المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 202 - بتاريخ: 17 - 05 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٠٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 202

- بتاريخ: 17 - 05 - 1937

ص: -1

‌مصطفى صادق الرافعي

شديد على الرسالة أن تنعى الرافعي إلى ديار الحنيفة وأقطار العروبة بدل أن تزف إليها كعادتها درة من غوص فكره وآية من وحي قلمه! وعزيز على هذه القلم أن يتقطر سواده على الرافعي وهو نوره في مداده وسنده في جهاده وصديقه في شدته! وعظيم على العالم الأدبي أن يرزأ في الرافعي وهو الطريقة المثلى لغاية الناشئ، والمثل الأسمى لطموح الأديب، والحجة العليا على قصور القاصر!

يا لله!! أفي لحظة عابرة من صباح يوم الاثنين الماضي يلفظ الرافعي نفسه في طوايا الغيب كومضة البرق لفها الليل، وقطرة الندى شربتها الشمس، وورقة الشجر أطاحها الخريف؛ ثم لا يبقى من هذا القلب الجياش، وهذا الشعور المرهف، وذلك الذهن الولود، إلا كما يبقى من النور في العين، ومن السرور في الحس، ومن الحلم في الذاكرة!!

كان الرافعي يكره موت العافية فمات به: أرسل إلي قبل موته الفاجئ بساعات كتابه الأخير يشكو فيه بعض الوهن في أعصابه، وأثر الركود في قريحته؛ ويقترح علي نظاماً جديداً للعمل يجد فيه الراحة حتى يخرج إلى المعاش فيقصر جهده على الأدب؛ ثم يسرد في إيجاز عزائمه ونواياه، ويعد المستقبل البعيد بالإنتاج الخصب والثمر المختلف؛ ويقول:(إن بنيتي الوثيقة وقلبي القوي سيتغلبان على هذا الضعف الطارئ فأصمد إلى حملة التطهير التي أريدها. . .)

كتب الرافعي إلي هذا الكتاب في صباح الأحد، وتولى القدر عني الجواب في صباح الاثنين: قضى الصديق العامل الآمل الليلة الفاصلة بين ذينك اليومين على خير ما يقضيها الرخي الآمن على صحته وغبطته: صلى العشاء في عيادة ولده الدكتور محمد؛ ثم أقبل على بعض أصحابه هناك فجلا عنهم صدأ الفتور بحديثه الفكه ومزحه المهذب؛ ثم خرج فقضى واجب العزاء لبعض الجيرة؛ ثم ذهب وحده إلى متنزه المدينة فاستراض فيه طويلا بالمشي والتأمل؛ ثم رجع بعد موهن من الليل إلى داره فأكل بعض الأكل ثم أوى إلى مضجعه

وفي الساعة الخامسة استيقظ فصلى الفجر وهو يجد في جوفه حزة كانت تعتاده من حموضة الطعام. فلما فرغ دخل على ولده الطبيب فسقاه دواء، ثم عاد فنام. وهب من نومه في منتصف الساعة السابعة، وخرج يريد الحمام فسقط وا حسرتاه من دونه سقطة همد فيها

ص: 1

جسده فلا صوت ولا حركة! وذهب الرافعي ذو اللسان الجبار والذكر الدوار والأثر المنتشر، ذهاب الحباب كأنه لم يملأ مسامع الدهر، ولم يشغل مدارك الناس زهاء أربعين سنة!

كان آباء الرافعي شيوخ الحنفية في مصر، تولوا قضاءها وإفتاءها وإقراءها حقبة طويلة من الدهر؛ فدرج هذا الناشئ الصالح في حجور أربعين قاضيا من قضاة الشريعة كانوا من أهل بيته، وقد نوه بهم اللورد كرومر في بعض تقاريره. وكان أبوه الشيخ عبد الرازق الرافعي قد جرى على أعراق هذه الأسرة الكريمة من ورع القلب وصحة الدين وسلامة الضمير؛ ثم تميز في قضائه بمرارة الحق وصلابة الرأي وثبات العقيدة، فجاء مصطفى في كل ذلك صورة أسرته وسر أبيه

لم يذهب الرافعي إلى الأزهر، فقد كان في أزهر من قومه؛ وإنما نشأ في مغداي ومراحي بين طلخا والمنصورة أفندياً يتلقى معارفه الأولى بمدرسة الفرير، ويتخرج في علوم اللسان والشريعة على أبيه، حتى حذق العربية وفقه الدين وثقف الأدب وأصبح فارسا في الحلبتين ولما يعد العشرين. فلما بلغ ربيع العمر ختم الله على سمعه بالصمم الشديد، فكان منذ شبابه الأول بنجوة من لغو الناس ولغط المجتمع، فسلم عقله من السخف، وبرئ ذوقه من التبذل؛ وعاش في عالم الخيال ودنيا الكتب، فاتسع أفق تفكيره، وارتفع مقياس فنه. وظلت طبيعته البشرية على الكهولة نقية حرة كطبيعة الفتى الشابل، فيها الغضب الحاد، والرضى الهش، والدلال المتعظم، والهوى الجموح، والفتوة الأبية. فهو يخلص في الحب ويصدق في البغض، فلا يداور ولا يداري، ولا يحقد ولا يحسد

عملت في الرافعي عوامل الوراثة والبيئة والدراسة والعاهة؛ واتفق له من كل أولئك ما لم يتفق لغيره، فكان أفقه العلماء في دينه وأعلم الأدباء بلغته، وواحد الآحاد في فنه. والدين واللغة والأدب هي عناصر شخصيته وروافد عقليته وطوابع وجوده. لذلك كان يقظ الرأي شاهد الحس لما يعلق بثلاثتها من أباطيل وشبه. وعبقريات المصطفى إنماكانت تتنزل على قلمه المرسل حين تمتد الأفيكة إلى كتاب الله أو إلى لغة العرب أو إلى أدب الرافعي

الرافعي أمة وحده لها وجودها المستقل وعالمها المنفرد ومزاحها الخاص وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه: كرهه الأدباء لأنه أصحر لهم بالخصومة فانفرجت الحال بينهم

ص: 2

وبينه. وكرهه المتأدبون لأنه رفع مقياس الأدب فوسمهم بالعجز عنه. وأنكره العامة لأن الأمر بينهم وبينه كالأمر بين العمى والنور! إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي الله في قرآنه، وفهم إعجاز الفن في بيانه وأدرك سر العقيدة في إيمانه.

ذلك بعض الرافعي الإنسان؛ أما الرافعي الفنان فموعدك به خمود الحزن وانكسار المصيبة.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌كتاب الإرشاد

إلى فلسفة الجراد

للدكتور طه حسين بك

عميد كلية الآداب

صديقي العزيز المجهول إسماعيل بن زيد حفظه الله وأكثر من أمثاله.

تحية طيبة تلقاك حيث كنت، فإني لا اعرف أين تكون، كما إني لا اعرف من تكون.

أما بعد فقد قرأت كتابك في (الرسالة) منذ أيام، ولست ادري أين ظفر به صديقنا الدكتور عوض، فإني لم أتلقه قبل نشره، ولو قد وصل إلى لما أبطأت في الرد عليك برغم كثرة العمل واشتغال النفس بأشياء يراها الناس خطيرة بعيدة الأثر في حياة الأفراد والجماعات، وأراها أنا كما تراها أنت أهون شأناً وأقل خطراً من صيد الضفادع، وتثقيف الجراد واستخراج أشعة الشمس من قشر الخيار. واكبر الظن انك رجل رؤوف بالأصدقاء شفيق على الإخلاء خطر لك أن تستفتيني فيما عرض لك من الأمر فسطرت كتابك وهممت بإرساله إلي، ثم عرفت إني مجهود مكدود فرحمتني ورفقت بي وأجلت إرسال كتابك إلي حتى ينقضي العام وافرغ لمثل هذه الموضوعات الجليلة القيمة. ولكن كتابك وقع إلى صديقنا عوض على أي نحو من هذه الأنحاء التي تقع بها الكتب إلى الناس أو يقع بها الناس على الكتب وعوض رجل فيه مهارة العفاريت ولباقة الشياطين اكتسبهما في اكبر الظن من ترجمته لقصة فاوست ومن طول عشرته لشيطان الشاعر الألماني العظيم. فلم يكد يقع الكتاب إليه أو لم يكد هو يقع على الكتاب، حتى أسرع به إلى الرسالة يكيد بنشره لك ولي جميعاً.

يكيد لك لأنه يحسب أن الناس سيضحكون حين يظهرون على هذه الموضوعات الغريبة التي تفكر فيها وتنفق في درسها وقتك وجهدك، ويكيد لي حين يطلب إلي باسمك على ملأ من قراء الرسالة أن أبواب لك الكتب التي تريد أن تذيعها في هذه الموضوعات.

وليس عوض شيطانا ولا عفريتا ولا مترجماً لفوست ولا معاشرا طويل العشرة لمفستو فيليس انقضى يومه وليله دون أن يجد ويكد ليغيظ إنسانا من الناس ويعبث بصديق من

ص: 4

الأصدقاء، واحسبه أن أعياه الظفر بمن يغيظه أو يعبث به لا يتردد في أن يغيظ نفسه أو يعبث بها، وله في الحطيئة قدوة سيئة وأسوة قبيحة. ولابد من أن يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الشر ويدفعهم إلى البغي كما يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الخير ويهديهم إلى البر والرشاد.

وقد هممت أيها الصديق العزيز المجهول أن اعرض عن هذه الرسالة التي لم أتلقها أو أن أؤجل الرد عليها كما أجلت أنت إرسالها ولكني - ولا أكذبك - لم أكد أتم قراءتها حتى استرحت إليها ونعمت بها لأنها صادفت هوى في نفسي ولاءمت بعض ما كان يضطرب في رأسي من الخواطر والآراء. فلم أجد بدا من أن أرد عليك في (الرسالة) لأني لا اعرف عنوانك ولأني قرأت كتابك في الرسالة وتلقيته من طريقها، ولأني لا آمن هذا العفريت الذي نسميه عوضاً ونكل إليه تعليم الجغرافيا في كليتين من كليات الجامعة أن ينالها بقليل أو كثير من التبديل والتغيير، وأنت تعلم أن من العسير جدا أن أجيبك في فصل واحد إلى تبويب هذه الكتب الأربعة التي ألفتها غير مبوبة، فذلك يحتاج إلى وقت وفراغ لا أملكهما في هذه الأيام أيضاً؛ وذلك يحتاج بعد هذا إلى مكان من الرسالة قد لا تستطيع أن تخصصه لنا دون أن تظلم واحداً أو اثنين من كتابها الأدباء. ولست اذكر الرفق بالقارئ ولا الترفيه عليه، فالقارئ آخر من أفكر فيه؛ وليس يعنيني أن يغضب أو يرضى، وليس يهمني أن يقرأ أو يعرض عن القراءة، فإني لا اكتب له وإنما اكتب لك. وأنا لا اكتب له لأن هذا الموضوع اعمق وأدق من أن يكتب للقراء؛ إنمايكتب للقراء في فلسفة أفلاطون وأرسططاليس ونيتشة وأمثالهم من أصحاب العقول الجبارة؛ فأما فلسفة الجراد فإنها الطف وأخفى وأرق من أن تبلغها عقول المثقفين أو تنفذ إليها بصائر المستنيرين؛ لهذا أفكر فيك أنت ولا أفكر في القراء؛ ولو فكرت فيهم لما كتبت شيئا، لأني لا احب أن ألقاهم بما يكرهون لا سبيل إذن إلى أن أتحدث إليك في هذه الموضوعات الأربعة التي ألفت فيها كتبا غير مبوبة، وإنما أتحدث إليك في موضوع واحد منها اختاره ليكون نموذجا لغيره من الموضوعات التي ألفت فيها والتي يمكن أن تؤلف فيها؛ فإن أبيت إلا أن أبوب لك هذه الكتب الأربعة فقد نستطيع أن نصنع ذلك في مجالس خاصة نلتقي فيها بين حين وحين لهذا العمل الجليل، نلتقي فيها لنتحدث على مهل وفي حرية دون أن يشاركنا في الحديث

ص: 5

هؤلاء القراء الذين لانا منهم أن يذهبوا فينا المذاهب وان يطلقوا فينا الألسنة وان يظنوا بنا الظنون.

وقد اخترت تعليم الجراد أصول الفلسفة موضوعا لهذا الحديث. وأول ما ألاحظه أيها الصديق العزيز المجهول انك أهملت عنوان الكتاب الذي ألفته إهمالا شديدا، واكبر الظن أن إهمالك للفنون هو الذي حال بينك وبين تبويب الكتاب على ما تحب.

ولست ادري أصحيح ما قال القدماء من أن الكتاب يعرف بعنوانه، ولكني اعتقد أن عنوان الكتاب يبوبه وينظمه، ويلائم بين أجزاءه ويشيع فيه هذه الموسيقى التي تحببه إلى النفوس وتغري به عقول القراء. وأول ما يجب العناية بالعنوان فيما أرى أن نذهب به مذهب القدماء الصالحين، فلا نرسله إرسالا ولكن نقيده بالسجع، لأن إرسال الأشياء في غير قيد يمكنها من أن تهيم على وجهها وتنطلق في غير وجه، وتكون كالجراد هذا الذي لا يستقر على سنبلة أو كوز إلا ريثما ينتقل إلى سنبلة أو كوز. فإذا أردت يا صديقي أن تضع كتاباً فلا تفكر في موضوعه ولا في أجزائه ولا في أبوابه وفصوله ولا في غاياته وأغراضه، فهذا كله يأتي وحده دون أن تدعوه أو تلج في دعائه بالعناية أو التفكير، إنما الشيء الذي يجب أن تقف عليه جهدك، وتنفق فيه وقتك، وتستنفد فيه قوتك، هو العنوان، والعنوان المقيد المسجوع. ويشهد بذلك تراثنا الأدبي العظيم الذي أن أحصيته وجدت أكثره قد قيد بهذه العنوانات المسجوعة؛ ويشهد بذلك صديقنا الزيات فقد كانت لنا معه جولات قيمة خصبة أيام الشباب في هذا الفن الذي لا يحسنه إلا اقلون؛ ويشهد بذلك صديقنا محمود حسن زناتي الذي كان أستاذنا في هذا الفن العجيب. لذلك لم أكد اختار هذا الموضوع للحديث حتى فكرت قبل كل شيء في عنوان الكتاب الذي ألفته ولم تنبئني منه إلا بطرف يسير قصير. وقد سميت هذا الكتاب كتاب الإرشاد إلى فلسفة الجراد وأخص ما يمتاز به العنوان البارع أن يراه القارئ فيظنه واضحا جليا، فإذارآه الأخصائي تبين فيه ألوانا من الغموض وفنونا من الغرابة تحتاج إلى الشرح والتفسير، والى الحاشية والتقرير ولاشك في أن المثقفين من قراء الرسالة سيرون هذا العنوان سهلا سائغا وقريبا دانياً. ولكن أصحاب البيان والراسخين في علم التأويل سيلاحظون أن كلمة الفلسفة هنا قد استعملت في غير معناها الحقيقي المعروف؛ فليس للجراد فلسفة؛ والدليل على ذلك انك تريد أن تعلمه

ص: 6

الفلسفة، وإذن فقد يقال أن في هذه الكلمة مجازا مرسلا لأن المؤلف أراد فلسفة الجراد باعتبار ما سيكون، لأن الجراد إذا قرأ كتابك أن شاء الله تهذب وتأدب وصارت له فلسفة. ولكن ليس هذا هو الذي أراده المؤلف، فقد يكون أراد شيئا آخر، وهو أن للجراد الآن فلسفة جرادية يراد أن يعدل عنها إلى الفلسفة الإنسانية. وقد يكون المؤلف أراد بالفلسفة المصدر أي جعل الجراد فيلسوفا يقال فلسفت الشيء جعلته فلسفيا، وفلسفت الإنسان جعلته من أصحاب الفلسفة، وفلسفت الجراد جعلته مفلسفا. ولا تبحث عن هذه الكلمة في المعاجم العربية القديمة، فقد لا تظفر في هذه المعاجم بشيء، ولكن ابحث عن هذه الكلمة عند الفلاسفة في كلية الآداب فهم الذين يلائمون بين القديم والجديد، وهم الذين يرجع إليهم في مثل هذه المشكلات.

أرأيت أن كلمة واحدة من هذا العنوان قد أثارت كل هذه الأبحاث التي أومأت إليها إيماء، فكيف بكلماته الأخرى إذا لوحظت مفرقة وإذا لوحظت مجموعة. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذا العنوان سيضمن لك شيئين: الأول انه إعلان سيعجب القراء ويروقهم، بل سيبهرهم ويروعهم، وسيدعوهم إلى شراء الكتاب والترويج له عند الأصحاب والأصدقاء. ولعله يروق في وزارة المعارف وأنت أعلم بما وراء ذلك من المنافع التي لا تحصى. والشيء الثاني أن هذا العنوان سيرسم لك برنامج الكتاب ويمكنك من تبويبه في غير مشقة ولا عسر. ولا تكلف نفسك تروية ولا تفكيراً، ولكن خذ كلمات هذا العنوان واجعل منها عنوانات لأبحاثك فسترى أن كتابك قد بوب بإذن الله. فليكن موضع الباب الأول إذن هو البحث عن كلمة الكتاب مما اشتقت، ومن أين أخذت، وما معانيها المختلفة الني دلت عليها في العصور المختلفة والبيئات المتباينة. ولا تخف أن يقال لك أن هذا استطراد وإطالة وتزيد في القول، فلولا الاستطراد والإطالة والتزيد في القول لذهب أكثر العلم أو أكثر الأدب على الأقل. ولك في الجاحظ أسوة حسنة فهو قد أطال في ذكر الكتاب حين أراد أن يؤلف في الحيوان.

وقد ألف أرسططاليس من قبله في هذا الموضوع فآثر الإيجاز واجتنب الاستطراد وكانت النتيجة أن الناس جميعا يقرءون كتاب الجاحظ وليس منهم من ينظر في كتاب أرسططاليس، لأن كتاب أرسططاليس علم وقد غير علم الحيوان، وكتاب الجاحظ أدب

ص: 7

وقلما يتغير الأدب، ولاسيما حين يمتاز بالإطالة والاطراد. ونحن في كلية الآداب لا نبدأ دروس الأدب حتى نعلم الشبان علما كثيراً عن لفظ الأدب ومعانيه، فسر سيرتنا ولا بأس عليك. وإذا فرغت من هذه الأبحاث القيمة التي لا تتصل ولا يجب أن تتصل بالموضوع، فخذ بعد ذلك في بحث يكون صلة بينها وبين الموضوع وهو إضافة الكتاب إلى الإرشاد والصلة بينه وبين الجراد. وكيف تختلف الكتب باختلاف أصناف الناس، وكيف تختلف الكتب باختلاف أنواع الحيوان، لا من جهة موضعها وأسلوبها فحسب، بل من جهة أحجامها وقطعها أيضاً ومن جهة مادتها التي تطبع وتذاع فيها، ومن جهة الخط والحروف التي تستخدم في هذا الطبع؛ فأنواع الطبع تختلف باختلاف القراء في القدرة والذوق، وكذلك الأحجام، وكذلك مادة الورق والغلاف؛ ويجب أن يطرد هذا بالقياس إلى الحيوان وبالقياس إلى الجراد خاصة، وواضح جدا أن هذا سيذهب بك في ألوان من البحث الطريف الذي لم تسبق إليه؛ فإذافسرت آراءك ببعض الصور فثق بأنك ستحدث في عالم التأليف حدثا عظيما، وثق بأنك ستفتح للجنة الترجمة والتأليف والنشر أبوابا لن تتردد في ولوجها ولكنها لن تعرف كيف تخرج منها.

ثم دع هذا الباب إلى الباب الثاني واجعل عنوانه الإرشاد واسلك في هذا الباب مسلكك في الباب الاول، فاخضع لفظ الإرشاد ومعانيه لكل هذه التجارب التي أخضعت لها لفظ الكتاب ومعانيه، ثم ابحث عن إرشاد الجراد كيف يكون فاعقد فصلا تصور فيه مذهب الذين يرون أن الجراد يفهم بالعقل وبين كيف يكون إرشاده على هذا النحو، واعقد فصلا آخر تصور فيه رأي المحدثين الذي يرون أن الجراد يفهم بالفم والبطن وبين فيه كيف يكون إرشاد الجراد من طريق الأفواه والبطون. والناس كما تعلم يختلفون في هذا الموضوع، ومنهم من يرى أن تكتب أصول الفلسفة على أوراق الأشجار والنجوم والزرع التي يحبها الجراد ويميل إلى أكلها ويقولون أن الجراد إذا أكل هذه الأوراق المفلسفة فهم العلم ووعى الحكمة واصبح فيلسوفا بإذن الله.

ثم اجعل الكلمة الثالثة عنوانا للباب الثالث وهي إلى. ولابد من أن تبحث عن السبب في أن الإرشاد يتعدى بالى ولا يتعدى بغيرها من حروف الجر؛ ولم لا يقال كتاب الإرشاد لفلسفة أو بفلسفة أو في فلسفة أو من فلسفة أو عن فلسفة أو على فلسفة الجراد. وواضح أن كل

ص: 8

حرف من هذه الأحرف سيحتاج إلى فصل مطول جدا وستجد في كتاب المغني لابن هشام ما يعينك على تحرير هذه الفصول. ولا تخف من هذه الإطالة فإنها هي التي ستنفعك وتروج كتابك عند أصدقائنا الأزهريين. ثم إذا أردت أن يروج كتابك عند الجامعيين وفي كلية الأدب خاصة فاحسن عنايتك بالباب الرابع وهو باب الفلسفة وهو اللب الأول للكتاب، لأن الأبواب التي سبقت كانت قشوراً ولكنها كانت قشورا لابد منها، فكل لب محتاج إلى قشر وإلا لما كان لبا. فابحث الآن عن الفلسفة وعن أصل لفظها وأحذر أن تقول إنه يوناني فقد يكون هذا مطابقاً للحق، ولكن الحق في هذه الأيام لا يغني عن البدع شيئا. والبدع في هذه الأيام إن تخرج الأشياء عن أصولها وتوضع في غير مواضعها وترد إلى غير مصادرها. والظاهر أن كلمة الفلسفة ترجع إلى أصل سأمي عربي، وما أشك في أنك ستجد في شعر قضاعة بيتا يثبت لك وللناس جميعا أن العرب قد عرفوا الفلسفة واستعملوا لفظها قبل أن يولد سقراط. ولابد أن تعرض معاني الفلسفة ومذاهب الفلاسفة في العصور المختلفة وتبحث عن أيها أدنى إلى الجراد، إلى عقله إن كنت من أنصار العقل، وإلى بطنه إن كنت من أنصار البطون. فإذا فرغت من هذا البحث الهائل المخيف وصلت إلى الباب الأخير الذي هو نتيجة النتائج وجوهر الجواهر وأصل الأصول وفصل الفصول وخلاصة الكتاب ولب الألباب وهو باب الجراد الذي وجه إليه الإرشاد.

