بين رؤساء مقاطعات الوجهين القبلي والبحري زمناً طويلاً تطورت بعده إلى فكرة أجرأ من الرمز، وهي أن كلا من الرئيسين المتحاربين أصبح يمثل أحد ذينك الإلهين المتنازعين، ومازال هذا شأنهم حتى هب ذلك الفرعون العظيم (مينيس) أو (مينا الأول) فكان أكثر جرأة وأعظم صراحة، فأعلن في غير مواربة أن الإلهين كليهما قد حلا في جسده، وأن جسمه يشتمل على الجوهر الأساسي أو روح القدس للإلهيين جميعاً، وأنهما لهذا قد استخلفاه على ذلك العرش السامي الذي طالما كان موضع نزاع بينهما، وأنه حين يضع فوق رأسه تاج الوجهين: القبلي والبحري ويضمهما تحت إمرته في شيء عظيم من الحزم لا يزيد على كونه منفذاً فعلياً لأمر الإلهين.

وقد تم له ما أراد، إذ أصبح إلهاً حياً جامعاً بين القوتين اللتين ظلتا متفرقتين إلى عهده. ومنذ هذا العصر أطلق على (مينا) وأعقابه اسم الإله أو مليك القطرين أو اسم:(هوروس)

ص: 48

و (سيت) أو مصدر الخير والشر، والنور والظلمة، والخصوبة والجدب، وأصبحت زوجته تدعى بالملكة التي تحظى في كل ليلة ب (هوروس) و (سيت) ولكن (سيت) كان في الأناشيد والأغاني يظل كامناً في أغلب الأحايين ولا يبرز على مسرح الأساطير المصرية إلا في حالات السخط والغضب، أما في الظروف العادية فلا ترى في الأناشيد إلا فرعون ممثلاً لهوروس، مشيداً بنعمه، شاكراً لآلائه، متحدثاً على لسانه بعظمة مصر وعرشها عنده، كما جاء في هذه الأنشودة الموجهة إلى مصر:(تحية إليك يا مخلوقة (هوروس) التي زينها بذراعيه مجتمعتين والتي لم يسمح لها بأن تخضع لسكان المغرب ولا لسكان المشرق ولا لسكان الجنوب ولا لسكان الشمال ولا لسكان الوسط المركزي، وإنما له هو وحده فحسب، أنت لا تخضعين إلا لهوروس الذي خلقك وأسسك ثم سواك وزينك، وأنت تحملين إليه كل ما فيك من خيرات حاضرة ومستقبلة وتقدمين إليه كل ما يشتهيه قلبه.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 49

‌رسالة الشباب

إلى أين يتجه الشباب؟

الآن تقف مصر وأكثر بلاد الشرق العربي على مفرق الطرق في تاريخها الحديث، فهي تودع عهداً كان غرضها فيه واحداً استنزف كل ما لديها من حيوية ونشاط، وهو استعادة سيادتها المغصوبة ومجدها المفقود؛ وتستقبل عهد الإصلاح والإنشاء لتعوض ما فات عليها من فرص الإصلاح الداخلي، فتصلح ما أفسده العصر المنصرم، وتنشئ ما يطلبه العصر الجديد.

ومن شأن هذا العهد الانتقالي أن يحمل الأمة على إعادة النظر في أساليب الكفاح، فلكل ميدان عدته، ولكل عهد أساليبه.

والرسالة يهمها في هذا الباب مصير الشباب، فنحن موقنون بأن العهد الجديد سيتناول موقفه بالتغيير وغرضه بالتحديد

حمل الشباب بالأمس علم الجهاد الوطني، فكان جندي المعركة المضحي بوقته ومستقبله ودمه. وسجل في تاريخ الحركة الوطنية صفحات خالدات من الإخلاص والبطولة والتفدية.

أما الآن وقد صمت النفير، وتوارى الخصم المهاجم وراء المعاهدة، وارتدى ثوب الحليف، وآب المجاهدون إلى الزرع الذي تركوه، وإلى الأرض التي أغفلوها، فقد انفتحت للكفاح ميادين جديدة، وأبواب عديدة، وضاق الميدان السياسي عن الجهود الشابة والحماسات الدافقة

فهل يخرج الشباب ممن الميدان السياسي لينكب على تحصيل العلم وجمع الثروة وتنظيم الحاضر وتدعيم المستقبل ثم يتركه لقادة الرأي من شيوخ السياسة ورجال الإدارة؟

أم يبقى فيه ويظل زيته المضيء المحترق على أن يتطور مع مقتضياته الجديدة؟

وإذا أخذ بالرأي الثاني فإلى أي اتجاه يتجه بين مزدحم الآراء ومهب الأهواء في هذا العالم المضطرب الصاخب؟

ذلك ما فتحنا لأجله هذا الباب، مقدرين أن تتبارى فيه مطامع الشباب وتجارب الشيوخ

ويهمنا على الأخص رأى الشباب لأننا نريد أن نطلع على انفعالاته واتجاهاته، فنقف منها موقف البستاني من نبت الحديقة، يستأصل أشواكها وزوانها، ويتعهد أورادها وريحانها.

ص: 50

ولابد لنا من كلمة ندخل بها إلى هذا الموضوع؛ فنحن لا نرى الشباب الانسحاب من ميدان الكفاح السياسي، فالجيل الماضي قد أنهكته المعركة الكبرى، وهو الآن يقوم بآخر خدماته فيمهد العمل للجيل الناشئ إذ يتعهده برعايته، ويظلله بحمايته، حتى يشتد ساعده فيترك له الميدان. وطبيعي أن اتجاه الكفاح في ميدان الإصلاح الداخلي، وتعقد مرامي هذا الإصلاح وتشعبها يتطلب شباباً كامل الثقافة صادق العزيمة واسع التجربة، يتخذ موقف المدرس لا موقف المحمس؛ وسيحتاج إلى إقناع الجماهير بالحجة، لا إلى إغرائها بالعاطفة

وأما الاتجاه فميدان الإصلاح الداخلي واسع الجنبات، وحرية اندفاع المثل والكفايات فيه أكثر، وسيتلمس كل فريق الرأي الذي يراه أكثر إسراعاً في تعمير البلاد، فيلتفت الشباب بطبيعة الحال إلى الغرب يسترشد بتجاربه ويستضيء بنوره. وهنا نحذره من أن تغره مظاهر الأمور؛ وهنا نقرع له جرس الخطر، ونصيح به صيحة الحذر فإن أوربا الآن تعج بأفكار خلابة ودعوات أخاذة زادتها الدعاية المقصودة بريقاً وضجة، فعسى ألا يغره هذا البريق، فهذه الأفكار وليدة المحنة، محنة ما بعد الحرب؛ فأوربا الآن محمومة؛ وإذا كان لابد لنا من الاقتداء بها فلنميز بين أسباب الرقي الحقيقية وبين ما أنتجته هذه الحمى من أعراض وهذيان وفوضى. ونقول بصراحة أكثر: - إن في أوربا الآن تطاحناً ظاهراً بين القومية والماركسية، وقد اندفعت الأولى للفاشية. والثانية للشيوعية؛ ولكل منهما مظهرها المتطرف الذي لا ينفع هذه البلدان الناشئة

نحن لا يفيدنا الإكثار من قرع الطبول ولا حرب الطبقات، فقد كان كفاحنا في الماضي رزيناً قوياً فنجح لأنه أستمد قوته من طبيعة الأشياء، فقاوم العبودية التي يعافها الإنسان؛ ويجب أن يظل في دوره الجديد على هذه الصبغة الأصلية لينجح

ربما تبهرنا تلك المظاهر بضجة العمل وسرعة التنفيذ، وتظهر لنا إن العمل الإنشائي في العهد الجديد أبطأ مما تصورناه؛ فإيانا أن ننسب ذلك إلى عيب في نظمنا الأساسية، لأن أشر ما نعانيه هو من أثر التحكم الأجنبي وانشغال الأمة عن تلافي نواقصها ومداواة عيوبها

وهل يعنينا إلا أن يكون الصرح وإن تراخى الزمن في إنشائه متين البنيان يستطيع مقاومة الزعازع التي تنتاب البلدان الناشئة؟

ص: 51

يجب أن نحتفظ بوحدة الصفوف وان نبقى لجهادنا العام صبغة التطوع المشترك من كل طبقاته

إننا نريد أن نبني أمة قوية لا تيتم بفقد فرد، ولا تضل بزوال حزب. نريد أمة توجه ساسة، لا ساسة يوجهون أمة.

