الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 204
- بتاريخ: 31 - 05 - 1937
من أيامنا المشهودة
مصر في جمعية الأمم
دخلت مصر يوم الأربعاء الماضي عضواً في جماعة الأمم فكانت تحية دخولها نشيداً من أناشيد النصر هتفت به خمسون دولة من دول التمدن، تمجيداً لأول أرض رأت الحضارة، وأقدم أمة عرفت المدنية، وأعرق دولة قدست المعرفة؛ وكان يوم دخولها عيداً من أعياد الحرية خفقت له القلوب الرزينة ابتهاجاً بظفر الحق بالعدالة، وضمان الاستقلال بالقانون، وتوكيد السيادة بتحقيق المساواة؛ وكان حادث دخولها الفصل الختامي من ملحمة الجهاد المقدس في سبيل الحرية المقدسة، فصفقت له أكف الساسة في العالم، وارتفعت له ألوية السلام في جنيف، وخطب ثمانية وعشرون خطيباً في مجلس العصبة فقالوا في مصر بعض ما قال التاريخ المتحجر الماثل على جبهة الدهر، فما احتك في الصدور شبهة من صرف الحديث ولا زور المجاملة. قال السنيور كيفيدو الأمريكي:(إن الدولة التي تطرق بابنا اليوم تمثل العالم بقدمه وجدته. ولكن هذه المظاهر على تنافرها تتسق فيها فتؤلف شيئاً واحداً كاملاً له قيمة تكاد تكون رمزية بالنسبة إلينا جميعاً. فمصر تدخل بيننا مكللة الجبين بمجد لا نظير له، لأنها البلاد التي نبت فيها كثير من المدنيات، وحفظت على أرضها كثيراً من الشواهد الرائعة على عبقرية بلغ من اتساع مداها أن رفدت كل فن وأمدت كل حضارة. إن مصر صاحبة هذا الميراث العريق في القدم الحافل بالروائع، تتقدم إلينا اليوم في مظهر دولة في ريق الشباب ونضرة العمر وطدت مكانتها على التدريج في المجتمع الدولي، وحصلت على استقلالها بفضل جدارتها الخاصة ونضجها الكامل، ثم قال السيد رشدي آراس وزير خارجية تركيا: (إن هذه البلاد ذات الخطر العظيم بين أمم البحر الأبيض المتوسط. . . قد استطاعت في زمن يسير أن تقطع المراحل المتتابعة في تطورها السلمي المجيد. وإني لأذكر حادثاً تاريخياً يتعلق بروابط مصر القديمة بأحد شعوب آسيا الصغرى، فقد ثبت من الأدلة الأركيولوجية أن أقدم صك دولي، أو أقدم معاهدة سياسية، هي التي عقدت بين المصريين والحيثيين) وقال المستر إيدن وزير إنجلترا: (إننا هنا خمسون دولة ليس بينها من لم يكن مديناً إلى حد ما لحضارة مصر السامية. فقد أن تخرج بعض الأمم التي نمثلها من مجاهلها الأولى بزمن طويل، كانت مصر قد منحت الجنس
البشري هبات من العلوم والآداب فوق كنوز الفنون التي لا تبارى ولا تزال إلى اليوم مصدراً للإعجاب والعجب؟) وقال المسيو بوليتيس وزير اليونان: (إذا كانت أثينا أم المدنية الحديثة في أوربا، فإن مصر جدتها على التحقيق، فقد أثبتت الكشوف الأثرية أن مصر أفاضت على العالم من علمها وفنونها وآدابها وفلسفتها، وأنها كانت مدرسة للإغريق أنفسهم، حتى أن الأدب الإغريقي الخالد قد اقتبس من الأدب المصري كما دلت على ذلك المقارنة).
وكلام البقية من الخطباء الوزراء مضروب على هذا الإيقاع، مطرود على هذا النسق فلم تشهد القاعة الدولية حفلاً كهذا الحفل، ولا قولاً كهذا القول.
كان مجد مصر ونبل مصر وعبقرية مصر أمثالاً مضروبة على لسان التاريخ، وتماثيل منصوبة على وجه الأرض، تُعقد عليها الكتب، وتطوى إليها المراحل، ولكنها في أيام جهادنا الدامي العنيف كانت شهادة لا تدل وأثراً لا يذكر، فكنا نحن المتمردين على ضراعة الذل واستكانة الرق نُدعى:(آراب) و (أنديجين) ثم لا يرفعنا نسب عمرو، ولا تغنينا قرابة (مينا). فلما انتهى أمر الدولة المحتلة بالمعاهدة، وأمر الدولة الممتازة بالاتفاق، لم تبق إلا كلمة الحق؛ ولا يضر كلمة الحق أن تقال في الآخر، فإن من الحق أيضاً أن عظمة الأجداد وآثار الأمجاد تظل سطوراً في الصحف، أو صخوراً على الثرى، حتى تتاح لها من الأبناء ألسنة فتذكرها وأيد فتنشرها وأعمال فتحييها
لا ريب أن ماضي مصر المجيد كان له أثر ظاهر في هذه المظاهرة الدولية، ولكن براعة المفاوضين وكفاية الممثلين كانتا شاهد هذا التاريخ وباعث هذا المجد. فإذا فخرت مصر بآبائها الذين أشاد بفضلهم أقوى أمم الدهر، كانت حرية أن تفخر كذلك بأبنائها الذين جروا في عنان مع أسبق أمم الأرض
قال وزير خارجية فرنسا في خطبته: (إن مصر ستفد إلى جنيف بتجارب الشرق، ولكنها حين تحمل الغرب على الاستفادة من حكمة الشرق. ستحمل هي نفسها على تجديد حضارتها بحضارة الغرب)
وهذا كلام لا يحتاج حقه إلى شاهد؛ ولو طبق على معناه ومغزاه لكان خليقاً أن يفتح للعصبة باب عهد جديد. فقد دأب الغرب لقوته على أن يعطي، ودأب الشرق لضعفه على
أن يأخذ. وليس ما عند القوي خيراً كله، ولا ما عند الضعيف شراً كله؛ وأولى المؤسسات الغربية بالأخذ عن الشرق هي عصبة الأمم، فإن مبدأها السلام وغايتها السلام؛ وليس لدين الشرق وحكمة الشرق إلا هذه الرسالة.
فلعل مندوبي مصر والعراق وإيران وأفغانستان والهند وتركيا أيضاً، يحملون عن مطلع الشمس إلى مغربها هذه الأمانة، فيسطعون في جو الجمعية سطوع النور، ويرفون في جوانبها رفيف الروح، فيكون من أصواتهم الندية للعالم الشارد المجهود سلام ووئام ورحمة
امتيازات من نوع آخر
للأستاذ احمد أمين
هل لاحظت أنك إذا استعرضت مقاهي مصر وفنادقها رأيت أن أعظمها بناء، وأحسنها نظاماً، وأغناها رواداً، وأجملها موقعاً، وأشدها إتقاناً للخدمة، وأكثرها تفنناً في إدخال الراحة والسرور على زوارها، وأمهرها في استدرار مال الجمهور عن رضى واختيار، إنما هي لسادتنا الأجانب؟
وأن أحقرها مكاناً - وأفقرها سكاناً، وشرها موقعاً، وأسوأها خدمة، وأرخصها سعراً، وأكثرها تفنناً في إقلاق راحة زوارها، لا يغشاها إلا من هزل جيبه، أو فسد ذوقه، أو اضطرته حاجة ملحة، أو ضحى براحته ولذته وسعادته لفكرته الوطنية ونزعته القومية، إنما هي لإخواننا المصريين؟
ثم هل لاحظت أن المقاهي والفنادق الأرستقراطية وما يشبهها وما يقرب منها، صاحبها أجنبي، ومديرها أجنبي، والمشرف على ماليتها أجنبي، والذي يقدم إليك الخدمات الرفيعة أجنبي، ومن يقبض ثمن ما قدم ويأخذ منك (البقشيش) أجنبي؛ ثم من يمسح الأرض مصري، ومن يتولى أحقر الأعمال مصري، ومن يمسح لك حذاءك في المقهى أو الفندق مصري، ومن يجمع أعقاب السجاير مصري؛ وأن الأجنبي له الخيار في الأعمال، فما استنظفه عمله بنفسه، وما استقذره كلف به مصرياً؛ ثم أنت لا تجد العكس أبداً في المقاهي المصرية والفنادق المصرية. فلا تجد رئيساً مصرياً ومرءوساً أجنبياً، ولا تجد الأعمال الرفيعة لمصري، والأعمال الوطنية لأجنبي؛ وإذا كان لكل قاعدة استثناء كما يقولون فقد ظفرنا في هذه الحال بقاعدة لا استثناء فيها
وهل تتبعت الصناعات في مصر فرأيت أن كل صناعة رأسها أجنبي وقدماها مصريتان؟ فخير ميكانيكي في مصر أجنبي والحثالة مصريون. وقل مثل ذلك في أعمال الكهرباء والنجارة والحدادة والخياطة، وما شئت من صناعة، حتى لقد زاحمونا في مصنوعاتنا الوطنية، ونشأت فرقة من الأجانب تجيد عمل (الطعمية) و (الفول المدمس) وبزت فيهما المصريين، وأصبحت الطبقة المصرية الأرستقراطية تشتهيهما من يد الأجنبي أيضاً وتفضل ما يصنعه على منتجات (أبي ظريفة)(والحلوجي) ومن إليهما؟
فالصناعات في مصر - على العموم - تتخذ شكل هرم، قاعدته التي تلامس الأرض للمصريين، وقمته التي تناطح السحاب للأجانب.
وهل بلغك أن في بور سعيد - المدينة المصرية - حيين يسمى أحدهما (حي الفرنج) ويسمى الآخر (حي العرب)؟ فأما البناء الجميل، والنظافة والأناقة والعناية بالوسائل الصحية ومظهر الغنى والنعمة، ومظهر المدنية والحضارة، فلحي الفرنج؛ وأما مظهر الفوضى والإهمال والبؤس والفقر وسوء الحالة الصحية ومأوى الفقراء ومسكن التواضع والرضا بما قسم الله فلحي العرب؟
أو هل سمعت أيضاً أن (مصر الجديدة) - وهي ضاحية من ضواحي القاهرة - يسكنها كثير من الأجانب فينعمون بشوارعها الفسيحة، وبيوتها الضخمة الأنيقة؛ ثم في ركن متواضع من أركانها ناحية تسميها الشركة (عزبة المسلمين) فيها كل ما لا يخطر على البال من تكدس السكان في حجرة واحدة ومن إهمال ومن أمراض ومن فقر وبؤس، يفر منها من يسكنون بجوارها هرباً بأنفسهم وبصحتهم، وهرباً بعيونهم عن مناظر القبح، وبآذانهم عن ألفاظ الهجر، وبأنوفهم عن كريه الريح؟
أوليس ما يثير عجبك، ويبعث دهشك، أن كلمة (الأحياء الوطنية) في مصر تحمل من المعاني كل أنواع السوء والفوضى والإهمال وكان يجب أن تحمل كل معاني العناية والنظافة والنظام؟
ثم هل رأيت الأجنبي في وسط الفلاحين في العزبة، هو وحده النظيف في ملبسه ومسكنه ومأكله. وهو الذي له عقل يدبر ماله ويعرف كيف يستغله، وهم المغفلون الذين لا يعرفون كيف يحسبون دخلهم وخرجهم، ولا يعرفون حساب أموالهم ولا يعرفون كيف يديرون شؤون حياتهم، فخضع هذا وهؤلاء لقانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح؟
ثم هل علمت أن امتيازات أخرى بجانب هذه الامتيازات المادية، هي امتيازات عقلية أو نفسية؟
فإن غلبة الأجنبي في الصراع بينه وبين المصري في مرافق الحياة المادية أوجدت حالة نفسية شراً من الحالة المادية، مظهرها قلة وثوق المصري بنفسه وقوة وثوقه بالأجنبي. فإذا تعسرت حالة مرضية اتجه أهل المريض إلى الطبيب الأجنبي، وإذا أراد رب مال أن
ينجح في إدارته قصد إلى مدير أجنبي، وإذا تعقدت مسألة حكومية أو أهلية اختير لها خبير أجنبي، وإذا اختلف الباحثون في مسألة علمية كان الحكم الفصل قول المؤلف الأجنبي، وهكذا في كل شأن من شؤون حياتنا؟
واستتبع هذا تقويمنا للأجنبي قيمة غالية، ودخل في التقويم أجنبيته أكثر مما دخل في التقويم فنه أو علمه
ألم يبلغك الحادث الطريف الذي حدث بالأمس من مدرس ثانوي للغة الفرنسية يتقاضى أمثاله في وزارة المعارف فوق الثلاثين جنيهاً، فكان من سوء حظ هذا المدرس أن تجنس بالجنسية المصرية قبل أن يبت في مرتبه، فلما طبقت عليه القوانين المصرية والحوائج المصرية، كان نتيجة ذلك أنه لم يمنح إلا اثني عشر جنيهاً؟ أو لم يبلغك المصري الذي اخترع بالأمس نوعاً من طوب البناء فعرضه على الجهات المصرية فخاب أمله، ثم عرضه في إنجلترا فأقرت قيمة اختراعه، ثم تأسست شركة إنجليزية برأس مال إنجليزي لاستغلال هذا المخترع المصري؟
والأمثلة على ذلك كثيرة تحدث كل يوم، فيكاد يكون مغروساً في أعماق نفوسنا أن القبعة لا توضع على رأس سخيف، وأن الطربوش لا يمكن أن يلف رأس نابغ
إن كان في مصر دائن ومدين، فالدائن الأجنبي والمدين المصري.
وإن كان في مصر غنى وفقر، فالغنى للأجنبي والفقر للمصري.
وإن كان في مصر ذكاء وغباوة، فالذكاء للأجنبي والغباء للمصري.
وإن كان في مصر نعيم وبؤس، فالنعيم للأجنبي والبؤس للمصري.
هذه الامتيازات في المادة والعقل والنفس شر مما اصطلحنا على تسميته بالامتيازات الأجنبية
ومن الأسف أنها لا تحل بمؤتمر كمؤتمر مونترو، ولا باشتراك الدول ومفاوضتها، ولا بمعاهدة، ولا بقانون
إن حلها أصعب من ذلك كله
إنها تحتاج إلى عقول جبارة، وإرادات من نار، وحمية لا حد لها، ووطنية قوية وثابة
إنها تحتاج إلى مؤتمرات لا من جنس مؤتمر مونترو، إلى مؤتمر يتكون من فطاحل في
التربية يعرفون كيف فشا فينا مرض العبودية حتى حبب إلينا العمل الدنيء وبغض إلينا العمل الرفيع، فرضينا من المقهى والفندق بمسح البلاط ولم أعقاب السجاير. ورضينا دائماً بفتات الموائد، ولم نستطع أن نكون العمل الرفيع ونجلس في صدر المائدة؟ ويعرفون كيف يقضون على أخلاق العبيد من ذل ومكر وخنوع واحتيال ودسائس، ويحلون محلها أخلاق السادة من عظمة، وصراحة، وحب للعمل، وطلب للمجد، وعشق للصدارة؛ ويعرفون طبيعة المصري، وتاريخه، وبيئته، وأنواع الأسلحة العلمية والعقلية والخلقية التي يحتاج إليها ليستطيع الكفاح في الحياة والسير مع الأجنبي على قدم المساواة
فهذا خير ألف مرة من لجان تؤلف وتؤلف لزيادة حصة في الحساب ونقص حصة في الجغرافيا
ونحتاج لمؤتمر من القادة تكون مهمته العظمى إبادة روح المذلة الفاشية، وبذر روح الغيرة النادرة، وتعهدها بالتقاليد الجديدة التي ترعاها وتضمن نموها
نحتاج إلى مؤتمرات عديدة من هذا القبيل تغير وجه الحياة المصرية، وتخلق قلب المصري خلقاً جديداً، فلا يخاف مرءوس رئيساً، ولا يخاف مصري أجنبياً، ولا يخاف محكوم حاكماً
نحتاج إلى مؤتمرات تبيد الخوف إلا الخوف من الذل والعار، وتبيد السيطرة إلا احتراماً لخلق أو قانون
ما أصعب هذه المؤتمرات وما أشقها وما أحوجنا إليها! أنها تتكون من رجال من أمة واحدة، ولكنها أصعب من مؤتمر مثلت فيه كل الدول، لأنها مؤتمرات لا تلغي قانوناً موضوعاً، ولكنها تلغي أخلاقاً موروثة، وتقاليد سمرها الزمان، وتحطم أوتاداً سهر عليها الحاكم الظالم المستبد حتى صلبت الأرض عليها
لست أومن بنظرية العمال العاطلين حتى يصعب على الأجنبي والمصري الحصول على العيش الرغد على السواء. فأما إن سهل تحصيل العيش على الأجنبي وصعب على المصري فليست النظرية - إذن - نظرية عمال عاطلين، ولكنها نظرية فقر في الأخلاق، وجهل بفن الحياة
فهل لنا وقد نجحنا في مؤتمر الامتيازات الأجنبية أن نوجه هممنا لمعالجة أختها الامتيازات
التي هي من نوع آخر علنا ننجح أيضاً؟
احمد أمين
الخادمة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
وقفت نعيمة أمام المرآة تنظر فيها، وتتأمل نفسها بادية في صقالها، وفي يدها منفضة من الريش الناعم، ثم صوبت عينها إلى أدوات الزينة المرصوصة. . لقد صارت الآن خادمة وصار عملها أن ترتب هذه الغرف الوثيرة الأثاث. . فلشد ما انتقلت بها الأحوال!! منذ سنتين اثنتين، لا أكثر، كانت تنام على مثل هذا السرير. . وكان لها خدم، وحولها حشم. . وكانت قلما تقوم قبل الضحى. . كانت تفتح عينيها، وتتمطى، وتتثاءب، وتنظر إلى الساعة الدقيقة على معصمها فتعلم أن الشمس قد ارتفعت؛ وأنه آن لها أن تنهض. وتمد يدها إلى الزر، وتضغط فتجيء الخادمة - بهية - وتسألها (نعم يا ستي؟) فتقول لها أعدي الحمام، فتفعل وتجيئها قبل ذلك بالشاي وتنحي الستاير. . . وتهم بهية بالخروج فتناديها وهي تتقلب على السرير من الكسل، (والنبي يا بهية دوسي لي على كتفي. . .) كان هذا منذ سنتين. . كأنه حلم!. . زالت النعمة كلها وأفلس أبوها (إفلاساً بتدليس). . وانتحر. . . وتركها تملك قوت يومها. . استطاعت أن تحيا، على نحو ما، بضعة شهور، ثم لم يبق بد من ابتغاء الوسيلة إلى القوت. . وهذا أول بيت غريب دخلته لتعمل فيه
وانتقلت نعيمة إلى السرير، وتناولت الوسائد الصغيرة المبعثرة عليه، لتصلحها وترتبها، فأوحى إليها منظر السرير الواطئ اللين الشعور بالحاجة إلى التمطي. . أن تستلقي عليه وتمد رجليها وتفتح ذراعيها وتتثاءب وتقول (آ. . الخ). . . ولم لا؟. . إن هذا الجناح من البيت ليس فيه أحد. . وقد خرج سيدها منذ ساعة، وهي الموكلة بهذه الناحية. . وليس هناك من تخشى أن يفاجئها سوى (حسن). . ما أثقله!! هو رئيس الخدم. يدخل في رحمته من يشاء ويخرج منها من يشاء. لم يكن في بيتها هي أيام النعمة رئيس للخدم. كانوا جميعاً خداماً، وكانت هي الرئيسة دون سواها. . أمها ميتة. وأبوها يدع لها هذه الأمور. . ولكن جميل بك يؤثر نظاماً غير هذا. . ولاسيما بعد أن فسد ما بينه وبين زوجته فخرجت من البيت
وجلست على السرير، وهي تحدث نفسها بأنها لاشك تستطيع تسمع وقع قدمي حسن، إذا خطر له أن يجيء إلى هذه الناحية. فإنه ضخم غليظ ثقيل. . ومشيه دبدبة. ومالت على
السرير، وأراحت جسمها البض على فراشه اللين، وحدثت نفسها، وهي تحس أن جسمها يسترخي، أنها خليقة أن تحمد الله على التوفيق إلى العمل، في بيت كهذا، بعد الذي نزل بها، وإنها إذا كانت لا تنام على السرير فإن من بواعث سرورها أن يكون أمره موكولاً إليها، وأن يكون في وسعها أن تروح وتجيء في هذا البيت الحسن، وأن تكون في خدمة هذا السيد الكريم الوديع المهذب. . الحمد لله على كل حال،.
ولو أن سيدها رآها، وهي راقدة على سريره، وأخذت عينه هذا المنظر الفاتن، لكان الأرجح أن يقف مفتوح الفم من دهشة الإعجاب ولسحره؛ وسمره في مكانه، هذا الخط المتموج الذي بدأ من فخذها الأملس، ويرتقي ويستدير مع ردفها، ثم ينحدر في لين مع خصرها، ثم يعود فيرتفع حتى يبلغ الحلمة الحوة الناشزة من ثديها الراسخ. . وكان شعرها الذهبي مرسلاً، كأنه أمواج من النار على الوسادة. وأسندت نعيمة خدها الأسيل على الحرير الناعم، وتنهدت، وخطر لها أن حظها على كل حال خير مما كان يمكن أن يكون. . كل شئ هنا حسن (إلا حسن). . . فإنه دميم غليظ، وثقيل الدم بارده. وفظ شرس. . . ونظرته أعوذ بالله منها!. . . إنها لتتعلق بصدرها، فتحس أنها نفذت إلى ما تحت ثيابها، فكأنها واقفة أمامه عارية لا كاسية!. . . وما أكثر ما يلمس كتفها، وهو يحدثها، أو يدعوها إلى الوقوف،. . فتسري الرعدة في بدنها. . وأصابعه؟. . يا حفيظ!. . قصيرة، غليظة، مبططة!