وهذا الباب معقد بطبعه فلابد من أن تبحث عن لفظ الجراد من أين جاء والى أين انتهى، ولابد من أن تبحث عن منزلة الجراد بين أنواع الحيوان، ولابد من أن تبحث عن محاسنه وعيوبه، ثم لا بد من أن تبحث عن عقله وما يكونه من الملكات وعن بطنه وما يمتاز به من الخصال في الاستيعاب والهضم وتصريف العلم والفلسفة إلى أجزاء الجسم وأطرافه والوصول آخر الأمر إلى أن يسير الجراد سيرة فلسفية صالحة. فإذاوصلت إلى هذا الموضع من كتابك وخيل إليك أنك قد انتهيت به إلى غايته وأفدت العلم فائدة محققة تمكنك من نيل الدكتوراه من كلية الآداب فعد إلى منهج ديكارت وألغ هذا الذي كتبته كله إلغاء، وافترض انك لم تكتب شيئا ولم تعلم شيئا واستأنف التحدث من جديد فسترى أنك قد أضعت وقتك في غير نفع، وأنفقت جهدك في غير طائل، واستهلكت راحتك وورقك وحبرك وأقلامك في غير غناء، لأن الجراد ليس في حاجة إلى أن يتعلم الفلسفة الإنسانية

ص: 9

الآن، فقد تعلمها منذ عهد بعيد؛ فهو أن كان ناهبا سالبا ومغيراً محاربا فقد أخذ ذلك عن الإنسان. وهل زاد الإنسان على أنه حيوان قوام حياته السلب والنهب والحرب؟ وهو إن كان خفيفا سريعا متنقلا لا يستقر على حال من القلق فقد أخذ ذلك عن الإنسان. وما أظن أنك تستطيع أن تلقى جرادة تجهل قول الشاعر القديم:

تنقل فلذات الهوى في التنقل

وهو إن كان مفتنا في الخفة والتنقل فقد أخذ هذا الافتنان عن الإنسان، لأنه يراقب الحضارة وتطورها، ويراقب المبادئ وتلونها، ويراقب اضطراب الناس في آرائهم وأهوائهم ومذاهبهم ومبادئهم، ويراقب الضمائر التي تباع، والعقول التي تمتهن، والحريات التي تزدرى، والأصول التي تتخذ تجارة ووسيلة إلى الربح وتحقيق المنافع الدنيئة. وقد هم الجراد أن يقلد الإنسان في هذا فأدركته بقية من عقله أو من بطنه الذي تستقر فيه الفلسفة وامتنعت به عن أن ينحط إلى هذه القرارة الحقيرة الموبوءة التي انحط إليها الإنسان الحديث، فظل حيث هو يغير كريما ليأكل من ثمرات الأرض ما يستطيع أن يصل إليه، ويعود كريما أن استطاع العودة أو يموت كريما بما يسلط عليه الإنسان من ألوان البأس وضروب الفناء. وأنت حين تصل إلى هذه النتيجة بين اثنتين: فإن كنت من أنصار الفساد وعشاق الانحطاط الذين يرون أن الإنسان قد وصل في هذا العصر إلى أرقى أطوار الحضارة فاستأنف العمل لتبحث عن طريق تهدي بها الجراد إلى تقليد الإنسان في الانحدار إلى هذه القرارة، وإن كنت من المحافظين الذين يكرهون التطور الحديث ويمقتون نتائجه فادع الإنسان إلى أن يتعلم فلسفة الجراد وضع في هذا كتابا اسمه:(التبيان عن تجرد الإنسان) والتجرد هنا مشتق بالطبع من الجراد. وتقبل أيها الصديق العزيز المجهول اخلص تحياتي

طه حسين

ص: 10

‌ظاهرة وتعليلها

للأستاذ أحمد أمين

أعرفه غزير العلم واسع المعرفة، ولكنه يأبى أن يجالس أمثاله من العلماء، ولا يلذه إلا أن يجالس لفيفاً من صغار الناس في مهنتهم وعقليتهم؛ وليس الشراب هو الذي يجمعهم ويؤلف بينهم كما هو الشأن في كثير من الأحيان.

واعرفها فتاة على جانب من الجمال، ولكنها لا تؤمن بجمالها، لأن أهلها ادخلوا في روعها من صغرها أن الجمال في البياض والحمرة والشعر الأصفر، وهي سمراء شديدة السمرة وليس في وجهها حمرة ولا في شعرها صفرة، فهي في اعتقادها ليس لديها من الجمال شيء، وأراها تصاحب فتاتين ليس فيهما من الجمال شيء، وتأبى أن تصاحب جميلة، وخاصة إذاكان جمالها في لونها الأبيض المشرب بحمرة.

وأعرفه فناناً كبيراً، ولكنه يأبى أن يجالس الفنانين الكبار أمثاله ويفضل أن يجلس إلى مبتدئي الفن يعلمهم ويصلح من أخطائهم، وهم من جانبهم يتملقونه، ويفيضون عليه من ألقاب الثناء ما يملؤه غبطة وسروراً.

وأعرف عشرات من هذه الأمثلة أشاهدها كل يوم، وأسمع بها كل حين وأقرأها في وصف كثير من الرجال والنساء، فما سرها؟

سرها عندي أن من طبيعة الإنسان أنه يكره (الضعة) ويكره كل ما يشعره بالضعة، ويحب العظمة ويحب كل ما يشعره بالعظمة.

من أجل هذا تراه - في العادة - يكره أن يجالس من هو خير منه في علمه وفنه وأدبه، لأن ذلك كله يشعره بصغر نفسه؛ وهو أقل كراهية لمجالسة من هو مثله، لأنه لا يحط من شأن نفسه؛ وهو أشد حبا لمجالسة من دونه لأن ذلك يجعله أكثر شعوراً بعظمة نفسه

ويمكن تطبيق ذلك على كثير من الأحداث اليومية والمشاهدات المألوفة. ألست ترى أن (حلبة الكميت) أو جمعية الشراب تكره كل الكراهية أن يكون بينهم وقت شرابهم من لا يشرب، ويستثقلونه مهما ظرف، ويستسمجونه مهما لطف، لأنه يذكرهم بالفضيلة حين ارتكابهم الرذيلة، ويشعرهم بأنهم الوضعاء وهو الرفيع، وأنه العين الناقدة وأنه الرقيب عليهم، وأنه العاد لسقطاتهم، وأنه المحتفظ بقوة إرادته عن ضعف إرادتهم؟ كل هذا يشعرهم

ص: 11

بالضعة فيكرهونه، ويبدءون بالإلحاح عليه أن يشرب لا حباً فيه ولكن حباً لأنفسهم، وإبعاداً لشعورهم بضعتهم، ولا يزالون يستحلفونه حتى إذانجحوا أمنوا الشعور بالضعة، وإذا فشلوا مقتوه ومقتوا جلوسه بينهم، لأنه نغص عليهم بهجتهم - ومن أجل هذا أيضاً أحبوا أن يسمعوا أدب الخمر، وأحبوا أن يسمعوا من يفلسف لهم الحياة وأنها ليست إلا متعة الساعة وشهوة الوقت. فإن تجاوز المحدث ذلك إلى أنه لا يعبأ بحرام ولا حلال، وأن يقول كما قال أبو نواس:

فإن قالوا حرام قل حرام

فإن لذاذة العيش الحرام

فذلك عندهم أظرف وأفكه لأنه اجتث الشعور بالضعة من جذوره.

هذا هو سبب العداء دائما بين الفضيلة والرذيلة أو بين الفاضل والرذل، وهذا هو السبب في أن الرذل يكره الفاضل أكثر مما يكره الفاضل الرذل. لأن الرذل هو الذي يشعر بالضعة من رؤية الفاضل.

وهو السبب في أن الفقير يكره الغني أكثر من كره الغني للفقير. لأن الفقير هو الذي يشعر بالضعة إذاقاس نفسه بالغني

وكثيراً ما يكون سبباً في فساد الحياة الزوجية، أن تكون في أحد الزوجين صفات راقية ليست في الآخر، فيشعر هذا الآخر بالضعة عند قياس نفسه بنفس قرينه فتسوء الحياة ويجهل السبب.

بل أرى أن في هذا القانون تفسيراً لكثير من الرجال والنساء الذين يحبون العزلة وينفرون من الناس.

فتفسير هذا أنهم يشعرون بنقص فيهم من ناحية من النواحي الخلقية أو العلمية أو الاجتماعية

كأن يشعروا أنهم لا يحسنون حديث المجالس، أو أن في جسمهم عاهة من العاهات، أو أنهم إذاجودلوا أفحموا، أو إذا نيل منهم لم يستطيعوا أن يأخذوا بحقهم. فتراهم يفضلون العزلة ويتغنون بمدحها، ويصبون جام غضبهم وسخطهم على الناس ويطنبون في ذم الأخلاق وسوء المجتمعات - والسير وراء ذلك كله، وهو نقص في محب العزلة جعله يشعر بضعة نفسه في المجتمعات؛ وهو يكره الضعة ويكره كل ما يسببها، وهو لا يحب أن يلوم نفسه

ص: 12

وهي السبب، لأن في هذا ضعة أيضاً، فيلوم الناس ويلوم المجتمعات، ويكون مثله مثل من عجز من أن ينتقم من عدوه، فانتقم من صديقه

أتدري السبب في أن الشباب لا يودون كثيرا أن يجالسوا آباءهم ولا اخوتهم ولا أقرباءهم ويفضلون - غالبا - أن يجالسوا الغرباء؟

هو أيضاً - هذا القانون، فإن آباءهم واخوتهم وأقرباءهم يعلمون نشأتهم وكل شيء فيهم، وكل شيء حولهم، وفي ذلك عيوب عرفوها، وزلات وقعت تحت أعين الآباء ومن إليهم، فالشباب يشعر بهذا التاريخ كله إذاجلس إليهم، وهذا يشعره بالضعة. فهو يفضل عليهم صداقة الغرباء، لأنهم يجهلون تاريخه، ويجهلون زلاته فهو عندهم لا يشعر بنقص، ولا يشعر بضعة، فكان إليهم أميل، وبهم آنس؛ والمثل العربي يقول (برق لمن لا يعرفك) ومعناه تبجح وهدد من لا يعرفك، لأن من عرفك لا يعبأ بك

لقد كان لي أستاذ في سن الخمسين وكان جلساؤه أقلهم في سن الستين، فسألته في ذلك فقال: إني اخترتهم لأني اشعر وأنا معهم أني شاب

بل هذا هو السر في أن الرذيلة في كثير من الأحيان توثق الصداقة بين أصحابها، فالمقامر أقرب إلى صداقة المقامر، ومدمن الخمر إلى مدمنها، والغزل إلى الغزل، واللص إلى اللص، وقل أن ترى ذلك في الفضيلة فالصدق قل أن يؤلف بين اثنين لصدقهما، والعدل إلى العدل، ولا الصريح إلى الصريح

والسبب في هذا أن ذوي الرذيلة يشعرون بالضعة من رذيلتهم فيهربون إلى الأراذل مثلهم حتى يتجردوا من هذا الشعور؛ أما الشعور بالعدل أو الصدق فليس فيه هذا الألم فلا يحتاج صاحبه إلى البحث عن مهرب - وهو السبب في احتياج أصحاب الرذيلة إلى مخبأ، فحجرة المقامرة مستورة، ومجلس الشراب في مخبأ، والغزلون يتسترون، ومحال الحشيش والكوكايين في حرز الخ، وليس السبب في ذلك فقط أن رجال الأمن يطاردونهم. بل أكاد أوقن أن هذه الأمور لو أبيحت من رجال الأمن لتستروا أيضاً لأنهم يريدون أن يهربوا بأنفسهم من الشعور بالضعة أمام من لم ينغمسوا في الرذيلة انغماسهم

ألست ترى معي أن الرجل الملتزم للأخلاق المتشدد فيها أقل الناس أصدقاء واشد الناس وحشة، وكلما اشتد في تزمته اشتد الناس في كراهيته، وأن الرجل كلما سما عقله بعد عن

ص: 13

الناس وبعدو عنه وأنهم قد يجلونه ولكن لا يحبونه، لأن سموه إعلان لضعفهم، وعلوه رمز لضعتهم؟

ولعل كثيرا من صفحات التاريخ المملوءة باضطهاد العظماء وقتل النبغاء، واغتيال الأبطال، تستر وراءها هذا السر الكامن الخطير، وهو أن الاضطهاد والقتل والاغتيال كان سببه الخفي شعور المدبرين بضعتهم أمام هؤلاء العظماء فتخلصوا من الشعور بالضعة بالقضاء على من كانوا سببه - فلما انمحوا من الوجود كان لا بأس عند من قتلوهم أن يمجدوهم، وأن تمجدهم القرون بعدهم، لأن الحقيقة الواقعة اشد أشعارا بالضعة من الذكرى الماضية

وبعد فلا يستطيع الناس أن يتغلبوا على هذه الرذيلة وأن يجلس عالمهم إلى من هو أعلم منه، وفنانهم إلى من هو أفن منه، وفاضلهم إلى من هو أفضل منه، يستفيد منه ويأخذ عنه في غير حقد ولا ضغن إلا بكثير من مجاهدة النفس وهيهات ثم هيهات

أحمد أمين

ص: 14

‌لعب الطاولة

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

ليس لي شغف بالألعاب، فإن حياتي كلها لعب؛ فما حاجتي إلى لعبة معينة على الخصوص. ولكن لي إخواناً ألقاهم في حيث ألفوا أن يكونوا - أي في القهوات - وليس من العدل أن أكرههم على أن يلقوني في حيث أحب أنا وأوثر. ولأن ينتقل واحد إلى جمع أيسر من أن ينتقل جمع إلى واحد. ولست اعرف عملا لرواد القهوات إلا أن ينظروا إلى المارة وهم مقبلون ومدبرون فإذااتفق أن كانت الصفوف الأمامية مزدحمة ولا محل لطالب الجلوس إلا في الداخل، فماذا يمكن أن يكون عمله إلا قراءة الصحف - إذا كان وحده - أو تدخين (الشيشة) - أو كما تسمى أيضاً (الأرجيلة) و (النرجيلة) - ولعب الطاولة أو الشطرنج أو (الدومينو) فأما الشطرنج فيحتاج إلى عقل يكده اللاعب، وهو لم يجيء إلى القهوة ليتعب بل ليتسلى. وأما (الدومينو) فآفتها الحساب، فلم يبق إلا الطاولة يفتحها الصديقان ويقبلان عليها ليخرجا بها من الصمت الثقيل، وليختصرا الوقت الذي يربانه أطول من أن يحتمل وإن كانت شكواهما - كغيرهما - أن العمر في هذه الدنيا قصير، أو ليتقيا الحديث في أمر نافع أو جدي.

ولم أجد إلى الآن لاعباً للطاولة استريح إلى منازلته، وأفيد متعة من ملاعبته، فهذا واحد لا يحلو له أن يروي لك قصة حياته إلا وهو يلعب! وتكون قد حمست وكبر أملك في الفوز، فتضطر أن تضطجع وتصغي، أي أن تدع حماستك تفتر ودمك يبرد. وليته مع ذلك يقص حكايته ويفرغ منها فإن البلاء أنه يقطع الحديث ويقول لك:(دوري يا سيدي. شيش بيش. . خذ) ويلقي إليك حجراً (مضروبا) أو يضعه لك في كفك تأكيداً لاغتباطه بسوء حظك. فتتمنى لو وسعك أن تقذف بالحجر. . فلا أنت سمعت القصة، ولا أنت مضيت في اللعب بالروح التي كانت مستولية عليك. وليس هذا لعباً وإنما هو. . هو. . لا أدري ماذا أسميه، أو كيف أصفه، فقل أنت فيه ما تشاء!

وثان لا يلاعبك إلا برهان، وهذا ضرب من القمار لا أطيقه، وقد حاول كثيرون من إخواني أن يعلموني لعب الورق فأخفقوا - أو أخفقت أنا على الأصح - وماذا عندي مما يمكن أن أقامر به غير حياتي؟ وأقول لصاحبي (هذا قمار فالعب بغير رهان) فيقول:

ص: 15

(قمار؟ استغفر الله. هذه تسلية. زيادة تصلح بها روح اللعب، فيصبح أحمى وأمتع فأصر وأقول (كلا. إذاأردت اللعب فليكن بغير رهان) فلا ينهزم ويقول (قرش واحد!) فأقول: (ولا مليم) فيهز رأسه آسفاً ويقبل

ونشرع في اللعب ويتفق أن يؤاتيه الحظ فيضيق على الخناق ويعظم أمله في النصر فيميل على الطاولة ويقول (ما رأيك؟. هذا الدور لي أم لك؟) فأدير عيني في مواضع الحجارة فلا أرى داعياً لليأس فأقول (إني أرجو أن يكون الدور لي) فيقول (حسن. . تراهن؟) فأقول محتجاً (رجعنا؟. لا يا سيدي) فيقول (إذا كنت واثقاً من الفوز فماذا يمنعك أن تراهن؟) فأقول (لست واثقاً. . ثم إن الأمر عندي مرجعه إلى كراهتي للقمار، لا للخوف من الخسارة (فيتنهد أسفاً على الفرصة التي أضعتها عليه ببلادتي وجمودي

وثالث لا يترك الأمر للحظ كما هو الواجب في لعبة كهذه بل (يقرص كما يقولون - أي يسوي)(الزهر) واحداً فوق الآخر ثم يلقيهما برفق وتؤدة لتجئ الأعداد أو الأرقام التي يطلبها، وهذا شيء لا يليق لأن مؤداه أن ملاعبك قد وثق من الفوز بالغة ما بلغت قدرتك ومهارتك وبراعتك في اللعب. ولا ادري أية متعة يستفيدها المرء من (القرص) إلا إذاكانت المتعة هي التنغيص عليك

وأعوذ بالله من لاعب لا يزال يحوجك إلى النهوض عن كرسيك لتبحث عن (الزهر) الذي قذف به لا تدري أين وتمضي دقائق في البحث والتحديق - وأنت منحن - تحت الكراسي وبين أرجل الناس الذين لا تعرفهم. وكثيراً ما يتفق أن يكون (الزهر) الضائع في طية البنطلون. وليس بالنادر ألا تجده لا أنت ولا صاحبك فتصفق ليجيئك عامل القهوة (بزهر) جديد. وقد يكون العامل سمجاً أو قليل العقل فيروح يبحث أولاً، وتنقضي دقائق أخرى وأنت تتبعه بعينيك. ثم يجيء (الزهر) الجديد فيتناوله صاحبك - لأن هذا دوره ويقلبه في كفيه ويقول (لا. هذا كبير.) أو لا. هذا صغير (فيضيق صدرك وتقول (يا أخي العب. كله زهر) وتستأنفان اللعب فتزهق روحك لأن صاحبك ممن يأبون إلا أن يقدروا كل احتمال، ويحسبوا كل حساب، ويحتاطوا لكل أمر، كأنما صار مصير العالم رهناً بهذه اللعبة، فينفد صبرك وتقول له (يا أخي العب) فيقول (حلمك يا سيدي. . بقي أن سحبنا هذا (القشاط)؟. من يدري؟. ربما ضربنا وعطلنا. طيب. . وإذا خرجنا فماذا يكون؟. والله هذا أحسن. .

ص: 16

أقول لك. . ننتظر ولا نخرج. . نسد عليه هنا. . لا والله. . الخروج أحسن. . لكن يمكن يساعده الحظ فماذا يكون العمل؟.) وهكذا إلى غير نهاية

وشر من هذا الذي يعقب على كل لعبة منك بالاستحسان أو الاستهجان ولا ينفك يقول لك (كان أولى أن تصنع كيت وكيت) فتقول (وما لك أنت؟. أنا المسئول عن لعبي وأنا الذي يخسر لا أنت) فيقول (لا يا سيدي، المسألة هي أن اللعب مع غير الحاذق لا لذة فيه)

وقد لا يكتفي بالتعليق والتعقيب بل يحاول أن يلعب لك لعبك. ويردك عما تريد، أو ما تهم به، من تنقيل الحجارة على الوجه الذي يبدو لك، وينقلها هو لك على هواه وأولى بمثل هذا أن يلاعب نفسه، ولكن لذته هي أن يفرض عليك إرادته، مدعياً أن هذا هو ما يقضي به الفن، وأن الغيرة على الفن لا تسمح له بالتساهل، ويتركك تخلط وتغلط وتخالف الأصول.

وآه لو وقعت مع واحد من المبتدئين لا يزال يعد - ويشير أيضاً - بإصبعه في كل لعبة. . وآه وآه وآه - ثلاث آهات طويلة يمتد بها النفس إلى الليلة التالية - من المغالط الذي يدعي أن الرقم خمسة وأربعة، على حين رأيته بعينيك ثلاثة وستة. ويزعم أنه جاء بالحجر من هنا وهو قد جاء به من آخر الدنيا، وتراه (أكل) أربعة، فتنظر إليه عاتباً فيبتسم، ولا يتلعثم، ويرفع بين إصبعيه حجراً ويقول لك (والله ما أكلت إلا واحداً فقط) فلا تستطيع أن تقول له أنه كاذب ويعييك أن تدرك الباعث على هذه السرقة في لعبة يراد بها التسلية وتزجية الوقت ليس إلا.

وأحياناً يحلو لصاحبك أن يمازحك. . . ولكن أي مزاح فيتلف لك أعصابك ويطير عقلك. . . لأنه يزيغ بصرك بكثرة عبثه (الظريف). ويا ويلك ممن يغضبه أن يرى نفسه مشفياً على الهزيمة فيعيث بيديه في الحجارة ويفسد نظامها وترتيبها، ويغلق الطاولة في وجهك، ثم يوليك ظهره أو جنبه، ويضع رجلا على رجل - أعني ساقا على ساق - وهو لا يبرطم بما لا يسرك أن تسمع، وقد ينهض ويتركك بلا كلام أو سلام

ومن بلاء الطاولة أنها تجمع عليك الناس، ويندر أن يكونوا ممن تعرف، فتراهم قد التفوا بكما - والبعض جالس والبعض واقف سينظرون ولا يسكتون ليهون احتمالهم، بل يستجيدون لعبك أو يستضعفونه، بصوت مسموع، وقد يراهنون عليكما كأنما أنتما جوادان في ميدان السباق. . . . . .

ص: 17

فتسمع أحدهم يقول (أنا أحط على هذا (ويشير إليك فما يعرف اسمك) ريالا. . . تجي يا الفريد؟)

فتسمع الفريد يقول (يكفي نصف ريال. . .)

فيلتفت الأول إلى غيره ويقول (تجي يا جاك؟)

فيمط جاك بوزه ويقول: (لا ما يستاهل)

فتعلم انك لا تساوي مليما في رأي جاك، وأنك من الجياد التي لا تستحق المخاطرة عليها بمال ولو قل.

ومن المستحيل أن يستطيع أحد أن يصف لعب الطاولة، وكيف كسب دوراً أو خسره (ولكن بعضهم يتكلف ذلك ويحاوله ويقول لك كلاما لا يمكن أن تفهم منه شيئا، أو تعرف له مدلولا. وأمثال هذا ليس من سوى الإلحاح في المقاطعة، واللجاجة في إسكاتهم بما أقول أنا. يبدأ الواحد منهم وصفه الذي لا يصف شيئا فأشعر - سلفا - أن رأسي تحطم فأقول (اسمع. . حدث أمس شيء غريب)

فيقول (وبعد ذلك ضربته وهربت وسددت عليه. . .)

فأقاطعه وأقول (كنت راكبا الترام رقم 70 (وليس ثم ترام بهذا الرقم ولكن هذا لا يهم لأن المراد هو أن أتكلم بأي كلام والسلام) فجاءت فتاة صغيرة لاشك أنها من تلميذات المدارس فقد كانت تحمل حقيبة. .)

واسكت لآخذ نفس، فيغتنم الفرصة ويقول (ثم يا سيدي بدأت الأكل. . أكلت. . أكلت. .) فأعود إلى المقاطعة وأقول (وكان الترام مزدحما فوقفت لها لتجلس في مكاني. . الأدب واجب، أليس كذلك)

فيقول (وظللت آكل حتى. .)

فأسرع فأقول (فشكرتني برقة. الحقيقة أنها فتاة مؤدبة. هنا حدث شيء عجيب فقد وفق الترام في محطة اختيارية من غير أن يطلب ذلك أحد من الركاب ولا من الواقفين على الرصيف)

ويشعر هو أن لا فائدة في محاولة التغلب عليّ فيضطجع وينظر إلى شزرا ويخرج سيجارة ويشعلها ويروح يدخن غير ملتفت إلي، أو عابئ بي، ولكني لا أدعه يهملني مخافة أن

ص: 18

يستأنف الوصف الذي قطعته عليه، فأقول (سامع؟. حدث شيء أغرب. سار الترام بسرعة ومررنا بمحطات كثيرة لم نقف عليها لا بل وقعنا فيها كلها وأخيراً وصلنا إلى الموسكي. . أعني المغربلين. . بعد ربع ساعة من قيامنا. . أليس هذا جميلا؟. ما قولك؟. ألا تقول شيئا؟

فيقول (شيء بديع جداً)

فأقول (أشكرك. . ليلتك سعيدة)

فيقول وهو معبس (سعيدة)

وأنهض منصرفا وقد نجوت من الوصف.