وخير ما نختتم به هذه الكلمة أن نخاطب شبابنا بما خاطب به المستر بلدوين قومه بالأمس إذ قال:

(في هذا العصر تستطيعون السير بسرعة ستين ميلاً في الساعة آمنين، فإياكم أن تسيروا بهذه السرعة في طريق التغييرات الدستورية، فإنكم إذا سرتم على هذا المنوال تحطم في يدكم الدستور، وجر في تحطمه الخراب واهراق الدماء. قد تكون الأفكار في بعض الأحيان مجلبة للخطر العظيم، فإن مئات الملايين تحكم الآن في روسيا وألمانيا وإيطاليا بأفكار غريبة عن هذه البلاد، فاتقوا شر الشيوعية والفاشية

بينكم بعض من يتحدثون عن التغييرات الدستورية بغير حساب فراقبوهم)

بهذا الخطاب يودع السياسي البريطاني الشيخ ناخبيه وهو مشفق على أمته المسكينة أن تحطمها الآراء المتطرفة. وبمثل هذا نوصي الشاب الناشئ، فالأمم الجديدة أحوج إلى مثل هذه النصيحة. وإن فيما تصنعه الأفكار المتطرفة في إسبانيا عبرة للمعتبرين

(محرر الصحيفة)

ص: 52

‌رسالة العلم

قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مراقب مصلحة الكيمياء

الرصاصة المسحورة

- 1 -

بدأنا هذه القصة بلوفن هوك، بهذا الرجل الذي لا يعرف إلا الحقيقة الواقعة يتوجه إليها قدما دون مداورة أو محاورة، وبدأناها به لأنه منذ نحو من مائتين وخمسين عاماً نظر بعين من السحر، نظر بعدسه، فرأى المكروبات أول من رأى. نقول بعين من السحر، وهو لو سمعنا نصف مكرسكوبه بأنه من السحر لشخر ونخر كما قد يفعل اليوم بعض مواطنيه الهولانديين استهزاء بنا واحتقاراً لوصفنا

وهانحن أولاء نختتم هذه القصة ببول إرليش وهذه خاتمة مباركة سعيدة، والخواتيم المباركة السعيدة لابد منها لكل قصة جدية ذات بال. كان صاحبنا رجلاً مفراحاً، وكان يدخن في اليوم الواحد خمساً وعشرين لفيفة من لفائف التبغ الطويلة الثخينة وكان مشغوفاً بشرب كوب من البيرة على الملأ مع خادم معمله القديم، وأكواب كثيرة أخرى مع زملائه من ألمانيين وإنجليزيين وأمريكيين. ومع إنه جاء في العصر الأخير الحديث إلا إنه كان به شيء كبقية من العصور الوسطى، فقد كان يقول:(يجب أن نتعلم صيد المكروب برصاص من عبقر) فضحك الناس منه. وأما أعدائه فصوروه صوراً مضحكة وكتبوا تحتها (الدكتور فنتازس)

على أنه مع هذا قد صنع حقاً رصاصة من عبقر. وكان له مزاج الكيمياويين القدماء الذين يحيلون الرصاص إلى الفضة ويستخرجون من خسيس المعادن الذهب، ولكنه صنع فوق ما حسب هؤلاء أنهم صانعوه: قلب سماً معروفاً مألوفاً يتخذه القتلة المجرمون لإبادة الأنفس، فصيره دواء وشفاء وخلاصاً لتلك الأنفس من داء من شر داءاتها. طبخ الزرنيخ

ص: 53

طبخة ومزجه مزجة أحالته إلى عقار يذهب عن مرضى بني الإنسان بلعنة ذلك الداء الكريه ذي المكروب اللولبي، ذلك الداء القبيح الاسم الذي هو جزاء الخطيئة الكبرى. وكان لإرليش خيال غريب عجيب مقلوب، لا يتصل بالمألوف في هذه الأرض، ولا بالمعروف في العلم، فأعانه هذا الخيال فدار بصياد المكروب في طرائق البحث دورة جديدة، وطلع بهم وبعلم المكروب في صحراء المجهول طلعة جديدة كشفت لهم من فوق رابية عن وديان من الأرض جديدة، ولكنهم وآ أسفاه لم يدروا إلا القليل منهم ماذا يصنعون بالوديان الخصيبة الجديدة التي حلوها ولهذا السبب سنختتم هذه القصة بأرليش

وليس معنى هذا إن بحث المكروب انتهى وجاء ختامه، فأنا مؤمن، كإيماني بطلوع الشمس غداً، بأن أبحاث المكروب لم يجيء بعد ختامها، وبأن الغد كفيل بخلق قوم كإرليش يأتون من عبقر بمثل رصاصته التي أتى. ولعلهم يكونون كإرليش رجالاً برغم ابتكارهم مفاريح مماريح مهازير مفاكيه، فالأدوية الرائعة لا تستخرج من العمل الجد المتواصل والمعمل البديع وحدهما. . . أما اليوم فلا يوجد من صياد المكروب رجال إذا هم اقتنعوا بالذي يرونه ركبوا رؤوسهم في سبيله واقتحموا كل معارضة لبلوغ مقصدهم منه ولو خالف المألوف واصطدم بالشائع المعروف. فهكذا إرليش، ينظر في عينيك بوسعي عينيه محدقاً محدجاً يريد أن يقنعك بأن الاثنين تضاف إلى الاثنين فتجعل منها خمساً. وولد في سيلسليا في مارس عام 1854 فلما شب أرسلوه إلى المدرسة الثانوية في مدينة برسلاو فسأله أستاذه أن يكتب مقالة إنشاء موضوعها: الحياة حلم. فكتب هذا الصبي اليهودي الذكي يقول: إن الحياة تعتمد على الأكسدة العادية. . . والأحلام مظاهر من مناشط المخ، ومناشط المخ ليست إلا أكسدة. . . إن الأحلام أشبه شيء بفسفرة مُخّيَّة!)

وبالطبع كان حظه من هذا الإنشاء رقم خسيس، ولكن هذا لم يعكر عليه صفوه، فقد كان مرن على هذه الأرقام الخسيسة عن أعماله المدرسية. ومن المدرسة الثانوية ذهب إلى مدرسة للطب، بل إلى ثلاث مدارس للطب أو أربع. هكذا كان إرليش وهكذا تعلم. وفي كل مدرسة ممتازة في الطب دخل من استراسبورج إلى فرايبورج إلى ليبزج، ارتأى فيه الأساتذة أنه طالب غير عادي وارتأوا فيه أنه طالب سيئ بالغ أقصى درجات السوء، وذلك لأنه أبى أن يحفظ 10050 كلمة طويلة زعموا أنه لابد من حفظها لعلاج المرضى. كان

ص: 54

إرليش ثائراً، وكانت ثورته جزءاً من الثورة التي بدأها بستور وطبيب القرية كوخ وسأله أساتذته أن يقطع جثث الموتى ويتعلم أجزاءها. ولكنه بدل هذا قطع جزءاً من جثة واحدة، وقطعه سليخة سليخة، وجعل هذه السلائخ غاية في الرقة ثم أكب على تلوينها بشتيت من أصباغ أنلينية بديعة اشتراها أو اقترضها أو سرقها على عين مدرسه

ولم يكن يدري هو نفسه لم يفعل هذا. وبقى إلى آخر أيامه يجد متعته الكبرى قي النظر إلى كل لون بهيج وصناعة كل صبغ زاه جميل. أقول متعته الكبرى ولا أذكر تلك المتعة الأخرى التي كان يجدها في الجدل الجموح والنقاش الشرود الذي كان يتعاطاه على مناضد البيرة ومن فوق أكؤسها

