الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 201
- بتاريخ: 10 - 05 - 1937
بعد مؤتمر الامتيازات
الآن يبدأ الاستقلال!
كان يوم السبت أول أمس آخر أيام المؤتمر، فغابت في أقصى الحلوق الألسنةُ التي كانت تجادل وتقاتل للمنفعة، وانبسطت من القلوب ألسنة معسولة كانت تجامل وتدامل للعاطفة. وجدوى المدنية على الإنسان، أنها خلقت له لسانا مع اللسان، إذا جرح هذا، لعق دم جرحه ذاك. وجملة القول في المؤتمر أنه ألغى الامتيازات إلا ذيلا سينسحب في ردهات المحاكم المختلطة اثني عشر عاماً ثم ينقطع. ومصر التي كابدت رهق هذا النظام المهين في الأعمال والأموال والأنفس، تدرك أن هذا الاتفاق المدني مع الدول الممتازة، أبلغ شانا وأبعد مدى من ذلك الاتفاق العسكري مع الدولة المحتلة؛ فإن الاحتلال الإنجليزي كان محصوراً في ثكنتين وقلعة، يطل من نوافذها الضيقة إطلال المتقحم الغاصب، فلا يرى إلا النظر الشزر، ولا يسمع غير الهتاف العدو؛ وكان وجوده الباطل تحدياً لرجولة الشعب فتيقظت فيه عواطف الوطنية والقومية والحرية، فدافع بمواهبه حتى نضجت فيه الكفاية، وضحى بدمائه حتى نبغت فيه البطولة. وأما الاحتلال الدولي فقد كان معتمداً على اتفاقات موروثة ومساومات مكتوبة وامتيازات مكتسبة، فتدخل في كل عمل، وتغلغل في كل مكان. وأخذ على الأهلين سبل العيش وموارد الرزق فتعطلت في نفوسهم الملكات المنشئة، وسكنت في رءوسهم النوازي الحافزة، ورضوا من بلادهم بالنصيب الأخس ضراعة وذلة؛ وكان نظام الامتيازات الذي استتبع هذا التفاوت في نظام الحياة، إيحاء ملحاً بأننا دون الأجنبي في القوة والقدرة والخلق، فخضعنا خضوع التابع، وقنعنا قنوع المحروم، وتأخرنا في ميدان الاقتصاد بقدر ما تقدمنا في ميدان السياسة. فإذا أنقذ الوفد بهذا الاتفاق كرامتنا من الذل، وسيادتنا من العجز، وثروتنا من الغبن، واستقلالنا من النقص، كنا أحرياء بأن نفخر بسمائنا التي لا تعبس، وبأرضنا التي لا تيبس، وبنيلنا الذي لا يُحلف
الآن يبدأ الاستقلال؛ لأن الاستقلال الصحيح أن تقول صادقاً في وطنك: أنا السيد؛ وفي محكمتك: أنا القاضي؛ وفي أرضك: أنا المستغل؛ وفي مالك: أنا المتصرف. على أن (بَدَأَ) ليس معناها (تم)؛ وتسجيل الاستقلال عمل من أعمال الحكومة، ولكن تثبيته عبء من أعباء الشعب؛ وإذا كان المدافع عن جهته السياسية جنود الدولة، فإن المدافع عن جهاته
الأخرى شباب الأمة. هذه مياديننا الحيوية تعج بالجيوش الغربية، ليس لنا من بينها جندي ولا قائد، وليس لنا من ورائها فخر ولا مغنم إنما يتنافسون ونحن الخصوم ويتقاتلون ونحن القتلى. فمن الذي يحتل هذه الميادين المغصوبة، ويغزو هذه الجيوش الغاصبة؟ وهذه طبقاتنا العاملة تفتك بنشاطها الفطري جراثيم الجهل والفقر والمرض؛ فمن الذي ينبه عقولها بالعلم، ويشد أيديها بالمال، ويمسح على أبدانها بالعافية؟ الشباب هم الجواب عن هذين السؤالين وعن غيرهما من كل ما يخطر بالبال من مسائل الاستقلال ومشاكل البلد
ستقرأ في (رسالة الشباب) من هذا العدد كلمة لشاب كريم يقترح فيها على إخوانه التجنيد المدني لزحف اجتماعي عام يهاجم عوامل الضعف في العلم والأدب والسياسة والاقتصاد والأخلاق والنظم، وجعل لهذه الغزوات الأدبية خمسة أعوام تحشد فيها الجنود وتنصب القادة وتوضع الخطط وتوزع الفرق وتعين الميادين ويتم النصر، وليس أجدى ولا أجدر في الحال التي نحن فيها من هذه الفكرة. فقد وقفنا طويلا نقنع المكابرين أننا أمة لها وجود مستقل، ودولة لها سلطان سيد، فجر علينا هذا الوقوف أن تخلفنا عن الأشباه تخلفا لا يسوغه مجد الماضي ولا طموح الحاضر. فسبيلنا إلى اللحاق أن نتهالك في السير لا نتراخى ولا نتريث، نبصر هدانا على رأى الشيوخ، ونحمل ضعفنا على قوة الشباب، ونستمد حوافزنا من الذكرى، ونرسل مطامعنا مع الأمل.
هذا الاقتراح طبيعي تقتضيه الحال بعد أن فرغنا من الإنجليز بمعاهدة الزعفران، ومن الدول باتفاق مونترو، فلم يبق ما يشغل الرءوس والأيدي إلا أمورنا الداخلية، ومشاكلنا الاجتماعية. فكيف السبيل إلى تحقيق هذا المقترح؟ أنكتفي بجهاد الطلاب من الشباب في أوقات الفراغ وأيام العطلة، يزورون المدن ويرودون القرى فيثقفون العامل ويعلمون الفلاح وينفثون من روحهم الوثابة حياة في النفوس، وصحة في الجسوم ويقظة في المدارك؟ أم نؤلف فرقا دائمة من الشباب المتخرج يكون فيها المعلم والطبيب والمهندس والزراعي والواعظ، فيسيرون بعتادهم وخيامهم (روادا) يغشون القرية بعد القرية، يدرسون أحوالها، ويكشفون أدواءها، ويعالجون كل شيء بما يساعد على صلاحه، أو يعين على نجاحه؟ أم نعبئ جيشاً سلمياً نظامياً من المتعلمين المتعطلين نُعدهم إعداداً خاصا للدعاية والإرشاد والدفاع، ونمدهم بالكفاف من المال، ونجعل بعضهم مع الزراع، وبعضهم مع العمال،
وبعضهم مع الطلبة، يروضون جسومهم على الدفاع المنظم، ونفوسهم على الخلق الصالح، وأيديهم على الإنتاج الصحيح؟ ثم ماذا تكون صلة هذه الفرق بالحكومة والأمة؟ لمن القيادة؟ على من النفقة؟ أللحكومة؟ أعلى الأمة؟ أم لهما وعليهما معا؟
ذلك اقتراح جدير بأن يقسَّم فيه الرأي ويُحكم له التدبير؛ وقد عرضه صاحبه هناك وعرضناه نحن هنا لنستعين على تمحيصه بأقطاب الرأي، وعلى تنفيذه بأرباب العزيمة.
أحمد حسَن الزيات
الذي نعمله
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءتني من الأديب صاحب الإمضاء رسالة يقول في ختامها:
(. . . قد رأيت بما لي من حق طالب العلم على أستاذه أن أطلب إلى سيدي الأستاذ أن يتبع هذا المقال بنفحة أخرى تبين لنا ما نعمله لنبلغ من أمرنا ما نريد، وأرجو ألا يعتبر مني هذا اقتراحا أو ما في معناه وإنما هو محض استزادة من خير علمك العميق النظيف. . . .)
أحمد حنفي نصار القوصي
وهذا سؤال حقيق بأن يسأل، وكنت أود أن يسأل، فهو حقيق بأن يجاب
وجوابي للأديب أن حاجتنا الكبرى إنما هي أن نعلم كيف نريد لا أن نعلم كيف نعمل. فإذا أردنا عملنا؛ وكل مريد عامل وعارف بوسيلته إلى إنجاز مراده
مضى زمن والناس يتحدثون عن الإرادة والعمل كأنهما قدرتان مفصولتان، وعن العاطفة والفكر كأنهما شيئان لا يتلاقيان، وعن الخيال وفهم الواقع كأنهما ملكتان نقيضتان، إلى آخر ما يفرقون ويقابلون بين ملكات الطبائع وخصائص الأذهان. وهذا خطأ في تصوير الحقائق يتبعه لا محالة في تصوير العلاج والإصلاح
ليست الإرادة والعمل ولا غيرهما من الملكات والطبائع خطين متلاحقين يبدأ أحدهما عند نهاية الآخر، أو جسمين متحيزين لا يجتمعان في مكان واحد، وإنما هما مظهران من قوة النفس يصدران عن معين لا يتجزأ ولا ينفصل بالحدود والمعالم. فإذا امتلأت النفس بالقدرة على الإرادة فقد امتلأت بالقدرة على العمل في وقت واحد وفي صورة واحدة؛ ولن يفشل في عمله - وقد تهيأت للعمل أسبابه - إلا لأنه ناقص الإرادة
أرأيت إلى الناس وهم يطلبون السيادة ولا يبلغها منهم إلا قليل؟ ما بال قوم منهم يبلغونها وأقوام ينكلون عنها خاسئين؟
إنما يبلغها من بلغ لأنه أرادها ولم يرد غيرها. فهو سيد وإن تراخى الزمن دون الإقرار له بالسيادة؛ وهو سيد لأنه لن يكون عبداً وإن أخطأته الذرائع إلى حين
أما الذي يبغي أن يسود ولا يأبى أن يكون عبدا فأين هو من إرادة السيادة؟
وأما الذي يبغي أن يسود ولا يختلف عنده مقام السيد الرفيع ومقام العبد الذليل فأين هو من إرادة السيادة؟
وأما الذي يبغي أن يسود ويحسب أن الناس يسودونه قبل أن يسود عليهم فأين هو من إرادة السيادة؟
قل إنه يتمنى أن يسود، أو قل إنه يحلم بأن يسود، أو قل إنه لا يكره أن يسود؛ فأما أنه يريد فمعاذ الإرادة أن تجتمع ونقيضها في عزيمة واحدة؛ ومعاذ الإرادة أن تجتمع ولا يتبعها عمل ولا يتبع العمل نجاح.
لماذا لا نعمل؟ لأننا لا نريد! ولماذا لا نريد؟ لأن زادنا من الحس والوعي والخيال قليل
ومع هذا نحن لا نُزهي بشيء كما نزهي بفرط الحس وفرط الوعي وفرط الخيال. . فهل رأيت إلى بعد ما بين الحقيقة والدعوى، وبعد ما بين وصف الداء ووصف العلاج؟!
إملاء النفس بالحس والوعي والخيال تملأها بالحركة والإرادة غير منفصلين. وانظر إلى الطفل الدارج لماذا لا يهدأ؟ ألانه قرأ الفصول والمباحث في فضل الحركة والنشاط؟ ألأن أحداً أمره أو أحداً أغراه؟ كلا! ولكنه يتحرك وينشط لأنه شبعان من الحس شبعان من إرادة العمل الذي يهواه. ولو سبب غير ذلك دعاه إلى الحركة والنشاط لما استجاب. إذا أحسسنا لم نصبر على الركود، وإذا نفضنا الركود فماذا أمامنا غير الحركة والعمل؟ وماذا أمامنا غير الظفر والفلاح؟
لننس كل النسيان وأشد النسيان أننا - معاشر الشرقيين قوم مصابون بفرط الحس والوعي والخيال. فإننا لأبرأ الناس من هذا المصاب إن كان مصاباً. وإننا لأحوج الناس إلى هذا الشفاء، وهو شفاء
وآية ذلك أن نسأل كم عدد المعبرين عن الحس والخيال في الشرق كله؟ وكم عدد هؤلاء في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة؟
كم في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة السيدة الأيدة من مصورين ومثالين؟ وكم فيها من موسيقيين ومنشدين؟ وكم فيها من ممثلين ومخرجين وكتاب روايات وشعراء وأدباء؟ وكم فيها من متاحف وتماثيل؟ وكم فيها من باعة أزهار وأساتذة تجميل؟ وكم فيها من مغامرين مقاديم يبيعون الواقع بالخيال، ويستغنون عن الممكن الميسور بما يلوح للعاجزين
كأنه محال؟
كم من هؤلاء في أمة واحدة وكم منهم في الشرق كله هذا الزمان وأخشى أن أقول في جميع الأزمان؟
إن لم تكن الحقيقة أن الشرق مسكين غاية المسكنة مدقع غاية الادقاع في ازواد الحس والخيال، فالأسطورة الكبرى ولا ريب هي أنه مسرف في حسه وخياله، مفرط في شطحاته وآماله.
فما بالنا نحار كيف نعمل، وأولى بنا أن نحار كيف نحس ونتخيل؟ وما بالنا ننشد أسباباً للحركة والعمل غير أن نملأ نفوسنا بالإحساس كأنما هذا وحده غير كاف؟ وكأنما نحتاج بعد الإحساس إلى مزيد؟
إن الإنسان ليثور من السخط والغضب حين ينظر إلى فقرائنا العجزة المعدمين وهم يتيهون من الغنى الموهوم، ويتغطرسون بالثراء المعدوم. واسمعهم يتغنون بالحب مثلا والحب فيض في الشعور واتساع في آفاق الوجدان؛ واسمعهم يتغنون به وهو صنوف صنوف صنوف لا تنحصر في معنى واحد ولا في نمط فريد: حب الناشئين غير حب الكهول، وحب التفاهم والتعاطف غير حب المتع والشهوات، وحب المرأة المطواع اللعوب غير حب المرأة العصية الشموس، وحب المنكوب اللاجئ إلى حرم العاطفة غير حب السعيد الناعم بما في يديه، وحب الواثق غير حب المرتاب، وحب الوسيمة القسيمة غير حب الرشيقة الظريفة، وحبك الأول غير حبك بعد تجربة ومراس، وصنوف غير ذلك تتعدد بعداد الرجال والنساء وعداد الأحيان والأعمار والمناسبات.
اسمعهم يتغنون بهذه العاطفة الشاملة الداوية العميقة الرحيبة التي لا عداد لها بالألوان وإن عدت باللفظ في كلمة واحدة، وقل لي ماذا تسمع غير نغمة واحدة معروضة في شتى أساليب؟ ماذا تسمع غير أن حبيبة هاجرة أبدا وحبيبا سيموت أبدا وفوق ذلك قطرات هنا من دموع وشهقات هناك من أنين؟
ودع هذا واسمع المنشد أو المنشدة لا يكادان يفرغان من نغمة مبدوءة حتى يتبعهما ضجيج وزعيق وقرع وخبط وتصفيق كله نشوز واختلاط ومنافاة أبعد المنافاة لسماع الألحان والأنغام. وقل لي: هل تصدق أن هؤلاء السامعين يستمعون إلى موسيقى ويصغون إلى فن
وينعمون بتعبير جميل وتنسيق لا يطيق الاختلال؟
فأما الموسيقى والنشوز والخبط والزعيق فمحال أن يجتمع هواها في أذن واحدة في لحظة واحدة؛ وأما الذي يجتمع مع النشوز والخبط والزعيق فهو تخبط الجسد المحموم بحمى البهيمية لا تمييز فيه ولا ذوق ولا خيال
علم الله ما أصغيت إلى جمع من هؤلاء الناعقين الناهقين ولا توسمت ما يزهون به من (حساسة) وظرافة إلا تلمست في يدي موضع السوط ألهب به تلك (الحساسة) وأطير به تلك (الظرافة) وأثبت لهم بالسوط وحده - ولا إثبات بغيره لأمثال هؤلاء - أنهم بلداء بلداء بلداء، وإنهم يغثون النفوس من فرط كونهم بلداء غارقين في بلادة لا تفيق
لا يا أساة الشرق الحزين والمشفقين عليه!
داووه من نقص الإحساس لا من فرط الإحساس؛ وداووه من ضنانة الخيال لا من سرف الخيال
وعلموه أن يحس تعلموه أن يريد؛ ومتى تعلم أن يريد فلا حاجة وراء ذلك إلى تعليم
ولقد يسأل السائل من جديد: ومن لنا أن نثبت فيه الحس المأمول؟ وجواب ذلك سهل في التعبير، ولا أزعم أنه سهل في الإنجاز والتحقيق
جواب ذلك أن الحس لا يخلق خلقاً ولكنه يتعهد بالحث والإيقاظ إن أصابه جمود ورانت عليه ثقلة الكسل والجثوم
وليس أنجع في الحث والإيقاظ من تصحيح الأجسام وتصحيح الأذواق: تصحيح الأجسام بالرياضة الصالحة القوية، وتصحيح الأذواق بالفنون الجميلة الرفيعة؛ ومن صح جسده وحسن ذوقه فلن يفوته الشعور بما حوله؛ ومن شعر بما حوله فماذا يبقى له إلا أن ينشط ويعمل، وإلا أن يريد وينجز ما يريد؟
عباس محمود العقاد
جلسة عائلية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(عمي.!)
فلم أجب، ولم ألتفت، فكأن النداء كان لغيري، ومضيت في كلامي مع صاحبتي، وكان الهواء طول النهار راكداً، والحر شديداً، ثم بدأ الجو يطيب، والجلسة تحسن، في هذه الصحراء النائية التي لم يكن يخطر لي أن يهجم علي أحد فيها من أهلي.
(عمي. . .)
فأبيت أن أشعر أن النداء لي؛ فقالت صاحبتي: (ألا تسمع؟)
ولم يكن ثم شك في أني أنا العم المقصود، فقلت:(سامع، وفاهم. . .)
(عمي. أنت هنا؟ من الصبح أناديك)
فوقفت - فما بقي من هذا بد - والتفت إلى الصغيرة التي بح صوتها وقلت: (هل سمعتك تنادين عمك؟)
قالت: (طبعاً. . لي نصف ساعة وأنا أفعل ذلك)
قلت: (هل تريدين مني أن أبحث لك عنه؟. . أناديه معك؟ إن صوتي مع الأسف خافت. خفيف جدا. . . لا يذهب إلى أكثر من متر. يصلح للهمس فقط. في الأذن) فضحكت الصغيرة وقالت: (ماذا تقول يا عمي؟ لماذا تتكلم هكذا؟)
قلت: (عمك؟ أنا؟ أنا عمك؟).
قالت: (بالطبع. . ألا أعرف عمي؟) وضحكت.
قلت: (واثقة؟).
قالت: وهي لا تزال تضحك وقد راقها كلامي: (جدا).
قلت: (ولا شك عندك)؟
قالت: (أبدا).
قلت: (ولا رغبة في الشك؟)
قالت: (كلا).
قلت: (يعني أن لي أخا أنت بنته فأنا عمك؟)
قالت: (آه).
قلت: (بهذه السهولة؟ بلا تردد أو مناقشة أو بحث؟. وا أسفاه!. ألحق أن روح البحث العلمي ينقص الجيل الجديد)
قالت: (ماذا تعني؟)
قلت: (يا بنت أخي - أظن أنه لاشك عندك في هذا - إن الذي أعنيه هو أن المسألة تحتاج إلى تمحيص قليل، وأن التسليم بهذه السهولة ليس من أخلاق العلماء. تفضلي واجلسي فإن الجلوس أعون على البحث السديد).
فجلست وطلبت لها شيئاً من عصير البرتقال، فهو خير ما يشرب في هذا المكان وفي مثل ذلك الجو وعرفتها بصاحبتي ثم قلت لها:
(نعود الآن إلى عمك)
فقالت: (ما له؟)
قلت: (لاشيء به. كان الله في عونه. هل تعرفين ابن الرومي؟)
فابتسمت صاحبتي وقالت الصغيرة (ابن الـ؟ ابن إيه؟)
قلت: (مسكين ابن الرومي!. ألم تسمعي به قط؟)
قالت: (لا. . أبداً. . أين هذا؟)
قلت: (مات من زمان).
قالت: (وكيف أعرفه وقد مات من زمان؟)
قلت: (صدقت، الذي يموت لا يعرفه أحد، يكون ذنبه على جنبه. خازوق!)
قالت: (ما هو؟)
قلت: (أن يموت. . أ. . أ. . إن ابن الرومي مات)
وقالت صاحبتي: (دع الموت والموتى بالله. حسبك الأحياء فأركبهم بما شئت من هزلك)
وقالت الصغيرة: (من هو ابن الرومي يا عمي؟. إني أراك تعطف عليه)
قلت: (صحيح. . مسكين،. ابن الرومي هذا يا ستي كان رجلا له لحية. . كان ينبغي أن يظل وجهه أمرد، أملس ناعما فقد كان جميلا في صباه، ولكنه كان مع الأسف رجلا، والرجال مصابون باللحى. . آه لو كانت اللحى تنبت للنساء! ولكن الله أعفاكن من هذا
البلاء. . ومن حسن حظ ابن الرومي - أو من سوء حظه، لا أدري - أن الناس في زمانه كانوا لا يحلقون لحاهم كل يوم كما نفعل نحن تقليداً لكن يا بنات حواء. . غريب! ينفر الرجال من مظاهر الرجولة ويدأبون على محوها كل يوم!. . . ولا نرى المرأة تحاول أن تكون لها لحية كالرجل!. . لا تخافا فلست أنوي أن ألقي محاضرة عليكما، ولكنه يخطر لي الآن أن من غير المقبول من الرجل أن يتجّمل ويحاكي المرأة ويحاول منافستها في مزيتها فهل هذا يا ترى تخنث منه؟ أم هو من الرغبة في أن يتسلح للنضال بكل سلاح؟. . ما علينا!. . فلنرجع إلى ابن الرومي: كان هذا يا ستي ذا لحية خفيفة قليلة الشعرات، ولكنها لحية على كل حال؛ وكان يأسف لأن (السيفتي ريزور) - آلة الحلاقة الحديثة - لم تكن قد اخترعت في زمانه. .)