وأغفت نعيمة، وهي تفكر في هذا وما إليه من مظاهر حياتها الجديدة، ثم انتفضت قائمة وفي يقينها أن بعضهم ينظر إليها. ولكنها لم تر في الغرفة أحداً، فلاشك أنها كانت تحلم أو لعل هذا ضميرها يزجرها عن الاجتراء والتسحب بهذه الطريقة
ووقفت نعيمة وأجالت عينها فيما حولها، فلمحت زجاجة عطر صغيرة، فقد كانت فيما مضى تتخذ مثلها، بل كان هذا هو العطر المفضل عندها. واضطربت يدها، وهي تتناول الزجاجة. وترفع عنها الغطاء. . وأدنتها من أنفها الجميل، لتشم، وتنعم بالأرج المفتر. . وإذا كان لا تسعها الآن أن تتعطر، فلا أقل من متعة الأنف. . وما البأس. . وأحست وهي تنشق العطر الخفيف بالحنين إلى الأيام السالفة. . وتفلتت الزجاجة من بين أصابعها فارتفعت كفها الرخصة، بسرعة، إلى فمها، لتكتم صرخة جزع حين رأت الزجاجة تهوي
على السجادة، وقد حمتها السجادة أن تتكسر ولكن ما فيها أريق كله، وملأ الغرفة بأرجه، فصار المكان كأنه بستان زهر. وصوبت عينها إلى السجادة فرأت العطر قد رسم دائرة كبيرة داكنة على النقوش الفارسية الجميلة، فانحنت والتقطت الزجاجة الفارغة، وردتها إلى مكانها. وسمعت في هذه اللحظة صوتاً فريعت ودارت على عقبها، فإذا حسن أمامها يتئرها النظر كأنما يريد أن يأكلها بعينيه، وكان قد دخل كالقطة، وساعده لين السجادة السميكة على إخفاء صوت قدميه الغليظتين
وكان حسن ينهج كأنما يجري، وكانت أنفاسه تروح وتجيء بسرعة، وعيناه كالجمرتين، ونعيمة ترى هيئته، وترعد كأنها في ثلاجة، وقد أيقنت أنها فقدت عملها. . وهل يبقيها حسن وقد رأى ما صنعت؟؟. . ربما. . فما صنعت شيئاً في الحقيقة سوى أن زجاجة عطر سقطت من بين أصابعها؛ ولكن الرجل فيه جفوة وغطرسة، وهو قاس، وقد أطغاه أن سيده ترك له أمر الخدم. . فهل يطردها. . أم تراه سيترفق بها ويعفو عنها؟. .
ولم تمض في تفكيرها، فقد مد حسن يديه إليها، بغتة، وتناول كتفيها - أو على الأصح ثوبها على كتفيها - وهزها وقال لها (سيكون هذا آخر لعبك هنا)
فتوسلت إليه، وأقبلت عليه تستعطفه، وتقول له إنها محتاجة إلى البقاء، وأين تذهب إذا طردها؟. .
فقال بجفوة (تريقين زجاجة ثمنها ثمانون قرشاً وتظنين أن في وسعك أن تبقي؟)
فأيقنت نعيمة أن هذا آخر عهدها بالبيت الجميل، والسيد الوديع الظريف، وصار صدرها يعلو ويهبط.
ولم تفت حسن حركة صدرها المغرية، فدنا منها وقال:(ثم إني رأيتك راقدة فوق هذا السرير أيضاً)
فكادت نعيمة تسقط على الأرض، وأحست أن رجليها تخذلانها. . ستفقد الآن عملها على التحقيق!! ومن ذا الذي يستخدم مثلها وهي حديثة عهد بالخدمة؟. وكانت يدا حسن لا تزالان على كتفيها فشد بهما على جسمها، حتى لقد أحست نعيمة أن أصابعه انغرزت في لحمها، وشعرت بأنفاسه الحارة على وجهها وسمعته يقول (إذا أردت البقاء فليس هناك إلا طريقة واحدة)
وكانت نعيمة تعرف أن له أن يخرج الخدم، فقالت وهي ذاهلة (كيف؟ ماذا تعني؟)
وكانت تعلم ماذا يعني، وتقرأه في عينيه، ولكنها كانت تؤثر الطرد والجوع على هذا. . كلا. . أبداً
فقال (إنك تعرفين ما أعني. . لقد رقدت على هذا السرير مرة. . ارقدي عليه مرة أخرى)
ففزعت وإن كانت تعلم مراده، وصاحت به (أبداً. . مستحيل)
ولكن حسن حملها كالدجاجة بين ذراعيه، وألقاها على السرير، وركع أمامها، وأهوى بشفتيه الغليظتين على غلالتي شفتيها الرقيقتين، وكانت يداه قاسيتين، وكانتا تجرحان جسمها الغض، وهي تحاول أن تتفلت منه، وهو يشد عليها؛ وهمت بأن تصرخ فوضع كفه على فمها، وأخرسها، ثم تناول ثوبها عند صدرها وجذبه فتمزق وتعرى صدرها فأكب عليها كالمجنون، فلم تعد تطيق الصبر، وفضلت أن تخسر عملها، وأن تتضور وتتسول في الطريق، وأطلقتها صيحة مجلجلة خليقة أن تجمع عليهما كل من في البيت فانتفض حسن قائماً وصاح بها بدوره (إنك مطرودة. اخرجي)
وشرع يخرج من الغرفة بسرعة قبل أن يجيء أحد على صوتها، وإذا بسيده في الباب.
وقال جميل بك (ما هذا)؟
فقال حسن: (سيدي. . لقد رأيت نعيمة ترقد على هذا السرير؛ ولم يكفها هذا، بل أراقت زجاجة العطر. .)
ولكن جميل بك لم يكن يسمع شيئاً مما يقول حسن، وإنما كان ينظر إلى نعيمة، وهي واقفة في هذا الثوب الذي صار هلاهيل، وكانت تجمعه بيديها على صدرها لتستره. ولكنها لم تستطع أن تستر منه إلا قليلاً. . والتفت جميل بك من نعيمة المطرقة المتقدة الوجه من الحياء إلى هذا الخادم النذل وصاح به:(اخرج فإنك أنت المطرود. .)
فخرج وظهره مقوس
ثم التفت جميل بك إلى نعيمة وقال (إني آسف لما حصل. لم أكن أتصور أن هذا الرجل الذي ائتمنته وحش. . . فلننسه. .)
فأدارت نعيمة وجهها إلى حيث أريقت الزجاجة وقالت (لقد سقطت مني. . أريقت كلها ولم يبق فيها ولا قطرة)
فقال جميل بك ببساطة: (لا بأس. . لا بأس. . إذا كنت تستحقين عقاباً، فقد لقيت فوق ما تستحق أية مجرمة صغيرة مثلك)
فابتسمت نعيمة، وكانت لا تزال تحاول عبثاً أن تضم طرفي الثوب الممزق الذي أصارته يدا حسن كالعباءة لولا ضيقه. ومشى جميل بك إليها وقال لها وهو يلمس الثوب (لم يعد هذا يصلح) وأشار إلى خزانة الثياب وقال (اخلعيه وخذي شيئاً من هنا بدلاً منه) ولم يتركها تفعل ما أمرها به، بل نزعه عنها فصارت أمامه في ثيابها التحتية، وهي كافية للستر، ولكنها تظهر من الصدر والكتفين أكثر مما يكشف في العادة. على إن جميل بك لم يكن ينظر إلى ما بدا له من جسمها، بل إلى نفاسة الحرير الذي تلبسه تحت هذا الثوب الممزق، فقد هز رأسه كالمتعجب، ومضى إلى الخزانة فجاء منها بثوب من أثواب زوجته ألقاه إليها ومشى إلى النافذة. ولم يخف على نعيمة معنى النظرة فقد كانت صريحة فارتدت الثوب وقالت (هذه الثياب التحتية بقية من زمن النعمة وقد اشتريتها بنفسي)
فدار وقال (إيه؟)
فقالت ببساطة وابتسام (لقد كنت أستطيع أن اشتري ما أريد. . قبل الكارثة)
فذهب إلى السرير وقعد عليه وقال وهو مقطب: (ما اسمك؟ اسمك كله)
فذكرته له فقال (اسمعي. . . هل كان أبوك تاجراً في الحمزاوي. . .؟)
قالت (نعم)
قال (وماذا صنع الله به حتى احتجت إلى هذا؟)
قالت (مات. . . انتحر. . .)
فقال (اممممم!. . . إني آسف. . .، لم أكن أعرف هذا. . . لو كنت أعرفه لما تكلمت بهذه اللهجة عنه)
فابتسمت ولم تستطع أن تقول شيئاً. فقال وجذبها إليه وأجلسها بجانبه على السرير: (اسمعي. . . أن مثلك لا يجوز أن تعمل كخادمة)
فقالت بإخلاص (إني مسرورة. . . وجودي هنا خير مما كنت أنتظر. . . والآن اسمح لي أن أذهب وأغير الثوب وأرد هذا)
وأشارت إلى الثوب الذي كساها فقال (خله لك. . . وغيره أيضاً. . . كل ما في الخزانة
خذيه)
فقالت (سيدي. . . لم أعتد أن آخذ شيئاً من أحد)
قال وهو ينهض (أوه. . . هذه مسألة يسهل أن نسويها فيما بعد. . .)
وكانت هي قد نهضت أيضاً فوقفا متقابلين. وقد يكون الأرج المتضوع في الغرفة أو غيره هو الذي أدار رأسيهما فقد مال عليها فلم تبعد، ولثم فمها. وكانت القبلة في أول الأمر خفيفة - لمساً لا اكثر - ولكن الأيدي ارتفعت إلى الأكتاف فكان عناق طويل
وقال جميل بك (نعيمة. . . إنك ساحرة. . . كان دائماً يخطر لي أنك لست من الخدم. . . ويخيل إليّ أنك ستبقين هنا. . . سيدة. . .)
وكان قلب نعيمة يخفق بشدة فنأت عنه قليلاً وهي تفكر في معنى ما سمعت ثم قالت (ولكن الست؟)
قال (لا تقولي الست كأنك مازلت خادمة)
قالت وهي تضحك (زوجتك إذن؟)
قال (آه. . . نسيت أن أخبرك أننا اتفقنا - أبوها وأنا - على فض الإشكال بالحسنى. . . لا محاكم ولا شئ. . . طلقتها اليوم وانتهى الأمر)
قالت: (ألست آسفاً؟)
قال (كلا. . . كان هذا أحسن حل. . . حياتنا مستحيلة. . . لا وفاق)
ولأول مرة منذ سنتين شعرت نعيمة أن لها بيتاً، ونظرت إلى السرير - سريرها الآن، أو هو سيصبح سريرها بعد العقد. . . ثم ردت عينها إلى جميل بك فالتقت الشفاه مرة أخرى في قبلة معسولة
إبراهيم عبد القادر المازني
خاتمة المأساة الأندلسية
الصراع الأخير بين الموريسكيين وأسبانيا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(2)
سرى إلى الموريسكيين يأس بالغ يذكيه السخط العميق فعولوا على الثورة مؤثرين الموت على ذلك الاستشهاد المعنوي الهائل. ونبتت فكرة الثورة أولاً في غرناطة حيث يقيم أعيان الموريسكيين، وحيث كانت جمهرة كبيرة تحشد في ضاحية (البيازين)؛ وكان زعيم الفكرة ومثير ضرامها موريسكي يدعى فرج بن فرج؛ وكان ابن فرج صباغاً بمهنته،؛ ولكنه حسبما تصفه الرواية القشتالية كان رجلاً جريئاً وافر العزم والحماسة، يضطرب بغضاً للنصارى، ويتوق إلى الانتقام الذريع منهم؛ ولا غرو فقد كان ينتسب إلى بني سراج وهم من أشراف غرناطة وفرسانها الأنجاد أيام الدولة الإسلامية. وكان ابن فرج كثير التردد على أنحاء البشرات، وثيق الصلة بمواطنيه؛ فاتفق الزعماء على أن يتولى حشد قوة كبيرة منهم تزحف سراً إلى غرناطة وتجوز إليها من ضاحية البيازين، ثم تفاجئ حامية الحمراء وتسحقها وتستولي على المدينة، وحددوا للتنفيذ (يوم الخميس المقدس) من شهر أبريل سنة 1568 إذ يشغل النصارى عندئذ باحتفالاتهم وصلواتهم؛ ولكن أنباء هذا المشروع الخطير تسربت إلى السلطات منذ البداية فاتخذت التحوطات لدرئه، وعززت حامية غرناطة، وحاميات الثغور، واضطر الموريسكيون إزاء هذه الأهبة أن يرجئوا مشروعهم إلى فرصة أخرى
واستمر الموريسكيون على عزمهم وأهبتهم، ووجهوا بعض الكتب خفية إلى أمراء الثغور في المغرب يطلبون إليهم الغوث والعون؛ فوقع كتاب منها في يد حاكم غرناطة؛ وتقول الرواية القشتالية أنه كان موجهاً من أحد زعماء البيازين إلى مسلمي الثغور المغربية يستحلفهم فيه الغوث بحق روابط الدين الدم ويقول: (لقد غمرتنا الهموم، وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا إليكم في ليال تفيض بالعذاب والدمع، وفي قلوبنا قبس من الأمل، إذا كانت ثمة بقية من الأمل في أعماق الروح
المعذب). ولكن الحكومات المغربية كانت مشغولة بمشاكلها الداخلية، فلم يلب داعي الغوث سوى جماعة من المتطوعين الذين نفذوا سراً إلى إخوانهم في البشرات، ومنهم كثيرون من البحارة المجاهدين الذين كانوا حرباً عواناً على الثغور والسفن الأسبانية في ذلك العصر
وفي شهر ديسمبر سنة 1568، وقع حادث كان نذير الانفجار؛ إذ اعتدى الموريسكيون على بعض المأمورين والقضاة الأسبانيين في طريقهم إلى غرناطة ووثبت جماعة منهم في نفس الوقت بشرذمة من الجند كانت تحمل كمية كبيرة من البنادق وفتكت بهم جميعاً. وفي الحال سار ابن فرج على رأس مائتين من أتباعه ونفذ إلى المدينة ليلاً، وحاول تحريض مواطنيه في البيازين على نصرته ولكنهم أبوا أن يشتركوا في مثل هذه المغامرة الجنونية وقد كان موقفهم حرجاً في الواقع لأنهم يعيشون إلى جانب النصارى على مقربة من الحامية وهم أعيان الطائفة ولهم في غرناطة مصالح عظيمة يخشون عليها من انتقام الأسبان؛ بيد أنهم كانوا من وراء الثورة يؤيدونها برعايتهم ونصحهم ومالهم فارتد ابن فرج على أعقابه واجتاز شعب جبل شلير (سييرا نفادا)، إلى الهضاب الجنوبية فيما بين بلش (فيليز) والمرية، فلم تمضي بضعة أيام حتى عم ضرام الثورة جميع الدساكر والقرى الموريسكية في أنحاء البشرات، وهرعت الجموع المسلحة إلى ابن فرج ووثب الموريسكيون بالنصارى القاطنين فيما بينهم ففتكوا بهم ومزقوهم شر ممزق
- 3 -
اندلع لهيب الثورة في أنحاء الأندلس ودوت بصيحة الحرب القديمة وأعلن الموريسكيون استقلالهم واستعدوا الخوض معركة الحياة والموت، وبدأ الزعماء باختيار أمير يلتفون حوله، ويكون رمز ملكهم القديم فوقع اختيارهم على فتى من أهل البيازين يدعى الدون فرناندو دي فالور؛ وكان هذا الاسم النصراني القشتالي يحجب نسبة عربية إسلامية رفيعة ذلك أن فرناندو دي فالور كان ينتمي في الواقع إلى بني أمية وكان سليل الملوك والخلفاء الذي سطعت في ظلهم الدولة الإسلامية في الأندلس زهاء ثلاثة قرون، وكان فتى في العشرين تنوه الدواية القشتالية المعاصرة بوسامة محياه، ونبل طلعته؛ وكان الأمير الجديد يعرف خطر المهمة التي انتدب لها، ولكنه كان يضطرم حماسة وجرأة وإقداماً، ففي الحال غادر غرناطة سراً إلى الجبال ولجأ إلى شيعته آل فالور في قرية بزنار، فهرعت إليه
الوفود والجموع من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه في احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام إسلامية ذات أهلة فصلى عليها الأمير متجهاً صوب مكة، وقبل أحد أتباعه الأرض رمزاً بالخضوع والطاعة، وأقسم الأمير أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة. واخنار محمد عمه الملقب (بالزغوير) قائداً عاماً لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر في اختياره للرياسة، وبعث ابن فرج على رأس بعض قواته إلى هضاب البشرات ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس، واتخذ مقامه في أعماق الجبال في مواقع منيعة، وبعث رسله في جميع الأنحاء يدعون الموريسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعودة إلى دينهم القديم
ووقعت نقمة الموريسيكيين بادئ ذي بدء على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم في أنحاء البشرات ولاسيما القسس وعمال الحكومة؛ وكان هؤلاء يقيمون في محلات متفرقة سادة قساة يعاملون الموريسيكيين بمنتهى الصرامة والزراية، وكان القسس بالأخص أس بلائهم ومصائبهم؛ ومن ثم فقد كانوا ضحايا الفورة الأولى. وانقض ابن فرج ورجاله على النصارى في تلك الأنحاء فمزقوهم تمزيقاً. وقتلوا القسس وعمال الحكومة، ومثلوا بهم أشنع تمثيل، وكانت حسبما تقول الروايات القشتالية مذبحة عامة لم ينج منها حتى النساء والأطفال والشيوخ؛ وذاعت أنباء المذبحة الهائلة في غرناطة فوجم لها الموريسيكيون والنصارى معاً، وكل يخشى عواقبها الوخيمة، وكان الموريسكيون يخشون أن يبطش النصارى بهم انتقاماً لمواطنيهم، وكان النصارى يخشون أن يزحف جيش الموريسكيين على غرناطة فتسقط المدينة في يدهم وعندئذ يحل بهم النكال الرائع. بيد أن الرواية القشتالية تنصف هنا محمد بن أمية فتقول أنه لم يحرض على هذه المذابح ولم يوافق عليها، بل لقد ثار لها وعزل نائبه ابن فرج عن القيادة، فنزل عنها راضياً واندمج في صفوف المجاهدين، وهنا يختفي ذكره ولا يبدو على مسرح الحوادث بعد
- 4 -
وكانت غرناطة في أثناء ذلك ترتجف سخطاً وروعاً؛ وكان حاكمها المركيز منديخار يتخذ الأهبة لقمع الثورة منذ الساعة الأولى، بيد أنه لم يكن يقدر مدى الانفجار الحقيقي، فغصت غرناطة بالجند، ووضع الموريسكيون أهل البيازين تحت الرقابة رغم احتجاجهم وتوكيدهم
بأنهم لا علاقة لهم بالثائرين من مواطنيهم؛ وخرج منديخار من غرناطة بقواته في 2 يناير سنة 1569 تاركاً حكم المدينة لابنه الكونت تنديلاً، وعبر جبل شلير (سييرا نفادا) وسار تواً إلى أعماق البشرات حيث يحتشد جيش الثوار؛ وكان محمد ابن أمية متحصناً بقواته في آكام بوكيرا الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم قد حذقوا حرب الجبال ومفاجآتها. فما كاد الأسبان يقتربون منهم حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول باترنا، وتخلف كثيرون منهم ولاسيما النساء، ففتك الأسبان بهم فتكاً ذريعاً، وحاول منديخار أن يتفاهم مع الثائرين على العفو وأن يخلدوا إلى السكينة، وبعث إليهم بعض المسالمين من مواطنيهم، وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، ولكن المتطرفين من أنصاره ولاسيما المتطوعين المغاربة رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفة الأسبان وهزم الموريسكيون مرة أخرى، وفر محمد بن أمية وأسرت أمه وزوجه وأخواته؛ وأصيب الأسبان بهزيمة شديدة في آكام (جواخاريس) ولكن الموريسكيين آثروا الارتداد؛ وقتل الأسبان من تخلف منهم أشنع قتل. وكان ممن تخلف زعيم باسل يدعى (الزمار) أسره الأسبان مع ابنته الصغيرة وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذب عذاباً وحشياً إذ نزع لحمه من عظامه حياً، ثم مزقت أشلاؤه؛ وهكذا كانت أساليب الأسبان ومحاكم التحقيق أزاء العرب المنتصرين
واختفى محمد بن أمية مدى حين في منزل قريبه (ابن عبو) وكان من أنجاد الزعماء أيضاً. وطارده الأسبان دون أن يظفروا به. على إن هذه الهزائم الأولى لم تفل عزم الموريسكيين فقد احتشدوا في شرق البشرات في جموع عظيمة وأخذوا يهددون المريه، فسار إليهم المركيز (لوس فيليس) على رأس جيش آخر، ووقعت بين الفريقين عدة معارك شديدة قتل فيها كثير من الفريقين، ومزق الموريسكيون، وفتك الأسبان كعادتهم بالأسرى وقتلوا النساء والأطفال قتلاً ذريعاً
وقعت في نفس الوقت في غرناطة مذبحة مروعة أخرى فقد كان في سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان المريسكيين اعتقلوا رهينة وكفالة بالطاعة فأذاع الأسبان أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء بمؤازرة مواطنيهم في البيازين؛ وعلى ذلك صدر الأمر بإعدام السجناء فانقض عليهم الجند وذبحوهم في مناظر مروعة من السفك
الأثيم
وكان لهذا الحادث الأخير أثره في إذكاء نار الثورة، وكان نذيراً للموريسكيين بأن الموت في ساحة الحرب خير مصير يلقون. فسرى إليهم لهب الثورة بأشد من قبل وطافت بهم صيحة الانتقام فانقضوا على الحاميات الأسبانية المبعثرة في أنحاء البشرات ومزقوها تمزيقاً وهزموا قوة أسبانية تصدرت لقتالهم واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ الهضاب والسهل؛ وعاد محمود بن أمية ثانية إلى تبوأ عرشه الخطر، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى القسطنطينية يطلب العون من سلطانها، ولكن سلاطين قسطنطينية لم يلبوا ضراعة الموريسكيين برغم تكرارها منذ سقوط غرناطة ولم يلبها غير إخوانهم المجاهدين في أفريقية، فقد استطاعت جموع جريئة مخاطرة منهم أن تجوز الشواطئ الأسبانية ومنهم فرقة من الترك المرتزقة وأن تهرع إلى نصرة المنكوبين
وهكذا عاد النضال إلى أشده، وخشي الأسبان من احتشاد الموريسكيين في البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم في بعض الأنحاء الشمالية، وكانت مأساة جديدة مزقت فيها هذه الأسر التعسة وفرق فيها بين الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات في مناظر مؤثرة تذيب القلب، وسار المركيز لوس فيليس في نفس الوقت إلى مقاتلة الموريسكيين في سهول المنصورة على مقربة من أراضي مرسية، ونشبت بينه وبينهم عدة وقائع غير حاسمة، ولم يستطع متابعة القتال لنقص في الأهبة والمؤن وكان بينه وبين زميله منديخار خصومة ومنافسة كانتا سبباً في اضطراب الخطط المشتركة، واتهم منديخار بالعطف على الموريسكيين فاستدعي إلى مدريد، وأقيل من القيادة، واتخذت مدريد خطوتها الجديدة الحاسمة في هذا الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة
