المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 203 - بتاريخ: 24 - 05 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٠٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 203

- بتاريخ: 24 - 05 - 1937

ص: -1

‌الرافعي

للدكتور عبد الوهاب عزام

(قال قائل: (مات سنائي!)

إن موت مثل هذا العظيم ليس خطباً أمماً. لم يكن تبنة ذهبت بها الريح، ولا كان ماء جمد في الزمهرير، ولا كان مشطاً كسرته شعرة، ولا كان حبة سحقتها الأرض؛ إنما كان كنزاً من الذهب في هذا التراب لا يزن العالمين بمثقال ذرة.

لقد رمي القالب الترابي إلى التراب، وحمل الروح والعقل إلى السموات)

ذكرت هذه الأبيات: أبيات جلال الدين الرومي حينما قرأت نعي الرافعي، واعجباً! أنضبت هذه النفس الفياضة؟ أذبل هذا الخلق النضير؟ أخمدت هذه الجذوة؟ أطفئ هذا المصباح؟ أكلت هذه العزيمة الماضية؟ أفترت هذه الهمة الدائبة؟ أأظلم هذا القلب الذي يملأ الدنيا ضياء؟ أوقف هذا الفكر السيار؟ أوقع هذا الخيال الطيار؟ أسكن هذا القلم المصور الذي يصبغ العالم كما يشاء، يضحكه ويبكيه، ويسخطه ويرضيه، والذي إذا شاء صور أحزانه مواسم، ورد أعياده مآتم؟

أمات الرافعي في وقدة جنانه، وشعلة بيانه، وعزة قلبه وسلطانه؟ أطوي القلب الذي وسع الدنيا وما وسعته، وحقرها وأكبرته؟

كلا كلا! إن مولد الحر في الدنيا قليل؛ وإن موت الحر مستحيل. إن مولد الحر تتمخض عنه الأجيال بعد عناء، ويمهد له الزمان بعد جهاد، ليولد على الأرض تاريخ أو فصل من تاريخ، فإذا انقضى عمله وجاء أجله فهو تاريخ لا يمحى، وذكرى لا تموت!

إن الحر ليولد على هذه الأرض كما يولد النجم في أطباق السماء فلا يزال وضّاء هادياً، أو كما يولد النهر في سفح الجبل فلا يفتأ جارياً ساقياً، أو كما تولد الحقيقة في أفكار البشر ثم لا تموت.

إن الحر الكريم قطرة صافية تستمد الله، فلا يحول عنها نوره؛ ولا يتحول عنها وحيه، وهي في خلق الله سنة لا تتبدل فلا تستعبد الحر الأهواء، ولا تذله المطامع؛ وهو يأبى على الحدود، وينفر من القيود، ويكبر على الزمان والمكان، إن خلق الناس زمانهم خلق هو زمانه، وأن حد الناس مكانهم حد هو مكانه؛ فإذا ساق الناس التقليد أو قادهم، وإذا خيل

ص: 1

إليهم الباطل حقاً والحق باطلاً؛ وقف هو هازئاً أبياً يستوحي ربه، ويستفتي قلبه؛ وإذا جرف التيار الخاصة والدهماء، فاضطربوا في موج الحادثات كالغثاء، ترمي بهم كل شط، وتنفر من كل أرض، ثبت الحر كالطود الأشم في البحر الخضم:

يضل كالطود يجري حوله نهر

من الخطوب له بالناس طغيان

فاتت مآرب أهل الذل قمته

فما يذلّله نيل وحرمان

إن الرجل الحر صفحة في التاريخ جديدة، وخطوة في سير البشرية متقدمة، على حين لا يظفر التاريخ بجديد في آلاف المواليد، ولا يخطو خطوة إلى الأمام في كثير من الأعوام. وهل التاريخ كما قالوا إلا إعادة وتكرار؟

ولقد أوتي الرافعي من الحرية الإلهية نصيباً، ومن النور الإلهي قلباً، ومن الفيض الإلهي ينبوعاً، فلبث دهره نسيج وحده، وظل حياته ينير للسالكين، ويسقي الظامئين. ولقد أوتي من العزة الإسلامية ما تخر له الجبال، ومن الهمة القرآنية ما تنشق له الأهوال. ولقد أوتي من الإيمان ما أصغر الدهر في سطواته، ومن نور الإيمان ما شق على الزمان ظلماته.

كان الرافعي نوراً وسلاماً، ومحبة ووئاماً، فإذا سيم الدنية في دينه أو في أمته؛ وإذا تجهم الباطل لحقه، أو تطلعت المذلة إلى خلقه، ألفيت النور ناراً تلظى، والسلم حرباً تهيج، والحب بغضاً ثائراً، والرحمة شدة حاطمة.

لبثت سنين طوالا أقرأ للرافعي ولا أراه، وأحبه ولا ألقاه، وأتحدث عنه معجباً ثم أقول لمحدثي: هذا وجه ما سعدت برؤياه، حتى لقيته العام في لجنة التأليف والترجمة والنشر وكأنا صديقان قديمان. ثم أتاحت الفرص لقاءه مرتين أو ثلاثاً كانت آخرتها في دار (الرسالة) بعد أن كتبت مقالتي عن كتابه وحي القلم. ثم افترقنا وما علمت أنه آخر العهد وفرقة الدهر!

وإني لأعترف للقارئ في غير تزيد ولا تصنع أني أجد في نفسي وقلمي تهيباً للكتابة عن الرافعي؛ وأرى جوانب تتسع ثم تتسع حتى يضيق المجال. ولقد حاولت أن أنظم فكنت كلما أخذت القلم تذكرت هذه الأبيات من منظومتي (اللمعات) فقلت إنها تمثله. إنها تمثل الرجل الحر حيث كان

حبذا الصوت فمن هذا البشير؟

ومن الهاتف بالقلب الكسير؟

ص: 2

ومن البارق في هذي الغيوم؟

ومن المسعد في هذى الهموم؟

ومن الهابط في نور السما

هادياً في الأرض جيلاً مظلماً؟

ومن السائق شطر الحرم

وإلى الأصنام سير الأمم؟

ومن القارئ في بيت الصنم

سورة الإخلاص في هذا النغم؟

ومن الحر الذي قد حطما

من قيود الأسر هذا الأدهما؟

ومن الآبي على كل القيود؟

ومن القاطع أغلال العبيد؟

ومن الباعث في ميت الأمم؟

ثورة العزة من هذي الهمم؟

لاح كالغرة في هذا السواد

بص كالجمرة في هذا الرماد؟

إنه ليصدق من يجيب كل سؤال في هذه الأبيات بهذا الاسم الكبير: (مصطفى صادق الرافعي).

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌بل ضرورية جداً

للأستاذ عباس محمود العقاد

تعودنا أن نسمع أن الفنون الجميلة من الكماليات التي يأتي دورها بعد العلم والصناعة في الأهمية، وفي مقالكم المشار إليه تقولون إن علينا أن نبدأ بالفنون الجميلة والرياضة لنتعلم الإرادة والعمل، فهل لكم أن تنيروا الطريق لنا بالتوفيق بين القولين. . .)

الإسكندرية

صالح شحاته

الحق يا صاحبي أننا في عصر نحتاج فيه إلى غربلة وافية لجميع الألفاظ التي لهجنا بها زمناً في مطلع نهضتنا الحديثة، ومنها ألفاظ الضروريات والكماليات وتقديم الأهم على المهم والمفاضلة بين العلوم والفنون، وسائر هذه المحفوظات التي خلت من المدلول لكثرة تكرارها واكتفاء الآذان بسماعها دون التفكير فيها.

فمن الواجب (أولاً) أن نفرق بين الفرد والأمة فيما هو من الشؤون الضرورية وما هو من الشؤون الكمالية.

فالفرد لا يشترط فيه أن يستوفي جميع المزايا الإنسانية والملكات الحية، وليس من اللازم ولا من المستطاع أن يكون قوياً وذكياً وجميلاً وعالماً وشاعراً وصانعاً وغنياً وسائساً زعيما ومفكراً مقتدى به وإماماً متبعاً في مطالب الحياة كافة.

ولكن إذا اجتمع عشرون مليون فرد في قطر واحد فمن الضروري - وليس من الكمالي - أن تتوافر بينهم جميع المزايا الإنسانية والملكات الحية التي تتفرق في الأفراد، وإلا كان النقص دليلاً على مسخ ذريع في التركيب وعجز شائع في عناصر الطباع. ويستوي هنا أن يكون الناقص لعباً أو جداً، وفناً أو علماً، وخلقاً أو رأياً، فإنما المهم أن الملايين العشرين يتسعون لكل مزية عرفت في بني الإنسان، وإلا كانوا ناقصين في الضروريات للأمة وإن كانت معدودة بالقياس إلى الفرد من الكماليات والنوافل.

ومن الواجب (ثانياً) أن نقلع عن تقويم المطالب القومية بمقدار الحاجة إليها والاستغناء عنها، فان ذلك تقويم غير صالح وغير صحيح.

ص: 4

فنحن نستطيع أن نعيش بغير ملكة النظر وبغير ملكة السمع أو الكلام سبعين سنة دون أن نهلك من جراء ذلك.

ولكننا لا نستطيع أن نعيش بغير الرغيف وما إليه سبعين سنة ولا سبعين شهراً ولا سبعين يوماً إلا هلكنا هلاكاً لا ريب فيه؛ ولم يقل أحد من أجل ذلك إن الرغيف أغلى من البصر، وإن ملكات الحس لا تستحق المبالاة كما يستحقها الطعام والشراب.

وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فأنا واجدون أن الرغيف أرخص من الكتاب، وأن التمثال أغلى من الكساء، وأن الحلية أقوم من الآنية الضرورية، وأن قيمة الشيء لا تتعلق بمقدار الحاجة إليه والاستغناء عنه، بل بمقدار ما نكون عليه إذا حصلناه. فنحن إذا حصلنا الرغيف فأقصى ما نبلغه في تحصيله أن نتساوى وسائر الأحياء في إشباع الجسد وصيانة الوظائف الحيوانية. ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأحياء وحسب، ولا بأناسي وحسب، ولا بأفراد وحسب؛ بل نحن أناسي ممتازون نعيش في أمة ممتازة، تحس ما حولها وتحسن التعبير عن إحساسها.

إن الضروريات توكلنا بالأدنى فالأدنى من مراتب الحياة، أما الذي يرفعنا إلى الأوج من طبقات الإنسان فهو ما نسميه النوافل والكماليات، أو هو ما نستغني عنه ونعيش!

ولكن كيف نعيش؟

هذا هو موضع السؤال الصحيح. فان كنا لا نبغي إلا أن نعيش كما تعيش الأحياء كافة فحسبنا الضروريات المزعومة إلى حين: حسبنا الخبز حتى يجيئنا من ينزع منا الخبز أيضا ونحن لا نقدر على دفاعه، ولا نطيق غير الخضوع له والصبر على بلائه.

وإن كنا نبغي أن نعيش (أكمل) العيش فلا غنى إذن عن الكماليات لبلوغ الكمال، ولا معدي إذن عن اعتبار الكماليات من ألزم الضروريات.

ومن الواجب (ثالثاً) أن نذكر ما هو (العلم) الذي يفوقنا به الغربيون قبل أن نعقد المقارنة بين العلوم والفنون.

فالغربيون لا يفوقوننا بالعلم (المصنوع) علم الطيارات والسيارات والسفن والدبابات والمناسج والمنسوجات.

كلا! لا يفوقنا الغربيون بهذا، فان الشرقي ليحذق صناعة الطيارة إذا رآها كما يحذقها

ص: 5

الغربي الماهر في عمله، ولعله يبذه ويسبقه في الوقت والبراعة.

إنما يفوقنا الغربيون بالعلم الملحوظ لا بالعلم المصنوع: يفوقوننا بعلم الملاحظة والابتكار والاختراع؛ يفوقوننا بالعلم الذي يحتاج إلى عين لا تفوتها الرؤية، وبديهة لا يفوتها الإدراك، وخيال لا يفوته تركيب الصغائر وضم الأجزاء إلى الأجزاء حتى يتألف منها المصنوع الجديد.

وما هذا الذي يفوقوننا به غير ملكة الحس والتخيل التي يترجمها المصور تمثالاً والموسيقي لحناً والشاعر قصيداً والمخترع صناعة حديثة؟ ما هو غير أن نحس ما حولنا ونقرن بين إحساس وإحساس حتى نستخرج منها جميعاً صورة كاملة في عالم العلم أو في عالم الفن أو في عالم التجارة؟

فليست المقارنة بين العلم والفن مقارنة بين طيارة تنفع في التجارة والحرب وتمثال لا ينفع لغير الزينة، بل هي مقارنة بين ملكة مستنبط لا تتم بغيره الحياة، وملكة مستنبط لا تتم بغيره الحياة!

وإذا فقدنا الفنون الجميلة فليس كل ما نفقده إذن هو تمثال الرخام الذي لا يصلح لغير الزينة، بل نحن فاقدون جزءاً من حياتنا وجزءاً من العلاقة بيننا وبين الدنيا، وعائشون عيشة الممسوخ الأبتر المحجوب عن جوانب دنياه.

إن الرجل البصير يرى الحجر كما يرى الجوهرة، ولكنه إذ عجز عن رؤية الحجر وهو أمامه فليس الحجر وحده بالمفقود في نظره، بل المفقود كل شيء يتراءى لعينيه.

لقد حيينا في خدمة غيرنا عصوراً طوالاً حتى أوشكنا إذا قيل لنا: (اشعروا بالحياة) أن نطلب أجراً على حياتنا

فالرجل الذي يسأل: ما فائدة الفنون الجميلة؟ هو كالرجل الذي يسأل: ما فائدة العين؟ وما فائدة الأذن؟ وما فائدة الشعور؟ وما فائدة الحياة؟

وإن الإنسان لينظر إلى الروضة ولا يبسط يديه بعدها إلى أحد يعطيه أجراً على ما رآه، فلماذا يحس الجمال وهو يسأل عن فائدة الإحساس؟ ولماذا يعبر عن الجمال وهو يسأل عن فائدة التعبير؟ ولماذا يقتني التمثال وهو يسأل لماذا تقتنيه؟ ولماذا يسمع الغناء وهو يسأل لماذا أصغي إليه؟

ص: 6

إنه ينبغي أن يصنع ذلك لأنه يحس، وإنه يحس لأنه يحيا فمن من يا ترى يريد أجراً على الحياة! إن كان عبداً فمن سيده فليطلب أجره لو كان سيد يعني بتهذيب عبيده؛ وإن كان هو سيداً فهو مالك حياته وكفى أنه يحيا تعليلاً لكل عمل وترغيباً في كل مطلب وتقويماً لكل عزيز نفيس.

ولقد يخطئ بعض الفلاسفة المصلحين في تقويم الفنون فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك الثروات من مال وفير وجهد عنيف. كذلك أخطأ تولستوي في كتابه عن الفن الجميل وهو نفسه قد أنفق عمراً مديداً في خدمة الفن الجميل.

على أن خطأهم قريب المأخذ سهل المراجعة من ناحية الحساب، إذ ليس القياس في هذا الصدد أن ننظر إلى مدينة مثل (هليوود) كم تنفق من الملايين على الروايات والممثلين! وإنما القياس أن ننظر إلى مدن العالم كم عددها بالقياس إلى (هليوود) وحدها أو كل مدينة جرت على مجراها.

وليس القياس أن ننظر إلى الموسر كم يبذل من الألوف في تمثال واحد، وإنما القياس أن ننظر إليه والى كل فرد كم ينفق على خبزه وكسائه وسكنه وراحته، وكم ينفق على الفنون الجميلة التي يهواها من تماثيل وأغان وأشعار؟ ومتى نظرنا هذه النظرة علمنا أن الكماليات لا تجور على الضروريات، وأن قياس النفقات على ما يسمى بالكماليات والنفقات على ما يسمى بالضروريات أقل من قياس الآحاد إلى المئات.

إلا إننا نعود فنقول إن الفنون الجميلة ضروريات في الأمم وإن عدت نوافل في آحاد الناس، وإنها ضروريات لمن ينشد (العيش الأكمل) ولا يقنع بكل عيش بأنها ضروريات لمن يسأل: كيف نسود؟ وإن كانت هباء عند من يسأل: كيف نعيش؛ وأحرى به أن يسأل: كيف نموت؟ فعيش هذا وموته سواء.

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌فائدة هندسية

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كيف تقيس المسافة بين نقطتين؟ أما أنا وأنت - أو أنت وأنا، كما يقضي الأدب الحديث أن أقول - فان الواحد منا يقف ثم يروح يخطو بين النقطتين كالجندي الحديث العهد بالتدريب العسكري، ويقول وهو يفعل ذلك:(واحد. . . اثنين. . ثلاثة. . الخ) ثم يضرب عدد الخطوات في طول كل خطوة فيكون الناتج هو المسافة التي يراد قياسها. أو يفعل شيئاً آخر: يجئ بحبل ويمده بين النقطتين ثم يعقد عقدة في كل ناحية، ثم يجئ بمقياس كالمتر ويقيس به ما بين العقدتين، فإذا لم يكن ثم متر، فان المسافة بين أنامل يمناك - حين تمد ذراعك - والكتف اليسرى طولها متر.

ولكن لي صاحباً يعرف طريقة أخرى في قياس المسافات المستقيمة أبرع مما نعرف، وقد حدثني بها ووصفها لي. ونحن نتغدى منذ أيام قال:

(لا علم كالهندسة. . . أعني أنها علم مضبوط لا موضع للخطأ فيه)

وأنا - كما يعرف القارئ - لا علم لي بالهندسة ولا بسواها مما هو منها بسبيل. ولست ادري إلى هذه الساعة كيف أمكن أن أجتاز الامتحانات المدرسية التي كانت تعقد لنا في المدارس، أو في السرادقات، وقد كان مما نمتحن فيه الهندسة - بأنواعها، فإنها كثيرة - والجبر والحساب وحساب المثلثات إلى آخر هذا الذي نسيت حتى أسماءه. وأحسب أن الذين كانوا يراجعون أوراق الإجابات كانوا يقولون إن هذا المازني سيكون أديباً كبيراً، والأدب لا يتطلب العلم بالرياضة، ومن الخير للأدب أن ندعه يخرج بشهادته وأن لا نعطله بالرسوب. فإلا يكن هذا هكذا، فليقل لي من يدري كيف أمكن أن أجتاز هذه الامتحانات في علوم الرياضة والكيمياء أيضاً والطبيعة كذلك؟ فإني أذكر - الآن - أني كنت أملأ أوراق الإجابة عن أسئلة الرياضة وما إليها من المعارف المستحيلة بالرسوم والتصاوير: رسوم فتيات وطيور وبقر وجمال، وكنت أفرد الصفحة الأخيرة من ورقة الإجابة لأساتذتي في علوم الرياضة، فأرسم بضعة خطوط هنا، وأكتب تحتها (المستر فلان) معلم الحساب، وخطوطاً أخرى تحتها وأكتب إلى جانبها (المستر علان) مدرس الجبر وهكذا ومن يدري؟. لعل رسمي لأساتذتي كان يرضيهم ويعجبهم، فيدعون جواب المسائل ويمنحوني الدرجات

ص: 8

على الرسم الجيد من الذاكرة!

وقلت لصاحبي: (يا سلام!. صحيح؟)

فقال (بالطبع. . . اسمع. . . كيف تقيس المسافة بين شاطئ النيل؟)

قلت: (أوه. . المسألة لا تحتاج إلى هندسة أو غيرها. . أمشي على كوبري قصر النيل وأعد خطاي ثم أضرب العدد في طول الخطوة. . . مسألة بسيطة جداً)

فقال: (لا لا لا لا. افرض أنك تريد أن تقيس المسافة بين الشاطئين حيث لا كوبري ولا شبهه)

قلت: (آه. . . هذه مسألة أخرى. . أقول لك. . أركب زورقاً ومعي حبل أثبته على شاطئ وأدليه في الماء ونحن نمرق حتى نبلغ الشاطئ الأخر ثم نقيس الحبل)

قال: (يا أخي ألا تعرف أن الزورق لا يستطيع أن يمضي من شاطئ إلى شاطئ في خط مستقيم؟)

قلت: (صحيح. . والله فاتتني! طيب! وما العمل؟ أما أنا فلا أرى طريقة أخرى فيحسن بالنيل أن يقنع بأن يبقى بغير قياس لعرضه. . يكفي طوله)

قال: (لا تمزح. .)

قلت مقاطعاً: (والله إني أتكلم جاداً. . ثم إني لا أدري لماذا أتعب نفسي وأكلفها أن تقيس النيل؟)

قال: (اسمع. . أنا أعرفك الطريقة. . . ألم تتعلم في المدرسة أن ضلعي المثلث المتساوي الضلعين أكبر من الضلع الثالث أي القاعدة؟)

قلت: (جايز)

قال: (جائز؟ ماذا تعني؟ هذه حقائق)

قلت: (جائز! الحقيقة أني تعلمت أشياء كثيرة في المدارس ولكني لا أذكر الآن شيئاً منها فأنا مضطر أن أصدقك. . . ولكني أخشى أن يكون غرضك أن تضحك مني، ولهذا أؤثر الحذر وأقول لك جائز. . على كل حال تفضل)

قال: (حسن. . أسمع. . هذه حقيقة لا شك فيها. . ضلعا المثلث المتساوي الضلعين أكبر من القاعدة. . فكيف ينفعنا هذا في قياس عرض النيل؟. . أنا أقول لك. . . تأخذ ثلاثة

ص: 9

أوتاد، وثلاثة حبال، وتذهب إلى أحد الشاطئين وتثبت فيه - على الأرض - وتدين. . تدقهما دقاً قوياً ليثبتا ولا يتزعزعا. . . وتذهب إلى الشاطئ الآخر، وتدق هناك الوتد الثالث. . . هذا الوتد الثالث هو رأس المثلث. . . وما بين الوتدين الآخرين على الشاطئ الآخر هو القاعدة. . فاهم؟ ثم تصل الأوتاد بالحبال. . . مسألة سهلة جداً. . . ثم تقيس وتحسب فتجئ النتيجة مطابقة للحقيقة)

قلت: (غريب!. ولكن أسمع. . ما العمل في المراكب والزوارق التي تمخر؟ هل تؤخرها حتى تفرغ من الحساب أليست هذه مشكلة عسيرة الحل؟. أم لها يا ترى حل هندسي أيضاً؟)

قال: (يا أخي لا تمزح. . لقد فعلت ذلك مرات كثيرة)

قلت: (صادق. . صادق. . والله إن هذا لذكاء!. لو كان الذي اهتدى إلى الحقائق الهندسية يعرف أنك ستستغلها على هذا النحو العلمي المفيد. .؟)

قال: (لقد ورثت هذه الدقة عن أبي. . ولكني لم أبلغ مبلغه مع الأسف. . . مع التدرب آمل أن أكون مثله. . إن حسابي الآن - طبقاً لهذه الحقيقة الهندسية لا يجئ مخالفا للواقع إلا بمقدار خمسين أو على الأكثر سبعين متراً فقط. . شيء تافه كما ترى!)