وكان يكره التربية الكلاسيكية ويعد نفسه من نصراء الجديد، ومع هذا كان يحسن الإلمام باللاتينية، ومن هذه اللاتينية كان يصوغ تلك الجمل الجامعة المقلمة التي كان يدعو بها كلما خاض غمار حرب، واستعدى العقول في الحملة على الخصماء. فبتلك الجمل الصارخة كان يعنى أكثر من عنايته بالمنطق. كان يصرخ: أي (إن الأجسام لا تعمل إلا بعد تثبيتها) وكان في صرخته يضرب المنضدة بيده حتى ترقص الصحاف التي عليها. فظلت تلك الصرخة بتلك الجملة تقوي قلبه وتحيي أمله في ثلاثين سنة لم يكن له فيها غير الخيبة. وكان إذا حدثك بهذه اللاتينية يلوح في وجهك بنظارته في إطارها القرني وهو يؤكد معناه في نفسك ويقول: (لعلك سامع! لعلك فاهم!)، ولو إنك أخذته بجده لحسبت إن هذا الهراء اللاتيني لا عقله البحاث هو الذي أفضى به إلى النجاح أخيراً. وعندي أنه أفضى بعض الشيء إلى هذا النجاح يقيناً

وكان إرليش أصغر من كوخ بعشر سنوات، وكان يعمل في معمل كنهايم في اليوم الذي عرض فيه كوخ على الناس بشلة الجمرة لأول مرة؛ وكان أرليش زنديقاً لا يؤمن بالله، فلما افتقدت السماء رباً يعبده توجه بعبادته إلى رب في الأرض، فكان كوخ. وبينا هو يصبغ بألوانه كبدا مريضه وقع على جرثومة السل ورآها قبل أن يراها كوخ بزمن، ولكن لجهله، ولقصور ذكاءه عن ذكاء كوخ، ظن تلك القضبان الملونة التي رآها بلورات جامدة، فطاش سهمه بعد أن كاد. ولما جاء مارس عام 1882 وجلس في بعض أمسائه في تلك الحجرة في برلين يستمع إلى كوخ وهو يشرح كيف أكتشف جرثومة السل، أهتز للذي سمع

ص: 55

وأتضح لعينه ما كان غم عليها، ورأى الحقيقة واضحة صريحة. ووصف هذه الحادثة فقال:(إنها أكبر الحوادث أثراً في نفسه في كل ما صادف في حياته العلمية)، قالها بعدها بزمن طويل. وعلى أثرها أعتزم أن يتصيد المكروب هو أيضاً، فذهب إلى كوخ وأطلعه على طريقة بديعة يصبغ بها مكروب السل فيتراءى في العين سهلاً واضحاً - وهذه الطريقة لا تزال تتبع إلى يومنا هذا بلا تغير يذكر. ولزمه وهو يشتغل بمكروب السل حماسه الصاخب، فلوث نفسه من قدمه إلى رأسه بالمكروب، فأصابه السل فكان لابد له أن يذهب إلى مصر ففعل

- 2 -

وكان عمره إذ ذاك أربعاً وثلاثين سنة، ولو أنه مات عندئذ في مصر، إذن لنسي أمره بدون شك، أو إن هو ذكر فإنما يذكر بأنه رجل مِفراح ممراح أحب الألوان وأغرم بالخيالات ثم خاب، وكان كالمولد الكهربائي في جهده الفياض ونشاطه المتواصل. وأعتقد إنه يستطيع الجمع بين صيادة المكروب ومعالجة المرضى. وتعين رئيساً للأطباء في دار للعلاج شهيرة في برلين، ولكنه كان مرهف الحس مضطرب الأعصاب لا يقوى على استماع صراخ المرضى وأنين من يوشك منهم أن يموت بعد أن استعصي دواءهم وعز علاجهم.

نعم علاجهم. علاجهم الحق. علاجهم الشافي لا علاج الظن والتخمين، ولا العلاج بالتأسية الكاذبة والتلطف الفارغ عند سرير المريض ثم ترك الأمر للطبيعة عساها تحل العقدة التي أعجز الطب حلها. وساورته هذه الأفكار وأمثالها فأفسدت عليه صناعة التطبيب فكان طبيباً مخيباً، ذلك لأن المؤاساة ولو كانت كاذبة صفة لابد منها للأساة، أما اليأس من الأمراض ولو موئسة وقطع الأمل وتقطيعه على أسماع المرضى فلا يؤدي بالطبيب إلا إلى الخيبة. وعدا هذا فقد ساء إلريش طبيباً عندما لعبت برأسه لواعب الأحلام: كان ينظر إلى جسم المريض فينفذ ببصره إلى ما وراء جلده وكأنما يستعير لعينه مجهراً بالغ التكبير، فتتراءى له مادة الخلية المرتعشة وقد ارتسمت في عينه رمزاً كيمياوياً كبيراً لمادة كيمياوية معقدة. وتراءت له حلقات البنزين وسلاسلها الجانبية في تلك الخلايا بمثل ما تراءت له في رموز أصباغه، ونحى جانباً أحدث النظريات في علم وظائف الأعضاء، واصطنع لنفسه كيمياء للأجساد غريبة قديمة فجاءت كالثوب ذي الزي العتيق تلبسه في غير عصره. واختصاراً

ص: 56

تستطيع أن تصف إرليش بما تحب إلا أنه مطبب عظيم، ولو أنه كان طبيباً فحسب إذن لحقت عليه الخيبة ولمات ذكره. . . . ولكنه لم يمت!

وصاح إرليش: (إن في اعتزامي أن أصبغ الحيوانات وهي حية، ولم لا وكيمياء أجسامها لا تختلف عن كيمياء أصباغي؟ وصبغها وهي حية قمين أن يكشف لي عن كل شيء فيها) وعلى هذا تناول صبغته الحبيبة، وهي أزرق المثلين وحقن قليلاً منها في وريد بأذن أرنب، وتتبع بعينه انسياح الصبغة الزرقاء في دم الأرنب وجسمه فوجدها تمر بكل جزء منه ثم تنقشع فلا يصطبغ بها شيء إلا أطراف الأعصاب الحية. فعند هذه الأطراف وحدها وقفت الصبغة وصبغتها دون سائر ما مرت عليه فكأنما تخيرتها تخيراً! ألا ما أغرب! ألا ما أعجب! ونسى علمه الأصيل برهة، وأغري بالمداواة وازدهته الطبابة لمحة، فقال في نفسه:(ألا من أدراني، فلعل هذه الصبغة الزرقاء تقتل الألم!) وما نطق بهذا حتى صدق نفسه وأخذ يحقن هذه الصبغة في المرضى وهم يتوجعون. ولعل آلامهم خفت بعض الشيء من جراء هذا، ولكنه ما لبث أن اعترضته في سبيل ذلك صعوبات لو تحكى ما خلت حكايتها من المتعة والفكاهة، فأجفل مرضاه من الصبغة؛ ومن ذا الذي يلومهم؟

خاب إذن إرليش فيما اعتزمه إيجاد دواء يقتل الآلام تواً، ولكنه اهتدى إلى تلك الحقيقة الغريبة عن أزرق المثلين: أنه يقع من أنسجة الجسم ومادته الحية على أشتات مئات مختلفات فلا يتعلق إلا بواحدة منها؛ ومن هذه الحقيقة ابتدع فكرة أشبه بالخيال قادته أخيراً إلى اختراع رصاصته المسحورة.

وتحدث في أحلامه قال: (هذه صبغة بين يدي لا تصبغ من أنسجة الحيوان جميعها إلا نسيجاً واحداً. وإذن فلابد من وجود صبغة لا تصبغ من أنسجة الإنسان شيئاً، ولكن مع هذا يكون من شأنها أن تصبغ المكروبات التي تعدو على الإنسان فتقتلها. وعاوده هذا الحلم خمس عشرة سنة أو تزيد قبل أن تتهيأ له الأمور لتجربة الفكرة التي تضمنها

وفي عام 1890 عاد من مصر ولم يكن مات هناك من السل وحقنه كوخ بدوائه الفظيع المزعوم للسل رجاء شفائه، ولكنه لم يمت من هذا أيضاً. ولم يلبث أن بدأ العمل في معهد كوخ ببرلين في تلك الأيام العظمى التي كان فيها بارنج يقتل الخنازير الغينية في سبيل خلاص الأطفال من الدفتريا، وكان فيها كيتا ساتو الياباني يصنع العجاب بالفئران ذوات