فقالت الصغيرة محتجة: (يا عمي ما هذا الكلام؟. . كيف يمكن أن يأسف على شيء لم يكن يعرف أنه سيكون؟)
قلت: (والله ذكية يا ملعونة!. . نهايته. . الحق معك. . فهل الأصح أن أقول إنه لم يكن يأسف على عدم اختراع السيفتي ريزور؟. . سيان؟. . هيه؟. وكان يا ستي يخاف من البرد جداً، فكان إذا دخل الحمام - أعني إذا أراد أن يستحم - يوقد فيه النار ليضمن لنفسه الدفء حين يكون فيه ويملاْ الطشت بالماء الساخن، ويعد الليف والصابون النابلسي الجيد - أم ترى هذا لم يكن معروفاً؟. . لا بأس - ويطلق البخور ثم يدخل متوكلاً على الله، متوسلاً إليه تعالى أن يحرسه في الحمام، وأن يخرجه منه بخير وسلام. .)
فقالت الصغيرة: (أكان يخاف إلى هذا الحد؟. . لماذا؟ مما كان يخاف؟)
قلت: (أوه، لا أدري!. يظهر أن كلباً كلباً - مسعوراً - عضه في طفولته ولم يشف قط، أو لم يشف تماماً. . كووه بالنار أو لا أدري ماذا فعلوا به. . ولكنه لم يشف)
فقاطعتني سائلة: (صحيح يا عمي؟. . مسكين!)
قلت: (لا أدري. . هذا تخمين. . وإلا فلماذا كان يخاف من الماء كل هذا الخوف حتى ليقول:
وأيسرُ إشفاقي من الماء أنني
…
أمرُّ في الكوز مر المجانب
وأخشى الردى منه على كل شارب
…
فكيف بأمنيه على نفس راكب؟
فقالت صاحبتي: (يا شيخ حرام عليك!. . اتق الله!. . لا تصدقيه)
فتلفتت الصغيرة منها إليَّ، ثم قالت بعد تردد:(هل كان شاعراً؟)
قلت: (لا. . لم يكن شاعراً. . وإنما كان يغني في الحمام فيخرج الكلام موزوناً وهو لا يدرى. . ولكن الناس لا يتركون أحداً مرتاحاً. . ويظهر أن بعضهم كان يسترق السمع وراء باب الحمام، ويقيد كل ما يسمعه من ابن الرومي وهو يغني نفسه ويتسلى في الحمام. ثم جمع كل ما سمعه، ودفعه إلى الناس وقال هذا شعر ابن الرومي.، الناس ملاعين. . أشقياء. . لا يدعون أحداً مرتاحاً. . الرجل كان يسلي نفسه في الحمام فمالهم هم؟. . إيه!. . هكذا الناس يحشرون أنفسهم فيما لا يعنيهم. . فضول ورزالة. . نهايته. . وكان مما يغني به وهو ينظر في المرآة إلى لحيته، ويمشط شعراتها القليلة ويفتل أطرافها لتكون كالقلم الرصاص المبري هذا البيت:
أصبحت شيخاً له سَمْتٌ وأبهة
…
يدعونني الغيد عماً - تارة - وأبا
كان يتحسر على شبابه، ويأسف لأنه صار ذا لحية. . ويظهر أن الغيد الحسان من أمثالكن يغلطن فتارة يقلن له يا عمي، وطوراً يقلن له يا أبي. . غريب ألا يعرفن أهو أب لهن أم عم؟. . ولكنك أنت لا تغلطين. . أنا عمك فقط. . متأكدة أني لست أباك أحياناً؟)
فقالت صاحبتي: (أعوذ بالله منك!)
وقالت الصغيرة: (متأكدة جداً. . عمي بالطبع. كيف يمكن أن تكون أبي؟)
قلت: (معقول ألا تغلطي. . لسببين: الأول أني لا أرسل لحيتي كما كان ابن الرومي مضطراً أن يفعل لأن الله خلق السيفتي ريزور في زماني والحمد له، أعني لله، بالطبع، لا للموسى؛ والثاني أن أباك المحترم مقبل علينا يتهادى في مشيته. . أحسبه يفخر بأن له بنتاً مثلك. . له الحق!)
وجاء الأخ الفاضل وقمت بواجب التعريف الذي لا مهرب منه، واتضح لي - بعد أن تجشمت عناء القيام بهذا الواجب أنه كان يسعني أن أريح نفسي، فقد سبق لأخي أن عرف صاحبتي في بيتنا.
وجلسوا. وجلست وأنا أتنهد وأنظر إلى صاحبتي وأقول:
(معذرة. ليس هذا ذنبي. وأنت ذكية، وتستطيعين أن تدركي بسهولة أنه لا مهرب من
الأهل. لقد جئنا إلى آخر الدنيا من ناحية الشرق، ولو أنصف الزمان لذهب أخي الفاضل إلى آخر الدنيا من ناحية الغرب مثلا، أو الجنوب أو الشمال؛ ثلاث جهات كان يمكنه أن يذهب إليها، ولكن جاذبية الدم تصرفه عن الجهات الثلاث وتدفعه إلى هذه الجهة فيدركنا ويملأ علينا الدنيا، ويشعرنا بأنها في الحقيقة أصغر مما كنا نظنها. ويؤنسنا طبعاً. أظن أن في وسعنا أن نغتفر له هذا من أجل بنته، من أجل عينيها اللتين وقعتا علي بسرعة البرق، نصفح عن أبيها ونرحب به. تعال يا جرسون والأمر لله. وحسبي الله)
إبراهيم عبد القادر المازني
في تبويب الكتب
للدكتور محمد عوض محمد
لقد تجري في حياتنا الأدبية الهادئة حادثات ونوادر طريفة تستحق أن تُسَّجلَ وتُثْبتَ؛ ومن ذلك هذه الرسالة التي كتبها صديقنا الأديب إسماعيل بن زيد إلى صديقه الفاضل الأستاذ طه حسين، مُستفَتْيِاً ومداعباً
وصاحبنا إسماعيل يزعم أنه قد تكدست لديه المؤلفات القيمة، ولكنه لا يعرف كيف يقسم كتبه إلى أبواب وفصول، ولذلك لم يستطع نشر شيء من مؤلفاته إلى اليوم. وهو يزعم في هذا أن عناء التأليف والتصنيف ليس بشيء يذكر إلى جانب عناء التبويب والتفصيل.
فلم يكد يطالع في كتاب للأستاذ حسن إبراهيم حسن قِطعةٌ يصف فيها الأستاذ طه حسين بأنه (لا يشق له غُبار في تبويب الكتب) حتى تناول قلمه الرشيق، وأرسل إليه هذا الكتاب، الذي عثرنا عليه بمحض الصدفة، والذي نثبته هاهنا بنصه وفصه:
استفتاء
إلى العميد العظيم طه بن حسين!
نَعِمَ صباحُك أيها العميد!
وبعد فإني أريد أن أستفَتْيِكَ في أمر شهد لك فيه صديقنا حسن إبراهيم حسن بالتقدم والبراعة، حيث قال في غير موضع من رسائله الممتعة إنك لا يشق لك غبار في تبويب الكتب
ولدي أيها العميد العزيز رسائل عديدة في موضوعات جليلة، حرت في أمري وفي أمرها: كيف أجعل لها أبواباً ونوافذ وشبابيك. . . وهي رسائل - وحقك - ذات خطر عظيم وشأن جليل؛ أريد أن أتقدم بها إلى بعض معاهد العلم لكي أحصل بها على ألقاب فخمة، وأسماء ضخمة. .
وما خيرُ حياة، يعيش صاحبها من غير ألقاب ولا أسماء؟ ولقد حدثني من أثق بشهادته أن الألقاب أعظم شيء في الحياة، وأنه أفضل لابن آدم أن يكون له لقب، من أن يكون له أدب. وأن يكون له اسم، من أن يكون له جسم. والألقاب مثلها كمثل الأثواب تستر الهنات، وتكسب الفخامة والجلال.
ألا ترى أن الكُرُنب وهو نبت قليل الخطر، حقير الجوهر، قد سما على سائر النبات، وشمخ بأنفه، ومال بأعطافه؛ وليس له من فضيلة يُدِلّ بها سوى أنه يتألف من ثياب بعضها فوق بعض، فإذا نزعت عنه ثيابه لم تجده شيئاً.
ومثل هذا يقال في الخس والجرجير، وهما الغذاء الأساسي لكبار الكتاب والشعراء. . .
صدقني، أيها العميد! إن الثياب والألقاب هي كل شيء في الحياة.
والآن لابد لك - إن كنت ترعى للمودة حرمة، وتستجيب لداعي الإخاء والصداقة - أن تُفْتِيني كيف أرتب الأبواب لهذه الأسفار التي أريد أن أتقدم بها إلى رجال العلم، إن كنت حقاً لا يشق لك غبار في تبويب الرسائل والأسفار.
فأما الرسالة الأولى فهي (في صيد الضفادع: كيف يكون ومتى يكون) فقد حرْت كيف أبوّب هذه الرسالة. هل يكون الباب الأول منها في الضفادع أم في الصيد. . وقد تراءى لي أن أتحدث عن هذه الكائنات العزيزة؟ هل هي من حيوان البر أم من حيوان الماء؟ وهل نقيقها خارج من الحنجرة والبلعوم أم من الحلق والخياشيم؟ وهل هي أسرع حين تسبح في الماء، أو حين تثب على أديم الغبراء؟ وهل غذاؤها الطحلب الحامض أم الحلو؟ والعشب اليابس أم الطري؟ وهل أرجلها أطيب في المأكل أم أيديها؟ وهل يُمَهَّدُ لصيدها بأناشيد وأغانٍ غربيَّة على طريقة شوبرت، أم بأناشيد شرقية مثل نغمات معبد في الثقيل الأول على مدار البنصر؟ وهل تستطيع ضفدعة أن تسبح في الماء إذا استلقت على ظهرها من شدة الضحك مثلا؟ فإن كانت عاجزة عن السباحة وهي في هذه الحال. جاز لنا أن نفكر جدياً في صيدها وهي تضحك حين نتلو عليها رسالة للجاحظ، أو قطعة لموليير.
كذلك يجب أن تفهمني في أي بابٍ أضع ما كان بين الضفادع ومسيلمة الكذاب، وهل انخدعت بأكاذيبه كما ينخدع الناس بأحاديث الكذابين في كل مكان وزمن. ومتى كانت الضفادع ممن يؤخذ بالأكاذيب؟ فهل يجوز استخدام هذه الحيلة في صيدهن والاستيلاء عليهن؛ أم تلك خدعة لا تليق بالصياد الشريف والباحث العفيف؟
فهلم يا مُبَوِّبَ الكتب! ضع أبوابا ونوافذ ودهاليز لهذه الرسالة ولا تبطئ علي فإني مستعجل.
أما الرسالة الثانية فموضوعها (تعليم الجراد مبادئ الفلسفة) فقد أنبأنا عالم فاضل أن هذه
خير وسيلة لتحويل الجراد عن حياة النهب والسلب، إلى حياة الشرف والاستقامة. . وتحولُ عقبات كثيرة دون تثقيف الجراد بهذه الثقافة الفلسفية المنشودة، ذلك أن الجراد لا يستقر لحظة في مكان، فلا تكاد تتحدث إليه عن أفلاطون وتأخذ في شرح القواعد التي تقوم عليها جمهوريته، حتى تستهويه سنبلةُ قمح أو كوز من الذرة، فيتركك في فلسفتك العلوية وينطلق إلى عالمه السفلي. ولقد تظن أنه سيقف على كوز الذرة زمناً طويلاً يمكِّنك من أن تشرح له كتاب الأخلاق لأرسطو، لكنك لا تكاد تفرغ من الفقرة الأولى من الفصل الأول حتى يكون المجرم قد سئم الكوز الأول، ووثب يلتمس كوزا سواه.
غير أن العالِم الجرادي الألماني ميلر قام بعدة تجارب تدل على أن في الجراد ميلا إلى فلسفة ماكيافلي ونيتشه، ولابد من أن نفرد باباً خاصاً لتحقيق هذا الأمر.
وهناك عقبة أخرى تجعل من الصعب إدخال الفلسفة في رأس الجراد، ذلك أنني قد كشفت في ساعة من ساعات الإلهام أن الجراد لا يفهم بعقله، بل بفمه وبطنه. فهل الفلسفة من المواد التي يمكن استيعابها عن طريق البطن والمعدة؟ هذا أيضا باب مهم أرجو أن تفتيني في أي جزء من الكتاب أجعله، وأي الأقسام تليق به ويليق بها، ولابد كذلك من بحث عميق في عادة النهب والسلب عند الجراد: هل ترجع إلى البيئة، أو ترجع إلى الوراثة والغريزة؟ فإن كانت أصيلة في النفس، مغروسة في الطبع، فبأي الوسائل نحتال إلى إدخال الفلسفة في نفوس طبعت على الانتهاب والاختطاف؟
هلم أيها العميد وشمر عن ساعد التبويب، ولا تدعني في حيرتي طويلا!
أما الرسالة الثالثة فهي: (في استخراج أشعة الشمس من قشر الخيار). وهذا موضوع قد أشار إليه الأستاذ (سويفت) ولكنه قصر في متابعته واستقصائه. وفي نظري قد آن لهذا الموضوع أن يقتل بحثا وتمحيصا، حتى لو استنفدنا في سبيل ذلك كل ما في الأرض من خِيارٍ وِقثّاء.
إن أشعة الشمس ضرورية للإنسان والحيوان على السواء؛ فقد حدثنا من نثق بعلمه أن القليل منها إذا أخذ في فنجال على الريق كل صباح يشفي من الأمراض، ويحدث في البليد ذكاء وفي الغبيِّ فَهْما؛ وناهيك بما في هذا من فائدة في زمان ضعفت فيه الأحلام، وصغرت فيه الأفهام. ولئن اعترض معترض بأن هذا الموضوع لا يهمنا لأن بلادنا غنية بأشعتها،
فليس في هذا وجاهة؛ لأن الباحث لا يختص ببحثه أرضا ولا بلداً؛ وفي العالم أقطار كثيرة قد حرمت هذه النعمة، ولابد من تزويدها بأشعة مستخرجة من قشر الخيار، ومع هذا فإن هنالك شكا كبيراً في أن الأشعة التي تتأثر بها وتتعرض لها هاهنا، هي من ذلك النوع الخياري الممتاز، وإلا لما انتشرت البلادة في وادي النيل السعيد كل هذا الانتشار. فلقد بات من الثابت المعلوم أن للخيار مقدرة فذة يمتاز بها على سائر الكائنات في استخلاص الأشعة النقية - فوق البنفسجية وتحتها - وتثبيتها في ثنايا قشوره
هذا بحث طويل عريض عميق أرجو أن تسلط عليه غبارك الذي لا يشق، من أجل تبويبه وتفصيله وترتيبه.
بقي البحث الرابع الذي أرجو أن يكون شهياً مُمتعا، وهو (في أثر الموسيقى في طول الأنف وعرضه وارتفاعه) فقد تعلم غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر أن الأنف أشرف الأعضاء وأمثلها، وأن العرب كانت لا تجد مدحا أسمى ولا شرفا أعلى من أن يكون الرجل أشمَّ العِرْنين، ولم تنحط الزَّنج عن سائر الشعوب والأجيال، ولم يستعبدهم الناس استبعادا إلا لما في أنفهم من الفطس. والذين زعموا أن فطس الأنف عند الزنج راجع إلى بيئتهم لم يأتوا بشيء؛ والصحيح عندنا أن هذا راجع إلى موسيقاهم وغنائهم المنحرف كما وصفه ابن خلدون. ودليلنا في هذا محسوس وملموس، ذلك أن الشعوب المتمدنة من أهل أوربا وأمريكا، منذ اتخذوا موسيقى الزنج للهوهم ورقصهم قد استعرضت أنوفهم، واستولى عليها الفطس، كأنما القوم يجلسون على أنوفهم إذا جلسوا لا على مقاعدهم. وقد قام بعض الباحثين المحققين بقياس سعة الأنف وارتفاعه، فبدا له انخفاض محسوس في الأنوف اليوم، بالنسبة لما كانت عليه في أواخر القرن الماضي وخرج من هذا البحث إلى نظريته المعروفة بأن العالم سائر كله إلى الفَطَس، وأن الكبرياء والشمم محكوم عليهما بالفناء وهو يزعم في هذا كله أنه راجع إلى كثرة البُقع في وجه الشمس؛ وهو في تعليله هذا جدُّ واهم، والصواب ما ذكرناه من أن هذه الظاهرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بانتشار موسيقى الزنج والإقبال الشديد عليها.
كذلك أخطأ نهج الصواب ولم يوفق في بحثه ذلك العالم الذي أرجع هذه الظاهرة إلى انتشار عادة الحكِّ على المناخير التي كانت سائدة أيام الحرب الكبرى وما بعدها، فقد ثبت انتشار
هذه العادة في أزمنة أخرى مثل عصر نابليون، فلم يكن لها في المناخير تأثير يذكر.
والراجح ما ذكرناه من اتصال هذا بالموسيقى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
والبحث في هذا الموضوع متشعب الفروع والغصون، متعدد المخارج والمداخل، وأريد منك أن تبوِّبه تبويباً يلُمُّ شعثه، ويجمع بين شوارده ونوافره؛ ويجب أن يكون تبويباً مَرِناً نستطيع أن ندخل فيه أية دراسة أنفية جديدة قد تبدو لنا في أثناء التأليف والتصنيف
هذا بعض ما لدينا من الرسائل التي نرغب منك أن تساعدنا في تبويبها. فهلم أيها العميد، واجلس في كرسيك المعهود، ممسكا في يمينك سُبحْتك التي تستعين بها على التسبيح، وربما كانت لك فيها مآرب أخرى - وممسكاً في يسارك سيجارة تبعث الوحي وتفتح أبواب التبويب.
فان فعلت أسديت إلى البحث العلمي يداً يعمل بها ورجلاً يمشي عليها. هداك الله إلى محجة الصواب، وإليه المرجع والمآب
أخوك المخلص: إسماعيل بن زيد
طبق الأصل
محمد عوض محمد
في التاريخ السياسي
الدبلوماسية الأوربية في طورها الجديد
بقلم باحث دبلوماسي كبير
اجتازت الدبلوماسية الأوربية منذ نهاية الحرب الكبرى ثلاث مراحل: الأولى مرحلة التصفية وهي التي شغلت فيها الأمم الظافرة والمهزومة معا بتصفية التركة الفادحة التي خلفتها الحرب، واحتملت الدول المهزومة معظم تبعاتها وأَعبائها. والثانية يمكن تسميتها بمرحلة عصبة الأمم ولوكارنو، وهي المرحلة التي اشتد فيها ساعد العصبة بمؤازرة الدول الظافرة وانضمام ألمانيا المهزومة إليها لأول مرة بعد أن قامت بتأدية معظم الأعباء والمغارم التي فرضت في معاهدة الصلح؛ وفي أثنائها أيضا تقدمت فكرة السلامة المشتركة تقدما عظيما، فعقد ميثاق لوكارنو لتأمين سلامة حدود الرين بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، وعقد مؤتمر نزع السلاح واستمر حيناً يباشر أعماله، وعقد ميثاق تحريم الحرب الذي اقترحته أمريكا على دول العالم، وقد استمرت هذه المرحلة حتى سنة 1932. والمرحلة الثالثة، مرحلة السياسة القومية العنيفة، وعود الدبلوماسية الأوربية إلى أساليبها القديمة من عقد المحالفات والمواثيق العسكرية الظاهرة والخفية، وتكوين الجبهات الخصيمة، والتسابق في التسليح، وهذه هي المرحلة التي تجتازها أوربا اليوم.
ولاشك أن هذه المرحلة هي أخطر وأدق مرحلة انتهت إليها الدبلوماسية الأوربية مذ عقدت معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) ولاشك أيضاً أنها تسير بأوربا إلى موطن الفصل
وتنقسم أوربا اليوم إلى معسكرين واضحين هما معسكر الدول الفاشستية التي تتخذ شعارها القومية المتطرقة والعسكرية المتوثبة والتسليح الشامل، وقوام هذه الكتلة إيطاليا الفاشستية وألمانيا النازية. ومعسكر الدول الديمقراطية إذا صح التعبير، وشعارها السلام المسلح، والاستعداد لدفع الاعتداء الذي قد يقع عليها من الدول الفاشستية، وقوام هذه الكتلة إنكلترا وفرنسا تؤازرهما روسيا السوفيتية.