قلت: (ولكن هل من الضروري أن يكون المثلث متساوي الضلعين أو لا أدري ماذا تسميه؟)

قال: (لا. . أبداً. . ليس هذا ضرورياً. .)

ثم شردت نظرته وعلا وجهه السهوم، فتركته لخواطره ولم يلبث أن رد عينه إلى وقال:

أبي لا يكاد يخطئ. . . صياد ماهر جداً. . . وأغرب ما في الأمر أنه يستطيع أن يقول لك إنه أخطأ الهدف بمقدار متر أو نصف متر أو سنتي. . . خرجنا مرة إلى الصيد فأدهشني بدقته وإحكامه. . . أطلق البندقية على بطة ثم نظر إلى وقال: يا فريد! الطلق مرّ من تحتها على مسافة ثلاثة سنتيات. . ثم رمى أخرى وقال يا فريد: الطلق مر من فوقها على مسافة ملليمترين؛ ورمى ثالثة وقال آه يا فريد! هذه طلقة لا مثيل لها. . شعرة فقط بينها وبين البطة!. وهكذا يا أخي. . فهل سمعت بمثل هذه البراعة العجيبة؟. . مقدار شعرة فقط، لا أكثر ولا أقل؟ تصور الشعرة ماذا يبلغ من سمكها؟. ومع ذلك عرف! استطاع أن يقدر

ص: 10

المسافة بين الطلق والبطة على هذا البعد العظيم ما قولك؟. . أليس آية؟)

قلت: (والله شيء مدهش حقيقة. . . ومن أين جاءته هذه البراعة؟)

قال: (العلم نور يا أخي. . وما فائدة العلم إذا كان الإنسان لا يطبقه ولا ينتفع به في حياته؟)

قلت: (صدقت. . ولكن هل أبوك يعرف المسافات بين الطلقات وبين الطيور التي لا يصيدها بالهندسة - أعني بواسطة المثلث المتساوي الضلعين أو غير المتساوي الضلعين؟)

قال: (وهل هذا كل ما في الهندسة؟ يظهر أنك نسيت دروسك)

قلت: (كل النسيان. . نسيتها قبل أن أحفظها)

قال: (صحيح. . هذا يحدث كثيراً)

قلت (إنه يحدث دائماً)

قال: (لا. أنا لم أنس دروسي قبل حفظها. . ولا بعد الحفظ)

قلت: (أنت أعجوبة. . وهل في الناس اثنان مثلك؟)

فصار وجهه كالحمرة من شدة الحياء والخجل من سماع المدح، وكأنما أراد أن يصرفني عن نفسه.

فقال: (ولكن أبي ليست له مثل هذه الدقة حين تكون الحيوانات أليفة والطيور داجنة)

قلت: (وكيف كان ذلك؟)

قال: (إن نظره بعيد جداً يبصر كل شيء - أي شيء - على مسافة ميل، ولكن إذا كان الشيء قريباً منه، صعبت عليه الرؤية الدقيقة. . وأذكر أنه قام بيني وبينه خلاف على المسافة بين رجلي الدجاجة)

فصحت به: (إيه؟)

فقال: (لا تصح هكذا. . إننا في مطعم. . فهل تريد أن يلتف حولنا الناس؟)

قلت: (معذرة. . لقد نسيت أن ههنا ناساً. . الحق أن كلامك استبد بعقلي. تفضل)

قال: (أشكرك. . نعم اختلفنا على المسافة بين رجلي الدجاجة. . هو يقول إنها خمسة سنتيات وأنا أقول إنها أقل بكثير. . وأخيراً اتفقنا على قياسها بالضبط والدقة، فقال أبي هات الدجاجة، فجئته بها. . تناولتها من رجليها فقال كيف تريد أن تقيس وقد ضممت

ص: 11

رجليها. فتناولتها من عنقها، فصارت تلعب وتحاول أن تفلت وتضرب برجليها فاستحال قياس ما بينهما، ثم سكنت ولكن رجليها بقيتا مضمومتين فاتفقنا على تركها على الأرض، وحاولنا أن نغريها بالسكون بقليل من الحب رميناه لها لتلقطه، ولكنها يا أخي لا تسكن أبداً. . حركة دائمة)

قلت: (لماذا لم تنتظرا حتى تنام وحينئذ يتيسر القياس كما تشاءان؟)

قال: (والله فكرة)

قلت: (هل تعني أن تقول إنك لم تعرف إلى الآن أيكما المصيب وأيكما المخطئ؟)

قال: (بالطبع أبي هو المخطئ. . ألم أقل لك إن نظره بعيد؟)

قلت: (آه صحيح. .)

قال: (طبعاً)

قلت: (طبعاً)

وكانت هذه نهاية الحديث في يومنا ذاك، فعدت إلى البيت وقيدته لئلا أنساه.

إبراهيم عبد القادر المازني.

ص: 12

‌في الأدب المقارن

بيئات الأدباء في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

أثر البيئة في الإنسان ومجتمعه وعلومه وفنونه من النواميس التي اهتم العلم الحديث بكشفها وتتبع مظاهرها والرجوع إليها في شتى الدراسات. وأثر البيئة في أدب كل أمة على إطلاقه واضح مشاهد؛ بيد أن لكل أديب بيئة خاصة داخل البيئة العامة التي تحيط به وبغيره من أدباء أمته، ولهذه البيئة الخاصة أثر بعيد في تكييف عبقريته وتوجيه ميوله وصبغ نظرته إلى الحياة وتكوين فهمه للأدب، ولهذه البيئة في أكثر الأحايين فضل توجيه عبقريته إلى الأدب دون غيره من الفنون والحرف الإنسانية.

فالوراثة لها أثر في فن الأديب، لاشتراكها في تكوين مزاجه وميوله، وذلك الأثر الوراثي ملحوظ في أدب شلي وبيرون من شعراء الإنجليز، بل في حياتهما إذ عاش كل منهما ساخطاً قلق المقام مضطرباً بين البلدان مساجلاً المجتمع حرباً لا تهدأ، وقد كان كلاهما منحدراً من أسرة أرستقراطية عرفت صفات الجماح والتمرد في غير واحد من أسلافها. وللوراثة أثرها الواضح في أدب أبن الرومي الذي جاء لانتمائه إلى الروم مخالفاً أدب غيره من فحول العربية، في النظرة إلى الحياة والطبيعة، وفي استقصاء المعاني وتوليدها.

ولتكوين جسم الأديب، بين الصحة والمرض والكمال والنقص والوسامة والدمامة أثره كذلك في أدبه، فالأديب السليم الجسم يكون صافي المزاج معتدل النظرة إلى الحياة، والأخر المعتل الصحة المنهوك بالأوصاب، كالمعري وأبن الرومي في العربية، وبوب وسويفت وجراي في الإنجليزية، يكون ضيق العطن أوقاتهم النظرة إلى الحياة أو كثير النقمة على معاصريه شديد الشغب معهم. وقد قيل قديماً إن للأدب ضريبة على محترفه يتقاضاه إياها من ذات جسمه أو ذات نفسه، فلا تكاد ترى أديباً إلا محروباً أو شقياً أو معسراً، ولعل فقدان الأديب لبعض ما يتمتع به سواه من بهجة الحياة من دواعي إرهاف حسه وصرفه إلى التأمل وعطفه إلى الأدب، ولعل المعري لولا عماه وانحباسه عن متعات الدنيا على ذلك الوجه، لما حفل بالتفكير في الأرض والسماء وأصل الخلق ومصير الإنسان وهلم جرا.

ص: 13

وللتربية والنشأة المنزلية أثرهما في تكوين الأديب، فكثيراً ما تتجه عبقرية الناشئ إلى الأدب لأن أباه أو كافله مشتغل بالأدب، وقد كان ذلك شائعاً بين العرب، إذ كان الآباء يقومون بتأديب أبنائهم، فنشأ كثير من الأدباء كالصاحب وأبن العميد وأبن المعتز وأبن زيدون في بيوت فضل وأدب. وقال ياقوت في ترجمة المعري:(وكان في آبائه وأعمامه، ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه من ولد أبيه ونسله، فضل، وقضاة وشعراء، أنا ذاكر منهم من حضرني لتعلم نسبه في العلم). ولحظ البيئة المنزلية من الرقي أو الحطة أثره كذلك في أخلاق الناشئ ومنازعه، ومن ثم يتسم أدب الشريف الرضي في العربية وتنيسون في الإنجليزية بنزعة التسامي والتدين، لانتمائهما إلى أرومة شريفة دينية، بينما تبدو لوثة العامية والتبذل في أشعار بشار وأبي نواس.

ولنصيب الأديب من الغنى أو الفقر أثر بعيد في حياته وعقليته وأدبه، فلا بد للأديب من حظ من المال يستطيع معه أن يتفرغ إلى فنه أو يتفنن في ابتكاره، أما إذا كان لا يكسب رزقه إلا بجهد جهيد فهيهات أن يوفي الأدب حقه. والأديب المعسر المخفق كابن الرومي لا ينفك شاكياً في شعره متحرقاً؛ ولا يشكو هذه الشكوى أديب نشأ في بيت نعمة كابن المعتز أو نجح في أدراك الغنى كالبحتري، فشعر هذين أكثر امتلاء بوصف اللذات وأوقات الصفاء. وقد وجد أبن الرومي على البحتري وهجاه حسداً وغيظاً، فرد عليه البحتري رداً هادئاً وأتحفه بهديه، فعل المطمئن إلى نفسه الراضي في بحبوحته، ولم يطلب الطغرائي شططاً حين قال أريد بسطة كف أستعين بها على قضاء حقوق للعلى قبلي.

ولنوع الثقافة التي يتلقاها الناشئ، والأدب الذي يقرأ، والأستاذ الذي يأخذ عنه، والأديب الذي يقدمه ويشغف بآثاره، والأدب الأجنبي الذي يدرسه، لكل ذلك أثره في توجيه أدبه وفلسفته في الحياة. فأراء المتزندقة التي فشت في صدر العصر العباسي ظاهرة الأثر في شعر بشار وحماد وأبي نواس، والآراء الفلسفية التي ذاعت بعد ذلك ظاهرة في أشعار الطائي والمعري والمتنبي؛ ولم يتأثر أدباء العربية بأدب أجنبي تأثراً ذا بال، أما أدباء الإنجليزية ففضلاً عن اغترافهم جميعاً من مناهل الأدب اليوناني، كان منهم من تأثر بالأدب الإيطالي كسبنسر، وبالألماني كشلي وسكوت وكارليل، وبالفرنسي ككثير من كتاب القرن الثامن عشر وشعراء القرن السابع عشر؛ وكما أثر مذهب أبي تمام الشعري في تلميذه

ص: 14

البحتري وفي المتنبي وغيرهما، كان لملتون أثر بعيد في كثير من شعراء الإنجليز منهم وردزورث وتنيسون.

ولجيل الأديب، بسياسته وأدبه وأخلاقه وأزيائه وفنونه، أعظم أثر في أدبه: فبعض الأدباء ينحاز إلى حزب سياسي ويخصص جانباً من كتاباته للدفاع عنه، كما كان الكميت ودعبل وعمارة اليمني شيعيين ينتصرون لآل البيت؛ وكما كان بشار عقيلياً بالولاء ينتصر لمضر ويفخر بغضبتها إلى تهتك حجاب الشمس؛ وكما كان أبن الرومي علوياً بالولاء أيضاً. وكان أدباء الإنجليزية أكثر اتصالاً بشؤون المجتمع والسياسة وتأثراً بها، فعرضوا لمشاكل عصورهم في أشعارهم وقصصهم، وحين ملأ دكنز قصصه بوصف أحوال الطبقات العاملة، إنما كان متأثراً بأحوال عصره الصناعي، وإذا امتلأ شعر المتنبي بذكر القنا والصوارم والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك، فإنما كان ذلك صدى عصر التناحر والقلاقل الذي عاش فيه.

وتؤثر حرفة الأديب كذلك في أدبه، موضوعه ولغته وتشبيهاته: فالأديب الجندي كعنترة وأبي فراس لا يكاد يخوض في غيره حديث النجدة والعزة والبأس وإطاحة الرؤوس عن الأجسام؛ والأدباء الوزراء الذين عرفوا في الدول الإسلامية تتعلق خير كتاباتهم بالسياسة والولاية والعزل وهلم جرا؛ والشاعر المداح كالبحتري لا ينفك عن ذكر أحوال الملك ومظاهر أبهته؛ وتوماس هاردي الذي كان مهندساً معمارياً مشغوفا بفن العمارة لا يزال يبدي ويعيد في وصف العمائر والصروح في شعره وقصصه، ويستخدم في ذلك من المصطلحات العلمية ما لا يكاد يفقهه إلا خبير مثله بتلك الشؤون؛ أما الأديب المنقطع إلى الأدب فلا يكاد يخوض في غير شؤون الأدب وسير الأدباء.

وقد أورد الجاحظ هذه الحقائق مورد الفكاهة في رسالة صناعات القواد، إذ جعل الطبيب والخياط والخباز والمؤدب وصاحب الحمام وغيرهم، يتحدثون في الأدب وينظمون الشعر فيستخدم كل منهم مصطلحات حرفته في استعاراته وتشبيهاته.

وللإقليم الذي يختاره الأديب مستقراً ومقاماً، والأقاليم التي يرحل إليها في أدوار حياته، أثر عظيم في موضوعاته وأسلوبه: إذ هو يشتق أسباب القول مما يحيط به في حله وترحاله، ولا ريب أن الأديب الكثير الرحلة يكون أوسع أفقاً وأغزر مادة وأعمق فكرة من الأديب

ص: 15

القاعد، إذ كان من يعيش يرى ومن يسير يرى أكثر كما يقول المثل العامي. وقد كان وردزورث يقطن مقاطعه البحيرات في إنجلترا وكان كثير التجوال بين الجبال والروابي، فجاء لفظة مجرداً عارياً عري الصخور وتجردها، وكثرت فيه ألفاظ الوحشة والوحدة وهلم جرا. ونشأ كبلنج في الهند فامتلأ شعره وقصصه بوصف غياضها وأدغالها، وحفل بالتعصب الجنسي المتطرف؛ وتركت رحلات المتنبي بعض الآثار في أشعاره، من وصف الطبيعة كوصف بحيرة طبرية وشعب بوان، إلى وصف الأحوال السياسية في مثل قوله:

بكل أرض وطئتها أمم

ترعى بعبد كأنها غنم

فإلى البيئة إلى ينشأ فيها الأديب وتضطرب في محيطها حياته، مرد ما يمتاز به أدبه من اتجاه خاص وطرق موضوعات دون غيرها، وتناول لها على نحو خاص، وما يتصف به من سمو أو ضعة، وورع أو استهتار، وفكاهة أو انقباض، وتفاؤل أو تشاؤم، وعمق أو سطحية، يختلف حظه من كل ذلك عن حظوظ أبناء أمته بل أبناء جيله بل أصحابه وخلفائه؛ وبسبب عوامل البيئة تلك يختلف عنترة وعمر بن أبي ربيعة والشريف الرضي والمتنبي في العربية في الموضوع والنزعة واللفظ والاسلوب، كما يختلف وردزورث وبيرون وسكوت وشلي في الإنجليزية، حتى يستغث الثاني شعر الأول أي استغثاث، ويجمل الثاني رأيه في الأخير في قوله: ذلك الملحد شلي! وما ذاك إلا لاختلاف ما يحمل رأس كل منهم من أثار الوراثة والثقافة والعقيدة والتربية والنشأة، على تعاصرهم وتشاركهم في وجوه أخرى، وعلى كونهم يعدون اليوم أبناء مدرسة واحدة.

على أن اختلاف بيئات الأدباء أشد ظهوراً في الإنجليزية منه في العربية، لأن أدباء الإنجليزية أكثر اضطراباً في المجتمع وإدخالاً له في أدبهم وأكثر ارتحالاً في البلدان وذهاباً في آفاق الفكر وإعراباً عن أفكارهم الصميمة وأثار تجاربهم، ولأن المجتمع الإنجليزي تغير وتجدد على توالي العصور من عهد اليزابث إلى الوقت الحاضر ما لم يتغيره المجتمع الإسلامي، والثقافة الإنجليزية تطورت بتقدم العلوم ما لم تتطوره الثقافة العربية، فالمحافظة كانت أغلب على المجتمع والفكر العربيين، وهي أيضاً كانت سمة الأدب العربي وديدن أدباء العربية، ومن ثم تشابهوا كثيراً في الموضوعات والأساليب على تباعد المواطن والعصور.

ص: 16

فأدباء العربية بعد قيام الدولة الإسلامية ودخول الأدب طوره الفني الراقي، كانوا يأخذون أنفسهم بضروب من القول يطلبون بها البراعة الفنية أو الشهرة أو الحظوة والنجاح، كالتمدح بجليل الصفات والتفاخر بتالد المجد ومدح الأمراء، وجروا في ذلك على سنن مألوفة وأغترفوا من مناهل مطروفة، حتى تشابه أولهم وأخيرهم وبعيدهم وقريبهم. فإذا قرأت مئات القصائد التي نظمها مروان بن أبي حفصة وبشار وأبو تمام والبحتري وغيرهم في مدح الخلفاء، كي ترى أثر البيئة الخاصة للشاعر في كل ذلك فلن تظفر بطائل، لأنهم إنما نظموها لأغراض مادية وعلى أنماط مأثورة، لا دخل للنفس ولا لتراثها الفكري فيها. وإذا قرأت قول أبي نواس:

ومستبعد إخوانه بتراثه

لبست له كبراً على الكبر

لقد زادني تيهاً على الناس أنني

أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر

فوالله لا يبدي لساني حاجة

إلى أحد حتى أغيب في القبر

فلا يطمعن في ذاك مني سوقة

ولا ملك الدنيا المحجب في القصر

كدت تحسب قائل هذا الشعر شريفاً حسيباً عفيفاً، يزهد في غرور الدنيا ويقنع بالقليل استمساكاً بالأنفة والكبرياء، ولم تعز هذا الفخر المغرق إلى ذلك المداح السال الذي أنفق العمر في اجتداء عطايا الحكام ليبذرها في انتهاب اللذات الجسدية، وما ذاك إلا أن أبا نواس اقتفى في نظم هذا الشعر الطنان أثر أشراف الجاهلية الذين كانوا يتمدحون بالأنفة، وأراد أن يظهر أنه لا يقصر عن شأوهم في ذلك الباب من أبواب القول. والأدب العربي حافل بهذا الضرب من الإنشاء التقليدي الذي لا أثر فيه يذكر للشخصية المستقلة والبيئة الخاصة

هذا، ونشأة كثير من أدباء العربية مجهولة، وبيئتهم الأولى غامضة، وأكثرهم لا يظهرون في ضوء تاريخ الأدب إلا حين يصلون إلى ذرا الأمير، وقد كان ذلك الوصول غاية أكثرهم؛ ومن ثم نرى في تاريخ الأدب العربي بيئتين كبيرتين تتلو إحداهما الأخرى وتشملان أكثر أعلام الأدب العربي: الأولى بيئة القتال التي كانت بيئة الجاهلية، وكان الجلاد فيها هم الأشراف، والتمدح بالبلاء في الوغى هم الشعراء، وكان الأشراف في كثير من الأحوال هم الشعراء وهم الخطباء الفحول، يشفعون بلاءهم في الهيجاء ببلاغتهم في

ص: 17

القصيد والارتجال؛ والبيئة الثانية بيئة البلاط التي اضطرب في محيطها أكثر الشعراء والكتاب بعد الإسلام وقيام الدولة، وتأثروا بها ونظموا فيها ونثروا.

فبيئات أدباء العربية المادية والذهنية كانت كثيرة التشابه من وجوه، والبيئات الأولى التي شب فيها كثير منهم مبهمة غامضة، وقد كان نقاد العربية قليلي العناية بأمر البيئة وأثرها في تكوين الأديب، إنما كانوا يعرضون لبعض التواريخ الجافة المتعلقة بمولد الأديب ووفاته ورحلته إلى بعض العواصم واتصاله ببعض الحكام، ويستحسنون بعض ما أنشأ أو يستهجنونه، ويفضلونه أو يفضلون عليه ما قال أديب غيره في نفس الباب؛ ولهم في ذلك بعض العذر، إذ كانت للقول كما تقدم أوضاع وأنماط معروفة، يأخذ الأديب بها نفسه ما استطاع، ويحاكي الأقدمين فيها ما أمكنته براعته. أما بيئة الخاصة وتراثه الذهني والنفسي، فيذره جانباً وقلما يدخله في أدبه.