(للبحث بقية)
(والنقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان
في الأدب المقارن
المعنى والأسلوب في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
المعنى الصادق الرفيع والأسلوب المحكم الجميل هما قوام كل أدب خليق بهذا الاسم، لا يغني أحدهما إذا غاب الثاني؛ فلابد من شعور عميق، أو تفكير ثاقب جدير بعناء الإنشاء والقراءة، ولابد بجانب ذلك من عبارة منسجمة جميلة تعرض المعنى على أحسن وجه وأحبه إلى النفوس؛ وكبار الأدباء في شتى الأمم يجمعون دائماً بين الفكر الواسع المتصرف في شؤون الحياة، وبين المقدرة اللغوية التي تذلل لهم أعنة البيان، ويتصرفون بها في الألفاظ والتراكيب، ويكون لكثير منهم فضل ترحيب جوانب اللغة وإكساب تعبيراتها جدة ومرونة، وإعطاء بعض ألفاظها منزلة سامية لورودها مورداً حسناً في بعض آثارهم، وشأن الأديب الكبير في ذلك شأن غيره من رجال الفنون، فالمصور مثلاً لا يبلغ الذروة في فنه حتى يجمع إلى خصب مشاعره بصراً بتأليف الألوان والأصباغ، وكل فنان لابد له من الجمع بين رقة الشعور وبين البصر بالآلات التي يكون بها أداء ذلك الشعور
والفكر واللغة، أو المعنى واللفظ، شديدا التوثق والتوشج، فلا ندحة للأديب عن التأثر بروح اللغة التي يكتب فيها وتراثها على مدى الأجيال، ولا سبيل له إلى الإنشاء والنظم فيها حتى يختلط بروحها، وتمتزج أفكاره بالمفردات والأساليب التي تهيئها له اللغة؛ والأديب الصناع يختار من المفردات تلك التي تنهض بأفكاره ومشاعره في أوجز لفظ وأحكمه وأوضحه بياناً، بما تمتاز به تلك المفردات من أجواء من المعاني رحيبة تجمعت حولها على مرور الأجيال وتوالي الاستعمال، حتى غدت يثيرها مجرد ذكر تلك المفردات على نحو خاص، وذلك ما يجعل آثار بعض الأدباء المفتنين والشعراء المجودين متعذرة الترجمة إلى غير لغتها، لتعذر نقل هذه الأجواء المعنوية برمتها من لسان إلى لسان، بل يتعذر أحياناً التفريق بين المعاني والأساليب التي هي مفرغة فيها، لتمازجها تمازج الروح والجسد
ويبلغ الأدب كماله حيث يسود القصد والاعتدال بين اللفظ والمعنى، فإذا استبد المعنى بالأهمية كلها وتحيف اللفظ خرج الأثر المنشأ من حظيرة الأدب إلى حيز العلم؛ وإذا تحيف اللفظ المعنى وصار غاية في ذاته هبطت قيمة الأثر الأدبي، وأصبح أشبه بالزخرف
والصناعة منه بالفن السامي. ويغلب الاحتفاء بالزخرف اللفظي في عهد طفولة الأدب، إذ يكون الشعر مجرد أهازيج وقواف موسيقية تافهة المعانى، وفي عهود انحطاط الأدب حين ينصرف الأدباء عن لباب الحياة إلى القشور؛ وبالزخرف اللفظي والبراعة اللغوية والأسجاع والإيقاع الموسيقي يكلف الأديب الناشئ أول عهده بالأدب، وكلما نضجت نفسه وحصف ذهنه بتجربة الحياة واستيعاب المعارف تحول اهتمامه إلى المعاني والحقائق والتزم اللفظ في آثاره منزلته الصحيحة، وهي كونه وسيلة للمعنى لا غاية في ذاته
وقد عرف أقطاب الأدب الإنجليزي بواسع بصرهم بأسرار لغتهم، وإليهم يرجع فضل توطئة جوانبها وتعبيد مسالكها، ولكل منهم في هذا الباب أثر: فشكسبير قد استخدم في رواياته أكبر عدد من مفردات اللغة استخدمه أديب، وصرف تلك المفردات على شتى الوجوه؛ وسبنسر أعنى اللغة بما أدخل فيها من ألفاظ جديدة لم تعرفها قبله؛ وملتون أصبح اسمه علماً على ضرب من النظم عذب الموسيقى فخم الرنين؛ وبوب بلغ الغاية من إحكام الصناعة وجزالة الأسلوب؛ ووردزورث كان دائم التجارب في الأساليب يحاول أن يشق للشعر أسلوباً جديداً؛ وتنيسون تفنن في استخدام الألفاظ وتحوير التراكيب يؤلف بها روائع الصور الشعرية، ولا تزال مخطوطات بعض أولئك الأدباء موضع دراسة النقاد والأدباء، يتفقهون بها في أسرار اللغة ويزدادون بصراً بخصائص الألفاظ والتراكيب، ويرون كيف يحل لفظ محل لفظ فتشرق به ديباجة البيت من الشعر ويسفر به وجه المعنى جميلاً بعد خفاء والتياث
على أن أولئك الأدباء برغم احتفائهم بالأسلوب ذلك الاحتفاء لم يغلبوه على المعنى ولم يجعلوه غاية في ذاته، ولم يصبح الأدب في أيديهم براعة في اللفظ وتأنقاً في النسج، بل ظل اللفظ لديهم دائماً خادماً للمعنى، وظل غرضهم الأول من الإنشاء الإفصاح عن الفكر والشعور. ولم يسرف الأدباء في الاحتفاء باللفظ إلا في عهد انحطاط الشعر في بعض القرن الثامن عشر، في حقبة لم تنجب شاعراً كبيراً، ولم يحض بالشهرة في حياته والذكر بعد موته من أدباء الإنجليزية إلا من أهلته لذلك نظرة في الحياة صادقة عميقة، ولم تكن كل بضاعته أسلوباً مزخرفاً، منمقاً، بل عرف من كبار الشعراء من لم يكن يولي أسلوبه كبير احتفاء، ومع ذلك رفعه فكره الجوال في آفاق الحياة، ونفسيته الجياشة بأشتات
الأحاسيس إلى قمة المجد، فبيرون كان كما قال عن نفسه لا يعاود النظر في بيت شعر خطه، ووردزورث نظم كثيراً من بدائع شعره في أبسط لفظ يستعمل في النثر والتحدث، وهاردي لم يكن شعره إلا نثراً جيد النظم عارياً مجرداً من تلك الألفاظ الشعرية ذات الأجواء المعنوية، ومن ثم لا يسمو به النقاد إلى طبقة الفحول كشكسبير وملتون، بل ينزلونه الطبقة الثانية بين الشعراء، وهذا الأسلوب العاري المجرد يزداد شيوعاً في العصر الحديث
أما في العربية فكان الأمر على نقيض ذلك: فلم يكد يكون بين كبار أدبائها بعد دخول الأدب طوره الفني من أهمل الأسلوب واحتفى بالمعنى وحده، وإن كان أكثرهم ليقدم الأسلوب على المعنى ويحتفي للفظ ورنينه أي احتفاء وإن تضاءل المعنى وتفه، فإذا كان النثر العربي يبلغ ذروته من الكمال على أيدي ابن المقفع والجاحظ، والشعر العربي يجري إلى غايته في آثار المتنبي وابن الرومي والمعري، حيث يجتمع صدق النظرة وجمال الأسلوب فإن غيرهم من مشهوري أدباء العربية إنما نبه ذكرهم لبلاغتهم اللفظية، لا لفلسفة في الحياة معدودة، ولا لرسالة في الأدب عتيدة. ومن أولئك البحتري ومن نحا نحوه من الشعراء والمداحين، والصاحب ابن عباد ومن سلك دربه من المنشئين المسجعين؛ فالناظر في الأبيات الآتية من نظم أشهر شعراء العربية، يرى أن حظها من المعنى ضئيل ونصيبها من جزالة الأسلوب ورنين اللفظ وعذوبة الموسيقى كبير، قال أبو نواس في مدح بعض الوزراء:
عباس عباس إذا احتدم الوغى
…
والفضل فضل والربيع ربيع
وقال البحتري في النسيب:
لما مشين بذي الأراك تشابهت
…
أعطاف قضبان به وقدود
ومتى يساعدنا الوصال ودهرنا
…
يومان يوم نوى ويوم صدود
وقال أبو تمام في رثاء طفلين:
مازالت الأيام تخبر جاهلاً
…
أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا
بدران شاء الله أن لا يطلعا
…
إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا
إن الفجيعة بالرياض نواضرا
…
لأجل منها بالرياض ذوابلا
نصيب هذه الأبيات جميعها من الفكرة البعيدة أو النظرة المستقلة أو الشعور الصميم ضئيل. وماذا في قول أبي نواس إن العباس عباس والفضل فضل والربيع ربيع، إلا إنه ظرف وأحسن نظم تلك الأسماء مزدوجة في سلك البيت؟ وأي الناس لا يعبس إذا احتدم الوغى؟ ولو قال: عباس بسام لكان وصفه بالشجاعة التي لا تحفل بالموت المحدق. ثم ماذا من جديد في جمع البحتري بين الغصون والقدود وشكواه النوى والصدود، أو في تشبيه أبي تمام للطفلين بالبدرين الآفلين مرة وبالروضين المصوحين أخرى؟ إنما فضيلة هذا الشعر كله حسن اختيار اللفظ النقي وجمال الموسيقى ولطافة التقسيم والمقابلة، أما المعنى فلا عمق فيه ولا ابتكار
فالاحتفاء باللفظ ولو على حساب المعنى قد تزايد في العربية تدريجاً مع دخول الأدب طوره الفني، طور التدوين والتجويد، وتزايد الولع بالتسجيع والمطابقة وغيرهما من المحسنات اللفظية. وكاد الولع بالسجع عند الصاحب بن عباد فيما روي يبلغ حد الجنون، حتى قيل إنه عزل قاضياً بناحية يقال لها (قم) لأنه أراد أن يتم سجعة فقال: أيها القاضي بقم، قد عزلناك فقم. وتكلف في بعض أسفاره كما حدث عنه ابن العميد أن يذهب إلى قرية غامرة ذات ماء ملح يقال لها النوبهار لا لشيء إلا ليكتب إليه: كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار، ومازال اللفظ يستبد باحتفال الأدباء ويطغى على المعنى، حتى ارتد الأدب في عصور التدهور زخرفاً لفظياً صرفاً، ولم يبق من المعنى إلا هذيان كهذيان المخالطين
فلا نبالغ إذا قلنا إن المعنى كان في أزهر عصور الأدب العربي يحتل المكان الثاني بعد اللفظ، وهذا واضح في أقوال النقاد. قال الآمدي في موازنته بين الطائيين:(وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأني وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها. . . . فإن اتفق مع هذا معنى لطيف أو حكمة غريبة أو أدب حسن فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه). وقال الخليلي في سياق حديث له أورده ياقوت في ترجمة الصاحب بن عباد: (الشاعر يطلب لفظاً حراً ومعنى بديعاً ونظماً حلواً وكلمة رشيقة ومثلاً سهلاً ووزناً مقبولاً)، فكل الاهتمام هنا موجه إلى لطافة النسج والتجويد لا إلى عمق الفكرة والشعور
كان الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام يرسلون القول على سجيته في نسج محكم يرمون به إلى بيان أفكارهم وشعورهم على أقصد سبيل وأقربه، فلما كان عهد التحضر والتثقف أحاطت بالأدب عوامل أدت إلى تقديم اللفظ على المعنى، منها فساد اللغة بمخالطة الأعاجم فاشتد الحرص على طلب اللغة الصحيحة وإتقان أساليب العرب الأقحاح وتقليد فحول المتقدمين. وزاد هذا الحرص شدة اشتغال الأعاجم أنفسهم بالأدب وجدهم في تحصيل لغة العرب ولسان الكتاب المنزل، وسبقهم في العلوم والتأليف، وتفاصحهم بمحاكاة أدب الجاهلية وصدر الإسلام، وتظاهرهم بالقدرة على التصرف في الألفاظ والتراكيب، فكان همهم صحة التعبير وبلاغته قبل صدق المعنى وعمقه
ومما زاد الأدباء انصرافاً إلى اللفظ وتجويده واختيار الأسلوب والافتتان في صياغته وتحويره، انتشار المدح والتكسب بالأدب، فإنه لما كانت الفضائل الإنسانية، ولاسيما تلك التي كانت مشهورة مطلوبة في المجتمع الإسلامي، محدودة معروفة، كان مجال القول فيها محدوداً ومجال الابتكار ضيقاً، فطلب الشعراء المداحون السعة في جانب اللفظ، يتأنقون في تزويقه وترصيعه، ويعتاضون عن الابتكار في المعاني بالأوزان الرشيقة والقوافي الرخيمة والتشبيهات اللبيقة، والتقسيم والمقابلة والسجع والتجنيس. وبهذه المحسنات البديعية - ما راق منها وما سمج - تحفل مدائح أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي وابن الرومي، إذا جردت من زيناتها اللفظية لم يبق من نسيبها الاستهلالي ومدحها المغرق شئ ذو بال؛ من ذلك قول أبي تمام في مدح بعض القواد، ولا داعي لذكر اسم ذلك القائد أو صفته، فما كان لكل ذلك أي دخل في نظم مثل ذلك القصيد:
وجرد من آرائه حين أضرمت
…
به الحرب حداً مثل حد المناصل
وسارت به بين القنابل والقنا
…
عزائم كانت كالقنا والقنابل
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى
…
بعقبان طير في الدماء نواهل
فكل هذه المعاني الدائرة حول شجاعة القائد وأمرائه التي تفوق الجيوش، وعزائمه التي تفل السيوف، والعقبان التي تتبع أعلامه لتنهل من دماء أعدائه، كل هذه المعاني مطروقة من قبل أبي تمام، مذكورة بعده في ميمية المتنبي المشهورة وغيره من مدائحه لسيف الدولة، ولا غرو فقد غدت أكثر معاني الأدب في أبواب المدح والهجاء والفخر والوصف والحكمة
وغيرها، تراثاً متداولاً بين الشعراء من جيل إلى جيل، إذا تفنن الشاعر صاغ بعضه صياغة جديدة أو ولد منه بعض التوليد، فإذا اتفق له أن صاغ معنى قديماً صياغة جديدة يفوق صياغة صاحبه الأول صفق له النقاد وقالوا سرقة مغفورة ولص ظريف هو أولى بالمعنى من صاحبه لأنه أجود لفظاً، كما قيل في بيت البحتري في مدح المتوكل:
فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما
…
في وسعه لمشى إليك المنبر
أخذه وتصرف فيه من قول أبي تمام:
تكاد مغانيه تهش عراصها
…
فتركب من شوق إلى كل راكب
كان الشعراء إذا صرفوا القول إلى المديح أتوا بالمعاني الجوفاء الهزيلة، واحتفوا باللفظ يدارون بزخارفه ركاكة المعنى، وكان أكبر شعراء العربية في طور الأدب الفني مداحين، فامتلأ الأدب العربي بذلك الضرب السقيم المعاني الطنان الألفاظ؛ وإنما كان الشعراء يبتكرون المعاني الجيدة يلبسونها من اللفظ أجمل لبوس حين ينظمون في غير المديح من الوجوه التي يدفع إلى النظم فيها شعور صحيح وفكر ثاقب، فكانت من ذلك حكم المتنبي وأوصاف ابن الرومي ونظرات المعري، كما ظهرت في الأدب العربي تلك الظاهرة الفريدة، وهي أن أشعار كثير من المقلين وممن يعدون في الطبقة الثانية من الشعراء كالصولي والإمام الشافعي، تروع النفس بصدقها وحصافتها، أكثر مما تروعها أشعار المكثرين المشهورين، لأن أولئك المقلين كانوا لا ينظمون الشعر إلا تلبية لحافز نفسي، وهؤلاء المكثرين كانوا ينظمون ابتغاء التوال
ومن عوامل احتفاء أدباء العربية باللفظ أيضاً، أن الأدب العربي في ظل الدولة الإسلامية كان أكبره أدباً بلاطياً وأرستقراطياً، مكفوفاً عن شؤون المجتمع، منزوياً عن أكثر مواضيع القول ومجالات الفن ومسارح الأدب، من وصف الطبيعة والتأليف التاريخي الفني ووصف آثار الأقدمين في عالم الحضارة والفنون، وسبحات الخيال في عوالم الحقيقة والخرافة، وتصوير آثار الرحلات والمغامرات، فلما حرم الأدب طرق هذه المواضيع الجمة الخصبة الحافلة بمنادح التفكير والشعور والقول، لم يبق لديه كبير مجال للابتكار في المعاني، فتوفر على الافتنان في الألفاظ يدور بها في مجالاته المحدودة الموروثة عن المتقدمين.
وزاد مجال القول ضيقاً حرمان الأدب العربي من الاطلاع على الأدب اليوناني؛ فلو كان
على اتصال مستمر بذلك الأدب، لتمهدت أمامه منادح للقول من جهة، ولانصرف اهتمامه من جهة أخرى إلى المعاني دون الألفاظ، لأن المعاني دون الألفاظ هي التي تتشارك فيها آداب الأمم المختلفة، أما أدباء العربية الذين لم يطلعوا على أدب أجنبي راق، فكان اعتدادهم بتفوق اللغة العربية على اللغات شديداً، وكانت ألفاظها وتعبيراتها تقوم في مخيلتهم مقام الحقائق المتحجرة، وكان التجويد في استخدام تلك الألفاظ والتعبيرات في الأبواب المطروقة من قديم غاية الأديب، فظل بيت زهير بن أبي سلمى الذي قاله في عهد البداوة، يصدق على شعراء العربية في أوج عهد الحضارة والثقافة:
ما أرانا نقول إلا معاراً
…
أو معاداً من قولنا مكروراً
ثم لاشك في أن حياة الترف وزخارف العيش التي انغمس فيها العرب بعد الفتوح، وأبهة البلاط التي كان الأدباء يحومون حولها ويتزاحمون في مواكبها، كانت من أسباب شيوع الزخرف في الأدب الذي هو مرآة للحياة المحيطة به، فإذا كان الأدب الفارسي قد كان في ذلك العهد من الضآلة بحيث لم يؤثر كثيراً في أدب العرب، فقد أثر الفرس في الأدب العربي بمظاهر الترف والبذخ المادية التي نقلها عنهم العباسيون وتركت آثارها في الأدب، وهذا الترف الأدبي كالترف المادي دليل الرخاوة والضعف، والسير إلى الانحلال.
وقد ساعدت طبيعة اللغة العربية ذلك الميل الذي غلب على أدبائها، الميل إلى التأنق في اللفظ، وتثقيله بالمحسنات التي ينوء المعنى تحتها ويتضاءل، وذلك لما للغة العربية من بلاغة أصيلة وموسيقى فخمة، وما لألفاظها وتراكيبها في النفوس من روعة وبهاء، وما لأوزان الشعر العربي وقوافيه من رصانة وجلال، وما للغة من ثروة طائلة وغنى بطرق الاشتقاق وامتلاء بالمترادفات، واتساع لصنوف التشبيهات والمجازات، بحيث يستطيع المتمكن من كل هذا أن يجمع حوله المستجيدين ويستولي على الألباب، دون أن يبتدع في المعنى أو يتعمق في الشعور. كما تصرفك عذوبة اللحن الموسيقي عن تفاهة المعنى المتغنى به؛ وقد استغل كتاب العربية كابن العميد والصاحب والبديع والحريري ثروة اللغة هذه أبعد استغلال، وجاءت رسائلهم ومقاماتهم معارض مائجة بتلك الكنوز العظيمة
ففي الأدبين العربي والإنجليزي آثار بالغة حد الفن من الصدق والعمق والجمال، تجمع بين حرارة الشعور وجودة الأسلوب؛ غير أن الأدب العربي لإحاطة تلك الظروف والعوامل به،
أحفل من الأدب الإنجليزي بالآثار التي يغلب فيها اللفظ على المعنى، وتظهر الصنعة على الطبع، وتبدو في دلائل الاحتفاء بالأسلوب واضحة، حتى في مخلفات أكبر أدبائه وأعظمهم حظاً من النبوغ والشاعرية. ويعد بين أقطابه أفراد لم تؤثر عنهم فلسفة في الحياة خاصة أو شخصية مستقلة، ولم يرفع ذكرهم إلا اقتدارهم على تصريف الكلام، ويمتلئ الأدب بآثار أولئك الأدباء التي تعجب بحلاوة أسلوبها وإن لم تعجب بعمق فكرتها، فلسنا نسرف إذا قلنا في الجملة إن الأدب العربي كان أدب أسلوب، والأدب الإنجليزي أدب معنى
فخري أبو السعود
الحياة على الكواكب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لقد خطا علم الفلك خطوات فسيحة أنارت للإنسان وأثارت دهشته وأذهلته وأصبح بفضل ما اخترعه من الآلات الدقيقة ومن جمعه بين مبادئ العلوم الطبيعية والكيماوية واستعانته بالرياضيات ومعادلاتها من معقدة وغير معقدة، أقول بفضل هذا كله استطاع العلماء أن يجلوا بعض المشكلات وأن يتفهموا بعض أسرار الكون.
من كان يتصور أن الإنسان يستطيع أن يعرف شيئاً عن تريب الشمس والأجرام السماوية، حتى الفيلسوف (كنت) وهو العالم ذو النظر الواسع والبصيرة النافذة لم يخطر على باله أن الإنسان سيصل إلى ما وصل إليه في علم الأفلاك فقال:(سيبقى الإنسان جاهلاً حقيقة تركيب الشموس ومعرفة عناصرها.) أما الآن فبفضل المختبرات والمراصد وما تحويه من آلات ومعدات عرف الإنسان بعض الشيء عن النجوم والكواكب والعناصر التي تتألف منها ووقف على خصائصها وقاس حرارتها.
لقد ثبت للعلماء من دراساتهم للأجرام السماوية أنه ما من عنصر موجود في تركيب هذه الأجرام إلا وفي الأرض ما يقابله، وأن الذرة بكهاربها وبروتوناتها وحركات هذه حول بعضها وحول الكهارب تشبه النظام الشمسي والنظم الشمسية الأخرى، أي إن الكون الأعظم يتألف من أكوان أخرى متشابهة في التركيب والبناء، وأن هناك تناسقاً ووحدة مادية كونية، فالنجوم والجزر الكونية، والشهب والنيازك والمذنبات وغيرها - كل هذه تتركب من العناصر الكيمياوية التي نعرفها وأن هناك قوانين تسودها ونواميس تسيطر عليها وعلى حركاتها، وأنه ما من شئ إلا يسير في دائرة من الأنظمة لا يتعداها ولا يشذ عنها؛ ولكن على الرغم من هذا كله ومن وقوف الإنسان على بعض الحقائق عن الكون لا يزال هناك أبواب مغلقة يحتاج فتحها إلى تعمق وجهود متواصلة. ومن الغريب أن الإنسان كلما تقدم في البحث انفتحت أمامه أبواب جديدة من المعرفة وزاد اعتقاداً بضآلته وإيماناً بأنه لا يزال على عتبة اليقظة العقلية.