وهذا التطور الحاسم في سير الدبلوماسية الأوربية، وتحولها من ميدان التعاون السلمي الذي عملت فيه من قبل إلى ميدان التنابذ والخصومة المسلحة يرجع قبل كل شيء إلى عنف الفاشستية الإيطالية والألمانية والى شهواتها وأطماعها المغرقة وإلى اعتدادها بالقوة المادية
الغاشمة؛ بيد أن الفاشستية تلقي التبعة في ذلك على الدول الديمقراطية وعلى ما أبدته من الأثرة في استخلاص المغانم الاستعمارية والاقتصادية لنفسها دون إيطاليا وألمانيا، ودفعهما بهذا التصرف إلى خطة العنف واليأس التي تلجأن إليها
وتستقبل الدبلوماسية الأوربية عهدها الجديد بسلسلة من الأحداث والظواهر الجديدة؛ أولها وأهمها انهيار ميثاق لوكارنو نهائياً، بعد أن نقضته ألمانيا من جانبها في العام الماضي؛ وانحلال التحالف الصغير في شرق أوربا بعقد الميثاق الإيطالي اليوجوسلافي؛ وتوثق العلائق بين السياستين الفرنسية والبريطانية؛ وفتور العلائق بين تركيا وروسيا السوفيتية، وتقدمها في الوقت نفسه بين تركيا وإيطاليا وتقوية الجبهة الإيطالية الألمانية واشتداد ضغطها في وسط أوربا وفي شرقها
وقد كان عقد الميثاق الفرنسي الروسي في أوائل العام الماضي أول نذير بانهيار الأوضاع القائمة، ففي 7 مارس سنة 1936، أعلنت ألمانيا نقضها لآخر الشروط العسكرية التي فرضت عليها في معاهدة الصلح وهي الخاصة بتجريد منطقة الرين من التسليحات والتحصينات، وأعلنت في نفس الوقت نقضها لميثاق لوكارنو، بحجة أن الميثاق الفرنسي الروسي قد عقد بقصد تهديدها وتطويقها وأن عقده مخالف لما كفلته نصوص ميثاق لوكارنو من سلامة الحدود الألمانية الفرنسية على الرين؛ وكان تصرف ألمانيا ضربة قاضية لهذا الميثاق الذي علقت عليه أوربا والعالم كله يوم عقده أعظم الآمال، ولم تلبث بلجيكا وهي إحدى الدول الموقعة عليه، والتي تستمد سلامة حدودها من نصوصه، أن رأت أيضاً أن تتحرر من تبعاته، فأعلنت سياسة الاستقلال والحياد الجديدة التي انتهت أخيراً بصدور تصريح بريطاني فرنسي يحررها من تبعاتها المترتبة عليها في ميثاق لوكارنو، مع استبقاء تعهد فرنسا وبريطانيا من جانبهما بالدفاع عن البلجيك في حالة الاعتداء عليها؛ وهكذا انهارت دعائم هذا الميثاق الذي كان دعامته السلام في غرب أوربا، وحلت مكانه حالة جديدة لم يتضح مداها بعد؛ على أن هنالك حقيقة لا ريب فيها، هو أن، انهيار ميثاق لوكارنو، وما اقترن به من مضاعفة التسليح الألماني، وتقدم التفاهم بين ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية كان عاملاً في إذكاء استعدادات فرنسا وبريطانيا العسكرية، وفي توثق العلائق بينهما
وكان للمسألة الحبشية أثرها القوي في التقرب بين إيطاليا وألمانيا، وتوجيه الأوضاع الجديدة للدبلوماسية الأوربية، فقد رأت إيطاليا بعد الذي لقيته أثناء اعتدائها على الحبشة من خصومة بريطانيا، أن تنسلخ نهائياً عن كتلة الدول الغربية، وأن تتقرب إلى ألمانيا النازية التي تؤمن بمثل مبادئها العسكرية العنيفة، والتي أيدتها وآزرتها خلال الأزمة الحبشية لأنها تجيش بمثل مطامعها الاستعمارية. وقد أثمر هذا التقرب بين الدولتين الفاشستيتين ثمرته في أوربا الوسطى وأوربا الشرقية؛ وتبدو نتائج هذا التطور واضحة في موقف إيطاليا نحو النمسا ومسألة انضمامها إلى ألمانيا (الآنشلوس)، فقبل التقرب الألماني الإيطالي، كانت إيطاليا تعارض هذا الانضمام بكل قوتها، وتعلن أنها مستعدى لتأييد الاستقلال النمسوي بالقوة المادية إذا اقتضى الأمر، ومازلنا نذكر موقفها في سنة 1934 حينما وقعت الثورة النازية في النمسا، فقد حشدت بعض قواتها على الحدود النمسوية استعداداً لمقاومة أي حركة تقوم بها ألمانيا في سبيل الاستيلاء على النمسا. أما اليوم فإن السياسة الإيطالية حسبما تبين من مباحثات الدكتور شوشنج المستشار النمسوي والسنيور موسوليني، لا تريد أن تذهب في سبيل تأييد النمسا إلى هذا الحد، خصوصاً وأنها ترى مسألة الضم إلى ألمانيا بعيدة الحدوث في الوقت الحاضر؛ وتحاول السياسة الإيطالية فوق ذلك أن تباعد بين النمسا وتشيكوسلوفاكيا التي تربطها بروسيا علائق وثيقة. ومن جهة أخرى فإن التحالف الصغير المكون من تشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوجوسلافيا قد تصدعت أسسه من جراء التقرب بين يوجوسلافيا وإيطاليا وارتباطهما بميثاق صداقة وتفاهم؛ وهذا الميثاق الجديد فضلاً عن كونه يلطف حدة التنافس بين الدولتين، يمهد لنفوذ إيطاليا في البلقان؛ وهنا تصطدم جهود السياسة الفاشستية والسياسة النازية، ذلك أن ألمانيا تريد أيضاً أن تمكن لنفوذها في البلقان، وأن تستأنف زحفه القديم نحو الشرق؛ ولكن إيطاليا استطاعت أن تسبقها في هذا الميدان على ما يلوح، وذلك بعقد الميثاق اليوجوسلافي، والتقرب إلى تركيا الكمالية تقرباً ربما أسفر في القريب العاجل عن عقد ميثاق بين الدولتين؛ كذلك تتودد إيطاليا إلى اليونان وتعمل على توثيق العلائق معها
وهكذا تنشط السياسة الفاشستية للعمل السريع الحاسم في حوض الدانوب وفي شرق أوربا؛ وتعمل السياسة النازية من جانبها، في نفس الميدان، في الحدود التي خصصت لنفوذها فيما
يسمونه (محور برلين رومه)، وتعمل بالأخص في المجر ورومانيا، هذا عدا محاولاتها في النمسا؛ وترمي إيطاليا بهذه الجهود الدبلوماسية المتواصلة إلى تأمين مكانتها وسلامها في شرق البحر الأبيض المتوسط لكي تتفرغ إلى العمل في هذا البحر، ضد بريطانيا العظمى وضد ما تدعيه لنفسها فيه من السيادة البحرية، ولتحقق ما تزعمه لنفسها من الأطماع الاستعمارية؛ وترمي ألمانيا النازية بالعمل في شرق أوربا وفي البلقان إلى تكوين جبهة موحدة ضد روسيا السوفيتية بيد أنه يشك كثيراً فيما إذا كانت ألمانيا تفيد من هذه الجهود ضد المارد الروسي العظيم
ويجب أخيرا ألا ننسى المشكلة الأسبانية الشائكة، وما كان لها من أثر في هذا التطور الجديد في سير الدبلوماسية الأوربية؛ وسيكون لنتائج الحرب الأهلية الأسبانية متى استقرت نهائياً أثرها العميق أيضاً في توجيه الأوضاع السياسية الجديدة في غرب أوربا
وقد أدركت الدولتان الغربيتان الكبيرتان، أعني بريطانيا العظمى وفرنسا، ما تقتضيه هذه العوامل والظروف الجديدة من تغيير عميق في سياستيهما، وخصوصاً إزاء ما تبديه الدولتان الفاشستيتان أعني إيطاليا وألمانيا من نشاط متواصل في الاستعدادات العسكرية؛ فأما فرنسا فقد اقتنعت بأن المواثيق والعهود الدولية لم تبق لها قيمة يعتمد عليها وأن ألمانيا النازية بعد أن حطمت كل ما تبقى من عهودها في معاهدة الصلح وفي لوكارنو، وأخذت تستأنف قواها العسكرية القديمة، لا يمكن ردها وكبح جماح عدوانها وأطماعها إلا بمضاعفة الاهبات العسكرية، وهذا ما تفعله اليوم هي وحليفتها روسيا السوفيتية التي تحذر من عدوان ألمانيا مثل ما تحذر فرنسا؛ وأما بريطانيا العظمى، فقد اقتنعت بعد مأساة الحبشة بانهيار فكرة السلامة المشتركة وعبث الاعتماد عليها في رد الاعتداء المدبر، وأدركت ما يهدد سلامة الإمبراطورية البريطانية من جراء ظهور الفاشستية الإيطالية بمظهر الظافر المتحفز؛ فأخذت تستدرك بسرعة مدهشة ما فاتها من الاهبات العسكرية، ووضعت برنامجاً هائلاً للتسليح يكفل لها تفوقها القديم في البحر والهواء ويمكنها من أن تعود فتملي كلمتها وإرادتها على أولئك الذين يتحرشون بها ويحاولون تحديها ومنافستها، وتزداد العلائق توثقا بين الدولتين الغربيتين الكبيرتين، يجمع بينهما الخطر المشترك، والمصالح المشتركة، وروابط الديموقراطية
وهكذا تعود أوربا إلى ما كانت عليه قبل الحرب: معسكران خصيمان يعمل كل منهما لإحراز التفوق في الاهبات العسكرية، ويسيطر كل منهما بنفوذه على عدد من الدول الصغيرة؛ وهذان هما معسكر الفاشستية، تقوده ألمانيا وإيطاليا، ومعسكر الديموقراطية تقوده بريطانيا وفرنسا؛ وهكذا تعود الدبلوماسية الأوربية إلى وسائلها القديمة من عقد المحالفات العسكرية والمعاهدات السرية والاعتماد على القوة الغاشمة
(* * *)
في الأدب المقارن
الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الخيال، أو القدرة على انتزاع شتى الصور الذهنية من الواقع واستحضارها والتصرف فيها، من المواهب التي يمتاز بها الإنسان على سائر الأحياء، ويمتاز بها النابغة على سائر الناس. رقي العلم رهين برقيه، واتساع الأدب متصل باتساعه، وهو بين الجماعات الأولى مصدر تلك الأساطير والأوهام التي تسود بينهم، كما أنه مصدر ما تغص به اللغات من مجازات وتشبيهات، بها تتسع جوانب اللغة وجوانب التفكير معاً أيما أتساع، ولولا الخيال لالتزم الفكر الإنساني الواقع المتحجر أي التزام
والخيال قوام جانب عظيم من الأدب، إن لم يكن قوام الجانب الأرقى فيه، إن لم يكن قوام الأدب جميعاً: فبالمجازات والتشبيهات يتأتى للأديب أن يصور شعوره ويبرز تفكيره، إذ يمثل لنضرة الخد بنضرة الورد، ولطلعة البطل بهيبة الأسد، ولجيشان المعركة بتدافع الآذى، وهلم جرا. وبالخيال يستطيع الأديب أن يسبك موضوعه ويجمع أطرافه، وينبذ ما لا حاجة به إليه من تفصيلات قد تشوه ما هو بسبيله، ويضفي ثوباً من الجمال والانسجام على ما ينشئ. والخيال أظهر ملكات الشاعر وأول مميزات الشعر التي تفرق بينه وبين النثر
وارتقاء الخيال واتساعه وكثرة آثاره أهم ظواهر دخول الأدب في طوره الفني: فإنه إذا خرجت الأمة من بداوتها وعزلتها وبسطت سيادتها واتصلت بجيرانها القريبين والبعيدين، وتحضرت وتثقفت، اتسعت أذهان أبنائها وترامى خيالهم وتصوروا من الحقائق والمعاني والممكنات ما لم يكونوا يتصورون، وغزر المعين الذي يستمدون منه التشبيهات والاستعارات، وينتزعون منه الحكم والأمثال، ويتوفر الفراغ ويتسع للمجهود الأدبي المتصل، فتظهر القصة والدرامة والقصيدة الطويلة، ويحلق الأدباء في أجواز الخيال وآماد الماضي والمستقبل، مبتعدين عن دواعي الحاضر الحازبة ومجالاته الضيقة، ولا يبلغ الأدب أوج رقيه حتى يرتقي الخيال فيه هذا الارتقاء وحتى يشغل أكثر جوانبه
وللخيال في الأدب الإنجليزي مكان رفيع وأثر بعيد شامل يتمثل في موضوعات الأدب
وأشكاله وطرائق تناول الأدباء لما هم بسبيله: فالأديب الإنجليزي غزير العاطفة، إذا جاشت أطلق لها العنان واسترسل مع خياله، وأثار به منظر طبيعي أو غناء طائر أو ذكرى طارئة أو أثر من آثار الغابرين أو أسطورة من أساطيرهم شتى الأحلام والأطياف، وتناهت به عاطفته إلى حدود الأماني وآفاق الماضي والمستقبل، وهذا الاسترسال مع الخيال إذا أثارته فكرة رئيسية هو مرجع وحدة القصيدة في الإنجليزية
وهناك عدا هذا الخيال المنبث في كل مناحي الأدب أشكال خاصة من الأدب قوامها الخيال، ينهض بكيانها ويوثق وشائجها. وهذه هي الملاحم الطوال في الشعر والقصص الممثلة أو المقروءة شعراً أو نثراً، ففي هذه لا يلتزم الأديب الواقع المجرد بل يفترق عنه افتراقاً جسيما، ويؤلف من شتى أفكاره وتجاريبه وأمانيه وصور الحياة التي مرت به، عالماً يجيش بالحياة والحركة ويموج بالعواطف والنوازع ويفيض بالجمال والإمتاع؛ بهذه الضروب القائمة على أساس من التخيل المحض يحفل الأدب الإنجليزي
فقد عالج الملاحم والمطولات من القصائد ملتون وسبنسر وهاردي ووردزورث وكثيرون غيرهم. وأشعار الملاحم تعج بالمردة والجبابرة والآلهة، وتحفل بخوارق الأعمال وجسائم البطولة، وهي على رغم هذا لا تخرج عن عالمنا الإنساني ولا تغفل النفس الإنسانية، بل تظل نوازع تلك النفس ومشاغلها هي الهدف الوحيد الذي يرمي إليه ناظموها: إذ فيها يتخذ أولئك الأرباب والجبابرة طبائع الناس وميول الأفراد، وإن فاقوا البشر قوة وعظما؛ ومن هنا يتأتى للشاعر أن يبسط آراءه في ميدان متسع وإلى مدى فسيح، فيستعرض مشاغل عصره ويبث خوالج نفسه، فالخيال هنا لا يعدو الحقيقة وإنما يوضحها أحسن توضيح، فضلاً عما يمتع النفس به من قصص متسق وجمال وجلال
وفي الأدب الإنجليزي ما لا يعد من قصص في الشعر والنثر ممثلة ومقروءة، وقوام القصة بطبيعتها الخيال، وإن تراوح نصيبها منه، فهناك القصص التي ترمي إلى أغوار الماضي وتدور حول عظماء التاريخ والأساطير، من طموح يبيع نفسه للشيطان كي يعينه الشيطان على إدراك مطامحه، إلى دائن يتقاضى دينه من لحم غريمه ودمه، كما في روايات مارلو وشكسبير. وهناك القصص الواقعية التي تلتزم الحقيقة إلى حد بعيد، وتصور المجتمع الحاضر تصويراً دقيقاً لا يدع شاردة ولا واردة، كقصص هاردي، ودرامات جالزورذي،
ولكل من الضربين متعته
ولشغف الإنجليز بسبحات الخيال، وميلهم إلى إطلاق الفكر في أجوازه، لجأوا في شعرهم ونثرهم إلى تصوير حوادث التاريخ وغرائب الأساطير، فاستقى شعراؤهم وكتابهم عذب القصص وممتعه من تاريخ إنجلترا وتواريخ اليونان والرومان وبني إسرائيل وغيرهم، واتخذوا من خرافات الأمم مجالاً لفنهم، فعرض سبنسر وتنيسون وكولردج وغيرهم تلك الخرافات عرضا شعريا رائقا مرصعا بجميل الوصف وبدائع المناظر الطبيعية، وشائق مواقف الحب والبطولة.
ومن ثم امتلاء الأدب الإنجليزي بأسماء الشخصيات الخيالية التي اخترعها الأدباء من مخيلاتهم ولم يكن لها قبلهم وجود أو كان لها وجود مبهم في عالم الخرافة فأخرجوها بعبقرياتهم إلى عالم النور والوضوح، وألبسوها ثوباً من الجمال والجاذبية، وأصبح بعض هؤلاء الأشخاص الخياليين الذين امتلأت بذكرهم وأخبارهم الملاحم والقصص والشعر والنثر، أعلاماً على طبائع في الإنسان معروفة، ورموزاً على حقائق في النفس البشرية مشهودة، فشكسبير مثلا لم يكن يدع خلقاً إنسانياً نبيلا أو وضيعاً إلا صوره في رواياته وخلق ما لا يعد من الشخصيات الحية، مثل هملت وروميو وجولييت وياجو وشيلوخ، وغيرهم ممن صار لهم وجود قائم في عالم الأدب كوجود أعلام الماضي في عالم التاريخ
لم يجر الأدب العربي إلى هذا المدى من الخيال، فلم تكن فيه ملاحم ولم تكن المطولات من هم شعرائه، ولم يرتق فيه القصص ولم يحتو على شخصيات متخيلة من خلق الأدباء، وظل الحاضر القريب والواقع المحقق ديدن أدبائه، فالأديب العربي كان شديد الإيجاز في مقاله وتعبيره عما يحس، يعبر عن أفكاره أشتاتا كلما عن له حافز إلى الكتابة، لا يدخر أفكاره ولا يربط منها حاضراً بماض، بل يرسلها الشاعر على السجية أبياتاً محكمة النسج موجزة البيان، ويرسلها الكاتب روايات قصيرة متتابعة منسوبة كل رواية منها إلى صاحبها أو راويها أو شهودها؛ فأحسن أشعار المتنبي حكم موجزة متتابعة مستقل كل منها ببيت لا تكاد تجمعها علاقة؛ وقوام كتب كثيرة كمؤلفات الجاحظ والثعالبي وابن عبد ربه روايات وشواهد متتابعة، لا يكاد يكون للأديب فضل غير جمعها وتبويبها
كان الشعر الجاهلي محدود الخيال قريب المأخذ لمكان أربابه من البداوة وبعدهم عن
الثقافة، فلما تحضر العرب وتثقفوا واختلطوا بالأمم واطلعوا على أحوال الأقطار البعيدة، أتسع من جراء ذلك خيالهم وبان أثره في شعرهم ونثرهم، فالمحدثون من الشعراء لاشك أبعد خيالاً وأكثر تفنناً في التشبيهات من الجاهليين. وظهر ضرب من القص الخيالي يتجلى في مقامات بديع الزمان، ورسالة الغفران، ففي هذه وتلك مواقف وحوادث كلها من اختراع الخيال؛ ثم هناك الروايات والأخبار العديدة التي كان يخترعها الرواة والكتاب، يطلبون الأغراب والتطرف والرواج، أو يؤيدون الحجج والمذاهب.