ولا يرد ذكر البيئة وأثرها في كتب النقد العربي إلا عرضاً، كالذي ورد أن أبن الرومي سئل لم لا يشبه كتشبيهات أبن المعتز، فقال لسائله: أنشدني شيئاً من قوله الذي استعجزتني عن مثله، فأنشده بعض أشعار أبن المعتز التي يشبه فيها النجوم والزهور بالفضة والعنبر ومداهن الغالية وهلم جرا، فصاح أبن الرومي: واغوثاه! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها! ذاك إنما يصف ماعون بيته، وأنا أي شيء أصف؟ ووضع الجاحظ رسالته سالفة الذكر على لسان أرباب المهن، فأجرى القول فيها مجرى الدعابة والمغالاة، وكان أولى لو عرض للأمر من ناحيته الجدية. وأستعرض بديع الزمان في بعض مقاماته عدداً من فحول الشعراء المتقدمين، فقال إن أحدهم أشعر الناس إذا غضب، والآخر أشعرهم إذا رهب، والثالث إذا شرب وهلم جرا، فلم ير إلا أن هذه جبلتهم التي فطروا عليها، ولم يتخيل لبيئة كل منهم في ذلك أثراً

أما في الأدب الإنجليزي، ولا سيما في العصر الحديث، فدرس أثر البيئة وعواملها من وراثة وتربية وثقافة وعقيدة، أساس كل دراسة أدبية وكل نقد وترجمة، والوسيلة الأولى لفهم الأديب وقدر آثاره حق قدرها، وما ذاك إلا نتيجة ارتقاء العلوم والاجتماعيات في العصور الحديثة، واستفادة الأدب الإنجليزي بمجهودات أدباء الأمم الأخرى، كأدباء الإيطالية الذين ارتقوا بعلم تاريخ الأدب، وأدباء الفرنسية الذين هذبوا أصول النقد، وقد

ص: 18

درس الأدب الإنجليزي وترجم أدباؤه على ضوء هذه القواعد والأصول، فبلغ من الوضوح والترتيب ما لم يبلغه تاريخ الأدب العربي بعد.

فخري أبو السعود

ص: 19

‌بمناسبة ذكرى المولد

للأستاذ علي الطنطاوي

احتفل العالم الإسلامي كله أول أمس بذكرى مولد سيد العالم وخاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاحتفال يعد فرصة سانحة من فرص الدعوة إلى الإسلام، والسعي في سبيل الإصلاح، تفيدنا فائدة كبيرة إذا نحن عرفنا طريق الاستفادة منها ولم نجعلها قاصرة على إقامة السرادقات الفخمة، وإيقاد آلاف من المصابيح الكهربائية، وإطلاق البارود في الجو، والاجتماع على ترتيل قصة المولد والتطريب فيها، وتلاوة الأغاني والأناشيد، وأكل الحلويات والأنقال، والتسلي واللهو والطرب، وإضاعة الأموال بلا حساب.

وطريق الاستفادة منها، أن يبحث الخاصة من رجال وأولياء الأمر، في مجالسهم واحتفالاتهم أدواء المسلمين اليوم، ويصوروها ويفتشوا عن أدويتها، وأن يضعوا خططاً جديدة للدعوة، ومناهج للعمل المثمر، وأن تشرح السيرة النبوية للعامة في مجامعهم واحتفالاتهم، وينبهوا إلى مواطن العبرة فيها، لأن ذلك هو المراد من الاحتفال بالمولد، لا سرد الأخبار الموضوعة، والعجائب والخرافات، واللهو والطرب، وأن تبين لهم مزايا الإسلام وفوائده، وأصوله ومبادئه، لأن الكثيرين من المسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا أسمه، ولا يفرقون بين طبيعة الإسلام وطبائع الأديان الأخرى، ولا يعلمون أن الأديان كلها أديان فقط، بمعنى أنها جاءت بعقائد وعبادات وأخلاق، أما الإسلام فهو دين، وهو تشريع، وهو سياسة، وهو أدب. وانظر في أي مسألة من مسائل الفكر الكبرى، أو أي أمر من أمور الحياة، تر للإسلام رأياً فيه وحكماً، فالتشريع الإسلامي أغزر أو من أغزر وأصفى المنابع التشريعية في العالم. والإسلام قد أقر الحرية الفكرية، ووضع أصول البحث العلمي، بما أمر به من دراسة الكون، والنظر في ملكوت السموات والأرض، والإسلام قد وضع أسس السياسة العامة، والشرع الدولي، والإسلام وحده هو الذي يحل المشكلة الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، وينقذ الإنسانية من استبداد المتمولين، وجحود الفرديين، ومن خيالات الاشتراكيين، وبلاء الشيوعيين، بما جاء به من قواعد حكيمة عادلة للزكاة والمساواة ونظام الحكم. وللإسلام بعد ذلك كله حكمه في كل عمل من أعمال الإنسان، فلا يخلو عمل على

ص: 20

الإطلاق من أن يكون له حكم في الدين وللدين دخل فيه، فيكون مباحاً أو مندوباً أو واجباً أو مكروهاً أو حراماً، ولا يستطيع المسلم أن ينسى الإسلام لحظة أو يمشي بدونه خطوة.

ثم إن هذه الأحكام كلها مساوقة للعقل - موافقة له - سائرة مع العلم. والإسلام يقدر العقل حق قدره، ويجعله الموجب الأول، ويربط المسؤولية والتكليف به، ويخاطبه دائماً ويعتمد عليه ولا يخالفه أبداً. ولم يستطع أحد إلى اليوم ولن يستطيع في الغد أن يجد قضية شرعية قطعية، تناقض قضية عقلية قطعية، فلا يثبت الشرع محالاً في العقل ولا يحل ثابتاً، ولا يخالف أصلاً من الأصول الثابتة في العلم. وأعني بالأصول الثابتة الحقائق والقوانين العلمية، لا الفروض والنظريات وأيسر نظرة يلقيها العاقل البصير على كتب الدين، وأقل إلمامة بعلومه، تثبت هذا الذي ذكرنا.

فإذا كان هذا هو الإسلام، وهذه منزلته من العلم والمدنية فلماذا ينصرف عنه أكثر الشباب؟ إنهم منصرفون عنه لأنهم لا يعرفونه. ومن أين يعرفون وهم لا يدرسون منه في المدارس إلا شيئاً تافهاً لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، ثم إنهم لا يجعلونه ولا يحلونه إلا دون الدروس كلها. وسبب ذلك أن الطلاب إنما يقرءون ويجدون ابتغاء النجاح في الامتحان والدين لا يدخل في امتحان رسمي أبداً لا في الشام ولا مصر ولا العراق. وهذه مناهج الكفاءة وما دونها، والبكالوريا وما فوقها، فيها كل علم إلا علوم الدين. وليس الغرض من حذفها والمانع من إثباتها وجود طلاب غير مسلمين في هذه الامتحانات، فإن ذلك يمكن تلافيه، بأن يمتحن كل طالب في دينه، وتدعى كل أمة إلى كتابها، ولكن ذلك شيء تعمده الأجانب يوم كانت سياسة البلاد وإدارتها ومناهجها في أيديهم وكان أمضى سلاح حاربونا به في ديننا وأبنائنا، فكيف نبقى عليه وقد انتقلت سياسة البلاد ومناهجها إلى أيد وطنية يريد أصحابها الخير لبلادهم والصلاح؟

ثم إن هؤلاء الطلاب إذا خرجوا من المدرسة، وبقي فريق منهم على شيء من التدين وأحبوا أن يطالعوا علوم الإسلام، لم يجدوا كتاباً سهلاً جامعاً بين دفتيه خلاصة ما يجب على الشاب المسلم أن يعرف من أصول الدين وفروعه، وإنما يجدون كتباً في علم الكلام مشحونة بالمجادلات الجوفاء. والرد على ملل قد بادت ونحل قد نسيت منذ مئات السنين، وعرض شبهها وضلالاتها؛ وكتباً في الأصول معقدة غامضة، لا يفهم الشاب شيئاً منها،

ص: 21

وكتباً في الفقه مملوءة بالمناقشات اللفظية والفروض البعيدة والاحتمالات الغريبة، لا تكاد تخلو من اختصار مخل أو تطويل ممل، وكتباً في التفسير مطولة ومختصرة فيها كل شيء من نحو وصرف ولغة وبلاغة وتاريخ وفلسفة وإسرائيليات ولكن ليس فيها تفسير واحد يرضي الشاب وينفعه ويجد فيه المراد من الآية ويعينه على التدبر الذي أمر الله به، وكتباً في الحديث مرتبة على غير حاجة العصر مبوبة بحسب أبواب الفقه أو أسماء الرواة، ينصدع رأس الشاب ويفنى صبره قبل أن يصل إلى حديث واحد يفتش عنه ويطلبه، ورسائل في علم المصطلح غامضة فيها تعقيد، وقل مثل ذلك في سائر العلوم. . . وهذه الكتب مؤلفة على طريقة لا تخلو من غرابة وشذوذ، فالكتاب الواحد متن وشرح للمتن، ومختصر للشرح، وشرح للمختصر، وحاشية على شرح المتن، وتقرير على حاشية الشرح. . . . . . ولست أفهم لماذا ارتقت أساليب الكتابة في كافة العلوم وأخذت شكلاً جديداً، ولماذا يؤلف اليوم الكتاب في الأدب على غير ما كان يؤلف عليه قبل خمسين سنة ولا تزال هذه الكتب على ما كانت عليه منذ مئات السنين لم تصل إليها موجة الحياة؟ ولماذا نجد في علماء كل فرع مؤلفين مجددين ولا نكاد نجد في علماء الدين إلا مقلدين مرددين؟ فماذا يصنع الشاب الذي لم يدرس الإسلام في مدرسة ولم يفهم كتبه؟ أيسأل المشايخ؟ إنه إن فعل لم يجد أكثرهم إلا مجلدات تمشي، ليس في ثيابهم وتحت عمائمهم إلا أوراق الكتاب، فهم يسردون عليك ما حفظوا كأنهم يتناولونه من مستودعات أدمغتهم باليد؛ ومن كان منهم ذا فكر جوال، وعقل باحث كان في كثير من الأحيان ضعيفاً في مادته العلمية، فهو يخالف الأولين والآخرين، ويتنكب سبيل الدين. وقليل منهم من جمع إلى العلم، سرعة الفهم، وفهم روح العصر، وحسن مخاطبة الناس. ثم أكثر هؤلاء المشايخ بعيدون عن الأدب ليس لهم في صناعة البيان يد، قل أن ترى فيهم من يعد كاتباً مجيداً، أو لسناً مفوهاً. على أننا بعد هذا كله نخشى أن ينقرض هؤلاء المشايخ ولا نجد لهم خلفاً؛ وعلى أنني لا أحملهم الذنب وحدهم، فالذنب على المسلمين كلهم وليس في الإسلام (رجال دين) مسئولون عنه، وقائمون به، ووكلاء عليه، ولكن رجال الدين عندنا هم كافة أهله وأتباعه، لا فرق في ذلك بين شيخ الإسلام، وأخر مسلم في أفريقيا الوسطى، أو القطب الشمالي. ولو أن أكبر شيخ في حلقته، أو خطيب على منبره، أخطأ في حكم، أو حرف آية،

ص: 22

لرد عليه من يحفظ الآية، ويعرف الحكم ولو كان طفلاً صغيراً، أو امرأة. . . وما هذه المرأة بأقل من تلك العجوز، ولا هذا الخطيب بأجل من عمر؟

ثم إن الشبان المسلمين كلهم يذكرون الإعجاز ويعتقدون به، ولكن من منهم يعرف أوجه الإعجاز على حقيقتها. وإذا أراد أن يفهمها ففي أي كتاب يجدها؟ بل من منهم يفهم القرآن فهماً صحيحاً يتجاوز التفسير العادي؟ بل كم من الناس يعرفون تفسيره العادي، وكم منهم يسمعه ليعتبر ويتدبر؟ ألا يسمع أكثر المسلمين القرآن ليطربوا بنغماته وأصوات تلاوته؟

وكلنا يعتقد بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن أي دولة بل أي جمعية إسلامية حاولت أن تستخلص من كتب الفقه ونظريات الفقهاء قانوناً مدنياً ينطبق على عصرنا الحاضر؛ ويكون تتمة العمل الكبير الذي بدأ بوضع (مجلة الأحكام الشرعية) وفي الفقه متسع لهذا العمل، وفي إنجازه إنقاذ البلاد الإسلامية من الحكم بغير ما أنزل الله، والتعرض لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد، فضلاً عما فيه من المس بالكرامة الوطنية، والسيادة القومية؟

ومن حاول أن يؤلف في بيان رأي الإسلام في الاشتراكية وموقفه منها، وحكمه في الديمقراطية وأساليب الحكم المعروفة؟

أليس اغتنام فرصة ذكرى المولد الشريف للبحث في هذا وشبهه جزءاً من هذه الحفلات التي لا معنى لها، والمظاهر التي لا طائل تحتها؟

وإني لأرجو نمن الله - لما أرى من انصراف مصر علمائها وأدبائها وشبابها المثقف إلى الإسلام وإقبالها عليه - أن يكون يوم ذكرى المولد من هذا العام، فاتحة عهد جديد في تاريخ الإسلام، كما كان يوم المولد الشريف، فاتحة عهد جديد في تاريخ العالم.

(بغداد)

علي الطنطاوي

ص: 23

‌خاتمة المأساة الأندلسية:

الصراع الأخير

بين الموريسكيين وأسبانيا

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 1 -

حدث أثناء المفاوضات التي جرت في مونترو بين مصر والدول لإلغاء الامتيازات الأجنبية أن تقدم الوفد الإسباني بطلب يختص باليهود (السفرديم) المقيمين بمصر، هو أن يعاملوا كالرعايا الإسبانيين وأن يمنحوا مزية التقاضي أمام المحاكم المختلطة أثناء فترة الانتقال، وشرح أحد أعضاء الوفد بواعث هذا الطلب لممثلي الصحف، فقال: إن هؤلاء اليهود (السفرديم) هم من ذرية اليهود الإسبانيين الذين طاردتهم مجالس التحقيق (محاكم التفتيش) في القرن السادس عشر وشردتهم عن وطنهم في مختلف البلاد، وأن إسبانيا الجمهورية التي تحررت من نزعات التحامل والتعصب تريد أن تقدم ترضية لسلالة هذه الطائفة التي نكبت في عصور الظلم والتعصب والطغيان.

وهذه الملاحظة تثير الشجن، ذلك أن إسبانيا النصرانية تعترف بعد أربعة قرون بزلتها التاريخية الكبرى، وتلعن مع التاريخ ذكرى ديوان التحقيق. بيد أن هذا الاعتراف ليس إلا لمحة بسيطة من الحقيقة المروعة؛ ذلك أن إسبانيا النصرانية ما كادت تظفر بتحقيق سياستها الوطنية القديمة في سحق إسبانيا المسلمة والاستيلاء على تراثها كله والظفر بغرناطة آخر معاقلها، حتى وضعت برنامجها الشائن لمحو تراث الأندلس، وسحق الإسلام وكل ذكرياته وآثاره، وإبادة هذه البقية الباقية من سلالة المسلمين والعرب الذين لبثوا سادة في الجزيرة زهاء ثمانية قرون؛ وكان اليهود الذين عاشوا وازدهروا في ظل الدولة الإسلامية، كالمسلمين ضحايا هذه السياسة البربرية؛ وكانت محاكم التحقيق تنشط لمطاردة الضحايا، وكانت محارقها تسطع في مختلف القواعد الأندلسية القديمة حتى قبل سقوط غرناطة؛ وكان سقوط غرناطة في فاتحة سنة 1492م نذير المأساة المروعة التي لم تستطع إسبانيا النصرانية في حمى الظفر وغلوائه أن تقدر عواقبها المخربة؛ وكان المسلمون

ص: 24

المغلوبون قد أخذوا على الظافرين قبل التسليم كل ما يستطيع أن يأخذه الضعيف على القوي من العهود النظرية، لتأمين النفس والمال والعرض، والدين والتراث القومي؛ ولكن هذه العهود التي لا سند لها إلا إرادة الظافر، لم تكن شيئاً مذكوراً في نظر إسبانيا النصرانية؛ فلم تمض سوى أعوام قلائل، حتى كشفت إسبانيا النصرانية عن سياستها ونياتها الحقيقية فسحقت العهود المقطوعة وأرغمت المسلمين على التنصر، ولم تدخر وسيلة من الوسائل البربرية، من سجن وحرق وتشريد وتعذيب إلا استعملتها لتحقيق هذه الغاية، وسطعت محارق ديوان التحقيق في غرناطة كما سطعت من قبل في غيرها من قواعد الأندلس لتلتهم المخالفين والمارقبين، وغدا أبناء قريش ومضر نصارى يشهدون القداس في الكنائس ويتحدثون القشتالية، واختفت آثار الإسلام والعربية بسرعة، واستحال الشعب الأندلسي إلى مجتمع جديد هو مجتمع الموريسكيين أو العرب المنتصرين.

ولقد كان استشهاد الموريسكيين من أروع مآسي التاريخ، وكان هذا الشعب المهيض الذي أدخل قسراً في حظيرة النصرانية، والذي أنكرته مع ذلك إسبانيا سيدته الجديدة وأنكرته الكنيسة التي عملت على تنصيره، يحاول أن يروض نفسه على حياته الجديدة، وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد؛ ولكن إسبانيا النصرانية كانت ترى في هذه البقية الباقية من الشعب الأندلسي المجيد عدوها القديم الخالد، وتتصور أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذي أحكمت أغلالها في عنقه مصدر خطر دائم على سلامها وطمأنينتها، وتشتد في مطاردته وإرهاقه بمختلف الفروض والقوانين والمغارم، وتمعن في انتهاك عواطفه وحرماته وفي تعذيبه وتشريده، وتنكر عليه أبسط الحقوق الإنسانية؛ وكانت محاكم التحقيق تحمل هذه الرسالة الدموية المخربة، وتعمل على تنفيذها بوحشية لم يسمع بها؛ واستطالت هذه الوندالية منذ سقوط غرناطة أكثر من قرن. بيد أن الموريسكيين يحملهم اليأس العميق، وغريزة الدفاع عن النفس ولمحة باقية من عزم النضال القديم، لم يخلدوا إلى هذا الاستشهاد المؤسي، دون تذمر، ودون انتقاض، فقد ثاروا غير مرة على الطغاة والجلادين، وحاولوا مقاومة هذه السياسة الوندالية والخروج على فروضها؛ ولكن يد الطغيان القوية مزقتهم وسحقتهم بلا رأفة، وتركتهم أشلاء دامية.

وكانت أعظم ثورة قام بها الموريسكيون في وجه إسبانيا النصرانية سنة 1569م. أعني

ص: 25

بعد سقوط غرناطة بثمانية وسبعين عاماً؛ وكان التنصر قد عم الموريسكيين يومئذ وغاضت منهم كل مظاهر الإسلام، ولكن قبساً دفيناً من دين الآباء والأجداد كان لا يزال يجثم في قراره هذه النفوس الأبية الكليمة؛ ولم تنجح إسبانيا النصرانية بسياستها البربرية في اكتساب شيء من ولائها المغصوب، وكان الموريسكيون يحتشدون في جماعات كبيرة وصغيرة في بسائط غرناطة وفي منطقة البشرات الجبلية تتوسطها الحاميات والكنائس، لتسهر الأولى على حركاتهم، وتسهر الثانية على إيمانهم وضمائرهم، وكانوا يشتغلون بالأخص بالزراعة والتجارة، ولهم صلات تجارية وثيقة بثغور المغرب.

وكانت بقية من التقاليد والمظاهر القومية لازالت تربط هذا الشعب الذي زادته المحنة والخطوب اتحاداً وتعلقاً بتراثه القومي والروحي؛ وكانت الكنيسة تحيط هذا الشعب العاق الذي لم تنجح تعاليمها في النفاذ إلى أعماق نفسه بكثير من البغضاء والحقد؛ فلما تولى فيليب الثاني الملك ألفت فرصتها في أذكاء عوامل الاضطهاد والتعصب. وكان هذا الملك المتعصب حبراً في أعماق نفسه، يخضع لوحي الأحبار والكنيسة، ففي سنة 1563 ظهرت بوادر السياسة الجديدة إذ صدر قانون جديد يحرم حمل السلاح على الموريسكيين إلا بترخيص الحاكم العالم؛ فأثار صدوره سخط الموريسكيين؛ بيد أنه كان مقدمة لقانون بربري جديد أعلن في غرناطة في يناير سنة 1567 وهو الشهر الذي سقطت فيه غرناطة واتخذته إسبانيا عيداً قومياً تحتفل به كل عام وكان القانون الجديد يرمي إلى القضاء على آخر المظاهر والتقاليد التي تربط الموريسكيين بماضيهم وتراثهم القومي، فحرم عليهم أن يتكلموا العربية أو يتعاملوا بها، وأن لا يستعملوا سوى القشتالية في التخاطب والتعامل وذلك في ظرف ثلاثة أشهر من صدور القانون، وألا يتخذوا أسماء عربية، أو يرتدوا الثياب العربية، وحظر التحجب على النساء وألزمن بارتداء الثياب الأوربية المكشوفة وذلك في ظرف عام، وأن تبقى بيوتهم مفتوحة أثناء حفلات الزواج وغيرها ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والمراسيم المحرمة، وألا ينشدوا الأغاني العربية أو يزاولوا الرقص العربي، وفرضت للمخالفين عقوبات فادحة تختلف من السجن إلى النفي والإعدام.