كلا. لن ألاعب أحداً الطاولة. وإذا شاء إخواني أن ألقاهم فليكن ذلك في مكان لا طاولة فيه

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 19

‌في التاريخ السياسي

مصر والامتيازات الأجنبية

كيف ألغيت الامتيازات في مونترو بعد أربع قرون على قيامها

لباحث دبلوماسي كبير

انتهت المفاوضات التي تجري بين الحكومة المصرية وبين الدول منذ الثاني عشر من شهر أبريل في مونترو - في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية بعقد اتفاق جديد بين مصر والدول حققت فيه مصر أمنيتها الكبرى، وهي إلغاء الامتيازات الأجنبية.

والامتيازات الأجنبية التي وفقت مصر إلى إلغائها في مونترو هي من تراث الدولة العثمانية الذاهبة، وترجع إلى أوائل القرن السادس عشر، حينما بدأ السلطان سليمان بعقد معاهدة مع فرانسوا الأول ملك فرنسا، منحت فيها للرعايا الفرنسيين الذين يقيمون في أراضي الدولة حقوقاً ومزايا خاصة؛ واستطاعت معظم الدول الأوربية بعد ذلك أن تحصل تباعا من سلاطين تركيا على منح مماثلة لرعاياها؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى كانت هذه الامتيازات التي اتخذ منحها في البداية صورة التفضل والمنحة الاختيارية قد غدت بالنسبة للأجانب حقوقاً مكتسبة تغل سلطة الباب العالي نحو الأجانب في كثير من الشؤون المالية والقضائية

ولما كانت مصر بحكم خضوعها للدولة العثمانية في تلك العصور تخضع لنظام الامتيازات الأجنبية الذي يطبق في جميع الأراضي التابعة للدولة، فقد بقي هذا النظام سارياً فيها حتى بعد أن حصلت على استقلالها في عصر محمد علي، ولم تستطع أن تتحرر منه بعد أن رسخت جذوره على كر العصور وغدا معقلا لرعايا الدول الممتازة يحتمون به، ويتمتعون في ظله بكثير من الحقوق وضروب الإعفاء القضائية والمالية

وكانت الدول تعمل تباعا على توسيع هذه الحقوق والامتيازات حتى غدت في النهاية عبئاً ثقيلا على كاهل مصر يحد من سيادتها في كثير من النواحي، ويعرقل حريتها وتقدمها، ويحدث الخلل والاضطراب في شؤونها القضائية والمالية والإدارية. وتفاقمت هذه الحالة في عهد الخديو إسماعيل ففكر وزيره نوبار باشا في مفاوضة الدول في إنشاء نظام خاص

ص: 20

ومحاكم خاصة للأجانب، وانتهت هذه المفاوضات إلى إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875، لتختص بالفصل في قضايا الأجانب المختلفي الجنسية والأجانب والمصريين، وجعل أغلبية قضاتها من الأجانب، ووضعت لها لوائح وقوانين جديدة مستمدة من القانون الفرنسي؛ والدول ذوات الامتيازات التي عقدت مع مصر هذا الاتفاق هي: بريطانيا العظمى؛ الولايات المتحدة (أمريكا)، فرنسا، ألمانيا، النمسا والمجر، إيطاليا، الروسيا، السويد والنيرويج، إسبانيا، البلجيك، اليونان، هولنده، الدنماركة، البرتغال.

وهذه خلاصة القواعد الأساسية لاختصاصات المحاكم المختلطة.

أولاً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين المصريين والجانب، سواء في المسائل العقارية أو المنقولة

ثانياً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين الأجانب المختلفي الجنسية؛ وكذلك بين الأجانب المتحدي الجنسية في المسائل العينية العقارية فقط.

ثالثاً - إذا وجد رهن عقاري لأجنبي على عين ثابتة تختص المحاكم المختلطة بالفصل في صحة الرهن وكل ما يتعلق به ويترتب عليه.

رابعاً - تختص بالفصل في التعويضات التي يطلبها الأجانب من الحكومة المصرية عن الضرر الناشئ عن أعمال الإدارة إذا مست هذه التصرفات حقوقا مكتسبة أو مقررة.

خامساً - أما في المواد الجنائية فلا تختص المحاكم المختلطة إلا بالفصل في بعض الجنح والمخالفات البسيطة، وبالأخص الجرائم التي تقع على قضاة المحاكم المختلطة وموظفيها

وإلى جانب المحاكم المختلطة بقيت المحاكم القنصلية مختصة بالفصل في المواد الجنائية المتعلقة بالأجانب، وفي المنازعات المدنية والتجارية المنقولة بين الأجانب المتحدي الجنسية وفي قضايا الأحوال الشخصية، كل قنصلية بالنسبة للرعايا التابعين لها.

وهذا كله إلى جانب ضروب الإعفاء والحصانة التشريعية والمالية والبوليسية التي يتمتع بها الأجانب، فليس في وسع الحكومة المصرية أن تصدر تشريعاً يسري عليهم إلا بموافقة دولهم، وفيما بعد بموافقة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة؛ وليس لها أن تفرض عليهم أية ضريبة إلا بموافقة دولهم، وليس للبوليس أن يهاجم منازلهم أو محالهم في المسائل الجنائية أو يفتشها إلا في حالة التلبس أو بموافقة القنصل، وليس له أن يقرر إبعاد

ص: 21

أجنبي غير مرغوب فيه لا بموافقة القنصلية التابع لها.

وقد كان الأمل معقوداً بأن يكون إنشاء المحاكم المختلطة خطوة موفقة في سبيل الإصلاح، وفي سبيل تخفيف الأغلال التي تحد من السيادة المصرية، ولكن ظهر بمضي الزمن أن المحاكم المختلطة جاءت بالعكس عبئا باهظاً على السيادة المصرية وإنها ذهبت في أحكامها، وفي تفسيراتها القضائية وفي مزاعم اختصاصها إلى حدود غير معقولة حتى غدت أشبه بدولة داخل الدولة، وغدت حصناً للنفوذ الأجنبي، وسياجا منيعا لحماية المصالح الأجنبية؛ وابتدعت المحاكم المختلطة نظرية الصالح المختلط، فادعت الاختصاص في كل قضية وكل نزاع فيه صالح أو شبة صالح لأجنبي، وتوسعت في تفسير كلمة أجنبي بحيث شملت كل الأجانب التابعين للدول الممتازة وغير الممتازة والرعايا المحميين وغيرهم، وأضحت رقيبا على السلطة التشريعية فيما تصدره من قوانين يراد سريانها على الأجانب مهما كان نوعها وغرضها.

وشعرت الحكومة المصرية وشعرت مصر كلها بفداحة هذه الأغلال المرهقة التي تقيد سيادتها وسلطاتها من جراء هذا النظام الشاذ الذي فرضته عليها الامتيازات الأجنبية، والذي غدا بما يسبغه على الأجانب من الحقوق والمنح الاستثنائية، وصمة في جبين الأمة تؤذي شعورها وكرامتها؛ هذا فضلا عن كونه قد غدا بما يسبغه على سفلة الأجانب وأفاقيهم من ضروب الحماية غير المشروعة، وما يمكن لهم من ضروب العيث والفساد والإجرام الدنيئة - خطرا على الأمن والنظام والصحة والأخلاق العامة. لذلك لم تنس البلاد، منذ اضطرمت بحركتها الوطنية الكبرى أن تعتبر قيام الامتيازات الأجنبية كارثة قومية لا تزول إلا بزوال هذه الامتيازات.

- 2 -

ولما وفقت مصر بعد طول الكفاح إلى التفاهم مع بريطانيا العظمى واستطاعت أن تفوز منها بوثيقة استقلالها بعقد المعاهدة المصرية الإنجليزية في أغسطس الماضي، كانت مسألة الامتيازات الأجنبية ضمن المسائل الجوهرية التي تناولتها، ووضعت قواعد خاصة لحلها.

فقد نص في المعاهدة المصرية الإنكليزية في المادة الثانية عشرة على ما يأتي:

(يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن المسئولية عن أرواح الأجانب وأموالهم

ص: 22

في مصر هي من خصائص الحكومة المصرية دون سواها، وهي التي تتولى تنفيذ واجباتها في هذا الصدد).

ونصت المادة الثالثة عشرة على ما يأتي:

(يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن نظام الامتيازات القائم بمصر الآن لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة.

ويرغب صاحب الجلالة ملك مصر في إلغاء هذا النظام دون إبطاء.

وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على الترتيبات الواردة بهذا الشأن في ملحق هذه المعاهدة).

وخلاصة الملحق المشار إليه، هو أن مصر ترمي إلى اتخاذ التدابير التي تمكنها من إلغاء نظام الامتيازات وما يترتب عليه من القيود التشريعية والمالية بالنسبة للأجانب في أقرب وقت وإقامة نظام انتقال لمدة معقولة لا تطول بلا مبرر تبقى فيها المحاكم المختلطة وتباشر الاختصاص المخول الآن للمحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية فضلا عن اختصاصها الحالي ثم تلغى نهائيا بانتهاء فترة الانتقال، ولتحقيق هذه الغاية تتصل الحكومة المصرية بالدول ذوات الامتيازات للاتفاق على ما تقدم. أما فيما يتعلق ببريطانيا العظمى، فإنها بصفتها من الدول العظمى، وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض مطلقاً في التدابير المشار إليها، وتعد فوق ذلك بان تعاون مصر على تحقيق غايتها وذلك باستعمال نفوذها لدى الدول الممتازة، فإذاتعذر وصول مصر إلى غايتها بطريق التفاهم مع الدول، فإنها تحتفظ بحقوقها كاملة إزاء نظام الامتيازات والمحاكم المختلطة، أو بعبارة أخرى تصبح حرة في إلغائها من تلقاء نفسها.

وينص الملحق المذكور فوق ذلك على بعض المبادئ العامة التي اتفق على اتخاذها أساساً لوضع الاتفاق المذكور، ومنها أن أي تشريع مصري يطبق على الأجانب يجب إلا يتنافى مع مبادئ التشريع الحديث ويجب ألا يتضمن تمييزاً مجحفاً بالأجانب، وأن تبقى مسائل الأحوال الشخصية الخاصة برعايا الدول الممتازة من اختصاص المحاكم القنصلية لمن ترغب ذلك من الدول، وأن يعاد النظر في القوانين الحالية وأن يصدر قانون جديد لتحقيق الجنايات.

وقد بادرت الحكومة المصرية مذ أبرمت المعاهدة المصرية الإنكليزية في ديسمبر الماضي،

ص: 23

إلى اتخاذ الخطوات لسريعة لتنفيذ هذا البرنامج. ففي السادس عشر من يناير سنة 1937 وجهت الحكومة المصرية إلى الدول ذوات الامتيازات مذكرة أولى تدعوها فيها إلى المثول في المؤتمر الذي اعتزمت عقده للبحث في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية في مدينة مونترو بسويسرا في 12 أبريل. وفي الثالث من فبراير وجهت إليها مذكرة أخرى تفصل فيها المبادئ التي ترى مصر من جانبها أن تتخذها أساساً للاتفاق المنشود، وخلاصتها أن يحال اختصاص المحاكم القنصلية سواء الجنائية أو في منازعات الأجانب المتحدي الجنسية إلى المحاكم المختلطة، وأن لا يشمل اختصاص هذه المحاكم سوى الأجانب الذين هم فعلا رعايا الدول ذوات الامتيازات، وأن يلغى التوسع الصوري الواقع في تفسير كلمة أجنبي وفي مسألة الصالح المختلط، وأن يكون للمحاكم الأهلية أن تنظر في قضايا الأجانب الذين يرغبون في اختصاصها، وأن تمتنع المحاكم المختلطة عن النظر في القضايا الخاصة بسيادة الحكومة وألا تفسر أو تفصل في صحة أي قانون أو أمر أداري، وألا يكون هناك تمييز بين القضاة الوطنيين والأجانب في مسالة تنظيم الدوائر ورياستها، وأن تحرر الأحكام باللغة العربية مع إحدى اللغات الأجنبية المقررة. . . الخ

وقد قبلت الدول الممتازة دعوة الحكومة وأبلغتها في الوقت المناسب أسماء مندوبيها في المؤتمر؛ وهذه الدول هي بريطانيا العظمى، فرنسا، والولايات المتحدة (أمريكا) وإيطاليا، والسويد، والنرويج، وأسبانيا، والبلجيك، واليونان، وهولنده، والدنماركة، والبرتغال. أما ألمانيا فقد فقدت امتيازاتها بمقتضى معاهدة فرساي في سنة 1919، وتعاقدت فيما بعد بمعاهدة صداقة مع مصر منحت فيها بعض الامتيازات المؤقتة لحين إلغاء الامتيازات، وكذلك فقدت إمبراطورية النمسا والمجر (وهي الآن مكونة من النمسا، والمجر، وتشيكوسلوفاكيا) امتيازاتها بمقتضى معاهدة سان جرمان (معاهدة الصلح أيضاً)، ولكن النمسا عقدت مع مصر معاهدة صداقة منحت فيها امتيازات مماثلة لامتيازات ألمانيا؛ وكذلك فقدت روسيا السوفيتية امتيازاتها نهائيا، ولم تعترف الحكومة المصرية بها إلى اليوم

وعقد مؤتمر مونترو في موعده المحدد أي في الثاني عشر من أبريل سنة 1937؛ وكان وفد مصر مؤلفا من مصطفى النحاس باشا رئيس الوزارة، والدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب، وواصف غالي باشا وزير الخارجية، وعبد الحميد بدوي باشا رئيس أقلام

ص: 24

قضايا الحكومة؛ واستمر المؤتمر منعقدا حتى اليوم الثامن من مايو حيث تم توقيع الاتفاق الذي انتهت إليه مصر والدول؛ وكانت فرنسا اشد الدول صلابة وتمسكا؛ وقد دافعت مصر عن وجهت نظرها ما استطاعت، وتمسكت بالأخص بالنقط الأساسية التي تتعلق بالسيادة المصرية؛ بيد أنها اضطرت إلى التساهل في بعض التفاصيل والضمانات الخاصة بفترة الانتقال؛ وجاز المؤتمر كثيرا من الأزمات الدقيقة التي أثارتها فرنسا بتشددها وفداحة مطالبها. وهذه خلاصة للمبادئ الهامة التي تم الاتفاق عليها:

أولا - وافقت الدول على إلغاء الامتيازات الأجنبية وكل ما يترتب عليها من الحقوق والمزايا الخاصة إلغاء تاماً شاملاً

ثانيا - ألغيت جميع القيود التي كانت قائمة في سبيل التشريع المصري بما ذلك التشريع المالي على الأجانب، واصبح من حق مصر أن تطبق على الأجانب جميع القوانين التي تطبقها على الوطنين، وألغى حق الإشراف الذي كانت تزاوله المحاكم المختلطة في تطبيق هذه القوانين وفي الحكم بصحتها

ثالثا - رضيت مصر بتنظيم فترة للانتقال حددت مدتها باثني عشرة عاما، يحتفظ خلالها بالمحاكم المختلطة، ويضاف إلى اختصاصها اختصاص المحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية؛ وكذلك في مواد الأحوال الشخصية بالنسبة للدول التي ترغب في نقل الأحوال الشخصية إليها

رابعا - يقتصر اختصاص المحكم المختلطة أثناء هذه المدة على رعايا الدول ذوات الامتيازات، وكذلك رعايا الدول الآتية: ألمانيا، النمسا، تشيكوسلوفاكيا، المجر، يوجوسلافية، سويسرا، بولونيا، رومانيا؛ ويتناول اختصاصها الرعايا المحميين أيضاً في المواد الجنائية. أما في المواد المدنية فلهؤلاء الرعايا أن يختاروا بين المحاكم الأهلية والمختلطة. وفي الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا الذين ينتمون إلى طوائف دينية معينة يبقى الاختصاص الطائفي. ولا امتيازات لرعايا سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن

خامسا - يحظر على جميع المصريين أن يلجئوا إلى حماية أية دولة أجنبية

سادسا - في نهاية فترة الانتقال تلغى المحاكم المختلطة وذلك في 12 أكتوبر سنة 1949، كما تلغى المحاكم القنصلية ويخضع جميع الأجانب المقيمين بالقطر المصري للقضاء

ص: 25

المصري في جميع الأحوال المدنية والجنائية والشخصية

هذه هي المبادئ الجوهرية التي انتهى إليها اتفاق مونترو بين مصر والدول لحل مشكلة الامتيازات الأجنبية

ويعتبر اتفاق مونترو بالنسبة لمصر حادثا عظيما في تاريخها لا يقل في أهميته عن المعاهدة المصرية الإنكليزية ذاتها؛ وقد تحطم صرح الامتيازات الأجنبية بعد أن لبث زهاء أربعة قرون كابوسا مرهقا، يحد من سلطان مصر وسيادتها حدا أليما، ويجعل الأجانب سادة في أرضها يتمتعون بحقوق ومنح لا يتمتع بها أبناء البلاد أنفسهم. نعم أن مصر اضطرت نزولا على مقتضيات الظروف الدولية أن تقبل فترة انتقال يبقى فيها هذا النظام أثنى عشرة عاما أخرى تستعد المصالح الأجنبية فيها لاستقبال العهد الجديد؛ ولكن نظام الانتقال يعتبر بصورته التي بسطناها نظاما مخففا معقولا بالنسبة للامتيازات القديمة، ولا يحد من السياسة المصرية حدا خطيرا، هذا فضلا عن أن أثنى عشرة عاما ليست شيئا مذكورا في حياة الأمم

(* * *)

ص: 26

‌من الأدب التحليلي

أنا. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

- 1 -

. . . . . . قال لي أهلي: لقد جئت إلى هذه الدنيا عاريا بلا أسنان، لا تحسن النطق، ولا تعرف شيئاً. . . فضحكت ولم أصدق. فأعادوا ذلك علي وألقوه كأنه قضية مسلمة وأمر واضح لا يحتمل الشك، وعجبوا مني حين أكذبه وأرده. . . ولكني بقيت على رأيي الأول، لم استطع مطلقاً أن أصدق ما يقولون، لأني أعرف بنفسي منهم، ولأني أذكر ماضي كله: أذكر أنني فتحت عيني ذات يوم فجأة ونظرت. . . فوجدت نفسي، ورأيت أن لي أسناناً وعلي ثياباً، وبي قدرة على المشي والنطق، ورأيتني شخصاً مستقلا عن أبي وأمي وسائر أهلي، أحب أشياء لا يحبها أحد منهم، وأكره أشياء لا يكرهونها، ولا يميزني منهم إلا إني كالطبعة المختصرة من الكتاب، فيها كل الأبواب والفصول بيد أنها موجزة و. . . بالقطع الصغير). . .

أفيعقل أن أكون موجوداً قبل ذلك اليوم، وأنا لا اعرف نفسي؟

مستحيل!

وأستقر في ذهني من يومئذ، أولدت وأنا في الرابعة من عمري!!

- 2 -

وصرت أرى هذا الطفل دائما، أبصر صورته في المرآة وأسمع صوته بإذني، وأصغي إلى حديث أمي عنه بشغف وسرور، فكنت أشعر بميل غريب إليه، حتى إني لأعترف الآن بأنه كان أحب إلي من أمي، التي لم أكن أعدل بها أحداً ولا اقبل كنوز الأرض بدلا من امتصاص ثديها والنوم على صدرها. . .

ذلك الطفل الباسم، ذو العينين السوداوين، والشعر. . . يا للأسف! إني لا أستطيع أن أتخيل شعره، لقد محيت صورته من ذاكرتي، لقد اختفى من الدنيا منذ ربع قرن، لقد ذهب إلى حيث لا أدري؟ فهل كنت أنا ذلك الطفل؟ هل تجيء يده الصغيرة الغضة في يدي الخشنة

ص: 27

التي اخط بها هذا المقال؟ فأين ذهب إذن؟ ومن أين جئت أنا؟. . . إنني لست ذلك الطفل ولست غيره. . . فكيف يعقل هذا؟

هذا يحيرني دائما، ولا اعرف له حلا، بل إن مجرد التفكير فيه يدفعني إلى الجنون. . .

- 3 -

ونظرت يوما من الأيام - فإذافي مكان ذلك الطفل اللاهي اللاعب - العابث بكل شيء، الذي يحطم كل ما يصل إليه، ويقبض على الجمرة المشتعلة بيده كما يقبض على البرتقالة الحمراء، ويعبث بلحية القاضي إذا هو بلغها، كما يعبث بشعر الهرة. . . إذ أتى مكانه تلميذ يقرأ مكرهاً، ويكتب مضطراً ويحمل هم المدرسة التي يذهب إليها كل يوم كالذي يساق إلى الموت، لا يعرف لوجوده فيها معنى، ولا يدري فيم يدع عطف أمه، والأنس باخوته، ولم يترك بيته وما فيه من الدفء في الشتاء، والظل في الصيف، ليذهب إلى هذه الدار التي يحشد فيها الأطفال الأبرياء المساكين، لتحشى أدمغتهم بمسائل لا يدركون معناها، وشروح لا يعرفون مغزاها، وتنال من أبشارهم وظهورهم عصا المعلم الغليظة، وتقذى عيونهم برؤية طلعته البغيضة، لا المعلم يبسم لهم، ويدعوهم إلى حبه، ولا أهلوهم يستمعون شكواهم وينصفونهم. . . لقد كان في هذه المدرسة كالمحكوم عليه بالسجن ظلماً. . .

يا لهذا التلميذ البائس الذي لم يكد يفتح عينيه على الدنيا حتى أبصر الشقاء والألم. لقد مات كمداً، ومضى مسرعا في طريق الفناء. . . مسكين. . . إنه لم يكن إلا أنا، أنا الذي ولدت ومت مائة مرة، حتى صرت الآن. . . (أنا)

- 4 -

وكان يوم آخر، فإذا (الفلم) ينكشف هذه المرة عن منظر جديد: اختفى التلميذ الجميل، ذو السراويل القصيرة، والقميص الأحمر، والحقيبة الزرقاء الصغيرة، وذهب بجسمه ونفسه وميوله وأفكاره، وظهر الشاب الحليق الوجه، ذو (الربطة) الطويلة، والحقيبة السوداء الواسعة. . . ظهر في الثانوية طالباً متحمساً، كأنما ركبت أعصابه من الديناميت، وصنع فمه على مثال فوهات الرشاشات، فلا يكاد يقع في المدرسة حادث، أو تقوم في البلدة ضجة، إلا انفجر الديناميت وانطلق الرشاش، وقام في الطلاب خطيبا ثائراً مثيراً، فحطموا

ص: 28

الباب وخرجوا. . . كان ينتقم بهياجه وثورته لذلك التلميذ الهادئ الحي المظلوم. . . ولكن الامتحان لم يلبث أن كشر له عن أنيابه وجاء ينتقم منه. . .

هذه هي البكالوريا. فتهيأ لها. إن مستقبلك معلق عليها. . . ولم يكن قد فكر في المستقبل. أو حسب له حساباً فلما سمع به وقف وتردد وكبح من جماح نفسه. . . يجب أن يضمن المستقبل. ليصل إلى آماله. آماله الكبار التي كانت تملأ نفسه ولا يشك في بلوغها. . . وكان قد بدأ ينشر في جرائد البلد فهو يجب أن يكون كاتباً كبيراً منتجاً يخدم بقلمه وطنه. ويدافع به عن الحق والفضيلة. ويقاتل به خصومها وأعداءها ويساهم في تحرير وطنه. ويكون له في (الإصلاح الشعبي) أثر يذكر. فليسع إذن لنيل الشهادة، فإنها تبلغه كل أمل. وتوصله إلى ابعد غاية. أن الدنيا كلها ترتقب نجاحه في (البكالوريا). فإذانجح فتحت له الأرض كنوزها. وحمله الناس على أعناقهم إلى سدة المجد. وقاموا بين يديه قيام الخدم بين أيدي الملوك. . .