ص: 57

الكزاز الفكي. دخل إرليش هذا المعهد الذي أثقله الوقار وأناخت عليه الرزانة بكلكلها فكان روحه الحي وفيض حياة ثوارة فيه. وكان له معمل تدخله فلا تكاد تجد سبيلك فيه لشدة امتلائه ولتبعثر الأشياء فيه، تتألق فيه صفوف الزجاجات وتتلألأ وتزهو بالذي فيها من أصباغ كثيرة ضاق وقته عن استعمالها. ويدخل كوخ على تلميذه وهو في هذا الامتلاء وعلى هذا التبعثر ليرى ماذا يصنع، وكوخ ذو سلطان في معهده كسلطان قيصر في دولته. وما كان كوخ يرى في أحلام إرليش عن رصاصته المسحورة إلا أنها بعض أحلام خرفة. أقول يدخل كوخ على إرليش في معمله فيقول:(أي عزيزي إرليش خبرني ما الذي خبرتك به تجارب اليوم). فيأتي الرد من إرليش متدفقاً مضطرباً يفسر هذا ويوضح ذلك في غزارة وتلاحق كأنه عين ماءٍ ثرة تدفعت أمواهها ساخنة إلى السماء. وذات مرة كان إرليش يبحث في الحصانة التي تأتي الفئران ضد السم الكائن في حبوب الششم والخروع إذا هي تعاطته، فلما دخل عليه كوخ فسأله في ذلك تدفع يقول:(إني أستطيع أن أقدر بالضبط مقدار السم الذي يقتل في ثمان وأربعين ساعة فأراً زنته عشرة جرامات. فهذا المقدار دائماً واحد. . . والآن أستطيع أن أخط خطاً بيانياً يرينا كيف تزيد الحصانة في الفأر - إنها تجربة تضارع في دقتها تجارب علم الفيزياء. . . . أملق سيدي سمعك إلي؟ ووجدت أيضاً كيف يقتل السم الفئران. إنه يجبن كرات الدم في شرايينها، وهذا كل تفسيرها. . .) وهو في أثناء ذلك يلوح بأنابيبه الزجاجية وقد امتلأت بدم الفئران المنجمد القاني في وجه رئيسه العظيم مؤكداً له أن مقدار السم الذي جبن هذا الدم هو عينه الذي يكفي لقتل الفأر الذي جاء هذا الدم منه. ولا يلبث كوخ أن يجد نفسه بين أرقام وتجارب تنصب عليه انصباباً فلا يكاد يلاحقها. ثم إذا هو يقول لإرليش

(ولكن مهلاً يا عزيزي إرليش، فإني أكاد أجاريك. أرجوك أن تزيد تفسيرك وضوحاً). فيجيب: (على العين والرأس يا سيدي الدكتور فأنا أعطيك المزيد من ذلك فوراً) ولا ينقطع كلامه برهة، بل هو يختطف قطعة من الطباشير ويرجع على ركبتيه ويخط على أرض المعمل أشكالاً هائلة توضح آراءه. ثم ينظر إلى كوخ فيقول:(والآن يا سيدي أفهمت ما عنيت؟ أواضح تفسيري لك الآن؟)

(يتبع)

ص: 58

أحمد زكي

ص: 59

‌رسالة النقد

إسماعيل المفترى عليه

تأليف القاضي بيير كربتيس

وترجمة الأستاذ فؤاد صروف

للأستاذ الغنيمي

- 3 -

ذكرنا في العدد الماضي طائفة من أغلاط الفصل الأول من الترجمة العربية لكتاب إسماعيل، والآن نذكر طائفة أخرى من أغلاط الفصول التالية. ويظهر أننا سنضطر إلى الاكتفاء بذكر أمثلة قليلة من هذه الأغلاط في كل فصل حتى لا نستأثر وحدنا بباب النقد في الرسالة

(1)

اقتضب الأستاذ صروف الفقرة الأولى من هذا الفصل اقتضاباً أفقدها نصف معانيها. أنظر إلى قول المؤلف:

ثم انظر إلى الترجمة العربية: (إلا أن روح التفاؤل التي كانت تملأ صدره ما كانت لتمكنه من التغلب على تلك الصعاب لو أن الوزارة الإنجليزية التي كانت يومئذ في الحكم أفهمت الرأي العام البريطاني أن دلسبس ينوي. . .

(2)

. .

كل ما ترجم به الأستاذ هذه العبارة هو قوله: (ومهما يكن من أمر الامتياز)

(3)

هل معنى هذه العبارة هو: (كان اسم دلسبس على فم كل إنسان في مصر) كما قال المترجم أو أن معناها: (إن شهرة دلسبس جعلت الناس يذكرون اسم مصر)

(4)

(ترجم الأستاذ عبارة (بالدين العائم وهو اصطلاح لم نره قبل الآن. والذي نعرفه أن معنى هذه العبارة الإنجليزية (الدين السائر)

ص: 60

(5)

،

اكتفى الأستاذ في ترجمة هذه العبارة بقوله: (وأخشى أنه يمهد لكارثة) وترك قول المؤلف إنه يفسد كل شيء ولا يكاد يفعل شيئاً

(6)

قال الأستاذ في ترجمة هذه العبارة (وقد أورد أرقاما تختلف قليلاً عن الأرقام التي أوردها لورد كرومر) وقد جاء الأستاذ باسم لورد كرومر من عنده فغير بذلك المعنى، لأن المؤلف يشير إلى السير أوكلند كلفن لا إلى اللورد كرومر

(7)

في ص 24 من الأصل الإنجليزي يذكر المؤلف اختلاف المؤرخين في مقدار ديون سعيد باشا ثم يرجع هذا الاختلاف إلى شيئين: الديون السائرة، وديون سعيد الشخصية فيقول:

'. .

اقتضب الأستاذ هذه العبارة اقتضاباً قطع الصلة بينها وبين ما قبلها فقال (وقد بحث الأستاذ. . . وهو من كبار علماء الاقتصاد الألمان في هذا الدين في كتاب له)

(8)

ترجم الأستاذ صروف هذه العبارة بقوله إنه (كان في الجيش المصري في أيام سعيد باشا) ومع إن الأستاذ يعرف إن إسماعيل باشا هو الذي استخدم الضباط الأمريكيين في جيشه وإن الجنرال لورانج لم يكن في جيش مصر أيام سعيد. وعبارة المؤلف صريحة في هذا لأن معناها إنه خدم في الجيش المصري وقت إن كانت ذكرى سعيد لا تزال ماثلة في الأذهان

(9)

ليس معنى هذه العبارة إنه (لم يكن قوي الجسم) كما قال الأستاذ صروف بل معناها إنه لم يكن حسن الهيئة منظرياً

(10)

اكتفى الأستاذ بترجمة جزئه الأخير فقال (وكان يخيل إلى الناظر إن عينيه نصف مغمضتين) فغير بذلك معناه

ص: 61

(11)

قال الأستاذ في ترجمتها (وكان خلفه مهملاً مغضى عنه) وما أبعد هذا القول عن المعنى الذي يقصده المؤلف وهو إن خلفه رأي من الحكمة أن لا يرى الناس كثيراً

(12)

لم يزد الأستاذ صروف في ترجمة هذه العبارة التي يصف فيها المؤلف أدون دليون وإكرام محمد سعيد لدلسبس على قوله (وذكر هذا الكاتب أيضاً) وأين هذه الألفاظ الأربعة من قول المؤلف (وقد قال هذا الكاتب نفسه الذي كان يرقب الأمور من وراء الستار، والذي كانت مهمته أن يلم بتصاريفها، قال إنه في الوقت الذي كان فيه محمد سعيد يكرم دلسبس أكثر من إكرام عيسو ليعقوب) وإن شاء الأستاذ أن يعرف قصة عيسو ويعقوب فليرجع إلى سفر التكوين من الكتاب المقدس. وإذا جاز للأستاذ أن يترك ما أشر به المؤلف إلى قصة عيسو ويعقوب فهل يجوز له أن يترك ما وصف به أدون ده ليون قنصل أمريكا العام في الإسكندرية والتي أوردها ليدل على سعة إطلاع هذا القنصل وصدق أخباره؟

وهنا نحب أن نرجو الأستاذ المترجم ألا يضيف شروحاً من عنده إلى ألفاظ لا تحتاج إلى شرح، وبخاصة إذا وضع هذا الشرح في صلب الكتاب وكتب إلى جواره لفظ المعرب كوضع كلمة كوبري بعد كلمة جسر؛ واعتقادنا أن ليس في قراء ترجمة الأستاذ صروف كلهم من لا يعرف كلمة جسر

وسنكتفي بذكر هذا العدد من أغلاط الفصل الثاني لننتقل بعد ذلك إلى ذكر بعض أغلاط الفصل الثالث.