بيد أن هاتيك جميعاً آثار ضئيلة الشأن، وهي إذا قيست بما في الإنجليزية من سبحات الخيال، لم تكن إلا شبيهة بطيران الدجاجة الخفيف مقيساً بتحليق البازي الكاسر؛ ورسالة الغفران على جمال فكرتها ومشابهتها لما في آداب الأمم الكبيرة في جريان حوادثها في عالم الخلد، وامتلائها بممتع المواقف والمحاورات، مكتظة بمسائل النحو والأدب النظرية العقيمة، التي كان كثير من الأدباء ينفقون أعمارهم في غياهبها غافلين عما هو أهم منها من حقائق الحياة وجمالها، ولم يكن الخيال ولا الجمال ولا القصص غرض المعري الصحيح حين أملاها، وإنما كانت تلك المسائل اللغوية هي مقصده الأول؛ ومقامات البديع على جمالها واهتداء البديع إلى اختراع شخصية أبي الفتح فيها، مكتظة كذلك بالألاعيب اللفظية والبراعات اللغوية؛ فالمقامات ورسالة الغفران جميلتان على أن تكونا خطوتين إلى ما بعدهما، ومرحلتين في طريق نمو القصص الصحيح وازدهار الخيال الراقي؛ بيد أن ذلك النمو لم يطرد وذلك الرقي وقف في أول الطريق. وإن من العجائب حقاً أن يكون أعظم أثر خيال في الأدب العربي من صنع شاعر كفيف محجوب عن آفاق الحياة ومباهجها
فكبح عنان الخيال كان دأب أدباء العربية حتى بعد دخول الأدب عصره الفني، فالفكرة التي تخطر للأديب الإنجليزي فيحوك حولها قصة تموج بشتى الصور المنتزعة من الحياة، أو ينظم حولها قصيدة طويلة تجمع أشتات الأفكار والمعاني، يكتفي الأديب العربي بصوغها في بيت شعر محكم يذهب مثلا ويروع بإيجازه وشموله، لا بتقصيه واستيعابه، فكل بيت من أبيات المتنبي السائرة يحوي نظرة نافذة إلى حقائق الحياة، هي بنفسها محور صالح أن تدور حوله قصة أو درامة، بينما الأديب العربي قد أودعها أوجز لفظ وأعمه
وقد نظم شلي قصيدة في قرابة مائة بيت، حين استرعى تفكيره هبوب ريح الشتاء الباردة في إيطاليا، فصور عصفها بالأوراق الجافة، ودفعها البذور إلى حيث تنام في التربة حتى ينبهها الربيع بدفئه وطيب أوانه، وشبه ثوران عاصفتها على الأفق بالشعور المتهدلة عن رأس ما يناد إحدى العرائس الخرافية، ووصف اقشعرار النبات المائي في قاع المحيط لدى إحساسه مرور تلك الرياح، ثم طلب إلى الريح أن ترفعه كما ترفع تلك الأوراق وتدفعه كما تدفع تلك البذور، وتنفخ فيه من قوتها، وتتخذه ناياً لها، عله يستطيع أن يطير بأجنحتها، ويبذر بين الخلق بذور أفكاره الإصلاحية التي كان أميناً لها طول حياته. ولشكسبير مقطوعة عن ريح الشتاء أيضاً في رواية (كما تشاء)، يسترسل فيها في التأمل على ذلك نحو؛ أما الشاعر العربي فإذا استرعى انتباهه هبوب الريح فيودع خاطره أوجز لفظ، واصفاً تهييج الريح لذكرياته أو محملاً إياه سلامه إلى أحبائه، كما قال بشار:
هوى صاحبي ريح الشمال وإنما
…
أحب لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي
…
تناهى وفيها من عبيدة طيب
والغريب أنه برغم غنى الأدب الإنجليزي بآثار الخيال وندرة تلك الآثار في الأدب العربي، ترى كلمات الخيال وخيال الشعراء والمخيلة وغيرها كثيرة التداول في العربية نادرة الورود في النقد الإنجليزي؛ وإنما كان نقاد العربية يطلقون اسم الخيال على أبعد الأقوال عن مجال الخيال الصحيح، يطلقونه على ما درج عليه الشعراء المداحون من اختراع مواقف الغرام في استهلال قصائدهم، وتلفيق صفات الجود والبأس لممدوحيهم، ومن ثم اشتهر البحتري بالخيال، لا لأنه دبج القصص المحكم أو نظم المطولات الرائعات بل لأنه كان من أمضى الشعراء في بابي المديح والغزل الاستهلالي، ومن أكثرهم ذكراً للأطياف والوداع واللقاء، وليس تحت مثل هذا الخيال طائل، إذ قوامه التكلف والمحال والإيغال في البعد عن حقائق الحياة والشعور، بينما أخص خصائص الخيال الفني الصحيح صدق البيان للشعور الصحيح في أعمق أعماقه وأرحب آفاقه
فإذا قال بشار إن الجود من كف ممدوحه يعدي، وقال أبو تمام إن ممدوحه لا يستطيع قبض أنامله لأنه تعود بسطها بالعطاء، وقال المتنبي إن أسنان صواحبه برد خشي أن يذيبه من حر أنفاسه فكان هو الذائب من حر أشواقه، وإذا شبه ابن المعتز الهلال بمنجل يحصد
نجوم الليل حصداً، أو شبه ابن خفاجة النهر وعشب ضفافه بهدب يحف بمقلة زرقاء، فقد باعدوا جميعاً وأغربوا وخالفوا حقائق المنطق والشعور، وجاءوا بما هو أشبه بعبث الصبيان وهذر المخمورين، وكان قولهم أبعد الأشياء عن الخيال، فالخيال ليس هو تجاهل حقائق الحياة وتحديها والتفنن في مناقضتها، وإنما هو قدرة الفكر على استيعابها والاشتمال على قريبها وبعيدها، والتصرف فيها والتفنن في عرضها، ولا غرو إذ كانت تلك نظرة نقاد العربية إلى الخيال أن قالوا إن أعذب الشعر أكذبه، والحق أن أعذب الشعر أصدقه، وأجود الخيال أكثره اشتمالاً على الحقيقة
وغزارة آثار الخيال في الأدب الإنجليزي ترجع لاشك إلى اختلاف مناظر الطبيعة في إنجلترا وتعددها وتقلب أحوال الجو، ثم هي ترجع إلى اتساع أذهان الإنجليز باقتباسهم حضارة أوربا ومساهمتهم فيها، وإلى الكشوف الجغرافية العظيمة التي عاصرت نهوض الأدب الإنجليزي، وهي ترجع أيضاً إلى اطلاع الإنجليز على الأدب اليوناني الحافل بروائع الحوادث والأساطير، المملوء بأشعار الملاحم والدرامات، فقد كان لشعراء الإنجليزية وكتابها من ذلك معين لا يفنى، وكان الاطلاع على التراث الكلاسي بمثابة كشف جغرافي آخر واطلاع على عالم ثان غير هذا العالم المعهود، مما أطلق الأذهان إلى غايات الخيال، وكان للأدب العامي في ذلك أثره أيضاً
وترجع ضآلة حظ الأدب العربي من الخيال الصحيح السامي، وكثرة ما به من آثار التخيل الزائف، إلى نزعة الجمود التي كانت تسوده وتقره دائماً على محاكاة الأقدمين واحتذاء الأدب الجاهلي، وهذا بطبيعته المتبدية وبيئته الصحراوية التي ترعرع فيها، أدب أولى قليل الحظ من الخيال كثير الالتزام للواقع الحاضر؛ هذا إلى اشتغال الأدباء بمدح ذوي السلطان واجتهادهم في تخيل كل منقبة وإضافتها إليهم؛ أضف إلى ذلك أن الأدب العربي لم ينتفع كما انتفع الأدب الإنجليزي بأدب الإغريق، فحجبت عنه تلك العوالم الزاخرة بالحقائق والخيالات. وقد اطلع العرب على فلسلفة الإغريق فحاكا غير واحد من فلاسفتهم جمهورية أفلاطون بتخيل المدينة الفاضلة، ولو اطلعوا كذلك على أدبهم لاستفادوا منه فائدته المحتومة
ظل الأدب العربي مكبوح الخيال ملتزماً للواقع مؤثراً للإيجاز متشبثاً بالرواية التاريخية المسندة، وترك الخيال الواسع للعامة يسبحون في عوالمه التي تستهوي النفس الإنسانية،
فجالوا في نواحي القصص يودعونه أفكارهم على ما بها من قصور، وآمالهم على ما بها من سذاجة وما يشوبها من شهوات الحس، وثقافتهم على ما يخالجها من جهل واضطراب، وجاء الأدب العربي الفصيح في أزهر عصوره مشتملاً على ضروب من التخيل الفج لا يستسيغها لب، ولا يقرها فن، مشتملاً بجانب ذلك على وجدانيات صادقة وحكم وأمثال رائعة موجزة، هي خير ما في الأدب العربي من لباب الفكر والشعور، فالأدب العربي يبلغ قمة مجده بما فيه من آثار الحكمة، لا بما يحويه من صور الخيال
فخري أبو السعود
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 4 -
الديانة المصرية - التوفيق بين الديانة والفلسفة
إن ذيوع عقيدة تأليه الملك أو حلول روح القدس في جسده الذي حدثناك عنه في الكلمة السابقة قد خلق أمام العقل المصري مشكلة معقدة عويصة يمكن أن تعتبر اللبنة الأولى من بناء الفلسفة المصرية، وأن تعد محاولة حلها أقدم المحاولات الفلسفية التي عرفها تاريخ العقل البشري. لأن عهدها يصعد في سلم الماضي أكثر من ستة آلاف سنة، وأين من هذه الفلسفات الأخرى التي لا يتجاوز أقدمها بضعة عشر قرنا قبل المسيح؟ تلك المشكلة التي نشأت عند المصريين من تأليه الملك هي:(إننا نشاهد أن الملك يموت كما تموت عامة الناس فكيف يموت الإله الذي أولى صفاته الخلود؟!).
لم تكد هذه المشكلة تأخذ مكانها في الحياة الفكرية المصرية حتى وجد المتفلسفون الأولون لها حلا وهو أن فرعون لا يموت كما يموت الناس، وإنما حين يعجز جسمه المادي عن النشاط العملي يخرج منه السر الإلهي أو الروح القدس، ليحل في جسم ابنه الشاب الممتلئ قوة ونشاطاً. وإذاً فروح (هوروس) هي التي تحكم في كل هذه الأجساد المختلفة المسماة بالفراعنة والتي أطلق على كل جسد منها اسم خاص في الظاهر فحسب، ولكن هذا الجواب لا يشفي غليل المتفلسفين الباحثين عن خفايا الكون وأسرار الوجود، لأنهم لا يكادون يتلقون هذا الجواب حتى يصطدموا بالتقاليد الدينية التي تصرح بأن فرعون وهو في قبره يعين ابنه على الحكم وينصحه في المواقف الحرجة. ومن هذا تنشأ مشكلة فلسفية أخرى وهي (كيف تقولون إن روح (هوروس) تغادر جسم فرعون المائت بعد عجزه عن النشاط إلى جسم ابنه الشاب النشيط ثم تعودون فتقولون: إن فرعون بعد رحيله إلى العالم الآخر يظل متصلاً بابنه يعاونه وينصحه؟ فالتصريح الأول يفيد أنه ليس هناك إلا شخصية روحية
واحدة تغادر الجسم الضعيف العاجز إلى الجسم القوي النشيط، والتصريح الثاني يفهم منه أن فرعون بعد موته تبقى له شخصية روحية مستقلة تنصح الملك الجديد وتعاونه. ولا ريب أن هذا تناقض ظاهر يدعو العقول الفلسفية إلى البحث والتنقيب، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذ بدأت الروح الفلسفية تسري بين البيئات المصرية المفكرة منذ ذلك العهد المتغلغل في غيابات الماضي فاهتدت إلى حل خيل إليها أنه مقبول من الوجهة العقلية، وهو أن (هوروس) له عدة شخصيات إحداها الشخصية الدنيا التي تتقمص جسد فرعون؛ وثانيتها الشخصية العليا الحاكمة في عالم الآخرة؛ وثالثتها الشخصية الوسطى وهي التي تقوم بنصيحة الشخصية الدنيا في جسدها الجديد، وبهذا تنحل المشكلة ويزول التناقض.
لم يكن المصريون كغيرهم من الأمم القديمة يعتقدون أن الجسم الفرعوني بعد مغادرة الروح إياه يصبح جيفة كأجسام بقية البشر والحيوانات، وإنما كانوا يرون أن حلول روح القدس فيها تكسبها شرفا خالدا وبركة أبدية. ولهذا فبقدر ما يبقى جسم الملك محفوظاً في قبره تنتشر السعادة ويعم الخير في مصر، وهذا هو الإدراك الأول الذي كان يعاصر مبدأ الملكة القديمة، أما بعد هذا العهد بقليل فقد أنتقل تقديس الروح من دائرة الملوك الضيقة إلى جميع الأرواح البشرية وأخذ المفكرون يترقون في الروحية حتى بلغوا فيها الأوج الذي سنشير إليه فيما بعد.
وقد كانت الروح تعنى بأن يترك في الجسم فرجة، لتستطيع العودة إليه منها متى شاءت الرجوع من عالم (أوزوريس) إلى عالم الدنيا، ولكن هذه العودة لم تكن محبوبة عند الروح إلا إبان صلاحية الجسم لها، فإذا يبست (المومياء) وتقلص جلدها وانكمشت أعصابها وفقدت هذه الصلاحية تأخرت الروح عن المجيء إلى الجسم، وهذه خسارة كبرى كانت أحد الدوافع التي حملت المصريين على الدقة في صنع التماثيل بعد التحنيط.
وكان عالم (أوزيريس) في أول عهد المصريين بهذه العقيدة عالماً قاسياً محفوفاً بالأشواك والمخاطر حتى على فرعون نفسه، إذ كانت روحه لا تمر إلى مملكة (أوزيريس) إلا بعد أن تجتاز عدة عقبات ومصاعب تنشأ من أسئلة دقيقة ومحاسبات عسيرة يوجهها الحارس المكلف بمحاسبة المارة، وكانت هذه المملكة في عقيدة المصريين تحت الأرض وكان يجب أن يمر إليها الفراعنة، ومن في حكمهم، ليستمتعوا بعد اجتياز عقباتها بالنعيم المقيم في عالم
الخلود.
ولما رأى الكهنة أن فرعون يقاسي قبل الوصول إلى إمبراطورية (أوزيريس) أهوالا صعابا أشاروا بأن تتلى عند دفن المومياء الملكية التعاويذ التي تلتها (إيزيس) على جسم زوجها أوزيريس فأعادته إلى الحياة، أو أن تكتب هذه التعاويذ وتوضع مع المومياء في مقرها الأخير، ليعود فرعون في سهولة إلى الحياة ليجتاز العقبات إلى مملكة الآخرة
ولما ارتقت الديانة المصرية تطورات هذه الشعيرة فانتقل فرعون من مملكة (أوزيريس) إلى مملكة (رع) كبير الآلهة وترك الأولى لأفراد الشعب الذين يجب أن يجتازوا الصراط جميعاً إلى المملكة وأن يمر بهم ما كان في العهد القديم خاصاً بفرعون
أما فرعون فقد أصبح في العقيدة الجديدة قميناً بأن يذهب إلى المملكة الساطعة كما كان يسمونها، وكان يستعين على الصعود إليها في السماء تارة بجناحي (هوروس) وأخرى بجناحي (توت) وثالثة بسلم يحضره إليه الآلهة، وهو سلم طويل يتصل أوله بمملكة (أوزيريس) تحت الأرض وتلامس قمة مملكة (رع) في السماء فإذا وصل إلى هذا المقر الإلهي ظل فيه زمناً يحمل أسم (هوروس) ويستمتع بامتيازاته، ثم ارتقى بعد ذلك إلى منزلة (رع) نفسه وامتزج به واتحد فيه اتحاداً كلياً. ومنذ أن ظهرت في الديانة المصرية هذه الصلة بين (رع) وفرعون حصل فيها تطور وانقلاب عظيمان إذ أصبح (رع) هو الذي يطوف بالملكة ليلاً ثم يتغشاها قبل حملها بالملك المقبل. وهكذا اصبح (رع) هو الأب المباشر لفراعنة الدنيا وهو الكل الأعظم الذي يتلاشون فيه في الآخرة
هل نشأ التطور الديني الجديد من الفلسفة أو الفلسفة هي التي نشأت من هذا التطور؟
اختلف الباحثون من العلماء في هذه النقطة في الإجابة على هذا السؤال اختلافاً شديداً، فأجاب الفريق الأول وهم الأكثرية العظمى من الباحثين بأن الأصل هو التطور الديني وأن الفلسفة ناشئة عن هذا التطور ووليدة احتكاك الأفكار حوله كما حدث في مسألة تعدد شخصيات روح (هوروس) التي أسلفنا لك الحديث عنها. وأجاب الفريق الثاني إجابة مباينة لرأي الفريق الأول تمام المباينة فقرروا أن التفكير الحر هو الذي سبق إلى إنشاء نظريات فلسفية لم يجد الدين بداً من أن يتجه نحوها ويصبغها بلونه. وإليك بيان هذين المذهبين:
المذهب الأول
لما سرت عقيدة امتزاج الآلهة التي ترجع بالتعدد إلى أصل واحد وقالت بالثالوث المكون من: (أوزيريس) و (إيزيس) و (هوروس) الثلاثة الراجعين إلى واحد، ثم تطورت من التثليث الموحد إلى التتسيع الموحد كذلك، فقالت بتسعة آلهة يرجعون في النهاية إلى إله واحد، حدث اضطراب في الأفكار، وتناقضت العقيدة مع العقل وكاد يحدث بينهما تناقض خطير لولا أن أخذ المفكرون يفلسفون ويسلكون الممكن والمستحيل من السبل ليوفقوا بين العقل والعقيدة ولكنهم أخضعوا العقيدة للعقل، بل وللعقل الواقعي أو الطبيعي حيث قرروا أن الماء هو (الكاؤوس) المبهم أو العنصر الأول المشتمل على جميع ما في الكون من عناصر، وأنه كان ولا شيء معه لا آلهة ولا أناسي، وأول من ظهر من الماء هو (رع) الذي لم يلبث أن تمركز وكون الشمس، ذلك الكوكب العظيم الذي من فعله ظهر إلهان عظيمان هما:(سو) أي الهواء و (تيفنيه) أي الفراغ. ومن اجتماع هذين الإلهين تولد إلهان آخران هما: (جيب) أي الأرض و (نوت) أي السماء، ومن اجتماع هذين الإلهين أيضاً نشأ أربعة آلهة كل اثنين منها على طرفي نقيض من الآخرين، فأما الزوج الأول فهو (أوزيريس) أي النيل، و (إيزيس) أي الأرض المخصبة؛ وأما الزوج الثاني، فهو (سيت) أي الصحراء، و (نيفتيس) أي الأرض القاحلة، وهذه هي الآلهة التسعة الراجعة إلى واحد والتي كان المصريون يطلقون عليها: ، أي المتسع أو التاسوع المقدس. ولم يكن هذا التاسوع هو كل ما عند المصريين من آلهة وإنما كان هيئة رياسة عليا لجمهور كبير من صغار الآلهة وأنصافها
المذهب الثاني
ذهب جماعة من العلماء نخص منهم بالذكر الأستاذ (ألكسندر موريه) المستمصر الكبير إلى أن التاسوع لم يكن هو الأصل كما فهم العلماء الآخرون، وإنما اكتشف العقل المصري القوي المتمدين تسع قوى من قوى الطبيعة هي الشمس والهواء والفراغ والأرض والسماء والنيل والخصوبة والجدب والصحراء ثم أسندوا إلى هذه القوى كل أفاعيل الكون، ولما رأوا أن هذا التفكير الفلسفي ليس في متناول أذهان العامة لم يسعهم إلا أن يؤلهوا هذه
القوى، وأن يطلقوا عليها أسماء مقدسة لتفهمها الجماهير هي نفسها حين رأت هذا التقدير العظيم من جانب العلماء لتلك القوى أولته تأويلاً دينياً يتفق مع عاطفتها الفطرية التي لا تقدس إلا المعبودات؛ وفي كلتا الحالتين يكون العقل المصري العلمي هو الذي أوجد التاسوع، لا التتاسوع هو الذي أوجد التفكير في قوى الطبيعة كما يذهب الفريق الأول)
(يتبع)
محمد غلاب
مدخل الفردوس المفقود
لملتون
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
يا ربة الشعر أنشدينا:
كيف كان من الإنسان أول العصيان؟
ما تلكم الشجرة الحرام وما جناها؟
فقطفها الفاني أورَدَ الأرضَ الفناء،
وأضعنا به عَدْناً، وعانينا ما نلاقي من عناء.
وهكذا نظل حتى يبعثنا نبي عظيم، فيسترد لنا دار النعيم،
غردي! يا من أوحيت إلى موسى،
في جنح الذٌّرى من (حوريب) أو (طور سينين)
فألهمت ذيَّاك الراعي، الذي عَلّم القبيل المصطفى
كيف استقام في الأزل العماءُ، فجاءت منه الأرض والسماء.
فإن استطبتِ سماوة (الصهيون)،
حيث غدير (سلوى) تدفق واثباً حيال بيت الله،
فإيِاك ثمت أستعين على نشيدي العصيب
الذي اعْتَزَمَ ألا يلوى في تحوامه
حتى يحلق صاعداً فوق سامق (أونيا)
ينشد غاية لم يحاولها قبلُ نثرٌ ولا قصيد.
أنت على الخصوص يا ذا (الروحُ) إليك أنحو!
يا من يؤثر على جلاميد المعابد طهر القلب والتقوى،
فَأتني العلم إنك أنت العليم.
قد شهدتَ الوجود منذ فاتحة الوجود،
وجَلسْتَ في وداعة الورقاء، باسطاً جناحيك العاتيين،
تأمَّلُ (المهوى) الرحيب، حتى أثقلته فكراً وشعراً.
فاجلُ يا ذا الروح قاتمي، وارفع وطئ دعائمي،
عَليّ بهذا المقال الجليل أبلغ شأواً،
فأكون (للحكمة السرمدية) ترجماناً
ولرحمة الله بالإنسان برهاناً.
ألا حدثينا - فليست تخفى الجنة عنك شيئاً، كلا، ولا مهوى الجحيم السحيق - حدثينا
عن أبوينا الأوًّلين: ماذا دعاهما، إذ هما يرفلان في ذاك النعيم،
وإذ هما عند الله أقرب المقربين، ماذا دعاهما
أن يهجرا (الباري) فيهويا؟ وأن يعصيا مشيئة الله
لمحظور واحد، لولاه لسيطرا على العالمين؟
من ذا أغواهما بديّاً بذاك العقوق الذميم؟
إنه (الأرقم) الرجيم ثارت غيلته
حقداً ووتراً، فمكر بأم البشر
حين ألقاه الغرور من الفردوس طريداً،
وفي أعقابه عصبة الملائكة الثائرين.
فتطاول أن يَفْضُل في السلطان سائر الأخدان
وطمع بعونهم أن يضارع (العلي العظيم)
أن عصاه؛ ثم دعاه الأمل الطامع في العرش والملكوت أن يثير في الجنة حرياً وقودها
الغرور والفجور
فخاب الرجاء؛ إذ طوح به الله ذو الجبروت
فهوى من علياء السماء يتقد لهيباً،
يروع القلب منه ما احترق وما انحطم؛
وتردى في هاوية ما لها من قرار، بها يأوي
مغلولا بصم السلاسل يصطلي النار جزاء
بما حدثته النفس أن يناجز (القوي القدير)
وفي قرارٍ مهواه تسع فضاوات
مما يذرع به الأناسي خطو الليل والنهار
تردى الأثيم هزيلاً بصحبة شيعته
يتقلب في حمأة الجحيم، لعيناً خالداً في لعنته؛
ثم قضى نحسه أن ينال من غضب الله المزيد
فأخذت تضنيه لوعة النعيم المفقود، وتشقيه لذعة العذاب الموجود، وطفق يجيل البصر
الذي يقدح الشرر
والذي شهد ما شهد من أليم الكرب والكدر
وفي نظراته الغرور العنيد والمقت الشديد
فسرعان ما رأى - ما وسع الملائكة النظر -
رأى ما حوله موحشاً قفراً يبابا
ورآه في جب مخيف التهبت جوانبه التهاباً
كأنه أتون سحيق مستعر، ناره لا تبعث النور،
فإن هو إلا ظلام منظور كأنما أضيء ليضيء
مشاهد الغم ومطارح الهم وأشباح الأسى
حيث الدعة والسلام لا يجدان مقراً
وحيث لا يشرق الأمل الذي يشرق على العالمين أجمعين،
فهو ما ينفك يصلى عذاباً مقيما وطوفاناً من حميم
تغدو لظاه شواظ أبدا تذكو ولا تخبو
فذلك مستقر أولئك العصاة كما أراده عدل الإله
حيث أعِدَّ لهم سجن محلولك داج
مُقامهم فيه ينأى عن الله وعن نور السماء
ثلاثة أمثال ما ينأى قلب الأرض عن قطبها الأقصى
فيا بعد مأواهم عن الذي كان منه مهواهم!
وهنالك سرعان ما شهد الأثيم رفاق هُوِيه
يحتويهم الطوفان وتغمرهم الأعاصير ونار السعير؛
ورأى إلى جواره يتلوى من يتلوه سلطاناً وعصياناً
ومن عرفته أرض القدس بعدئذ باسم (إبليس)
فاتجه إليه كبير أعداء الله:
من سُمَي في السماء منذ ذلك الحين (شيطانا)
وألقى عبارة جريئة دوت في ذلك السكون الرهيب، فقال:
(أفأنت هو؟ - إذن يا ويلتاه! لشد ما زللت وما تبدلت! -
ألا إن كنتَ مَنْ في دار النور والنعيم
كان متشحتً بهالة من سنيِّ الضياء
أخمدت بسناها الألوف من مشرق الوجوه -
لئن كنتَ من وشجني به يوما
تبادل العهد، واجتماع الرأي والكلمة، واتحاد الأمل،
وآصرتنا غمرات هذا المطلب الجليل،
فهاهي ذي أواصر الشقاء توشج اليوم بيننا، فتوُحدُ هلكنا.