تلك كانت أحلام الصبا. . . فيا رحمة الله على عهد الصبا!

- 5 -

حرم الشاب على نفسه كل متعة من متع الدنيا، فلا نزهة ولا راحة، ولا حظ له في النوم العميق، ولا الطعام الهنيء ولا شغل إلا شغل المدرسة، حبس نفسه بين كتبه ودفاتره يقرأ أناء الليل وأطراف النهار، ينتقل من هذيان الأدباء إلى طلسمات الرياضيين والعلماء، وحساب الجيب والمماس، إلى شعوذات الطبيعيين وأصحاب الكيمياء، ودرس الملح والحامض والضياء والكهرباء، إلى خرافات الفلكيين وجغرافية السماء، يدس هذا الهراء كله في دماغه ليصبه يوم الامتحان في ورقة الفحص، ثم يلقيه في مكانه، ويخرج من المدرسة فارغ الرأس كما دخلها أول مرة. . .

كان يخشى أن يثأر منه المدرسون الذين جرعهم الصاب وسقاهم الحنظل باعتراضاته ومناقشاته وثوراته فيسقطوه في الامتحان، فجد كل الجد، ولم يدع في كتب المدرسة حاشية إلا حشاها في رأسه، ولا تعليقة إلا علقها في ذاكرته، ثم دخل الامتحان بعقل من سطوح وأجسام، وخطوط وأرقام، وخرافات وأوهام، فنجح أعظم نجاح. . .

وهل ينجح في الامتحان إلا من حفظ ولم يفهم؟ وهل تدل هذه الامتحانات إلا على قوة

ص: 29

الذاكرة، وشدة الحفظ وإتقان المنهج المقرر؟

نجح، فوثب فرحا، وتهيأ لخوض معركة الحياة، فقالوا له: مهلا! قال: ماذا؟ قالوا: لابد من شهادة عالية، أن المستقبل لا يضمن إلا بشهادة عالية!

قال: ويحكم! وهل يبنى المستقبل على (الورق)؟

وانطلق يلعن هذا المستقبل، الذي حرمه عبث الطفولة ومتعة الشباب، ونغص عليه حياته، ولم يتركه يستريح إلى حاضره يوماً واحداً، كان أبداً يدفعه إلى الأمام، فيعدو كالفرس المحموم، فيتعب من العدو، ولا يصل إلى منزل!

- 6 -

راح الشاب يدرس الحقوق لينال الشهادة، ويضمن المستقبل، ويشتغل بالأدب، ليستجيب للرغبة، ويحظى بالمتعة ويعمل في الجريدة، ليضمن العيش، ويعول الأسرة. . . واستمر على ذلك حتى نال (الليسانس) فربح بقربه من الأدب البعد عن الناس، والجهل بالحياة، وكسب بميله الأدبي وطبعه المستوحش، وجهله بالحياة، خصومة الناس، ومضادة الكبراء وعداوة المال. . .

- 7 -

نزل الشاب إلى ميدان الحياة، برأس مترع بالعلوم، والمبادئ السامية، ويد مثقلة بالشهادة الابتدائية والثانوية والعالية، وجيب خاوٍ خالٍ.

فلم تكن إلا جولة واحدة، حتى ولى منهزما!

ذلك لأن سلاحه، من (طراز قديم) لم يعد يصلح اليوم في معركة الحياة!

ولقد خدعته المدرسة، وكذبت عليه، وصورت له الحياة على غير حقيقتها:

قالت له المدرسة: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، فرأى أن المال في الحياة خير من العلم، العلم لا ينال إلا بالمال، فلو أن شابا كان أذكى الناس، وأنبه الناس، وكان مفلساً لا يملك أجور المدرسة، وأثمان الكتب والثياب، لما قبل في جامعة ولا حصل علما - والعلم لا يثمر إلا بالمال، فلو أن اعلم أهل الأرض، كان مفلساً، يفكر في خبزه من أين يأتي به، وبيته كيف يستأجره، لما بقي له عقل يفكر، وذكاء ينتج، ورأى أن

ص: 30

أصحاب الأموال الجاهلين، تبيحهم الحياة أجمل ما تملك من متع ولذائذ ومجد وجاه، والعلماء الفقراء محرومون من كل شيء.

نعم أن المدرسة كانت تكذب عليه!

وقالت له المدرسة: (الأخلاق أساس النجاح) وضرب له المعلم مثلا سيئا طلابا لا أخلاق لهم ولا عفاف. وضرب له مثلا عالياً طلاباً كانوا نموذج الطهر والاستقامة والشرف، فرأى أن الأولين قد بلغوا أعلى المراتب وأسمى المناصب والآخرين تحت تحت. . . على العتبة. . .

فعلم أن المدرسة كانت تكذب عليه!

وقالت له المدرسة: أن الحق فوق القوة. القوة للحق وليس الحق للقوة، فآمن بذلك وصدقه، وتسلح بسلاح الحق، فما راعه إلا اللص يضع مسدسه في صدغه يطلب ماله وثيابه، فألقى عليه محاضرة في الحق، جمع فيها كل ما تعلمه من أساتيذه، وأضاف إليه ما انشق عنه ذهنه فرد عليها اللص بقهقهة مروعة. . . وذهب بأمواله وثيابه ورجع هو عارياً. لم يبق له إلا فكرة سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تنجي من برد. . .

ورفع شكواه إلى القاضي، فلم ير عند القاضي حقا يقهر القوة، ولكن وجد عنده قوة تصنع الحق، وجد قوة الجنود، فأين يبقى الحق إذاثار اللصوص على الجند أو فتكوا بهم؟

هذه هي سنة الحياة، وليس على الحياة ذنب، فهي سافرة لن تستتر ولم تخدع أحداً عن نفسها، ولكن الذنب على الأدباء والمدرسين الذين وضعوا عيونهم في أوراقهم، وحبسوا أنفسهم في مكاتبهم، وأرادوا أن يدرسوا الحياة فلم يفهموا منها شيئاً. . .

- 8 -

وجلس الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يدون آراءه تلك في كتاب، فلما انتهى منه حمله إلى الناشر، وكله زهو وإعجاب بنفسه. . . فقلبه الناشر العامي وصفحه، فلما رأى اسم صاحبنا عليه لوى شفتيه، وقوس حاجبيه وقال له:

- إن الناس لا يقرءون الآن ما تكتب، ومتى صرت (في المستقبل) كاتباً مشهوراً ننشر لك آثارك

فخرج متعثراً بأذيال الخيبة. . . يلعن المستقبل لعناً

ص: 31

ما هو هذا المستقبل؟ وهل اقتربت منه شبراً واحداً وأنا أركض وراءه منذ سبعة وعشرين عاما؟ فمتى أصل إليه؟ وأين هو؟ أهو في العام الآتي، أهو فيما بعد خمس سنين؟ وهل يبقى مستقبلا إذاأنا بلغته أم يصبح حاضرا، ويكون على أن أبلغ مستقبلا آخر؟. . أيكون مستقبلي القبر؟ لقد طوفت في الآفاق، وشرقت وغربت، وأنجدت وأعرقت. . . فما رجعت إلا بالخيبة والتعب والإفلاس. فأين أجد الهدوء والراحة من هموم العيش، حتى أنصرف إلى ما خلقت له من الدرس والمطالعة والكتابة والتأليف؟

وذهب الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يفتش عن الخبز فلم يجده عند ناشر الكتاب، ولا في إدارة الجريدة ولا في مكتب المحامي ولم يجده إلا في مدرسة القرية، فصار (معلم صبيان) فيها، يقرئهم ألف باء، ثم ارتقت به الحال قليلا، فصار يدرس سير الأدباء، وأشعار الشعراء. . . يكد ويتعب، في الليل والنهار يحمل آلام الغربة، وعناء العمل، ثم لا ينتج أثراً أدبياً، ولا يفيد علماً ولا يحفظ في جيبه درهما واحداً. . .

إنه يشتغل من اجل المستقبل. . . . . .

- 9 -

أين ذلك الطفل الذي كان يكره المدرسة، ويبغض المعلم القاسي - من هذا المعلم الفظ، الذي يرهق الأطفال ويهز عصاه في وجوههم، ويقرع بها جنوبهم. . . من يستطيع أن يتصور أن هذا هو ذلك؟ وأي شبه بينهما؟ إنهما مختلفان في الجسم والشكل والطبائع والميول، فلن يكونا شخصا واحداً!

أين ذلك الطالب المتحمس الذي كان يقود الطلاب إلى المظاهرات، ويخطب في المساجد والمجامع والأسواق؟ من هذا المدرس الخامل الذي يلقي دروس الأدب على هؤلاء الطلاب، ويبدو فيهم كشيخ هم في الثمانين؟ هل هما شخص واحد؟

إن ذلك الطالب لو رأى هذا المدرس لأبغضه وكرهه ولما تردد في البطش به!

وأين ذلك الشاب الذي تفيض نفسه بالآمال الكبار؟ من هذا اليائس القانط الذي لم يعد يأمل في شيء، لأنه جرب فلم يصل إلى شيء؟

- 10 -

ص: 32

وبعد. فلم أفكر في هذا؟ إنني لا ادري من أنا، ولا أعرف كيف وجدت، ولا أعلم ما هي صلتي بذلك الطفل الذي نسيت حتى صورة وجهه، وذلك التلميذ الذي لم اعد اعرفه إلا بالتخيل، وذلك الطالب الذي احبه وأتشوق إليه، وذلك المعلم الذي أرثي له وأشفق عليه؟

هل أنا كل هؤلاء؟ وماذا بعد؟

يا الله! إني أحس كأني جننت حقاً؟!

(بغداد)

علي الطنطاوي

ص: 33

‌تحية للرافعي

للأستاذ منصور فهمي بك

مات مصطفى صادق الرافعي، وما لقيته إلا مرات قليلة قد لا تتجاوز أصابع اليد عدا، ولم ترتبط بيني وبينه عقدة الصداقة الخاصة التي طالما يكون من شأنها أن تؤلف بين قلوب الناس على الأنس والمودة في الحياة، وطالما يكون من شأنها في الممات أن تؤوي الأسى في القلوب.

على انه إذاكان قد قل لقائي بالرافعي في الحياة، ولم تربطني به علاقة وثيقة من حقها أن تدفع القلم في سبيل الرثاء فإن في حق الوفاء لما قدم الرافعي من خير متسعاً يفسح لقلمي ولغيره من الأقلام الوفية أن تذكر ذلك الراحل العظيم.

وعظمة الرافعي التي أنوه بها الآن على عجل إنما مرجعها اتصاله الوثيق بتراثنا الأدبي القديم دون غيره فنهل من شرابه العذب، وتغذى من خلاصاته القوية الصالحة، فإذا بها تتمثل في أسلوبه، وتتغلغل في أدبه وتهذيبه، وتتمازج في تفكيره وتعبيره، وتندمج في تقديره وتدبيره، فاستطاع أن يشق للأدب القديم التليد، سبيله في الأدب الحديث العتيد.

فأي إنسان يرى في التراث الماضي نبل هذا التراث ولا يألم حين يفتقد حارساً يقظاً لهذا التراث وداعياً له عليما، ومعرفاً به حكيما؟ وأي وريث لثقافة العرب لا يجزع حين يموت أديب عربي كبير كان يعرض في أدبه للخلف، جميل ما جادت به نفوس السلف؟ وأي أسف لا يستولي على النفوس بموت الرافعي النابغة الأديب حين يمر على الخاطر أن الناس قد فتنوا بالحاضر، فنسوا وعقوا محامد الغابر؟

وإذا كان من حق الآثار الصالحة أن تبعث من قبورها، أفلا يحق على الناس أن يأسفوا على من كان يعمل على نشرها من مراقدها؟

وا أسفاً على الرافعي، ثم وا أسفاً على الرافعي!

فإلى الأدباء إذن وإلى الشعراء، وإلى آل الرافعي جميل العزاء، وعليهم جميعاً للرافعي الأديب الكبير بعد ذلك حق الوفاء.

منصور فهمي

ص: 34

‌في الأدب المقارن

التاريخ في الأدبين العربي والإنكليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

التاريخ قصة الإنسانية وحكاية ماضيها، يصف حياة الإنسان من قديم عهوده، وتقلب أحواله على مرور العصور، وكفاحه في سبيل التقدم والسعادة، ويعرض أعمال الأمم وعظائم الأفراد وتعاون الشعوب حينا وتعاديها أحيانا، ويشرح سريان الحضارة والثقافة من صقع إلى صقع، ومن جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أخرى، وما أضافته إليهما عبقرية كل شعب، من مستحدثات العلوم والفنون والصناعات؛ فالتاريخ سجل مليء بالعظات والدروس، حافل بالمتعات والطرائف، يمتع اللب سياقه القصصي، وينبه الخيال بعده الزمني، ويملا النفس أحيانا بالفخار الوطني، ويثقف الإنسان في حاضره ويبصره بما بين يديه، حين يعرض عليه أنباء الماضي ووقائعه

ولا يستمد التاريخ مما دونه المؤرخون في طروسهم فقط، بل يستمد بجانب ذلك من آثار الفنون المتخلفة عن الأمم، من عمارة ونحت وتصوير وأدب، ففي كل هاتيك صور من عقلياتها ومذاهبها ومجتمعاتها ومنازعها؛ فتاريخ الحضارة المصرية القديمة لا يستمد إلا أقله مما دونه المصريون أنفسهم أو من جاء بعد عهدهم من مؤرخي الأمم التالية، أما أكثر ما يعرف عن حياتهم الاجتماعية وتقاليدهم وديانتهم وعلومهم، فمستقى من مخلفاتهم في عالم البناء والنحت والنقش والصناعة، وقل مثل ذلك في تاريخ اليونان والرومان، وغيرهم من الأمم التي أنشأت الحضارات وكان لها في العلم والفن شأن يذكر

فتاريخ الأمة وفنونها متصلان أوثق اتصال، فالعوامل النفسية التي تسيطر على المجتمع والحكومة وتؤدي إلى الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية، هي هي العوامل النفسية التي تسيطر على فنون الأمة، فيميل أبناءها إلى فنون دون أخرى، وينحون بفنونهم أنحاء خاصة دون غيرها؛ فقدماء المصريين الذين كانوا يخضعون لملكية مطلقة دينية الصبغة ويؤلهون ملوكهم، نبغوا في علم العمارة في بناء المعابد والمقابر دون القصور، ونحتوا التماثيل للملوك والآلهة، لا للأبطال والزعماء والخطباء والرياضيين كما فعل الإغريق ولم يرتق فيهم الأدب الذي يترجم عن مشاعر الفرد، ويعبر عن خوالج المجتمع

ص: 35

والأدب أشد الفنون اتصالا بتاريخ الأمة وارتباطا بتطورات المجتمع، إذ كان صدى ناطقاً دقيقاً لما يحس به الفرد والمجتمع، بل الأدب مصاحب في بدئه للتاريخ في ظهوره، يتمازجان لدى الجماعات البدائية في محاولتها تفسير ظواهر الكون والتغني بمفاخر أسلافها، ويشاب كل ذلك بالخرافات، ويظل الأدب والتاريخ مختلطين على ذلك النحو مادامت الأمة في عهد بداوتها، فإذا ما تحضرت ودونت الكتب بدأت العلوم تتفرق وتتميز ويستقل كل منها بنفسه، فظهر المؤرخون واستقلوا بأمرهم عن الأدباء، بيد أن الصلات بين الأدب والتاريخ تظل محكمة، إذ كان كل منها مرآة للمجتمع تعكس صورته من زاوية مختلفة

فالأديب لا غنى له عن درس تاريخ الماضين والتبصر في تاريخ عصره، كي يتثقف عقله ويحصف فكره لأحوال البشر، والمؤرخ لا غنى له عن النظر في كتب الأدباء ليفهم روح العصر الذي يؤرخ له ومثله العليا، ولا غنى له إذا أراد أن يجيء تاريخه كاملا عن أن يفرد جانباً منه لدرس الحياة الأدبية لذلك العصر، والمؤرخ للأدب لا ندحة له عن درس التاريخ السياسي للعصور الأدبية، والبيئات السياسية والاجتماعية التي عاش فيها الأدباء الذين يترجم لهم؛ وقد كان من عظماء اليونان والرومان أمثال ديموستين وتيوسيديد وقيصر وشيشرون من جمعوا بين البلاغة الأدبية والتأليف التاريخي، أو بين حرفة الأدب وحرفة السياسة وصنعة الحرب

إذا ما بلغت الأمة طور الحضارة والاستقرار والثقافة، ودخل الأدب في طوره الفني، تميز التاريخ وقام علما مستقلا بنفسه كما تقدم والتفت إليه الأدباء فوجدوا به مجالا لفنهم رحيباً ومرتعاً لابتكارهم خصيباً، فهم لا يكتفون باستيعاب حقائقه واجتناء فوائده، بل يتخذون من مشاهده وأحداثه ورجاله مادة وغذاء لأقلامهم، ومسارح لخيالهم ومنادح لبيان آرائهم في الإنسان والحياة، وشواهد لتدعيم حججهم في المذاهب والمشاكل، فيتخذ منه الشعراء موضوعات لقصيدهم، والقصصيون هياكل لقصصهم، ويجدون في عوالمه البعيدة وحوادثه القريبة وعظمائه النابهين مهربا للنفوس من عقال الحاضر القريب، وأحداثه العادية

كان الشعر في الجاهلية ديوان العرب لأنه - هو والقصص - كانا يحويان أخبار العرب، ويحفظان مشهور حوادثهم وأيامهم، ويحكيان أخبار رحلاتهم واستقرارهم، ويشيران إلى ما

ص: 36

وراء ذلك من عوامل اقتصادية واجتماعية وعصبية، فلم يكن العرب إذ ذاك يعرفون من التاريخ إلا حفظ الأنساب، فلما تحضروا واستقروا في المدن تضاءل شأن النسابة وظهر التاريخ المدون، ظهر أولا لغرض عملي شأن كل العلوم والفنون، لحفظ أخبار الفتوح وسيرة النبي الكريم شيئاً فشيئاً وصارت له أغراض غير هذه وتناول موضوعات أخرى أرحب وأعم

بيد أن التاريخ لدى العرب - كالأدب - ترعرع في ظل الملكية المطلقة، فجاء كلاهما مشتملا على نفس النقائص: احتفى كلاهما بأمر الملوك وأغفل جانب الشعوب، واهتم بالأحداث السياسية والحروب وتجاهل التطورات الاجتماعية والاقتصادية، واتسم كلاهما بالمحافظة والتقليد والنقل في غير نقد، لأن وطأة الملكية كانت تضطر كلا منهما إلى الإطراق والإغضاء والتغافل عن مواطن الضعف ودواعي الإصلاح، وكما كان الشعراء يقرضون الشعر ليتقدموا به إلى الأمراء متزلفين، فيملاؤنه بالمدح المغالي فيه، كان بعض المؤرخين يصنفون أسفارهم ليرفعوها إلى بعض الخلائف والسلاطين بغية الثواب والحظوة، فيملاؤنها بمدحه ومدح أسرته وتعداد مآثره ومفاخر دولته، ويؤيدون دعواه وينحون على عداه، ويتغاضون عما عدا ذلك

وقد ظل الاتصال قائما بين الأدب والتاريخ بعد تدوين الكتب واستقلال علم التاريخ بنفسه، فظلت كتب الأدب تحوي كثيراً من أخبار الجاهلية والاسلام، بل كانت تلك السير والإخبار والشذرات والنوادر من أهم مواد كتب الأدب العربي، ووردت في أشعار الشعراء شتى الإشارات إلى أحداث الماضي ورجاله، كما أن المؤرخين وكتاب التراجم والمعاجم كثيراً ما كانوا يلجأون إلى الشعر مستشهدين لما هم بصدده من تحقيق حادثة، أو تصويب رواية؛ وكان بعضهم يعيرون الشعراء اهتمامهم فيترجمون حياتهم ترجمة موجزة، وكان بعض الشعراء ينظم في أحداث جيله، كما فعل ابن الرومي في ثورة الزنج وفي مقتل بعض العلويين الخارجين. وكان كتاب الأمراء يتناولون مسائل السياسة في رسائلهم، فيندرج أشعار أولئك وكتابات هؤلاء في تراث التاريخ اندماجها في كنوز الأدب

بيد أن الأدب العربي الذي أغفل كثيرا من موضوعات القول التي يتهافت عليها الأدب إذا ما بلغ طوره الفني، أهمل التاريخ إهمالا كبيرا، فلم يتخذ من حوادثه وحيا للنظم، ولا من

ص: 37

أعاجيبه مدارا للقصص، ولا من أبطاله أمثلة للتمجيد، فليس من بين أدباء العربية الكبار من استهزه حادث تاريخي قرأه، أو أثر تاريخي وقف به، إلى نظم قصيدة أو إنشاء رسالة يستجلي فيها عبر التاريخ ويمجد قوة الإنسان، أو يندب ضعف حيلته إزاء جبروت المقادير. وليس من كتاب العربية ذوي الأساليب الجزلة من شمر عن ساعد الجد والبحث والاطلاع حتى كتب تاريخاً رفيعاً لبعض العصور أو الرجال، تاريخاً يعد تحفة في عالم الأدب كما قد يعد مرجعاً في عالم التاريخ، وإنما كان بعض الشعراء يتنصلون من الشؤون الاجتماعية والسياسية، ويتبرؤن من الاشتغال بمسائل التاريخ، كما قال ابن المعتز:

قليل هموم القلب إلا للذة

ينعم نفسا آذنت بالتنقل

ولست تراه سائلا عن خليفة

ولا قائلا: من يعزلون؟ ومن يلي؟

ولا صائحا كالعير في يوم لذة

يناظر في تفضيل عثمان أو علي

أما في الإنجليزية حيث كان الأدباء والمؤرخون كغيرهم من أفراد الشعب يشاركون في الحياة الاجتماعية والسياسية بآرائهم ومذاهبهم، بل بأعمالهم ومساعيهم، فقد جاء كل من الأدب والتاريخ أكثر حرية وأقرب إلى جانب الشعب، وأكثر طروقاً لمواضيع المجتمع ومشاكل بنيه، وجاء الاتصال بين الأدب والتاريخ شديد التوثق، وجاء الأدب الإنجليزي أحفل بآثار المجتمع الذي قيل فيه من الأدب العربي، ومن ثم تدرس النصوص الأدبية الكثيرة في أثناء دراسة التاريخ في الجامعات، فتدرس آثار ملتون مثلا عند دراسة عهد المطهرين في إنجلترا

ووجد أدباء الإنجليزية في التاريخ مجالا واسعاً لفنهم وابتداعهم، فجال فيه شكسبير ومعاصروه جولات عديدة، واتخذوا مشاهد رواياتهم في بلاد اليونان أو إيطاليا أو دانيمركة أو إنجلترة القديمة، واشتق ملتون ودريدن موضوعات كثيرة من قصيدهم من تاريخ اليهود وأبناء ملوكهم وأنبيائهم، فلما ظهر النثر الفني بجوار الشعر لم يغفل التاريخ ولم يكن أقل لموضوعاته طرقا من الشعر، بل كان أحرى أن يشتمل على حقائقه ودقائقه ويعالج مسالكه ودروبه. بما يمتاز به على الشعر من رحب جوانبه ودقة تعبيره) فعالج جيبون وهيوم وآدم سميث وكارليل وغيرهم التاريخ والاجتماع وفلسفتيهما في أسلوب أدبي شائق، وجمع بعض الأدباء أمثال ماكولي وأرنولد بين الكتابة في الأدب والتأليف في التاريخ فكان الأدب

ص: 38

والتاريخ لديهم كلا واحدا يجولون في نواحيه بلا تفريق، وبقيت كتاباتهم يدرسها طلاب الأدب كما يدرسها باحثو التاريخ