أعلن هذا القانون في غرناطة في ميدان باب البنود أعظم ميادينها القديمة في يناير سنة

ص: 26

1567؛ ونستطيع أن نتصور وقعه لدى الموريسكيين فقد فاضت قلوبهم سخطاً وأسى ويأساً، وحاولوا أن يسعوا بالضراعة والحسنى لإلغائه أو على الأقل لتخفيف وطأته، فاجتمع أعيانهم وقرروا التظلم للعرش، وحمل رسالتهم إلى فيليب الثاني والى وزيره الطاغية اسبنوسا، سيد إسباني نبيل من أعيان غرناطة يدعى الدون خوان هنريكس، وقد كان يعطف على هذا الشعب المنكود ويرى خطر السياسة التي اتبعت لإبادته؛ ولكن وساطة ذهبت عبثاً وحملت سياسة العنف والتعصب وكل شيء في طريقها، ونفذت الأحكام الجديدة في المواعيد التي حددت لها، وأحيط تنفيذها بمنتهى الصرامة والشدة.

عندئذ بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضني أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم آخر جذوة من الكرامة والعزة وقبل أن تقطع آخر صلاتهم بالماضي المجيد والتراث العزيز.

- 2 -

وهنا يبدأ الصراع الأخير بين الموريسكيين وإسبانيا النصرانية؛ ومن الأسف أننا لم نتلق عن هذا المرحلة المؤسية من تاريخ إسبانيا المسلمة شيئاً من الروايات العربية، وكل ما انتهى إلينا منها عن المأساة أثر صغير يسمى (أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر) كتبه فيما يظهر مسلم أو موريسكي من أشراف غرناطة وذلك سنة 947هـ (1542م) أعني بعد سقوط غرناطة بخمسين سنة. وفيه يصف حوادث سقوطها وما تلا ذلك من إرغام المسلمين على التنصر، ومن مطاردتهم وإرهاقهم وتعذيبهم، ويجمل لنا مأساة التنصر في هذه الكلمات المؤثرة.

ثم بعد ذلك دعاهم (أي ملك قشتالة) إلى التنصر وأكرههم عليه وذلك في سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا في دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، إلا من يقولها في قلبه وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الآذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن. فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات

ص: 27

ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب وعذب بأشد العذاب، فيا لها من فجيعة ما أمرها ومصيبة ما أعظمها وطامة ما أكبرها.

بيد أن هذه الرواية العربية الوحيدة تقف في تتبع حوادث المأساة عند هذا الحد؛ وإذن فليس لدينا لتتبع حوادث هذا الصراع الأخير بين الموريسكيين وبين إسبانيا النصرانية سوى المصادر القشتالية؛ وإذا كانت هذه المصادر النصرانية، تتأثر في كثير من المواطن بالعوامل الدينية والقومية، فإنها مع ذلك تعرض هذه الحوادث المؤسية في أسلوب مؤثر، ولا تضن في بعض المواطن والمواقف بعطفها وأحياناً بإعجابها على ذلك الشعب الباسل الذي لبث يناضل حتى الرمق الأخير عن كرامته وعن تراثه الروحي والقومي.

(للبحث بقية)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 28

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 5 -

الديانة المصرية - قداسة الحيوان عند الخاصة

بقي علينا قبل أن نغادر فصل الألوهية عند قدماء المصريين أن نبين حقيقة علمية ظلت مستورة وقتاً طويلاً يكتنفها الغموض ويحوطها الإبهام من كل جانب، وظل العلماء والباحثون يتخبطون في حل مشكلتها مدى بعيداً. تلك المشكلة هي عبادة المصريين للحيوانات التي طالما كانت موضع الحيرة من المستمصرين الذين يدينون بمدنية مصر الفائقة ورقي عقليتها الممتاز الذي لا يتفق مع عبادة الحيوانات تحت لواء منطق مستقيم

وها نحن أولاء نبين رأي الخاصة المتفلسفين في عبادة الحيوان بعد أن أبنا في الكلمات السابقة منشأ عقائد العامة الذين كانوا يعبدون تلك الحيوانات دون أن ينشغلوا بأسباب هذه العبادة. وقد ذكرنا لك فروض العلماء التي تمحلوها في هذا الشأن؛ أما الخواص من المصريين فمبررات عبادتهم للحيوان تتلخص فيما يلي:

كان المصريون يعتقدون أن الروح تعود بعد الموت فتقطن في المومياء المحنطة وفي التمثال الحجري على ما سنبين ذلك في بابه، ثم تدرجوا إلى أن للإنسان عدة شخصيات بعضها مادي وبعضها روحي، وأن كل شخصية من هذه الشخصيات يمكن أن تستقل بنفسها في مأوى خاص وإذا كان هذا شأن الإنسان فأحر بالإله - وهو الأعظم روحانية - أن يكون له عدة شخصيات تحل كل واحدة منها في مأوى، ثم فكروا فهداهم تفكيرهم إلى أن مأوى شخصيات الإله لا يصح أن تكون ميتة كالمومياء ولا حجراً بارداً كالتمثال، وإنما يجب أن تكون مستحوزة على الحياة الواقعية وأن تكون غير إنسان، فأخذوا يحلون الإله تارة في ثور وأخرى في تمساح وثالثة في قط، ورابعة في طائر، ثم يتبعون هذا الحلول بتقديس ذلك القط أو ذاك الثور أو هذا الطائر، ويقدمون إلى هذه الحيوانات أنواع العبادة

ص: 29

والإجلال، لا على أنها معبودات لهم، ولكن على إنها ظروف قد حلت فيها شخصيات الإله الأعظم التي لا تتناهى.

وكانت هذه العبادة في أول الأمر مقصورة على فرد واحد من أفراد كل نوع من الحيوانات ينحصر فيه الاختيار من بين جميع أفراد نوعه لميزة لا توجد في غيره، ثم تطورت هذه العقيدة فأخذت تشمل أفراد كل نوع عبد منه فرد واحد في الماضي.

وقد شاهد (هيرودوت) في مصر هذه الحالة فنبأنا بأن حريقاً شب في مصر فوجه السكان جميعهم عنايتهم إلى نجاة القطط قبل أن يفكروا في إطفاء النار، وهو ينبئنا كذلك بأن موت بعض الحيوانات كالقطط والكلاب كان يعقبه في مصر حداد شامل وألم عميق. وليست رواية هيرودوت وبأغرب مما يحدثنا به الأدب عن الحيوانات، إذ ينبئنا أن المصريين كانوا يعتقدون أنها مشتملة على كثير من أسرار الكون الخفية، فهي مثلاً تعلم الغيب وتحيط بما في المستقبل الغامض على الإنسان، ولكنها تحتفظ بهذه الأسرار ولا تبوح بشيء منها إلا للمقربين الذين اصطفاهم الإله أو سيصطفيهم عما قريب. وهاهي ذي الأساطير المصرية تحدثنا في قصة (الأخوين) أن (بيتيو) أحد الشقيقين اللذين وشت بينهما زوجة أكبرهما كان عند مواشيه، وهو لا يدري تربص شقيقه به، فهتفت به إحدى البقرات قائلة: هاهو ذا أخوك يريد قتلك بسكينة فانج بنفسك من أمامه. ولم يكن الحيوان وحده هو موضع هذا الحلول الإلهي ومقر تلك الأسرار الكونية، وإنما كان النبات كذلك. ولهذا فكثيراً ما يصادفك في التاريخ المصري: حقائقه وأساطيره، آثار أو قصص تتحدث عن الأشجار المقدسة الحائزة لغوامض الأسرار. فمن ذلك ما ينبئنا به كتاب (الأدب المصري القديم) من أنه بينما كان فرعون جالساً ذات مرة مع زوجته التي كان يحبها حباً جماً تحت إحدى الشجرات المقدسة في سرور وسعادة، وإذا بالشجرة تنحني على الملك وتسر في إذنه أن زوجته خائنة؛ إلى غير ذلك مما لو تعقبناه لطال بنا البحث.

ارتقت بعد ذلك هذه العقيدة وسارت إلى الفلسفة بخطوات واسعة فقررت أن الإله حال في كل كائن حي، بل في كل جزئية من جزيئات الطبيعة، وأنه ذو مظاهر مختلفة، فهو مرة روح في جسم حي، ومرة روح مجردة، وثالثة قوة من قوى الطبيعة في الجو أو على الأرض أو في أعماق البحار؛ وهذا الحلول الديني أولاً، والفلسفي ثانياً، هو سر عبادتهم

ص: 30

للحيوان والنبات.

النفس عند قدماء المصريين

يرى بعض العلماء أن المصريين في أول عصورهم الفكرية لم يكونوا يعنون بالروح أو بعبارة أدق لم يكن عندهم عن الروح فكرة واضحة. ويعللون هذا بأن المصريين كانوا يعتقدون في تلك العهود السحيقة أن الجسم نفس حي يستمتع في القبر بكل مميزات الحياة. ولكن هذا الرأي عندي غير صحيح، إذ أن المعروف عند قدماء المصريين أنهم كانوا منذ أقدم عصورهم يدينون بوجود كائن أجنبي عن الجسم، وأنه أثناء وجود الجسم في القبر يختلف إليه من حين إلى أخر، وأنهم لهذا كانوا يتركون في بناء القبر ثغرة بسيطة تمر منها الروح جيئة وذهاباً، وأنه لكي تظل الروح حية يجب أن يبقى مأواها وهو الجسم سليما من الخدوش والجروح، ولا يضمن سلامة الجسم إلا التحنيط، فابتدعوه مدفوعين إلى ذلك باحتياجهم إليه، (والحيلة بنت الحاجة كما يقولون)؛ ثم أخذ المحنطون الفنيّون يتنافسون في هذه الصناعة، ويبرهن كل واحد منهم على أنه أقدر من صاحبه على حفظ الجسم سليما زمناً طويلاً. غير أنهم اقتنعوا بعد ذلك بأن الجسم مهما كان تحنيطه متقناً سيلحقه البلى على كل حال. وهنا تتعرض الروح للخطر، فلا مناص إذاً من أن يصنعوا لها مأوى آخر تقيم فيه إذا ما بلى الجسم فاخترعوا فن النحت. ولما كانت الأسطورة الدينية تشترط أن يكون هذا التمثال المحنط شبيهاً بالجسم الأصلي في كل تقاطيعه وملامحه دفعتهم هذه الوسوسة إلى الإجادة والإتقان في النحت بهيئة تعجز أكابر فناني العصور الحديثة.

عدد المصريين بعد ذلك التماثيل للشخص الواحد حتى جاوزت في بعض الأحيان مائة تمثال للدفين الواحد. وكان لهذا التعديد سببان: الأول الوسوسة الدينية التي كانت تقض مضاجعهم وتنذرهم بالأخطار المرعبة التي تتعرض لها الروح إذا أخطأ المثال في شئ ولو يسيراً من تقاطيع الجسم أو ملامح الوجه، فكان الإكثار من التماثيل يقيهم شر هذا الخوف المتسيطر. أما السبب الثاني فهو أن تكون الروح في عالم الآخرة غنية سعيدة بالتنقل من تمثال إلى تمثال ولكن منشأ هذا التعديد قد نسي بمرور الزمن ثم تطرقت إليه التأويلات المختلفة التي تلحق عادة كل عقيدة نسي اصلها. وكان أحد هذه التأويلات الكثيرة أن هذه التماثيل لم تصنع عبثاً، وإنما صنع كل تمثال منها لروح خاصة، لأن كل شخص يشتمل

ص: 31

على عدة أرواح تسمى إحداها: ، أي الروح، والثانية: ، أي النفس أو العقل. والثالثة (دوبل) وهي صورة صيغت من مادة أدق من مادة الجسم، ولكنها على هيئة الجسم تماما والرابعة:(الكا) وهي الجوهر الخالد الموجود في الإنسان وفي كل إله، وهو سر الحياة وسر السمو.

وتمتاز (الكا) عند المصريين عن بقية شخصيات النفس بأنها تظل في عالم السماء ما دام الإنسان في الحياة، فإذا مات اتصلت به اتصالاً وثيقاً يجعله غير قابل للزوال. أما الروح فإنها تظل مترددة على الجسم في قبره كما أسلفنا. حتى إذا ما فاز الميت برضى (توت) انكشفت أمامه كل أسرار الحياة وأصبح لا فرق بينه وبين الأحياء إلا انهم يسيرون على الأرض وهو نائم في قبره. ومن أسباب هذا الرضى أن يتعبد الشخص في حالة حياته بتلاوة كتاب توت وأن يوصي بوضعه معه في قبره إذا أمكن ذلك، وفي هذا المعنى تقول الأسطورة المصرية (أن كتاب توت الذي كتبه الإله بيده، والذي لا يحتوي إلا على عزيمتين اثنتين والذي اشتمل على جميع كلمات الخلق والتكوين المقيدة للآلهة أنفسهم، إذا حصلت عليه ثم تلوت القسم الأول منه سحرت السماء والأرض وعالم الليل والجبال والبحار وفهمت لغة الطير واستطعت أن ترى الأسماك في أغوار الأنهار، لأن قوة خفية تصعد بها على وجه الماء؛ وإذا تلوت القسم الثاني من هذا الكتاب فانك بعد أن تصير في القبر تعود إلى شكلك الذي كنت عليه في حال الحياة وترى الشمس حينما تشرق والقمر حينما يظهر).

وكان المصريون يعتقدون أن الروح وهي في عالم الآخرة تظل مفتقرة إلى ما يقدمه إليها الأحياء من طعام وشراب في الضحايا والقرابين، وأنها إذا تركت بدون هذه الضحايا يؤلمها هذا الإهمال كما يؤلم الأحياء. ولا ريب أن هذه العقيدة تدل للوهلة الأولى على مادية المصريين. وقد استند بعض الباحثين إلى هذه الأسطورة ومثيلاتها من ترك المصريين ثغرة للروح تمر منها، ومن قولهم بافتقار الروح إلى مأوى مادي تقيم فيه كالمومياء والتمثال، فجزموا من كل هذا بأنه إذا كان للمصريين فلسفة فأنها مادية ساذجة؛ وهو قول بعيد عن الصحة بعد العدم عن الوجود، لأن للنفس عند المصريين عدة شخصيات، فإذا كانت إحدى هذه الشخصيات مادية تأكل وتشرب بعد الموت من الضحايا والقرابين وتحتاج

ص: 32

إلى مأوى تقيم فيه وثغرة تنفذ منها، فلا ينزل ذلك بفلسفتهم إلى المادية، لأن قولهم بوجود الشخصية الأخرى التي هي جوهر الأسرار الإلهية يصعد بهذه الفلسفة إلى أسمى أوج الروحانية. على أني لا أدري كيف يجرؤ هذا البعض من العلماء على أن يرموا فلسفة المصريين بالمادية الساذجة من أجل قولهم بافتقار الروح إلى الأكل والشرب والمأوى ثم هم يسوغون لأنفسهم أن يشيدوا بفلسفة (تاليس) و (أنا كسيماندر) و (أنا كسيمين) و (ديوجين) وهم لم تخطر لهم الروح ببال؛ أو بفلسفة (ديموقريت) و (إيبيقور) اللذين - وإن قالا بالثنائية - لا يميزان الروح عن المادة إلا بنفس الميزة التي ميز بها المصريون من قبل (الدوبل) عن الجسم، وهي كما نص (ديموقريت) و (إيبيقور):(إن النفس من ذرات أدق وأكثر شفافية من ذرات الجسم، وهذا هو كل ما بينهما من فرق) أضف إلى هذا أن (أفلاطون) نفسه - وهو ثاني أجلاء فلاسفة اليونان الروحانيين - يرى أن النفس مكونة من ثلاث قوى: إحداهما جوهرية خالدة، والاثنتان الأخريان ماديتان قابلتان للفناء، فهل عيب التفكير المصري هو أنه سبق غيره إلى النظريات الراقية بأكثر من عشرين قرنا؟!

مما هو جدير بالذكر عند قدماء المصريين أن الروح كانت عندهم تتصل بعالم الأحياء فتذكره بعظات الماضي وتنبئه بأسرار المستقبل وتنصحه بعمل شيء وتحذره من عمل آخر إلى غير ذلك مما تفيض به الأساطير.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 33

‌ذكرى المولد النبي

من مشاهد عكاظ المؤثرة

للأستاذ سعيد الأفغاني

استيقظت مكة ذات صباح، بعد عام الفيل بأربعين، على جرس حلو ساحر، يرسله محمد الأمين داعياً قومه إلى الله وحده، وأن ينبذوا ما هم فيه من عبادة أصنام ووأد بنات وقتل أولاد، وأن يقبلوا على ما يشبع فيهم المحبة والسعادة ويوطد لهم المجد والعزة في العالمين.

استمع مشركو مكة إلى هذا الرجل الذي كان حبيباً إلى قلوبهم، عظيم المنزلة في صدورهم، مضرب المثل بينهم في علو الخلق وطهارة السيرة وصفاء السريرة، فنظر بعض إلى بعض مكبرين ما أتي به ابن عبد المطلب سيد فتيان هاشم ورجل مكة المنتظر.

ونزت في تلك الرءوس حمية جاهلية استعصى قيادها على البيان الساحر والعقل الوافر والحرص المخلص، فعظم عليها أن تترك ما ألفت، وتألبت قوى أهل مكة جيوشاً متضافرة تكيد لهذا الداعي إلى الخير ولأولئك القانتين المخبتين من الضعفاء والنساء والصبيان، الذين ملكت عليهم الدعوة الجديدة شعورهم وتغلغل صوت الإله في أعماق نفوسهم فصفاها وأخلصها، ليكون منها الهدف الأول الذي يصمد في سبيل العقيدة الحق للأذى والتشريد والتجويع والتعذيب بصبر عجيب وإيمان صليب واغتباط متزايد، كأنما يجدون في هذه الآلام نعيماً ولذائذ. فكانت مصابرتهم وثباتهم خير ما ضمن نجاح الدعوة وتقاطر الناس عليها فيما بعد.

إلا أن الأذية عظمت، وأنى المشركون إلا إصراراً واستكباراً وصداً عن سبيل الله من آمن به، وكادت تتسرب شوائب من يأس إلى بعض تلك النفوس العظيمة، لولا بارقة أمل لاحت لهم في قصد قبائل العرب بالمواسم في عكاظ ومجنة وذي المجاز.

وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين في عكاظ، يدعو الناس إلى الخير والهدى والسعادة. وقد لزمه منذ قيامه بالدعوة حزن عميق على قومه الذين كفروا بنعمة الله، وآلمه ألا يراهم مسارعين إلى ما به صلاحهم، فعزم ليقصدن المواسم وليأتين فيها القبائل، كل قبيلة بمنزلها، وكل جماعة في حيهم، يعرض عليهم هذا الدين الجديد. ولقد حرص الحرص كله على أن يهتدوا، وكان أسفه يشتد كلما ألح قومه بالصد.

ص: 34

قام في عكاظ يقول:

(يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا)

ويتبعه رجل له غديرتان كأن وجهه الذهب وهو يقول:

(يا أيها الناس، إن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه.)

فعرف الناس أن هذا (الصاد عن سبيل الله) هو عمه أبو لهب ابن عبد المطلب، يكذبه كلما قال كلمة الحق.

عاود والرسول الدعوة مراراً فلم يجب ولم ييأس، ورجا أن يجد فيهم الحامي والمجير على الأقل إذ لم يجد المجيب، فكان يقول للحي في موسم عكاظ:

(لا أكره منكم أحداً على شيء: من رضي الذي أدعوه إليه قبله، ومن كرهه لم أكرهه؛ إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء.)

كان الناس يعجبون من أمره وأمر عمه، وهم بين راض وغاضب، ومتعجب يرى بعينه ثم يمضي كأن الأمر لا يهمه. منهم من لا ينكر ما يسمع، ومنهم من يرد أقبح الرد، ومنهم من يقول: قومه أعلم به.

كان هذا دأبه أبداً، يوافي به القبائل سنة بعد سنة، حتى إن منهم من قال له:(أيها الرجل، أما آن لك أن تيأس؟!) من طول ما يعرض نفسه عليهم.

انتهى رسول الله في تطوافه على القبائل في عكاظ، إلى بني محارب ابن خصفة، فوجد فيهم شيخاً ابن عشرين ومائة سنة، فكلمه ودعاه إلى الإسلام وأن يمنعه حتى يبلغ رسالة ربه؛ فقال الشيخ:(أيها الرجل قومك أعلم بنبئك. والله لا يؤوب بك رجل إلى أهله إلا آب بشر ما يؤوب به أهل الموسم. فأغبن عنا نفسك.) وإن أبا لهب لقائم يسمع كلام المحاربي.

ثم وقف أبو لهب على المحاربي فقال.

ولو كان أهل الموسم كلهم مثلك لترك هذا الدين الذي هو عليه، إنه صابئ كذاب.)

قال المحاربي: (أنت والله أعرف به، هو ابن أخيك ولحمتك.)

ثم قال: (لعل به يا أبا عتبة لمماً، فإن معنا رجلاً من الحي يهتدي لعلاجه.) فلم يرجع أبو لهب بشيء.

ص: 35

روى عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ فقال:

- ممن القوم؟

قلنا: - من بني عامر بن صعصعة.

- من أي بني عامر؟

- بنو كعب بن ربيعة.

- كيف المنعة فيكم؟

- لا يرام ما قبلنا ولا يصطلى بنارنا.

فقال: إني رسول الله، فإن أتيتكم تمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولم أكره أحداً منكم على شيء؟

قالوا: - ومن أي قريش أنت؟

- من بني عبد المطلب.

- فأين أنت من بني عبد مناف؟

هم أول من كذبني وطردني.

قالوا: - ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك)

فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بجرة بن قيس القشيري فقال:

- من هذا الذي أراه عندكم أنكره؟

قالوا: - هذا محمد بن عبد الله القرشي.

- ما لكم وله؟

- زعم لنا أنه رسول الله، يطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.