أفرأيت إلى أي هاوية أوينا، ومن أي الذرى هوينا؟
ألا إن الله في غضيته، ساق الدليل على رجحان قوته؛
فَمنْ قبلئذ كان يدري كم تبطش تانك الذراعان العَتِيَتان؟
ولكنيِّ على ذاك لست بنادم، وإن صَبَّ علينا (الظافر) القادر
ما استطاع في سورته من صنوف العذاب
فعزمي الصمم لن يحول، وإن حال مني رونق الإهاب؛
ولن أبدل ما أثاره حقي الهضيم في نفسي من أبي الكبرياء
التي سموت بها فنازلت (أقوى الأقوياء)
واستَعْدَيْتُ معي في النزال عرمرما
من (الأرواح) شاكي السلاح
الذين استبسلوا فكانوا على حكم الله مارقين،
وآثروني من دونه، ثم قارعوه جبروتا بجبروت
حتى زلزلوا قوائم عرشه
في حرب كانت في حومة السماء سجالا
وماذا أنْ فاتنا النصر في حومة الوغى؟
فأنا بذلك لم نفقد كل شيء -
وهل يكون هزيما، من له هذا العزم الحديد
والثأر السديد والمقت الذي لا يزول؟
ومن له هذا الجنان الذي لا يلين ولا يحول؟
ذاك نصر لن يسلبنه الله بسورته أو صولته
فما كان أخسها ضعة،
لو أني جثوت له مسترحما وركعت ضارعا،
أو أني خشعت لصولته،
وهو الذي ارتاع لهذي الذراع منذ هنيهة
حتى ارتاب في دولته!
أما وقد شاء القضاء لسطوة الآلهة ألا تدول،
ولهذه الجحيم ألا تزول،
وبعد أن عجمتنا خطوب هذا الحدث الجسيم،
فازددنا به رشادا وما فُلَّ لنا سلاح
وما يزال يحدونا زاهر الرجاء،
فلنُثِرْها على عدونا الألَدَ - بالقتل أو الختل - حربا عوانا،
إنه أصاب النصر فانتشى جذلا
أَنْ رآه طليق الحكم، فطغى في السماء)
هكذا قال (الملكُ) الكافر، برغم ما يشقيه من العذاب
مختالا يصول، وإن يكن حطيم النفس باليأس العميق،
فلم يلبث رفيقه الجريء أن أجاب: -
(مولاي! وأنت زعيم العديد من العتاة متوجين
قدتَ إلى الوغى تحت لوائك (السيروفيم) مدججين
وتهددت رب السماء الدائم بالخطر
فأقمت الدليل على رفيع جلاله
سواء أكان بالحق أم بالحظ أم بالقدر.
يا ويح نفسي أن ترى جليا هذا الخطب الرهيب
الذي طوَّحَنا فأشجانا وهزمنا فأردانا
وأضاع منا الجنة، وهوينا به إلى هذا الحضيض
يهدنا، ونحن المعشر القوي، هلاك مبيد
ما بادت الأرباب وكائنات السماء:
فلا يزال الروح والعقل منا عن الهلك في حرز حريز
وسرعان ما نسترد العنفوان المفقود، وأما المجد فلن يعود
وسالف النعيم قد استأصله الشقاء الموجود.
ولكن لم لا يكون الله هو لنا (قاهر)
(فقد آمنت أنه على كل شيء قادر،
إذ ما كان يستطيع أن يدك قوانا سوى مطلق قدرته)
لم لا يكون الله قد أبقى على نفوسنا وقوانا،
فلم ينتقصها ليشتد أذاناً ونضطلع بمر العذاب
لكي يُرضي فينا غيظه الناقم
أو ليأمرنا بما شاء من فادح الأعمال، فنستطيع الأداء؟
فقد أمسينا له بحق النصر عبيدا أرقاء،
إن شاء اصطلينا النار في قلب الجحيم
وإن شاء سَخّرنا في اللج البهيم
فإن أحسسنا بالقوة موفورة، فأين في ذلك الغَنَاء؟
وهل أجدى علينا خلود البقاء إلا دوام الشقاء؟)
زكي نجيب محمود
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
أحقاد
أفتقيمون للحق دليلا من اقتحام أحد الناس للهب في سبيل تعاليمه؟ وهل لمثل هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه. إذا ما تلاقي رأس بارد بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخلصا. ولكم وجد على الأرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقاماً ممن يدعوهم الشعب مخلصين، وما كان هؤلاء المخلصون إلا عاصفات كاسحات تهب متوالية على الأرض
إذ ما كنتم تنشدون سبل الحرية، أيها الأخوة، فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى ممن يفوقون هؤلاء المخلصين عظمة ومجداً. فإن الإنسان إنسان ألمانيا الكامل لم يظهر على الأرض بعد. لقد حدقت بأعظم رجل وبأحقر رجل عن كتب وهما عاريان فظهرا لعياني متشابهين، بل رأيت أعظمهما أشد توغلا في المعائب البشرية من الآخرين.
هكذا تكلم زارا. . .
الفضلاء
لا ينبه الشعور الغافل إلا الإرعاد والأبراق، وما تكلم الجمال إلا بنبرات هامسة لا تنفد إلا أشد الأرواح انتباهاً
أسمعتني عصمتي اليوم ضحكة تعالت فيها قهقهة الجمال السامية. فجمالي يسخر بكم، أيها الفضلاء، إذ سمعته يقول: - إنهم يطلبون لفضائلهم ثمناً.
إنكم تتقاضون ثمن فضيلتكم وتطالبون بالجزاء، أيها الفضلاء، طامحين إلى امتلاك أماكن في السماء، بدلا من أماكن في الأرض، والى الظفر بالأبدية بدلا من الدهر الزائل.
إنكم لتحقدون علي لأنني أعلم الناس أن ليس هنالك لا حسيب ولا مثيب، والحق أنني أمتنع عن القول بالثواب بل أذهب إلى أبعد من هذا فأقول أن ليس للفضيلة ما تجزي به نفسها جميل الجزاء.
إن ما يؤلمني هو أن العقاب والثواب قد دسا دساً في غاية كل أمر، بل حشرا حشراً في أعماق نفوسهم، أيها الفضلاء. ولكن لكلمتي أن تشق أعماق هذه النفوس ذاهبة فيها كقرن الوعل وكالسكة تشق الأرض لتحرثها. فلتتكشف نفوسكم عن خفاياها أمام النور، لأن الحقيقة لن تنفصل عن الضلال فيكم حتى تنطرحوا عراة تحت شعاع الشمس. ذلك لأن حقيقة ذاتكم إنما هي أطهر من أن تسمح بتدنسكم بكلمات الانتقام والعقاب والمكافأة والمقابلة بالمثل.
إنكم تحبون فضيلتكم كما تحب الأم طفلها، وهل سمعتم أن أما طلبت مكافأة على عطف الأمومة فيها؟
هل فضيلتكم إلا ذاتكم نفسها وهي أعز ما لكم؛ وما أمنيتكم إلا أمنية الحلقة التي لا تلتوي وتستدير إلا ليصبح أخرها أولا لها.
إن كل عمل ينشأ عن فضيلتكم إنما هو بمثابة نور كوكب يعروه الانطفاء، فما يزال نوره يخترق مجراه في الأفلاك، وليس من حد ينتهي سيره إليه. وهكذا لن تزال أشعة فضيلتكم سائرة في سبيلها حتى بعد انتهاء عملها وتواريه في عالم النسيان، لأن إشعاع الفضيلة مستمر لا يعروه زوال.
لتكن فضيلتكم تعبيراً عن ذاتكم وما تلك غريبة عن هذه فلا تحسبوا أنها جلد ورداء.
هذه هي حقيقة روحكم الكامنة، أيها العقلاء. ولكن من الناس من يخيل له أن الفضيلة عبارة عن تشنج تحت السياط الجالدة، ولطالما سمعتم صياح هؤلاء الواهمين.
ومن الناس من يرى الفضيلة في الكسل والرزيلة، وما بنتبه عدلهم إلا عند ما يتثاءب حقدهم وحسدهم؛ عندئذ يفركون أجفانهم وقد أثقلها النعاس.
من الناس من تشدهّم شياطينهم إلى أسفل فكلما تدهورا على الدركات زادت أحداقهم توهجاً وتزايد شوقهم إلى ربهم. إن صوت هؤلاء المتدهورين يبلغ آذانكم.
أيها الفضلاء وهم يصيحون: - إن كل ما هو خارج عن كياني إنما هو الله وإنما هو الفضيلة.
وهنالك آخرون يتقدمون مثقلين مقرقعين كأنهم عجلات تحمل صخوراً إلى الوادي، وهؤلاء الناس لا ينون يتكلمون عن الفضيلة، وما الفضيلة في عرفهم إلاّ عبارة عن كابح عجلاتهم.
وهنالك قوم أشبه بالساعات يربط زنبركها فتسمعك تكتكتها وهم يريدون أن تدعى حركتهم الآلية فضيلة. إنني ألهو بمشاهدة مثل هذه الساعات لأنني ما صادفتها مرة إلا ربطت زنبركها بتهكمي وأكرهتها على تحريك رقاصها.
وهنالك المغترون بذرة من العدل ترتفع فيهم على جبل من الدعوى فتراهم يجدفون على كل شيء إلى أن يغرقوا العالم بظلمهم؛ وما تخرج كلمة الفضيلة من أفواه هؤلاء الناس إلا وتحسب أنهم يتجشأونها، وإذا قال أحدهم: - لقد عدلت، فكأنه يقول: - انتقمت.
هؤلاء من يريدون أن يفقئوا أعين أعدائهم بفضيلتهم وما يطلبون من الاعتلاء إلا إسقاط سائر الناس.
وهنالك أيضاً من يدب إليهم الفساد كأنهم ماء آسن في المستنقعات، يختفون بين المناصب منادين بالفضيلة كأنها جمود في المستنقعات. فهؤلاء الناس يعلنون أنهم لا ينهشون أحداً ويتحاشون الالتقاء بالناهشين، فإذا عرض عليهم أي رأي أخذوا به تفادياً لكل أخذ ورد.
وهنالك عشاق الحركات المعتقدون بأن الفضيلة نوع من الأيمان فتراهم في كل حين جاثين على ركبهم وقد قبضت إحدى راحتيهما على الأخرى تمجيداً للفضيلة وما يدرك قلبهم منها شيئاً.
وهنالك من يرون الفضيلة في القول بلزوم الفضيلة وهم لا يعتقدون إلا بلزوم ردع الشر بالقوة.
وبعض من امتنع عليهم أدرك ما في الإنسان من صفات عليا لا يذكرون الفضيلة إلا عند ما يحدقون بما فيه من دنايا وهكذا لا تنشأ فضيلة هؤلاء القوم إلا من عيوب عيونهم.
من الناس من يطلب المعرفة وتقويم ما التوى فيه فيدعو هذه النزعة فضيلة؛ ومنهم من يطلب قلب كيانه رأساً على عقب فيدعو هذه الرغبة فضيلة أيضاً، وهكذا ترى الجميع يعتقدون بوجود الفضيلة في ناحية من نواحي كيانهم وتراهم يتجهون إلى معرفة ما فيهم من خير وشر. غير أن زارا قد جاء إلى جميع هؤلاء المخادعين وإلى جميع هؤلاء المجانين ليقول لهم إنهم لا يعرفون عن الفضيلة شيئاً وإن ليس في وسعهم أن يعرفوها.
ما أتى زارا إلا ليشعركم بأنكم تعبتم من تكرار الأقوال القديمة التي علمكم إياها المخادعون والمجانين، فينفركم من كلمات المكافأة والمقابلة بالمثل والعقاب والانتقام في العدل ولتقلعوا
عن القول بصلاح الأعمال عند تجردها عن الغايات
لتكن ذاتكم متجلية في عملكم كما تنجلي الأم في طفلها وليكن هذا التعبير ما تعرفون الفضيلة به.
والحق، أنني انتزعت منكم كثيراً من أقوالكم وسلبتكم أعز ما تتلهون بمضغة عن الفضيلة، ولذلك أراكم تزورون كالأطفال. وقد كنتم مثلهم تتسلون بألعابكم على الشاطئ فطغت موجة انتزعتها من بين أيديكم وحملتها إلى العباب، فها أنتم تعولون الآن كهؤلاء الأطفال، غير أن الأمواج ستكر راجعة حاملة إليهم ألعاباً جديدة ناثرة بين أيديهم الأصداف المخططة، وأنتم أيضاً أيها الصحاب ستسلمون مثلهم حين تأتيكم التعزية ناثرة بين أيديكم الأصداف المخططة.
هكذا تكلم زارا. . .
شاعر الإسلام محمد عاكف
للدكتور عبد الوهاب عزام
تتمة
عرف قراءة الرسالة الموضوعات التي عالجها الشاعر الكبير في ديوانه (الصفحات) كما عرفوا من قبل مثلا من شعره. واليوم أقدم لهم مثالاً من شعره الاجتماعي الذي يصور فيه الواقعات الصغيرة والحادثات الجارية التي لا يأبه لها الناس كثيرا، وهي قطعة من الجزء الأول من الصفحات.
وينبغي أن يذكر القارئ ما ينال الشعر حين يترجم منثوراً فيفقد كثيراً من روعته، ولاسيما نظم عاكف الذي يذهب مثلا في انسجامه وقدرته على تذليل كل موضوع أبي وكل معنى شامس.
كان أنصاره وخصومه مجمعين على أنه أوتى في النظم قدرة تأبى على المحاكاة. وكان دعاة الأوزان التركية وأعداء العروض العربي يقولون لا يهزم هذا العروض حتى يقتل محمد عاكف فهو حجة دامغة تفحم كل معارض. وما ظنك برجل يصف مصارعة فينطق الشعر بحركات المصارعين وأقوالهم في بيان سلس ونظام لا شية فيه من التكلف
السفط
قبل خمسة عشر يوماً غدوت على عادتي من داري مبكراً ومحلتنا في أطراف استانبول فليس يستطيع السير في أزقتها إلا من يحسن السباحة، ما تزال تعترض سبيله بحيرة مائجة بعد أخرى. فإذا أظلم الليل فليس إلا الصبر على اللأواء، واحتمال ما يرمي به القضاء. لابد من قنديل في إحدى اليدين واسقنديل في الأخرى. هذه سبيل النجاة لا سبيل سواها
وكانت في يدي هراوة أتحسس بها الطريق إن أصابت جزيرة وقفت، وإن لقيت بحراً وثبت.
ويأوي دليلي الأمين إلى أطناف الدور العتيقة المتداعية ويلوذ بجدرانها فيصدم شيئاً ضخماً. نظرت فإذا سفط كبير قديم. قلت سفط حمال. لمن هذا ليت شعري؟ ويقبل غلام في الثالثة
عشرة عامداً إلى السفط بعصا غليظة، فمازال يرفع عصاه جاهداً ويهوي بها حرداً حتى تدحرج السفط خائراً منهوكاً
- (قد مات أبي تحتك وأنت لا تزال في وسط الزقاق جاثماً متعجرفاً)!! وبرزت من دار أمامنا امرأة نّصَف:
- ويلك يا بنيَّ! هلمَّ اليّ، كفّ. إياك أن تحطمه. مالك وللسفط يا بني؟ إنه أخرس لا فم له ولا لسان. لقد ارتفق به أبوك سنين ثمانيا، وكان يقول إنه سفط مبارك، قلما بقيت تحته بغير حمل. وقد ذهب أبوك فهو اليوم كاليتيم. وستعول به أمك وأخاك. أطفل أنت؟ ألا تعرف ما عليك؟
قلت: - استمع يا بني إلى أمك
فصاح الصبي متجهماً: -
(يا ذا اللحية ألا عمل لك؟ اذهب من هنا إلى جهنم. اذهب ما وقوفك هنا هاذيا في هذه الغداة؟ إن قلبي يشتعل. قد ذهب أب لي كالجبل
- ماذا تبغي الآن من رجل في مقام أبيك؟ اسمع يا بني. .
- دعيه يا سيدتي إنه طفل، أنا لا أبالي ما يقول.
- ما اسمك يا بني؟
- حسن
- أصغ يا حسن. إنك ستضير نفسك فهذه الحدة. لقد احترق قلبي يا بني حين عرف مصيبتك، ولكن أباك قد أوصى إليك وذهب. فانظر كيف جاهد هذه السنين الطوال ورباك بعرق جبينه! وكذلك عليك ألا تترك أخاك يتيما. عليك أن تربيه.
- بالسفط؟ أكذلك؟
- نعم نعم. ما هذا الكلام يا بني؟ أعار أن تعمل؟ ثم أن تحمل الأعباء؟ إنما العار الاستجداء، إنما العار أن تسأل الناس ولك يد ورجل
- ما أصدق ما قال عمك يا ولدي. قبل يا بني يد عمك.
- أنسيت سريعاً ما قالته امرأة جارنا؟ ألم تقل: (يا حسن خالي ضابط في إحدى المدارس. ولو كلمناه مرة لأخذك إلى المدرسة. انتظر سأكلمه)
فلا تعلميني أنت واجعليني في هذه السن حمّالا!!
عرفت أن الحديث طويل وأنه سيزداد طولا وكانت مشاغلي كثيرة ذلك اليوم فتركتهما.
ليت شعري ما خطب حسن المسكين اليوم؟
لي بنية عرمة لا تستقر في الدار. خرجت بها إلى الفاتح، بعد العصر بقليل. فبينا ندخل من باب الفحامين راق البنية منظر الجمل، تعجب من هذا البدن المعوج، وذلك العنق المفرط في الطول. وهذه الأرجل، وهذا الذيل المعلق من خلفه - هذا الذيل أليس هذا كله عجيبا؟
التفت ورائي فإذا على خطوات منا شيخ ربعة، وضاء الوجه مشرق السيما. قد لف على وسطه شالا، وعلى رأسه يابانية، وبجانبه صبي ينوء تحت سفط كبير. أقبلا يمشيان الهوينى. فوا عجبا! هذا هو الصبي الذي رأيته ذلك الصباح. . أي مرأى! مرأى يذيب القلب ويذهب باللب: رجلان هزيلتان عاريتان إلى الركبتين، وبدن يرعد تحت ثوب رقيق يكاد ينجمد من البرد. وقدم حافية، ورأس حاسر. لم تكن نفسا هذه اللهثات ولكن أنينا مديدً، ولم تكن نظراً هذه اللمحات ولكن بكاء شديداً، يا له بؤساً حافياً حاسرا. وإنه لحسرة ذلك الجبين المجعد في الثالثة عشرة.
ويخرج من المدرسة الرشدية أفواج من الطلبة قد انتظموا صفوفا، وساروا قليلاً ثم وقفوا. ما أقسى هذا المنظر على قلب حسن التعيس! أجل غلمان تفيض منهم نغمات النعمة والشباب يطير كل منهم إلى عشه السعيد. وسيفرغون للعب عما قليل، هؤلاء سعداء، وأما حسن فسيحمل أبدا على كتف الفاقة هذا السفط المشئوم الذي ورثه عن أبيه - السفط الذي أراد أن يحطمه حين بصر به في طريقه.
ليس هذا حملا ولكنه عقاب القدر لهذا البريء
وا حسرتاه، ما ذنبه، ما ذنب هذا المعاقب الذي لا يدري ما ذنبه؟
عبد الوهاب عزام
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعَاف النشاشِيبي
50 -
الطبيب أبو المنذر نعمان
قال ابن فارس: سمعت أبا الحسن السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى نعمان ويكنى أبا المنذر فقال فيه صديق لي:
أقول لنعمان وقد ساق طبُّه
…
نفوساً نفيسات إلى باطن الأرض
(أبا منذر) أفنيتَ فاستبق بعضاً
…
حنانيك بعض الشر أهون من بعض!)
51 -
قبل أن تكدره الخلائق بأنفاسها
قال الأصمعي: كانت امرأة من العرب تأتي بصبية لها كل يوم قبل الصبح، فتقف بهم على تل عال وتقول: أيْ بنيَّ، خذوا صفو هذا النسيم قبل أن تكدره الخلائق بأنفاسها
52 -
لو رقد المخمور فيه لصحا
قال الثعالبي في (اليتيمة):
قرأت في بعض الكتب عن ابن حمدون قال: كان الفتح ابن خاقان يأنس بي، ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: أشعرتَ يا أبا عبد الله، إني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة (يعني جارية له) فلم أتمالك أن قبّلتها، فوجدت فيما بين شفتيها هواء رقد المحموم فيه لصحا
فكان هذا مما يستحسن ويستظرف من كلام الفتح. وكأن الوأواء قد سمع ذلك فنظمه في قوله:
سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه
…
فأفنيته حتى الصباح عناقا
بطيب نسيم منه يُستجلب الكرى
…
ولو رقد المخمور فيه أفاقا
53 -
الجندي العربي المجهول
في (عيون الأخبار):
حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا فندب الناسَ إلى نَقْب منه فما دخله أحد. فجاء رجل من عَرْض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد.
فنادى أني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي فعزمت عليه إلا جاء. فجاء رجل فقال استأذن لي على الأمير
فقال له أنت صاحب النقب؟
قال أنا أخبركم عنه
فأتى مسلمة فأخبره فأذن له، فقال له. إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً:
(1)
ألا تسودوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة
(2)
ولا تأمروا له بشيء
(3)
ولا تسألوه ممن هو
قال: فذاك له
قال أنا هو
فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب
54 -
لا تظنوا أنني أسلو
أبو الوليد بن الجنان محمد بن الشرف من شعراء الملك الناصر صاحب (مصر) والشام:
أنا من سكر هواهم ثمل
…
لا أبالي هجروا أم وصلوا
فبشعري وحديثي فيهم
…
زمزم الحادي وسار المثل
إن عشاق الحمى تعرفني
…
والحمى يعرفني والطلل
رحلوا عن ربع عيني فلذا
…
ادمعي عن مقلتي ترتحل
ما لها قد فارقت أوطانها
…
وهي ليست لحماهم تصل؟
لا تظنوا أنني أسلو فما
…
مذهبي عن حبكم ينتقل
55 -
الأب والابن والروح القدس
كان أبو نواس جالسا وفي يده كأس خمر، وعن يمينه عنقود، وعن يساره زبيب. فقيل له ما هذا؟
فقال: الأب والابن والروح القدس
56 -
ويرحم القبح فيهواه
قال جعفر بن قدامة: كنا عند ابن المعتز يوما ومعنا النميري، وعنده جارية لبعض بنات المغنين تغنيه وكانت محسنة إلا أنها كانت في غاية من القبح، فجعل عبد الله (أي ابن المعتز) يجمشها، ويتعلق بها. فلما قامت قال له النميري: أيها الأمير، سألتك بالله أتتعشق هذه التي ما رأيت قط أقبح منها؟
فقال عبد الله وهو يضحك:
قلبي وثاب إلى ذا وِذا
…
ليس يرى شيئاً فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
…
ويرحم القبح فيهواه
57 -
يا كذاب!