بل بلغ غرام بعض الأدباء بالماضي، وشغفهم بتقاليده وأزيائه ومحبتهم لأفذاذه وعظمائه حداً بعيدا، وقد كان سكوت من ذلك الضرب الذي يحيا في الماضي وبجلائله ولألائه وبطولته، ولا يكاد يلتفت إلى الحاضر أو يعنى بالمستقبل، وفي ذلك العالم السالف كتب سكوت أحسن قصصه. وممن كتب في الروايات والقصص التاريخية أيضا تنيسون وبروننج ودرنكور تروشو، وقد نرى موضوعاً تاريخياً حديثا كالثورة الفرنسية، وقد تناوله المؤلفون الإنجليز من شتى النواحي، فمحلل لحوادث الثورة وشخصياتها ككارليل، ومندد بمبادئها كبرك، ومرحب بتلك المبادئ مترنم بها كوردزورث، ومتخذ من قصة وليد تلك الثورة نابليون موضوعا لملحمة طويلة كهاردي، وهكذا تحيا حوادث التاريخ في أذهان مطالعي الأدب مصورة من شتى النواحي

ولا شك أن هذا التاريخ الأدبي، إذا سميناه كذلك، أجدر بالقراءة وأحق باهتمام المثقف من التاريخ المجرد، إذ في آثار الأدباء تحيا حقائق التاريخ وتدب فيها روح إنسانية جديدة وتمتلئ بالإمتاع، ويعود التاريخ والأدب وكلاهما مظهر لحياة الإنسان المطردة التطور والتغير، وتفكيره الدائب الحركة والتقلب، وفي هذا التاريخ الأدبي يرتبط الحاضر بالماضي، والقريب من الأمم بالبعيد، وتتقاصر مسافات الزمان والمكان، ولا يبقى إلا الإنسانية الشاملة، وهذه الإنسانية هي مجال كل فن صميم

هذا التاريخ الأدبي لم يعرف في العربية) فكان هناك المؤرخون وكان هناك الأدباء، ولكن كلا منهما كان مستقلا عن الآخر استقلالا كبيراً، ولم يكن الأدباء يعدون التاريخ مجالا من مجالات أدبهم، أو مطمحا من مطامح فنهم، يبتكرون في مجاله وينشئون، وما ذاك إلا لانشغالهم بالقريب الحاضر من شؤون العيش، عن البعيد المترامي من أمور الحياة وآفاق الفكر، لأن الأدب ظل أكثره بلاطياً يمدح الأمير ويحرر رسائله، وكان الفوز بتلك الخطوة مطمح الأديب ووسيلته الكبرى إلى الظهور فإذا ما بلغ ذلك المكان لازم ذلك الضرب الوحيد من القول، ولم يصرف أدبه إلى التأمل في شؤون الماضي والمستقبل، وهكذا أغفل الأدب العربي التاريخ فيما أغفل من موضوعات هي صميم الفن، لوثيق صلتها بالإنسانية

ص: 39

فخري أبو السعود

ص: 40

‌ضوء جديد على الدين الدرزي

الحياة والمعيشة الدرزية

للأستاذ محمد خالد ظاظا

يقول الأستاذ (عنان) إن كافة الرواة أجمعوا على أن الحاكم ذهب (ضحية المؤامرة والجريمة المدبرة) مع أن أنصار الحاكم ومؤيدي مذهبه يدعون أن الحاكم ارتفع إلى السماء امتحاناً للمؤمنين ولم يقتل أبداً؛ وعن قريب سيعود من البلاد الصينية ومعه الجيوش الجرارة فيفتح هذه البلاد جميعها ويعيد الحالة إلى ما كانت عليه؛ وسوف لا يبقى إلا الديانة الدرزية الحقة. لأنه بحكم الواقع تلغي جميع الأديان عند قدومه. وهؤلاء المؤمنون نزحوا من البلاد المصرية وقطنوا البلاد الشامية في الجبال الشرقية منها، وأسسوا مدناً وقرى اشتهر منها السويداء ومجدل شمي وبعقلين. وقد كانت لهم هذه الجبال معاقل تصد عنهم غارة الأمم الفاتحة حتى أصبح يخشى بأسهم وشدتهم، ولم يختلطوا مع الأقوام السورية، بل تجنبوهم حتى أنهم لبثوا ليومنا هذا محافظين على تقاليدهم وعاداتهم برغم تطور الزمان وانقلاب السلطان، وبقيت هذه الديانة سراً مدفوناً إلى حين نشوب الثورة السورية في عام سنة 1926 فأذاعت من أسرارهم وديانتهم ما خفي طيلة هذه الأعوام الماضية. فالدروز ثاروا ودافعوا عن بلادهم وساهموا بقسط وافر من الوطنية، واضطروا بحكم الشدة أن يتركوا بلادهم تفعل بها نيران القنابل والمدافع فعلها، فلعبت الأيدي بكتبهم المقدسة وتراثهم المدفون وانتقلت هذه الكتب إلى أيدي الكثيرين

وقد أكد لي أحد رجال الدروز العقل أن كتابهم المقدس الذي يسيرون بموجبه ويتبعون أثره هو خلاصة عدة كتب مقدسة، أو بالأحرى خلاصة جميع الكتب الدينية ويزاد عليه بعض الحكم والنصائح. ويندر وجود هذا الكتاب عند كل درزي لأنه ينسخ ويخبأ عند رئيس الدين الأكبر لا يقرأ به إلا في الخلوة - أي الجامع. وكيفية قراءته أن الشيخ يجلس في صدر المكان ويلتف حوله السامعون بشكل حلقة مكتفي الأيدي، مطأطئي الرءوس والأبصار، خاشعي البصائر، يسمعون ما يقوله، ويفعلون ما يأمرهم به. ولا يدخل في هذه الخلوة إلا من استكملت به درجة الرجولة التامة، وبلغ مبلغ الرجال العقل، وهم بحسب ديانتهم ينقسمون إلى درجات ثلاث:

ص: 41

الدرجة الأولى: الجهال وهؤلاء لا دين لهم ولا يعلمون شيئاً من أمور الديانة الدرزية، وهم على الأغلب دون الثلاثين

الدرجة الثانية: العقل ولا يصل الرجل منهم إلى هذه المرتبة إلا بعد أن يبرهن أمام القوم أنه أخلد للسكينة وترفع عن الأفعال الدنيئة. وعليه قبل أن يصبح عاقلا أن يحلق رأسه بالموسى ويترك لحيته تسترسل في نموها نحو الصدر وكلما طالت كان أجره عظيما، وثوابه جزيلا. وعلية أن يتعمم بالعمة البيضاء الكبيرة.

الدرجة الثالثة: الأجاويد، وهذه الطبقة هم الأكثر تقشفاً والأعظم أجراً، وهم رؤساء الديانة الدرزية ومشايخ المؤمنين الموحدين وبيدهم الأمر والنهي، فإذا ما وجدوا أمراً ساءهم من أحد العقل طردوه من الخلوة وأخذوا الدين منه. وبذلك يصبح المطرود لا دين له، فلا يحق لهم الجلوس معه ولا السلام عليه ولا الأكل والشرب قربه، يفر منه كل من يراه، حتى أن عائلته تنفر منه وتكرهه؛ وإذا مات في هذه الأثناء يموت مسلماً وتنتقل روحه إلى كلب أو نصراني أو يهودي أو أي حيوان آخر. وأما إذا مات درزياً ومعه الدين فينال الحسنات وتنتقل روحه إلى درزي آخر أو تذهب إلى بلاد الصين، وهناك تعيش قرب الحاكم بأمره والأخوان الصالحين. ويعتقد الدروز بالتقمص ويقولون أن الروح تنتقل من رجل إلى آخر كما أسلفنا.

والمرأة الدرزية حكمها في الدين حكم الرجل، ولها ثلاث درجات بخلاف مذهب النصيرية الذين يعطون للمرأة ديناً مطلقاً، والدين عندهم من خصائص الرجال دون النساء. والدروز لا صلاة ولا صوم مفروض عليهم، ولا يعرفون شيئاً من أنواع الطرب لأنها معدودة عندهم من المنكرات المحرمة في الدين. وأقسامهم المغلظة هي: بالنبي شعيب واليعفوري، والحدود الستة، والحكمة المقدسة.

وللنبي شعيب احترام عظيم في نفوسهم ولا يعتقدون إلا بنبوته دون كافة الأنبياء. وأما اليعفوري فهو أحد أوليائهم الصالحين ذوي الكرامات له مقام يقع بين قرية مسعدة وقرية مجدل شمي في القسم الجنوبي من سورية. ويقصده الدروز من أماكن بعيدةللتبرك به والدعاء له. ولعل أغرب ما في مذهبهم أنهم لا يتزوجون من المسلمين ولا يزوجون بناتهم منهم بحجة أنه يسمح للمسلم أن يتزوج بنصرانية أو يهودية، أو يحق لمن يدخل في الدين

ص: 42

الإسلامي أن يتزوج مسلمة مهما كان شأنها، ولا يقبلون أحداً أن يدخل في دينهم مهما كان شأنه، ولا يسمحون لأحد منهم أن يترك دينه ويدخل في دين آخر وإن فعل ذلك عرض نفسه للقتل المحتم. وإذا خطفت فتاة منهم يتحرون عنها حتى يجدوها فيقتلون الخاطف والمخطوفة خوف إفشاء السر - هذا إذا علموا مكانهما.

والدروز ذو أجسام كبيرة وقامات طويلة ووجوه دموية يغلب عليهم الشجاعة، يسترون رؤوسهم بالعمائم الكبيرة البيضاء ويحتذون الزربول ويلبسون السروال والصدرية والعباءة ذات الأكمام القصيرة، ديانتهم عندهم إلى التقشف في كل شيء في الحياة رغبة في نوال الآخرة والجنة المعهودة.

وتحرم عليهم تعاطي المسكرات والملذات وشرب الدخان ومن فعل ذلك منهم يطرد كما أوضحنا سابقاً. وأما النساء فيتلثمن بالشاشة البيضاء ولا يظهرن من وجوههن إلا عيونهن ويرتدين الثياب الطويلة حتى الأرجل، والشرف هو الواجب الأول عندهن - وهن على العموم يتمسكن بأهداب الفضيلة وترك الرزيلة. . .

محمد خالد ظاظا

ص: 43

‌إلى الأستاذ المازني

من الأستاذ محمود تيمور

سيدي الأستاذ الأجل:

أشرت إليّ في حديثك الطريف المنشور بالعدد 200 من الرسالة الغراء، إشارة تنطوي على دعابة من دعاباتك اللطيفة التي تعودنا أن نسمعها منك. فقد ذكرت أنك كنت مدعوا إلى مأدبة عشاء، واتفق أن أجلسوك بجانب سيدة (وقور) ظنتك إياي. فانطلقت تمتدحك. وتمدح مؤلفاتك، وتخبرك مسرورة أن أولادها يقرؤون كتبك (أي كتبي ولا مؤاخذة) وأنهم جد معجبين بك.

أشكرك يا سيدي الأستاذ على نشرك هذا الخبر. وسواء أكان من مبتكرات خيالك أم هو حقيقة واقعة لا شأن للخيال فيها، فإني أرى فيه دعاية طيبة لي ولمؤلفاتي، خصوصاً وأني اعد في هذه الآونة مجموعة جديدة. ولعلك قد علمت بخبر هذه المجموعة فتطوعت، من تلقاء نفسك، حبا في مساعدة زملائك الصغار (الصغار في المنزلة، وليس في السن طبعا) والأخذ بيدهم في معترك هذه الحياة الأدبية العابسة. أشكرك على طيبة قلبك؛ فأنت حقا زميل نافع لزملائه. وإني أخشى أن يفطن الأستاذ الزيات إلى هذه الطريقة المخادعة التي لجأنا إليها - أنت وأنا - فاستغللنا بضع أعمدة مم رسالته في الإعلان عن أنفسنا ومؤلفاتنا. فتكون العاقبة غير حميدة!

لا أدري، أي شيطان أجلسك بجوار هذه السيدة الوقور، فصرفتك بحديثها الثقيل عن مغازلة - بريئة أو غير بريئة - لجارتك الأخرى، تلك الغادة الهيفاء التي صوتها كالتغريد (على حد تعبيرك). لو علمت هذه السيدة الوقور أي خسارة لحقت بأدبنا العربي، بصرفها إياك عن غادتك الهيفاء، لتركتك على الفور طليقا تنعم بحريتك مع فتاتك، تستمتع بتغريدها العذب، ولفاز أدبنا بقصة رائعة من قلمك، تصف لنا فيها مغامرة جديدة من مغامراتك الغرامية، تلك المغامرات التي سيكون لزوجك (الخيالية) أثر كبير فيها، فنسمعك تقول لها: يا امرأة، ما شأنك أنت وهذه الغادة الهيفاء التي صوتها كتغريد الطيور. . . .؟ فلا تكاد تتم جملتك حتى تشعر بيد قد استولت على إذنك، وأخذت تعركها عرك أستاذية عريقاً. . .!

ولكن ما لنا ولهذا؟ إني أراهن أن هذه السيدة الوقور لم تقرأ سطراً واحداً من مؤلفاتي وإلا

ص: 44

لما تركتها بين يدي صبيانها (فتيان وفتيات) يقرءونها بلا تحرج. هذه المؤلفات يا سيدي الأستاذ لا تخلو - كما تعلم أو لعلك لا تعلم - من قطع نعتها البعض بأنها من الأدب المكشوف. وإني شخصيا لا أميز بين هذه القطع وبين غيرها؛ فالأدب ليس له عندي غير اسم واحد هو الأدب بمعناه الواسع؛ وليس له إلا هدف واحد: هو الفن، أو على الأصح هذا ما نزعمه - والله أعلم!

فهل لك يا سيدي المحترم أن تبادر إلى هذه السيدة، وتعلن لها تلك النتيجة المحزنة، ثم تدعوها باسم الفضيلة والأخلاق أن تسلمك هذه المؤلفات الموبوءة لتطهر البيت منها؟ ولك أن تقترح استبدالها بغيرها مما يعنى بالتربية والتهذيب، وزرع الفضيلة في النشء الصغير. وكنت أود أن تحل كتبك محل كتبي، ولكني أشك في صلاحيتها لهذا الأسرة المحترمة؛ إذ أن مغامراتك الغرامية المنقطعة النظير، وهذا الشجار العائلي القائم على الدوام بينك وبين أهل بيتك (في عالم الخيال طبعا)، خطر لا يقل في نظري عن الأدب المكشوف. إذن، عليك أن توجه نفسك شطر مكتبة الأطفال. وليس أمامك إلا صديقنا الأستاذ كامل الكيلاني، فهو خير من يزودك بما تشتهي وتحب.

إن ذكر الأدب المكشوف والمغامرات الغرامية والشجار العائلي، سيدعو الفتيان والفتيات، من الأدباء وغير الأدباء، إلا أن يلتفتوا بنوع خاص لهذا النوع الجديد من الأدب، فيهرعوا إلى المكاتب متزاحمين. . . ومن ثم ينهال علينا وافر الربح. . .

وبعد هذا، ألا ترى أننا مازلنا نستغل طيبة الأستاذ الزيات في سبيل الدعاية لأنفسنا؟ إذاً فلنختصر ولنقفل الباب

والشكر الوافر والتحية القلبية من المعجب بأدبك

محمود تيمور

ص: 45

‌الرافعي

للأستاذ محمود محمد شاكر

رحمةُ الله عليك! رحمةُ الله عليك!

رحمة الله لقلبٍ حزينٍ، وكبدٍ مصدُوعة!

لم أفقدك أيها الحبيب ولكنِّي فقَدتُ قَلْبي.

كنتَ لي أملاً أستمسِكُ به كلما تقطَّعَتْ آمالي في الحياة.

كنتَ راحة قلبي كلما اضطرب القلبُ في العناء.

كنتَ اليَنْبُوع الرَّويَّ كلما ظَمِئّ القلبُ وأحرقه الصَّدَى.

كنت فجراً يتبلَّج نورُهُ في قَلْبي وتتنفس نسماته،

فوَجدتُ قلبي. . . إذ وجدت عَلاقتي بكَ.

لمْ أفقدكَ أيها الحبيبُ ولكني فقدتُ قلبي

جزعي عليك يمسك لساني أن يقول، ويرسل دمعي ليتكلم.

والأحزان تجدُ الدمعً الذي تذوب فيه لتهونً وتضَّاءَل،

ولكنَّ أحزاني عليك تجد الدمع الذي تروَى مِنْه لتنمو وتَنْتَشر.

ليس في قلبي مكان لم يرفَّ عليه حبي لك وهوَايَ فيك،

فليس في القلب مكان لم يحرقه حزني فيك وجَزَعي عليك.

هذه دموعي تُتْرِجم عن أحزان قلبي،

ولكنها دموع لا تُحْسِنُ تَتَكَلّم

عشتُ بنفسٍ مُجْدِبةٍ قد انصرفَ عنها الخصب،

ثم رحمَ الله نفسي بزهرتين تَرِفَّان نضرة ورواء.

كنتُ أجدُ في أنفسهما ثرْوة الروضة الممْرعة فلا أحسُ فقر الجدْب!

أما إحداهما فقد قطفتْها حقيقةُ الحياة،

وأما الأخرى فانتزعتها حقيقةُ الموت،

وبقيت نفسي مجدبة تستشِعرُ ذلَّ الفقر

تحت الثرى. . . عليك رحمة الله التي وسعتْ كلَّ شيء،

ص: 46

وفوق الثرى. . . عليَّ أحزان قلبي التي ضاقت بكل شيء؛

تحت الثرى تَتَجَدَّدُ عليكَ أفراحُ الجَنة؛

وفوق الثرى تتقادمُ عليَّ أحزان الأرض!

تحت الثرى تتراءى لرُوِحك كلَّ حقائق الخلود

وفوق الثرى تتحقَّقُ في قلبي كلُّ معاني الموت.

لم أفقِدْك أيها الحبيب ولكنّي فقدت قَلْبي

حَضَر أجلك، فحضرتني همومي وآلامي.

فبين ضلوعي مأتم قد اجتمعت فيه أحزاني للبكاء؛

وفي روحي جنازة قد تهيَّأتِ لتَسير؛

وعواطفي تشيِّعُ الميت الحبيب مُطرقة صامتة؛

والجنازة كلها في دمي - في طريقها إلى القبر

وفي القلب. . . في القلب تُحفَر القبور العزيزة التي لا تُنْسَى

في القلب يجد الحبيب روحَ الحياة وقد فرغ من الحياة؛

وتجد الروح أحبابها وقد نأى جُثْمانها.

في قلبي تجد الملائكة مكاناً طهرَّته الأحزان من رجس اللذات.

وتجِدُ أجنحتها الروح الذي تهفهف عليه وتتحفَّى به.

هنا. . . في القلب، تتنزَّل رحمة الله على أحبابي وأحزاني،

ففي القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفْنى،

وفي القلب تُحْفَرُ القبور العزيزة التي لا تُنْسى

لم تُبْقِ لي بَعدَك أيها الحبيب إلا الشوقَ إلى لقائك.

فقدتُكَ وَحْدِي إذ فقدك الناس جميعاً

سَمَا بكَ فرحك بالله، وقعدت بي أحزاني عليكَ.

لقد وجدتَ الأنْسَ في جوارِ رَبَّك، فوجدتُ الوحشة

في جوار الناس

لم أفقدك أيها الحبيب ولكني فقدت قلبي

ص: 47

لم تُبق لي بَعدَك إلا الشوق إلى لقائك

رحمة الله عليك، رحمة الله عليك!

محمود محمد شاكر

ص: 48

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 5 -

الديانة المصرية - التوفيق بين الديانة والفلسفة

أشرنا في الكلمة السابقة إلى الخلاف الذي وقع بين المستمصرين حول التطور الديني المصري وهل هو وليد الفلسفة أو الفلسفة هي وليدته. ولما كنا قد تناولنا بهذه المناسبة الكلام على (رع) وتاسوعه، فقد وجب علينا إتماما للموضوع أن نشير إلى آلهة أخرى لا تقل عن السابقين أهمية، وهي (مآت) ابنة (رع) العظيمة

ليست هذه الآلهة من التاسوع، لأنها روحه كله، وبدونها لا يحيا أي واحد من الآلهة، لأنها هي:(الحقيقة والعقل والعدالة). وهل يمكن أن يحيا أي إله بدون الحقيقة والعقل والعدالة؟ وتمتاز هذه الآلهة بأنها تجيء إلى الأرض يحملها فرعون ويتولى تطبيق صفاتها وإبرازها إلى حيز الوجود بطريقة عملية ويظل حارسها الأمين إلى أن يموت فتعود إلى السماء وتبقى فيها ريثما يصعد الملك الجديد على العرش فيوكل إليه أمر حملها وحراستها كسابقه. ولهذا كان كل فرعون يعنى بأن يكتب على آثاره أنه لم يدخر وسعا في حماية الحقيقة والعدالة وفي إعلاء شأن العقل، لكي يثبت بهذا أنه قام بواجبه في حمل (مآت) إلى الأرض ورعايتها خير قيام. وهاك ترجمة شيء مما يخاطب به فرعون (رع) كبير الآلهة فيقول:(هاأنذا أتيت نحوك، وذراعاي مجتمعتان لحمل مآت التي أنت موجود، لأنها موجود؛ وهي موجودة، لأنك موجود؛ والتاسوع يناديك أنك أنت الإله العظيم الذي انتصرت منذ ملايين السنين. وان مآت هي وحيدتك)

ولاشك في أن لمرادفة مآت ابنة رع للحقيقة والعقل والعدالة أهمية فلسفية وأخلاقية عظيمة، إذ منذا الذي لا يبحث عن الحقيقة ولا يحترم العقل ولا يطبق العدالة مع علمه بأن هذه الأشياء الثلاثة هي مرادفة لابنة رع، وهي روح التاسوع المقدس كله. وإذن، فقد كانت هذه

ص: 49

الأسطورة عاملاً قويا في تحفيز الهمم على البحث عن الحقيقة وعلى احترام العقل وعلى إجلال فضيلة العدالة كما سنذكر ذلك فيما بعد. وهل الفلسفة النظرية الإغريقية شيء آخر غير البحث عن الحقيقة؟ وهل الفلسفة العلمية شيء غير تطبيق الفضائل التي - أهمها بعد الحكمة الناجمة عن احترام العقل المشروط في الفلسفة المصرية - هي فضيلة العدالة التي استقامت بها كفتا ميزان السماء والأرض؟

تعقل العامة

كان كل ما أسلفناه لك من تطورات دينية ومن محاولات قوية في التوفيق بين الدين والعقل هو تعقلات الخاصة والمستنيرين. أما العامة فكان لهم تعقل يخالف هذا مخالفة طفيفة حينا وشديدة حينا آخر، فهم لما وجدوا (أتوم) الممتزج عند الخاصة برع لا زوجة له ولم يستطيعوا أن يعقلوا أثره الذي سماه الخاصة (فعل الشمس) ونسبوا إليه نشوء الفراغ والهواء زعموا أنه ولد طفلين بطريقة لا ترضى عنها الأخلاق، وهما الهواء والفراغ، فتزوج ذكرهما أنثاهما فولدت له السماء والأرض، وهذان الأخيران أيضا قد تزوجا بدورهما) ولكنهما التصقا ببعضهما التصاقا محكما يحول بينهما وبين تحقق وجود الكائنات؛ فلما رأى الهواء ذلك اجتهد في تفريقهما فسعى حتى مر من بينهما ففصلهما ورفع السماء إلى أعلى فوق ذراعية، فغضب الزوجان من هذه الفرقة غضبا شديداً ومازالا يجتهدان في أزالتها حتى الآن.