- فماذا رددتم عليه؟

- قلنا في الرحب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمتعك مما نمنع به أنفسنا.

قال بجرة: - ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به. بدأتم لتنابذكم الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة. قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به. تعمدون إلى رهيق قوم قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه؟

ص: 36

فبئس الرأي رأيتم.

ثم أقبل على رسول الله فقال: (قم الحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك).

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بجرة شاكلتها فقمصت برسول الله فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضياعة بنت عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت:(يا آل عامر ولا عامر لي! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟)

فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بحرة، وثلاثة أعانوه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض ثم جلس على صدره، ثم علقوا وجوههم لطما، فقال رسول الله:

(اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء.)

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عمن كان في الموسم فقالوا:

(جاءنا فتى من قريش ثم حدث أنه أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به معنا إلى بلادنا.)

فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: (يا بني عامر: هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من تطلب؟

فوالذي نفس فلان بيده، ما تقولها إسماعيلي قط؟ ألا إنها الحق؛ فأين كان رأيكم؟.

هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنة وذو المجاز، التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلى جانب مناظر البيع والشراء والمفاخرة والإنشاد، مشهداً من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذى لصاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه وسلم. وابتلعت تلك الأصوات بضجيجها وما كانت تعج به من حوادث، صوت الدعوة الإسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الصخب والزحام؛ فلقد مكث الرسول بمكة مستخفياً ثلاث سنين، ثم أعلن في الرابعة ودعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام، (يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحداً ينصره أو

ص: 37

يجيبه، حتى إنه ليسال عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردون عليه اقبح الرد، ويؤذونه ويقولون له: قومك أعلم بك)

كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج موزع السمع بين داع إلى ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإجارة أو حمالة، وداع إلى عصبية، وآمر بمنكر. . .، فيجد شيئاً معروفا قد ألفه منذ عقل وأبصر الدنيا. لكنه بعد عام الفيل بثلاث وأربعين سنة يجد أمراً لم يألفه قط، ولا سمع بمثله: رجلاً كهلاً وضيئاً عليه سمات الوقار والرحمة والخير، يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة: هذه بنو عامر بن صعصعة، وهذه محارب، وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم، وعبس، وهنا بنو نصر وكندة، وكعب، وعذرة، وهؤلاء بنو الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة. . . الخ.

يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلى شريفها يدعوه بالرفق إلى الله وفعل الخير فيتجهم له هذا ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك، ويحقره آخر. . فيلقى من الصد ألواناً يضيق ببعضها صدر الحليم، فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متئداً حزيناً إلى قبيلة أخرى وشريف آخر: يعرض عليهم نفسه ويقول:

(هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي. فلا يجد مجيباً، حتى تدارك الله نبيه بوفد الأنصار.

هذا ما حفظته لنا كتب السيرة من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلى خير، فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية وإجابة. ولئن صدف عنه الناس وأزوروا في أسواق الجاهلية، إنه ملأ فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلاً وعلماً، وإنسانية وسعادة ومثلاً عليا.

وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم أفواج من أمم الحضارة والعرفان، في أسيا وأوروبا وأمريكا. صد عنه قديماً أجلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمر المتحضرين، من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي ومفكر. . من يستضيء بعلمهم وفكرهم الملايين من الخلق.

ص: 38

فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحفظ هذا الدرس؛ فأن الحق مهما بدا ضعيفاً وبدا خصيمه الباطل قوياً صائلاً، لا بد أنه ظافر في النهاية عليه. فليس في الدنيا شيء يصمد للحق، لا الجيوش ولا الأساطيل، ولا النار ولا الحديد، لا شيء له العقبى إلا الحق. وأهون بعد ذلك بالمعاهدات والمراسيم وصكوك الانتدابات وسائر القصاصات من أوراق الزور. كل أولئك يضمحل ويذوب متى سلط عليه الإخلاص والثبات وصلابة العقيدة والإيمان. وما نرى في أيامنا هذه من استضعاف الباطل المعتز بالصولة، لأناس وقفوا يدعون النضال في سبيل الحق، واستخذاء هؤلاء له، وطواعيتهم في يديه، ناشئ من فقدان الإخلاص والعقيدة فيما يضمرون. ولعل كثيراً منهم يظهر دفاعاً عن حق، ويبطن سعياً إلى منصب أو استدراراً لمال. وما أسرع ما ينزع الزمان الأثواب المزورة عن هذا الفريق فيظهر للناس ما يخفون.

ولنعلم بعد أن اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلاً إلى قلب المؤمن، وأنه:(لا ييأس من روح الله إلى القوم الكافرين)

(دمشق)

سعيد الافغاني

ص: 39

‌عبرة وفاء

الرافعي

للأستاذ كامل محمود حبيب

أليس الحق أن العيش فان

وأن الحي غايته الممات

(شوقي)

فقدتك - يا رافعي - ففقدت صديقاً، والأصدقاء قليل؛ وأخاً كبيراً طيب القلب، والقلوب هواء؛ وأباً شفيقاً فيه الرحمة والحنان؛ وأستاذاً غمرني نور علمه ونور أدبه

كنت وكنا. . . ففتحت على عينيك مغاليق نفسي، فأحسست كأني ألمس روحك تتدفق في روحي، فهفوت نحوك أجد في حديثك اللذة والمتعة. وأجد في نصيحتك الهداية والنور. . . فلما فقدتك فقدت قلبي، وأذهلتني الصدمة فخرجت عن صبري إلى حزني؛ وكدت أشق عليك الجيب، وألطم الخد. ولكن الإيمان يا رافعي. . . ولكن الإيمان. . .

وانطويت على نفسي ألتمس في عبرات حرى أسكبها، أشيعك بها إلى الدار الأخرى. . . ألتمس فيها بعض ما يخفف عني برح الشوق، وألم الفجيعة؛ فما وجدت فيها سلوة ولا وجدت عزاءً، فاستحوز علي الأسى والشجن، ونسيت ما كنت تقوله حين تزعزعني الأيام:(الإيمان، يا بني، الإيمان. . .)

وخرجت إلى الناس فرأوا في أثر الحزن والضنى في سواد لبسته، وفي تجهم وعبوس اكتسى بهما وجهي، وفي عبرة تترقرق في محجري أجهد أن أكفكفها لأخفى ضعفي، وفي جفوني قرح من أثر البكاء والسهر؛ فما استطاع واحد أن يقول شيئاً، غير أن نظراتهم كان فيها الرثاء والشفقة. . . ثم انطووا عني جميعاً، وخلفوني وحيداً، أحس ألم الوخزة في قلبي. . . قلبي وحده.

ومر رجل يبسم وعلى وجهه سمات الفرح فهاجت في نفسي الذكرى فبكيت ونظر هو إلى حزني ثم استغرق في الضحك، لا يرعوي ولا يرحم؛ فقلت لنفسي (ويل للشجي من الخلي!)

وجاء صديق يريد أن يرفه عني، ويطمع في أن ينزعني من آلامي، بعبارات فاترة ثقيلة لا

ص: 40

معنى فيها ولا روح؛ ولكنها أثارت شجوني، فانتفض قلبي، وارفض جبيني عرقاً، وانهمرت عبراتي؛ فانطلق وهو يرثى لحال صاحبه. . . صاحبه المسكين الذي لا يسمع ولا يعي. . . وماذا يعزيني عنك يا رافعي وأنت. . . في دمي وفي روحي؟

وجلست إلى كتاب من كتبك أنشق عبير روحك الطاهرة، وأتنسم من ألفاظك روح قلبك الخالص؛ فارتدت الذكرى تبعثك في خيالي، فتوقظ في نفسي الألم والحسرة لأنني استشعرت فقدك في قلبي.

إن في النفس عواطف لا يرقى إليها القول، وفي الفؤاد نوازع لا يستطيع أن يكشف عنها المنطق، أحس بها جياشة ثائرة فأنطوي على أحزان تأكل قلبي وتضطرم في جوانحي. . . ثم لا أجد عاصماً سوى الدمع. . .

وجاء النعي يقول: إنك بت تحت الثرى، وإن تاريخك على الأرض قد تم، فوجمت، وجاء الظلام يترع أيامي في وقت رف علي فيه الأمل الحلو حين خيل إلي أني أنتظر لقياك، ولكن. . . فجعت مرتين: فيك وفي أملي. . .

وطال بعدك ليلي حين لج بي الأسى، ونأت عني مسراتي حين لازمتني أشجاني، وغدوت إنساناً غيري فيه اللوعة والأسف.

لقد عرفتك فبعثت في روحي الحياة والنور، ونفثت في قلبي الإيمان والسمو؛ والآن. . . الآن رانت على حياتي ظلمات وظلمات فما أستطيع أن أهتدي، والبحر يزخر حوالي فلا أرى الشاطئ الأمين، فأين يدك تجذبني إليه، وأين قلبك ينير لي الطريق. . .؟

تركتني وأتراحى، وفي القلب شوق، وفيه شكاية، فمتى تغسل دموعي هذه الأشجان لأبدو للناس رجلاً فيه الصبر والسلوان.

لفتك يد المنون في كفن لتنشر في الأفئدة اللوعة والأسى وأودعتك رمساً لتوقظ في النفوس الهموم والشجن.

وأطفأت السراج المنير لينقلب ناراً تتسعر بين الضلوع.

ونزعتك من بيننا لتشعرنا الوحدة والفراغ.

فلنا الله. . . لنا الله بعدك يا رافعي.

آدنى هذا الأمر فانشق له قلبي.

ص: 41

وتفطر فؤادي حين لفحني أواره.

وفقدت الآسي وقد فزع عني الصديق والخليل

فظللت وحدي أذرف الدمع السخين.

فوا حر كبدي. . . واحر كبدي مما أقاسي بعدك يا رافعي!

كامل محمود حبيب

ص: 42

‌بعد الموت ماذا أريد أن يقال عني

بقلم المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي

سأله محرر الدنيا منذ شهرين هذا السؤال فكتب إليه هذا المقال:

ما هي الكلمات التي تقال عن الحي بعد موته إلا ترجمة أعماله في كلمات؟ فمن عرف حقيقة الحياة عرف أنه فيها لهيئ لنفسه ما يحسن أن يأخذه، ويعد للناس ما يحسن أن يتركه، فأن الأعمال أشياء حقيقية لها صورها الموجودة وإن كانت لا ترى.

وبعد الموت يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقول ألسنتهم، إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً، وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق، ويرتفع الحسد بموت المحسود، وتبطل المجاملة باختفاء من يجاملونه، وتبقى الأعمال تنبه إلى قيمة عاملها، ويفرغ المكان فيدل على قدر من كان فيه، وينتزع من الزمن ليل الميت ونهاره فيذهب اسمه عن شخصه ويبقى على أعماله.

ومن هنا كان الموت أصدق وأتم ما يعرف الناس بالناس، وكانت الكلمة بعده عن الميت خالصة مصفاة لا يشوبها كذب الدنيا على إنسانها، ولا كذب الإنسان على دنياه وهي الكلمة التي لا تقال إلا في النهاية، ومن أجل ذلك تجئ وفيها نهاية ما تضمر النفس للنفس.

وماذا يقولون اليوم عن هذا الضعيف؟ وماذا تكتب الصحف؟

هذه كلمات من أقوالهم: حجة العرب، مؤيد الدين، حارس لغة القرآن، صدر البيان العربي، الأديب الأمام، معجزة الأدب، إلى آخر ما يطرد في هذا النسق، وينطوي في هذه الجملة. فسيقال هذا كله ولكن باللهفة لا بالإعجاب، وللتاريخ لا للتقريظ، ولمنفعة الأدب لا لمنفعة الأديب. ثم لا يكون كلاماً كالذي يقال على الأرض يتغير ويتبدل، بل كلاماً ختم عليه بالخاتم الأبدي، وكأنما مات قائلوه كما مات الذي قيل فيه.

أما أنا فماذا ترى روحي وهي في الغمام وقد أصبح الشيء عندها لا يسمى شيئاً؟ إنها سترى هذه الأقوال كلها فارغة من المعنى اللغوي الذي تدل عليه لا تفهم منها شيئاً إلا معنى واحداً هو حركة نفس القائل، وخفقة ضميره. فشعور القلب التأثر هو وحده اللغة المفهومة بين الحي والميت.

سترى روحي أن هؤلاء الناس جميعاً كالأشجار المنبعثة من التراب عالية فوقه وثابتة فيه،

ص: 43

وستبحث منهم لا عن الجذوع والأغصان والأوراق والظاهر والباطن، بل عن شيء واحد هو هذه الثمرة السماوية المسماة القلب. وكل كلمة دعاء وكلمة ترحم وكلمة خير. ذلك هو ما تذوقه الروح من حلاوة هذه الثمرة.

مصطفى صادق الرافعي

ص: 44

‌من كلام الرافعي

قيل له رحمه الله: هل تكره الموت؟ فقال لا بل أكره ذنوبي، أما الموت فهو اكتشاف العالم الأكبر، نسأل الله حسن الخاتمة. وقيل له ما هي وصيتك إذا حضرتك الوفاة؟

فقال: هي تكرار المبدأ الذي وضعته لأولادي:

النجاح لا ينفعنا بل ينفعنا الامتياز في النجاح

مات الرافعي

بقلم السيد محمد زيادة

إذن فقد مات مصطفى، وانطفأ السراج الوهاج. . .

وهدأت الروح النبيلة الرفافة التي ما خلقت لتهدأ. . .

وفرغ الوجدان الفضفاض من هموم الإنسانية وآلام الناس. . . وسكن القلب الصخاب المتكلم، المحلق في أجواء السمو، الخافق خفقات الهوى العفيف. . .

وغربت النفس الأبية الملهمة الجائشة فيها خواطر الغيب وأسرار الكيان. . .

ونام العقل الجبار الحر النافذ شعاعه إلى كل سماء يستطلع الحقائق، المرسل سناه على كل أرض يطلع الناس. . .

وانطفأ السراج. . . انطفأ السراج الوهاج. . .

إذن فقد مات مصطفى وخلا من الحياة مكانه ليظل خالياً لا يجد الكفء الذي يملؤه. . .

وجنحت الشخصية الحبيبة المرموقة إلى العزلة. . . عزلة الأبد

وعدمت الموهبة المخلوقة للكفاح والإصلاح. . .

وانهدت القوة الفعالة المبدَعة المبدِعة. . .

وانحصر الميدان الآهل بعرائس الخيال الفاتنة بين جدران قبر ضيق. . .

وتهيأ الأدب العريق الفتي ليزول أو زال. . .

وانطفأ السراج. . . انطفأ السراج الوهاج. . .

إذن فقد مات مصطفى، ورحلت البارقة الهفافة من أفق الدنيا إلى آفاق الآخرة. . .

وشال الطائر الغريد عن الحمى يرف بجناحيه رفيف الوداع، وخفقت القلوب، وتباكت العيون، وذابت قطع من النفوس، وسرى في جو الأدب برق ورعد هز كيانه. . . ثم أعقبه

ص: 45

غبار ودخان لاح فيه سواد المصيبة. . .

ووجمت الحياة من روعة ما جد فيها. . .

وشاع في العالم العربي أن الرافعي قد مات. . .

وانطفأ السراج. . . نطفأ السراج الوهاج. . .

مصطفى. . . أأناديك يا أبي أم يا أخي أم يا صديقي؟!.

إنك والله كنت الثلاثة. . . كنت الوالد في حنوك عليّ، واهتمامك بي. . . وكنت الأخ في استبشارك بلقياي وانتصارك لي. . . وكنت الصديق في إخلاصك النادر، ووفائك المعجب، وحبك النقي وعطفك الكريم

فأين بعدك الصديق؟. . وأين مثلك الصديق؟!.

وكيف بعدك الحياة وأنت كنت العون في الملمة، والفرج في الضيق، والسراء في الضراء؟!

لقد فقدت بفقدك ركن حياتي الثابت المدعم؛ وشيعت في تشييعك مسرة النفس، وراحة الفؤاد، وأمان العيش؛ وقبرت معك أملاً من آمالي كان أنظرها. . .

مصطفى. . . لقد ذهبت فلم توص ولم تودع. . . فهل من كلمة أو همسة تسر بها إلي هابطة من روحك في السماء إلى روحي على الأرض؟. . .

هل من إشراقة عطف يطل بها وجهك الصبوح من عليائك على صديقك الشاعر في فقدك بفقد نفسه، الحامل لك في أعماقه شوق الولهان وحسرة السجين، الواجد من بعدك كل هم وعناء؟

هل من بسمة ود تسطع على شفتيك فتنير وحشة النفس في ظلام الوحدة بعد أن حرمتك وحرمت كل حبيب؟. . .

السيد محمد زيادة

ص: 46

‌تاريخ وفاة الرافعي بالتركية

أم دنيا بي وفا دنيا قدر فضل أهلنه،

ئولدي داهىء أدب، صور: نه يدى رسمى موقعى؟

آلدم ابواب جناندن مصرع تاريخنى:

قدريكي بيلسين ملكر آسمانده رافعى!

344 162 320 161 361

1348 المجموع

8 مضافة إلى المجموع مقتبسة من عدد أبواب الجنة الثمانية المشار إليها في المصراع الثالث

ـــ

1356

ترجمة البيتين:

إن أم الدنيا كالدنيا في عدم وفائها لذوي الفضل والأدب فقد مات أكبر الكتاب وهو من صغار الموظفين في الحكومة! فاستعرت مصراعاً لتاريخ وفاته من أبواب الجنة الثمانية وقلت: ليقدر الملائكة قدرك في السموات أيها الأستاذ الرافعي.

إبراهيم صبري

نجل شيخ الإسلام السابق للدولة العثمانية

ص: 47

‌أقوال العظماء في الرافعي

. . . إن الناظم لم يتجاوز الثالثة والعشرين من سنه، ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، ومن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر.

إبراهيم اليازجي

اسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق به الباطل وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل.

محمد عبده

سيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان.

مصطفى كامل

في جريدة اللواء

بيان كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من النور الحكيم

سعد زغلول

ثق أني أسافر مطمئناً وأنت بقيتي في مصر

عبد المحسن الكاظمي

وهو مسافر إلى الأندلس

أراك وأنت نبت اليوم تمشي

بشعرك فوق هام الأولينا

وأوتيت النبوة في المعاني

وما جاوزت حد الأربعينا

حافظ ابراهيم

(لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه لكان جديراً بأن يحج اليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار لكان جديراً بأن يعكف عليه)

ص: 48

شكيب أرسلان

في كتاب تاريخ آداب العرب

لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وجوته كما للألمان جوته، وهوجو كما للفرنسيين هوجو

أحمد زكي باشا

في كتاب المساكين

ص: 49

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

العناكب:

هذا هو العنكب، فإذا كنت ترغب في مشاهدته فالمس نسيجه ليتحرك ويسرع بالظهور، أهلا بك أيها العنكب، إنني أرى على ظهرك شعاراً أسود مثلث الزوايا، وما يخفى عني أيضاً ما تضمر من النقمة في سريرتك.

أن للسعاتك بقعاً فاحمة على الجلود ولها سمها المضلل في النفوس، أيها العنكب، فأنا أخاطبكم بالرموز، أيها العناكب المضللون المبشرون بالمساواة. فما أنتم في نظري إلا مستودع لعواطف الانتقام

سأكشف عن مكانكم وأنا أواجهكم بقهقهة تسقط عليكم من الذرى التي أتسنمها. وهأنذا أمزق نسيجكم حتى إذا تملككم الغضب خرجتم من مغاور أكاذيبكم وتدفقت نقمتكم بكلمة العدل التي تتفوهون بها.

لقد وجب علي أن أنقذ الإنسان من عاطفة الانتقام، وهذا الواجب هو المعبر المؤدي إلى اشرف الآمال ينتصب فوقه قوس قزح بعد هبوب العواصف الكاسحات. ولكن إرادة العناكب لا تتجه إلى هذه الغاية، فهم يتناجون فيما بينهم قائلين: لا عدل إلا في عواصف انتقامنا تهب على العالم لتلقي العار على كل من ليس منا.

وهم يقولون أيضاً: ما من فضيلة إلا في طلب المساواة، فلنرفع عقيرتنا ضد كل سلطان.

آي كهان المساواة! لقد تسلط عليكم جنون عجزكم، فهتفتم بهذه المساواة وقد كمنت شهوة عتوكم واستبدادكم وراء ما تعلنون من الفضائل.

إنني أرى فيكم الغرور المتمرمر والحسد المقيم، ولعل الحسد الذي رعى قلوب أسلافكم يتعالى منكم الآن لهباً يندلع بجنون الانتقام، وما الأبناء إلا مظهر ما أضمر الآباء. ولكم أفشى الابن سر أبيه!

إن لهؤلاء الناس مظهر المتحمسين، وما تلهب حماسهم المحبة بل الانتقام. وإذا، وإذاً ما

ص: 50

بدت لك منهم رصانة ومرونة، فما مصدرهما فيهم العقل بل الحسد. وهو الدافع لهم إلى التفكير. ودليل حسدهم هو أنهم يندفعون دائماً إلى أبعد من مراميهم فيطرحهم العياء على وساد الثلوج.

وما تسمع لهؤلاء الناس أنيناً يخلو من نبرات الانتقام، فكل ما يصدر عنهم من مديح ينطوي على أذية، فهم يرون منتهى السعادة في إقامة أنفسهم قضاة على العالمين. فأصغوا إلى نصيحتي، أيها الأصدقاء: احذروا من تغلبت عليهم غريزة إنزال العقاب. لأنهم متحدرون من أفسد الأنواع وعلى وجوههم سيماء الجلادين.