وهناك أسئلة لم يستطع أحد الإجابة عليها؛ ويظهر أن أمام هذه الأسئلة صعوبات وعقبات لا يزال العلماء يجاهدون للتغلب عليها واقتحامها بما يكتشفونه من قوانين ونواميس، ومما
يخترعونه من آلات وأدوات. وقد يكون السؤال الآتي من أكثر الأسئلة التي شغلت الناس وعلماء الفلك على السواء. هل يوجد في الأجرام السماوية أو في بعضها حياة كحياتنا؟ أم هل في الكون عوالم مسكونة غير الأرض؟ وعلى الرغم من معرفة الإنسان كثيراً عن خصائص الكواكب والنجوم فإنه لم يستطع أن يصل في مسألة (سكنى الكواكب) إلى نتيجة قاطعة. ويعود السبب في ذلك إلى عوامل عديدة أهمها: عدم تمكن الإنسان من اختراع آلات يستطيع أن يعرف بوساطتها وجود حياة على الأجرام السماوية. فقد يكون في بعض الأجرام حياة، وقد لا يكون؛ وقد تكون الحياة عليها من نوع لا نعرف كنهه أو ندرك حقيقته. وبحثنا الآن يدور حول الحياة على الكواكب التابعة للنظام الشمسي؛ ونعني بالحياة الحياة التي تماثل الحياة على سطح الأرض ولا شأن لنا بغيرها إن كان في الوجود أحياء أو حياة من طراز آخر. فالأرض كما لا يخفى هي بنت الشمس وهي أحد أفراد الأسرة الشمسية تدور حول أمها (الشمس) كما يدور أيضاً بقية شقيقاتها (السيارات).
وهذه السيارات، بما فيها الأرض، انفصلت عن الشمس ثم كونت كل واحدة منها فلكاً تدور عليه. وقد مرت ملايين السنين قبل أن أصبحت الأرض في حالة صالحة لظهور الحياة عليها. ولابد أن التطورات التي مرت عليها الأرض مرت (وتمر) على سيارات أخرى، وقد أدت (وتؤدي) إلى نفس النتيجة على غيرها من الأجرام، ولكن باستطاعة العلم من دراسة بعض السيارات أن يجزم بأن التطورات عليها لم تصل إلى درجة يصلح معها ظهور حياة أو أحياء.
فإذا أخذنا عطارد وهو أقرب السيارات إلى الشمس نجد أنه لا يحيط به جو وكذلك للسيار بلوتو (وهو أبعد السيارات المعروفة عن الشمس) لا يحيط به جو. وهذان السياران صغيرا الجرم إلى درجة أن جاذبيتهما لا تستطيع أن تحتفظ بالذرات الهوائية التي تفلت وتخرج إلى حيث الجاذبية أقوى. وينتج عن هذا عدم وجود أجواء على الأجرام الصغيرة.
أما المشتري وزحل فحول كل منهما غلاف جوي يمتد إلى آلاف الأميال؛ ويحدث هذا الغلاف ضغطاً عظيماً إلى درجة أن الغازات لا تستطيع تحت تأثيره أن تبقى في حالة غازية بل لابد لها من أن تتميع.
ويرجع السبب في وجود هذا الغلاف الجوي حول هذين الكوكبين وحول أورانوس ونبتون
أيضاً إلى كبر أجرامهما. فكلما كان جرم الكوكب كبيراً استطاع (بفضل قوة جاذبيته) أن يحتفظ بالغازات حوله ومنعها من الانفلات.
وعلى ذكر أورانوس ونبتون نقول إن البرودة عليهما أشد من البرودة على زحل والمشتري، ويحتوي غلافهما الخارجي على غاز المستنقعات أكثر مما يحتوي على غاز النشادر. ويعلل العلماء ذلك بأن النشادر لا يبقى في حالة غازية في برودة كالبرودة الموجودة على أورانوس ونبتون.
يتبين مما مر أنه لا يمكن أن تكون بيئة هذه الكواكب الستة صالحة لظهور الحياة عليها، إذ كيف يمكن أن تكون صالحة وبعضها خال من الهواء والبعض الآخر محاط بالأجواء التي تمتد إلى آلاف الأميال محدثة من الضغط ما يستحيل معه وجود أحياء أو حياة. بقي علينا أن نبحث عن الزهرة والمريخ وهما الكوكبان اللذان نجد فيهما بيئة أصلح من غيرهما لظهور الحياة أو لسكنى الأحياء على سطحهما. فالزهرة يحيط بها جو ملئ بالغيوم حتى يصعب رؤية سطحها من ورائه؛ ولم يستطع العلماء أن يتأكدوا من وجود أوكسجين أو بخار ماء؛ ولكن ثبت لديهم وجود ثاني أوكسيد الكربون بكميات كبيرة تفوق الكميات الموجودة في جو الأرض. وثبت للفلكيين من دراسة هذا الكوكب أنه أصلح من غيره من حيث إمكان ظهور حياة عليه، فليس هناك من العوامل الطبيعية والجوية ما يجعل عليه الحياة مستحيلة.
وأما المريخ فقد شغل الناس وشغل علماء الفلك أكثر من أي جرم سماوي آخر؛ واختلفت الأقوال فيه وفي خصائصه ومميزاته، وكثر التحدث عن هذه الأقوال، وراحت الصحف والمجلات تكتب عنه كأنه مسكون، وراحت تصف سكانه وأحوال معيشتهم فقال بعضهم إن سكانه احتفروا ترعاً لري مزروعاتهم، ترعاً هي في الإتقان غاية في البناء آية يعجز أهل الأرض عن محاكاتها وعن الإتيان بمثلها ولو اجتمعوا لذلك
والمريخ أكبر من القمر وأصغر من الأرض، تشرق عليه الشمس كما تشرق على الأرض وتعطيه نوراً وحرارة. ويقول السر روبرت بول: (إن صغر كوكب المريخ يزيد صلاحيته لإقامة الأحياء التي لها حركات مستقلة؛ فثقل الأجسام على سطح المريخ أقل من ثقلها على الأرض، حتى إذا أردت الطيران مثلاً لم تجد فيه من الصعوبة ما تجده فوق سطح
الأرض) وهو الذي يقول أيضاً (والمريخ من حيث جرمه ليس فيه ما يمنع كونه داراً للأحياء. . .) وعلل البعض الظاهر التي تحدث في فصل الشتاء بأن بقعاً بيضاء تتكون على كل من قطبيه ثم تضيق هذه البقع بالتدريج حينما يقرب فصل الصيف. وقال آخرون إن في المريخ ماء، وإن هذا الماء يتجمد ويصير ثلجاً عند القطبين. وهناك من العلماء من ينفي هذه الأقوال ويقول إنها من وحي الخيال.
وليس في المريخ بحور واسعة كبحور الأرض، فسطحه بر لا بحر فيه، يتعاقب عليه الليل والنهار كما يتعاقبان على الأرض؛ ويومه أطول بقليل من يوم الأرض، وله غلاف من الهواء يحيط به، ولكنه لطيف جداً بالنسبة إلى هواء الأرض، وهو يتركب من الأوكسجين وبخار الماء، ولاشك أن كمية الأوكسجين الموجودة في جو المريخ أقل بكثير من الكمية الموجودة في جو الأرض. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أنه مادام الأمر كذلك (أي قلة الأوكسجين) فلا مجال لظهور الحياة عليه، ولكننا نقابل ما تبادر إلى الذهن بالقول أن الأحياء الأرضية وجدت الأكسجين فاستخلصته بالانتخاب الطبيعي لأنه أصلح من غيره لتوليد القوة باتحاده مع الكربون، أي أن الأحياء تهيئ نفسها للأحوال التي توجد فيها، وعلى هذا فلسنا في وضع نستطيع معه الجزم بأن كمية معينة من الأوكسجين، أو أن الأوكسجين ضروري للحياة لا غنى لها عنه، فقد تكيف هذه الأحياء نفسها إلى الوضع الذي توجد فيه، وتستخدمه لما فيه نفعها واستمرار حياتها
ويقول الأستاذ (لول) وهو الذي درس المريخ أكثر من غيره وإليه ترجع أكثر معلوماتنا عنه - يقول إن سكان المريخ أرقى من سكان الأرض، ويستدل على ذلك بهندسة الأقنية العجيبة (الموجودة على المريخ)، ويجد في صنعها المثير للإعجاب ما يؤيد رأيه وأقواله
وعلى فرض وجود أحياء على سطح المريخ فصغر جرمه وما ينتج عن ذلك من ضعف للجاذبية - كل هذا يقضي بأن تكون تلك الأحياء كبيرة الحجم بالنسبة إلى الأحياء الموجودة على سطح الأرض، كما إن كبر جرم الكوكب يقضي بوجود أحياء (إن كان ثمة حياة) صغيرة الجرم. . .
وعلى العموم فالزهرة والمريخ أصلح الكواكب لسكنى الأحياء عليهما، وليس هناك من العوامل ما يمنع وجود حياة كحياتنا على سطحهما؛ وحالة الزهرة الآن هي الحالة التي
كانت عليها الأرض قبل ملايين السنين، كما إن حالة الأرض بعد ملايين السنين ستكون مشابهة لحالة المريخ الآن؛ إذ يقل الأوكسجين وتقل الحرارة التي تأتيها من الشمس. وقد يكون هذا هو السبب في تعليل تفوق سكان المريخ (إن كان في المريخ حياة) على سكان الأرض؛ وقد يكون أيضاً هو السبب الذي دفع البعض إلى تعليل تقدم سكان المريخ في الحضارة ووسائل الرفاهية والمهارة في البناء والإنشاء.
والآن. . . وقد أنهينا الكلام عن الكواكب التابعة للنظام الشمسي نقول إن في الكون نجوماً وشموساً لا عدّ لها، ولهذه كواكبها وما يتبعها من مذنبات وشهب ونيازك. ولقد دلت المراصد على وجود 75 مليوناً من العوالم التي تشبه عالمنا، وآلاف الملايين من النجوم. وكلما تقدم الإنسان دقة في آلات الرصد تجلى له اتساع الكون بصورة أوضح وأجلى، وثبت له أن ما كشفه من الكون إن هو إلا جزء ضئيل جداً مما لم يستطع اكتشافه بعد. فكون هذه حالته وهذا اتساعه لمن الطبيعي أن يكون في من الكواكب ما اجتاز (ويجتاز) الأدوار التي مرت (وتمر) على الأرض. ومن المحتمل جداً أن تكون بيئة بعض هذه الكواكب صالحة لسكنى أحياء أو ظهور حياة عليها
وأخيراً إذا سئلت عن رأيي في مسألة الحياة على الكواكب لاكتفيت بالجواب الآتي:
ليس الغريب أن تكون بعض الأجرام السماوية مسكونة وعامرة بالأحياء، بل الغريب ألا تكون كذلك
قدري حافظ طوقان
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 7 -
الديانة المصرية - الحياة الآخرة
اعتقد المصريون منذ أقدم عصورهم بخلود الروح وبأن هناك حياة آخرة يجازى فيها المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته. والمنطق الذي استندوا إليه في هذه العقيدة، هو أن هذه الحياة الدنيا مزيج من الخيرات والشرور، وأن المشاهد أن هذه الفترة القصيرة التي يعيشها الإنسان على الأرض، ليست جديرة بتحقيق مكافآت الأخيار، ولا عقوبات الأشرار. وإذن فالمنطق يقفنا أمام أمرين لا ثالث لهما، وهما: إما أن تكون هناك حياة أخرى يوفى فيها الأخيار والأشرار جزاء أعمالهم في دقة وعدالة، وإما أن ينتهي كل شئ بمجرد انتهاء هذه الحياة. وفي هذه الحالة الأخيرة لا يتحقق تقدير الفضيلة والرذيلة، ولا يمتاز الخير عن الشر بأية ميزة. وبذلك تنتفي عن الإله صفة العدالة، وما انتفت عنه هذه الصفة لحقه النقص، ومتى لحقه النقص فقد انهارت ألوهيته من أساسها، وإذن فالحياة الأخرى من لوازم الألوهية نفسها
أما طريق معرفة الخيّر من الشرير فهي أن يؤتى بأعمال كل منهما الدنيوية المقيدة في سجل أمين لم يدع منها كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ثم يجلس المسئول أمام محكمة (أوزيريس) الذي نكتفي أن نسوق إليك في وصفها ما كتبه الأستاذ (بريستيد):(وتتكون محكمة أوزيريس في عقيدة القوم من اثنين وأربعين قاضياً يجلسون أمام المعبود كالزبانية يمثل كل منهم قسماً من أقسام مصر، فإذا دخل المتوفى أمام المحكمة وأنكر أمام كل قاض إثماً من آثامه، يوزن قلبه في ميزان مقابل ريشة العدالة، للتأكد من صدق قوله، أما الآثام التي يتبرأ منها الميت أمام محكمة أوزيريس فهي بعينها الآثام المستهجنة في عهدنا هذا. وهاك بيناً موجزاً لتلك الآثام: السرقة، والقتل، والاختلاس (وبالأخص السلب)، والكذب، والخداع، وشهادة الزور، والرياء والتنابذ بالألقاب والتجسس، وعدم الاعتدال في الأمور
الجنسية، وامتهان كرامة المعبودات أو الأموات كالكفر بهم، وسرقة أمتعة الموتى. ومن هذه القائمة يستدل على عظم الرادع النفسي عند المصريين وقتئذ استنكاراً للمنكرات. وعليه فالمصريون هم أول قوم اعتقدوا برتب الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية. ويرجع هذا الاعتقاد في الحقيقة إلى المملكة القديمة. والغريب أن هذه العقيدة انحصرت في المصريين أكثر من ألف سنة في حين أن البابليين والإسرائيليين اعتقدوا أن انتقال الموتى عموماً إلى سقر المعرفة باسم (شول) واعتقد المصريون أن الأموات الذين تحكم عليهم محكمة أوزيريس بالإجرام يعرضون للجوع والعطش ويحجزون في أماكن مظلمة لا يبصرون فيها ضوء الشمس. وفي المحكمة طريق أخرى للقصاص، منها حيوان بشع له رأس تمساح ومقدم أسد ومؤخر دب البحر يفترس المجرمين الآثمين. وأخذت آراء القوم في عهد المملكة الوسطى تحوم حول تطهير النفس من المعاصي والمظاهر التماساً للبراءة بعد الوفاة وتجنباً للعقاب الأليم، فأصبحت ترى الكثير من نقوش شواهد القبور شديدة الشبه بما ألمعنا إليه في عهد المملكة القديمة، وهي تتلخص في أن الميت يطعم الجوعان ويروي الضمآن ويكسو العريان وينقل في سفينته من ليس له سفينة. وجاء على بعض الشواهد أن المتوفى كان أبا اليتيم وزوج الأرملة وملجأ الذي لا ملجأ له مما أشرنا إليه حين تكلمنا على كرم وسخاء حكام الأقسام والشخص الذي تبرئه الحكمة أوزيريس تلقبه بالرجل الطاهر العادل أو صادق القول أو المنتصر)
فإذا فرغ (توت) - وهو الذي تصوره لنا الآثار حاملاً الميزان في يده - من مهمته أمر بهذا المسئول فيساق إلى ذلك الصراط المخوف الذي مد فوق الجحيم والذي إذا اجتازه الشخص نجا وارتقى إلى جوار الآلهة والفراعنة الأبرار، وإذا هوى من فوقه سقط في واد سحيق ممتلئ بالأفاعي والحيات التي تتولى تعذيبه بقسوة حتى ينال قسطه من الجزاء
ومن الغريب أن المصريين مع إيمانهم بهذه العدالة الصارمة في الحساب ووزن الأعمال كانوا يعتقدون أن تلاوة الرقى والتعاويذ وكتابتها على تابوت الميت أو على حوائط قبره تستطيع أن تنفعه أمام محكمة أوزيريس فتزيد في نعيمه وتخفف من عذابه، وهذا هو معنى قول المحدثين:(الرحمة فوق العدل). وقد كتبت هذه التعاويذ في كتاب (الموتى) وكتاب توت الذي ألمعنا إليه آنفاً.
عقائد وطقوس دينية
اعتقد المصريون - كما أسلفنا - بالبعث والحشر والحساب على الأعمال والميزان والصراط والنعيم والجحيم، وآمنوا كذلك بأن هذا النعيم درجات، أدناها المتع المادية، وأعلاها الذهاب إلى جوار الآلهة أو الصعود بواسطة السلم الإلهي من مملكة الموتى إلى مملكة (رع) حيث يقيم الصالحون والمقربون مقاماً أبدياً لا مرض فيه ولا تعب ولا موت ولا فناء. واعتقدوا أن في الجحيم كذلك درجات بعضها خفيف وبعضها قاس، وأن بها ثعابين وحيات وتنينات تتولى تعذيب الآثمين بقدر ما يرسم لها إله الجحيم.
هذا كله في الآخرة، أما في الدنيا فمن طقوسهم الدينية أنه إذا مات الميت يجب أن يغسل بالماء النقي وأن يكفن ويدفن بعد أن يلقنه الكاهن ما كانوا يسمونه بالرقى المنجية التي تحميه في القبر من الأرواح الشريرة وتكفل له في الآخرة رحمة الآلهة، وأن تكتب تعاويذ (توت) على تابوته وجدران قبره إن كان من ذوي الحيثيات كأن يكون ملكاً أو أميراً أو كاهناً أو وزيراً أو موظفاً كبيراً أو أديباً أو طبيباً مثلاً، أما إن كان من أبناء الطبقات الدنيا، فإن هذه التعاويذ تكتب على كفنه أو في ورقة بردية تدفن معه.
ومن هذه الطقوس أيضاً تضحية الحيوانات على قبر المائت ووضع بعض لحومها مع الخبز والماء والفاكهة والنبيذ في داخل القبر، وأن يتولى تقديم هذه الضحايا أحد الكهنة، ليتقبلها أوزيريس فيضمن أهل الميت بهذا القبول لمتوفاهم الرحمة والغفران
رأى بعض الباحثين الغربيين أن هذه العقائد الفرعونية من: بعث وحشر ووزن وثواب وعقاب ونعيم، بعضه مادي وبعضه معنوي، وعذاب يتفاوت بتفاوت درجات الآثام والشرور، وأن تلك الطقوس الوثنية من: غسل الميت وتكفينه وتلقينه ودفنه ونحر الضحايا بمناسبة موته، كل هذا يوجد بحذافيره في بعض الديانات التي تدعي لنفسها السماوية فرموا هذه الديانات الأخيرة باستقائها عقائدها وطقوسها من تلك الديانة الوثنية لا من عند الله كما تدعي
ولست أدري كيف يستسيغ أولئك الباحثون هذا المنطق العجيب مع اعترافهم بالجهل التام للأصول الأولية في الديانة المصرية؛ وما المانع من أن يكون مصدر هذه الأصول المجهولة لديهم هو: السماء، وأن يكون التوثن والتعدد عارضين لها بعد التأليه والتوحيد؟
وفي هذه الحالة يكون من الطبيعي أن تتفق مع الديانات السماوية في جميع العقائد والطقوس التي لم ينلها التحريف؛ ثم ما المانع كذلك من أن تكون تلك الطقوس مستحدثة في الديانة المصرية لا يصعد مبدؤها على سلم التاريخ إلا إلى العهود التي اختلط فيها المصريون بالساميين واقتبسوا منهم بعض طقوسهم الدينية؟ هذه كلها احتمالات جائزة الوقوع، ولكن الذي لاشك فيه هو أن اتفاق ديانة وثنية مع أخرى سماوية لا يقوم برهاناً على أخذ الثانية من الأولى، ولا يصح الاستناد إليه في الحيلولة بينها وبين سماويتها
الأخلاق
آمن المصريون - كما قدمنا - منذ عهود تقصر عن إدراكها مجهودات التاريخ بأن لهذه الأكوان منشئاً أو منشئين خلقوها ونظموها وهم يتولون تصريف شؤونها بحكمة واقتدار وعدالة وإنصاف. ولأمر ما، اقتنع المصريون منذ أقدم عصورهم بأن هؤلاء الآلهة المتصرفين في الأكوان اختاروا في مبدأ الدنيا عرش مصر واتخذوه مقراً لهم يصدرون من فوقه أحكامهم وأوامرهم النافذة التي لا يجرؤ أي فرد من أفراد الوجود على التمرد عليها أو عدم الانصياع لها؛ ثم عن لهؤلاء الآلهة أن يغادروا عرش مصر إلى عرش السماء ففعلوا، ولكن بعد أن استخلفوا على هذا العرش العزيز أبناءهم وأحفادهم الفراعنة العظماء وزودوهم بكل ما يحتاجون إليه في حكمهم للبلاد وسياستهم للدولة وقيادتهم لجميع أنحاء النظم الاجتماعية والأخلاقية التي لا تسير بالبلاد إلا إلى التقدم والعمران، وأن أولئك الآلهة سيلحظون الحاكمين والمحكومين بعنايتهم ويكلئونهم بعين رعايتهم ماداموا يقومون بواجباتهم نحو أولئك الآلهة المحسنين. وكان هذا القيام بالواجب يتلخص في الشعائر الدينية وفي الاتصاف بالفضائل الأخلاقية، وأولها الولاء للعرش والعدالة والصدق والأمانة والرحمة والإحسان وأشباهها
ولا ريب أن هذه الأسطورة - على بطلانها - كانت أقوى العوامل وأهم الأسباب في رقي مصر العمراني، وتماسكها الاجتماعي وجلالها السياسي، وسموها الأخلاقي، واطراد تقدمها في العلم والأدب والفنون الجميلة والصناعات النافعة.
ومن الطبيعي أن الأمة التي تعتقد أن نجاحها في الدنيا وفوزها في الآخرة مترتبان على الفضائل لا تألو جهداً في أن تكون أمة فاضلة خيّرة، وهذا هو الذي حدث بالفعل، فقد
انتشرت الفضائل في وادي النيل انتشاراً قوياً وعظم الخاصة والعامة معتنقيها وكافأهم الملوك على حسن سلوكهم بجلائل النعم وأعاظم المنح كما ضرب على الرذائل والشرور بأيد من حديد، وأصبح أفراد هذه الأمة جميعهم يفخرون بالفضائل ويتبرءون من الرذائل لا فرق في ذلك بين فرعون على جلاله وبين الفلاح أو العامل الحقير. وإليك شيئاً من نصوص تصوير هذا العصر الغابر، ومقدار تمسكه بالفضائل وأثر ذلك التمسك في حياته:(واعتقد القوم إن الوصول إلى حقول الخيرات الأخروية يكون بالاهتمام بالشعائر الدينية والاعتناء بها، وبتوالي الأيام اعتقد الناس أن النعيم الأخروي يكافأ به من يحافظ على طهارة الذمة والشرف والأعمال الصالحة في الدنيا. من ذلك ما ورد في مقبرة أحد أمراء الأسرة الخامسة مترجماً: (لقد شيدت مقبرتي بغاية العدل والحق فلا شئ فيها يستحقه غيري، وأنا لم أوذ أي شخص). وما ورد أيضاً من النقوش على جدر مقبرة لأحد أبناء تلك العصور مترجماً: (أنا لم أعاقب قط في حياتي أمام رجال الحكومة ولم أسرق شيئاً من غيري؛ بل فعلت كل ما يرضي غيري). ولم تقتصر نقوش مقابر تلك العصور على إنكار السيئات، بل شملت أيضاً فعل الخيرات كما ورد على جدار مقبرة وجيه في الأسرة الخامسة مترجماً:(كنت أقدم الخبز لفقراء إقليمي، وأكسو عراته، ولم أوذ أحداً طمعاً في أملاكه حتى اشتكاني إلى معبود بلده، ولم أسمح لضعيف أن يخشى بأس قوي فيتظلم من ذلك للإله).