وما الجبال الشامخة التي تحاول الوصل بين الأرض والسماء إلا من نتائج هذه المجهود الذي يحاوله الزوجان. غير أن هذه الفرقة التي آلمت الزوجين إيلاما شديداً كانت سعيدة، لأنها سمحت للكائنات الحية بالوجود فوق الأرض كما سمحت للشمس بأن تظهر من السماء، ولكن سكان (هيليو بوليس) الذين كانوا على وفاق هي هذه الأسطورة يبدءون بعد هذه النقطة يختلفون، فيذهب بعضهم إلى أن (نوت) الذي هو عند الفريق الأول أحد الزوجين المتفرقين إنما هو البقرة العظمى الخالدة التي تنسل كل يوم عجلا هو شمس ذلك اليوم؛ أما زوجها فهو رع نفسه، ولذلك أصبح رع في نظر هذا الفريق متزوجا وترك حياة العزوبة القاحلة. وهناك فريق ثالث تفرع من الفريق الثاني وذهب إلى أن هذه البقرة الخالدة هي (نون) التي هي أصل العناصر جميعها والتي منها نشأ رع نفسه

ص: 50

غير أنه ينبغي أن نلاحظ أن البقرة الخالدة التي هي عند بعض العامة زوجة رع وعند البعض الآخر منهم أمه ليست إحدى هذا البقر الذي يدب على الأرض، وإنما هو تصوير لكائن عظيم كثير الخصوبة والإنتاج لا أكثر ولا أقل. وهذا الفريق الأخير الذي يرى أن البقرة الخالدة هي أم رع يعتقد أنها واقفة في الجو، وأن رع يتنزه في فلك من الذهب يسبح فوق ظهرها كل يوم من الشرق إلى الغرب على مرأى من الناس جميعاً. ولما أدركته الشيخوخة، وكانت أعضاؤه من ذهب، وعظامه من فضة، فقد طمع البشر في أن يستولوا عليه وأخذوا ينظرون إليه بعين الشراهة، فشاكته منهم هذه الجرأة الوقحة وصمم على عقابهم، ولكنه أبى أن يستبد بإصدار هذا العقاب فدعا مجلس الآلهة للانعقاد وعرض عليه هذه القضية، فأشارت عليه أمه بأن يبعث فيهم الآلهة (هاتور) تريق دماءهم وتقطع أعناقهم جزاء وفاقا لوقاحتهم وطمعنه في الآلهة؛ وقد كان، فنزلت الآلهة هاتور مقتلة مدمرة حتى ملأت سطح الأرض دماء، وكانت ستظل على هذه الحال حتى تبيد جميع العنصر البشري لولا أن أخذت الإله الشفقة على الإنسان من جديد، فصمم على العفو عنه، ولكنه لم يستطع إقناع (هاتور) الجبارة بالعدول عن خطتها التي كلفها بها مجلس الآلهة فاحضر لها عصيراً أحمر من بعض الفاكهة وأنباها بأنه من دماء البشرية التي تحقد عليها فشربته مسرورة ولم تعد تميز شيئاً، وبهذا وقف القتل والتدمير

وبعد أن كف رع حركة القتل عن بني الإنسان أحس بتقزز من استمراره في الحكم مع هذه الشيخوخة فاعتزل السلطة آسفاً محزوناً على الشباب وقوته. وقد انتهزت (ايزيس) هذه الفرصة الذهبية فاتجهت إلى رع وأنبأته بأنها تستطيع أن تعيد إليه الشباب على شرط أن يكشف لها عن اسمه الأعظم الذي لا يعرفه إلا هو. وما زالت به تغريه حتى حصلت على بغيتها التي كانت تعلم أنها تنيلها كل فرصة، للتصرف في الكون ثم مرت هذه السلطة بالتتابع إلى الآلهة (سو) فـ (جيب) فـ (أوزيريس) فـ (هوروس) ففرعون؛ وبهذا استطاع الشعب أن يؤول عقيدة الخاصة في ألوهية فرعون (ولعل القارئ لا تخفى عليه فطنة أولئك العامة الذين حينما رأوا الخاصة يؤلهون فرعون، ابتدعوا لذلك مبررات لبقة تسير في طريق منسق من رع إلى فرعون

نظرية الفكر المصرية أو أصل المثل الأفلاطونية

ص: 51

كان المصريون يعتقدون أن الاسم هو كل شيء في الكائن وأنه لا كائن بدون اسم، أو أن الاسم هو الفارق الأوحد بين العدم والوجود. لهذا تقول الآية المصرية القديمة:(أن جميع الآلهة قد خرجوا من فم رع وأن رع هو الذي خلق كل عناصر الطبيعة). ومعنى هذا أن (رع) هو الذي سمى الآلهة والعناصر، وكان أول من نطق بأسمائها جميعاً ومن حيث إنه كان إذ ذاك وحده. فيكفي لإيجاد الإله أو العنصر أن ينطق باسمه فيما بينه وبين نفسه أو أن يفكر فيه لأن نطق الاسم باللسان ليس إلا تعبيراً عن المسمى الموجود أو الفكرة التي يحتويها القلب والتي هي جوهر الأشياء جميعاً وبدونها لا يفوز موجود بالكينونة. وقد ذهب كهنة (هيليو بوليس) أو مدينة الشمس إلى أن الفكرة لا تمنح الكائن الوجود فحسب. بل أنها هي التي تحفظ عليه وجوده الدائم، فإذا قدر على أي كائن ما أن يزول اسمه من فكرة الإله، فأنه يهوى في الحال إلى العدم المطلق. ولا احسب أن من العسير على الباحث المتقصي أن يستكشف عناصر (المثل الأفلاطونية) واضحة جلية في هذه الفلسفة المصرية التي سبقت أفلاطون بأكثر من ثلاثة آلاف سنة، لأن أفلاطون يعتبر جميع هذه الكائنات المادية التي تدب على الأرض خيالات لا حقائق، ولا يعترف بوجود حقيقي إلا لعالم (الفكر) المجرد عن علائق المادة وغواشي الطبيعة. أما هذه الوجود المشاهد بالمدركات الدنيا، وهي الحواس، فهو لا يزيد على أنه ظلال لعالم الحقيقة الذي لا تدركه إلا قوه البصيرة التي تخلص صاحبها من الشهوات الحيوانية؛ وأما هذه الظلال المشاهدة، فوجودها لا يحقق حقيقة الكائن لأنه وجود مؤقت فوق أنه خيالي. وإذاً، فلست أظنني في حاجة إلى إيضاح الرابط المتين الموجود بين نظرية أفلاطون هذه وبين قول المصريين:(إن الفكرة لا تحقق للكائن وجوده فحسب، بل هي وحدها التي تضمن له دوام هذا الوجود) أو قولهم: (إن جميع الموجودات قد خرجت من فم (رع) وإنه يكفي لإيجاد الكائن أن يجري اسمه على لسان (رع) بعد أن مر مسماه بقلبه، لأن اللسان ليس إلا معبراً عن الجنان)

أليس في تعبيرهم بأن الفكرة وحدها كافية لتحقيق الوجود وخلوده تصريح واضح بأن كل ما عدا الفكرة في الكائن لا يؤبه له؟ ثم أليس في قولهم: أن الموجودات كلها خرجت من فم (رع) إيذان بأن المادة المحسة لا يستحق منها بالوجود إلا فكرتها التي خطرت لرع وأن المحس منها لا قيمة له؟

ص: 52

لا ريب أن في هذا الاكتشاف الذي أسجله اليوم على صفحات هذه المجلة رداً جديداً على أرسطو و (سانت هلير) ومقلديهما وإذنابهم القائلين باستقلال الفلسفة اليونانية وعدم تأثرها بالفلسفات الشرقية، كما أن فيه رداً بليغاً على ذلك الفريق الذي يحط من شأن العقلية الشرقية، لأن مذهب (المثل) - وهو أسمى ما أنتجته العقلية الغربية - هو مشيد على أساس هذه النظرية المصرية ما في ذلك لبس ولا ارتياب. وكما أن الفكرة هي التي تمنح الوجود للحوادث وتحفظه عليها، هي تحفظ الوجود الكامل كذلك على (رع) نفسه ولهذا السبب أهتم بأن يخلق العالم، لكي يظل اسمه حيا منبثاً في جميع عناصر الطبيعة، مذكوراً على السنة أفراد المخلوقات حتى يضمن لنفسه وجوداً كاملا من كل الوجوه، لأن تعقله هو لذاته لا يكفي في تحقيق الوجود الكامل إلا إذا خلا الكون من جميع ما سواه؛ أما وفي الوجود كائنات أخرى، فلا يتحقق له الوجود الأكمل إلا بتغلغل فكرته في كل قلب وجريان اسمه على كل لسان.

ومن هذا التغلغل نتج دور تفكيري عجيب، وهو أن الإله ضروري للإنسان بحيث لا يمكن وجوده إلا به، وأن الإنسان ضروري للإله بحيث لا يمكن استمرار وجوده الكامل إلا بتغلغل الإنسان إياه وتفكيره فيه ونطقه باسمه. ولا ريب أن هذه الدائرة قد أعلت من شأن الكهنة، لأنهم هم أكثر الناس ذكر للأسماء المعبودات، وبالتالي هم أكثر الناس تأثيراً في احتفاظ الآلهة بوجودهم الكامل.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 53

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشة

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

الوغد

ما الحياة إلا ينبوع مسرة. ولكن أيان شرب الوغد فهنالك جدول مسموم. أحب كل ما هو نقي، ولكنني لا احتمل رؤية الأشداق تتثاءب معلنة ظمأ الأرجاس، وقد جاؤا يسبرون أعماق البئر بأنظارهم فانعكست في قرارتها ابتسامتهم الشنعاء توجه سخريتها إلي.

لقد دنسوا المياه المقدسة بأرجاسهم، وما تورعوا فدعوا أحلامهم القذرة سروراً فدسوا سمومهم حتى في البيان. أن اللهب يتعالى مشمئزاً عندما يعرضون قلوبهم المائعة عليه، والروح نفسها تغلي وتتصاعد بخاراً عندما يقترب الأوغاد من النار، والأثمار نفسها يفسد طعمها وتتراخى عندما يلمسونها بأيديهم، وإذا ما حدجوا بأنظارهم الأشجار المثمرة فإنها لتجف على أعراقها.

لكم من معرض عن الحياة لم ينفره منها سواء الوغد الزنيم، فعافها إذ لم يشأ أن يقاسم هذا الوغد ما عليها من ماء ولهب وأثمار.

لكم من شارد لجأ إلى الصحراء متحملا السعار عائشاً بين الوحوش كيلا يجلس إلى بئر يدور بها حداة العيس بما عليهم من أقذار.

ولكم جاء الأرض من مكتسح أشبه بالبرد المتساقط من السحاب ولا أمنية له سوى ضرب قدمه في أشداق الأوغاد ليسد حناجرهم.

ما صعب عليّ الاعتقاد باحتياج الحياة إلى العداء والقتل والاستشهاد كما صعب عليّ التسليم بضرورة وجود الوغد الزنيم فيها.

أمن ضرورة الحياة هذه الينابيع المسممة والنيران المشبوبة تفوح بالروائح الكريهة وهذه الأحلام الرجسة وهذه الديدان ترتعي في خبز الحياة؟

ليس العداء ما قرض حياتي بل الكراهة والاشمئزاز. ولكم استثقلت الفكر نفسه عندما رأيت شيئاً من الفكر في رأس الوغد الزنيم.

ص: 54

لقد وليت ظهري للحاكمين عندما أدركت معنى الحكم في هذه الأزمان وتأكدت انه إنجاز بالقوة ومساومة الأوغاد عليها.

استولى اليأس عليّ فاجتزت مراحل الماضي والمستقبل وأنا أسد أنفى إذا انتشرت عليّ منهما روائح البيان السخيف

لقد عشت طويلا كالكسيح أصابه الصمم والعمى والخرس كيلا أعايش أوغاد السلطة وزعانف الأقلام والمسرات

ارتفع فكري درجة فدرجة وهو يعاني من حذره ما يعاني ولا عزاء له إلا بالغبطة؛ وهكذا مرت حياة الأعمى وهو يتوكأ على عصاه.

ما حدث لي يا ترى؟ وما الذي أنقذني من اشمئزازي وأعاد النور إلى عيني؟ وكيف تمكنت من ارتقاء المرتفعات حيث الينبوع الذي لا يحيط به الأوغاد؟.

أهي الكراهة نفسها استنبتت جناحي وأوجدت لي القوة للاهتداء إلى مفجر الينابيع؟ والحق أنني ارتقيت الذروة، ولو لم ابلغها لما وجدت ينبوع الغبطة والسرور.

لقد وجدته، أيها الأخوة، فرأيته يتدفق على الذروة غبطة وحبوراً، فاهتديت إلى المكان الذي يتاح فيه للإنسان أن يروي ظمأه دون أن يعكر عليه الأوغاد الأدنياء.

أنك لتسيل بشدة، أيها الينبوع المتفجر بالغبطة فتفرغ الكأس التي تملأها دهاقا،

عليّ أن أتمرن على الاقتراب منك بتؤدة، أيها الينبوع فإن قلبي يندفع بعنف إلى مسيلك. لقد استولى اليأس مع الحبور على هذا القلب الذي تمر عليه بحرها أيام صيفه فهو يتشوق إلى مياهك تنزل عليه برداً وسلاما.

لقد انقضت أحزان ترددي في الربيع وأذاب الصيف ثلوج نقمتي، فأصبحت وكل جوارحي تتوق إلى الاصطياف. أن خير الراحة ما تنتجع في أعالي الجبال قرب الينابيع الباردة. إليّ أيها الأصحاب لنحول هذه الراحة إلى غبطة وحبور فهذه ذروتنا، وهنا موطننا حيث نعتصم بالصخور فلا يبلغها الأرجاس ولا يصل إليها عطشهم المدنس.

أرسلوا أنظاركم الطاهرة على ينبوع مسرتي، أيها الأصحاب، فإنها لن تعكره بل تبقى على نفائسه فيبتسم لكم.

هنا تتعالى دوحة المستقبل. فلنبن لنا عشا بين أغصانها فتجيء إلينا العقبان حاملة لنا

ص: 55

الغذاء، نحن المنفردين.

ذلك غذاء لا يستطيع الأرجاس مقاسمتنا إياه فهو النار تحرق أشداقهم. وما نعد هنا مساكن للمدنسين، فإن سعادتنا تلفح أجسادهم وأرواحهم. ونحن نريد أن نحيا فوقهم فنهب كالرياح في مسارح العقبان ومطالع الشموس.

أنني سأعصف كالريح الصرصر على الأرجاس فاخمد أنفاسهم بأنفاسي، ذلك هو المقدور. فما زارا إلا ريح عاصفة ترهق الأعماق، وهو ينصح أعداءه وكل متفيئ نافث بألا يبصقوا في وجه الرياح.

هكذا تكلم زارا

ص: 56

‌رسالة الشباب

السياسة والروح العام

جاءنا من الأستاذ محمد فريد أبو حديد هذا الكتاب تعليقا على كتاب الأديب محمد زهدي ناصر وتوضيحا لتعقيبنا عليه ننشره شاكرين للأستاذ مساهمته الحرة في دعوة الرسالة

اطلعت في مجلتكم الغراء على مقال للأديب محمد زهدي ناصر ذهب فيه إلى أن دعوة الشباب إلى الاشتغال بالسياسة فيه مضيعة لجهودهم وفيه إقحام لهم في ميادين لا يستطيعون اقتحامها ولا يجمل بهم التلوث بما فيها من الأدران وهم لا يزالون في سن البراءة والإخلاص، وأنه أجدى بهم أن ينصرفوا إلى العلم والدرس حتى يستطيعوا أن يستفيدوا بوقتهم أكبر استفادة.

والحق أن الأديب على حق في رأيي إذا كان المقصود هو اشتغال الشباب بالسياسة العملية، فإن تلك السياسة أشد تعقداً وأوعر مرتقى من أن نجازف بشبابنا فندخله في ميدانها. ولقد كان رد الرسالة على حضرته رداً صائباً، ولكني أخشى أن يكون المحرر الأديب الذي كتب ذلك الرد لم يوضح التفريق بين السياسة والروح العام إذ قال:(على أن السياسة التي نريدها للشبان أوسع وأشمل مما يتصوره الكاتب الفاضل؛ فالسياسة دعوة وتدبير وقيادة؛ وقوى البلد المادية والأدبية معطلة من طول الإغفاء والترك؛ والإحساس الشاب هو وحده الذي يستطيع أن يحرك في طبقات الشعب هذا الجمود المزمن بالدعوة الصادقة والإرشاد الصالح والقدوة الحسنة) فالأستاذ المحرر يريد أن يفرق بين أن يعمل الشباب في ميدان السياسة العملي وأن ينغمر في تيار الاختلاف الحزبي، وبين أن يكون الشباب عاملا حياً تتوثب فيه الحماسة إلى ما فيه خير المجموع وتتقد في الروح العامة التي تتجه إلى إعلاء الوطن ورقي أهله من كل الوجوه. فهذا الروح العام الذي يتجه نحو المثل الأعلى جدير بأن يملأ قلوب الشباب، وليس فيه ما يشغل عن الدرس والعلم، بل إن قلب الشاب الذي يخلو من الاهتمام بأمور وطنه العام ولا يثور إلى الرغبة في خير مواطنيه ورفعة شأنهم لهو قلب فاتر قليل الخير.

إ سي، ذلك هو المقدور. فما زارا إلا ريح عاصفة ترهق الأعماق، وهو ينصح أعداءه وكل متفيئ نافث بألا يبصقوا في وجه الرياح.

ص: 57

هكذا تكلم زارا. .

ص: 58

‌رسالة الشباب

السياسة والروح العام

جاءنا من الأستاذ محمد فريد أبو حديد هذا الكتاب تعليقا على

كتاب الأديب محمد زهدي ناصر وتوضيحا لتعقيبنا عليه

ننشره شاكرين للأستاذ مساهمته الحرة في دعوة الرسالة

اطلعت في مجلتكم الغراء على مقال للأديب محمد زهدي ناصر ذهب فيه إلى أن دعوت الشباب إلى الاشتغال بالسياسة فيه مضيعة لجهودهم وفيه إقحام لهم في ميادين لا يستطيعون اقتحامها ولا يجمل بهم التلوث بما فيها من الأدران وهم لا يزالون في سن البراءة والإخلاص، وأنه أجدى بهم أن ينصرفوا إلى العلم والدرس حتى يستطيعوا أن يستفيدوا بوقتهم أكبر استفادة.

إإإإإن أعز ذكريات الشباب التي نحملها هي تلك الرغبة المتوقدة في خدمة الوطن، وهي تلك الأماني التي كنا نسعى جهدنا إلى تحقيقها، إذ كانت الأماني لا تزال طليقة، وإذ كان القلب لا يزال قوي النبضات. . . .

محمد فريد أبو حديد

جمعية الانبعاث القومي

وجاءنا من الأديب صاحب الإمضاء ما يأتي:

حيا الله (الرسالة) في عهدها الجديد: عهد توجيه شباب مصر إلى واجبه الأسمى نحو مصر.

وبارك الله في أستاذنا الكبير صاحبها، وجعله نبراساً ساطعاً للعاملين المخلصين من أبناء مصر، في سبيل مجدها ونهضتها.

وبعد: فلي كلمة متواضعة. من حقي أو من واجبي - كشاب - أن أدلي بها في موضوع الاقتراح الناضج الذي نشر في العدد السابق من الرسالة. تحت عنوان (الزحف الاجتماعي). أرجو - مخلصاً - أن يكون لها أثرها المفيد عند تنفيذه.

ص: 59

اقتراح لا أخالني أجانب الصدق إذ أقول انه اقتراح شباب مصر جميعاً، قام بواجب التبليغ عنهم أحدهم وأدى رسالته أميناً مشكوراً.

أرى، لضمان نجاح هذا المشروع القومي الجليل. وتمشيا مع ظروفنا الحاضرة، أن تتوفر لتنفيذه على الوجه الأكمل الشروط الآتية وهي:

أولا: - تضامن شيوخ الأمة مع شبابها.

ثانيا: - أن تكون قيادة المشروع للأمة وحدها. وتؤلف لهذا الغرض جمعية، اسميها (جمعية الانبعاث القومي). من عناصر قوية بارزة تمثل كلا من الجامعة الأزهرية والجامعة المصرية، والصحافة المصرية والمؤسسات المصرية وعلى رأسها بنك مصر

ثالثا: - على الحكومة فقط تعبيد الطريق للعاملين دون التدخل فضلا عن الرقابة، إلا في حدود القانون.

رابعا: - أن يكون عنصر الرواد من الجنسين، ويشترط فيهم الكفاية والأهلية، ويعطي تشجيعا للمتعطلين منهم مكافآت مالية ثابتة.

خامسا: - إدماج الجمعيات الخيرية والعلمية والثقافية الموجودة حالا تحت لواء جمعية الانبعاث القومي توحيداً للجهود والأغراض

سادسا: - أن تقوم بالنفقة الأمة وحدها في شخص الأغنياء من جميع الطبقات ومتوسطي المعيشة من أفراد الأمة، عن طريق الإعانات الدورية، والاشتراكات الشهرية

سابعا: - الاحتفاظ بقومية المشروع من المبدأ إلى المنتهى

سيد عويس

عبرة الشباب من حفلة التتويج

شهد الأسبوع الماضي في لندن مهرجانا قلما يجود الدهر بمثله. ذهلت فيه إنجلترا عن مشاغلها ومشاكلها، في خارجها وفي داخلها، ثم راحت تخرج تاريخها الرائع الساطع من كنوز ماضيها الجليل الأثيل لتجعل منه الدرة الكبرى لتاجها الماسي الذي تضعه من جديد، على مفرق ملكها الجديد.

سمع الناس وصف المهرجان في الراديو ورأى الناس مناظر المهرجان في السينما، فتمثلت

ص: 60

لهم عظمة هذه الأمة العريقة على أروع ما يتصوره الخيال ويدركه الحس: تقاليد الماضي العتيقة في جدة الحاضر الطريفة؛ وقرع النواقيس بجانب قصف المدافع؛ ومظاهر الأرستقراطية النبيلة في وسط الديمقراطية الأصيلة؛ وملك أثقلوه بالماس والذهب، وقلدوه السيوف والصوالج، وألبسوه الحلل والمعاطف. وضمخوه بالزيت المبارك، أجلسوه على كرسي متآكل فوق حجر منسوب إلى يعقوب وأركبوه مركبة بالية نابية طافت به شوارع لندن؛ ثم رئيس الأساقفة في طقوسه الغربية، وكبار النبلاء في أرديتهم العجيبة! وهذه القوى الثلاث: قوى الملك والدين والنبل هي التي كانت تحكم الدنيا الغربية أيام كان الزمان غير الزمان، والإنسان غير الإنسان، فأصبحت اليوم من عبر التاريخ التي تعرضها إنجلترا على أعين الأمم الحاشدة في لندن وهي تقول لهم: انظروا ماذا كافحت الأمة الإنجليزية حتى ظفرت بالحرية والديمقراطية والدستور! هل منعنا احتفاظنا بالتقاليد من أن نكون أمة التجديد، واحترامنا للدين من أن نكون أمة المدنية، وإخلاصنا للملك من أن نكون أمة البرلمان؟

في هذا الذي تسمعه وتراه من أمس الإنجليز ويومهم جواب مفحم لأولئك الغلاة الذين يريدوننا على أن نتجرد من الماضي العظيم، ونتخلى عن التراث الكريم، ونخرج إلى العالم كما تخرج اللقطاء إلى الوجود، لا تليد يغذي الطريف. ولا نسب يرفع الحسب.

إن شخصية الفرد هي مجموعة مزاياه الخاصة في التفكير والخلق والتصرف، وشخصية الأمة هي مجموعة تقاليدها الصالحة من العادات والاعتقادات والنظم. والشخصية هي حافزة الفرد على النهوض، ودافعة الأمة إلى الاستقلال؛ فإذا عبث بها عابث من النزق أو الضعف انمحى طابع الفرد فشاع، وفنيت قومية الشعب فخضع.