إحذروا من لا ينقطعون عن ذكر عدالتهم فان نفوسهم خالية من كل صفة حميدة، وإذا ما هم ادّعوا الصلاح والأنصاف فلا تنسوا أنهم لم يتخذوا بين الفرنسيين مقامهم إلا لما يشعرون به من عجز

إنني أربأ بنفسي، أيها الصحاب، أن تنزلوها بين هؤلاء الناس فلا تميزون بيني وبينهم. فهنالك من يذيعون تعاليمي عن الحياة وهم في الوقت نفسه ينادون بالمساواة وينتمون إلى العناكب المسمومة، هم يدافعون عن الحياة ولكنهم يعرضون عنها قابعين في مغاورهم ليتمكنوا من اجتراح الشرور والإيقاع بمن يقبضون على زمام السلطة في هذا الزمان، وقد تعودوا إنذارهم بالسقوط، ولو أن السلطة كانت في يد العناكب، لكانت تعاليمهم تتخذ شكلاً آخر، لأنهم عرفوا فيما مضى، أكثر مما عرف غيرهم، كيف يوقدون المحارق ويرهقون مخاليفهم اضطهاداً وتعذيباً.

لا أريد أن أحسب من هؤلاء المنادين بالمساواة لأن العدالة علمتني: (أن لا مساواة بين الناس) وإنه من الواجب ألا يتساووا؛ وليس لي أن أقول بغير هذا المبدأ وإلا فان محبتي للإنسان تصبح ادعاء ومينا. .

على الناس أن يسيروا على آلاف الطرق وآلاف المعابر مسارعين نحو آتي الزمان فتنشأ بينهم الحروب وتتسع شقة التفاوت بينهم على ممر السنين، ذلك ما ألهمني إياه حبي العميم.

يجب أن يقيم الناس في أعماق سرائرهم مثلاً علياً وأشباحاً يجاهدون في سبيلها فيسير الصالح والطالح والغني والفقير والرفيع والوضيع إلى التصادم بجميع ما في الأرض من نظم فتضطرم الحروب سلاحاً لسلاح ورمزاً لرمز لأن على الحياة أن تتفوق أبداً على

ص: 51

ذاتها.

إن الحياة تتجه إلى الارتقاء بدعائمها ودرجاتها، فهي تتطلع إلى الآفاق البعيدة ما وراء الجمال المقتعد عرش غبطته، لتبلغ مستقرها في أعالي الذرى

وبما أن الحياة بحاجة إلى ارتقاء المرتفعات، فهي لا غنى لها عن الدرجات والدركات ليعارض المنخفضون المرتفعون، إنها لفي حاجة إلى التفوق على ذاتها وهي متجهة إلى الارتقاء

انظروا، أيها الصحاب، هاهي مغارة العناكب وقد لاحت فيها خرائب هيكل قديم فأرسلوا عليه نظرات المستلهمين.

والحق أن من جميع أفكاره قديماً ليرفعها صرحاً من الصخر ينطح السحاب كان كأحكم الحكماء عارفا بأسرار الحياة

إن الجمال نفسه ليقوم على التفاوت والمجالدة في القوة والتفوق، وهذا ما يعلمنا إياه هذا الحكيم بأشد الرموز إشرافاً

هنا تتدافع القباب والنوافذ في عراك جلل فتهاجم الظلمة النور ويهاجم النور الظلمة كأنهما إلهان ينازل أحدهما الآخر اقتدوا بهذا الرمز، أنتم أيضا في مجال الجمال والثقة بالنفس. لنكن نحن أيضاً أعداء فيما بيننا أيها الصحاب

وليحشد كل منا قواه ليحارب الآخرين

ويلاه، لقد أصبت أنا أيضاً بلسعة العنكبة عدوتي القديمة فقد توصلت بثقتها بنفسها وبجمالها الإلهي إلى نوال بناني بلسعتها، وهاهي تقول الآن: لا بد من إنزال العقاب، لا بد من أن يأخذ العدل مجراه، فأنك تعنيت بعظمة السرائر، فلن يذهب إنشادك جزافاً.

أجل لقد انتفعت، ويلاه إنها ستوجه نفسي إلى عاطفة الانتقام.

تقدموا أيها الصحاب وقيدوني بهذا العمود كيلا أتحول عن مبدئي، فخير لي أن أصبح تمثالاً جامداً من أن أهب كعاصفة منتقمة.

لن يكون زارا عاصفة وإعصاراً، فما هو إلا رقاص ولكنه ليس رقاص عناكب. . .

ص: 52

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

61 -

عجيبة. . .

في (طبقات الشافعية الكبرى) للسبكي: عجيبة هي مغنية كانت بمصر على السلطان الملك الكامل بن أيوب، ويذكر أن الكامل كان مع تصميمه بالنسبة إلى أبناء جنسه تحضر إليه ليلاً، وتغنيه بالجنك على الدف في مجلس بحضرة ابن شيخ الشيوخ وغيره، وأولع الكامل بها جداً، ثم اتفقت قضية شهد فيها الكامل عند عين الدولة، وهو في دست مملكته. فقال ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد. فأعاد عليه السلطان الشهادة، فأعاد القاضي القول. فلما زاد الأمر وفهم السلطان انه لا يقبل شهادته، قال: أنا أشهد، تقبلني أم لا؟

فقال القاضي: لا، ما أقبلك. وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك بجنكها كل ليلة، وتنزل ثاني يوم بكرة، وهي تتمايل سكراً على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك أبخس مما نزلت!

فقال له السلطان: يا كنواخ! (وهي كلمة شتم بالفارسية)

فقال القاضي: ما في الشرع يا كنواخ. أشهدوا على أني قد عزلت نفسي ونهض.

فجاء ابن الشيخ وقال: المصلحة للملك إعادته لئلا يقال لأي شيء عزل القاضي نفسه؟ وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة. فقال له قم إليه، فنهض إلى القاضي وترضاه، وعاد إلى القضاء.

62 -

السكير، النفط

كتب عبد الصمد بن المعذل إلى صديق له ولي النفاطات فأظهر تيهاً:

لعمري لقد أظهرت تيهاً كأنما

توليت للفضل بن مروان عكبرا

دع الكبر واستبق التواضع إنه

قبيح بوالي النفط أن يتغيرا

من أجل عيون النفط أحدثت نخوة

فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا

63 -

كيف ترى هذا الفقه

في (تلبيس إبليس) لابن الجوزي:

ص: 53

قال عبد الرحيم بن جعفر السيرافي الفقيه: حضرت بشيراز عند قاضيها أبي سعيد بشر بن حسن الداودي وقد ارتفع إليه صوفي وصوفية (وأمر الصوفية هناك مفرط جداً حتى يقال إن عددهم ألوف) فاستعدت الصوفية على زوجها إلى القاضي. فلما حضر قالت له: أيها القاضي إن هذا زوجي ويريد أن يطلقني وليس له ذلك، فإن رأيت أن تمنعه. فأخذ القاضي يتعجب، وحنق على مذاهب الصوفية ثم قال لها: وكيف ليس له ذلك؟ قالت: لأنه تزوج بي ومعناه قائم بي، والآن هو يذكر أن معناه قد انقضى مني، وأنا معناي قائم فيه ما انقضى فيجب عليه أن يصبر حتى ينقضي معناي منه كما انقضى معناه مني.

فقال لي القاضي: كيف ترى هذا الفقه؟! ثم أصلح بينهما وخرجا من غير طلاق.

64 -

أما بشرع محمد من أين لك؟

قال هبة الله بن الفضل في يحيى بن المظفر بابن المرخم:

يا ابن المرخم، صرت فينا قاضياً

خزف الزمان تراه أم جن الفلك؟

إن كنت تحكم بالنجوم فربما

أما بشرع محمد من أين لك؟!

65 -

أفلا يزول هذا التوهم؟

في (إرشاد الأديب) لياقوت الحموي:

سأل بعض الأكابر من بني طاهر أبا العباس ثعلباً أن يكتب له مصحفاً على مذهب أهل التحقيق فكتب: (والضحي) بالياء. ومذهب الكوفيين أنه إذا كانت كلمة من هذا النحو، أو لها ضمة أو كسرة كتبت بالياء - وإن كانت من ذوات الواو. والبصريون يكتبون بالألف. فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال: ينبغي أن يكتب (والضحى) بالألف لأنه من ذوات الواو. فجمع أبن طاهر بينهما. فقال المبرد لثعلب: لم كتبت والضحى بالياء؟

قال: لضمة أوله.

قال: ولم إذا ضم أوله - وهو من ذوات الواو - تكتبه بالياء؟

قال: لأن الضمة تشبه الواو، وما أوله واو يكون آخره ياء، فتوهموا أنه أوله واو.

فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟!

66 -

سرة الدنيا، العروة الوثقى

ص: 54

في (البدر الطالع) للشوكاني:

خرج بيبرس العثماني الجاشنكير الملك المظفر للحج بعد سنة (701) وصحبة كثير من الأمراء، فحج بالناس فصنع من المعروف شيئاً كثيراً. ومن محاسنه أنه قلع المسمار الذي كان في وسط الكعبة وكان العوام يسمونه (سرة الدنيا) وينبطح الواحد منهم على وجهه، ويضع سرته مكشوفة عليه. ويعتقد أن من فعل ذلك عتق من النار وكان بدعة سيئة، وكذلك أزال الحلقة التي يسمونها (العروة الوثقى).

67 -

وكيف لا تطرب عوديه

القيراطي:

تنفس الصبح فجاءت لنا

من نحوه الأنفاس مسكيه

وأطربت في العود قمرية

وكيف لا تطرب عوديه؟

68 -

الطبع والتمرين

في (الخصائص) لابن جني:

قرأ السجستاني: قرأ عليّ أعرابي بالحرم: (طيبي لهم وحسن مآب) فقلت له: طوبى، فقال: طيبي، فقلت: طوبى فقال: طيبي. فلما طال على قلت: طو طو، فقال طي طي

أفلا ترى إلى هذا الأعرابي وأنت تعتقده جافياً ركزاً، لا دمثاً ولا طيعاً كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء، فلم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هز ولا تمرين

69 -

والقوم أغصان

حضر الشاعر أبن القيسراني مرة في سماع، وكان المغني حسن الغناء، فلما طربت الجماعة وتواجدوا قال:

والله لو أنصف العشاق أنفسهم

فدوك منها بما عزوا وما هانوا

ما أنت حين تغني في مجالسهم

إلا نسيم الصبا والقوم أغصان

70 -

الخبز والبقل

في (فتوح البلدان) للبلاذري:

ص: 55

قال كثير بن شهاب يوماً: يا غلام، أطعمنا.

فقال: ما عندي إلا خبز وبقل.

فقال: وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟؟

ص: 56

‌ميلاد الرسول

للأستاذ محمد الأسمر

فجرٌ أطلّ على الوجود فأطلعا

شمسين: شمسَ سناً، وشمس هدىً معا

ظلَّتْ مطالع كل شمس لا ترَى

من بعدِه شيئاً كمكةَ مطلعا

قبس من الرحمنِ لاح فلم يَدعْ

لألاؤه فوقَ البسيطة موضعا

ما كان ميلادُ الرسول المصطفى

إلا الربيعَ نضارة وتَضوعا

يوم أغر كفاكَ منه أنه

يوم كأن الدهر فيه تجمعّا

ويكادُ غابرُ كل يومٍ قبله

يثني إليه جيدهُ متطلعا

فلو استطاع لكرَّ من أحقابه

وثْباً على هام السنين ليرجعا

يكادُ مُقبلُ كل يوم بعده

ينسل من خلف الزمان ليسرعا

فلو استطاع لجاء قبل أوانه

وأنساب يخترق السنين وأتلعا

تتنافس الأيام في الشرف الذي

ملأ الوجود فلم يغادرْ أصبعا

خير أفاض الله منه على الورى

أنّى جرى ترك الجناب الممرعا

وسناً جلاه لتعمُرَ الدنيا به

من بعد ما كانت خراباً بلقعا

وافى وليلُ الجاهلَّية مُطبق

فانجاب عن جنباتها وتقشعا

وكذا الهداية إن قذفتَ بها على

ركن الغواية والضلال تصدعا

نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا

واستكبروا شَرع الرماح فأسمعا

والحقُّ أعزلَ لا يروعُ فأن بدا

مستلئماً لاقى الطُعاة فروَّعا

والحقُّ أخفى ما يكون مجرداً

وتراه أوضحَ ما يكونُ مُدرَّعا

والحقُّ ليس بمعتدٍ لكنّه

إن دافعته يَدُ الضلال تدفعا

مثل الرياحِ جَرت رُخاء ثم لم

تلبثْ فهبَّتْ بعد ذلك زعزعا

بعض الأنام إذا رأى نور الهدى

عَرَف الطريقَ ولم يضلَّ المهيعا

ومن البريَّة معشرٌ لا ينتهي

عن غيِّه حتى يخاف ويفزعا

إن الرسولَ محمداً صبحٌ بدا

من راح يعثُر في سناهُ فلالعا

وافى بها بيضاَء عدل كلها

لا تلفينَّ بها الضعيفَ مُضيَّعا

ص: 57

الناسُ كلهمُ سواسية بها

لا (قيصراً) تلقى بها أو (تُبعّا)

دخلت على الجبروت وهو ُمقَطِّب

صَلَفاً فأبصر وجهها فتفزعا

وأبى له حبَّ البقاء وطَبعهُ

إلا الِصِيالَ فصاولت فتضعضعا

(الفرسُ) و (الرومانُ) لم يعصمهما

مُلْكُ الممالك كلها أن يُصرَعا

من لم تزعزعه العواصف قبلها

بعثت له بنسيمها فتزعزعا

ثلت عروش الظالمين ومُلكهم

وبنت لعرش العدل مُلكاً أوسعا

وجرى العباد على السجيَّةِ سُجدا

لله، لا لمُسخِّريهم، رُكعا

وتراهمُ حول النبيِّ فلا ترى

مُتملقاً أو خائفاً متخشِّعاً

دينُ المساواةِ الصحيحة دِينه

يرعاهمُ في الله أشفق من رعى

جاءت له الدنيا فأعرض زاهداً

يبغي من الأخرى المكان الأرفعا

ما جرَّ أثواب الحرير ولا مشى

بالتاجِ من فوق الجبين مُرصعَّا

من ألبس الدنيا السعادة حُلّة

فَضفْاضة، لبِس القميص مُرقعا

وهو الذي لو شاء نالت كفه

كلَّ الذي فوق البسيطة أجمعا

لم يبغها مُلكاً عضوضاً بل دعى

لله لا لسواه أفضل من دعى

يا مصطفى أدعوكَ دعوة شاعر

وأفي إليك بشعره متشفعا

هب لي من النفحات ما أشفي به

نفساً معذبة وقلباً موجعاً

فلعلَّ صدراً أن تزول همومه

وعليلَ قوم أن يصح وينفعا

ولعل ذابلة الرجاء ينالها

بلل من الغيث العميم فتينعا

صلى عليك الله جل جلاله

دينا وأخرى شافعاً ومشفّعا

محمد الأسمر

ص: 58

‌هدية الشاعر للشاعر

أهدى الأستاذ عبد الله حبيب إلى صديقه الأستاذ أحمد رامي

زهرة ومعها هذان البيتان:

قطفتها في صبحيَ الباكر

هدية الشاعر للشاعر

فأنعم بها إذ أنت أولى بها

من كل من مر على خاطري

فتقبلها شاعر الشباب وأجابه بهذين البيتين:

يا مهدياً من زهرك العاطر

آنست روحي بالجنّي الباكر

ذكرتني والصبح في مهده

وأنت مرسوم على خاطري

ص: 59

‌رسالة الشباب

شبابنا والسياسة

تدعو الرسالة الشباب دعوة حرة جريئة إلى العمل السياسي، وقد يعجم على بعض الناس غرض الرسالة من دعواتها، وينبهم عليهم وجه الحق والمصلحة فيها.

وإنما تريد الرسالة ونريد معها شباباً مطبوعاً على الوطنية قد سرت في دمه مسرى الدم الحار في عروقه، وتشبعت بها روحه واستبطنتها نفسه، فصارت جزءاً منها لا وطنية مصطنعة زائفة تلبس وتخلع كالرداء.

نريد شباباً غزلاً كلفاً صباً لا بالحور الحسان والخرد الغيد، ولكن بحب مصر. نريد منهم وطنية تفيضها الغريزة لا تكلف فيها ولا تعمل، تنتقل بقانون الوراثة من الأجداد إلى الأحفاد كما تنتقل مميزات الشعوب الراقية من السلف إلى الخلف: أي نريدها خلقاً لا حرفة.

نريدها وطنية طاهرة نقية كنفوس الشباب لم تلوثها جراثيم المنفعة ولا أرجاس الأهواء والشهوات، تسمو سمو المثل العليا لا تسف بالتطبيق المحرف الخاطئ.

نريدها وطنية عامة شاملة تسع الدولة والمواطنين وتسوي بينهم، لا وطنية ضيقة العطن محدودة المدلول محصورة بالأحزاب والأشخاص. يجب أن ينبلج الصبح على أعين نفر من النفعيين يحرمون على الشباب الاشتغال بالسياسة كأن السياسة حرفة لا تحترف إلا بترخيص. يجب أن تحشد جميع قوى الأمة لمصلحة الأمة فيعمل الكل في حقل الوطن لينتج للوطن.

إن الحياة صراع وغلاب ولا سيما في عصر الكهرباء والكيمياء واللاسلكي، فليس من سداد الرأي ولا من بعد النظر أن تحيا الأمة عالة على زعمائها؛ وليس معنى هذا ألا يكون للشعب زعماء، ولكننا ندعو كل فرد أن يكون بنفسه دائرة كهربائية تامة، فإذا ما وصل بينها واجتمع شتيتها ووجهتها زعامتها الرشيدة كانت قوة لا تغلب.

إن نظرة فاحصة إلى ألمانيا وإيطاليا وتركيا تؤيد ما نقول، فانك لا تسمع اسم إحداها إلا وتصورتها كتلة واحدة من القوة مندفعة نحو غايتها كأنها قنبلة انطلقت من فوهة مدفع، وإن دخانها وجلجلة صوتها وصخب قصفها لكاف في شق طريقها وتعبيد مسراها بله كتلتها

ص: 60

وجرمها.

نريد شباباً يفهم ما يريد، ويعمل ما يفهم، ويحمي ما يعمل، ويحب ما يحمي، ويضحي بدمه وروحه في سبيل ما يحب.

نريد هذا الشباب الذي يحول التاريخ إلى الوجهة التي يجب أن تكون وجهه العز والكرامة، الشباب الذي يعمل تاريخ جيله بقصد وتعمد، لا الشباب الذي يقف من تاريخ جيله على الحياد ويدع الظروف والمؤثرات تكتب هذا التاريخ.

نريد جيلاً صلباً متعصباً سليماً من المرونة والرخاوة يقف كالشلال، لا جيلاً خفيفاً كالخشبة الطافية على سطح الماء يقذف بها أنى يشاء وكيف شاء. نريد أن نكتب كما كتبنا أسطع السطور في سجل تاريخ الإنسانية الخالد!

عبد العزيز بيومي غفاري

بالقايات

ص: 61

‌واجب الكتاب والمفكرين

. . . . . . رئيس تحرير الرسالة

أشكر للرسالة الغراء اهتمامها بتوجيه الشباب إلى الغاية المثلى في عهدنا الحديث، وأؤيد بقلبي ويدي أخي الشاب الذي اقترح (زحف الشباب الاجتماعي) ولكني أشعر بأن الشباب حين يبدأ العمل سيعمل من غير خطط ولا رسوم ولا تقارير ولا أدلة. فقد كان من الواجب على الكتاب والمفكرين وهم الأطباء الاجتماعيون أن يشرحوا أدواء الأمة شرحاً دقيقاً في كل ناحية من نواحي الحياة، ثم يصفوا العلاج ويجعلوا التمريض والتنفيذ على عواتق الشباب. فأننا إذا استثنينا الفصول التي تكتبها الآنسة الأدبية (ابنة الشاطئ) في أحوال القرية وبؤس القرويين لا نكاد نجد كاتباً واحداً درس حالة من أحوال الأمة. ليقم الطبيب والمهندس والزراعي والأديب بدرس هذه الأحوال كل في دائرة اختصاصه حتى يعمل العامل عن خبرة، ويتقدم الدليل عن هداية، وبذلك تقوم الجهود على أساس قوى ومنهاج واضح ونظام صحيح. . .

مصطفى كامل

المحامي

(المحرر) ملاحظة الأستاذ الكاتب سديدة، فأن نهضتنا الأدبية قد بدأت بإحياء آثار السلف فعرفنا عن القديم أكثر مما نعرف عن الحديث؛ ثم انصرفت إلى النقل عن الغرب فعلمنا عن أوربا أكثر مما نعلم عن مصر؛ وظلت قوانا مجهولة لم تكشف وعللنا مدفونة لم تعرف. وأقتصر كتابنا على معالجة بعض المسائل السهلة من طريق القصة أو الصورة، ووقف زعماؤنا عند المقالات الصحفية التي تنطوي مع اليوم والخطب السياسية التي تذهب مع الساعة. أنا نريد كما قال الكاتب الفاضل كتباً تعالج المسائل العامة عن اختصاص ودرس، وترسم المناهج الإصلاحية عن دراية وتبرز ما دق عن الشعور من آفات المجتمع في جلاء وصدق. فهل تتجه أفكار الكتاب، إلى ما اتجهت إليه رغائب الشباب؟

ص: 62

‌اهتمام الشباب بالشؤون العامة

. . . محرر صحيفة الشباب

كان لما كتبتموه في هذه الصحيفة عن ضرورة اهتمام الشباب بالشؤون العامة أثره البليغ في نفسي. فقد حملني ذلك على أن أفكر في غفلة الشعب عن الأمور العامة وحصره كل أفكاره وأعماله في دائرة عمله اليومي، فوجدت أن واحداُ في الألف هو الذي يتتبع مجاري الأمور، ويعني بشؤون مواطنيه وسياسة وطنه، وربما تجد قرى بأسرها لا تقرأ جريدة ولا تتصل بالعالم. وكل ما يهم الفلاح هو زراعة أرضه وأسعار محاصيله. ومن الصعب أن يتكون في الأمة رأي عام محترم إذا بقي حال الأفراد على هذه الحال فدخول الشباب المثقف في الميادين الاجتماعية والاقتصادية بالدعوة والإرشاد يفتح عيون العامة على الحياة الصحيحة فتتسع أفكارهم، وتبعد آمالهم، وينشأ فيهم الطموح إلى الأحسن. والنزوع إلى الأكمل، والشعور بأن الوطن وطنهم والحكومة حكومتهم، فإذا قدموا أبنائهم إلى العسكرية قدموهم مغتبطين لأنهم يدافعون عن أنفسهم؛ وإذا أدوا الضرائب أدوها راضين لأنهم ينفقون على مصلحتهم. وقد لمست أثر دعوتكم في نفسي فأصبحت أقرأ صحيفتي اليومية بروح جديدة واهتمام قوي.