(1)

16 ، 000 ، 000 ،. .

ترجم الأستاذ صروف هذه بقوله: (انفق منه (من 91 ، 000 ، 000 جنيه) 16 مليون جنيه على قناة السويس وانفق الباقي توديراً وتبذيراً

فهل هذه هي ترجمة العبارة الإنجليزية؟ وماذا أعجب الأستاذ في لفظ تودير الذي كرره في كتابه أكثر من مرة. نعم إنه لفظ عربي في معاجم اللغة ولكن الأذن لا تستسيغه ولدينا بدلاً منه التبذير والإسراف وبسط اليد والإتلاف الخ

(2)

ص: 62

انظر إلى ترجمة الأستاذ لهذه العبارة المقتطفة من كتاب لورد ملنر فقد قال:

(إن إسماعيل خير مثال للرجل المبذر عرفه التاريخ أو تصوره مؤلفو الروايات. وما من مبذر طائش كان له سلطان غير محدود على موارد غير محدودة. فقد ارتقى العرش)

ما هي العلاقة التي يستطيع القارئ أن يفهمها بين الجملة الثانية وما قبلها أو بعدها؟ إن لورد ملنر يريد أن يقول: (إن إسماعيل باشا خير مثال للرجل المبذر عرفه التاريخ أو القصص، ولم يؤت أحد مثل ما أؤتي إسماعيل من الطيش والتصرف المطلق من كل قيد في موارد لا حد لها وقد اعتلى عرش مصر الخ.

(3)

قال المؤلف يشرح سبب بقاء أدون ده ليون في مصر بعد أن أعتزل منصبه:

، ، ،

كلما عنى الأستاذ بترجمته من هذه العبارة هو إنه (أقام عدة سنوات بالقاهرة بعد اعتزاله منصبه) أما سبب مقامه فيها وما كان لوجوده من الأهمية فلم يذكر الأستاذ صروف منه شيئاً.

(4)

قال الأستاذ في ترجمة هذه الجملة: (فالأعمال التي كان يقوم بها على سبيل التسلية قد أصبحت ضربة لازب عليه) فهل كان الخديوي يقوم بأعمال الدولة كلها التي ذكرها المؤلف قبل هذه العبارة على سبيل التسلية أو إنها كانت واجبات يراها فرضاً عليه ولكنها في نفس الوقت كانت (مصدر سروره وغبطته)

(5)

ثم أنظر إلى الفقرة الآتية من قول الأستاذ صروف: (والكاتب لا يقتصر على القول بأن قصر عابدين بناء وضيع الشكل من الوجه الهندسي بل يضيف إليه قوله إنه بهو المآدب والحفلات لا يشف مرآه أو أثاثه أو زخرفه عن شيء من العظمة)(واقرأ بعد ذلك معناه الحقيقي الذي يريده المؤلف (لكنه في كتابته يبدي آراء من عنده إلى حد ما ولا يقتصر على ذكر الحقائق المجردة حين يصف قصر عابدين (بأنه متواضع البناء) وحين يقول: (إن حجرة الاستقبال غير فاخرة الأثاث أو بديعة النقش) ولا داعي إلى ذكر النص الإنجليزي بأن ما أوردناه هنا هو ترجمته الحرفية ونحب أن نقول هنا إن ترجمة بوضيع كما فعل الأستاذ أكثر من مرة ليست ترجمة دقيقة.

ص: 63

(6)

هذه معان لم يترجم منها الأستاذ صروف شيئاً

(7)

،

وهذه العبارة كلها أيضاً لم يترجمها الأستاذ بأكثر من قوله (وعلى كل يجدر بنا أن نقتبس العبارات التالية توفية للكلام حقه)

(8)

قال الأستاذ صروف في ترجمة هذه العبارة (أما البيان الذي قدمه القنصل فلم يكن يراد نشره ولذلك أطلق لنفسه العنان ليقول كل ما يخطر بباله. ونحن نجل هذا القنصل عن أن يطلق لنفسه العنان ليقول كل ما يخطر بباله ونعتقد إنه (في هذا التقرير السري الذي كتبه إلى رئيسه والذي لم يكن يراد نشره كان صريحاً كل الصراحة لا يخفي من الحق شيئاً)

(9)

لينظر القارئ معنا إلى هذه الفقرة الطويلة من قول الأستاذ صروف (على إن إسماعيل لم يكتف بأن صرح بعزمه على إلغاء السخرة، وفي الحقيقة إن كلمة السخرة كانت على كل شفة حتى إن القنصل الفرنسي العام كتب يومئذ إلى وزارة الخارجية الفرنسية يقول (إن هذه اللفظة تفرق بين الأعمال الحكومية والمصالح العامة وهي تنطوي دائماً على إشارة إلى الأعمال الجارية في ترعة السويس بحيث إن جميع العيون تشخص إلى) وليقل لنا هل يفهم لها معنى؟

(10)

ولينظر إلى هذه العبارة الأخرى من ترجمة الأستاذ صروف (وليس ثمة سبب يحملنا على القول بأن الخديو كان مستعداً أن يسلك تلك الخطة لو لم يكن مقتنعاً بصوابها. وعلى كل فقد أظهر بمعاداة فرنسا جرأة عظيمة

ألم يكن أسلس من ذلك أن يقول مثلاً (وليس ثمة ما يحملنا على الاعتقاد بأن الوالي قد فعل ما فعل وهو غير مقتنع بأنه إنما يؤدي الواجب المفروض عليه. وسواء أكان ذلك أو لم يكن فقد كان وقوفه في وجه فرنسا عملاً جريئاً. أما عبارة المؤلف فهي: -

(11)

'

إلى القارئ كيف ترجم الأستاذ صروف هذه العبارة: (وعليه فإن الصدمة التي صدم بها

ص: 64

إسماعيل قنصل فرنسا في مصر تدحض التهمة التي وجهها ملنر إلى إسماعيل). فهل هناك ترجمة أبعد عن الحقيقة من هذه الترجمة؟

تلك أمثلة من أغلاط الفصلين الثاني والثالث ذكرناها موجزة لكي يتسع لها باب النقد في الرسالة ولكي يسمح لنا الأستاذ الأديب صاحبها أن نواصل نقدنا حتى نتمه، وسنسير على هذا الإيجاز في الفصول المقبلة إن شاء الله.

الغنيمي

ص: 65

‌البريد الأدبي

ملاحظات على التعليم في مصر

نشرت جريدة المنشستر جارديان في أحد أعدادها الأخيرة فصلاً طويلاً عن التعليم في مصر ومسائل الطلبة المصريين في حاضرهم ومستقبلهم بقلم الدكتور ماكلانهان عميد قسم الدراسات الشرقية بالجامعة الأمريكية استهله الكاتب بتقديم الإحصاءات الأخيرة عن عدد الطلبة المتخرجين في مختلف الكليات والمعاهد الفنية والخصوصية، وتبيان التقدم السريع الذي طرأ على سير التعليم العالي والفني. وفي رأييه أن هذا التقدم إنما هو نتيجة طبيعية مشروعة لآمال الشباب المصري الذي يرغب في مهن ومراكز رفيعة في الحياة العملية. بيد أن اضطراد هذا التقدم يثير مشكلة دقيقة، فهل تستمر مصر على ترك حبل التعليم العالي على غاربه؟ وهل تظل على تخريج هذه الجموع الحاشدة من الشباب الطموح المتعطل؟ أم أنها سوف تتخذ الإجراءات لتقييد بعض أنواع التعليم؟ يرى الكاتب أن مصر ستحذو حذو الأمم الأخرى في الاحتفاظ بحرية التعليم. على أن ما يثير القلق هو أن جماعة الطلبة قد اعتادت في الأعوام الأخيرة أن تأخذ الأمور بيدها وأن تطالب بأمور كثيرة فيما يتعلق بمصاريف التعليم ونظام الدراسة، وما سيكون نصيب الطلبة من إدارة الشؤون العامة ولم يشذ عن هذه القاعدة طلبة الجامعة الأزهرية الذين يبلغون وحدهم أثنى عشر ألفاً

وتبدي جماعة الطلبة رغبة قوية في الاشتراك في بحث المسائل السياسية والاقتصادية المصرية، بل يمكن القول بأنها تتأثر في حركتها بالنزعة الفاشستية، وذلك على رغم إرادة الزعماء السياسيين.