وإذا قال لنا الإنجليز أقوى دول الغرب، واليابان أقوى دول الشرق، إن الحاضر الثابت لا يقوم إلا على الماضي الراسخ، وإن الحوافز الشخصية لا يقويها إلا السنن القومية، كان شبابنا أحرياء بأن يقولوا لأولئك الناعقين: لا تحجلوا حجل الغراب، ولا تنصبوا مضختكم على السراب!

ص: 61

‌رسالة العلم

قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي بك

مدير مصلحة الكيمياء

- 4 -

وفي عام 1902 انبرى إرليش يطلب غايته، فأخرج كل ما لديه من الأصباغ وسواها صفاً صفاً فلمعت وبرقت واختلط لألاؤها. وتقاصر متقرفصاً أمام قمطراتها فتراءت زجاجاتها على رفوفها كالفسيفساء الرائعة في اختلاط ألوانها. فصاح لما جرت عينه عليه:(ألا ما أجل وأجمل!). ثم اقتنى لنفسه طائفة كبيرة من أصح الفئران. واقتنى لنفسه معها دكتوراً يابانياً مخلصاً غاية الإخلاص في عمله، صبوراً غاية الصبر فيه؛ وكان اسمه شيجا وكان عمله ملاحظة هذه الفئران وقص قطع من أطراف ذيولها ليأتي منها بنقطة من الدم يبحث فيها عن التريبنسومات، أو قص قطع أخرى من نفس الذيول ليأتي منها بنقطة دم يحقنها في دم الفأر السليم التالي وهلم جرا - واختصاراً كان واجبه أن يقوم بكل الأعمال الثقيلة الطويلة التي لا ينهض بها إلا جهد الياباني وصبره. وجاءت التريبنسومات اللعينة إليه أولا من معمل بستور بباريس في خنزير غيني حق عليه الفناء. ومن هذا الخنزير أخذها وحقنها في أول فأر، ومن ثم بدأ الطراد

وجربوا في هذه الفئران نحوا من خمسمائة صبغة! تجارب اعتباط وخبطات عشواء لا تمت بسبب إلى الأسلوب العلمي، ولكن هكذا كان إرليش في بحثه. كان كأنه البحار الأول يبحث بين أخشاب الشجر عن أوفقها لصناعة مجاذيفه. كان كالحداد الأول ينكش معادن الأرض يتحرى أنسبها لسبك سيوفه. كانت في اختصار طريقة بدائية هي أقدم طرق الإنسان للوصول إلى المعرفة، طريقة المحاولة الطويلة والعرق الكثير في سبيلها. وتقسماها بينهما، فقام إرليش بالمحاولة الطويلة، وقام شيجا بالعرق الكثير. وتلونت أجسام

ص: 62

الفئران ألوانا كثيرة، فمن الأحمر ومن الأصفر ومن الزرق، ولكن التريبنسومات اللعينة تكاثرت وازدحمت ورقصت في دمائها ثم قتلت الفئران جميعا مائة في المائة

وزاد إرليش في سجائره الأجنبية الغالية تدخينا، حتى في الليل كان يقوم ليدخن منها. وزاد شربه المياه المعدنية. وقذف بالكتب إلى رأس قدريت المسكين، وعلم الله ما كان مثله ليلام على جهله السبب في أن هذه الأصباغ لا تقتل هذه المكروبات. ونطق إرليش باللاتينية جملا رنانة، وابتدع أغرب النظريات يشرح بها ما ينتظر من هذه الأصباغ أن تفعله، وابتدع منها أعدادا لم يسبقه باحث إلى ابتداع مثلها من نظريات كلها خاطئة. ولكن في عام 1903 جاءت إحدى هذه النظريات الخاطئة تأخذه بيده فتهديه سواء السبيل

فذات يوم كان إرليش يمتحن ما تصنع أصباغ فصيلة البنزو بربورين - في الفئران، وهي أصباغ معقدة التركيب جملة، فوجد أن الفئران لا تحفل بها وتموت في تواصل مسئم لا انقطاع فيه. فتقطب جبين إرليش وقد كان مقطبا خلقة من هموم عشرين عاما لم يجد فيها النجاح إلى أعماله سبيلا. فقال لشيجا: -

(إن هذه الصبغة لا تنتشر إنتشارا مرضيا في جسم هذا الفأر، فلو أننا يا عزيزي شيجا غيرنا تركيب هذه الصبغة قليلا؛ لو أننا ومثلا أضفنا إلى جزيئها المجموعة الكبريتيه - فلعلها عندئذ تذوب في دم هذا الفأر وتنتشر بذلك فيه. وتقطب جبين إرليش ولم تكن يد إرليش بيد الكيميائي الصناع، ولكن رأسه كان مستودعا عظيماً ودائرة معارف واسعة لعلم الكيمياء. . وكره الأجهزة المركبة بمقدار ما أحب النظريات المعقدة. ذلك أن لم يكن يدري ماذا يصنع بالأجهزة. وإذا هو تناول الكيمياء بيده فإنما يتناولها للهو تناول اللاعب في الماء يخوض في الشاطئ الضحل ويخشى التعمق فالغرق. يبدأ ألف بدء بألف تجربة في أنابيب اختباره، فيلقي من هذه المادة على هذه، ومن هذه على تلك، وينظر ما أثر هذا في تغيير لون الصبغة؛ ثم هو يخرج متدفعا من معمله ليرى أول شخص يلقاه جمال ما وجد، ملوحا بالأنبوبة في وجهه صارخا فيه: (أنظر أي جمال! أنظر أي بدع!). أما التركيب الكيماوي الدقيق وخلق المواد الكيماوية بعضها من بعض فعمل لم يكن له إلا أساتذة الكيمياء وأبطالها.

وصاح إرليش: (لابد من تغيير تركيب هذه الصبغة قليلا، وإذن تنفع حيث لم تنفع من

ص: 63

قبل!) وكان كما تعلم رجلا مفراحا ممراحاً، وكان من أظرف الرجال واحبهم إلى الناس، فلم يلبث أن عاد من مصنع الأصباغ القريب وفي يده تلك الصبغة المذكورة وقد ألصقوا بجزيئها المجموعة الكبريتية المطلوبة فتغير تركيبها التغير (القليل) المطلوب

وضرب شيجا بمحقنه تحت جلد فأرين يطلق فيها تريبنسومات داء الورك. ومضى يوم؛ ثم أعقبه يومان، فأخذت عيون الفأرين تلتحم جفونها بهلام الموت، وقف شعرهما وتعامد هلعا من الفناء المنذر، ولم يبق إلا يوم واحد حتى ينتهي أمرهما جميعا. . . ولكن صبرا! فتحت جلد أحدهما ضرب شيجا محقنه يطلق في جسمه تلك الصبغة الجديدة الحمراء التي تغير تركيبها (قليلا). وشهد إرليش ما صنع شيجا، واخذ يتمتم ويدمدم ويقيس الأرض بخطى ذاهبة آيبة، ويضرب بيديه ورجليه. وما هي إلا دقائق حتى أخذت إذنا هذا الفأر تحمران وانفتحت عيناه بعد انغلاق، وأخذ بياضهما يستحيل إلى لون الورد فيزيد في احمراره على حمرة إنسانيهما. هذا يوم إرليش الأسعد. هذا اليوم الذي خبأته له الأقدار طويلا وخبأت فيه مجده. فتلك التريبنسومات ذابت بدم الفأر ذوبانا في وجه هذه الصبغة كما ذوب ثلج الأرض إذا طلعت عليه شمس إبريل الدافئة. تساقطت كل هذه المكروبات واحدة بعد واحدة حتى أخيرة الوحدات، أسقطتها تلك الصبغة المسمومة، تلك الرصاصة المسحورة التي طلبها طويلا حتى وجدها أخيرا. والفأر ماذا كان منه؟ انفتحت عيناه بعد انغلاقها وأخذ يجوس بمنخره في سقاطة الخشب بقاع قفصه حتى جاء يتشمم جثة زميله الذي لم يعالج بالصبغة وقد ارتمت هامدة باردة يرثى لها.

هذا أول فأر على ظهر هذه الأرض نجا من شِرّة هذا المكروب. أنجاه إرليش بفضل المثابرة والحظ، وبفضل الله، وبفضل صبغة أسموها (أحمر التريبان وأما اسمها الكيماوي فيطول. كثيرا وما أنجاه حتى زاد جرأة على جرأته، وزادت أحلام هذا اليهودي الألماني توثبا. قال يحلم: (ها قد وجدت صبغة تشفي فأرا فلأجدنّ أخرى تشفي ألف ألف رجل)

ولم يتحقق رجاؤه بالسرعة التي تمنى، واستمر شيجا يضرب أحمر التريبان في أجسام الفيران في جلد شنيع، فشفيت بعضها وساء حال بعضها. وقد يظهر على أحدها أنه برئ فيلعب ويمرح في قفصه، ثم يمضي عليه ستون يوماً فيطلع عليه الصباح بسوء المزاج، فيأتي شيجا فيقص قطعة من ذيله ثم يدعو إرليش ليريه المكروب الحي الفظيع وقد كثر في

ص: 64

دم الفأر حتى تلبد. ما افظع هذه التريبنسومات، وما اخدعها وما أصلب عودها! إن كل المكروبات الفظيعة عودها صليب؛ وإنك لواجد هذا المكروب أصلب المكروبات عوداً. وكيف لا وهذا هو قد اجتمع عليه ألماني وياباني فقذفاه بتلك الصبغة الزاهية فلعقها واستمرأها. وقد يتراجع عنها في حذر وتبصر وينتحي لنفسه منجى عن السوء في بعض نواحي الفأر ولكنه يتربص الفرص ليخرج ويتكاثر مرة أخرى.

فأرليش لم يكد يستمتع بنجاحه الأول القليل حتى توالت عليه ألف خيبة وخيبة.

فالتريبنسوم الذي وجد داود بروس أنه سبب مرض الناجانا وكذلك التريبنسوم الذي يسبب مرض النوم كلاهما برقا لأحمر التريبان وهزءا منه وضحكا عليه وأبيا كل الإباء أن يقرباه، كذلك وجد إرليش أن الصبغة التي نجحت نجاحاً باهراً في الفيران، أخفقت كل الإخفاق لما جربت في الفيران البيضاء والخنازير الغينية والكلاب. له الله ما كان أكثر جلده على مشقة مثل هذا العمل الطويل المسئم الذي لم يكن لينهض به إلا رجل ملحاح مثله رأى بشائر النجاح في شفاء فأر واحد فتشبث بأن النجاح سوف يأتي كله ولو امتد به الزمن واشتد عليه العمل.

إنك لو عرفت كم قتل إرليش من الحيوانات في تجاربه لقلت: (يا خسارتها)، وأنا مثلك كنت شديد الإيمان بالعلم معتزاً به وبسرعة إنتاجه اعتزازاً بلغ حد الغرور والغباء، فكنت مثلك أقولك:(يا خسارتها). ولكن لا. أو أن شئت فقل إنها خسارة كبرى، ولكن اعلم إلى جانب هذا أن الطبيعة ذاتها كثيراً ما تجود بأبرع أنتجتها ولكن بعد أن تبذل وتسرف في البذل في سبيلها عن سعة عظمى. ومع هذا فلابد أن تذكر أن إرليش تعلم من هذه الخسارة درساً قيما: هات صبغة لا نفع فيها إلا ازدهاؤها وجمالها، وغير تركيبها الكيماوي قليلا، تستحل إلى دواء ذي شفاء. فهذا الدرس نفع إرليش وملأه بالثقة وهو الواثق المعتز بنفسه دائماً أبدا

وزاد معمله على الزمن اتساعاً، وزاد نصيبه من محبة الناس واحترامهم. واعتقد أهل المدينة فيه العلم وفهم كل خفية من خفاياه وحل كل طلسم من طلاسم الطبيعة. وعلموا فيه النسيان فأحبوه لهذا النسيان. وتحدثوا فيما تحدثوا أن السيد الأستاذ الدكتور إرليش كان يعلم من نفسه النسيان، فتحين أحيان الأفراح في بيته فيضرب لها الموعد للاحتفال بها، فيخشى

ص: 65

أن ينسى المواعيد فيكتب لنفسه بنفسه خطابات في البريد يذكر نفسه بها. قالوا: (ما اسماه إنساناً!). وقال الحوذيون الذين اعتادوا حمله كل يوم إلى معمله: (ما أعمقه مفكراً) وقال لاعب الأرغون في الشارع، وكان إرليش يتحفه بالحلوان الطيب كل أسبوع ليضرب له بموسيقى الرقص في البستان بجوار معمله. قال:(لابد أن هذا الرجل عبقري!). وكان إرليش يكره الأرستقراطية في الموسيقى والآداب والفنون، ويرى أن موسيقى الرقص تدر عليه أحسن أفكار. وقال أهل المدينة الأخيار:(ما أكثر ديمقراطيته في الحياة إذا هي قورنت بأرستقراطيته في العلم،) وسموا شارعاً باسمه في فرنكفورت. ولم يبلغ سن الكبر حتى قالوا فيه ما قالت أساطير الأولين

ثم عبده أثرياء القوم. وفي عام 1906 نزل عليه السعد من السماء، فوهبته امرأة تدعى فرنسسكا إسباير وكانت أرملة لصاحب مصرف ثري مبلغاً عظيما من المال ليبني معملا يسميه (جورج إسباير)، وليشتري حاجته من الأدوات الزجاجية والفئران، وحاجته من حذاق الكيمائيين الذين يستطيعون بتلويحة يد أن يخلقوا كل صبغة حبيبة إليه، وان يركبوا كل العقاقير الكيمائية التي يركبها هو تخطيطاً على الورق ولولا هذه الهبة من هذه السيدة ما استطاع إرليش أن يصنع رصاصاته المسحورة أبداً، فلصنعها احتاج إلى مجهود هذا المعمل الكبير، هذا المصنع المليء بالبحاث وفي هذا البيت ترأس إرليش على بحاث كيمائيين وسادة مكروبيين فكان كرئيس شركة تخرج في اليوم آلاف السيارات، ولكنه في الواقع كان رئيساً عتيق الطريقة فلم يجر على أسلوب رؤساء الشركات الحدثين من دق الأجراس وإصدار الأوامر من كرسيه في حجرة الرياسة. بل كان دائم الحركة جوالا يدخل في هذا المعمل، ثم في هذا، ثم هذا، في كل وقت من أوقات النهار، ينظر ما يصنع أعوانه بل أرقاؤه وعبيده لكثرة ما يهيل عليهم من الأعمال. يدخل إلى هذا فيوبخه، ويدخل إلى هذا فيلاطفه ويربت على ظهره، ثم آخر يحكي له عن أخطاء صارخة آتاها هو نفسه من قبل

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 66

‌رسالة الفن

ليوناردو دافينشي

الرجل الكامل

للدكتور أحمد موسى

- 1 -

من أزهى عصور الفن في أوربا عصر الرفعة الإيطالية الذي اتجه فيه الفن منذ بدء القرن السادس عشر اتجاهاً مثلياً سواء في التحت أو التصوير.

وكان الميل كله منصبا على التعبير عن المثل الأعلى في النحت، وكان العطش نحو الكمال الفني بالغاً أشده، الأمر الذي ترتب عليه اتجاه الفنانين إلى الجمع بين الجمال السامي وبين المشاهد الحية:

فعمل الفنانون العارفون على دراسة الفن الإغريقي والتبحر فيه والغوص إلى أعماقه، مستلهمين منه الوحي، ساعين وراء درره الفذة، التي لولاها لما أمكن وصول الفن في عصر الأحياء إلى ما وصل إليه، مما يحار المشاهد في تعليل المقدرة الهائلة التي ذهبت به إلى هذه الناحية العالية، التي كانت ولا تزال رمزاً يتجه إليه الفنانون والعاشقون بكليتهم وبوجدانهم.

وعلى ذلك لا مناص من اعتبار عصر الرفعة عصر إحياء للفن الكلاسيكي في جوهره، واقتباس منه في مظهره، ورجوع إليه في أساسه، واستلهام منه في خياله.

ويرى المشاهد لما تركه أساطين الفن في القرن السادس عشر بإيطاليا، أن الغاية كانت الوصول إلى أسمى واكمل تكوين كلي، وأرفع وأجمل مجموع إنشائي، كما يلاحظ أن التصوير الزيتي أصبح تصويراً تاريخيا أكثر منه اجتماعيا أو منظرياً.

ولم يفز بدرجة الوصول في القرن السادس عشر إلا ثلاثة هم: ليوناردو، وميكيلانجلو، ورفائيل.

وإذا كنا قد تخيرنا اليوم ليوناردو دافينشي، فإن ذلك راجع إلى أنه المؤسس لهذا الاتجاه

ص: 67

العظيم. فكان بذلك النابغة الفذ، الذي لم يماثله في نبوغه أحد من معاصريه، فقد جمع إلى القدرة الفنية، الإحاطة بالهندسة والرياضة والعلوم الطبيعية والميكانيكا التطبيقية والموسيقى والشعر، كما كان مهندساً معمارياً قديراً ومثالا ومصوراً.

وعرف عنه أنه كان جميل الخلق جميل الطلعة نبيل الأصل، فلا غرابة إذا أطلق عليه المؤرخون (الرجل الكامل. كتب في كثير من الأبحاث، وله فيها آثار جليلة، من أهمها لتاريخ الفن كتاباه البديعان (قواعد علم التصوير)، و (الصناعة والجمال). ولكن جوهر حياته، وأعظم ما أنتج ووصل إلى الذروة فيه كان التصوير الذي اتخذه مهنة له عاش من أجله لتأدية رسالته فيه.

أما مميزاته الفنية فكانت المعرفة والمقدرة والخلق إلى أبعد حدود معانيها كلها. أما المعرفة فقد وصل فيها إلى حدود الدهشة فأحاط بالطبيعة إحاطة غريبة، لاسيما إلمامه بطبيعة الإنسان من الناحية التشريحية والفسيوجنومية، أعن ما يفهم من إشارات الأيدي وأوضاعها، وما تعبر عنه كل إشارة وما يقصد بكل وضع لها، ودرس حياة الحيوان وحياة النبات، وأخيرا المناظر الطبيعية الشاملة لكليهما، فضلا عن محبته العظيمة للحيوانات، ورغبته البالغة في مراقبتها ودراستها.

كان له الفضل في تأسيس منهج جديد في التصوير فجعله نابضا بالحياة، كما خلق فيه الظل والنور الممزوجين كالدخان فخلا كلاهما من خطوط التحديد، وأصبح النور مندمجاً في الظل متداخلا فيه لا يستطيع الناظر إليه أن يحدد موضع الفصل بينهما.

ووصل بتسجيله للواقع إلى أبدع ما يمكن الوصول إليه وهو المثل الأعلى في الجمال، وكان التكوين الكلاسيكي مذهبه، كما كان الانسجام روح هذا المذهب.

وتوفر معنى الأستاذية في الإنشاء الموضوعي لكل لوحاته، لعمق بحثه، ورقة تأثره، وبعده عن العنف التكويني إلا في بعض لوحاته التي أصدرها في المرحلة الأخيرة من حياته، فخلق بريشته شعراً منثوراً، يذهب بالمشاهد إلى استماع العاشق بالقرب عن معشوقه، كما لا يحرم المعشوق من كل معاني المديح والإطراء، فتراه يظهر أجسام النساء جميلة صحيحة منسجمة التكوين بعيدة عن التكلف أو التعمد.

ولد ليوناردو سنة 1452 في فيلا فينشي في حدود مقاطعة فيرنزا (فلورنسا)، جاء صغيرا

ص: 68

مع أبيه بيرو دافينشي إلى فلورنسا العاصمة، وتربى تربية علمية إلى أن التحق بالعمل عند اندريا فيروتشيو، واستمر لديه حتى سافر إلى روما في مارس سنة 1480، وأقام فيها إلى يوليو سنة 1481 ثم عاد إلى فلورنسا.

على أن لوحات ليوناردو الأولى ليست معروفة كلها، وقد أحاط بها شيء من الغموض لا يمكننا من تناولها جميعها بالفحص الوصف. ولكن هذا لا يمنع من أن نذكر أهم لوحتين له في مرحلته الفنية الأولى، وكلتاهما تمثل (التبشير)، توجد الأولى باللوفر ومؤرخة سنة 1470، والثانية بالجاليري أو في فيتزي بفلورنسا مؤرخة سنة 1472، وفيها ترى العذراء جالسة إلى مدخل بيتها وعلى يسار اللوحة ركع ملاك يبشرها بالمسيح، وفي مؤخر المنظر مجموعة أشجار ذات لون طبيعي جميل.

وله أيضاً جزء من لوحة معلمه فيروتشيو (تعميد المسيح)، قام ليوناردو بتصوير الملاك عليها، وهي محفوظة بأكاديمي فلورنسا وصورة العذراء مع الطفل (متحف ميونيخ) 1478، وقيامة المسيح مع القديس ليوناردو والقديسة لوتشيا (جاليري برلين) وصلاة الملوك الثلاثة للمسيح، وهي صورة لهيكل كنيسة عملت لوضع الفكرة والتصميم باللون الأسمر (جاليري الفاتيكان). ولعل آخر صورتين للمرحلة الأولى في خلقه الفني هما الصورتان المتشابهتان اسما وموضوعا (الماذونا في المغامرة)، الأولى من ناسيونال جاليري بلندن والثانية ش1 - باللوفر. والناظر إلى هذه اللوحة تأخذه لأول وهلة روعة القوة الإنسانية، وإحاطة ليوناردو بالمظاهر الطبيعية والتأثر بها؛ فالمغامرة الجميلة مجسمة صادقة المحاكاة، وأوراق الشجر حية دقيقة التفاصيل، هذا إلى جانب تصويره لطبقات الأرض على شاطئ الغدير فجعلها تحاكي النظرية الجيولوجية محاكاة علمية.

انظر إلى ركعة العذراء، وإلى الطهارة المتجلية في ملامح وجهها، ثم تأمل قوة الإخراج الرائعة لملابسها، وشاهد الظل والنور الذي تخلل انكسار هذه الملابس، ولاحظ الطريقة الفذة التي أخرج بها اليد اليسرى للعذراء وهي تشير للملاك، ثم تأمل إلى جانب هذا، الحنان الفائق الذي يتمثل في الكيفية التي أمسكت العذراء بها الطفل الجالس إلى يمينها.

وقف الملاك راكعا خلف المسيح الطفل يشير بيمناه إلى طفل آخر يصلي أمامه، والمتأمل لوجه الملاك لا يستطيع إلا أن يرى فيه سحرا يبعث في النفس كل معاني التقديس

ص: 69

للملائكة، ولعلك إذا قارنت بين نظرة العذراء إلى اسفل، ونظرة الملاك إلى المشاهد ترى أنك لا تعرف أيهما أروع، فأنت تحار في هذه القوة الخارقة التي وهبها ليوناردو والتي لم تكن لغيره من معاصريه.