كنت آخذ الصحيفة فأمر على عناوينها مراً لأتخير ما يستفز اهتمامي من أمور قد لا تتعدى مسألة اليوم وأخبار الملاهي والسينما، وهأنذا اليوم أحرص على تتبع الشؤون الداخلية كرجل ذي علاقة وثيقة بها، فأصبحت أقرأ أخبار المصالح المختلفة وكأنها تهمني مباشرة، وأمسيت أتتبع مناقشات البرلمان. ولا أكتمك أني حين قدمت الميزانية إلى المجلس كنت وأنا أقرأ مقدمة وزير المالية أتخيل نفسي زعيم المعارضة فأقرأها وأناقشها، فلما قرأت رد المعارضين تصورت نفسي وزير المالية فرحت أحاول الرد عليها وتبرير موقفي. وهكذا حالي مع كل ما يجد في البلد من أحوال وأخبار

هذه آثار دعوتكم في نفسي ولعل أثرها يكون في أخواني الشباب أبلغ مدى وأعمق أثراً. . . . . .

(الجيزة)

مختار يونس

ص: 63

‌رسالة العلم

قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي بك

مدير مصلحة الكيمياء

وكان يضحك كلما جاء النبأ بأن بعض أعوانه يقول عنه إنه مخبول، كان في كل حجرة من هذا البيت وفي كل مكان، ولكنك دائماً مستطيع معرفة مكانه وحصره في الناحية التي هو فيها وذلك من صوته الذي لا يفتأ يتردد ينادي في الردهات:(يا قدريت. . . يا قدريت! أين سجائري. . . هات مائي المعدني. . .!)

- 5 -

وخاب أمر الأصباغ خيبة كبرى، وجرى الحديث تمتمه بين الكيميائيين أن إرليش رجل غبي لا يفهم، ولكن يجب أن تذكر دائماً أن إرليش كان يقرأ الكتب، فذات يوم كان جالساً في مكتبه على كرسي خلا مصادفة من الكتب التي تراكمت عليه وعلى غيره. وكان يقرأ في المجلات الكيمياوية كبعض قدماء الحكماء يبحثون عن حجر الفلاسفة، فإذا به يقع على عقار من أخبث العقاقير. وكان اسمه أتكسيل ومعناه غير السام، وكان هذا العقار شفى الفئران من مرض النوم، أو كاد؛ وكان قتل فيراناً ليس بها مرض النوم؛ وكان قد جرب في بعض أهل السواد في أفريقا عسى أن يشفيهم من مرض النوم فلم يشفهم، بل أصاب عدداً وفيراً منهم بالعمى فتم عماهم قبل أن يدركهم الموت من دائهم. فهذا عقار مروع لو أن مركبه كان حياً لأختزى منها وأستبرأ. وكان تركيبه من حلقة بنزين، وهي مكونة من ست ذرات من الكربون قامت في حلقة كالخاتم كأنما يطارد بعضها بعضاً في دائرة كالكلب يدور حول نفسه يريد أن يعض ذيله؛ ويتركب عدا ذلك من أربع ذرات من الأدروجين، وشيء من النشادر، وبعض أكسيد الزرنيخ، وهذا الأخير يعلم الناس أنه سم زعاف.

قال إرليش: (علينا أن نغير من تركيب هذا العقار قليلاً) قال هذا وهو يعلم أن الكيميائيين

ص: 65

الذين ابتدعوه قالوا إنه تركب بحيث أن أي تغيير يلحقه يفسده؛ ولكن إرليش لم يستمع لما قالوا، وظل يقضي بعد ظهر كل يوم في معمله وحده يبذل في العمل كل نشاطه. وكان معملاً ليس كمثله معمل في الدنيا فلم يكن به معوجات ولا كؤوس ولا قنينات ولا ترمومترات ولا أفران. حتى ولا ميزان واحد. كان في فقره كمنضدة صيدلاني بقرية يمزج عليها ما يطلب إليه من بسائط الأدوية عند فراغه من مكتب البريد الذي يتولى إدارته أيضاً. فان كان بينهما فرق فهو في أن معمل إرليش كانت في وسطه منضدة كبيرة جداً ترصصت عليها صفوف وصفوف من قنينات، قنينات عليها أسماء أوراق باسمها، وقنينات ليس عليها أسم لها، ثم قنينات عليها أسماء لا تقرأ من سوء ما كتبت أو مما سال على ظواهرها من بواطن القنينات من أصباغ قرمزية طمست أسماءها. ولكن إرليش وعى كل تلك الأسماء برغم هذا. ومن وسط أحراج الزجاجات هذه خرج رأس مصباح بنسن واحد يبعث فوق أرؤسها بلهبه الأزرق. فأي كيميائي لا يضحك من هذا المعمل؟

وفي هذا المعمل لعب إرليش بعقاره اتكسيل. وكم صاح وهو يبعث به: (هذا جميل)! (هذا بديع)، (هذا فوق التصديق)، وهو أثناء ذلك يملي على الآنسة مركرت ويا طول ما صبرت، أو يصرخ إلى السيد قدريت في طلب هذا أو ذاك. وشاءت الأقدار أن تمنحه ذكاء كيماوياً شاذاً تمنحه البحاث أحياناً ممن ليس في مقدورهم بالطبع أو بالتطبع أن يكونوا كيماويين، فإذا به يجد أن هذا العقار قابل للتغيير، لا قليلاً بل كثيراً، وأنه يمكن تشكيله أشكالاً عدة لم يسمع بها من قبل، دون أدنى مساس بما بين الزرنيخ وحلقة البنزين.

(أنا أستطيع أن أغير الأتكسيل). وخرج يهلع بلا قبعة ولا معطف إلى معمل برتهايم معمل كيميائيه الأول أو رئيس أرقائه، وصاح فيه: إن الأتكسيل يمكن تغييره؛ ولعلنا نستطيع تغييره إلى مائة مركب، أو إلى ألف مركب من مركبات الزرنيخ. وهاك كيف يكون هذا (يا عزيزي برتهايم). وأخذ يشرح ألف طريقة لإحداث هذا التغيير. فماذا صنع برتهايم؟ بالطبع انصاع، وكيف يستطيع أن يقف جامداً أمام (يا عزيزي برتهايم)؟

وجاءت سنتان أشتغل فيهما كل من في المعمل من ألمانيين ويابانيين، ومن بعض اليهود، وكل من فيه وما فيه من رجال وفئران، غير ناسين الآنسة مركرت ولا الآنسة ليوبلد وغير ناسين السيد قدريت بجلال قدره. اشتغلوا جميعاً وكدحوا كدحاً، وأجهدوا أنفسهم

ص: 66

إجهاداً، في مثابرة ومصابرة، حتى صار المعمل كبعض مصاهر الجن يعمل فيها كل عفريت مريد. وفيه جربوا هذه المادة، ثم هذه، حتى بلغ ما امتحنوه من مركبات الزرنيخ 606 مركب وقعوا جميعاً تحت تأثير عفريتهم الأكبر، فلم يفرغ أحدهم ليفكر في بطلان ما يصنعون، وفي استحالة ما يطلبون، وهو قلب الزرنيخ من سم معروف محبب لدى كل مجرم قاتل، إلى دواء وشفاء لم يجزم أحد بجواز وجوده، لداء لم يحلم إرليش أبداً بجواز شفائه. نعم وقع هؤلاء الأرقاء جميعاً تحت تأثير إرليش فكدحوا على نمط لا يجري عليه الرجال في كدحهم إلا إذا حفزهم إليه رجل متعصب عصي مثله، رجل خدد العزم جبهته ورقق حب الخير من عينيه.

وغيروا الأتكسيل! واشتقوا من تركيبه مركبات زرنيخ عجيبة شفت الفئران فعلاً. ويكادون يصيحون صيحة الفرح والنصر، ولكن الحظ يدير لهم ظهره فيجدون أن المكروب الفظيع، مكروب داء الورك، يذهب حقاً من الفئران، ولكن الزرنيخ يحيل دماءها الثخينة إلى سائل رقيق، أو هو يصيبها بالصفراء فتقتلها. . . . . . ومن أدوية الزرنيخ هذه ما جعل الفئران ترقص رقصاً، فهل تصدق هذا يا صاحبي! نعم جعلتها ترقص رقصاً، ولم ترقص دقيقة ثم تسكن، بل تدور ثم تدور، وتنط ثم تنط طول حياتها. عذاب مرير لها بعد شفائها من دائها ما كان يخطر على بال الشيطان لو أراده. ضاع الأمل في الدواء الكامل، وأي أمل لا يضيع بعد الذي كان. إلا أمل إرليش. كتب يقول: أنه ليسرنا أن نجد أن الضرر الوحيد الذي أصاب الفئران من الدواء أنه قلبها فصارت فئراناً راقصة. والذين يزورون معملي سيدهشون لكثرة ما يجدون فيه من الفئران الراقصة. . .) فأي رجل ملئ بالأمل والحياة!

واصطنعوا مركبات لا حصر لها؛ وكان جهادهم في كل هذا جهاد المستيئس المستبسل حين لا أمل ولا رجاء. وطلع لهم فيما طلع أحجية غريبة: وجد إرليش أن جرعة الزرنيخ الكبيرة يعطاها الحيوان دفعة واحدة تكون خطرة على حياته فجزأها إلى أجزاء صغيرة وأعطاها إياه ورجا الخير من بعد ذلك، ولكن النحس تبعه بالخيبة، فالتريبنسومات اعتادت بالتدرج على الزرنيخ فتمنعت عليه ورفضت أن تقتل به. والنتيجة أن الفئران مشت إلى فنائها أفواجاً أفواجا.

فهذا ما كان مآل المركبات الكيمياوية الزرنيخية الخمسمائة والخمسة والتسعين الأولى،

ص: 67

تتابعت جميعاً يحدوها الرجاء وانتهت جميعاً إلى نهاية واحدة متكررة فاشلة تسقط لها القلوب في الصدور، ولكن بول إرليش ثبت على أبتسامته، وظل ينعش نفسه بأقاصيص يخترعها عن دواء جديد مؤمل منشود. وعلم الله وأكدت الطبيعة ما كانت إلا أقاصيص أكاذيب لا تحتمل نقداً ولا تجيزها طبائع الأمور. وأخذ يرسم الرسوم لبرتهايم ورجاله، رسوماً خيالية لمركبات زرنيخية علموا في قرارة أنفسهم وهم الخبراء أنها لن تكون. وظل يرسم لهم ثم يرسم، وهم يعلمون من الكيمياء فوق ما علم حتى ملأ بمخطوطاته أوراقاً لا عد لها. ورسم لهم في المطاعم على جداول المأكولات، وفي الخمارات على جداول المشروبات. وهال رجاله فقدانه الحس بما بين الممكن والمستحيل، ولكنهم عدتهم حماسته التي لا تحد، وجموحه الذي لا يرد، وعناد البغال الذي لا تنفع معه مجادلة أو مسايسة. قالوا:(ما أجمل تحمسه وتحرقه!)، وتحرقوا مثله. وانتهى إرليش بأن استنفد كل ما عنده من جهد، وأحرق شمعته من طرفيها، حتى بلغ أمله المنشود، وطلع عليه يومه الأسطع المأمول، وذلك في عام 1909.

- 6 -

أشعل شمعته من طرفيها، وفعل ما فعله طارق حين حرق سفائنه، لأنه كان قد فات الخمسين ربيعاً ولم يبق من عمره غير القليل القصير. وبذلك عثر على المركب الشهير برقم 606. وأعلم أنه ما كان بمستطيع إيجاده لولا معونة خبيره العالم برتهايم. وهو مركب استخدم في تركيبه كل حذق الكيمياء، وركب في جو مخطر لكثرة ما يملؤه من أبخرة الأثير، وهي أبخرة تنذر في كل وقت بالتفرقع والحريق. وهو عدا هذا مركب حساس سريع التلف يحيله القليل الذي يمسه من الهواء من دواء معتدل التأثير إلى سم بالغ المفعول قتال.

هذا هو المركب الشهير رقم 606، وهو يستمتع باسم طويل: فاني أكسي ثاني أمينو أرسينو بنزول ثاني هيدروكلوريد. وكان غلوه في الفتك بالتريبنسومات كغلوه في الطول، فحقنة واحدة منه تكسح دم الفأر كسحاً من كل ما به من تريبنسومات داء الورك فلا تترك واحدة منها تحكي للخلف أخبار السلف.

وهو عدا ذلك كان مأموناً جداً برغم انه مثقل بالزرنيخ، ذلك السم المختار المحبب إلى كل

ص: 68

قاتل أثيم. وهو لم يعم الفئران، ولم يحل دمهم فيرق، ولم يرقصهم رقصة العذاب المذكورة، واختصاراً كان عقاراً مأمون الضرر محقق النفع

قال قدريت بذكر هذه الأيام بعد فواتها بزمن طويل: (تلك كانت الأيام) وما كان بالشاب عندها، فقد كان سبق الكبر إليه فصلب من دعوه، وذهب بالمرونة من عضلاته، ولكنه ظل يدب وراء (الأستاذ) يعنى به ويسد من طلباته. قال قدريت (تلك كانت أيامنا أيام كشفنا عن رقم 606) وأي والله تلك كانت الأيام! وأي أيام أصابتها ما أصابت هذه من الحمى، وأي أيام حظيت من الجنون والعمل الخابط الراقع الجموح بمثل ما حظيت به هذه؛ اللهم إلا أيام بستور وصار رقم 606 يشفى من مرض الورك فتطيب منه الفئران وأعجاز الخيول، ولكن ماذا بعد هذا؟ وهنا يدخل الحظ في تسيير الأمور، فيذكر إرليش نظرية قديمة خاطئة كان قرأها لرجل ألماني عالم في الحيوان أسمه شودين قرأ إرليش في عام 1906 أن شودين اكتشف مكروباً لولبياً رفيعاً باهتاً أشبه ببريمة الفلين، ولكن دون يدها؛ وكان اكتشافاً باهراً هذا الذي اكتشفه شودين. ووددت لو أتسع المقام لأحدثكم عن هذا الرجل وعن تعصبه وعن شربه الخمر وإسرافه حتى تتراءى لعينه غرائب الأطياف والخيالات. وسمى هذا المكروب إسبيروشيتا باليدا وأثبت أنه سبب الداء الرذيل المعروف بالزهري.

لم يفت إرليش، وهو القارىء كل شيء، أن يقرأ هذا الاكتشاف، ولكن رسخ في ذاكرته أكثر من كل شيء أن شودين قال: (أن هذا المكروب الباهت يدخل في نطاق المملكة الحيوانية، فهو ليس من مملكة النبات كالبكتريا. والحق أنه قريب الصلة بالتريبنسومات، وقد ينقلب إليها أحياناً

بالطبع هذا لم يكن غير حدس وتخمين رمى به خيال شودين رمياً، ولكنه فعل بعقل إرليش الأفاعيل. قال إرليش:(إذا كانت الاسبيروشيتات بنات عمات التريبنسومات إذن فمركب رقم 606 لا بد قاتل الأخيرة كما قتل الأولى).

ولم يعن إرليش أقل عناية، أو يعكر صفو مزاجه أقل تعكير، تلك الحقيقة الواقعة وهي أن أحداً من الناس لم يثبت قط أن هذه المكروبات بنات عمات، وما مثله من يعنى بمثل ذلك. . . ومن هذا مشى قدماً إلى يوم مجده الأكبر.

(يتبع)

ص: 69

احمد زكي

ص: 70

‌رسالة الفن

ليوناردو دافينشي

الرجل الكامل

للدكتور احمد موسى

- 2 -

أما المرحلة الثانية من حياته فقد بدأت عندما استدعاه الدوق لودوفيتشو سفورزا للتوجه سنة 1483 إلى ميلانو. وهناك استمتع بأجمل أيام حياته، لأن الدوق نظر إليه نظرة الرجل المؤثر الذي يقدر الفن ويجله، نظرة الرجل الذي يعلم بأنه لا معنى للحياة بدون الفن، فإذا كان الدوق غنياً ومقدراً للفن، فهذا معناه أن ليوناردو قد وفق إلى وجود الشخصية التي تعمل على تشجيعه ومعرفة قدره، فعمل بكل قواه على إظهار مواهبه، فكان معمارياً ومهندساً وعالماً ومشجعاً للأكاديمية كما كان نحاتاً ومصوراً.

وله في هذه المرحلة لوحات رائعة منها صورة الدوق وصورة لعائلته، ولوحات لبعض رؤوس غاية في القوة والجمال.

وأهم أعماله في هذه المرحلة، بل وفي حياته كلها صورته المعروفة (العشاء الأخير) والمحفوظة بدير القديسة ماريا في ميلانو. صورها في سنتين، وهي للأسف في حالة غير مرضية الآن، ولكن لحسن الحظ أن منها جملة لوحات مقلدة متقنة ومعاصرة لها. وهذه اللوحة تمثل المسيح، وقد توسط تلامذته الإثنى عشر مجتمعين حول مائدة بعضهم جالس والبعض الأخر واقف، وأمامهم الخبز والأطباق وأكواب الشراب. قال المسيح لتلامذته:(إن أحدكم سيسلمني) فما كان من تلاميذه إلا أن أتجه بعضهم إليه وبعضهم إلى بعض متسائلين مستفسرين، متألمين خائفين، تمثل الوجد على وجه كل منهم، فبعضهم أشار بأصبعه، والبعض أشار بيديه.

أنظر إلى ش - 2 - وتأمل القوة الإنشائية والإخراج العظيم ترى الوجوه الثلاثة عشرة مختلفة الوضع والتفاصيل والتكوين الكلي، والحركة البادية والمعنى الذي يعبر عنه كل منهم في منتهى الرقة والحسن.

ص: 71

أما التوازن البادي على مجموعهما الشكلي والوضعي فهو عظيم وأما اختلاف التكوين الجسماني لكل منهم، واختلاف الطريقة التي يجلس أو يشير بها، فهي رائعة، لأن هذا الاختلاف لم يذهب بك إلى منتهى حسن الانسجام وكمال الاندماج.

أنظر إلى الأيدي، وتأمل الأكف التي استطاع بها ليوناردو إخراج ست وعشرين يداً، لا ترى منها واحدة تشبه الأخرى، أليس هذا منتهى ما يطمح إليه فنان؟ لم يترك ليوناردو الحوائط دون تحلية، ولم يفته أن يصور لك منظراً ظهرت بعض أجزائه من خلال الباب والشباكين في مؤخر للصورة. فكأن هذه القطعة لم تخلد مجد ليوناردو فحسب؛ بل هي لوحة من اللوحات الخالدة الفذة في تاريخ الفن كله.

وبدأت المرحلة الثالثة من مراحل حياته عندما غادر ميلانو سنة 1499 متنقلا حتى وصل البندقية (1503 - 1506) ثم فلورنسوا (1506 - 1516) ثم غادرها إلى فرنسا لخدمة الملك فرانس الأول سنة 1516 وعاش في قصر كلو حتى وفاته في 2 مايو سنة 1519 بعد بلوغه السابعة والستين.

وقد أنتج في هذه المرحلة لوحات كثيرة أيضاً، منها لوحة القديسة أنا، والقديسة مريا، وعيسى ويوحنا بأكاديمية لندن، وكلها برؤوس هائلة رائعة، امتزج فيها الظل بالنور امتزاجاً لا يستطيعه إلا ليوناردو. وبعض هذه الصور كان على الكرتون الذي خصصه لتصميم رسم لعمل الفسيفساء في بيت البلدية بفلورنسا منها قطعة أسماها مذبحة انجيارى. وقد فقدت هذه الكارتونات ماعدا القطعة الوسطى منها التي مثلت المقاتلة على العلم، وهذه القطعة ش - 3 - قد نقلها الفنان روبنز (راجع الرسالة بتاريخ 3 يناير سنة 1937) عن الأصل وهي محفوظة باللوفر.

والناظر إليها يرى العنف والشدة يتمثلان في كل جزء من أجزائها، ولعلنا نستطيع أن نعرف أثر الفن الإغريقي في ليوناردو وعندما نتذكر تلك الصور التي شملها مقالنا عن منحوتات معبد بارتنون (أكروبوليس أثينا).

وله لوحة هي أجمل ما صوره دون منازع، ألا وهي (موناليزا) محفوظة باللوفر، ولا يمكن مهما حاولنا الوصف أن نقدر جمال هذه القطعة ش - 4 - دون مشاهدتها في الأصل بألوانها الطبيعية الخلابة التي تمثل الجمال الإيطالي في أسمى مظهر له انظر إلى ابتسامتها

ص: 72

الساحرة الخالدة التي تجذب إليها المشاهد الراغب في الجمال النبيل.

