المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 205 - بتاريخ: 07 - 06 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٠٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 205

- بتاريخ: 07 - 06 - 1937

ص: -1

‌الطربوش والقبعة

بمناسبة فوزنا الجديد

كان للطربوش امتياز على العمامة أيام كان الأمر للترك والأرناءود، لأنه كان يومئذ تاج السلطان، وشعار الحكم، ولباس الجيش، ورمز البطش، وعلامة الخطر؛ فكان يكفي أن يكون في الحي أو في الناحية (جندي) واحد لتخشع النفوس وتخضع الرءوس ويمحى القانون وتنتفي الحكومة، فلا يمر أحد وهو واقف، ولا يشتجر اثنان وهو موجود، ولا يعرف الناس من وراء بيته شرطة في قسم، ولا قضاة في محكمة

وكان للقبعة امتياز على الطربوش أيام كان الشأن لاحتلال الإنجليز وامتياز الدول؛ لأنها كانت حينئذ شارة الغلبة وبراءة الإجرام وصك الغصب وجواز المرور وإشارة الثراء وأمارة التفوق؛ فكان يكفي أن نرى (الخواجة) لنرى الغانم الذي لا يغرم، والمتصرف الذي لا يحاسب، والضارب الذي لا تقدر أن تغل يديه، والسفيه الذي لا تستطيع أن ترد عليه، والمدير الذي يملك المصارف والمصانع والمتاجر والشركات والبارات والمقاهي والملاهي والفنادق، ومن ورائه (المحكمة المخصوصة)، والمحاكم القنصلية، والمحاكم المختلطة، والتبجح الأشر والدعوى العريضة والبأو السليط. فكان الطربوش عنواناً على ذلك الإنسان الذي أفسدت فيه العبودية والجهالة مزايا الإنسانية فجعلتاه حياً تعافه الحياة، ووطيناً ينكره الوطن، ووريثاً يأنف منه التراث، وخلفاً يعرض عنه التأريخ؛ وكانت القبعة سمة على ذلك الأجنبي المتقحم بقوته على الضعف، وبقدرته على العجز، وبصحوته على الغفلة؛ فالتمايز في واقع الأمر كان بين ناس وناس، لا بين لباس ولباس. فأنك إذا وضعت الطربوش على جبهة الأسد كان مفخرة، وإذا وضعته على رأس القرد أنقلب مسخرة؛ وهل تصنع القبعة في الرأس الذليل إلا أن تجعل منه زنجياً في أمريكا، وحبشياً في أفريقيا، وصعلوكاً في كل قارة؟

أما نحن اليوم فخلق جديد في دنيا جديدة: تنبهت فينا ملكات الجنس فثرنا على الخسف، وتمردنا على الأذى، وزاحمنا الناس بالمناكب العريضة على مكاننا الخالي منذ قرون في صدارة الأمم، فانفتح الطريق البشري من خلفنا على المجد الأول، ومن أمامنا على النصر الأخير، وأصبح في وضع الطربوش على جباهنا مواح من سمو الشمس وشموخ الهرم،

ص: 1

وفي حمرته معان من أشعة الشروق، ودماء التضحية، وأوراد الربيع. وأضواء اللهب. فالتبرم به اليوم لا يجد له فيما أظن مساغاً من العقل مادام الرأس الذي يحمله قد أرتفع وامتلأ واتزن.

لا أريد أن أدخل بين الطربوش والقبعة، ولا أن أدعو إلى ذاك أو إلى تلك؛ وإنما أريد أن أقول إن ضعفنا هو الذي ظلم الطربوش كما ظلم اللغة والعلم؛ فإذا سوغ المنطق أن نترك الطربوش لأنه لا يطاول القبعة، سوغ كذلك أن نهجر العربية لأنها لا تنتشر في كل أرض، وأن نخرج على العلم لأنه لا يخفق في كل سماء. ولن تجد أهون على الناحية من رجل يأنس في نفسه الضعة فيحتال على العظمة بارتداء ثوب العظيم

ماذا يضرك الطربوش إذا كان لك طوائر تئز في السحاب، وبواخر تمخر في العباب، ومدافع ترعد في البر، وغازات تسطع في الجو، ومجلس ظاهر في العصبة، وقول نافذ في السياسة، ورأي مسموع في العلم، ومذهب متبوع في الأدب، ووطن يدبره حكمك، ويستثمره علمك، ويستقل بخيره وميره بنوه؟