وقد اتخذت الحكومة بعض خطوات في سبيل ترقية التعليم التجاري ورفع مستواه، ولكن الشركات والمتاجر الأجنبية تصر على توفر معيار خاص من الكفاية. ومازال على مصر أن تبحث في المستقبل القريب عن حل هذه المشكلة الدقيقة، أعني مشكلة التعليم، وعما إذا كان من الواجب أن تسير في سبيل التوسع في شؤون التربية أم في سبيل تقييدها ولا ينكر أحد ضرورة التعليم كعامل في تقدم الأمة، بيد أنه يجب أن تتخذ بعض التحوطات؛ ويخشى أن يفضي التقدم السريع إلى أزمة. أما إذا كانت مصر قد عولت على السير الحثيث، فسوف يطلب إليها أن تؤدي الثمن. وقد أدركت بعض الدول الأوربية خطر تدخل الشباب

ص: 66

في الشؤون العامة وتأثره بنفوذ الزعامات الشعبية الطافحة، فعملت على تجنبه

نقول. وهذه ملاحظات جديرة بالعناية والتأمل من كل أولئك الذين يعنون بتربية الشباب ومستقبله

ثلاثة كتب عن الحرب الحبشية

ظهرت أخيراً عن الحرب الحبشية ثلاثة كتب هامة، أولها وأهمها كتاب المارشال دي بونو وعنوانه:(السنة الرابعة عشرة. فتح إمبراطورية) أعني السنة الرابعة عشرة لقيام النظام الفاشستي في إيطاليا وهي سنة 1936 التي تمم فيها استيلاء إيطاليا على الحبشة، والثاني بقلم الماجور بولسون نيومان المعروف بمؤلفاته عن مصر والشرق الأدنى وعنوانه:(فتح إيطاليا للحبشة) ' والثالث بقلم الصحافي الأمريكي هربرت ماتيوس وعنوانه (شاهد عيان في الحبشة) وكتاب المارشال دي بونو هو بلا ريب أهم هذه الكتب وقد نوهت عنه الرسالة في عددها الماضي؛ فقد كان المارشال كما نعلم أول قائد للحملة الإيطالية على الحبشة، وقد قاد هذه الغزوة في أشهر الحرب الأولى؛ وأهمية الكتاب في أنه يميط اللثام عن حقائق سياسية وعسكرية خطيرة؛ مثال ذلك أن المارشال يعترف لنا في كتابه أن مشروع غزوة الحبشة يرجع إلى سنة 1933 أعني قبل حادث وال وال الذي اتخذته إيطاليا حجة لغزو الحبشة بعامين، وإن موسوليني وضع هذا المشروع خفية مع المارشال، وفكر في تحقيقه أولاً بالعمل على إضرام نار الثورة في الحبشة، ثم التدخل بحجة المحافظة على السلام؛ وقد أنفقت إيطاليا في سبيل هذه المحاولة مبالغ طائلة، ولكن القبائل لم تثر في وجه النجاشي كما أريد وحبط المشروع، فلبث موسوليني وقائده يتربصان بالحوادث حتى وقع حادث وال وال، وزعمت إيطاليا عندئذ أن الحبشة تنوي الإغارة على المستعمرات الإيطالية، ووقع الاعتداء الشنيع على الحبشة وقد عجب الرأي العام حين صدر كتاب المارشال ولم يعترض موسوليني على ظهوره متضمناً لهذه الأسرار التي تفضح مشاريع إيطاليا الاستعمارية ونياتها المبيتة على الاعتداء ولكن الظاهر أن السياسة الفاشستية لم تعد تقييم للرأي الدولي وزناً ولا ترى في لومه أو مؤاخذته عاملاً يحسب حسابه. ومن جهة أخرى فقد اعتبر التصريح للمارشال بإصدار كتابه حراً طليقاً تعويضاً أدبياً عما أصابه من آلام العزل خلال نشوب الحرب وانتداب المارشال بادوليو لإتمامها وفوزه بشرف الظفر

ص: 67

دونه.

وأما كتاب الماجور نيومان فهو كباقي كتبه عرض للحوادث من الوجهة الاستعمارية، وفيه يحبذ افتتاح الحبشة ويعرب عن ثقته بأنها سوف تستقبل في ظل الحكم الأوربي عهداً جديداً، وأن الزمن كفيل بتسوية الأخطاء التي ارتكبت

وأما الكتاب الثالث، فهو كتاب (شاهد عيان في الحبشة) فهو مشاهدات صحفي، صحب الحملة الإيطالية منذ بدء الحوادث وتنقل معها في جميع الميادين. فهو ليس تاريخاً بالمعنى المقصود ولكنه جريدة يومية للوقائع مشبعة بروح العطف على الغزاة.

دار لنوادي القلم في باريس

كان الكاتب الفرنسي الكبير جول رومان رئيس نادي القلم الدولي قد أذاع في إحدى خطبه منذ اشهر إن الحكومة الفرنسية ستنشئ في باريس داراً لأعضاء نادي القلم من كافة أنحاء العالم. وقد تحقق نبأ المسيو جول رومان؛ ففي أنباء باريس الأخيرة أن الحكومة الفرنسية قد اختارت في حي الشانزليزيه داراً عظيمة فخمة، وخصصتها للوافدين على باريس من أعضاء نوادي القلم في أنحاء العالم؛ وستحتوي الدار المذكورة على غرف للنوم، وأبهاء للمطالعة والاجتماعات، وستزود بمكتبة عظيمة؛ وسيكون بها قلم سكرترية دائمة تعاون الضيوف على زيارة معالم باريس وقضاء مهامهم. وللدار المذكورة شرفة عظيمة تسع خمسين شخصاً خصصت لجلسات الصيف؛ وسيقدم طعام الإفطار للضيوف الذين يبيتون في الدار

ولما كان مؤتمر نادي القلم الدولي سيعقد هذا العام في باريس بدعوة من نادي القلم الفرنسي فإنه من المنتظر أن يفد كثيرون من أعضاء نوادي القلم في مختلف أنحاء العالم على باريس لتمثيل هيأتهم في المؤتمر؛ وسيكون نادي القلم المصري ضمن النوادي الماثلة في هذا المؤتمر على يد ثلاثة أو أربعة من أعضائه؛ وسيعقد المؤتمر المذكور، وهو الخامس عشر من نوعه، في شهر يونيه القادم

وهذا الخطوة التي تتخذها الحكومة الفرنسية لتكريم الكتاب الأجانب هي من أثر المساعي الجمة التي يبذلها مسيو جول رومان لتقوية نفوذ هذه الهيئة الأدبية الدولية

اكتشاف مدينة مصرية قديمة

ص: 68

روت الصحف السويدية نبأ اكتشاف أثري هام وفقت إليه البعثة الأثرية السويدية التي تقوم بالحفر في مصر برياسة الدكتور يلمار لارسن؛ وكانت حفائر البعثة هذا العام في منطقة أبو غالب، فكشف المنقبون عن مدينة مصرية قديمة ترجع إلى نحو أربعة آلاف عام؛ وظهر من أحيائها جانب يشمل عدة منازل، ومنها منزل ظهرت به سلالم كاملة، ومخازن للغلال؛ ووفقت البعثة أيضاً إلى اكتشاف عدة آنية وتحف أثرية أخرى؛ بيد أن الحفر لم يكشف عن كل شيء بعد؛ ويرى الدكتور لارسن أن هناك منطقة أثرية هامة سيكشف عنها قريباً، وقد توفق البعثة إلى اكتشافات عظيمة الشأن من الوجهة التاريخية، وتؤمل الدوائر السويدية أن ينال متحف ستوكهولم الوطني شيئاً منن الآثار المكتشفة في قيمة مجموعته المصرية

متحف لحياة الطلبة

من أنباء ألمانيا أن مدينة فرزبورج قد قررت أن تنشئ في قلعتها الشهيرة معهداً لتاريخ الجامعات الألمانية، وسيلحق به متحف هو الأول من نوعه، لأنه سيخصص لاستعراض حياة الطلبة في الجامعة؛ وقد جمعت إلى الآن نحو ألف وستمائة قطعة مختلفة من جامعات ألمانيا من صور وأدوات وأسلحة وغلايين وبرانيط، وثياب، مما يستعمل الطلبة في مختلف العهود والفصول؛ هذا إلى كثير من الدفاتر والمحابر والأوراق والقصائد والصور التذكارية، وأدوات اللعب المختلفة نسقت جميعها في أروقة وأبهاء تمثل حياة الطلبة أثناء الدرس وأثناء اللعب والتريض