وله غير ذلك لوحات فذة إلى جانب لوحاته الخطية بالقلم الرصاص وهي أيضاً من أروع ما يمكن تصويره إطلاقاً، منها جزء محفوظ باللوفر وفينيسيا وميلانو.

احمد موسى

ص: 73

‌البريد الأدبي

معهد للدراسات الإسلامية بالجامعة المصرية

قرر مجلس إدارة الجامعة المصرية أن ينشئ معهداً جديداً للدراسات الإسلامية يلحق بكلية الآداب: وقد نص في مشروع تنظيم هذا المعهد الجديد أن الغرض من إنشائه (تمكين الأساتذة والطلاب من العناية المنظمة بالعلوم الإسلامية من طريق الدرس والبحث ونشر النصوص القديمة. ومن طريق التأليف والترجمة أيضاً. وتبيين مدى ما كان من صلة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية): وأما العلوم التي ستدرس في هذا المعهد فهي القرآن الكريم وما يتصل به من العلوم، والحديث وما يتصل به، والفقه وأصوله، والتاريخ الإسلامي وعلومه، واللغة العربية وعلومها وصلتها بالدين الإسلامي، واللغات الشرقية الإسلامية وآدابها من حيث صلتها بالدين الإسلامي وسيعتبر المعهد من المعاهد العالية ولا يلتحق به إلا من يحمل ليسانس الآداب، أو ما يعادلها. ومدة الدراسة فيه سنتان. وسيجري على قاعدة التخصص، فيتخصص الطالب في إحدى المواد المذكورة ويتقدم إلى نيل الدبلوم برسالة في مادته.

وهذه خطوة موفقة في الواقع. فقد كانت الدراسات الإسلامية في الجامعة إلى اليوم مشتتة مبعثرة، ولم تكن برامج كلية الآداب المقتضبة لتسمح بالتوسع في هذه الدراسات إلى الغاية المقصودة؛ وكان مما يبعث على الأسف أن نجد في كثير من الجامعات الأوربية الكبرى معاهد خاصة بالدراسات الإسلامية ولا نجد لها في جامعتنا المصرية نظيراً. نعم إن العلوم التي ستدرس في المعهد الجديد يدرس معظمها في الجامع الأزهر، ولكن الدراسة الأزهرية لهذه العلوم لا تجري على القواعد العلمية الحديثة ولم تحقق حتى اليوم آمال أنصار الثقافة الإسلامية في ميدان التخصص المستنير والتحقيق العلمي الصحيح.

الأستاذ ليفي بروفنسال

وفد على القاهرة منذ أيام العلامة المستشرق الأستاذ ليفي بروفنسال عميد معهد الدراسات الإسلامية برباط المغرب ليقوم ببعض بحوث في مخطوطات بدار الكتب المصرية. والأستاذ بروفنسال من أكبر الأخصائيين في عصرنا في تاريخ الأندلس والمغرب أو كما يسميه تاريخ الغرب الإسلامي. وهو منذ ثلاثين عاماً يحقق وينقب في هذا الميدان؛ وله فيه

ص: 74

عدة مؤلفات نفيسة منها بالفرنسية (تاريخ أسبانيا المسلمة في القرن العاشر) و (النقوش العربية في أسبانيا). وقد أصدر طبعة جديدة بالفرنسية لتاريخ العلامة دوزي (تاريخ دولة المسلمين في أسبانيا لغاية الفتح الرابطي) مقروناً بهوامش ومذكرات نفيسة. وأصدر فهرساً جديداً بالفرنسية للمخطوطات العربية في الإسكوريال. ونشر عدة مؤلفات عربية قيمة في تاريخ الأندلس والمغرب منها الجزءان الثالث والرابع من كتاب البيان المغرب لابن العذري المراكشي، وقطعة من تاريخ ابن حيان، وكتاب لأبن البيدق عن أبن تومرت. هذا عدا بحوث عديدة في هذا الباب في المجلة الأسيوية، وفي دائرة المعارف الإسلامية. وقد وفق الأستاذ بروفنسال أيضاً إلى العثور في مكتبات المغرب على عدة مخطوطات نفيسة عن تاريخ المغرب والأندلس منها كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) لابن بسام، ولديه الآن منه نسخة كاملة؛ ومنها الجزء الرابع الذي يحتفظ منه بنسخة وحيدة. ويعني الأستاذ الآن بالعمل لإخراج هذا الأثر النفيس، وقد أعد بالفعل أصول الجزء الأول منه، وربما قرر طبعه بمدينة القاهرة ويعاونه في هذه المهمة الجليلة عدة من الزملاء الأعلام.

لجنة تأبين الرافعي

لبى دعوة الأستاذ محمود بك بسيوني رئيس مجلس الشيوخ بصفته رئيساً للرابطة العربية، لفيف كبير من أئمة الأدب والبيان وأعلام الفكر والقلم للنظر في تأليف اللجنة التي تؤدي واجب الرثاء والذكرى لفقيد العروبة والأدب السيد مصطفى صادق الرافعي. ولما أكتمل عقد الاجتماع طلب سعادة الرئيس وقف الجلسة دقيقتين حداداً على الفقيد الكريم وبعد ذلك شرع في تكوين اللجنة فتم تأليفها على النحو الآتي:

سعادة الأستاذ الكبير محمود بسيوني رئيساً، والأستاذ كامل زيتون سكرتيراً، وحضرات أصحاب العزة والسيادة الدكتور محمد حسين هيكل بك والدكتور منصور فهمي بك وخليل ثابت بك وأنطون الجميل بك وميرزا مهدي رفيع مشكى بك والأستاذ احمد الإسكندري وعبد الحميد سعيد بك والأستاذ محمد توفيق دياب ومصطفى عبد الرازق بك وعلي الجارم بك ومحمد احمد جاد المولى بك وخليل مطران بك والأستاذ محمد مسعود والدكتور محجوب ثابت والأستاذ احمد فريد رفاعي بك والأستاذ احمد أمين والأستاذ أحمد حسن الزيات والسيد محمد الخضر حسين والدكتور زكي مبارك والدكتور احمد نشأت وصالح

ص: 75

جودت بك والأستاذ محمد عبد اللطيف دراز والأستاذ سامي السراج والأستاذ خير الدين الزركلي والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني والأستاذ عبد الله عفيفي والسيد عبد المقصود خضر والأستاذ محمد الهراوي والأستاذ محمد الأسمر والأستاذ احمد الزين والأستاذ حسين شفيق المصري والأستاذ حافظ محمود والأستاذ رمزي نظيم أعضاء.

ثم قررت اللجنة ما يلي:

1 -

أن يكون موعد الحفلة في أكتوبر المقبل مراعاة لفصل الإجازات الصيفية حتى يتمكن عارفو فضل الفقيد ومحبو آثاره من الاشتراك في هذا الواجب المقدس.

2 -

مخاطبة حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية في شأن التصريح بإقامة الحفلة بدار الأوبرا الملكية.

3 -

توجيه الدعوة إلى حضرات الأدباء والشعراء بمصر والأقطار العربية الكريمة للاشتراك في تأبين الفقيد وإرسال ما تجود به قرائحهم باسم سكرتير اللجنة الأستاذ كامل زيتون بعنوان الرابطة العربية بحدائق القبة شارع الملك رقم 112.

4 -

تكوين لجان من بين حضرات الأعضاء للشعر والنثر والتنظيم والنشر وتفويض كل لجنة في أن تضم إليها من ترى في اشتراكهم تحقيقاً لأغراضهم.

5 -

تمثيل الأقطار العربية في لجنة التأبين بقدر المستطاع حتى يقوم الناطقين بالضاد بما يجب عليهم نحو الفقيد الكريم.

6 -

تحديد الموضوعات النثرية التي سيتناولها الأدباء لبحثها والكتابة فيها وهي:

(1)

تاريخ حياة الفقيد ومؤلفاته.

(2)

مكانة الفقيد في الشعر.

(3)

المعركة بين القديم والحديث.

(4)

أدب الرافعي الديني.

(5)

الجوانب الوجدانية في أدب الرافعي.

(6)

القصص التاريخي في أدب الرافعي.

(7)

أسلوب الرافعي في الكتابة والنقد.

ثم أنفض الاجتماع على أن تكون الجلسة المقبلة في الأسبوع الأول من شهر يونيو المقبل.

ص: 76

سكرتير اللجنة: كامل زيتون

تأبين الرافعي في حمص:

لقد عزم فريق من أدباء الشباب الحمصي على أن يقيم حفلة تأبينية كبرى لفقيد البيان العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وستكون الدعوة للاشتراك في هذه الحفلة عاماً تضم نخبة ممتازة من أدباء سوريا وشعرائها نخص بالذكر منهم الأساتذة: معروف الأرناءوط، عمر أبو ريشة، سامي الكيالي، رفيق فاخوري، أنور العطار، محمد روحي فيصل، عبد القادر جنيدي، محي الدين الدرويش، رضا صافي، برهان الأتاسي، نذير الحسامي، فؤاد الخوري، بدر الدين الحامد، أحمد نورس، عبد الرحمن أبو قوس.

سكرتير اللجنة: عبد القادر جنيدي

الطب المصري القديم

في سنة 1873 نشر العلامة الأثري الألماني جورج أبرس وثيقة مصرية من البردي وفق إلى العثور عليها، فكان لها وقع عميق في جميع الدوائر العلمية إذ ظهر أنها تحتوي على خلاصة كبيرة من طب المصريين القدماء؛ وهذه الوثيقة التي هي أكبر وثيقة من نوعها ترجع إلى سنة 1550 ق. م. ومن ذلك الحين عثر المنقبون على عدد آخر من الوثائق الفرعونية الطبية، منها وثيقة كاهون التي ترجع إلى سنة 1800 ق. م ووثيقة أدوين سميث التي ترجع إلى سنة 1600 وهي خاصة بالجراحة الفرعونية، ومجموعة برلين الطبية وغيرها. وقد ظهر أخيراً كتاب عن وثائق الطب الفرعونية ولا سيما وثيقة أبرس عنوانه (بردى أبرس بقلم ثلاثة علماء دنماركيين هم: أيبل ولفين ومونكسجارد.

وفي هذا الكتاب شرح واف لوثيقة أبرس وبسط لمحتوياتها الطبية وهي فيما يبدو أثمن مجموعة من نوعها. والظاهر أنها بمثابة شرح عام لقواعد الطب الفرعونية؛ ومعالجة الأمراض المختلفة، وبها عدة أقسام، فمنها مثلاً قسم يتعلق بعلاج الأمراض الباطنية، وآخر بفن الجراحة، وقسم للعقاقير الشافية؛ والظاهر أيضاً أن ما فيها من المعلومات يرجع إلى عصر متأخر عن الذي كتبت فيه. ويقول الدكتور أيبل إن كثيراً من المعلومات تدلل على مبلغ ما وصل إليه الفراعنة في فن الطب والعلاج من البراعة والمقدرة؛ ثم إن كثيراً من

ص: 77

العقاقير والعلاجات التي وصفت الأمراض خاصة تدلل على تقدم فن الكيمياء والصيدلة لديهم وعلى وقوفهم على أسرار كثير من الجواهر والعناصر العلاجية المفيدة.

تنظيم أوراق البردي المصرية.

قرأنا في البريد الألماني الأخير نبأ لم يرد في الصحف المصرية، وهو أن الحكومة قد استدعت العلامة الأثري الألماني الدكتور هوجو أبشر مدير قسم المحفوظات الكتابية بمتحف برلين إلى مصر ليقوم بتنظيم أوراق البردي المصرية بالمتحف المصري وقراءة رموزها واتخاذ التحوطات الكيماوية لحفظها. والدكتور أبشر أعظم حجة في قراءة أوراق البردي الفرعونية، وله فوق ذلك مقدرة فنية خاصة في فصلها واستخراجها من رزمها الملصقة، ومن بين لفائف الموميات. ذلك أن أوراق البردي توجد أحياناً ملتصقاً بعضها ببعض بحيث يتعذر فصلها، ولما كانت تكتب غالباً من الجانبين، فإنه يجب بذل جهود فنية دقيقة لفصلها دون أن تمزق. وهذا هو فن الدكتور أبشر فهو يتولى فصلها وجمع قطعها ثم قراءتها.

وقد أشتهر الدكتور أبشر بالأخص بتنظيم مجموعة البردي الخاصة بالفيلسوف ماني، والتي وجدت بالفيوم منذ أعوام وتسربت إلى خارج مصر. واستطاع تصنيفها واستخراج صحائفها سليمة، ومنها كتب بأسرها من كتب ماني. والمنظور أن يقضي الدكتور أبشر بمصر ثلاثة أشهر ليقوم بمهمته العلمية والأثرية الدقيقة؛ لأن مصر تحتفظ بثروة طائلة من هذه الأوراق الأثرية النفيسة.

ذكرى الموسيقي فاجنر.

تحتفل مدينة لايبزج في العام القادم بذكرى الموسيقي الشهير ريخارد فاجنر لمناسبة مرور مائة وخمسة وعشرين عاماً على مولده ومرور خمسة وخمسين عاماً على وفاته؛ وبهذه المناسبة ستمثل في مسرح لايبزج جميع أوبراته الشهيرة، وستقوم بتنفيذها فرقة تحرص على تقاليد الموسيقي الكبير وسيحتفل في نفس الوقت بإزاحة الستار عن أثر عظيم لفاجنر.

ص: 78

‌رسالة النقد

إسماعيل المفترى عليه

تأليف القاضي بيير كربتيس

وترجمة الأستاذ فؤاد صروف

للأستاذ الغنيمي

- 6 -

عرضنا على القارئ في المقالات الخمس السابقة أمثلة من الأغلاط التي يجدها القارئ في ترجمة الأستاذ صروف، ولقد وصلنا في نقدنا إلى الفصل السادس من الكتاب ونظن أن الأمثلة التي ذكرناها تكفي لأن تعطي القارئ فكرة صحيحة عن هذه الترجمة؛ وقد كانت معظم الأغلاط التي ذكرناها إما عبارات محذوفة رغم أهميتها، وإما عبارات أضافها المؤلف من عنده غيرت المعنى، وإما جملاً ترجمت ترجمة خاطئة أفسدته. وقد ذكرنا مثلاً أو مثلين من العبارات الغامضة التي لا يستطيع القارئ أن يفهم لها معنى. وسنلقي نظرة عاجلة على الفصول الباقية من الكتاب ونمر بها مراً سريعاً وسنضرب صفحاً عن العبارات المحذوفة أو المضافة ونكتفي بذكر أمثلة قليلة من العبارات التي ترجمت على غير حقيقتها فغيرت المعنى تغييراً كبيراً، وذلك لكي نصل إلى الفصول الأخيرة من الكتاب فننقل للقراء نوعاً جديداً من الأغلاط هو تحريف الأسماء وتغييرها. وليس أضر على الكتب التاريخية والجغرافية من تحريف الأسماء لأن ذلك يفقدها قيمتها.

فمن العبارات التي ترجمت على غير حقيقتها.

'

وقد ترجمها المؤلف بقوله (رئيس أركان حرب الجنرال غردون) وليس معنى - أركان حرب ولا رئيس أركان حرب بل معناها (ياور) وقد ظننا أول الأمر أن القاموس لم يذكر هذا اللفظ - وإن كان هذا لا يجيز للأستاذ صروف أن يخطئ فيه - ولكننا وجدناه مشروحاً شرحاً وافياً لا لبس فيه ولا غموض فقد فسر هذا اللفظ هكذا.

ص: 79

(1)

الضابط الذي ينقل أوامر القائد في ميدان القتال ويأتيه بالأخبار. فهل هذا عمل رئيس أركان حرب الجيش. إن الأستاذ صروف نفسه قد ترجم في ص113 من الكتاب برئيس أركان حرب ولا ندري لماذا لم يتنبه بعد ذلك إلى إصلاح خطئه السابق.

(2)

ثم أنظر إلى هذه العبارة الغامضة التي لا يستطيع الإنسان أن يفهم لها معنى (أما الشأن المعزو إلى عمل الكولونيل ماسون فراجع إلى كونه اكتشف نهيراً يخرج من بحيرة ألبرت). وإن وضوح المعنى هو أول ما يجب أن يحرص عليه المترجم.

(3)

وهاك مثلاً آخر من الغموض الذي يجير القارىء، ذلك هو قول الأستاذ صروف في وصف إبراهام بك (رقيب) إسماعيل باشا في الآستانة (ولكنه مع سيطرته على سياسة الباب العالي وعدم إخفائه نوره تحت مكيال تمكن من أن يجتنب الشهرة الصحفية) فهل لأحد القراء أن يدلنا على معنى) وعدم إخفائه نوره تحت مكيال)؟ أو على معنى (تمكن من أن يجتنب الشهرة الصحفية؟)

إن الذي يعجب له كثيراً أن الأستاذ صروف في بعض الأحيان يترجم عبارات المؤلف كلمة كلمة وإن لم يؤد ذلك إلى معنى، وفي البعض الآخر يغفل عبارات المؤلف ويأتي هو بعبارات من عنده مع أنه لو لم يتصرف فيها وترجمها ترجمة حرفية لجاء بالمعنى المراد.

(4)

ولا يختلف عن هذا قول الأستاذ صروف (وعرض على المقترح التالي حبراً على ورق) والمعنى الوحيد الذي أفهمه أنا ويفهمه القارئ من لفظ حبر على ورق هو (أنه شيء لا قيمة له أو لا يراد له بقاء) ولكن المؤلف يريد إن يقول إن صاحب الاقتراح عرضه (كتابة)

(5)

ثم أنظر معي أيها القارئ كيف ترجم الأستاذ صروف العبارة الآتية: -

فقال (ولما كان النظر في هذا التبادل متوقعاً في المستقبل) وهو كلام ليس له معنى: والمؤلف يريد أن يقول (ولما أوشك المال أن ينتقل من يد إلى يد)

(6)

وأنظر أيضاً إلى العبارة التالية من قول المؤلف

ص: 80

، ، '

وإلى ترجمة الأستاذ صروف وهي:

وعندي أنه كان يعلق امتيازاً - في رأيه على الأقل - على التمييز بين تلقيبه بلقب خديو بدلاً من وال.

ومعنى هذه العبارة هو (ولهذا أعتقد أنه هو على الأقل كان يرى أن ثمة فائدة حقيقية في تغيير لقبه الرسمي من وال إلى خديو)

(7)

وهاك مثلاً آخر لا يقل عن الأمثلة السابقة في تغيير المعنى قال المؤلف نقلاً عن رسالة إلى سمو الخديو

7 500 1 ، 100

فقال الأستاذ صروف (أن سموكم تتيحون لجلالته فرصة للاغتباط إذا تبرعتم بمبلغ 7500 جنيه مضافاً إليه 1100 للحجرات الملكية في السفينة) فجعل الأستاذ عبارتي - شيئاً واحداً ثم ترجمها ترجمة خاطئة بقوله الحجرات الملكية في السفينة، والمعنى الحقيقي هو (الحاشية السلطانية ورجال السفينة أو بحارة السفينة، ويريد بهما الحاشية التي صحبت السلطان إلى مصر وبحارة السفينة التي أقلته إليها في هذه الزيارة.

(8)

وقال المؤلف أنه كان يفهم أن فقال الأستاذ صروف في الترجمة (ما ينفق على بعض الباشوات والبكاوات كان أقل مما ينفق على الطيور والكلاب)

لا ندري لماذا استبدل الباشوات بالصحفيين مع أن أولئك الصحفيين الذين يشير إليهم المؤلف كانوا كلهم من الأجانب وليس منهم باشا واحد.

(9)

وهذه عبارة أخرى أخطأ المترجم في فهمها فقلب معناها: أرسل إبراهام إلى الخديو يبلغه أنه قابل الصدر الأعظم وحادثه في شأن المبلغ الذي طلبه هذا وهو 150000 جنيه وشرح له وجهة نظر سمو الخديو ثم يقول:

، ،

والمعنى الذي يفهمه كل إنسان من هذه العبارة هو أن الصدر الأعظم يوافق على اقتراح سمو الخديو ويشكر له اقتراحه ويقبله ولكن الأستاذ صروف يقول في ترجمة هذه العبارة: (وهو يوافق عليها كل الموافقة، ويعرب لكم عن شكره لسموكم لأنكم اقترحتموها

ص: 81

وقبلتموها) وبذلك جعل سمو الخديو هو صاحب الاقتراح وهو الذي يقبله وهو كلام غير معقول ويخالف النص الإنجليزي كل المخالفة، فالخديو هو الذي أقترح والصدر الأعظم هو الذي قبل الاقتراح.

(10)

ومن العبارات التي لا يستطيع إنسان أن يفهم معناها قول الأستاذ صروف عن ديون إسماعيل (إن هذه الأرقام تدل على أن أصحاب البنوك ابتزوا من إسماعيل مبلغ 23 ، 247 ، 800 جنيه على قروض مجموعها 41 ، 957 ، 000 وأما هذا المبلغ بخصم كبير ولا سيما لأن جميع هذه القروض ما عدا قرض سنة 1865 كانت بفائدة 7 في المائة.

ولا ندري ماذا يريد الأستاذ بقوله وأما هذا المبلغ بخصم كبير الخ وبهذه المناسبة نقول إن الأستاذ صروف أستبدل برقم 65 ، 204 ، 000 جنيه الذي ذكره المؤلف رقماً جاء به هو، وذلك الرقم هو 41 ، 957 ، 000 لسبب لا نعرفه.

(11)

هل يصدق أحد أن نفقات حملات إفريقية الوسطى كانت أكثر نسبياً من نفقات الحرب العظمى الماضية؟

ذلك ما يقوله لنا الأستاذ صروف في ص 115 من ترجمته مع أن كل ما يقوله المؤلف هو

إن عدم الدقة في الترجمة يفسد كل شيء على المترجم.

(يتبع)

الغنيمي

ص: 82