ومما ورد في موضع آخر تعزيزاً لما قدمناه ما يلي: (ومنه يتضح أن القوم وقتئذ أخذوا يعتقدون بوجود محاكمة في الآخرة أمام (أوزيريس) وأن هذه العقيدة أحدثت تأثيراً أدبياً عظيماً في نفوس المصريين، فإنهم وإن كانوا حقيقة منذ قديم الزمن ذوي ضمائر ونفوس رادعة إلا أنهم كانوا في احتياج إلى زجر قوي كالوارد في عقيدة أوزيريس. لذلك نشاهد بين نقوش دهاليز أهرام أمراء الأسرتين: الخامسة والسادسة تحذير كل من يستولي على مقابرهم بأنه سيحاكم على أفعاله أمام المعبود الكبير، كما ورد في مقبرة أخرى ما يشيره إلى تجنب الكذب كلية رغبة في رضاء المعبود وقت الحساب. كل هذه الحقائق وجدت مدونة بين أقدم نصوص الموتى المعروفة الآن بمصر
ومما لاشك فيه أن اتصاف المصريين بالفضائل والخيرات يرجع إلى أوائل عهدهم بالتعقل
والتفكير. ونحن بهذه المناسبة لا نوافق الأستاذ (بريستيد) على قوله: إن الواجب الديني كان في أول أمره مقصوراً على الشعائر ثم تحول بعد ذلك إلى تناول الفضائل. فهذا القول غير صحيح البتة، لأن المصريين لم يعرفوا الحياة يوماً واحداً بدون اعتناق الفضائل والأخلاق وإيمانهم بأنها أوامر الآلهة كانوا ينشرونها بين الناس إبان اتخاذهم عرش مصر مقراً، أي قبل صعودهم إلى السماء في الأزمان السحيقة. ولو كان قول بريستيد صحيحاً للزم أن يكون الآلهة قد شغلوا زمناً عن الأمر بالفضائل ولم يهتموا إلا بشعائرهم الدينية، وهذا منقص لشئونهم، حاط بعظمتهم مما لم يشعر به المصريون يوماً واحداً
(يتبع)
محمد غلاب
دالت دولة الشعر
للأديب هلال احمد شتا
تصاحب هذه الحقيقة المرة رأسي منذ زمن بعيد، ويقوم بيني وبين نفسي من أجلها جدال عنيف؛ فلا أنا قادر على أن أفلتها لتجد لها مكاناً عند غيري، ولا على أن أدعها تقض مضجعي وتلهب رأسي. . وليس شك في أني تركتها تؤرقني طوال هذا الزمن، فلم أفض بها إلى مثل هذه السطور، خوفاً على نفسي وإشفاقاً وفرقاً. . فكلما تمثل في خيالي وصح في ذهني أن مئات من الناس يبقون على هذه الصناعة - صناعة الشعر - ويخلصون لها، ويؤمنون بها، ترددت في الكتابة، ثم أحجمت. .
على أنني - وقد آمنت بهذه الحقيقة منذ كان شوقي قائماً بيننا يملأ الدنيا صدحاً وتغريداً، ومنذ كان غيره من فحول الشعر لا يزالون في الميدان صوالين جوالين - أحسبني اليوم قادراً على أن أبوح بما آمنت به، بعد أن خلت عرائن الأسود إلا من الأشبال، وبعد أن تقدم بنا العصر بضع خطوات كفيلة بأن تقصي على دولة الشعر أي قضاء. .
ذلك أن الشعر لم يصبح مما يسيغه ذوق عصرنا هذا، ولا أصبح قادراً على أن ينهض على قدميه أو يواصل سيره في سبيل البقاء. وسأحاول على هذه الصفحات على أن أبسط ذلك بعض البسط، مترفقاً في محاولتي عازفاً عن المبالغة. وفي يقيني أنني سأخرج من هذه الكلمة الهادئة، وإلى جانبي غير قليل من القراء الكرام. . فأما الشعراء والمؤمنون بهم، فلست أخشى اليوم نقمتهم أو أشفق مما عساهم يفعلون.
ولقد يدرك القارئ أني لا أحاول أن أنتقص من قدر الشعر القديم أو أكفر برسالته، فأنا عن مثل ذلك عزوف عفيف. . ولكن الذي أقول: هو أن رسالة الجمال والفن في ذلك الشعر القديم ليست خالدة ولا باقية على الأيام؛ وبحسب الشعراء الأقدمين أنهم قاموا على تأدية هذه الرسالة في عصورهم وأزمانهم، وأنهم صوروا بشعرهم صوراً بهرت نفوس ذويهم وأقوامهم ومعاصريهم؛ بل إن تقدير الزمن قد امتد بآثارهم عصوراً أخرى غير تلك العصور. . ولكن نتاجهم هذا لم يعد راوياً لظمأنا نحن إلى الجمال، مصوراً في صور تهز نفوس أبناء هذا العصر الحديث الناظرين إلى الحياة بغير منظار السادة الأولين. . وكل ما بقي لنا من آثار ذلك السلف الكريم لا يعدو أن يكون ثروة لفظية ولغوية تقوم منا اللسان
وتبسط أمامنا سبل الحديث المستقيم، ولا يعدو أن يكون موضوعاً لدراسات أدبية، أو اجتماعية، أو نفسية، يفيد منها التاريخ، ويفيد منها رواد الأدب والباحثون في حياة الجماعات الأولى. . كيف كانت، وكيف سارت بها السنون نحو الرقي والكمال، أو نحو التدهور والقعود
وهذه اللغة العربية التي جمعت على هيكلها شعوباً وقبائل في شبه الجزيرة، كانت في حاجة إلى الشعر وهي ما زالت طفلة تحبو، شأنها في ذلك شأن كل اللغات اليافعة القريبة المولد؛ فالشعر يكاد يكون هو المظهر الأوحد للأدب أو الفن في البيئات الأمية التي تتقطع فيها أسباب الكتابة والتدوين. وكل جماعة من الجماعات الأمية محتاجة أشد الحاجة إلى وسيلة تسجل بها خواطرها المشتركة، وتعبر عن مشاعرها، وتتحدث بمفاخرها؛ ولابد من أن تكون هذه الوسيلة قادرة على إذاعة رسالتها بين الأفراد، وحثهم على أن يتلقنوها؛ ولا يستطيع كل ذلك إلا الشعر، فإن اتزانه، وتقفيته، وموسيقاه، تسوقه إلى ذاكرة سامعيه من أيسر طريق وأقصد سبيل
ولاشك في أن علم الناس بالقراءة والكتابة - بعد ذلك - يحمل عن كاهل الشعر بعض هذه الأعباء، ويحد كذلك من سلطانه شيئاً، ويسلبه بعض نفوذه العريض، ولكنه يوجهه توجيهاً سامياً نحو الفن الرفيع، وتلمس ألوان الجمال، التي تختفي في ثنايا الوجود، وتتوارى وراء أغشية الجمود
على أن الشعر لا يمكن أن يكون متفرداً بهذا التوجيه الجديد الذي دفعته إليه معرفة الناس القراءة والكتابة، لأن هذه المعرفة خلقت النثر الواسع الأجواء، الذي يلعب بسائر فنون القول، والذي أصبح بعد قليل أقدر عليها من الشعر وأقوى ساعداً. ولست بحاجة إلى أن أثبت قدرة النثر على التعبير، وتفوقه على الشعر في هذا السبيل، فذلك أمر بديهي؛ ولن يجد الكاتب الذي يسجل خواطره، أو يترجم أحاسيسه، أو يعبر عما يختلج في ذهنه من المعاني - أفسح من النثر مجالاً، ولا أوسع ميداناً لقلمه الجوال. ولن يتقيد فيما يكتب بوزن يتحتم عليه أن يرعاه، ولا بقافية تأخذ بخناق قلمه أخذاً
وأخشى أن يتحدث المفتونون بالشعر - في هذا المجال - عن روحانية الشعر، وسمو أجوائه، وروعة أخيلته، وفتنة موسيقاه، وما إلى ذلك مما يجيدون في الحديث؛ وألا يدركوا
أن روحانية المعنى، وسمو الجو، وروعة الخيال، ليست قاصرة على الشعر ولا هي وقف عليه؛ فما أجمل ما يكتب الناثرون أصحاب النفوس الشاعرة، وما أروع ما ينتجون. . وفي جنبات سطورهم المنثورة تسفر الفتنة الخالدة التي تلعب بالمشاعر لعباً. . ولن يسيء إلى هذه الفتنة الرائعة أنها محاطة بجلال الصمت، وأنها عارية عن موسيقى الشعر التي لم تعد إليها بحاجة، فلقد كانت هذه الموسيقى تهز النفوس يوم كانت النفوس لا تزال على فطرتها طفلة رخوة؛ ولكنها اليوم لم تهز نفوساً تنصت كل يوم لموسيقى الأوتار.
لقد دار الزمن دورة قصيرة المدى، فإذا الشعر يصبح قاصراً عن أداء رسالة الفن والجمال، التي وجهه إليها علم الناس بالقراءة والكتابة؛ وليس عمر الشعر العربي الصحيح الذي أدى رسالته هذه فأحسن الأداء سوى لمحة خاطفة من عمر الزمان، فلقد وقف بعد ذلك حيناً فأطال الوقوف، ولم يخط إلى الأمام خطوة واحدة، بل إنه سار إلى الوراء خطوات وخطوات، ليصبح ترديداً معوجاً لما قال الأقدمون
ولقد ذهب الباحثون يتلمسون أسباب وقفته، ويخلقون المعاذير، وراحوا يوغلون في مسالك من القول متشعبة لا تنتهي إلى مصير؛ يضرب الأكثرون منهم على وتر واحد هو وتر الخطوب السياسية التي هدت كاهل العرب والعربية والتي طوحت بآثارهم إلى مهاوي الفناء. . ومهما يكن في ذلك من الصدق أو سلامة المنطق، فإنه لا ينهض سبباً لوقفة الشعر العربي في أيامنا هذه التي شملتنا فيها موجة من الرقي في مناحي التفكير جميعاً، إلا ناحية الشعر. . والتي بلغ نثرنا فيها مكاناً فوق مكان الأولين
وفي يقيني أن وقفة الشعر هذه، وتخاذله، وسيره نحو الفناء، لا سبب له سوى أنه قد أدركته الكهولة، فلم يبق ثمة أمل في شفائه من أهوال السنين التي تستشري اليوم في عظامه وخلاياه، والتي سوف تحيله أثراً وذكرى. فليست عقولنا كهلة ولا مريضة، وإنما الشعر هو المريض المهيض؛ وما أجدبت منا القرائح ولا زايلتنا خصوبة الخيال، وإنما الشعر هو الذي يضيق عما خلفت قرائحنا المصقولة بمعول التفكير الحديث من آفاق واسعة ممدودة الأطراف. وهاهم الأوربيون - وهم من تتحدث معجزات العصر بعبقريتهم ونبوغهم في شتى جوانب التفكير، وسائر ضروب الفن الجميل - قد أدركوا منذ زمن بعيد قصور الشعر وضيق ذات نفسه، وتوجه شعراؤهم إلى ألوان من القصة والمسرحية
وغيرهما. وهاهو شعرهم آخذ سمته نحو الهزيمة القاتلة والفناء الذريع.
ويلوح أن شعراءنا المحدثين قد آمنوا بهزيمة الشعر فيما بينهم وبين أنفسهم - ولو من حيث لا يشعرون - ويلوح كذلك أن جهود شوقي الأخيرة في سبيل المسرحية الشعرية كانت مظهراً من مظاهر هذا الإيمان. وإننا لنلمس أن النثر في نتاج العقاد عشرة أضعاف الشعر أو يزيد، وأن القصة وحدها والمقالة القصيرة هما قبلة جهود المازني جميعاً - وقد كان شاعراً -
وأحمد الله على أن شعراءنا الشبان، أمثال: ناجي، والخفيف، وفتحي موسى، والطرابلسي، وغيرهم، قد وجهوا عنايتهم إلى القصة وما إليها من فنون الكتابة والبحث، قبل أن يبعثر الشعر أيامهم الغر، وهي أعز علينا من أن تلقى في الهراء. .
ولا حاجة بعد هذا القول بأن دولة الشعر قد دالت، فذلك ما انتهيت إليه، وما أظن القراء إلا منتهين إليه أيضاً. . وإذا كان الشعر قد استطاع أن يحافظ على بقائه طوال هذه السنين، وأن يعارك الزمن فتياً وكهلاً، فلن يستطيع البقاء في عصر الطباعة والصحافة، ولن يستطيع البقاء في عصر القصة - وقد سلبته ما تبقى له من بعض الفتنة والجمال. ولكنني لن أنسى أن أقول أن نوعاً واحداً من الشعر لا يزال قادراً على البقاء، هو شعر الغناء، ليكمل جانباً من فن الموسيقى، كما يكمل أدب المسرحية فن التمثيل.
ويستطيع الشعراء بعد ذلك أن ينظموا لأنفسهم ما يشاءون، وأن يقرءوا لأنفسهم كذلك ما يشاءون. . فأما المجد الأدبي، وأما رسالة الجمال والفن، فليبحثوا عنها من طريق غير هذا الطريق. .
هلال احمد شتا بمجلس الشيوخ
مات كاتب البعث!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ما أدركت روحي موته لأول منعاه لأنه يملؤها ويدفعها على محور من قلمه، ولا يزال شفق شمسه على آفاقها يسحب ذيوله في بطء، ولذلك استطعت أن أتلقى منعاه تلقي الخبير بالموت العالم بأنه شئ عادي يجب ألا تضج منه الأحياء بالشكوى والتفجع.
ثم أفقت دفعة واحدة منزعجاً على ضجة روحي وهي تتنزى من الألم وتتلوى تحت هول الفجيعة. . . فجيعة قلبي في صاحب حديثه، الكاتب الأصم الذي كان يسمع من هناك. . . مما وراء الأبعاد والحدود.، ثم يحدث
وفجيعة نفسي التي كانت تغتسل كل أسبوع بمداده الأسود المنير. . . وفجيعة قلمي العاجز في صاحب القلم المعجز الذي كان في يده كعصا سحرية يلعب بها تارة فيخايل (بالسحاب الأحمر) و (حديث القمر) ويكتب بها على (أوراق الورد)، ويضرب بها على قسوة القلوب فتنبجس للمساكين، ويسوق بها (تحت راية القرآن) نحو هدف الشرق الإسلامي أجيالاً جديدة هي مدينة له لا ريب بجزء كبير من الروح الذي يملؤها بفتنة المجد وسحر العزة ومرارة الجد، وبعث تاريخ الأبوة، والإيمان بالشرق والعروبة والإسلام إيماناً يحمل عليه الفن الساحر والروح الغامر الذي يستولي على القارئ ويتركه في غمرة لا يفيق منها إلا وقد انتقل إليه سر الكاتب، وسحر المكتوب.
وابتدأت جراح روحي تتسع وتستدمي وتنغل حتى توجعت واضطربت وراب أصدقائي من أمري شئ غريب، وصاح الألم ينادي القلم ليسعفه بالبلسم فيشيع الراحل العظيم ويسعى في جنازته الروحية على صفحات (الرسالة).
ولكن العاطفة إذا ثارت وفارت وهاج هيجها شلت جميع قوى العقل. وهاأنذا أجلس ساعتين لأكتب الكلمة التي أخفف بها عن نفسي، فلا أستطيع! مع إني ممتلئ بميراث الرجل وشخصيته وأدبه وحبه وأخباره.
وأشهد أن جميع ما في نفسي من الحزن يختفي حين أريد أن أدفعه عني في أجساد وصور من كلمات، وأن ما أريد أن أقوله يروغ مني وتزيغ حواسي دون مكمنه فلا أراه ولا أدركه. . . والأمر بعد للصمت وإن أتلف، وللدمع وإن أسعف.
وقدرت أن مناحة ستقام بمصر على كاتب البعث فانتظرت حتى بكوا وكتبوا، فقرأت بعض الكلمات، وشربت بعض العبرات. . ورأيت مكان قلمه خالياً في (الرسالة) فراعني وحدثني أن أعلام الأدب الإسلامي التي كانت تخفق على نصاب من قلمه قد طويت إلى يوم النشور. . . وأن البيان الهدار الرجاف الجارف قد غاض. . . وأن القلب الذي كنا نسمع لغته بين السطور قد تقطعت أوتاره. . . وأن الحركة الدائبة المجاهدة الناصبة لغاية الشرق الإسلامي والاعتزاز به والدفاع عن محاسنه وجلوة آثاره والصمود بها أمام الزلزلة التي أصابت الشرقيين غداة صحوا على قصف القوة الغربية وفتنة مباهجها صموداً ترك كثيراً من الشبان متماسكين مؤمنين بأنفسهم وبلادهم وميراثهم على رغم ما أتى به الغرب من تخانيث المدنية وزيغ الحواس بها. . هذه الحركة قد ركدت إلى الأبد في وادي السكون. . .
ثم قرأت قصة موته بقلم صديقه وأستاذنا صاحب الرسالة فعجبت لذلك القلب الكبير الذي يأبى أن يموت إلا على نية عمل عظيم للحياة.! يريد أن يطهر. . . إنها وصيته إلى تلاميذ مدرسته فلينفذوها فإنها رغبة التاريخ حدث بها على لسان حي ميت
وهكذا تنتهي حياة المجاهد لا يموت في فراشه إلا على نية الجهاد، لأن أشواق روحه وأوطارها دائماً في حياة الميدان. .
وهكذا تسلم حياة الطهارة إلى تلك الخاتمة السعيدة بالنية العظيمة كما تسلم حياة الإثم وخيانة الميراث الإنساني والأمجاد القومية إلى أن يموت أحدهم وهو في ضجة من شهوات النفس. ولكن هل يستويان مثلاً؟ لا والذي جعل الحياة واجباً حملناه غير مخيرين ولابسناه على كره منا! وجعل الأرض ميداناً للكفاح، لا وليمة للتشهي! وجعل من التاريخ كيراً لابنى ينفى الخبث!
قصة حياة الرافعي العظيم هي قصة الكفاح بين أولئك الذين أرادوا أن يجمعوا للشرق بين الحسنيين من الطريف النافع والتالد الخالد الثابت الذي لا يمكن أن يتغير بتغير العصور، فإغفاله ضلال في الحاضر وعقوق للماضي وتضييع للمستقبل وإفناء للشخصية؛ وبين أولئك الذين أرادوا على حد تعبيره أن يترجموا أمم الشرق إلى أمم غربية برغم الدم والاستعداد وطبيعة المكان ووحي التاريخ. وقد بدأ رحمه الله أن يأخذ مكانه في صفوف
الفريق الأول منذ عهد الإمام محمد عبده، ولذلك دعا له بهذه الدعوة التي تعتبر نبوءة صادقة من الإمام قال له:(أقامك الله في الأواخر مقام حسان في الأوائل)
ومازال الرافعي حجة من حجج الشرق والإسلام في عصر فقير من الأقلام المجاهدة الذائدة؛ وقد أتى عليه زمن أوشك فيه أن يكون وحده آخذاً جهة في الميدان وجميع الكتاب في جهة مضادة، وكان هذا في الزمن الذي أعقب الثورة المصرية سنة 1919 والذي طغت فيه على مصر موجة هدامة تطرقت حتى إلى أقدس مقدساتنا وهو القرآن الكريم، ولم تنحسر هذه الموجة إلا بعد سنة 1930 حيث تعرف الناس بفضل الجمعيات الدينية إلى أمجاد دينهم وتاريخهم. وقد أمد الرافعي هذه الجمعيات ببيانه المترجم عن النزعات العربية الإسلامية في زمن كانوا أحوج ما يكونون فيه إلى مثله. ولم ينته عصر المقاومة بين الفرقين إلا وقد ظهرت في الميدان أقلام تبني وتترجم وتكشف عن المدخرات في ميراثنا وكان لها من قلم الرافعي لواء وروح وموسيقى. . . . ثم أعقب ذلك هذه الموجة الدينية العربية التي تغمر روح الشباب المصري وتدفعه إلى الثورة في سبيل تعميم التعليم الديني حتى في كليتي الطب والهندسة!
أليس هذا نصراً عزيزاً للرافعي وأمثاله ممن سلخوا ثلاثين عاماً وهم في شبه وحدة في الميدان؟ أليست مقالته القريبة (قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر) نشيد النصر وأهازيج الظفر بخصوم عتاة؟
فليت شعري ماذا كان يريد بعد ذلك من حركة التطهير؟
إن الرافعي ليتسامى إلى حيث لا يبلغه أحد حين يضع نشيداً دينياً أو وطنياً. ويخيل إلي أنه حين كان ينظم أناشيده يستجمع حاسته السادسة التي تعوض بها من حاسة السمع، ويجلس على جناحي الزمن: التاريخ والغيب، ثم يضرب على أوتار القلوب بألحانه التي كان يسمعها من ذكريات الأصوات والأنغام، ومعانيه التي كانت لا تتنزل إلا له وحده
واقرأ إن شئت برهاناً على ما نقول النشيد الذي وضعه لجمعيات الشبان المسلمين، أو نشيد سعد زغلول، أو نشيد الوطن، أو النشيد الوطني الذي وضعه أخيراً، لترى هل يستطيع غيره أن يصل إلى ما وصل إليه هو من بيان واجبات الشاب ونجواه لمجده ودينه ووطنه
إن الرافعي لم يكن كاتباً يكتب للفن وحده، ولكنه كان صاحب رسالة وأهداف سار إليها منذ
أن شب عن الطوق في دولة القلم
وإن شعوره برسالته تلك استولى عليه في كل ما كتب حتى فيما كتبه يعاجز به أدعياء التجديد الذين كانوا يخوضون منه في ساحل ضحضاح ويضرب هو في عبابه وأعماقه ويخرج بالدرر اليتيمات، فهو لم ينس غايته فيما كتبه من أحاديث الحب والمراقص والسوامر
ولم تخدعه عن غايته فتنة الشهرة وتملق الجماهير بادعاء الإلحاد وزعم التجديد فيدلي بالكلمة الكافرة والرأي الآثم، بل فرض نفسه وفكره فرضاً. وكان ينعى على الأدب الصحفي الذي يسير فيه (صعاليك الصحافة) وراء الجماهير حتى أسلمهم الحال إلى أن يكونوا مقودين لا قادة كما يجب أن يكون وكما تملي عليهم مهمتهم
لقد حظي الرافعي بشرف المبالغة من مؤيديه ومعارضيه، شأن كل عظيم رأته الأرض؛ غير أن حظه من شهادات المقدرين لأدبه في حياته من أوفر حظوظ الأدباء. فقد ظفر بنبوءة الأستاذ الإمام وتقدير الزعيم الأكبر سعد زغلول لبيانه الذي (كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم) وتلقيب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان له بحجة العرب ونابغة الأدب. وقول المغفور له احمد زكي باشا (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهوجو كما للفرنسيين هوجو، وجوته كما للألمان جوته) وإجماع الناس على أنه أوحدي في فنه اللفظي وتوليد معانيه مما وراء حدود الكتاب والمنشئين، مما سما بنثره إلى درجة تعلو الشعر في موسيقاه وترجيعه. وأذكر أنه محرر مجلة الهلال كتب عنه كلمة: بمناسبة ظهور الطبعة الثانية من كتابه (المساكين) قال فيها ما معناه (إن من يقرأ للرافعي يؤمن بأن البلاغة حاسة سادسة)
وقد سمعت منذ ثلاثة أشهر من أحد كبار من أثق بعقلهم ونقدهم وممن كانوا يسخطون على طريقة بيان الرافعي قبل أن تجلوه (الرسالة) يقول: (إن الرافعي يصل في بعض الأحيان إلى مرتبة الإعجاز. . .)