مشروع معجم للأعلام عن مصر

تصدر شركة إنكليزية قاموساً للأعلام في أوربا الوسطى وأوربا الشرقية بعنوان وهو مرجع الأعلم الوحيد من نوعه. وقد فكرت الشركة الناشرة أخيراً أن تضع ملحقاً لهذا المعجم عن الأعلام في مصر في طبعته القادمة؛ وأوفدت بالفعل أخيراً إلى مصر مندوباً خاصاً لها للمقابلة الشخصيات البارزة في مصر وجمع المعلومات اللازمة عنها لوضع التراجم الخاصة بها

ونظام هذا المعجم على نظام المعجم العالمي الكبير في وضع تراجم موجزة تدرج بها أهم

ص: 69

الخواص عن الشخص مثل تاريخ ميلاده، وشهاداته، ووظائفه وعنوانه الدائم

المبرد

كنت أخذت على الأستاذ إبراهيم مصطفى في أسبوع الجاحظ أنه نطق المبرد بالفتح، فكتب (أحد القراء) الكرام إلى الرسالة ينتصف فيها إلى الأستاذ وينصره، الواقع أن هذا خطأ شائع في ألسن الناس حتى في الألسن المثقفة، وإني لأجعل الحكومة في هذه القضية لحجة اللغة والأدب أستاذنا المرصفي إذ يقول في تقدمة كتابه رغبة الآمل في شرح الكامل:(كثيراً ما يتساءل الناس عن كلمة المبرد، أبكسر الراء أم بفتحها؟ والقول الثابت عندنا ما ذكره ياقوت في كتابه معجم الأدباء قال: وإنما لقب بالمبرد لأنه لما صنف المازني كتاب الألف واللام سأله عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب فقال له المازني: قم فأنت المبرد بكسر الراء أي المثبت للحق، فحرفه الكوفيون ففتحوا الراء؛ وعن السيوطي في مزهره أن شيخه أبا عثمان المازني سأله عن عويصة فأجاب بجواب برد به غليله) فقال له: قم فأنت المبرد، فهو الذي لقبه به، وكان الكوفيون يفتحون الراء تهكماً به!

قلنا: ولذلك كان الرجل يقول: برد الله من بردني، والرجل أدرى بحقيقة لقبه، ونعوذ بالله أن تحق فيينا كلمته فنكون من المبردين

محمد فهمي عبد اللطيف

إحياء ذكرى المنفلوطي

لجنة إحياء ذكرى المنفلوطي تناشد أساطين الأدب وأعلام البيان العربي باسم الوفاء لفقيد اللغة والأدب المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي أن يتفضلوا بالكتابة عن أدبه الخالد من شتى نواحيه بمناسبة مرور ثلاثة عشر عاماً على وفاته وتمهيداً لإقامة مهرجان أدبي لإحياء ذكراه في 16 يوليو القادم

وترجو حضرات الكتاب والأدباء أن يعدوا مباحثهم الأدبية التي سيلقونها في مهرجان إحياء الذكرى وليتكرموا بمخابرتنا بمصر بشارع ذهني رقم 8 بالظاهر. وسنعلن فيما بعد عن المكان الذي سيقام فيه الاحتفال في الموعد المحدد علنا نكفر عن تقصيرنا في حق الفقيد الراحل ثلاثة عشر عاماً

ص: 70

سكرتير اللجنة

متولي حسنين عقيل

كتب الرحلات

كتب الرحلات من الأسفار التي يعنى الأوربيون بالإكثار منها لأنها وسيلة من وسائل إيقافهم على مجرى أساليب الحياة في الأقطار الأخرى، ولعل أكثر الأمم اهتماماً بذلك الشعب الإنجليزي، فقد جبل على حب المخاطرات والتنقل بين بلدان الشرق والغرب، وهذان كتابان أصدرتهما مطبعة في الشهر الماضي أما الأول فهو رحلة إلى سمرقند وبعض البلدان الأسيوية لسيدة إنجليزية هي إثيل مانين وهي تذكر في كتابها هذا ما لاقته من صعاب البيروقراطية الروسية في منعها من الدخول هناك، وتقص كيف تمكنت من عبور الحدود ودخول تركستان الروسية من (كراسنوفدسك) الواقعة على بحر قزوين ثم منها إلى تاشقند، وذلك ففي أسلوب يستهوي القارئ وتصف معيشة أهل السهوب والقفار وتقول في سياق حديثها (وفي القوقاز، كنا أول سيدات إنجليزيات يزرن هذه البلدة الألمانية الصغيرة جراندنبرج، تلك الواحة المنسية في بحر مترامي الأطراف من العشب) كما تلم بعادات القبائل الكردية والفارسية والقوقاز، والأزْبك والتتار، وتصف حياة النساء مما يدل على أنها تغلغلت بين طبقات هذا المجتمع الذي يعد حلقة اتصال بين البداوة في صورها الأولى والحضارة الغربية وتقول إن الحرية التامة متوفرة بين هذه الشعوب الشرقية، وإن الحضارة الأوربية إنما تفقدهم الكثير من صفاتهم الجميلة ولكنها لا تصيرهم غربيين.

أما الكتاب الآخر فعن ألمانيا الهتلرية وعنوانه ألفه شاب إنجليزي حدث يدعى سمع الكثير عن ألمانيا النازية من مدح وقدح فأحب أن يلمس ذلك عن قرب فسافر إليها، وفي الفصول الأولى تقدمة تاريخية عن ألمانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر ويصف فيه محاسن النازية ومثالبها، وإن كان يميل في الغالب لاستحسان أعمالها على وجه الإجمال

حفلات غنائية هائلة

تقام في شهر يولية القادم بمدينة برزلاو بألمانيا حفلات غناء هائلة يشترك فيها مائة وعشرون ألف مغني؛ وتنظم فيها جماعات للغناء والنشيد المشترك تضم الواحدة ثلاثين ألفاً

ص: 71

أو أربعين ألفاً من المغنين؛ وهذه أعداد ضخمة لم يسمع باجتماع مثلها من قبل في حظيرة واحدة للغناء؛ ولهذا اتخذت إجراءات غير عادية لتنظيمها وتدريبها، ومهدت لها أبهاء فسيحة يجري إعدادها منذ أعوام؛ وقد تم منها بهوان عظيمان أحيط أحدهما بالمنابر وبلغ مسطحه 140 ألف متر مربع، ويمكن أن يتسع لأربعمائة ألف وعشرين ألفاً من الناس، وأقيمت في البهو الثاني منصة هائلة تتسع لثلاثين ألفاً من المغنين؛ وإنه لمن الصعب أن يتصور المرء كيف تجتمع هذه الألوف الحاشدة من الفنانين في حظيرة واحدة، وكيف ترتفع هذه الأصوات بالغناء المنسق المنتظم؛ ولكن عصرنا أضحى أهلاً لكل أعجوبة وكل مدهش

كتاب عن الرهبنة

ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن الرهبنة والرهبان في إنكلترا عنوانه (الرهبان الإنكليز وإلغاء الأديار) بقلم المستر جوفري باسكرفيل وهو كتاب شائق في موضوعه وفي أسلوبه، وقد لعبت الأديار في العصر القديم دوراً هاماً في تاريخ إنكلترا كما لعبت دورها في تواريخ الأمم الأخرى؛ ومن ثم كانت أهمية هذا الكتاب؛ ولدينا نحن بالعربية أكثر من كتاب عن تاريخ الأديار والكنائس

ص: 72

‌الكتب

عالم السدود والقيود

تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد

للأستاذ كامل محمود حبيب

أهو كتاب أدب؟

أهو بحث فلسفي اجتماعي؟

اهو نقد يراد به إصلاح ناحية خاصة؟

أهو سرد حوادث مرت على عيني الكاتب فسجلها يراد المتعة وإزجاء الفراغ؟

أهو صرخة من أعماق قلب رجل طوحت به الأيام إلى قرارة سجن. . . فتلمس فيها الثورة والحنق. . .؟

أم هو ماذا؟. .