انظر إلى اللوحة نظرة محيطة، واجتهد أن تتذوق ما فيها من تفاصيل، وارجع بفكرك إلى علم النبات، تر أن الفنان قد أعطانا فكرة رائعة عن جمال الأشجار من كبيرة وصغيرة، تأمل أوراق الشجر تر أنها كلها مع صدقها في محاكاة الطبيعة مختلفة التكوين والشكل، وهذا دليل على التفوق والإحاطة

(له بقية)

أحمد موسى

ص: 70

‌البريد الأدبي

الفن المصري في حاجة إلى الرعاية

ارتفع صوت الفنانين المصريين بالشكوى من موقف الحكومة معهم وضنها عليهم بالتشجيع والرعاية. بينما هي لا تضن بتشجيعها ورعايتها على الفنانين الأجانب الذين يهبطون مصر ويجدون فيها سبيل العيش خصبا موفورا في ظل هذه الرعاية. وفي مصر الآن طائفة لا بأس بها من الشباب الذين برعوا في الفنون الجميلة وتلقوها في أحسن المعاهد الأوربية، وقد ظهرت هذه البراعة ماثلة في كثير من المعارض التي عرضت فيها صور وتماثيل من صنع الشباب المصري؛ ولكن الحكومة المصرية أو بالحري وزارة المعارف لم تحفل كثيرا بمجهود أولئك الفنانين الشبان، وقلما عنيت بشهود معارضهم، بينما لا تتوانى عن شهود معارض الفنانين الأجانب سواء بحضور الوزير ذاته أو بعض أكابر الموظفين، أو شراء بعض اللوحات والقطع المعروضة. ومنذ أعوام قلائل أنشأ الفنانون المصريون لهم رابطة لتعنى بشؤونهم، فلم تولها الجهات الرسمية أية رعاية، ولم تتكرم عليها بأية معاونة. وهذه سياسة تحمل على التساؤل. ونحن لا نأخذ على وزارة المعارف أنها تشجع الفن والفنانين من أي الجنسيات؛ ولكن الذي يحز في نفس كل مصري أن يبقى هذا التشجيع كأنه وقف على الفنانين الأجانب؛ وأن يترك الفنانون المصريون بلا رعاية رسمية تذكي عمهم وتحقق أمانيهم. وقد آن الوقت الذي يحسن أن تعدل فيه وزارة المعارف خطتها، وأن تشمل الفنانين المصريين بسابغ رعايتها

مؤتمر القلم الدولي وبرنامجه:

يعقد المؤتمر الدولي الخامس عشر لاتحاد نوادي القلم في باريس في يوم الأحد 20 يونيه، ويستمر انعقاده إلى الرابع والعشرين وتقام حفلة الافتتاح في معهد التعاون العقلي، ويشمل البرنامج عدة حفلات واستقبالات ومآدب منها حفلة استقبال يقيمها رئيس الجمهورية للمندوبين، وحفلة ساهرة تقام في الكوميدي فرانسيز، وزيارات لمعالم باريس وفرساي، وحضور اللوار، ومعرض باريس الدولي. ويشمل برنامج العمل فضلا عن بحث الاقتراحات المختلفة مناقشة عدة مسائل أدبية هامة منها:

(1)

هل يوجد أسلوب معاصر للأدب العالمي؟

ص: 71

(2)

كيف يمكن التوصل إلى جعل الثقافة عالمية بغير طريق الترجمة؟

(3)

وكيف يمكن تنظيم التبادل في مسألة العقد الأدبي بين مختلف الأمم وإنشاء نقد أدبي دولي؟

(4)

الوسائل التي يمكن بحثها للتعبير المشترك في أدب الجيل الحاضر والمستقبل.

(5)

مستقبل الشعر في العالم الحديث.

وسينزل المندوبون ضيوفاً على لجنة تنظيم المؤتمر أيام المؤتمر الرسمية. وقد سبق أن أشرنا إلى أن نادي القلم المصري سيشترك في هذا المؤتمر على يد وفد من أعضائه برياسة الدكتور طه حسين بك عميد كلية الآداب، وقد ينتهز ممثلو مصر هذه الفرصة فيقدمون الدعوة إلى لجنة تنظيم المؤتمر بعقد أحد المؤتمرات لا قريبة المقبلة لنوادي القلم بمدينة القاهرة؛ على أن ذلك لا يمكن أن يكون قبل سنة 1940.

استعمار المناطق القطبية

لفتت روسيا السوفياتية في الأعوام الأخيرة أنظار العالم بالجهود الجبارة التي تقوم بها في سبيل إصلاح المناطق القطبية واستثمارها وتعميرها. والمناطق القطبية كما هو معروف بسائط شاسعة لا نهائية من الجليد، وتكاد تكون قفراً من البشر. وروسيا تسيطر على مساحات عظيمة من هذه المناطق سواء في سيبيريا أو في الجزر الشمالية القطبية مثل نوفازمبلا وستبزبرجن. وقد صدر أخيراً كتاب عجيب عن الجهود التي تبذلها روسيا لتعمير هذه الوهاد الثلجية الهائلة، وفيه بحوث هامة عن (المعهد القطبي) الذي أقامته الحكومة الروسية في لنتجراد وزودته بجمع عظيم من العلماء في مختلف الفروع التي تعاون على تحقيق هذه المهمة الاستعمارية العظيمة مثل الجيولوجيا والمترولوجيا والكيميا وعلوم المحيط واليولوجيا والتحليلات وغيرها. وعدد هؤلاء الأخصائيين ثلاثمائة وخمسون، وهم يبذلون جهوداً تدعو إلى الإعجاب في الكشف عن أسرار هذه الأنحاء القطبية. وعنوان الكتاب المذكور هو:(أربعون ألفاً ضد المحيط المتجمد) ومؤلفه كاتب خبير بشئون روسيا هو هوسمولكا. وقد يتعرض المؤلف جهود روسيا في سبيل اكتشاف المناطق القطبية وتعميرها، وذكر أن هذه المهمة تكاد تكون اليوم وقفاً على روسيا؛ وروسيا تقوم فيها بأعظم قسط من الجهود الإنسانية وربما كانت جهودها في ذلك أعظم ما قدمته في

ص: 72

العصر الأخير للعالم وللإنسانية. ويصف الكاتب أعاجيب (المعهد القطبي) وجهود علمائه وما وفقوا إليه من الاكتشافات العلمية والعمرانية، كل ذلك في فصول قوية شائقة بما تحويه من مختلف المعلومات الغربية عن الحياة في تلك الأصقاع المتجمدة

جوائز أدبية أمريكية

من أنباء نيويورك أن جائزة الأدب الكبرى المعروفة بجائزة (بولتزر) وقدرها ألف دولار (مائتا جنية)، وهي المخصصة لأحسن رواية، تصدر في العام قد منحت بواسطة جامعة كولومبيا التي تتولى أمرها، إلى الكاتبة الأمريكية مس مرجريت متشل من أجل روايتها (ذهبت مع الريح) التي بيع منها في أقل من عام نحو مليون ونصف نسخة

ومنحت نفس الجائزة عن أحسن قطعة مسرحية تصدر في العام إلى الكاتبين المسرحيين جورج كاوفجان وموسى هارت من أجل مسرحيتيهما (لن تستطيع أخذها معك)، وهي تمثل الآن على جميع المسارح الأمريكية الكبرى

ومنحت جائزة (بولتزر) أيضاً عن الصحافة لمستر جون ومن محرر جريدة (شمس بلتيمور) لأنه نشر أبدع مقال افتتاحي في سنة 1936

بحث عن البغاء

صدر أخيراً في فرنسا كتاب اجتماعي خطير عنوانه (بحث عن البغاء) بقلم الكاتب الكبير جان جوسي فرابا، وهو عبارة عن صور قوية مؤثرة مما شهد الكاتب وبحث بنفسه سواء في أماكن البغاء العلنية، أو في الشارع، أو في المنازل السرية الرفيعة، أو في أوكار البؤس المروعة. وقد قضى الكاتب في بحثه أعواما يجوس فيها أعماق باريس، ويحقق حالها الاجتماعية الخطيرة، وهو يتوجه فيه بالدعوة الحارة إلى الحكومة والبرلمان والأمة الفرنسية أن يعملوا جميعا لإنقاذ الإنسانية من هذا الوباء الاجتماعي الجارف وقد أثار الكتاب منذ ظهوره كثيراً من الاهتمام.

موقع طروادة

لبثت إلياذة هوميروس حتى العصر الحديث تعتبر قطعة من الخيال المحض، ولبثت مدينة طروادة التي اتخذت مسرحا لحوادث الإلياذة مدينة خيالية؛ ولكن مباحث العلامة الأثري

ص: 73

شليمان في منطقة (حصارلك) في غرب الأناضول كشفت عن موقع مدينة مسورة، عليها آثار الغنى والفخامة، ودلائل تدل على أنها احرقت؛ فقيل عندئذ أن هذه ليست سوى مدينة طروادة، وأن هوميروس حينما تحدث عن حصار طروادة حديثه الرائع لم يكن يروي سوى واقعة تاريخية؛ وحاول كثير من العلماء أن يطبقوا أوصاف الإلياذة على المدينة المكتشفة؛ بيد أن الحفر المتواصل في هذه المنطقة كشف عن سبع مدائن قديمة. فأيها في الواقع طروادة؟ ولاحظ بعض العلماء من جهة أخرى أن هذه المدن المتواضعة لا تتناسب مع الأوصاف الرائعة التي يسبغها الشاعر على (طروادة). وقد ظهر أخيراً كتاب بالفرنسية عنوانه (الجدل حول طروادة). بقلم العلامة الفرنسي شارل فلاي، يستعرض فيه مختلف الفروض والنظريات التي تنطبق على طروادة وظروفها. ذلك أن المعروف أن طروادة قد خربت وأبيدت، فكيف يرجو المنقبون أن يقفوا على أطلالها كاملة؟ ومن جهة أخرى فليس من المحقق أن هوميروس كتب عن علم دقيق بالجغرافيا والمواقع، وقد يكون للخيال شأن كبير في الأوصاف التي يقدمها ألينا عن المدينة الشهيرة، ويحاول المؤلف أن يناقش هذه الآراء كلها، وأن يستخلص أوضح النتائج التي تؤيدها الأسانيد التاريخية والجغرافية والأثرية عن موقع طروادة، وعن مصايرها منذ التاريخ القديم

الخطابات الغفل

ذاع في العهد الأخير في فرنسا توجيه الخطابات القاذفة الغفل من التوقيع، وضبطت لهذه الخطابات عدة وقائع رنانة؛ وكتب الكتاب والعلماء بهذه المناسبة يبحثون عن أعراض هذه العلة وأسبابها؛ ويقول الدكتور لوكار في مقال نشرته جريدة الجورنال الباريسية أن كتابة الخطابات الغفل ترجع إلى بواعث ثلاثة هي المصلحة والانتقام والحسد، فهذه البواعث الثلاثة هي التي تحمل الشخص العاقل على عدم توقيع ما يكتبه. بيد أن هناك أشخاصا تنتابهم أزمات عقلية وعصبية معينة فيكتبون مئات الخطابات الغفل، وهنا تبدأ أعراض المرض ذلك لأن شهوة الخطابات الغفل مرض حقيقي؛ وربما كانت أهم أسبابه راجعة إلى عوامل جنسية، ومن النادر أن تجد الخطابات الغفل مكتوبة باتزان أو لغة محتشمة، فهي في الغالب مصوغة في لهجة فاحشة. ولكنها تدل أيضاً على جهل كاتبيها بهذه الصيغ القاذفة لأنهم في الواقع ينتمون إلى بيئة رفيعة.

ص: 74

وكثير من العذارى اللائي تقدمن في السن. أو أرهقهن الضغط الاجتماعي يجدن متنفسا في كتابة الخطابات الغفل؛ وقلما تصدر هذه الخطابات من شخص - رجل أو امرأة - يتمتع بحياة جنسية منتظمة

ومن خواص كاتب الخطاب الغفل إلا يعترف أبداً. وكثير من النساء يضبطن وهن متلبسات بالكتابة ومع ذلك ينكرن عملهن.

والخلاصة أن شهوة الخطابات الغفل مرض؛ والمصاب بها يمكن أن يعتبر شخصا غير عادي إذا لم يكن مجنونا في الواقع

ص: 75

‌رسالة النقد

إسماعيل المفترى عليه

تأليف القاضي بيير كربتيس

وترجمة الأستاذ فؤاد صروف

للأستاذ الغنيمي

- 5 -

نستطيع أن نفهم أن المترجم قد يخطئ في عبارة صعبة غامضة المعنى، ولكن الذي لا نستطيع أن نفهمه أن يعمد المترجم إلى عبارة سهلة واضحة المعنى فيستبدل بمعناها معنى آخر من عنده بعيد كل البعد عن المعنى المراد

(1)

أنظر إلى قول المؤلف عن موقف إسماعيل من السخرة

'

فهل في هذه العبارة غموض يجيز للأستاذ صروف أن يترجمها بقوله: (إن موقف إسماعيل بازاء السخرة لم يكن يقصد منه التظاهر) من أين جاء الأستاذ بالتظاهر. أن المعنى الذي لا يخفى على إنسان هو لم يقف إسماعيل موقفه من السخرة لفكرة عارضة زائلة)

(2)

ومن هذا النوع أيضاً العبارة الآتية التي تبين الأثر الذي انطبع في ذهن إسماعيل حين رأى صمويل بيكر لأول مرة

والتي ترجمها الأستاذ صروف بهذه العبارة الغامضة (وقع عنده موقعا حسناً) فأين ذلك من قول المؤلف أن إسماعيل قد اعجب بشخصيته القوية أو أثرت فيه شخصيته القوية

(3)

ولا يختلف عن ذلك ما ترجم به الأستاذ صروف وصف المؤلف لحملة بيكر الذي يقول فيه

فقد ترجمه الأستاذ صروف بقوله (أنها كانت عملا ذا شان خطير) أما سبب هذا الخطر

ص: 76

وهو طبيعتها وصفتها الرسمية فلم يعن المترجم بيانه كما بينه المؤلف

(4)

ومن العبارات التي أغفلها المترجم قول المؤلف في موقف إسماعيل من السير صمويل بيكر

، ' ;

وكل هذه معان لها قيمتها لم يذكرها المؤلف عبثاً، وليس فيها شيء من الصعوبة، ولكن الأستاذ حذفها كلها

(5)

وترجم الأستاذ عبارة بقوله التجارة المنظمة مع أن معناها التجارة المشروعة؛ والفرق بين المعنيين كبير لأن النخاسة قد تكون تجارة منظمة. أما التجارة المشروعة أو المباحة فلا يمكن أن تشمل تجارة الرقيق

(7)

ثم لينظر القارئ معنا إلى هذه العبارة التي يصف بها المؤلف عمل المراجعين الذين جاءوا لفحص حسابات إسماعيل

; ; ; ; ; ، ;

ولينظر بعد ذلك إلى ترجمة الأستاذ صروف التي يقول فيها (إن فاحصي الحسابات (المراجعون) لا يهمهم عادة إلا فحص ما يقدم إليهم من سجلات ودفاتر ومن مستندات الديون التي هي للغير أو على الغير)

ونحن إذا تجاوزنا عن أسلوب هذه العبارة نرى أنها لم تؤد إلا جزءا يسيراً من معنى العبارة الإنجليزية. قد يكون في هذه العبارة الإنجليزية شيء من الصعوبة ولكن هذه الصعوبة هي محك القدرة على الترجمة وإلى الأستاذ ترجمة لهذه القطعة جامعة لكل ما فيها من المعاني:

(إن المحاسبين في العادة لا قلب لهم، وليس لهم شأن بإحساس الناس وعواطفهم، ولا يضعون نصب أعينهم إلا غرضا واحدا هو البحث والتدقيق، لا تأخذهم فيه هوادة. وكل ما يعنون به هو ما للشخص وما عليه سواء أكان ذلك حقيقة حاضرة أم تقديرا مستقبلا

(7)

هل يصدق القارئ أن الأستاذ صروف قد ترجم

بقوله (قبل مغادرته السودان في مهمته الأولى) وهل يمكن أن لا يعرف الأستاذ صروف أن

ص: 77

معناها (سافر إلى) لا غادر؟ وأين كانت مهمة غردون الأولى التي سافر إليها من السودان؟

إنا لا نكاد نصدق أن الأستاذ صروف قد ترجم هذه العبارة أو اطلع عليها وعلى الأصل بعد الترجمة

قال المؤلف في الأموال التي أنفقها إسماعيل في حرب الرقيق

فقلب الأستاذ صروف معنى هذه العبارة إذ قال: (ومع أن الاعتبارات المار ذكرها قد تسوغ إنفاق إسماعيل للمال الخ) مع أن الترجمة الصحيحة هي: وحتى لو كانت هذه الاعتبارات كلها تبرر إغفال الأموال التي أنفقها إسماعيل وتجيز محوها مسجل أعماله الأدبية الخ) وما اكبر الفرق بين المعنيين!

(8)

وقال المؤلف في تقديره الأموال التي أنفقها إسماعيل في محارة النخاسة

فلم ير الأستاذ صروف أن يترجم هذه العبارة بأكثر من قوله (ولا يعزب عن البال) والأستاذ مولع بمثل هذه العبارة المبهمة فقد تكررت هي ولفظ (وعليه) أكثر من مرة بدل جمل طويلة ذات معان كثيرة في الأصل الإنجليزي

(10)

ويقول القاضي كربيتس إن قناصل أوربا وأمريكا كانوا يجمون تجارة الرقيق، وأن السفن التي كانت تحمل العبيد كانت ترفع الراية الأمريكية ثم يقول بعد ذلك:

فقال الأستاذ صروف في ترجمتها إنهم كانوا بمأمن من تعرض قناصل أوربا وأمريكا) مع أن المعنى الحقيقي أن (قناصل أوربا وأمريكا كانوا يحمون هؤلاء التجار من أن يتعرض لهم أحد. ذكر المؤلف ذلك في الفقرة السابقة لهذه العبارة المنقولة من كتاب السير صمويل.

(9)

هل سمع القارئ أن كلمة:

معناها (القرية المقصودة) هذا ما ترجمها به الأستاذ صروف بدل القرية الآمنة أو الغافلة عما يراد بها.

(10)

وقال المؤلف عن العقد الذي كان بيكر وإسماعيل باشا

ص: 78

أليس المعنى الذي يفهمه كل إنسان من هذه العبارة هو: ويلوح أن (السير صمويل بيكر) هو الذي كتب صورة العقد الذي يحدد علاقته بالوالي. لكن الأستاذ لم يفهمها كذلك بدليل أنه قال في ترجمتها (ويظهر أنه كان بينه وبين الخديو عقد لتنظيم علاقته به) وهذا ما لم يقله المؤلف، فإن وجود العقد لاشك فيه كما قال ذلك بصريح العبارة بعد سطر واحد من هذا الكلام ولكن الذي لم يتأكد منه هو أن كاتب هذا العقد هو السير صمويل بيكر.

(11)

وقال المؤلف يصف صعوبة نقل المؤن والذخائر والسفن من مصر إلى السودان

-

فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله (كان يجب نقلها مسافات شاسعة جدا) وأين بقية المعاني؟ أين طرق نقلها - البواخر البحرية والقوارب النهرية وظهور الإبل؟

نكتفي بهذه الأغلاط من الفصل الخامس لننتقل إلى الفصل السادس لنبدأه بهذه الغلطة التي لا يصح أن يقع فيها مترجم.

(1)

قال المؤلف عن الرجال الذين صحبوا بيكر في رحلته

، ،

أيدري القارئ ماذا قال الأستاذ صروف؟ قال: (أبطالها السير صمويل بيكر نفسه وابن أخيه واتباعه عبد القادر ومسلم ومنصور ورجل قبطي وطائفة من الاتباع والأنصار). أننا كلما أمعنا في قراءة الكتاب زادت شكوكنا في أن الأستاذ صروف قد ترجمه بنفسه أو اطلع على الترجمة، وإلا فهل كان يخفي عليه أن معنى العبارة هو:(أبطالها السير صمويل بيكر وابن أخيه وعبد القادر المسلم ومنصور القبطي وكل رجل من هذه الطائفة المصطفاة): قد يظن الأستاذ صروف أن الشولات تجيز له أن يفهمها كما فهمها ولكن ذلك ظن غير صحيح فعبد القادر هو المسلم ومنصور هو القبطي مهما وضع بينها من شولات

(1)

وقال المؤلف في هذا المعنى نفسه:

فقال المترجم (لصوصها الذين تحولوا إلى الشهامة) وهي عبارة لا معنى لها ولا ندري لم لم يترجمها الأستاذ كما هي ليفهمها الناس فيقول (لصوصها الذين عدوا (أو اصبحوا) فيما

ص: 79

بعد قديسين)

(3)

وقال المؤلف يصف حفلة رفع العلم المصري على البلاد التي فتحها بيكر.

فقال الأستاذ صروف (ووقف الجنود بشكل ثلاث أضلاع من أضلاع مربع مستطيل) ولا ندري ما هو هذا المربع المستطيل ولا من أين جاء الأستاذ صروف بلفظ مستطيل التي أفسدت المعنى

(3)

وقال إسماعيل في عهده إلى السير صمويل بيكر وهو ذاهب لمحاربة الرق

فقال الأستاذ صروف في ترجمة الجملة المنقولة عن وثيقة رسمية عظيمة القيمة: (فتجذب إليك القبائل) فأين هذا من معناها الحقيقي وهو أنك لا تلبث أن ترى الأهليين يستبدلون بعملهم المحرم عملا مشروعا)

(4)

وقال المؤلف عن غردون وإسماعيل

ومعنى ذلك أنهما (من أشراف الإنجليز الذين يضنون بصداقتهما وثقتهما على أشرار الناس) ولكن الأستاذ صروف يترجم ذلك بقوله (وما كانا ليفرطا في صداقته)

(4)

هل معنى (بعض الأرباح) أو معناها أرباحاً عظمية

(5)

وقال المؤلف في معرض كلامه عن الضابط الأمريكيين الذين استخدمهم إسماعيل.

وهي عبارة معناها (لا توجد كتاب زرقاء تؤيد هذه الأقوال ولكن المترجم لسبب ما ترك هذه العبارة من غير ترجمة

(6)

وقال إسماعيل في خطابه إلى رئيس الضباط الأمريكيين.

معناها أني أعتمد على حكمتك وإخلاصك وغيرتك) ولكن الأستاذ ظن أن مشتقة من لفظ فترجم العبارة كلها بقوله: (إني أعتمد على حبكم وإخلاصكم ومراعاتكم لشروط الكتمان) فغير بذلك المعنى وأفسد الأسلوب

ص: 80

(7)

وقال المؤلف يعلق على تعيين الجنرال استون رئيسا لهيئة أركان حرب الجيش المصري

. . .

وهي عبارة طويلة ترجمتها بالضبط (وكان لهذا التعيين معنى أبعد من مجرد! اختيار مت، ولورنج، وسيلي فجيش الوالي كان نحوي كثيرا من الضباط الأجانب. لقد كان اختيار هذا الضابط الأمريكي لذلك المنصب ثم اختيار عدد كبير من بني وطنه معه ذا معنى خاص. كان إيذانا بانقضاء عهد السيادة الفرنسية على مصر ولم يكن معناه أن إنجليزيا سكسونيا قد خلف غاليا (فرنسيا) أو أن الصقلي والتيوتوني قد ضعف آمرهما معا. لم يكن معناها ذلك بل كان معناه أن عهدا جديدا قد طلع على مصر وأن إسماعيل قد حرر بلاده من القيود الأجنبية واعتزم أن لا يكون لأحد سلطان عليه: نعم أنه استعان بالأمريكيين ولكن أحداً لا يجهل أن الولايات المتحدة لم يكن لها مطامع استعمارية في مصر أو في أفريقية

ثم انظر بعد ذلك إلى ترجمة الأستاذ (وكان لهذا التعيين مغزى ابعد من تعيين سائر الضباط الأجانب في جيش الخديو إذ كان نذيرا بانتهاء السيادة الفرنسية وببدء عهد جديد تتمتع فيه مصر باستقلالها ويصبح فيه الخديو سيد نفسه. ومما أعان على تحقيق ذلك ما يعرفه الخاص والعام من أن الولايات المتحدة كانت منزهة عن كل غرض استعماري أو غاية إمبريالستية في مصر وأفريقيا.)

لو أن الأستاذ كان يلخص الكتاب لجاز له أن يقول هذا القول على ما فيه من تغيير واختلاف عن قول المؤلف؛ أما الترجمة فلا يجوز فيها هذا. وقد حذفنا أصل هذه الفقرة الإنجليزي لأنه يشغل عمودا كاملا من الرسالة فليرجع إليه القارئ أن شاء ونؤكد له انه يطابق ترجمتنا مطابقة تامة

(8)

هل يصدق القارئ أن الأستاذ صروف يقول (وفي وسعنا أن نخمن على تلك الأعمال) ترجمة لقول المؤلف.

الذي معناه (إننا نستطيع أن نتصور مجموع هذه المبالغ بوجه التقريب الخ)

ولنكتف بهذا القدر اليوم وموعدنا العدد القادم أن شاء الله

ص: 81

الغنيمي

ص: 82