قال رجل لامرأة: قد أخذت بمجامع قلبي فلست أستحسن سواك
فقالت: إن لي أختا هي أحسن مني وهاهي خلفي. فالتفت الرجل فقالت: يا كذاب! تدعي هوانا، وفيك فضل لسوانا
58 -
هذه أنفاس ريا جلقا
قال ابن الكتبي في (فوات الوفيات):
قال بعضهم: مررت يوما ببعض شوارع القاهرة وقد ظهرت جمال حمولها تفاح فتحي من الشام، فعبقت روائح تلك الحمول، فأكثرت التلفت لها، وكان أمامي امرأة سائرة ففطنت لما دخلني من الإعجاب بتلك الرائحة فأومأت إلي وقالت:
هذه أنفاس ريّا جلّقا
59 -
يا نسيما هب مسكا عبقا
قال السلمي الدمشقي المعروف بالبديع (وقد اشتهرت هذه الأبيات، وغنى بها المغنون):
يا نسيما هب مسكا عبقا
…
هذه أنفاس ريا جلقا
كفّ عني (والهوى) ما زادني
…
برد أنفاسك ألا حُرَقا
ليت شعري نقضت أحبابنا
…
(يا حبيب النفس) ذاك الموثقا؟
يا رياح الشوق، سوقي نحوهم
…
عارضاً من سحب عيني غدقا
وانثري عقد دموع طالما
…
كان منظوما بأيام اللقا
60 -
لأجل هذا البيت الواحد
وفد أبو الفضل بن شرف بن برجة على المعتصم (صاحب المرية) يشكو عاملا ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية التي مطلعها:
قامت تجر ذيول العصب والحبر
…
ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
إلى أن بلغ قوله:
لم يبق للجور في أيامهم أثر
…
غير الذي في عيون الغيد من حور
فقال له: كم بيتا في القرية التي تحرث فيها؟
قال فيها خمسين بيتا
قال: أنا أسوغك جميعها لأجل هذا البيت الواحد، ثم وقع له بها، وعزل عنها نظر كل وال
رسًالة الشِّعر
وحي الربيع!
للسيد حلمي اللحام
فتنة الغوطة:
ماجتِ الغوطة الأنسية بالحس
…
نِ وفاضت شذاً، وسالتْ غِناَء
غمغْماتٌ بين العشاش، وهمس
…
في زوايا الغصون يَنْدى ولاء
ليت شعري ماذا تتمتْمُ هذي الطي
…
رُ، فوْق الربا، صباحَ مَساء!
أترى أرْسلَ النسيمُ نداَء الح
…
بِّ في سرها، فخنَّتْ وفاَء؟
أم سرى العِطر فاغماً فانْتَشت من
…
هُ وناحَتْ، رياضَه الغَنَّاء!
أمْ حباها الرَّبيعُ أحلى معان
…
يهِ، فراحَت تعيدها أصداء؟!
وعلى أفيح المروج عذارى
…
يرْتشفْن الأظلالَ والأنداء
ويُصوِّرن في الضمائر أطْيَا
…
ف هوى تترع الوجود رواء
ويغَنينَ هائمات نشاوى
…
فَيَميد الروض الأَغن اشتْهاء!
ويدَغدِغن ذكريات أخي الح
…
ب، فيهوِي فؤادُه إعياء. . .
دنيا الشاعر:
شاعرٌ مُرهف الشعورِ، حنون اللحْ
…
نِ، يهْوَى الخيَالَ والأوهاما
عَينْه ترْمقُ السماء فهل فا
…
رَقها حلمُها، فهامتْ هياما؟
أم سَبي عَالَمُ الأشِعةِ جفَنْيْ
…
ها، فحامَتْ ترْتاءُ فيه مقاما!
قَلْبهُ جذْوة من الحقَّ والنو
…
ر تشع الهْدى، وتجلو الظلاما
إن غفا المْجَد أشْعَلَ الثورْة الح
…
مراء، كالشَّمس، أو يذيب القتاما
أو تدجَّى الفضا فتانِكَ عَينا
…
هُ تكادانِ ترْشفان الغماما
روحه مِزْهرٌ ينامُ على الأف
…
قِ كزَهر لم ينفض الأكماما
كلما مسَّتِ النسائمُ منه
…
وتراً راحَ يرْسل الأنغاما
أيها الشاعر الطروب إملاء الدني
…
احُبوراً وبهجْة وابتساما
واسكبِ اللحنَ في النفوس كما يَس
…
رب فيها صَوْت الحبيب مداما!
عالم الحبيب:
يا حبيبي أطِلَّ من كوَّة الغيْ
…
ب وأشْرِقْ على الوجود صباحا
واسْرِ في مقلتيَّ حُلماً ضَحُوكا
…
واهمْ في مهجتي ندى وسَماحا
وادْ وِفي خاطري نشيداً مُرناً
…
وابْقَ في خافقي سناً لمَّاحا
وأثرْ غافِيَ الصبَّابات، وانكَأ
…
ذكريات الصبِّا، وأدم الجراحا
لا يَسيلُ الغْناءُ من مهجة الش
…
اعر إلا إذا استحرَّ نواحا
والأماني لا تجنحُ إلا
…
بشجون الغرام: عزَّت جناحا
واسقِني من دمِ ابنْةِ الكرم، واسكب
…
في دمي من صدى غِنائِك راحا
وأرق من شعاع عينيكَ في رو
…
حي ضياء، ونشوة، ومرحا
زرْقة يسبغ الصفاءُ عليها
…
من غلالاتِهِ الرِّقاق وشاحا
أنا منها في زورق يَمخْرُ الْيَ
…
مَّ، وبدر السماء في الأفق لاحا
ضحكة الربيع:
يا حبيبي تعال نغنم صِبا العم
…
ر، ونكرع كؤوسه والدِّنانا
ونغن الشباب أعذبَ ألحا
…
ن التصابي، ونطرب الأكوانا
ما ترى ضحكة الربيع على السه
…
ل، وزهو الجواءٍ، والألوانا
نبضت بالحياة خضر التعاشي
…
ب، ورفَّ الندى عليها جمانا
ألقى يبهر العيون سناهُ
…
ورؤى حلوة تفيضُ حنانا!
أي كفٍّ سمحاء نضَّرت الأف
…
ق ووشَّتْ وجه الثرى العريانا
أي سر في الزهر يبتعث الح
…
ب ويحيي المنى ويذكي الجنانا
هو في مرشف المحب كثغر الح
…
ب، يرمي فؤاده نشوانا
وهو في ناظريه صورة طيف
…
علق الطرف لحظة ثمَّ بانا
ليتنا بلبلان يغمرنا الصف
…
وُ، ويوحي الهوى لنا الألحانا
غناء الحب:
أيها الحبُ أنت فيض من الخل
…
د يحيل الأسى الممضَّ رغابا
أنت ومْض الهدى على مهمة العي
…
ش، يضيء الشعاب والأسرابا
أنت لحن الحياة إن رَقرق الشد
…
وعليها زهت وطابت رحابا!
غنِ هذي العِشاشَ تندَ صبابا
…
ت، وتنسج من الضحى جلبابا
وترددْ فيها الحمائمُ والطي
…
رُ أغاني الهوى رخاماً عذابا
غَن هذي الحقولَ تخضل أفيا
…
ءً، وتهتز دَوْحة وجنابا
غن هذي الأزهارَ تّطرح الأكم
…
امَ عنها، وتنشر الأطيابا
عن هذي القلوبَ حتى تحس الش
…
عرَ، والحسن والمنى والشبابا
كل نفس لم ترْتشفْ من حُمَيَّا
…
ك تخالُ الحياة سمّاً مذابا
كل قلبٍ لم تجْرِ فيه ينابيع
…
كَ يَبقى، على الزمان، يبابا
حلمي اللحام
أخرس.
. .!
للأستاذ عمر أبو ريشة
رفع الرأس للسماء وصلَّى
…
بدموع ترجرجت في هدبهْ
بين شَدقيه مضغة عقلتها
…
يوم ميلاده أنامل ربه!!
جرَّدت عن لسانه لذَّة النط
…
ق وبثَّت إعجازه في قلبه
فإذا حبه يصول عليه
…
وإذا بؤسه يعيث بحبه!
أخذت ثورة الكآبة تطغى
…
بين حالي فؤاده ولسانهْ
ليس يستطيع أن يبث خليلا
…
ما تقول الدموع في أجفانه!
حمل العبء وجده كغريب
…
ضلَّ عن أهله وعن جيرانه
تتهاوى أشلاء آماله الغرّ
…
تباعاً على خطا أحزانه
كيف يطوي سفر النعيم كئيباً
…
والشباب الشباب في ريعانه؟!
صفقت قبضة الذهول حجاه
…
فانثنى في الحياة حيران تائه
أشعث الشعر لوَّح السهد خَدَّ
…
يه وهزَّ الشقاء من كبريائه
تلمح الفقر هادئاً في زوايا
…
مقلتيه وثائراً في ردائه!
يسحب الساق متعباً كعليل
…
هجر الدار قبل يوم شفائه!
كلما جاشت اللواعج فيه
…
أطرق الرأس غارقاً في شقائه!
وقف العاشق الكئيب حزيناً
…
يرقب الغادة الطهور إزارا
فتراءت إليه من بعد لأي
…
فهفا لوعة وضج اصطبارا
فجئنا باسطاً يديه إليها
…
شاكياً بالدموع حباً مثارا
فرمته. . بدرهم. . وتوارت
…
وسنا ثغرها يشع افترارا
رفع الرأس للسماء وأرغى
…
في أبدي (ما لست أدري) وسارا!
عمر أبو ريشة
القبرة
للأستاذ إبراهيم العريض
تُحوِّم في أفق السماء أصيلا
…
كنجم تراءى للعيون ضئيلا
فيتخذ الصوت الذي تستجدُّه
…
مع الريح في رحب الفضاء سبيلا
يدق على الأسماع خافتُ جرسه
…
فإن أعلنته الريح جاوزَ ميلا
وتدركه شيئاً فشيئاً غشاوة
…
من الحزن حتى يستحيل عويلا
أقبرة! هل أنتِ في الجوِّ قطعة
…
من الحسِّ سالت باللحونِ مسيلا
تغالين في الألحان حتى إذا انتشت
…
بها روحكِ الولهى خفتِّ قليلا
كما تخفتُ الأوتار بعد رنينها
…
ويبقى صداها في النفوس طويلا
فقد برأَ الله الطبيعة - وهي لا
…
تحس به - حتى بعثت رسولا
فأحسنت في الترتيل حتى كأنما
…
بآيكِ ظلُّ الروضِ صارَ ظليلا
ولقَّنتنا سرَّ الجمالِ ولم نكن
…
لندُركَ لولاكِ الوجودَ جميلا
فما زهرة في الروض تفتح جفنها
…
على الدمع إلاّ وهي تنشد سولا
فتغرينها في شجوِها بابتسامةٍ
…
بِبَثكِ معنى للخلود جليلا
(البحرين)
إبراهيم العريض
رسالة الشباب
الزحف الاجتماعي
لم نكد نفتح هذه الفرجة لآراء الشباب نرى منها اتجاه موجاته ومنزع
خلجاته حتى انثالت علينا رسائله الفتية تعرض مسائله، وتبحث
مشاكله، وتصور هواه. وسننشر منها ما يستحق النشر، ونناقش ما
يستوجب المناقشة، عسى أن يكون من وراء ذلك الطريقُ الذي يستقيم
عليه الجهاد ونوفي منه على الغاية كتب (شاب) مكتمل الشباب ناضج
الفكر يقول:
قرأت مع الإعجاب كلمتكم البليغة في مجلة الرسالة المحبوبة تعلنون فيها أنه يهمكم على الأخص أن تعرفوا رأي الشباب وتطلعوا على انفعالاته واتجاهاته وتبدون فيه رأيكم، في أن واجب الشباب أن يستمر على صياله في ميدان الكفاح السياسي.
ولسنا معشر الشباب نوافق على رأيكم في أن الجيل الماضي قد أنهكه النضال في المعركة الكبرى، ونعتقد أن قولكم هذا ناشئ من تواضع طبيعي، إذا أنكم من ذلك الجيل الماضي فلستم تريدون أن تستأثروا بالمفاخر كلها فتنازلتم عن المجد طواعية واختيارا. فأنا نرى أن ذلك الجيل الماضي قد أخذ على عاتقه أمانة قومية ثقيلة الحمل، ولا يزال قادرا على المضي في سبيله رافعاً علم البلاد موفقا إن شاء الله. ولا نزال نرى رجال هذا الجيل أمثلة نحتذيها ونسير في آثارها إذ لابد للمعركة من قواد وجنود، فإذا كانوا هم القواد ونحن الجنود فليس ذلك بمنقص من مقدار جهادهم، لأن جهاد القواد لا يقل في عظمته ومجده عن جهاد عامة الجند. وإننا ندخر لمستقبلنا أن نكون في آخر عهدنا بالجهاد قوادا عندما يجيء الوقت الذي يكون علينا القيام بالقيادة - وإنه ليقر أعيننا أن نتصور أننا نكون عند ذلك جديرين بالثقة والتقدير، ينظر إلينا شبان عهدنا فيجدوننا لا نزال إخوانا مجاهدين متضامنين معهم في القيام بالواجب
نرى أن الشباب يستطيع أن يؤدي واجبه الوطني في ناحية لا يستطيع أن يجول فيها رجال الجيل الماضي، فإننا أقدر على الاتصال بجمهور الشعب وأخف حركة وأقوى على
احتمال المجهود الجسماني الذي تطلبه الحركة المستمرة، ولهذا نرى أن من واجبنا هذا الاتصال بالجمهور لكي نعمل على نشر المبادئ السياسية السامية والعمل على تنوير الشعب وتثقيفه وتنظيم ما يحتاج إلى التنظيم من حياته العامة.
ويستطيع شبان البلاد ولاسيما طلبة المدارس والكليات أن ينتشروا في الريف والمدن في أثناء العطلة الصيفية ويقوموا على إنفاذ برنامج وطني شامل، وأقترح لهذا أن تقوم دعوة واسعة على تكوين جمعية منظمة من هيئات الطلبة والشبان لتنظيم البرنامج الذي يقوم الشبان على انفاذه؛ وأعتقد أن شباب البلاد إذا تضافر في مدى خمسة أعوام يسميها (أعوام الزحف العام الاجتماعي) على أن يغزو أطراف الريف والمدن بدعاية تهذيبية واقتصادية قوية أمكن أن تخرج البلاد بعد تلك الأعوام الخمسة بفائدة عظمى تساعد أكبر المساعدة على جعل استقلالنا حقيقياً بكل معنى الكلمة، ونكون عند ذلك قد قمنا بحمل الواجب مع الكتلة الوطنية المخلصة.
فأرسل إليكم هذه الدعوة لعلها تصادف قبولا عند إخواني الشبان وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى خدمة بلادنا التي نرجو أن تتضامن على خدمتها كل الصفوف وكل الأجيال
(شاب)
اعتراض الشاب الفاضل وجيه واقتراحه أوجه؛ ورأيه يستحق النظر المتقصي والبحث المفصل. وسنعود إليه في العدد المقبل فنناقش الوسائل إلى تنفيذه
السياسة فتوة هذا العصر
وكتب إلينا الأديب صاحب الإمضاء يقول:
. . . يظهر مما كتبتموه في العدد الماضي أنكم ترون دخول الشبان في الميدان السياسي، وفي هذا على ما أظن توجيه لجهوده في طريق غير مأمون ولا موصل. إذا كان واجبنا الأعظم في الحياة أن نقدم للمجتمع خير ما نستطيعه من إنتاج فلماذا لا نصرف هذا النشاط المتدفق إلى ميادين العلم والأدب والفن والاقتصاد فيؤتي أكله وينتج ثمره، وندع السياسة لأهل الرأي من شيوخ الأمة الذين مارسوها واضطلعوا بها وعرفوا مداخلها ومخارجها؟ - إن السياسة حطمت كثيراً من المواهب الصالحة، وجرف تيارها كثيراً من العناصر النافعة،
فهلا ترون أن يكون شباننا كشبان إنجلترا لا يسمعون بالسياسة إلا بعد أن يقطعوا أكثر مراحل الحياة وتمرسوا بكل عمل من أعمال الأمة؟ إن الموضوع في نظري يحتاج إلى إثارة المناقشة ومعاودة البحث فلعلي أكون المخطئ، ولعلي أكون المصيب. . .
العباسية
محمد زهدي ناصر
ربما كان رأي الكاتب الفاضل يستقيم إذا كانت مصر كإنجلترا في شدة بنيانها وثبات دعائمها وقوة مجتمعها ونضوج أحزابها واطراد سياستها، ولكننا نعيش في شعب ناشئ لا يزال يصارع أطماع القوة من الخارج، وعوامل الضعف من الداخل؛ ومادامت القلوب خانعة والنفوس قانعة والطرق وعرة والأحداث راصدة، فإن العمل السياسي أو التوجيه القومي يبقى أول الواجبات وأنبل الأعمال على الشباب. أن الشاب هو أجلد على انتجاع الطريق المخوف، واكتشاف الموضع المجهول، ومواجهة العدو الكامن، وإيقاظ الشعور الخامد؛ ولا يهمه أن يحترق وهو يضيء، ويغتال وهو يهدي، ويسقط وهو يدافع. ولا ريب أن الشيوخ أنضج رأيا وأنفذ بصيرة وأوسع ثقافة ولكن الشباب هم الأيدي التي تنفذ، والروح التي تنشط، والأجنحة التي تطير، على أن السياسة التي نريدها للشبان أوسع وأشمل مما يتصوره الكاتب الفاضل؛ فالسياسة دعوة وتدبير وقيادة، وقوى البلد المادية والأدبية معطلة من طول الإغفاء والترك؛ والإحساس الشاب هو وحده الذي يستطيع أن يحرك في طبقات الشعب هذا الجمود المزمن بالدعوة الصارخة، والإرشاد الصالح، والقدوة الحسنة، إن السياسة هي فتوة العصر الحديث في الأمم الحديثة؛ وإن الأمم الأوربية التي أضعفها انحلال الخلق، أو فتكت بها أدواء الحرب، لا يجدد الآن ما رث منها ولا يحيى ما مات فيها إلا الشباب
قد يكون صحيحاً أن الشباب لو انصرف إلى الاختصاص في العلم لجاء بأعظم المخترعات ودون خير المؤلفات؛ ولو كتب في الأدب لخلد اسمه بين أعلامه؛ ولو مارس الفن لتألق نجمه في سمائه، ولكن أي علم يفيد أكثر من هذا الذي تنير به للشعوب المغلوبة طريقها إلى الحرية والمجد؟ وأية قصة تكتبها أروع من هذه التي تكون أنت أحد أبطالها؟ وأية
قصيدة تنظمها أبلغ من أن تكون مثال التضحية؟ وأية صورة ترسمها أجمل من هذه الجموع البائسة تعمل على نقلها من حال البؤس إلى حال النعيم؟ وأي طب أنفع من طب الجموع؟ وأي تدوين للتاريخ أتم من أن تصنع التاريخ! قل معي: حيا الله السياسة وأدامها فتنة للشباب!