لقد كفانا الأستاذ - وهو يقدم لكتابه - مئونة التخبط بين هذه الأسئلة فقال: (لست أعني بها (الصفحات) أن تكون قصة، وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث ووصف شخوص؛ ولست أعني بها أن تكون بحثاً في الإصلاح الاجتماعي، وإن جاءت فيها إشارات لما عرض لي من وجوه الإصلاح؛ ولست أعني بها أن تكون رحلة، وإن كانت كالرحلة في كل شيء إلا إنها مشاهدات في مكان واحد؛ ولا أستقصي كل ما رأيت وأحسست وإن كنت أقول بعد هذا أن الاستقصاء لا يزيد القارئ شعوراً بما هناك، لا فرق بينه وبين الخلاصة إلا في التفصيل والتكرار. .)

نعم، لم يرد المؤلف شيئاً من هذا وإنما أرادها جميعاً، فجمع بين أشتاتها وألف بين أطرافها ثم زاد عليها نقداً في سخرية، وتهكماً في مرارة، بثهما في أعراض هذا السفر الصغير فهو قد قال في باب (المنع والترخيص). . (فإذا أبيح الشيء مرة فإنما يباح في حالة لا تسري إلى غيرها، وفي وقت لا يمتد إلى ما بعده. . الخ الخ) وفي قصة الفجل والجرجير ص52، ص53 نوع من هذا التهكم اللاذع

ولا يبرح الأستاذ العقاد في كتابه يطرفنا بنكتة مستملحة أو حادثة ممتعة منذ دخل في عالم

ص: 73

السدود والقيود إلى أن خرج منه، ففي باب (الليلة الأولى في السجن) وكذا في باب (أحمد حمزة) من الدعابات ما لا يستطيع معها القارئ أن يمسك عن الانفجار ضحكاً وقهقهة كأنه أراد أن يزيل عن القارئ بعض ما يسيطر عليه من الجد وهو يقرأ، أو كأنه أراد أن يستحث القارئ فيدفعه إلى آخر صفحة من الصفحات، أو كأنه نسى بعض ما قاسى في السجن وهو يكتب. .!

وقد يجول بالخاطر أن الإجرام ينزع عن الإنسان إنسانيته فيبدو حيواناً مفترساً يفر منه الناس، خوف التعدي وخشية الضرر، غير إننا نرى في الكتاب براهين وأدلة تأتي على هذه الخاطرة من أساسها، نراها في الصفحات (73 - 80) وفي صفحة 197. . . وقد تدفع الضرورات رجلاً دمثاً إلى اقتراف جرم محظور، فيكشف ويناله الجزاء، إلا أنه لا يندر أن يظل بعدد ذلك رجلاً دمثاً كما كان. . .

وإذا كان (السجن إصلاح وتهذيب) كما يقولون؛ فلم لا نرى أثر ذلك في سجوننا لما ينال السجين من ظلم وإعنات وتحقير ومهانة واستصغار. وإذا كانت هذه الشدة تفيد في قليل من الحالات فما لا ريب فيه أنها تبذر الحنق والضغينة والحفيظة في نفس السجين إن كان دمثاً، وتغرس فيه الثورة والجموح إن كان شريراً. ولقد أشار المؤلف إلى نظام السجون الأوربية لنرى ما بيننا وبينهم من بون شاسع في هذه الناحية، وإن كان بعض الأمم قد جاوز الحد فيما خولوا السجين من حرية وتسلية. ولقد هفت بي نفسي نحو سجون موسكو - وأنا أقرأ بعض ما كتبه جيمس برفن ستيوارت ص210 إلى ص214 - لأستمتع بما يستمتعون به بعيداً عن عناء العمل، وعناء الأمل، وعناء الفكر، إلا أنني - واستميح الأستاذ عذراً - لا أستطيع أن أعمل ثماني ساعات كل يوم تتخلها ساعة واحدة للطعام. . .

ولقد رأيت في الكتاب هدوء من يقص قصة لا تضطرب حوادثها في نفسه، ولا تلمس مفاجآتها قلبه، فعجبت - بادئ ذي بدء - غير أني عدت إلى نفسي فقلت: لعله النسيان قد محا كثيراً من الذكرى، أو لعله الاطمئنان إلى كل ما يجيء به القدر، أو لعله الإيمان بالتضحية، أو لعلها حكمة الشيوخ ورزانتهم لا تعبأ. .

هذه كلمة إن لم يكن فيها الاستقصاء ففيها التعريف بالكتاب وليس بالمؤلف.

كامل محمود حبيب

ص: 74

أحسن القصص

للأساتذة: محمد عطية الأبراشي، محمود السيد عبد اللطيف،

حسن محمد جوهر

القصة ضرب من الأدب الرفيع تتجمع بين رقيق النثر ورشيق الشعر، فلها من الشعر سحره وجماله، ومن النثر ترسله وانسجامه، يسير سلساً كالماء ساعة الأصيل رقراقاً كالنسيم العليل، لا تقف في طريقه جنادل الأوزان، ولا يغل بأغلال القافية، وقد صيرت وزارة المعارف القصة أساساً من أسس التعليم في منهج المدارس الابتدائية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وتنافس الكتاب في إصدار القصص، فهذه قصة تاريخية، وتلك جغرافية والأخرى أدبية، والتلاميذ يستسيغون جميع ذلك

وبينا نحن نتمنى للقصة (في أفق المدارس) الكمال والسلامة من زيف الخيال، وزيغ المطابع والأقلام برزت الحلقة الأولى من حلقات (أحسن القصص) لأساتذة أمجاد بارعين فإذا هي مزيج من الأدبين العربي والإفرنجي، وصلة بين الخيالين الغربي والشرقي في أسلوب هو - كما يقولون - السهل الممتنع، والقريب البعيد، وإذا كان هذا أول الغيث، فإنه غيث ممرع، وصيب بالخير مترع، فالحلقة خالية من التكلف والصنعة مفعمة بالروعة والمتعة، قد أنفق عليها مؤلفوها عن سعة إيماناً بفنهم واطمئناناً إلى آثارهم، فالغلاف جميل أنيق يحدثك دون قراءة عنوانه أنه قصة، وتنطق ريشة المصور بأنها ساحرة، والورق ناصع، والطبع صاف دقيق والصور خلابة، وإن بدأ القارئ أن الكتاب في غنية عن التصوير؛ فقلم كاتبه أفصح من ريشة مصوره، وسحر عبارته آخذ من دقائق صورته.

يشتمل الكتاب على أربع قصص: قصتين عربيتين وأخريين مصريتين، تلمس في الأولى حياة العرب في حضارتهم وجدهم في دعتهم، ومزحهم في حكومتهم، وسماحتهم في ضيافتهم، وتقرأ في الثانية مثلاً لحقد المرأة، وآخر للحب الظافر، وفي الثالثة وصف محكم للصحراء وجوها وللواحات وثمراتها، ولصبر البدو وعزمهم ووثباتهم على العقبات في جلد وصرامة، وتنتظم الرابعة مواقف محرجة سهلة الابتداء عسيرة الانتهاء، وفيها مثل نبيلة للحنو والعطف.

ص: 75

وإذا كان على الناقد أن يتقصى الحسنات والسيئات فأنا لا نكاد نلفي في هذه الحلقة سيئات تذكر، اللهم إلا هنات تبدو كالكلف في جبين الحسناء، من ذلك أن صورة الغلاف لا تمثل منظراً في الكتاب، والرقصة الموصوفة بأنها عربية في (خليفة في الخيال) لا تمت إلى العرب من قريب أو بعيد، كما أرى وجوه الراقصات وجوهاً غير عربية، فالوجه العربي مستطيل غالباً، وأرى أن توضيح الصور بالكتابة تحت الرسم تزييف لها، فللرسم لغته، وهو غني عن الكلام، وإلا عد دليل الضعف والقصور، وتسمية القصة الثالثة (عزة في الصحراء) تسمية غير موفقة إذ مكانتها في القصة ثانوية ولا يرفع من منزلتها أنها وحيدة أبيها، ولفت نظري تكرار عبارة (حباً وكرامة) في روايتين عربية وإفرنجية، وحبذا لو نوعت العبارة ولدى المؤلفين من أفانين القول معين لا ينضب، على أن الكتاب مع ذلك طاقة يانعة من أزاهير الجمال

المعادي

عبد العظيم علي قناوي

ص: 76