وأذكر أيضاً أني قرأت في مجلة الزهراء التي كان يصدرها الأستاذ الكبير محب الدين الخطيب منذ عشر سنوات أو تزيد أن أحد المعجبين به من أدباء المهجر كتب إليه يقول إن لولا (الجملة القرآنية) لكان أبلغ من كتب بالعربية في جميع عصورها. .
والذين لا يقدرون أدب الرافعي هم الذين يقرءون للتسلية وتزجية الفراغ لا للدرس ولا (لتمثيل) المعاني؛ لذلك كان يؤودهم ويجهدهم أن يتابعوا سمو عقله وأن يكثروا مما على موائده الدسمة.
أما الذين كانوا يقرءونه للمتاع بمعانيه الخارقة فكانوا لا يكتفون بقراءته مرة أو اثنتين أو أكثر إذا أحوج الأمر، وهم الكاسبون لأنهم قرءوا (قراءة عريضة) لا (قراءة مستطيلة) ليس وراءها غناء
وأذكر أني قرأت خطرة من (خطرات نفس) للدكتور منصور فهمي بك التي كان ينشرها في الأهرام منذ 13 سنة يقرظ (رسائل الأحزان) للرافعي قال فيها ما معناه: (إنك كالموسيقي الألماني فجنر الذي كانت ألحانه لا يفهمها البشر، حتى قال الناس إنه يطرّب للملائكة. ورجاه أن ينزل من مستواه قليلاً حتى يفهمه الجمهور. وهو نقد لبق يعترف للرافعي بالسمو وإن كان يأخذ عليه غلوه فيه في بعض الأحيان. . ولكن للرافعي عذره من قوة جناحيه وقد كان يحملانه إلى جوه الذي فيه سر عبقرياته. .
ويخيل إلي أنه كان يكتب كما يتنفس. . كما عبر واصف بلاغة جعفر بن يحيى البرمكي (وأنه لم يكن يقصد إلى الإغراب وإنما هو عفو الخاطر. على أن تلاحق السعي من قلمه في (الرسالة) قد خدمه أجل خدمة، وبه استطاع أن يخترع ذلك اللون الجديد من أدب البعث فيما يشبه القصة
حاولت أن أرثيه بكلمات شفافة طائرة تليق بروحه وبيانه فإنه لا يليق به أن يرثى بهذا الكلام الجسماني. . . وحاولت أن أصنع ريشاً يرفعني إلى السماء التي كان يأخذ من كواكبها نور قلمه، فأعددت جو الذكرى وأحرقت البخور واستجمت أطرافي للوثبة، ولكن كثافة النفس وخفوت الطبع قعدا بي فاجتزأت بوصف عجزي. . .
سأقرأه في لباس التاريخ وروح الذكرى بعد أن مات وصار كلمة
وسأضع أذني على قبره دائماً لأسمع نداء قلبه بهذه (العقدة الروحية) التي دعا إليها في مقالته (في وحي الروح). . .
وسأجعل من شعلة روحه شمعتي. . .
ومن وحي قلمه غاسولاً لحوبتي:
ومن أناشيده موسيقى همتي. .
جعل الله ميراثه للخلود، وجهاده للنصر، وروحه إلى الجنة.
(نزيل بغداد)
عبد المنعم خلاف
دمعة خالصة من النجف على الرافعي
فقيد البيان الرفيع
للأستاذ حسين مروة
إننا - علم الله - لنشعر بالتياع حزاز في قرارة النفس إن لم تؤآتنا الفرصة للجهر برأينا في أدب المغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي إلا في هذه الساعة الرهيبة إذ تفجؤنا أنباء وادي النيل بنعي الرجل راحلاً إلى دار الله الباقية، ملقياً عن نفسه هذا العبء الذي كانت تضطلع به في سبيل الله، وفي سبيل الفصحى الكريمة لغة القرآن الكريم، وفي سبيل البيان الرفيع اللهجة، العلي النغمة، النبيل المعنى والقصد والأداء. وإننا لنشعر بالألم يشيع في أحناء الصدر أن رزئت دولة الأدب والبيان العربي هذه الرزيئة بفقد علم خفاق من أعلامها لم يطل به عهد الجهاد في سبيلها، ونكسته يد القدر قبل أن يؤدي رسالته العالية، وإن هي إلا الرسالة التي تنتظرها الروح العربية الناشطة من عقال الخنوع والاستعباد، والنهضة الإسلامية الطالعة اليوم من كل فج وواد؛ بل هي الرسالة التي تتحرق الإنسانية كلها شوقاً إلى سلسلها العذب وخمرتها العلوية الخالدة؛ فلقد كان الرافعي الراحل كياناً أدبياً شامخ السمك رفعته يد العناية في هذا الجيل ليبث فيه عبق الفصاحة العربية التي أسنت في آنية الزمن حتى كادت تستحيل على أسلات الأقلام الناشئة المتأدبة في هذا العصر ريحاً غريبة ما تكاد تتبين فيها نفحة العروبة أو عذوبة الضاد، أو شمائل الأجداد. ولقد كان الرافعي الراحل كلمة إسلامية جامعة تتلخص بالدعوة الصارمة الصارخة الصادقة إلى فضائل الإسلام في زمن كادت تتقلص فيه عن هذه الأرض الواسعة ظلال الفضيلة وخلائق الخير ومثل الإنسانية العليا. ولقد كان - إلى هذا - فكراً تتدفق في مطارحه أشعة الحقائق الإسلامية، وقلباً يطفح بفيوض الإيمان بعبقرية هذا الدين الحنيف، فكان من أجل هذا وذاك أنطق ناطق في التعبير عن (الإشراق الإلهي) الذي يطفو على وجه هذه الشريعة السمحة الغراء في كل قضية من قضاياها التشريعية أو الروحية العبادية الخالصة؛ وكان من أجل هذين أيضاً أبرع بارع في تفسير (النبوة) على ما يريد الله منها في بعث الرسل إلى الخلق وبث النبوات في الكون؛ وكان أقوم لسان في حكاية (فلسفة الإسلام) على وجهها الذي ينبغي أن ندين الله به.
هذا هو الرافعي في أدبه من الوجهة الروحية كما فهمته في جملة ما قرأت له من كتب ومقالات؛ ولاسيما هذه المقالات التي كان يكتبها (للرسالة) في المناسبات الإسلامية التي جرت (الرسالة) على الاعتداد بها، وعقد الفصول حولها، وتخصيص بعض الأعداد لها؛ ولكن المصيبة في أمر الرجل أن الجيل الناشئ يتجافى عن أدبه، وينقبض عنه انقباضه الهازل اللاهي السادر في هزله ولهوه، إذا ما جئته بالأمر الجد ولوحت له بشأن من الحق. ولعل كثيراً من المؤمنين بعظمة الرافعي من هذه الناحية ما كانوا يستطيعون الجهر بإيمانهم هذا خشية أن يرميهم جمهرة من الناس لها شأنها في هذا الجيل بهذه الرمية التي اتخذت سبيلاً إلى غل الأفكار عن البوح بما تفكر فيه، هذه هي ما يسمونها (الرجعية) كما اتخذ غير هذه الكلمة سبيلاً إلى ذلك عند جمهرة أخرى من الناس لها شأنها كذلك، تلك هي ما يسميها الجامدون (هرطقة) أو (كفراً)، أو (عصرية). . .؛ والويل لنا من هاتين الفئتين. . .
أما رأيي في أدب الرافعي الذي فصل الموت بين عالمنا هذا وبينه في عالم الآخرة - أما رأيي في أدب الرجل من الوجهة الفنية، فهو رأي كونته لنفسي منذ بدأت (الرسالة) تنشر له أدبه، وقد كان قبل ذلك يشرف على الناس من كوة ضيقة؛ وكان يتلهى في الأدب تلهياً، وكان يعبث فيه عبثاً؛ وكانت الفصاحة اللفظية كل همه فيما ينشئ من مقالات أو كتب أدبية، وكانت الصناعة الظاهرة والزينة والبهرج كل ما يطمح إليه. وقد كنت أرغب عنه يومئذ كما يرغب عنه اليوم كثير من ناشئة المتأدبين وقراء الأدب؛ وقد انقطعت عن قراءته من أجل ذلك زمناً؛ ثم قامت في مصر مجلة (الرسالة) وأقبلنا عليها في كل دار من ديار العروبة، وكانت لي رغبة حينئذ في أن أجدد عهدي بالرافعي، وقد جاءت هذه المجلة الجديدة به إلى حظيرتها فأقبلت عليه بعد موقف قصير ترددت فيه بين عقل مستطلع ونفس تطلب اللذة السهلة الميسورة؛ وما طال عهدي معه في هذا الدور حتى أصلحت رأيي فيه، وكونت لي هذا الرأي في أدبه من الوجهة الفنية. . . هذا الرأي الذي قلت في مستهل الحديث أنني أشعر بالتياع حزاز في قرارة النفس أن لم أجهر به إلا في هذه الفرصة الأليمة إذ رحل الرجل إلى دار الخلود الحق
ورأيي هذا في أدب الرافعي هو أن الفصاحة العربية الخالصة وإن كانت أولى مطامحه
حين يجلس إلى كتابة المقالة، ولكنه يأبى الإباء كله أن يضع جملته الفصيحة المشرقة قبل أن ينحت لها المعنى الدقيق العالي. وأشهد أنه ينحت هذا المعنى من قلب الحياة أحياناً، وقد يستأسره بلباقة من أرحب أجواء الخيال الشعري الصافي؛ فإذا امتلك عنانه وصار قيد قريحته الخصبة كساه هذه الأجنحة الطاووسية الأخاذة، ونفحه بريح طيبة من نفس العروبة الشذى الأفيح. وإذا كان في بعض ما يقرأ له الناس ما يسمونه تعقيداً فليس هو - في رأيي - بتعقيد؛ ولكن هذا الجهاد الفكري الذي يلقى نفسه في غمراته كي يقتلع المعنى من قلب الحياة، أو يستأسر الصور الجميلة من جو الخيال الشعري، ثم هذا الترفع الذي يطلبه في (الكسوة) اللفظية، وهذه النفحة العذبة التي يقصدها في مهابها من الأدب العربي القديم؛ كل هذه مجتمعة تعمل في إنتاجه هذا العمل الذي يخيل للقارئ البعيد عن روحه أنه تعقيد. ولو كان الصبر والجلد مما يسره الله لنا في طبيعتنا واستعملنا هذا الصبر والجلد في مرافقة الرافعي قليلاً لأنست به أذواقنا الفنية وأرواحنا، ولأفدنا من فصاحته العالية الشيء الثمين الغالي؛ ولكن مصيبة الرجل في هذا الجيل كما قلت لك هي مصيبة الجاد بالهازل، مصيبة من يطلب الحق بمن لا يطلب إلا موارد اللهو الميسور الرخيص. ومن الحق أن نقول - آخر الأمر - إن ضآلة ما يحمل الرجل من ثقافة أبناء الجيل الحاضر هي الأخرى من جملة العوامل على ضيعته فيهم، وذهابه عن دنياهم قبل أن يفيدوا من رسالته ما هم في أشد الحاجة إليه. ولعل هذا الجهد العظيم الذي يجهده حين يكتب فيخيل لقرائه أنه يقصد إلى التعقيد - لعل هذا يرجع إلى قلة بضاعته من الثقافة الحديثة. ولعل من آثار هذا الأمر ما نرى من عنايته في إخراج الجمل قوية دون أن يعنى، أو دون أن يستطيع العناية، بوحدة المقالة وجعل الموضوع وحدة كاملة متماسكة.
وبعد فإن الرافعي الراحل هو - في عقيدتي - بنيان أدبي شامخ ينهار قبل أن يصل إلى أهدافه السامية. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض الأدب العربي خير العوض عن هذه الخسارة الجسيمة.
(النجف)
حسين مروة
رسالة الشباب
رسالة الشباب في الحاضر
مهداة إلى الشباب المصري المتوثب
للأستاذ خليل هنداوي
يسرنا جداً أن تعلن (الرسالة) في جملة رسالاتها رسالة الشباب، وتقوم بها في جيل عرف قيمة الشباب وعظمة مقامه في حياة أصبحت دعائمها ترتكز عليه، وهو الجيل الذي قضى على ثرثرة الشيوخ وترددهم، وأثبت لهم أن الأمة في استطاعة شبابها أن يمشوا بها إلى المورد العذب، والغاية المثلى؛ وفي تنظيم فئات الشباب في كل أمة واعتماد الدولة على هذه الفئات المنظمة آية بل آيات لمن كفر بمعجزة الشباب. وقد كانت رسالة الشباب - قبل إنجاز المعاهدات سواء في مصر وسورية والعراق - رسالة تيقظ وتدمير، وخلق للفوضى؛ لأن الفوضى وحدها - في عصر الجمود - تحرك الذرات الواقفة، وتخلق الوعي والشعور في الأنفس الهامدة.
ويظهر أن رسالة الشباب بدأت - في هذه الأصقاع واحدة، ويظهر أنها سائرة إلى هدفها على طريق واحد. . . بدأت برسالة التهديم، والتهديم وسيلة لا غاية، وذريعة إلى بناء جديد، ولا يقوم هذا البناء إلا على كواهل من خربوا وهدموا القديم وحاربوا الذل والقيد! وإن مما يستوقف المفكر أن يفكر في رسالة البناء؛ والبناء صفة أدق من التهديم، لأنها تحتاج إلى دقة ونظام واستقامة في العمل. والهندسة قبل البناء، توفر كثيراً من العناء! فما هي رسالة البناء؟ وما هي حدود هذه الرسالة التي يجب أن يقوم بها الشباب؟
أصبحت لا أخاف على شبابنا بعد أن عرفوا التطرف؛ وكيف يبلغ القمة من لم يتطرف! وأصبحت لا أخشى خوراً ينفذ إلى نفوسهم، أو سكوناً يطغى على حركتهم، بل إنني أصبحت أخشى أن تصرفهم لذة التهديم عن لذة البناء، لأن لذة الشباب وهواه في الطفرة والتطرف. . . ولكن لا أريد أن يقوم هذا البناء إلا على سواعد الشباب مهما شابته الأهواء ومهما داخله فساد. . . لأنني أريد أن يلم الشباب بالبناء وأن يلموا بأمر عظيم ما تلقى عليهم تبعاته، وبهذا نعيد لشبابنا حاسة العمل التي عطلتها التقاليد وأثرة الشيوخ. ويقيني أن
الشباب لا يهدأ نضاله ولا يصرفه عن عمله كلل أو فشل! وكيف نريد أن نحرم الشباب لذة العمل في هذا الانقلاب وهم كانوا يده المتصرفة وقلبه الذي ينزف دماً!
لعل الشباب يزعمون أنهم قد انتهى عملهم بعد أن انتهى الفوز لهم؛ ولعل الشباب يقولون: لنسترح الآن فقد تم جهادنا؛ ولعل الشباب يظنون أن العهد الذي جاهدوا فيه في سبيل الحرية قد انقضى. على أن عملهم الحقيقي قد (بدأ الآن) لأنهم هم الذين خلقوا العهد الجديد وهم الذين ينبغي أن يكونوا دعائمه.
بلى! يا شبابنا، ومصابيحنا في طريقنا! لم ينته عملكم وإنما عملكم ابتدأ الآن، لأن العبودية السياسية التي تحررتم منها لا يزال خلفها عبوديات مختلفة ليست بأقل خطراً منها. ومن ذا يعمل على التحرر من هذه العبوديات إلا الذين لا يعرفون الوهن في العزم ولا التردد في الإقدام، وهم الشباب!
أنقذتم أنفسنا من العبودية السياسية فأنقذونا من العبودية الروحية التي أورثت أرواحنا الذل وأورثتنا مع الذل الضعف والجبن حتى أصبحنا إذا طلبنا حقنا طلبناه سائلين.
أنقذوا نفوسنا من العبودية العقلية التي غادرت تفكيرنا رياء، وتظاهرنا بالتقاليد رياء. وهل كان الرياء إلا ثوباً من أثواب العجز؟ وهل كانت العبودية العقلية إلا شر من العبودية السياسية؟
أنقذوا نفوسنا من عبودية الألقاب الفارغة، والتقاليد البالية، التي نشهد بها على حقارة أنفسنا بأنفسنا. وكونوا مثال العزة والكرامة التي لا تكرم إلا الكرامة.
هنالك عبوديات كثيرة تقف في طريقكم، وعقبات كثيرة تريد وقف سيركم المبارك، ومن لها إلا الشباب؟ إلا الذين يسعون إلى الحرية لتقتلهم الحرية، وبقتلها إياهم يعتزون وينتصرون، ومن لها إلا الشباب الذين يرى فيهم الجامدون خطراً على المجتمع لأنهم متطرفون متهورون يجمح بهم طموحهم كثيراً. فأي شئ يخاف هؤلاء الجامدون من خطر يريد أن يقلب مجتمعاً تراكم الفساد فيه على الفساد؟ أي شئ يخاف هؤلاء البالون من تهور على طريق الحرية وحدها! وأي شئ يخاف هؤلاء الجبناء من طموح يريد أن يصعد ويصعد!
ها قد جاء عهدكم أيها الشباب! العهد الذي يعطيكم الحرية ويفتح لكم آفاق الأمل فيما
تحلمون! وهذا العهد ليس بالخفيف عهده، ومتى كان عهد التحرر خفيفاً؟
هذا عهد تريد فيه أمة أن تخلق
هذا عهد تريد فيه أمجاد قديمة أن تزحف
هذا عهد تريد فيه كبرياء شعب أن تتيقظ!
هذا عهد تريد فيه حضارة ساهمت في الحضارة الإنسانية أن تسطع منارتها وأن تتم رسالتها!
ومن لهذا العهد إلا الشباب الذين لا يقولون (القناعة كنز لا يفنى) لأنهم لا يعرفون القناعة. . . إلا الشباب الذين لا يقولون ما يقول ذوو النفوس الحقيرة: (كلب جوال خير من أسد رابض) لأنهم يعلمون أن روح الأسد لا تنوب عنها أرواح الكلاب مجتمعة. والربوة التي يحميها أسد رابض لا يقدر على حمايتها ألف كلب جوال. . وهو بعد ذلك أسد لا يربض، لأن الأسد لا يعرف الربوض
إلا الشباب الذين يقولون ما قال أبو حمزة الخارجي عندما عيره أهل مكة بأصحابه: (تعيرونني بأصحابي! تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله إلا شباباً!)
هذا العهد ينادي إليه الأرواح الجبارة لترافقه ولا ينادي جثثاً خالية من الإحساس يحملها على ظهره. لأنه يريد رفاقاً يحسون ويلتهبون، قد أدرعوا الإرادة وساروا يقتحمون كل شئ كالسيل الجارف، يثبون فوق القمم وثباً ولا يزحفون زحفاً، في نفوسهم عقيدة تفيض حماسة وقوة، يفرضونها فرضاً على الزمان ولا يجد الزمان إلى إخفاقها سبيلاً.
هؤلاء الرفاق يستطيعون أن يمشوا معه لا تثنيهم عقبة ولا يحول بينهم وبين بغيتهم حائل. ومن هم هؤلاء الرفاق الأشداء إلا الشباب؟ روح الأمة ولون وردها الأحمر المشتعل، وعزيمتها التي لا تكل.
تحررتم أيها الشباب من العبودية السياسية، فلتتحرروا من كل عبودية. وليكن هدفكم التحرر في كل شئ. وكره العبودية في كل شئ.
شباب قنع لا خير فيهم
…
وبورك في الشباب الطامحينا
(در الزور)
خليل هنداوي
سيدي الأستاذ رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء
أقرأ باهتمام فصلكم الذي عقدتموه للشباب تدونه في إلى الاهتمام بالأمور العامة. ويسرني أن أوجه إليكم هذه الكلمة لغرضين: الغرض الأول أن أبين أن شبابنا يستطيع أن يؤدي للبلاد خدمة جليلة بأن ينتشر في أثناء العطلة الصيفية وهي على وشك الحلول فيذهب كل شاب إلى قريته أو منزله في المدينة ويضع نصب عينيه أن يترك الدائرة التي هو فيها في آخر الصيف خيراً مما وجدها في أوله. ويمكنه أن يعمل في أحد المقاصد الآتية:
(1)
تعليم أهل الجهة القراءة والكتابة والأخلاق ومبادئ التربية الوطنية في قسم ليلي يفكر هو وجماعة من إخوانه على إنشائه ويختارون له محلاً يتبرع به أحدهم ممن يستطيع ذلك
(2)
توجيه أهل جهته إلى العناية بالرياضة البدنية والاشتراك معهم في ذلك السبيل اشتراكاً فعلياً
(3)
التعاون مع إخوانه على عمل محلة كمحلة الرواد تكون مركزاً لثقافة الصبيان الفقراء وهدايتهم وإدخال الفرح عليهم
(4)
إرشاد أهل جهته إرشاداً صحياً في محاضرات يقوم بإلقائها من يستطيع المحاضرة من الشبان.
الغرض الثاني أن أقترح عقد اجتماع تشرف مجلة الرسالة على الدعوة إليه قبل بدء فصل الإجازات الصيفية لتنظيم حركة الزحف الاجتماعي. وتفضلوا بقبول عظيم شكري وتقديري لمجهودكم النبيل
(مصري)
(الرسالة) جاءتنا رسائل الشباب في هذا الباب تترى، وكلها
آراء سديدة ومقترحات قيمة سننشرها أو نلخصها تباعاً في
الأعداد القادمة.