رسالة العلم
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مراقب مصلحة الكيمياء
كان حظ ارليش من التوقر والرزانة حظ الفقير المعدم، وذلك من حيث سلوكه ومن حيث آراؤه سواء سواء. أما من حيث سلوكه فكان يرسم صوراً من نظرياته في أي مكان اتفق على كم قميصه وعلى نعل حذائه؛ وكان يرسمها على صدر قميصه فستصرخ زوجته، أو على صدر قميص صاحبه إذا خان الحظ هذا الصاحب فلم يستطع أن يفلت قبل أن تقع الواقعة. انعدام فيه الحس بالذي يليق والذي لا يليق فكان كولد صغير أولع بالأذى. أما من حيث آراؤه فكان يقضي الأربع والعشرين ساعة التي يحتويها اليوم يتخيل الأسباب الغريبة المستحيلة ليفسر كيف يتحصن الإنسان من الأدوء، أو كيف نقيس الحصانة، أو كيف تنقلب الصبغة إلى رصاصة مسحورة؛ وخلف وراءه صوراً من هذى الخيالات تجدها في كل بقعة وناحية
وبالرغم من هذا كان أدق الناس في التجارب التي يجربها وكان أول من رفع عقير بالتسخط على صُيَّاد المكروب لتخبطهم في طرائق للبحث مهوشة ولتوقعهم كشف الحقائق العاصية بمجرد سكب شيء من هذا على شيء من ذاك. وفي طلب الدقة قتل إرليش في معمل كوخ في تجربته خمسين فأراً حيثما كان يكتفي من قبله بقتل فأر واحد، وذلك لاستخلاص قوانين بسيطة سهلة تتعبر بالأرقام في سهولة خال أنها تفسر لغز الحصانة وسر الموت والحياة. وهذه الدقة التي لم تنفعه في حل هذه الطلاسم أعانته أخيراً على اصطناع رصاصته المنشودة
- 3 -
هكذا كان إرليش مرحاً فرحاً متواضعاً لا يفتأ يجد النكتة عن نفسه، ويولد الفكاهة من سخافته فينطلق بها لسانه غير باسم ولا هازل، وبهذا كسب الأصدقاء كسباً هينا. وكان ماكرا، فقصد إلى أن يكون بعض هؤلاء الأصدقاء من ذوي الجاه والنفوذ ولم يلبث أن
صار في عام 1896 مديراً لمعمل استقل به وحده؛ وكان اسمه المعهد البروسي الملكي لامتحان الأمصال ومكانه في استجلتس بالقرب من برلين؛ واحتوى على حجرتين صغيرتين كانت إحداهما مخبزاً وكانت الأخرى اصطبلا. قال إرليش: (إننا نخيب لأننا لا نتوخى الدقة في أعمالنا)، يشير بذلك إلى خيبة بستور الصغرى في ألقحته، وخيبة بارنج الكبرى في أمصاله. وألح يقول: لابد من وجود قوانين رياضية تجري على سننها هذه الأمصال وهذه السموم وأضدادها). وظل هذا الرجل يضطرب مع خياله غادياً رائحاً في هاتين الحجرتين المظلمتين مدخناً مفسراً مجادلاً معاتباً مدققاً في القياس ما أمكنته الدقة، بين قطرات من أحسية مسمومة وأنابيب مدرجة مقدرة من أمصال شافية
نعم لابد من قوانين! ويقوم على تجربة يؤديها. ويخرج من التجربة على نتيجة باهرة، فيقول:(أتعلمون لم كانت هذه النتيجة هكذا؟) وإذا به يخطط صورة غريبة للسم تخبر عن مظهره كيف يكون، وإذا به يخطط صورة أخرى لخلية الجسم تنبئ عن مظهرها الكيماوي كيف يجب أن يكون. ويستمر يعمل، وتستمر ألوف الخنازير الغينية تسير إلى موتها صفاً صفاً ويجد أن ما يختلف مع نظريته البسيطة من النتائج أكثر مما يأتلف بها، فلا تروعه هذه الاستثناءات لقاعدته، ويَدِرْ عليه خياله الخصب فيخترع قواعد أخرى تتولى أمر هذه الاستثناءات. ويخطط في سبيل الشرح صوراً أغرب وأعجب. إلى أن وصل إلى أن وصل إلى نظريته الشهيرة عن الحصانة المعروفة بنظرية السلسلة الجانبية فصارت أحجيةٌ مغلقة لا تكاد تفسر شيئاً ولا تَقدر على التنبؤ بشيء. وظل إلى آخر أنفاسه يعتقد بصدق هذه النظرية السخيفة. ودقها النقّادون دقا من كل جانب وفي كل بقعة من بقاع الأرض، وظل متشبثاً بها. وإذا أعوزته التجربة في الرد على منتقديه وإفحامهم بالحجة لجأ إلى المكابرة والمماحكة، وكان يدفع عن نظريته في المؤتمرات الطبية فينهزم فيها فيخرج منها يسب خصومه علانية وهو في طريقه إلى البيت، وفي الترام يرفع عقيرته بالسباب وهو فرح منبسط، فيغصب الكمساري فيعيد السباب تكراراً يتحداه به أن ينزله من الترام إذا هو استطاع
ولما جاءت سنة 1899 كان إرليش بلغ عامه الخامس والأربعين. فلو أنه مات عندئذ لأدخله التاريخ في زمرة الخائبين. فكل المجهود الذي بذله في البحث عن قوانين تجري
عليها الأمصال لم يجئه إلا بصور من نتاج الخيال لم تقنع أحداً، وهي على كل حال لم تفد شيئاً في سبيل تقوية أمصال ضعيف أثرها في العلاج، خاب إرليش فما الذي هو صانعه بعد هذا؟ وفكر وخطط، ثم اتصل ببعض من عرف من رجال ذوي جاه وسلطان، فمالقهم وداهنهم وسلب ما أراد من عقولهم، وإذا بك تجد خادمه الأمين الثمين، السيد المحترم قدريت، قضَّاء الحاجات من كل ما هب ودبَّ، إذا بك تجده قائماً في معمل سيده في استجليتس يحل أجهزته للرحيل عن برلين ومدارسها الطبية وجلبتها العلمية إلى مدينة فرنكفورت على نهر المين. وتسألني ما الذي جذبه إلى هذه المدينة؟ إن الذي جذبه إليها أن بقربها تلك المصانع الشهيرة التي يخرج فيها أعلام الكيمياء تلك الأصباغ الجميلة الشتيتة العديدة عدا لا يناله الحصر، الجميلة جمالاً لا يؤديه الوصف، فكأنها باقات الزهر ازدهاراً وابتساما. وجذبه إليها أن بها أغنياء من اليهود عُرِف عنهم حب المجتمع وسهولة بذل الذهب في خيره. والذهب والذكاء والحظ والصبر أمور أربعة يراها إرليش لازمة لنجاحه فيما قصد إليه. وإذن جاء إرليش إلى فرنكفورت، أو على حد قول السيد المعظم المحترم النافع قدريت:(جئنا إلى فرنكفورت): ويعلم الله ما عانى قدريت في نقل تلك الأصباغ والمجلات الكيماوية المتناثرة بما فيها من هوامش كتبها إرليش وما بصفحاتها من طيات كان يطويها عليها ليرجع بها إليها
أظنك أيها القارئ تخرج من قراءة قصة المكروب هذه على أن صيادة الميكروب القويمة لا يصلح لها إلا نوع واحد من البُحَّاث، باحثٌ يعتمد على نفسه وحدها كل الاعتماد، باحث لا يلقى بالا إلى ما يجده غيره من البُحَّاث، رجل يقرأ الطبيعة ويعاف الكتب. إذن فاعلم أن إرليش لم يكن هذا الرجل، فإنه قل أن نظر في الطبيعة إلا أن تكون ضفدعته المختارة التي حفظها في جنينته فأعانته باختلاف مناشطها على التنبؤ بالجو ما سيكون - وهذه الضفدعة تولى أمرها السيد قدريت. فكان أول واجباته أن يأتيها بكثير من الذباب. . . . . لا، لم يكن إرليش يقرأ الطبيعة بل يقرأ الكتب ومن هذه جاء بكل أفكاره
عاش بين الكتب العلمية، واشترك في كل مجلة كيماوية تخرج في لغة يقرؤها، وفي مجلات أخرى تخرج في عدة لغات لم يكن يقرأها. وتبعثرت الكتب في معمله وانتشرت، فكان يجيئه الزائرون فيقول لهم:(تفضلوا فاجلسوا) فإذا نظروا حولهم لم يجدوا موضعاً
يجلسون فيه. وكانت المجلات تطل من جيوب معطفه - هذا إذا تذكر ولبس معطفاً، وتدخل الخادمة بالقهوة إليه في الصباح فتتعثر في أكوام من الكتب لا تفتأ تكبر يوماً عن يوم. فهذه الكتب والسجائر الكبيرة الغالية استعانت جميعاً على إفقاره. وتراكمت الكتب أكواماً على أريكة مكتبته فعششت الفئران فيها. وكنت تجده إما قائماً في تلوين باطن حيواناته بأصباغه وتلوين ظاهر نفسه بها، وإما قاعداً ينظر في هذه الكتب. وكل ذي بال تجده في هذه الكتب تجده في رأس إرليش ينضج ويختمر ويستحيل إلى تلك الآراء الغريبة البعيدة، ثم تظل مخزونة هناك حتى تستخرجها الحاجة. هكذا كان إرليش يأتي بآرائه. وإنك لن تستطيع أن تتهمه بسرقتها من آراء غيره، فإنها بين دخولها رأسه وخروجها منه تنطبخ انطباخاً يفقدها كل معالمها الأولى
وجاء عام 1901 فبدأ العام الأول من أعوامه الثمانية التي قضاها يبحث عن رصاصته المسحورة. ففي هذا العام قرأ أبحاث ألفنس لفران وهو إن ذكرت الرجل الذي كان اكتشف مكروب الملاريا. وكان لفران أخذ في هذه الأيام الأخيرة يشغل همه بالأحياء الحيوانية الصغيرة المسماة بالتريبنسومات وكانت تدخل إلى الخيول فتعيث في مؤخرها وتصيبها بالداء المعروفة بمرض الورك وكان لفران حقن هذه الشياطين المزعنفة في الفئران فوجدها تقتل من المائة مائة. وجاء ببعض هذه الفئران وهي تعاني المرض فحقنها بالزرنيخ تحت جلدها فوجد الزرنيخ قد أفادها بعض الشيء وقتل كثيراً من التريبنسومات التي تعيث بالفساد فيها ولكنه مع ذلك لم ينج منها فأراً واحداً. وإلى هذا الحد وقف لفران
وما عتم إرليش أن قرأ هذا حتى صاح: (هذه فرصة عظمى، هذا مكروب أنسب ما يكون للبحث، فهو كبير يرى في سهولة، وهو يربى سهلاً في الفئران، وهو يقتلها دائماً فلا يخيب مرة واحدة. فأي مكروب خير من هذا في البحث عن الرصاصة المسحورة التي تقتله! فمن لي بصبغة تقدر على شفاء فأر واحد لا أكثر شفاء شاملا كاملا!)
(يتبع)
أحمد زكي
القصَصُ
من القصص العربي
ثقيل ما أظرفه
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
قال الفتى لصاحبه وهو يقص عليه تاريخه ويروي له من حوادثه: لقد نشأت يا صاحبي في البصرة، وقد كان والدي من أمجاد البادية، وأجواد العرب، قضت عليه شؤون الدنيا بالنزوح إلى ذلك المصر، يوم أن شب على جدرانه النعيم، وأشرقت في محلاته أنوار الحضارة، فنسلت إليه صنوف الناس من كل حدب، وفيهم طالب الكسب بالتجارة، والراغب في العلم بالتعلم، والطامع في الصلة بالشعر، والحريص على متاع الحضارة بالبذل، ولست أدري لأي أمر من هذه الأمور نزح والدي عن موطنه، ولكني أدري أنه ما كان في حاجة إلى مال، ولا هو من أهل الرغبة في العلم، فلعله كان لا يطمع إلا في نعيم الحضارة الوارف، يروي به جسمه ويمتع به نفسه. على أني سمعت بأنه كان مطلوباً بدم في إحدى القبائل فربما كانت هجرته فراراً من العدو وخوفاً من الانتقام
وليس تحقيق هذا مما يعنيني، وإنما أريد أن أقول لك: إن والدي لم يعرف للحضارة أساليبها، فعاش في حياته الجديدة على أوضاع الحياة القديمة، فالامتهان في نظره مهانة، والعمل في تقديره ذلة، والمال في يده شيء حقير تافه يبذره باسم الجود، ويسرف فيه بلفظ الإنفاق، ففي كل عشية له مجلس عامر بالغناء والشراب، وفي كل ضحوة سامر حافل بالإخوان والأصحاب، وبين هذه وتلك موائد ممدودة، وولائم قائمة، كأن أيام عندنا عرس دائم، فكان أن درجت في أعطاف هذا البذخ، ومررت على هذه الحياة اللاهية المسرفة حتى كنت فتى يافعاً ولم تعرف الأيام مني غير اللهو المسرف، والتبذل المفرط، والبطالة المستهترة. ليس في تفكيري أن أعمل، بل ليس من همي إلا أن أشبع الجسد من لذائذ الحضارة ومتاعها الموفور
ومضت السنون بعضها في أعقاب بعض، ونحن على هذه الحال من السرف والبطالة، وكان لابد للمعين أن ينضب، فقل المال كثير، وتضاءلت الثروة الضخمة، ولم يلبث والدي
أن مات بعمره، وإذا كان لي أن أنسى فلن أنسى ما حييت يوم أن عدت من قبره أتكسر على نفسي كما يعود القائد المخذول من ساحة الحرب، أحصي المال المتروك فلا أقع على شيء، وأتلمس الأصحاب فلا أقف لهم على ظل، وأنظر إلى نفسي فأجدني كالآلة المعطلة لا أصلح لشأن من شؤون الحياة، حتى ليرهقني سد الرمق في مجتمع صاخب عجاج يتدافع أهله بالمناكب في طلب الرزق، ويقتتلون على الفوز باللقمة الحقيرة، وأن من الصعب على نفسي أطلب العيش من مروءات الناس، وأن أقيم الأود من فضلهم ومعروفهم. لأن ذل السؤال صعب على نفس يجري في عنصرها إباء البادية، وتكنفها كرم النشأة، وقد قيل: إن من طبع الكريم أن يخفى عسرته ويكتم شدته:
يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا
…
والوجه غمر بماء البشر ملآن
ويعلم الله لقد كتمت ما استطعت، وصبرت حتى أرهقني الصبر وكنت كل يوم أؤمل في غد فلا يكون الغد إلا أشد. آه يا صاحبي لشد ما ضمني الدهر ضماً لا رحمة ولا شفقة! ولشد ما عركتني الأيام عرك الرحى بثفالها كما يقولون! ولا أكتمك أني فكرت في الخلاص من ذلك بالموت، ولكني خفت أن يقول الناس في شأني: جبان فر من معركة الحياة، ومارق تمرد على حكم القدر؛ وعملت على أن أصل نفسي بموطن العشيرة في البادية، ولكني تذكرت الدم الذي كان مطلوباً به والدي فخشيت الهلاك من تلك الناحية، لأن البدوي حريص على ثأره مهما طال به الزمن، حتى ليطلبه في الأجيال المتعاقبة
فلما اضطرب بي الفكر، وتبلبل مني الخاطر، سألت صاحباً من أهل الرأي لعله يشير بما ينفع، فقال لي: لو ذهبت فتسببت. فقلت: ما لي صناعة، ولا عندي بضاعة! فقال: على كل حال: انك امرؤ فيك ظرف، ولك لطف، وانك لو انحدرت إلى بغداد لا تعدم لك في مجالسها السامرة، وأنديتها الساهرة. فرأيتها نصيحة نافعة من الرجل، وقلت لعل الأخذ بها يجدي، فأني أحفظ عن والدي شيئاً من طرائف الأعراب وقصص البادية. ولقد أكسبتني الحياة السالفة دراية بأداء الحديث، اختار له موضعه، وأخرجه مخرجه، وأعرف كيف أصل به إلى نفس السامع، وأستطيع أن أجري النادرة الطيبة فأهز القلوب وأحرك المشاعر. على أني قدرت في ذلك السفر منأى يسترني عن أخوان أكتم عنهم حالي، ويخجلني أن يروني أتدنى في طلب الرزق، فعزمت على تحقيق الفكرة، ولم يبخل على
الرجل بزاد السفر، وسرعان ما كنت في الركب السائر والقافلة الراحلة.
هبطت بغداد يا أخي أجهل ما أكون بمسالكها ومحلاتها، فأخذت في السير على هدى السابلة، وإرشاد المارة، حتى انتهيت إلى دارة الخلافة، ونزلت بدار الضيافة، وكأن نحس الطالع قد سبقني إلى ذلك البلد الأمين، إذ علمت أن الخليفة المأمون قد حرم الفناء وشدد فيه، وأمسك على الناس أبواب اللهو والاستهتار، فانفضت الملاعب والمشاهد، وأعتمت الأندية والسوامر، وصار ليل المدينة ليلاً محلولكاً مملولا، لا يرن به طاس ولا يحن فيه مزهر، فأيقنت بنحس السفرة وحبوط المسعى، وتمثلت لي الدنيا في مثل كفة الحابل، وهانت علي النفس العزيزة، إذ لم أجد أمامي طريقاً للعيش غير التساقط على بيوت أهل الفضل والخير، أتدسس إلى موائدهم، واتقحم على ولائمهم، وأنف في طريقهم، وأجري في ركبهم، فلم تمض أيام حتى كنت قد وقفت على جميع أعيان المدينة ووجوه القوم، وعرفت مراتبهم في الجود والخير، وتبينت أساليبهم في الحياة ونظام العيش، وعرفوني هم كذلك متطفلا بغيضاً وفضوليا ثقيلا!
فأني لفي يوم خرجت فيه إلى الجسر، علني أجد أميراً أتبعه، أو كبيراً أمتاح من فضله، فلم أذهب غير بعيد حتى رأيت إسحاق الموصلي يتحدث إلى علي بن هشام بكلام يخفيه، فأرهفت أذني أتسمع فسمعته يقول: لقد زارتني اليوم فلانة يا علي، وهي كما تعلم من أحسن الناس غناء، وأطيبهم محضراً، فبحياتي إلا كنت اليوم عندي، فنجلو السمع ونمتع القلب، وننتهزها فترة من فترات العمر التي حرمناها، ونعيدها ذكرى من ذكريات الأيام الماضية، فوعده بالحضور ومضى كل لسبيله. فقلت في نفسي: يا لها من فرصة سانحة لابد أن أحتال في اغتنامها! وأخذت أفكر وأقدر، وأسعفتني الفكرة بالحيلة النافذة، فملت إلى من أعارني الزي النبيل والمركب الفاره، ومضيت إلى منزل علي بن هشام فقلت لحاجبه: عرف الأمير أن رسول صاحبه إسحاق الموصلي بالباب، فدخل الحاجب وخرج مسرعا يحمل الأذن بالدخول، فدخلت على علي فرحب بي أجمل ترحيب، فقلت له: صاحبك إسحاق يقول لك إنك تعلم ما اتفقنا عليه فلم تأخرت عني؟ فقال: الساعة وحياتك نزلت من الركوب، والساعة أغير ثيابي وأوافيه، فأمهله قليلاً وإني على أثرك.
فاستويت على دابتي، ووافيت منزل إسحاق، فقلت للحاجب عرف الأمير أني رسول علي
بن هشام، فدخل الحاجب وخرج مسرعاً يقول: ادخل يا سيدي جعلت فداك، فدخلت فسلمت، فنهض إلي إسحاق في بشاشة، فقلت: أخوك علي يقرئك السلام، ويقول لك الساعة نزلت من الركوب، وقد غيرت ثيابي وتأهبت للمسير تحقيقاً لوعدك فما ترى؟ فقال: قل له يا سيدي قتلتنا جوعاً، ونحن من انتظارك على أحر من الجمر، فبحياتي إلا ما أسرعت
فعدت إلى منزل علي، وقلت للحاجب عرف الأمير أن صاحبه أمرني أن لا أبرح أو يجيء، فقد طال عليه الانتظار، وأضر به الجوع. فأسرع علي فغير ثيابه، وركب دابته، وسار وسرت من خلفه، حتى نزل بباب إسحاق فنزلت معه، وبعد السلام أخذنا مكاننا على المائدة. وإسحاق لا يشك أني أخص الناس بعلي، وعلي لا يشك أني أخص الناس بإسحاق، فبالغ كل في إكرامي وإيثاري باللقمة الشهية، والهبرة الوثيرة. ولما قضينا حق الخوان أو حق البطن انصرفنا إلى الشراب، وخرجت إلينا جارية كأن بشاراً كان ينظر إليها من وراء الغيب إذ يقول:
تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت
…
وتستفز حشا الرائي بأرعاد
كأنما صورت من ماء لؤلؤة
…
فكل جارحة وجه بمرصاد
ولم تلبث أن حملت عودها وغنت صوتاً فعلت فيه ما أحل الله وحرم، ودارت الأقداح، فشعشعت القلوب، وأيقظت العواطف وأفعمت النفس بالصفو والأنس، وبقينا في هذا حتى هم النهار بالتصرم، وألح علي البول فنهضت إلى الخلاء، فسمعت علياً يقول لإسحاق: ألا ما أخف روح هذا الفتى يا سيدي وما أطيب نوادره! فمن أي وقت كان لك؟ فقال إسحاق: أو ليس هو بصاحبك؟! قال: لا وحياتك ولا أعرف أني رأيته قبل اليوم، وأنه جاءني برسالتك يستعجلني للحضور وقص قصته في ذلك، وقص إسحاق مثلها، وداخله من الغيظ ما لم يملك معه نفسه، فقال: أنها لكبيرة يا صديقي على النفس، طفيلي يستجرئ على فيستبيح النظر إلى حرمي والدخول إلى داري! أبلغنا من الهوان إلى هذا الحد، وبلغت الصفاقة بهذا وأمثاله إلى هذا القدر؟ والله لا بد أن أنتقم. وسأعرف كيف أصون بيتي من كل رذل ثقيل. يا غلمان! السياط والمقارع. أعدوا عدتكم، واحشدوا جمعكم. وقامت في الدار جلبة ارتجت لها الجدران، وارتاعت لهولها الجيران، وكل هذا وأنا في الخلاء أفكر وأقدر؛ وكانت عزيمة صارمة، إذ خرجت على القوم في ثبات واطمئنان، كأني لا أعبأ
بأمرهم، ولا أحفل بشأنهم، وأقبلت على إسحاق فقلت: وماذا بقي من جهدك بعد ذلك؟ ألا ويل لك يا رجل ثم ويل! لقد كان أولى بك أن تعرفني قبل هذا كله، فكنت هونت على نفسك هذا كله؟! قال: ومن تكون؟ قلت أنا - كما تقول - الثقيل البغيض المتطفل الذي اجترأ على بيتك واستباح النظر إلى حرمك. لا: بل أنا الذي أعددت له السياط والمقارع، وانتدبت لضربه الجلادين، وأقسمت بكل محرجة ألا تتركه إلا لحماً من غير دم، وعظماً من غير لحم، ولو علمت الواقع لعلمت أني أنا القادر الذي عفوت، والقوي الذي سامحت، وأني لا أستطيع أن آخذك بجرمك فأدفعك إلى الهلاك أنت وصاحبك دفعاً. فشده الرجل بما سمع، فقال: ولكن بربك ألا أخبرني من أنت؟ قلت. أنا صاحب خبر أمير المؤمنين وعينه والأمين على سره، ووالله لولا تحرمي بطعامك، وممالحتي بحديثك، وأني أعرفك أنت وصاحبك على الإخلاص للخليفة والطاعة له، لتركتكما في عمى من أمري حتى كنت تعرف عاقبة حالك، وإقدامك على ما فيه هلاكك. فنهض إلي الرجلان يسكتاني في استعطاف، ويعتذران في انكسار. وقال إسحاق: فديتك يا سيدي! إنّا لم نعرف حالك، ولم نتبين أمرك، فلنا العذر، ونسألك الصفح، ونضرع إليك في كتمان ما كان، وأنت بنا المحسن المجمل. فوعدتهما بالخير وقلت: لا يخون العهد إلا لئيم وحاشاي. وجاء وقت الانصراف فخلع علي إسحاق ثياباً فاخرة، وأمر لي بمركب نبيل، ودفع إلي بصرة فيها ثلاثمائة دينار، ونهض في وداعي حتى مضيت.