رسالة العلم
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي بك مدير مصلحة الكيمياء
وزادت أوامر إرليش وكبر مقدارها، وتزايدت السجائر الحامية التي عكف على تدخينها يوماً فيوماً. وما لبث أن دخلت طوائف كبيرة من الأرانب الذكور بيت جورج اسباير كأنها ألوية الجيش تتابعاً وكثرة، ودخل في زمرتها إلى هذا البيت رجل صغير قصير ياباني صياد مكروب لا يألو في بحثه جهداً. وكان اسمه هاتا. وكان قديراً وكان دقيقاً. وكان له جَلد واسع وصبر على التجريب طويل، فهو يحتمل التجربة الواحدة يعيدها عشر مرات ولا يكلّ. وكان خفيف الحركة جمّ النشاط متزنه، فهو يقوم بعشر تجارب في آن واحد. فوافق هوى إرليش، وهو كما تعلم دقيق يحب كل دقيق
فبدأ هاتا يجرب مركب رقم 606، لا على مكروب الزهري نفسه. بل على مكروب من نوعه ولكن أقل منه امتقاعاً في اللون وشرة في الأثر، ذلك اسبيروشيتة الدجاج وكانت تقتل الدجاج قتلاً. فماذا كانت نتيجة هذه التجارب العديدة الطويلة؟ صاح إرليش:(باهرة!. . . خارقة!. . . لا تكاد تصدق!) فهذه الدجاجات الكبيرة والأفراخ الصغيرة امتلأت دماؤها بهذا المكروب امتلاء، فما هي إلا أن حقنت برقم 606 وأصبح عليها الصباح حتى كانت تسير مرفوعة الرأس تقوّق وتتخطر ناعمة بالصحة والحياة. فهذه نتيجة لاشك مجيدة. ولكن ما الذي كان من أمر نسيبه المكروب الآخر مكروب الداء الإنساني الذميم؟
في اليوم الحادي والثلاثين من أغسطس عام 1909 وقف إرليش وهاتا أمام قفص به أرنب ذكر جميل سليم من أية وجهة نظرته، إلا صفنه، فقد كان شوهه قرحتان فظيعتان كلتاهما أكبر من ربع الريال سببهما دبيب هذا المكروب اللعين الذي يأتي الإنسان جزاء الخطيئة الكبرى.
وكان هاتا وضع هذا المكروب تحت جلد هذا الأرنب من شهر مضى. ووضع هاتا قطرة صغيرة من ماء هاتين القرحتين الكريهتين تحت مكرسكوب صنع خصيصاً لرؤية أمثال هذه المكروبات الخبيثة الرفيعة الشاحبة. وضعها ونظر فرأى في ظلام المجال لهذا المكرسكوب الخاص، رأى تلك المكروبات ألوفاً تتلألأ في شعاع نور قوي سلط من الجانب
عمداً عليها. وتراءت له كأنها ألوف من خرامات الحدادين ومثاقيب النجارين تطير في المجال رائحة غادية. منظر جميل يستوقفك الساعات، ولكنه مروع، فأي المكروبات يجر على البشر من البلاء والويلات ما تجر هذه؟!
ومال هاتا عن المكرسكوب يمنة لينال إرليش من هذا المنظر نظرة. فلما رآه نظر إلى هاتا، ثم نظر إلى الأرنب ثم قال:(دونك فاحقنه) وجرت الحقنة في وريد أذن الأرنب، ودخل المركب 606 في محلوله الأصفر إلى دم الأرنب يلقى مكروب الزهري ويقاتله لأول مرة في تاريخ هذه الدنيا.
وفي الغد لم يبق في صفن الأرنب من لوالب هذا المكروب لولبة واحدة. والقرحتان؟ سبق إليهما الجفاف وأخذت جلبة تتكون عليهما. ولم يكد يمضي على هذا شهران حتى لم يبق من الجُلبة غير جليبة صغيرة. شفاء هو السحر أو كشفاء المسيح بن مريم. واستطاع إرليش أن يكتب بعد ذلك بقليل:
(ويتضح من هذه التجارب أن هذا المكروب يفنى عن آخره تواً إذا حقن الحيوان حقنة كبيرة كافية)
وإذن جاء يومه الكبير المنظور؛ فهذه رصاصته المسحورة، فما أسرع قتلها للمكروب! وهي مع هذا سليمة مأمونة على الحيوان. وإن شككت في سلامتها فانظر إلى هذا العدد العديد من الأرانب البارئة، فهل نالها مثقال ذرة من سوء لما ضرب هاتا محقنه في آذانها بجرعة هذا الداء، برغم أنها جرعة كبيرة كانت ثلاثة أضعاف الجرعة اللازمة الكافية لمحو الداء محواً محققاً سريعاً؟ لقد نال إرليش بهذا الكشف فوق بغيته، وأطلق من هذا المحقن على الداء رصاصة أروع من رصاصته. وضحك بُحاث ألمانيا بالأمس من أحلامه، فجاء دوره اليوم في الضحك فضحك وُسع فيه. صاح إرليش:(إنها رصاصة مأمونة. إنها سم للداء، وللحي فيها البرء والشفاء) وتستطيع أن تتصور أي الأطياف كانت تطوف بخيال هذا الرجل المستوثق بنفسه استيثاقاً لا يقصر منه حد. وصاح في وجه كل أحد: (إنها مأمونة! إنها سليمة!) ولكن في ليلته ولياليه جلس في مكتبه وقد تعبأ جوه بدخان السجائر حتى ضاقت به الأنفاس؛ جلس بين أكوام الكتب وركام المجلات وقد ارتمت ظلالها حوله متراكبة غريبة؛ جلس وحده وبين يديه تلك الكراسات الزرقاء الخضراء
البرتقالية الصفراء التي كان ينقش عليها كل ليلة في انبهام كل ما يخطر بباله مما سيصدره إلى رجاله وعبّاده من الأوامر في الصباح الطالع. ففي هذه الحجرة خلا إرليش لنفسه فسألها في خفوت: (أحقاً أنها سليمة مأونة؟)
إن الزرنيخ سم محبب إلى السمامين. . .؟! قال إرليش محتجاً،:(ولكنا تناولنا طبيعته بالعجب العجاب فغيرناها)
وهذا الذي شفا الفئران والأرانب قد يقتل الرجال. .؟! قال إرليش مجيباً: (إن النقلة من الأرانب والفئران نُقلة خطيرة، ولكنها خطوة لابد منها)
وطوى الليل رداءه الأسود، وانبلج الصباح وبعث شعاعه الأبيض إلى المعمل ينشر فيه مع النور الأمل والثقة والإقدام. ودخله إرليش فنظر فوجد الأرانب التي برئت، ولقي عونه برتهايم، هذا الرجل الساحر الذي لوى الزرنيخ الفاتك ثم لواه ستاً وستمائة مرة حتى عاد حربه سلاماً. وتشمم إرليش فسطعت في أنفسه رائحات مائة مخلطات طيبات لمائة من حيوانات تجريبية، ورائحات ألف مختلطات طيبات لألف من مواد كيماوية، وتلفت إرليش يمنة ويسرة فوجد كل هذا الجمع من أعوانه رجالاً ونساء يؤمن به ويثق فيه. إذن فما التشكك وما التردد؟ وهيا أيها الأعوان إلى هذه الخطوة الأخيرة نخطوها ولو خطيرة فقد والله خاب من أحجم
كان إرليش في قراءة نفسه مقامراً، ومَن من كبار صادة المكروب لم يكن مقامراً؟!
وقبل أن يزول تقرّح صَفَن الأرنب بتمامه، وقبل أن تسقط عنه أخيرة جلباته، كتب إرليش إلى صديقه الدكتور كنراد ألْت يقول:(فهل لك أن تتكرم فتجرب هذا المركب الجديد رقم 606 في مرضى الزهري من بني الإنسان؟)
فأجابه الدكتور ألت: (بالطبع نعم). وأي ألماني لا يجيب بهذا وهم قوم غلبِ صعاب؟
وجاءت سنة 1910 فكانت سنة إرليش الكبرى. ففي يوم من أيام هذه السنة انعقد المؤتمر العلمي في مدينة كونجزبرج
فلما دخله إرليش دوى المكان بالتصفيق الشديد وزاد وحمي حتى خيل أن الناس أصابتهم الحمى، وطال حتى خيل أن إرليش لن يقوم فيُلقي في القوم مقالته. وقام أخيراً فحكى لهم كيف تمهدت السبيل بعد لأي إلى وجدان الرصاصة المسحورة، ووصف لهم داء الزهري
اللعين، وقص لهم قصة الرجال الذين انتهى بهم المآل إلى تشوه قطيع ثم موت قبيح، أو انتهى بهم الحال إلى ما هو شر من هذا - إلى مستشفى المجاذيب. لم ينفعهم الزئبق، الزئبق الذي أطعِموه والزئبق الذي دلكوا به والزئبق الذي حُقنوه حتى كادت أسنانهم أن تسقط من لثاهم. حكى لهم حكاية هؤلاء المناحيس وقد انقطع الرجاء منهم، ثم ما هي إلا أن دخلت فيهم إبرة المِحقن واندفع فيهم محلول رقم 606 وانتشر في دمهم حتى نهض المريض وانتصب الراقد. وزادوا في الوزن ثلاثين رطلاً وتطهروا من نجسهم فلم يتحاشاهم الأصدقاء. . . . . .
وقص عليهم قصة رجل جاءه الشفاء كالمعجزة جاء بها بعض الأنبياء: قصة رجل منكود قرض المكروب بلعومه قرضاً وأكل منه أكلاً حتى لم يعد مدخلاً صالحاً للطعام فأطعموه بأنبوبة أطعمة سائلة كي تجري فيها. ومرت به أشهر على هذه الحال. ثم ما هي إلا حقنة واحدة من مركب رقم 606 حقنها في الساعة الثانية بعد الظهر حتى استطاع في العشاء أن يأكل ويزدرد سندتشاية من (السجؤ). ولم تكن الحال قاصرة على الرجال، فمن النساء المساكين زوجات بريئات أصابهن الداء من أزواج ولغوا في الخطيئة. فمن هؤلاء امرأة ألحت عليها الآلام، وبلغت منها العظام، ولازمتها سنين لم تنم لياليها بعض النوم إلا بالمرفين. فهذه عولجت بحقنة واحدة من هذا الدواء فنامت في ليلة ذلك اليوم نوماً هانئاً عميقاً من غير مرفين. معجزة والله وأي معجزة! أي عقار وأي عشب وأي وصفة وصفها العجائز والكنائس وأطباء الدهور منذ الأزل بلغت من الشفاء ما بلغه هذا الدواء! وأي مصل وأي لقاح مما ابتدعه المحدثون من صادة المكروب يبلغ ما بلغه هذا المركب في قتل الجراثيم، أو يقارب في الفتك بها بعض ما فعلته هذه الرصاصة المسحورة الساحرة من القضاء عليها قضاء كأنه تنزل من السماء؟
وهتف الناس لإرليش هتافاً لم يهتفوه لأحد. وهتفوا له هتافاً لم يستحقه استحقاقه أحد. دع عنك ما أثاره في الناس من قبل من آمال كواذب، وتناس ما تلا ذلك من متاعب ومصاعب، واذكر الساعة أنه بكشفه هذا مشى بجماعة البحاث في طريق جديد لفتح مجيد.
تقول علوم الجوامد: لكل فعل رد فعل يساويه ويذهب في ضد اتجاهه. وما يصدق في عالم الجوامد يصدق في عالم الأحياء، وهو يصدق في حياة الرجال من أمثال إرليش. فما كاد
يشيع في الناس ما جرى، حتى تجاوبت أرجاء المعمورة تصرخ في طلب هذا الدواء: في طلب المركب رقم 606. فهكذا أسماه إرليش اسماً ضخماً يملأ السمع ويبهر الحساب فلنغفر له طلب الضخامة وحب الفخامة. فقام برتهايم ومساعدوه العشرة في بيت إسباير يصنعون مئات الألوف من جرعات هذه المادة البديعة، ولم يقعدهم أنهم كانوا متعبين منهوكين من طول ما كدوا وجهدوا. وقاموا في هذا البيت الصغير بصناعة مقادير لا ينهض بها إلا المصنع الكبير. وصنعوها في جو مخطر ملئ بالأثير. وصنعوها في خشية من زلة قليلة تحدث في التركيب فتقضي على العدد الكثير الوفير من الرجال والنساء. فالسلفرسان سيف له حدان: حد لقتل الجراثيم، وحد لقتل الإنسان. وإرليش، فما الذي كان من أمره؟ أصبح جلدة على عظمة، وزاده داء السكر سوء. ولم ينقطع عن شرب سجائره الكبيرة وليته لم يفعل. فهذا ما كان من أمره: بالأمس أحرق شمعته من طرفيها، واليوم هو حارقها من وسطها أيضاً
(يتبع)
احمد زكي
رسالة الفن
ميكيلانجلو العبقرية الملهمة
للدكتور احمد موسى
عرفنا من المقال السابق كيف بدأ القرن السادس عشر بشخصية الرجل الكامل ليناردو دافينشي، وكيف كانت الرغبة أكيدة في إحياء علوم الإغريق وفنونهم، وعلمنا مدى أثرهما على ليوناردو
واليوم نعالج عبقرية ملهمة، وشخصية فذة. اعتبرت ولا تزال معتبرة من أبرز شخصيات الفن إطلاقاً، ألا وهي شخصية ميكيلانجلو، النحات القدير، بل قائد النحت الحديث، والمعماري العظيم، والمصور الهائل
وكم كنت أود أن أدرس مختلف نواحيه الفنية. لولا أن هذا قد يذهب بنا إلى تفاصيل قد لا تؤدي إلى ما نرمي إليه من تزويد القارئ بمعرفة شئ مبسط عن الفن وعن تاريخه، بقصد السمو بذوقه، وفتح ناحية من الاستمتاع النظري أمامه، لا تقل روعة عن نواحي الاستمتاع النفساني الأخرى؛ بل قد تزيد أهمية، نظراً لقلة ثقافتنا الفنية بوجه عام
هذا يرغمني على أن أحاول الجمع بين غايتين مختلفتين: الأولى الاقتضاب حتى لا يمل القارئ، والثانية الإيضاح الصادق حتى يعلم أهم ما تجب معرفته عن شخصية من أبرز شخصيات الفن إطلاقاً
ولعل أهم ما تجب معرفته مبدئياً هي مميزاته الفنية، والطابع الذي طبع به إنتاجه. أما مميزاته فقد يمكن فهمها عند ما يشاهد ما تركه من تراث مجيد، فعندئذ نرى أنه كان سامي الخيال باحثاً وراء المثل العليا في خلقه؛ وأما طابعه فهو يتلخص في أنه استطاع أن يخلق لنفسه عالماً فنياً خاصاً، جال فيه ثم ارتفع حتى أصبح مضرب الأمثال في الجمع بين سمو الخيال وجمال الاقتباس، وبين القوة والعنف، هذا إلى جانب روعة الإنشاء التي كانت له دون غيره
وموضع الدهشة والحيرة في خلق هذا الفنان العبقري أنك عندما تشاهد إنتاجه لا تستطيع
أن تتصور أنه مستمد من الواقع الملموس أو مشابه له؛ بل ترى دون شك أن هذا الإنتاج يعبر عن المثل الأعلى في الجمال، ولكنه مع هذا ملئ بكل مظاهر الحياة لا ينقصه شئ منها إلا النبض
كانت الغاية عن ميكيلانجلو أن يظهر الجسم البشري إظهاراً جميلاً سامياً، مليئاً بالقوة نابضاً بالحياة، وهو في هذا المجال أول وأعظم فنان أنجبه الدهر في المدرسة الحديثة دون منازع
وقد وصل في المعرفة بأصول علم التشريح إلى درجة لا مثيل لها مطلقاً، وهذه المعرفة تتضح عندما نشاهد ما غلب على إنتاجه من مظاهر الحركة بمختلف أوضاعها
وإذا قارنا خلقه بتراث الإغريق الخالد؛ وجدنا الفارق يتلخص في عنف ميكيلانجلو في الإخراج، لأنه تخير المواقف التي تكاد تكون مستحيلة، كما فضل مواقف الضغط والاضطرار راغباً من وراء ذلك في إظهار جمال التكوين الجسماني الإنساني طامحاً وراء البناء الهرقلي (نسبة إلى هرقلس)، فكان بما ملك من القوة، فذاً في الإخراج، عظيماً في الوضع، إماماً لكل فنان طامح، ملك الجمال بمعناه الفلسفي، وبعد كل البعد عن الجمان المثير، فكان نقياً في اختيار موضوعاته لا يهتم فيها إلا بالعظائم.
كان بشخصه يقوم بنحت تماثيله الرخامية من أبسط شئ فيها إلى أكبر وأهم جانب منها، سائراً في ذلك تبعاً لرسومه الخطية التي كان يرسمها لتكون بمثابة المنهج الدراسي قبل البدء في النحت.
ولد ميكيلانجلو يوم 6 مارس سنة 1475 في كابريزه، وتلقى أول دروسه في التصوير منذ سنة 1488 عند المصور المعروف دومينيكو جيرلانداجو الذي كان بارزاً في فلورنسا في ذلك الحين.
ولكنه بجانب درسه للتصوير، عرج كثيراً على دراسة النحت الإغريقي، ووجد في الغاية. وكانت التماثيل الموجودة بحديقة مديتشي في سان ماركو خير مدرسة له. ولم تنقض مدة طويلة حتى لاحظ لورنسودي مديتشي استعداد ميكيلانجلو للنحت؛ فأخذه ليتتلمذ في بيته على النحات برتالدو، الذي كان تلميذاً لدوناتيللو المعتبر من أحسن نحاتي عصره
وأول منحوتاته قطعة (نصف بارزة) أسماها (المادونا جالسة إلى جوار السلم) ش - 1 - ،
وبالنظر إليها نرى الكيفية التي تمكن بها، وهو حديث عهد بالنحت، من صبغ ما نحته بشيء كثير من الحياة، يتضح من تأملنا نبل وجه العذراء، وكثرة الثنايا التي تخللت ملابسها، إلى جانب القوة التي بدت في نحت الأيدي. كذلك من الطريقة التي جلست بها العذراء على ذلك المقعد الرخامي الواطئ، والمنهج الذي سار عليه في إخراج الملابس، ثم جلسة الطفل في حجر أمه، والأطفال الصغار الذين يلهون على السلم
وقطعته الثانية نصف بارزة أسماها (مذبحة كنتاور) وهي تمثيل لقصة إغريقية خرافية، أبطالها مخلوقات نصفها الأعلى كإنسان والأسفل كحصان ش - 2 - ، وهي من أهم الأدلة على اتجاه الفنان إلى الإغريق وتأثره بهم.
انظر إلى القطعة نظرة شاملة، وتأمل كيف استطاع إظهار كل من الأجسام في حالة حركة مملوءة بالحياة، تناسبت كل التناسب مع موضوع القطعة من الناحية الإنشائية، فترى العضلات بارزة، مع اختلاف التكوين الكلي وملامح الوجه لكل منهم، فضلاً عما تعبر عنه بعض هذه الأجسام والوجوه من المقاومة والعنف، على حين يعبر البعض الآخر عن الاستسلام أو الخوف. أما التفاصيل التشريحية فهي في غاية الكمال، فالثنايا والعضلات والانحناءات كلها على غاية الدقة
تأمل الرجل العجوز الواقف إلى أقصى اليسار وهو يحمل حجراً بيديه، يريد الإلقاء به على أحد المغضوب عليهم، ثم قارن بين مظهره الكلي وشكله التكويني، وبين وجوه الواقفين إلى أقصى اليمين، فإنك تلاحظ اختلاف التعبير في ملامح الوجوه، لأن حالة الدفاع وما ترسمه على ملامح الوجه تخالف حالة الاعتداء
تأمل الأذرع والأيدي وكيفية انثنائها وامتدادها وانقباضها، وسر بنظرك خلال أجزاء هذه القطعة الفذة التي شملت أكثر من عشرين رأساً، لا ترى منها واحدة شابهت الأخرى، وفكر قليلاً واذكر أن ميكيلانجلو بدأ المرحلة الأولى من حياته الفنية بهذه القطعة
فر هارباً إلى بولونا عندما علم أن الحزب المعارض لبيت المديتشي قد انتصر عليه. وفي بولونا نحت تمثالاً من الرخام لملاك، بقصد التحلية لمقبرة دومونيكوس، وكذلك تمثال يوحنا الصبي حاملاً لقرص شمع العسل ش - 3 - بمتحف برلين، وإذا نظرنا إلى هذا التمثال فإننا نرى عليه مسحة البراءة، إلى جانب جمال التكوين العام وسماحة الوجه. انظر إلى
العنق والذراعين والساقين والقدمين، ثم قارن بين التكوين الكلي لهذا التمثال وبين ما سبق أن شاهدته بالقطعة الفائتة واجتهد أن تتعرف بعض الفوارق.
(له بقية)
احمد موسى
البريد الأدبي
الاضطراب في نظم التعليم
لا تزال برامجنا التعليمية بعيدة عن الاستقرار، فهي منذ أكثر من
عشرة أعوام في اضطراب دائم؛ وفي كل عام توضع مناهج وخطط
جديدة، ثم لا يكاد يبدأ في تنفيذها حتى تطرأ عليها تغييرات جديدة؛
وهذا الاضطراب لا يشمل المناهج التفصيلية فقط، ولكنه يشمل أيضاً
مدد الدراسة وأنواع التعليم وغاياته واتجاهاته، وقد أصاب هذا التردد
سير التعليم في الأعوام الأخيرة بأضرار ظاهرة، ولوحظ أن مستوى
التعليم في هذه الفترة قد ضعف، وأن مستوى الثقافة بين الشباب في
انحلال، هذا فضلاً عن قصورهم الظاهر في مجاراة الحياة العملية.
والآن تعيد وزارة المعارف نفس العملية التي تكررها في كل عام،
وتضع للتعليم مناهج ونظماً جديدة متينة، فإلى متى يستمر هذا التردد
الخطير؟ لقد عالجت وزارة المعارف والجامعة المصرية في الأعوام
الأخيرة هذا المشكل غير مرة، واستقدمت الحكومة المصرية خبيرين
شهيرين في مسائل التربية هما الأستاذان مان وكلاباريد، ووضعا
تقريرهما المعروف، فلم يعاون على حل المسألة. وفي كل عام تعرض
آراء واقتراحات جديدة. ومن الأسف أن وزارة المعارف لم تضع لها
حتى اليوم سياسة عامة مستقرة للتعليم والتربية، وفي كل تغيير وزاري
جديد نراها تتجه وجهة جديدة، وفي هذا على مستقبل التعليم ما فيه من
الخطر؛ ذلك أن التعليم يجب أن يتخذ وجهة قوية ثابتة، وأن توضع
الأسس المستقرة لسياسته العامة، وأن تترك التفاصيل وحدها عرضة
للتغيير والتبديل. ومصر اليوم في مفترق الطرق بالنسبة لمستقبل
التعليم والثقافة فعلى وزارة المعارف أن تعجل بوضع الخطط المستقرة
الثابتة لتعليم الشباب وإعداده في العصر الجديد
من آثار التشكيك
ظهر أخيراً كتاب ديني عنوانه (المصاحف) قام على نشره المستشرق المعروف الدكتور إرثر جفري الأستاذ بالمعهد الشرقي بالجامعة الأمريكية. وكتاب المصاحف هذا هو الكتاب الذي ألفه عبد الله بن داود السجستاني، وهو من آثار التشكيك التي أنكرها العالم الإسلامي منذ صدورها؛ وهو يقوم في الواقع على فكرة التشكيك في القرآن الكريم على ما جمعه الخليفة عثمان، وفي أنه وقع بالكتاب الكريم كثير من الحذف والزيادة في مواطن كثيرة ينوه بها مؤلفه ويورد عليها أمثلة عديدة. بيد أن علماء القرآن والمتكلمين المسلمين لم يحفلوا بهذه المزاعم، فبقي كتاب المصاحف مطموراً في أقبية بعض المكاتب العامة والخاصة حتى فكر المعهد الشرقي بجامعة (منشن)(ميونخ) أن يقوم بنشره؛ ونشره الأستاذ جفري عن نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق، ومهد له بمقدمة طويلة بها كثير من المغامز التي تؤيد غايته من نشر الكتاب. والمعروف أن المعهد الشرقي في جامعة منشن يهتم منذ أعوام بدراسة القرآن ولهجات القراءات المختلفة، وأنه أوفد إلى مصر بعض أعضائه ليدرس هذا الموضوع في مواطنه المختلفة، ولكن يلوح لنا أن هذه العناية تنحرف عن غايتها العلمية بنشر مثل هذا الأثر الذي أنكره العالم الإسلامي
معرض باريس
افتتح معرض باريس للصناعات والفنون في الموعد الذي حدد لافتتاحه وهو 24 مايو الجاري. بيد أن معظم الأقسام مازالت في طور الإنشاء ولم يكتمل بناؤها وإعدادها. وقد اشتركت في المعرض اثنتان وأربعون دولة منها مصر، وأنفقت مصر في سبيل هذا الاشتراك عشرين ألف جنيه. ومعرض باريس هو بلا ريب أعظم وأحدث المعارض الصناعية والفنية؛ وهو بذاته مدينة عظيمة أقيمت على ضفاف السين في ساحة
التروكاديرو، وخطت فيها شوارع كبيرة، وأقيمت طائفة كبيرة من البنايات الضخمة والمسارح والملاهي المتعددة من شرقية وغربية. ويقدر الخبراء أن زوار المعرض في مدة الافتتاح وهي تمتد إلى نوفمبر القادم قد يبلغون عشرين مليوناً؛ ولكن الظاهر أن هذا التفاؤل مبالغ فيه فالحكومة الفرنسية لم تقدم لزوار المعرض أية تسهيلات خاصة، ولم تقرر أي تخفيض في أجور السفر لا في البر ولا في البحر سوى ما تمنحه مصلحة السياحة كل عام من تخفيض 50 % على خطوط السكك الحديدية، وهي مسألة لا جديد فيها. وقد ارتفعت تكاليف المعيشة في باريس إلى حدود مروعة، وزادت الأثمان زيادة تفوق كل ما يستطيع الزائر أن يفيده من تخفيض سعر الفرنك. وسياسة فرنسا إزاء المعرض تخالف السياسة الدولية المتبعة في مثل هذه الظروف لأن الحكومات المختلفة اعتادت أن تمنح أثناء إقامة هذه المعارض تسهيلات عظيمة للزوار خصوصاً في أجور السفر في البر والبحر
هذا وسيفتتح القسم المصري بمعرض باريس في 16 يونيه. وسيتولى افتتاحه جلالة الملك فاروق الذي سيكون في باريس في هذه الفترة
بعثة علمية كبيرة إلى القطب
طارت في الأسبوع الماضي من موسكو بعثة علمية روسية إلى القطب الشمالي تتألف من 42 عالماً برياسة العلامة الأستاذ أوتو شميت؛ وقد وصلت إلى القطب بالفعل وطارت فوقه ونزلت سالمة على جبل من الثلج يقع على بعد عشرين كيلو متراً من القطب؛ وسيقضي أربعة أعضاء من البعثة برياسة العلامة شميت عاماً في هذا الجبل الثلجي يقومون بالمباحث العلمية اللازمة حتى يبدأ ذوبان الثلج. وقد نظمت المواصلات اللاسلكية بين طيارة البعثة ومركز اللاسلكي في جزيرة رودلف التي اتخذت مركزاً لقيام البعثة وتموينها، وهي تبعد بالطيارة عن القطب نحو سبع ساعات. وستقيم البعثة لها منزلاً من المطاط وتقوم الطيارات بإمدادها بالمؤن والملابس، وذلك بواسطة إلقائها من الجو بالمظلات. وستعنى البعثة خلال إقامتها ببحث عوامل المغنطة في القطب وحركة الثلوج وأعماق المياه في تلك الأنحاء، والبحث عن تيارات الهواء الدافئ على مقربة من القطب. والأستاذ شميت رئيس البعثة علامة مشهور في المسائل القطبية، وقد كان في الأعوام الأخيرة خير معوان
على ارتيادها وكشف مجاهلها. والمظنون أن المعلومات التي تجمعها البعثة قد تفيد فائدة عظيمة في تسهيل إنشاء المواصلات الجوية بين روسيا وأمريكا عن طريق القطب الشمالي؛ بيد أن غاية موسكو الجوهرية من تجهيز هذه البعثات هو على ما يظهر تمهيد الوسائل اللازمة لاستعمار الأنحاء القطبية بصورة عملية، والعمل على استثمار ثروتها الدفينة بتذليل العقبات الجوية والإقليمية؛ وقد بذل العلماء الروس في العهد الأخير في هذا السبيل جهوداً تدعو إلى الإعجاب
المبرد أخيراً
أحب أن أقول (لأحد القراء) الكرام: أن المسألة ليست مسألة روايات، ولكن الأمر في التمييز بينها، والوقوف على مرماها في إفادة المطلوب، وهذا الضبط الذي ذكره ابن خلكان إنما جاء على ما هو شائع في ألسنة الناس، وهذه الرواية المذكورة عن برد الخيار مقصود بها إلى النكتة والفكاهة؛ وما ذكره ابن عبد ربه قائم على الحدس والحسبان لأنه يقول: فما أحسبه. . . الخ، ورواية ابن الخطيب في تاريخ بغداد إنما جاءت في مقام الزراية على الرجل.
ولقد قلت للأديب الفاضل من قبل إن المبرد بالفتح خطأ شائع في ألسنة الناس حتى في الألسنة المثقفة وأصل اللقب في وضعه كان بالكسر ثم فتحه الكوفيون؛ قد يكون استهزاء بالرجل أو قد يكون لأنه كتب كتاب الروضة بارداً كما روى ابن عبد ربه وابن الخطيب؛ وعلى كل حال فليس من المروءة أن نمسك على الرجل هذا النبز، وليس من الصواب أن ننصرف عن الخير إلى الشر. ولقد كان يكفيني ويكفي الأديب الفاضل قول الرجل نفسه: برد الله من بردني، فإن لرجل أدرى بحقيقة لقبه من أي كاتب آخر.
هذا ولا يحتج علينا الأستاذ بقرب عصر ابن عبد ربه وابن الخطيب لأن ما رواه ياقوت هو عن المازني، والمازني معاصر للمبرد وألصق به، كما أن ياقوت هو سيد الكتاب وعمدتهم في تحقيق الأعلام، وليس ثمة من يجاريه في هذه الحلبة، والله نسأل أن يوفقنا للصواب، وأرجو أن يكون في هذه ما يقنع الأستاذ
محمد فهمي عبد اللطيف
ديوان حافظ إبراهيم
أخرجت وزارة المعارف العمومية الجزء الأول من ديوان حافظ في 318 صفحة من القطع المتوسط مشتملاً على المدائح والتهاني والأهاجي والإخوانيات والوصف والخمريات والغزل والاجتماعيات. وقد ضبطه وصححه وشرحه ورتبه الأساتذة احمد أمين، واحمد الزين، وإبراهيم الأبياري. وصدره الأستاذ احمد أمين بمقدمة جليلة ممتعة في 43 صفحة تناول فيها حياة حافظ وشعره بالتحليل البصير والنقد الكاشف والحكم الموفق. وإخراج الديوان على هذا الوضع المحكم، والطبع الجميل، والتصحيح البالغ، يد لا ينساها الأدب الحديث للأساتذة الأجلاء ولوزارة المعارف. والديوان مطبوع في دار الكتب المصرية وهو يباع فيها
وفاة شاعر مجري كبير
في الأنباء الأخيرة أن شاعر المجر الكبير يوليوس يوهاش قد توفي في نحو الرابعة والخمسين من عمره؛ وكان مولده في مدينة شيجيد سنة 1883، وتلقى تربيته في جامعة بودابست، وظهر منذ الحادثة بحسن نظمه، بيد أنه مال في أول أمره إلى النظم القوي العنيف ثم تدرج بعد ذلك إلى النظم الرقيق الهادئ، وظهرت أول مجموعاته الشعرية في سنة 1907 ثم تلاها مجموعة أخرى اسمها (قصائد جديدة) في سنة 1914، وظهرت له بعد ذلك دواوين أخرى منها:(هذا دمي) و (لا تنسني) و (وصيتي) وغيرها
وقد فقدت المجر منذ أشهر قلائل شاعراً كبيراً آخر هو ديزو كشتولدني الذي توفي في نوفمبر الماضي وبذلك فقدت المجر أعظم شاعرين من شعرائها المعاصرين الذين جمعوا بين العهدين القديم، وهو عهد الإمبراطورية، والحديث وهو عهد ما بعد الحرب
رسالة النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف للأستاذ الغنيمي
تتمة
(12)
وقال المؤلف يصف القلق الذي كان سائداً في مصر في آخر أيام إسماعيل باشا
،
فقال الأستاذ صروف في ترجمتها (في هذه الديار نوع من الاختمار الفكري. ولو كان هذا الاختمار طبيعياً لأوجد في النفس قلقاً) ونحن أولاً لا نستحسن ترجمته كلمة في هذا الموضع باختمار لأن فيها غموضاً كثيراً وكان الأفضل أن تترجم بكلمة (قلق) وثانياً وهو الأهم أن الجزء الأخير من الجملة هو عكس المعنى الذي أراده المؤلف وهو ولو كان هذا القلق طبيعياً (غير مفتعل) لعددناه من دلائل الخير. فأين هذا من قول المؤلف (لأوجد في النفس قلقاً).
(13)
ومن أمثلة عدم الدقة في اختيار الألفاظ المناسبة قول المترجم عن رفض ضباط الجيش في عهد الوزارة الأوربية (هذا التدبير كان فظاً) فهل يوصف التدبير بالفظاظة؟
وقوله أيضاً عن الضباط المفصولين (جمع ألفاً وخمسمائة ضابط في حالة الغليان) وتلك أيضاً عبارة ثقيلة على السمع
وقوله عن الناظرين الأوربيين في وزارة نوبار باشا (وأهانا الشعب برفضهما التزني بالوشاح الوطني) يريد أنهما أساءا إلى الشعب أو جرحا عواطفه بعدم لبس الشعار القومي (الطربوش)
وقوله عن إسماعيل باشا (يمكن الاعتراف بأن إسماعيل كان كبش التضحية على هيكل الأنظمة الاقتصادية) وهي عبارة لا يقبلها ذوق. مثلها في ذلك مثل قوله الآخر
(15)
(وقفز إسماعيل من المقلاة إلى النار) وقوله (فإسماعيل كان واقفاً وظهره إلى الجدار) يريد أن إسماعيل سدت في وجوهه السبل أو أظلم يومه أو نحو ذلك
(14)
ومن أمثلة العبارات التي يحار القارئ في فهم معناها لغموضها أو ضعف أسلوبها قوله عن وزارة نوبار باشا (ونظاره يحكمون تحت سيطرة الإلغاء من ولسن وبلنيير)
وقوله عن مقتل إسماعيل صديق باشا (فالذين يجهلون مصر كذبوا الخبر بحملته والذين يعرفونها صدقوه ورأوا فيه خاتمة غير فجائية ولا فاجعة لما بد مهزلة وانتهى إلى مأساة) وإذا فرضنا أن بد الواردة في آخر الجملة غلطة مطبعية صوابها بدأ فإن الجملة بعد هذا التصحيح تظل غامضة
(15)
ومن الجمل التي تغير معناها لخطأ في ترجمة إحدى كلماتها قول الأستاذ صروف عن تقرير لجنة التصفية (وقد وضع نصفه الأول لورد كرومر) مع أن المؤلف يقول (وقد وضع صورته الأولى أو مسودته لورد كرومر)
وقوله (ولقد حان الوقت حقاً لحل مجلس النواب القديم) يريد مجلس النظار
(15)
ومن أمثلة الأسلوب الضعيف قول الأستاذ صروف في وصف سفر الخديو إسماعيل باشا على ظهر المحروسة (فكل) مفكر راقب المحروسة تبحر من مرفأ الإسكندرية بعد ظهر ذلك اليوم في الصيف تنهد بطبيعة الحال أمام مشهد بارز في أفق العالم للفرص الذهبية تسنح وتلمع ثم تضيع)
فهل هذا وصف يمثل لخيال القارئ صورة ذلك المشهد الرهيب؟
(16)
ومن الأشياء التي لا نستطيع أن نفهم لها سبباً حرص الأستاذ صروف حرصاً شديداً على أن يترجم كلمة دائماً أو في معظم الأحيان بكلمة مجلس نظر حتى ولو أدى ذلك إلى غموض المعنى وضعف الأسلوب فيقول مثلاً:
فقد مجلس النظار ثقة البلاد بدل أن يقول فقدت الوزارة ثقة البلاد ويقول، فقرر مجلس نوبار (يريد قررت وزارة نوبار) دفع جانب من المتأخرات ويقول فتألف مجلس نظار مصري (يريد وزارة مصرية) ويقول وعندما ألف نوبار مجلس نظاره ويقول انتدب نوبار لتأليف مجلس النظار، وكتب الخديو إلى نوبار يفوض إليه تأليف مجلس نظار وهكذا
وربما كان السبب أن الأستاذ صروف يظن أن كلمة وزارة لم تكن تستعمل في ذلك الوقت والحقيقة أنها كانت مستعملة وقد استعملها الأستاذ صروف في بعض المواضع
يخيل إلينا أن الذي ترجم الجزء الأخير من الكتاب ليس هو الذي ترجم الجزء الأول منه
(17)
قال المؤلف في معرض تبرير الرشا التي كان سمو الخديو يدفعها إلى رجال السراي
وهي عبارة معناها (إذا كان العالم لا يرضى عن تشجيع الرشوة) ولكن الأستاذ صروف ترجمها بهذه العبارة الغامضة التي لا يفهم لها معنى وهي (إذا كان العالم لا يرضى عن تشجيع ما يثير)
(18)
ولينظر القارئ أيضاً إلى العبارة الآتية التي يذكر فيها المؤلف ما أنفقه سمو الخديو على التعليم
ومعنى الواردة في هذه العبارة هو إطعام التلاميذ الفقراء وهو معنى عادي لهذه الكلمة ذكر في القاموس صراحة بلفظ ومعنى العبارة إذن هو (نعم إن كثيراً من هذا المال ينفق على طعام التلاميذ الفقراء ولباسهم) ولكن الأستاذ صروف غفل عن ذلك فترجمها (المجلس) وأفسد معنى العبارة إذ قال (نعم إن جانباً كبيراً من هذه المبالغ استنفده المجلس) ولا ندري أي مجلس يريد. ولماذا لا يرجع الأستاذ للقاموس ليعرف معنى العبارات التي يشك فيها؟
ننتقل بعد هذا إلى أسماء الأعلام الواردة في الكتاب فنقول إن الأستاذ حرفها بل بدلها تبديلاً لم نر له نظيراً في كتاب من كتب التاريخ
إن أكثر ما يؤلم المصححين والمراجعين في دار الكتب المصرية عندما ينشرون كتاباً من الكتب العربية القديمة المخطوطة هو ما يجدونه في أسماء الأعلام من تحريف؛ وإذا علمت أن معظم هذا التحريف الذي يلاقونه إنما ينشأ من اختلاف في وضع نقطة على حرف بدل حرف أو حذفها أو نحو ذلك وأنه مع هذا يسبب لموظفي هذه الدار عناء ليس بعده عناء لأنهم يريدون أن يخرجوا للجمهور كتباً صحيحة مضبوطة، إذا علمت ذلك أيقنت أنه من حق القراء على الكتاب والمترجمين أن يتحروا الحقيقة فيما يكتبون وأن يتأكدوا من صحة الأسماء التي يكتبونها لهم. إن الأشخاص في التاريخ هم المحور الذي تدور حوله الحوادث وهم بمنزلة أحجار البناء فيه، فإذا كانت أسماؤهم خاطئة وبعيدة كل البعد عن الصواب فسد البناء كله. والأستاذ صروف لسبب ما لم يتجر صحة الأسماء فأخطأ في كثير منها خطأ لا
يصح أن يقع فيه
(1)
فعالي باشا الصدر الأعظم في عهد الخديو إسماعيل وقبل إسماعيل الذي ظل يتناوب هو وفؤاد باشا منصبي الصدارة ووزارة الخارجية قد سماه الأستاذ (علي باشا) لأنه ترجم الحروف الإنجليزية دون بحث عن الحقيقة
(2)
وسرور باشا الذي تولى وزارة الخارجية في وزارة محمود نديم باشا الأولى بعد وفاة عالي باشا ثم تولاها مرة أخرى بعد ست سنين من ذلك التاريخ قد سماه الأستاذ (سيور). وليس خطأ المؤلف في هذا مما يبرر خطأ المترجم لأن واجب المترجم أن يحقق ويراجع لا أن ينقل ألفاظاً وحروفاً
(3)
وهاك غلطة ثالثة من هذا النوع: من الأشخاص الذين كانوا يأخذون المال من إسماعيل باشا شخص يدعى (رشدي باشا الصغير الأقياني) وهو من إقليم يدعى أقيان أو أكيان قريب من أرضروم كتبه المؤلف فكتبه الأستاذ رشدي باشا المكنى بأقيان وليست أقيان كنية لرشدي باشا ولا لقباً له بل هي اسم الإقليم الذي ينتسب إليه. فإذا قلنا فليس معنى هذا الغنيمي المكنى بأسيوط بل الغنيمي الأسيوطي وهكذا
(4)
ولا يقل عن هذا استبدال الأستاذ صروف (موافي) أفندي باسم سعاوي أفندي الذي ذكره المترجم وكتبه هكذا وهو أحد الفارين من وجه الاضطهاد التركي واسمه الكامل علي سعاوي أفندي وقد كرر الأستاذ هذا الاسم المحرف مراراً دون أن يفكر في البحث عن حقيقته
(5)
ومثله أيضاً الشخص الذي يسميه الاستاذ صروف كربجي باشا مرة أو مرتين وكبريجي باشا مرة أخرى وليس هو كربيجي ولا كبريجي باشا بل هو القبرصي باشا أو القبرصلي باشا إذا شئت أن تذكره بصيغة النسب التركية. وقد أخطأ المؤلف في الاسم فاستبدل بحرف حرف ولكنه عاد بعد ذلك في صفحة 185 من الأصل الإنجليزي فصحح الخطأ
ولا يختلف عن هذا أيضاً الشخص الذي يسميه الأستاذ صروف (تاجي كاتب أمين بك) وهو اسم لا وجود له ولا الشخص الآخر الذي يسميه سعيد بك ولا خليج ممياز ولا سمعان بك الخ
وبعد فأظننا بهذا قد أعطينا القراء فكرة عن ترجمة الأستاذ صروف لكتاب إسماعيل المفترى عليه، ولم يبق إلا أن نقول إن أسلوب الكتاب كله وبخاصة أسلوب فصوله الأخيرة معقد مفكك ملتوي العبارات تحس وأنت تقرأه إنك تقرأ عبارات مترجمة لا رابطة تجمعها. ويستطيع القارئ أن يلمس ذلك بيده في هذه الفصول
ولا ندري لماذا أغفل الأستاذ صروف دليل الكتاب أو فهرس الأعلام الذي عني به المؤلف فذكر الاسم والصفحات التي ورد فيها. أغفله الأستاذ ووضع بدله دليلاً ناقصاً من عنده لم يذكر فيه الصفحات، مع أن الدليل جزء لا غنى عنه في كل الكتب الحديثة لأنه يسهل على القارئ البحث والمراجعة
ونحب قبل أن نختم هذا النقد أن نعتذر إلى القراء وإلى الأستاذ صروف عن عبارة ذكرناها في المقال السادس على أنها غامضة المعنى تلك هي جملة (يخفي ضوءه تحت مكيال) وهي في الحقيقة غامضة إلا لمن درس الكتاب المقدس دراسة وافية وكان على الأستاذ أن يشير إلى مصدرها
ثم نورد هذه الفقرة من خاتمة الكتاب التي كتبها الأستاذ صروف من عنده وهي:
(ولقد توخينا في الترجمة أن تجمع بين سلامة الأسلوب العربي والدقة في متابعة الأصل الإنجليزي. ولما كانت القواعد التي وضعها مجمع اللغة العربية الملكي لتعريب أسماء الأعلام الأجنبية لم تظهر بعد فقد عربتها كما تعرب عادة في مصر. وإذا وجد القارئ اسم غوردون بالغين على الأكثر وبالجيم على الأقل، أو لفظ الخديو بغير الياء على الأكثر وبالياء على الأقل، ولفظ الأمريكي بتقديم الياء على الكاف على الأكثر وبتقديم الياء على الراء على الأقل، فما ذلك إلا من هنات الطبع. . . الخ
هذا كل ما يعتذر عنه الأستاذ. أما تحريف الأسماء وحذف الجمل وقلب المعنى وغموض العبارة وعدم سلامة الأسلوب فلا اعتذار عنه، بل ليقبله القراء وأنوفهم راغمة
إن في استطاعتنا أن نملأ بأغلاط الكتاب صفحات بل أعداداً من مجلة الرسالة لأن ما تتبعناه من فصوله هو الستة فصول الأولى وبعض أغلاط من فصوله التالية. لكننا آثرنا أن نترك الباقي لمن هو أقل منا عملاً أو أوسع منا وقتاً. على أننا قد نعود إلى الكتاب مرة أخرى إذا أمكنتنا الظروف
الغنيمي