فلما كان من الغد دخل علي بن هشام على المأمون فقال: كيف خبرك يا علي في أمس؟ قالها على حسب ما يجري في السؤال وقد كانت عادته، ولم يفطن لها علي فتغير لونه، وانخذلت به رجلاه، إذ لم يشك في أن الحديث قد رفع إليه، فأكب على البساط يقبله ويقول: يا أمير المؤمنين العفو! يا أمير المؤمنين! الصفح الجميل! يا أمير المؤمنين الأمان! فوالله لن تعود، قال: لك الأمان ولكن بماذا جئت يا علي؟ فأخبره الخبر، فضحك المأمون حتى كاد أن يغشى عليه، وقال: إنه (لثقيل ولكن ما أظرفه)، وأرسل في طلب إسحاق فلما حضر قال: هيه يا إسحاق؟ كيف كان خبرك أمس؟ فأخبره كخبر علي بن هشام، والمأمون يضحك ويصفق من العجب، ثم قال بحياتي ما في الدنيا أملح من هذا، فاطلب الرجل وجئني به. واجتهد إسحاق في ذلك حتى وجدني، فكنت على ما ترى يا صاحبي في المقدمين من ندماء
المأمون، والأخيار من أصفيائه، ولا تنس أن هذه قد حملت المأمون على أن يرد على الناس حريتهم، فأباح لهم الغناء، وتركهم يأخذون بأسباب الأنس والسرور
محمد فهمي عبد اللطيف
البَريدُ الأدَبيّ
الجمعية الطبية ومشكلة تحديد النسل
عقدت الجمعية الطبية المصرية عدة اجتماعات لبحث مشكلة تحديد النسل. كان آخرها اجتماع يوم الثلاثاء الماضي (4 مايو)، وقد اهتمت الجمعية الطبية بإثارة هذا الموضوع وبحثه مذ ظهر رأي شرعي لفضيلة مفتي الديار المصرية خلاصته أن تحديد النسل بالوسائل المشروعة جائز في بعض الأحوال والظروف القاهرة؛ ورأت الجمعية الطبية أن تأخذ البحث بيدها وأن تنيره لا من الوجهة الطبية فقط بل من جميع نواحيه الأخرى الاجتماعية والاقتصادية؛ ولهذا الغرض عقدت أربع جلسات كبيرة، ألقى فيها عدد كبير من الأطباء والمفكرين والاقتصاديين والاجتماعيين آراءهم؛ وكان اتجاه هذه المباحث يرمي إلى وجه العموم إلى تبرير تحديد النسل نزولاً على الضرورات الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي لا مفر من الخضوع لمقتضياتها. وقد ظهر من الإحصاء الأخير أن سكان مصر في زيادة مضطردة مؤكدة وأنه إذا لم توفق البلاد إلى تنمية مواردها الزراعية والإنتاجية بسرعة توسيعاً يتفق مع نمو السكان، فإن مصر ستواجه في المستقبل القريب مشكلة اقتصادية واجتماعية خطيرة؛ ومن جهة أخرى فإن مقتضيات الحياة العائلية توجب أحياناً أن يقف إنتاج النسل عند حدود معينة، وإلا كان مستقبل العائلة مهدداً بالأزمات الاجتماعية هذا؛ إلى مقتضيات العوامل الصحية، وظروف الحياة الجديدة التي تجعل من المرأة أكثر من آلة للإنتاج البشري. هذه خلاصة الآراء والنظريات التي عرضت وشرحت في الجلسات المذكورة؛ وستعنى الجمعية الطبية بجمع كل ما قيل وكتب عن هذا الموضوع الخطير ونشره في كتاب خاص وهي عناية تشكر عليها
جائزة مختار
كانت لجنة جائزة المرحوم مختار مثال مصر الكبير قد جعلت موضوع جائزتها هذا العام (الفلاحة) فتقدم إلى المباراة أكثر من عشرين مثالاً من الفنانين الشبان، وقدموا تماثيلهم إلى اللجنة، وكلها تعبر عن الفلاحة المصرية بأشكال ومواقف مختلفة. وقد اجتمعت اللجنة أخيراً في قاعة جمعية المهندسين الملكية برآسة معالي محرم باشا وزير الأشغال وحضور السيدة هدى هانم شعراوي رئيسة اللجنة الفخرية والعاملة الحقيقية لتأسيسها؛ واستعرضت
اللجنة التماثيل المقدمة وانتهت إلى منح الجائزة الأولى وقدرها 15 جنيهاً إلى المثال فتحي محمد علي، والجائزة الثانية وقدرها 10 جنيهات إلى المثال أحمد محمد صدقي أفندي. ومنحت ثلاث جوائز صغيرة أخرى إلى ثلاثة من المتقدمين. وفي بقاء هذه اللجنة وقيامها بمهمتها النبيلة إلى اليوم وهي العمل على إحياء ذكرى مثال مصر الكبير مختار وتشجيع الفن الذي نبع فيه، وتعهد الغرس الذي غرسه ما يبعث على الغبطة، ويحمل على الثناء والتقدير لعواطف الوفاء التي أحاطت اللجنة بها ذكرى المثال الراحل
ذكرى تيودور بلهارس
سبق أن أشرنا إلى ما اعتزمته الجمعية الطبية المصرية من تكريم ذكرى العلامة الألماني تيودور بلهارس، مكتشف ميكروب البلهارسيا لمناسبة مرور خمسة وسبعين عاماً على وفاته؛ وذلك في التاسع من الشهر الجاري. ونذكر الآن بهذه المناسبة كلمة عن حياة هذا العلامة الراحل؛ فقد ولد في سنة 1825 في سجمارنجن (بألمانيا) ودرس الطب في فريبورج وتبنجن - وعين في سنة 1849 أستاذاً بجامعة فريبورج. وفي العام التالي قدم بلهارس إلى مصر برفقة أستاذه الدكتور جريزنجر الذي انتدب طبياً لوالي مصر، وعهد إليه بوضع نظام طبي لمصر. وفي سنة 1852 استقال جريزنجر من منصبه وخلفه بلهارس كرئيس للقسم الطبي بالداخلية. وفي سنة 1855 انتدب أستاذاً بمدرسة الطب، وبعدئذ بعام تولى كرسي التشريح بالمدرسة. وفي أثناء ذلك عكف بلهارس على درس جراثيم الأمراض المتوطنة، ووفق في سنة 1856 إلى اكتشاف مكروب المرض الذريع الذي يفتك بملايين المصريين وسمي (البلهارسيا) وبعد ذلك بثلاثة أعوام نشر بلهارس رسالة عن مسألة الأوبئة بمصر. وكان بلهارس أثناء ذلك يعاني من جراء الطقس وشدة الحرارة. وفي أوائل مايو سنة 1862 أصابته نزلة معوية قوية، فتوفي في التاسع من هذا الشهر ودفن بمصر القديمة بمقبرة الآباء الفرنسيسكان، وفي سنة 1930 عثر الدكتور كايمر على قبره بعد أن اختفى زمنا، وتعاون مع بعض زملائه ولاسيما الدكتور مكس مايرهوف على نقل رفاته وإيداعها كنيسة المقبرة
المبرد أيضاً
منقول الأستاذ (المرصفي) هو رواية ياقوت في كتابه (إرشاد الأريب) وقد أشرت إلى ذلك. وأضيف إلى تحقيق ابن خلكان، وحكاية (برد الخيار) - وقد رواها كثيرون منهم القيرواني في كتابه (جمع الجواهر في الملح والنوادر) - هاتين الروايتين:
قال ابن عبد ربه في كتابه (العقد)
سوء الاختيار أغلب على طبائع الناس من حسن الاختيار؛
ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي - على علمه باللغة ومعرفته باللسان - وضع كتاباً سماه بـ (الروضة) وقصد فيه إلى أخبار الشعراء المحدثين، فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، فما أَحسبه لحقه هذا الاسم (المبرد) إلا لبرده، وقد تخير لأبي العتاهية أشعاراً تقتل من بردها)
وفي (تاريخ بغداد) لابن الخطيب:
قال أبو الفضل بن طومار: كنت عند محمد بن نصر بن بسام فدخل عليه حاجبه فأعطاه رقعة وثلاثة دفاتر كباراً، فقرأ الرقعة فإذا المبرد قد أهدى إليه كتاب (الروضة) وكان ابنه عليّ حاضراً فرمى بالجزء الأول إليه، وقال له: انظر يا بني، هذه أهداها إلينا أبو العباس المبرد، فاخذ ينظر فيه، وكان بين يديه دواة، فأخذها عليّ ووقع على ظهر الجزء شيئاً وتركه وقام. فلما انصرف، قال أبو جعفر (محمد بن نصر) أروني أي شيء قد وقع هذا المشئوم! فإذا هو:
لو برا الله المبرَّدْ
…
من جحيم يتوقَّدْ
كان في (الروضة) حقاً
…
من جميع الناس أبردْ
وعصر ابن عبد ربه وعصر ابن الخطيب هما أقرب إلى زمن المبرد من وقت ياقوت. وذلك اللقب المشهور هو الذي جلب في قولي ابن عبد ربه وعلىَّ تلك الدعابة.
وأن هذا الإمام العظيم لخليق بأن يشغلني ويشغل حضرة الأديب (محمد فهمي عبد اللطيف). وصاحبُ (الكامل والاقتضاب) وغيرهما جدير بأن يذكر - في كل وقت - بخير أو شر. . .
(أحد القراء)
وفاة الأب لامنس
توفي أخيراً المستشرق البلجيكي الأب هنري لامنس، وكان هذا الحبر العلامة من خيرة المستشرقين الذين انقطعوا لدراسة العصر الأموي، وله فيه عدة مؤلفات قيمة. كان مولده في البلجيك سنة 1862، وقد نزح منذ حداثته إلى لبنان واعتنق الرهبنة وانتظم في سلك الأباء اليسوعيين ودرس العربية وعلومها دراسة مستفيضة
ولعلنا نوفق في عدد تال إلى الإفاضة في تاريخ حياته ووصف مؤلفاته
رسَالة النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
للأستاذ الغنيمي
- 4 -
نحب أن نبدأ هذه الكلمة بالإشارة إلى غلطة هامة من أغلاط الفصل الثالث وهي قول الأستاذ صروف إن إسماعيل كان (يستقبل ولديه وأحدهما الآن رئيس المجلس الخاص والآخر وزير المالية والحربية والأشغال العمومية، وبذلك جعل لإسماعيل ولدين وهو غير صحيح، وجعل واحداً منهما رئيس المجلس المخصوص، وجعل الثاني وزيراً للمالية والحربية والأشغال العمومية مجتمعة، فهل تأكد الأستاذ صروف حين كتب ذلك أن وزارات المالية والحربية والأشغال كانت كلها مجتمعة لوزير واحد من أبناء إسماعيل؟ إذا كان البحث قد دله ذلك فأراد أن يصحح قول المؤلف فلماذا لم يشر إلى ذلك صراحة وإذا لم يكن فلماذا غير قول المؤلف
، ،
ولو كانت وزارات المالية والحربية والأشغال العمومية اجتمعت كلها لوزير واحد من أبناء إسماعيل لما قال المؤلف بصيغة الجمع ولعله ظن أن لفظ لا يستعمل إلا للإشارة إلى اثنين ونحن نقول إنه للإشارة للجمع كما يستعمل للإشارة إلى المثنى.
ننتقل بعد ذلك للفصل الرابع فنقول إن حظه من الحذف والتغيير كحظ الفصول الثلاثة السابقة. ولقد أحصينا فيه أكثر من خمسين غلطة مختلفة الأنواع نكتفي بذكر أمثلة منها:
(1)
قال المؤلف يصف موقف وزارة الخارجية البريطانية من مشروع قناة السويس:
، ،
لم يترجم الأستاذ صروف هذه العبارة كلها إلا بقوله: (وعليه شرعت وزارة الخارجية
البريطانية في تحريض الباب العالي واستفزاز همته) وأين هذا من قول المؤلف (وكذلك أخذت دوننج استريت تضغط على الباب العالي مدفوعة إلى ذلك بهذا الباعث الذي ذكرناه وإن كانت في الوقت نفسه قد بقيت مخلصة كل الإخلاص لإسماعيل لأن العمل الذي قامت به يتفق مع خططهما المشتركة
(2)
وقال المؤلف عن فرديناند دلسبس:
ولكن الأستاذ صروف أغفل الجملتين وأولاهما على الأقل ذات معنى جديد لم يشر إليه من قبل وهو إن حبه فرنسا مما يشرفه ويعلي من قدره.
(3)
وقال المؤلف يصف الوزير المصري نوبار باشا:
،
فقال الأستاذ صروف مترجماً هذه العبارة (على أن نوبار باشا لم يكن ممن يسهل إهانتهم وعدم الاعتداد بهم، وبذلك أضاف من عنده لفظ الإهانة وهو عمل لا يليق وحذف في نظير إضافتها الجملة الثانية كأن المترجم يجوز له إذا أضاف من عنده عبارة أن يحذف في نظير ذلك عبارة أخرى. ومعنى العبارة الإنجليزية: (أن الوزير المصري لم يكن ممن يسهل إغفالهم (أو الاستهانة بأمرهم إذا شاء) من غير أن يقابلوا هذا العمل بمثله فلم يسعه إلا أن يهاجم خصومه كما هاجموه).
(4)
وقال المؤلف:
. .
فترجم الأستاذ صروف هذا كله بقوله (وعليه)
(5)
وقال المؤلف يصف ما لقيه إسماعيل من الصعاب في موقفه بين فرنسا وإنجلترا:
. .
فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله (وكان سمو الخديو. . . مضطراً إلى السير بحكمة بين رغبات فرنسا التي كانت تدافع عن امتياز دلسبس) نحن لا نحتم على الأستاذ أن يترجم إلى قراء العربية ولا نحتم عليه أن يشير إليهما إشارة بسيطة في هامش الكتاب، ولو فعل لجمل بذلك ترجمته لأن القصص اليوناني القديم أصبح قصصاً عالمياً ولا مانع من أن
يشار إليه في الكتب العربية، ولكننا كنا ننظر منه أن يترجم العبارة الأخيرة التي وصف بها المؤلف الامتياز. ولو قال (وكان على الوالي أن يتبين طريقه بين ثلاث قوى شديدة الخطر أولها فرنسا التي كانت تناضل عن امتياز أسس على الصداقة القوية بين سعيد ودلسبس فكان لذلك مجحفاً بحق مصر. . . الخ
15
لم ير الأستاذ صروف في هذه العبارة ما يستحق الترجمة وإلا فلماذا أغفلها؟
(7)
وقال المؤلف مشيراً إلى بيع حصة مصر في أرباح القناة
قيل في ترجمة هذه العبارة من أولها إلى آخرها (وكان المسيو بلنيير والماجور بارنج هما الموكول إليهما تصريف الأمور في مصر عندما جمعت مصر) فهل هذا هو كل ما قاله المؤلف، أو أن الباقي لا يستحق أن يترجم؟
(8)
ومن العبارات التي اقتضت أو لخصت بعض معانيها كل الفقرة الواردة في ص61 من كتاب الأستاذ صروف وفي ص59 من الأصل الإنجليزي. وقد تركت من هذا التلخيص عدة معان. ولما كان إيراد الأصل والترجمة يشغل نحو صحيفة من صحف الرسالة فأنّا نكتفي بالإشارة إليها ليرجع إليها القارئ إن شاء
(9)
ثم نرجو أن ينظر القارئ معنا إلى العبارة الإنجليزية الآتية والى ترجمة الأستاذ صروف ليرى الفرق بين المعنيين قال المؤلف
، ، ، - ، ،. .
وقال الأستاذ صروف في ترجمتها (ولو أدركها يومئذ ما أتهم إسماعيل بأنه لم يترك لمصر عند تنزله عن العرش أية حصة من أرباح ترعة السويس. والشيء الوحيد الذي كان يحق لملنر أن يفعله هو أن يقف بيانه وعارضته على أن. . .) أن الجملة الأخيرة في هذه العبارة وهي قول الأستاذ صروف (والشيء الوحيد الذي كان يحق لملنر أن يفعله) بعيدة كل البعد عن الأصل الإنجليزي الذي معناه (ونظن أنه لو وجه نظره إلى ذلك لوقف بيانه وعارضته على إثبات أن. . .) ويظهر أن الأستاذ صروف قد فاته أن هذه الجملة هي جواب ثان للشرط الوارد في أول الجملة الأولى وهي ولو نبه اللورد ملنر إلى ذلك أو ولو
أدركها كما يقول المترجم. فليس هناك إذن شيء يحق لملنر أن يفعله.
(10)
وهذه الغلطة نفسها أي عدم انتباه الأستاذ صروف إلى وجود جواب شرط ثالث جعله يقطع الجملة الآتية من سابقاتها ويغير معناها تغييراً كلياً قال (على أن الهفوة التي ارتكبتها تلك اللجنة في مارس سنة 1880 كانت عظيمة جداً إلى حد أنها لم تجد مناصاً من إلقاء اللوم على الخديو المعزول) مع أن معنى هذه العبارة الحقيقي: (ولو وجه نظره إلى ذلك لحاول من غير شك محاولة جدية أن يلقي اللوم على الأمير المنفي لأن الغلطة التي ارتكبت في مارس سنة 1880 كانت غلطة شنيعة) ولذلك قلنا في مقالنا الأول إن إدراك العلاقة القائمة بين الجمل الإنجليزية شرط أساسي للترجمة الصحيحة.
(11)
وإلى القارئ مثال صغير من عدم التدقيق. قال المؤلف على لسان إسماعيل
فأضاف الأستاذ لفظ والأرجح في ترجمته لهذه العبارة مع أن المؤلف يقول (إن هذه الأسهم لن تدر على أي ريح) بصيغة التأكيد. إن لفظاً واحداً يزيد أو ينقص يكفي في بعض الأحيان لتغيير المعنى.
(12)
قال المؤلف ينتقد عمل المراقبة الثنائية
، ،
فلم ير الأستاذ في هذا المعنى شيئاً يصح أن يترجم
(13)
قال الأستاذ في ص65 من الترجمة (وعند ما أرغم ذلك العاهل على التنزل عن عرشه في سنة 1879 كان الماجور يارنج هو المراقب البريطاني العام وصاحب السلطة المطلقة في لجنة المراقبة الثنائية.)
وكلمة كان في هذه الجملة كلمة مشئومة أفسدت المعنى لأن تارنج لم يكن مراقباً عاماً وقت خلع إسماعيل والمؤلف يقول:
. . 1879
ولقد كان عدم الدقة في ترجمة كلمة هو السبب في هذا الخطأ التاريخي
(14)
قال المؤلف تعليقاً على التهم التي وجهها ملنر إلى إسماعيل باشا
فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله:
فهذا القول يدل على أن للمسألة وجهة أدبية. والمعنى الحقيقي لهذه العبارة هو (أن هذا الاتهام يطرح الأمور المالية جانباً ويضع أمامنا مسألة أخلاقية)
(15)
يشير المؤلف في ص65 في الأصل الإنجليزي إلى ما استخلصه إسماعيل من شركة القناة وما أنفق من مال للدفاع عن الفلاح ويقول أنه لو وجد ناقد لكتاب لورد ملنر لتجلت للناس حقيقة هذا العمل المجيد.
ولو وجد هذا الناقد أيضاً للفت نظر الناس إلى أن استرداد ستين ألف هكتار من أرض مصر الزراعية من براثن شركة القناة لم يكن من الأعمال المزرية. . . الخ)، ولكن الأستاذ صروف قد فاتته هنا أيضاً ارتباط الجمل بعضها وإن الجملة السابقة هي أيضاً جواب شرط ثان للجملة التي قبلها في آخر الفقرة السابقة
فقال في ترجمتها (وكان يجدر باللورد ملنر أن يذكر حسنة أخرى من حسنات إسماعيل وهي استنقاذه ستين ألف هكتار من الأراضي الزراعية من بين مخالب الشركة وهي مجمدة لا يجوز إغفالها) والفرق شاسع بين ما قاله المؤلف وما قاله الأستاذ صروف لأن المؤلف يقول:
نقول مرة أخرى أن إدراك العلاقة بين الجمل شرط أساسي للترجمة الصحيحة.
(15)
16 ، 000 ، 000 ، 10 ، 000 ، 000
هذه المسألة الحسابية لم يعن الأستاذ بترجمتها
(16)
وإلى القارئ مثل من الاضطراب في العبارة يحار بسببه القارئ في فهم المعنى. قال الأستاذ صروف:
(فإذا نظرنا إلى ذلك الامتياز باعتبار الأراضي الخصبة الآهلة بالسكان التي نشأت على ضفافها وباعتبار أنها تقوم بحاجات المدن ومقتضيات الري كانت قيمتها أعظم مما قدرت به يومئذ بحيث إذا أردنا أن نحكم على إسماعيل من وجهة علاقته بشركة السويس حكماً منصفاً لم يكن لنا بد من تقدير هذه القيمة. على أن محاسبتنا لإسماعيل في هذا المقام هي من الوجه الأدبي، وعليه فيكاد يكون من المعتذر تقدير الخدمة التي أسداها ذلك العاهل إلى
بلاده.
أيدري القارئ حقيقة ما يريد أن يقوله المؤلف. أنه يريد أن يقول: (وهذا الامتياز وهو حق الشركة في أن تورد الماء إلى مجتمع غني كبير العدد مطرد النماء ليستخدمه في حاجات المدن وفي شؤون الري، هذا الامتياز يساوي الآن أضعاف المبلغ الذي يقوم به. ولو كنا نريد أن نضع أمام القارئ الحساب الختامي لعلاقة إسماعيل المالية بقناة السويس لوجب علينا أن نضع بدل هذا القدر المجهول رقماً حقيقياً معلوماً، لكن بحثنا الآن مقصور على تلك الآثار التي لا تدركها الحواس والتي تسمى بالعوامل الأخلاقية، فإذا نظرنا إلى المسألة من هذه الوجهة كان من المستحيل أن نغلو في تقدير فضل إسماعيل في الاحتفاظ بهذا المرفق العام الخطير خالصاً لمصر).
ونكتفي بهذا عن ذكر العبارة الإنجليزية لأنها طويلة تشغل كثيراً من فراغ هذه الصفحات القليلة التي تسمح لنا بها هذه المجلة. ونحن نؤكد للقراء أن هذه الترجمة الأخيرة تكاد تكون ترجمة حرفية للأصل الإنجليزي.
(16)
قال المؤلف عن النزاع القائم في الولايات المتحدة بين مصلحة الأمة والمصالح المكتسبة لشركات الاحتكار
فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله (فالكفاح ضدها هو كفاح في سبيل الخير العام) والمؤلف يقول: أن (الكفاح القائم هناك كفاح بين الصالح العام والحقوق المكتسبة)
نكتفي اليوم بهذا القدر لنبدأ بذكر أغلاط الفصل الخامس في العدد القادم إن شاء الله
(الغنيمي)