وماذا تنفعك القبعة إذا قنعت من استقلالك بالإقرار به، ومن وطنك بالقرار فيه؛ ورضيت أن تعيش حميلة على قوة الحليفة، وصنيعة على رحمة الدول؛ واكتفيت بمظاهر التمدن من اللباس والرياش والترف واللهو؛ وظللت على الغرائز الجافية والحس البليد، تكذب لتمزح، وتغش لتربح، وتناقش فيفرط عليك صوتك ولسانك ويدك، وتحضر مجلس السماع فتجعله من التأوه والأنين والصخب والعربدة ماخوراً في مستشفى؛ وتسير في الطريق مرحاً أو ذاهلاً فتصدم المار فيلتفت إليك التفاتة العاتب ترضيه ابتسامة عاذرة، فتهجم أنت عليه بالنظرة الشزراء والكلمة الفاحشة؛ وتصعد الترام فتخطو بنعليك على أقدام الراكبين حتى تبلغ محلك فتنحط فيه كاشر الوجه غير ملتفت، أو ضاحك السن غير مكترث؛ وتمر بك الآنسة الخفرة أو السيدة الحاصن فتخز حسها بالنظر الفاجر، وتؤذي سمعها بالمنطق الخطل، ولا ينبهك ضميرك الأغلف إلى أن للأسرة حرمة وللمجتمع كرامة؟

طهر رأسك يا سيدي من درن هذه الخلال ثم ضع عليه طاقية أو لبدة أو أي غطاء شئت، ترتفع منزلتك في كل عين، وتقر هيبتك في كل صدر؛ فأن قيمة ذلك في الرأس الذي يحمله، والشعب الذي يمثله، لا في أصله ولا في شكله ولا في لونه؛ والثوب كما يقول

ص: 2

الفرنسيون لا يصنع الراهب

أي شرف أرفع للرأس، وأي فخر أملأ للفم، من أن تذهب اليوم بشرقيتك ومصريتك وطربوشك فتقول للذين غمطوك بالأمس: أرأيتم إلى الجوهر الحر والمعدن الكريم، كيف طمرته القرون، وصهرته الأحداث، وتناهبته الأطماع، ثم خرج من عرك العبودية ومعركة الحرية، باهر اللون، متميز الشكل، كامل الخصائص، حر الوجود، لا هو ماسة في خاتم ولا درة في تاج!!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌ندرة البطولة

للأستاذ عباس محمود العقاد

العالم الفاضل الأستاذ احمد أمين يروي ما يتحدث به فريق من المتشائمين حين ينعون على العصر الحديث ندرة البطولة وقلة النبوغ، ويسأل معهم:(هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟ وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هرون وعمرو بن مسعدة! وهل تجد في الغناء أمثال اسحق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟) وقس على ذلك بطولة الحرب والسياسة والزعامة وسائر البطولات

ثم يعقب الأستاذ على ذلك قائلا: (يظهر لي مع الأسف أن الظاهرة صحيحة، وان الجليل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيراً من النوابغ ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وإن طابع هذه العصور هو طابع المألوف والمعتاد، لا طابع النابغة والبطل)

ثم يستعرض الأسباب ويختمها بقوله: (ما أحق هذا الموضوع بالدرس وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة)

والموضوع كما قال الأستاذ النابه حقيق بالدرس والتناول من وجوه مختلفة، وليس له أو أن يفوت بفواته. فإذا شغلتنا موضوعات أخرى عن تناوله في الأيام الماضية فليس ما يمنع اليوم أن نبدي الرأي فيه

ورأينا إننا نخالف الأستاذ مخالفة النقيض للنقيض؛ ونعتقد أن العصر الحديث أغنى بالبطولة والنبوغ من كل عصر سلف بغير استثناء ولا تحفظ ولا تغليب للظن والاحتمال. وإنه ليس اسهل ولا اقرب من ظهور خطأ المتشائمين فيما وصلوا إليه من نتيجة، لأنه ليس أسهل ولا أقرب من ظهور الخطأ فيما اعتمدوه من قياس

إن الوجه في المقارنة بين جيل وجيل أن نحصر الزمن وأن نحصر المزايا، وأن نحصر العناصر التي تقوم عليها شهرة الأدباء أو الأجيال

وهذا الذي ينساه المفاضلون بين عصرنا الحديث والعصور الغابرة كل النسيان

فمن أمثلة ذلك سؤالهم. (هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟)

فالذين يسألون هذا السؤال يحسبون الماضي كله عصراً واحداً يقابله واحد من الحاضر هو

ص: 4

العصر الذي نعيش فيه

وينسون أن الزمن الذي نشأ فيه بشار والمعري يمتد من أواسط القرن الثاني للهجرة إلى أواسط القرن الخامس، أي نحو ثلاثمائة سنة!

وينسون أن المكان الذي نشأوا فيه يمتد من العراق إلى الشام، ومن الحضر إلى البادية

وينسون أن العصر الحاضر الذي نعيش فيه لا يمتد إلى اكثر من أربعين أو خمسين سنة وهو الزمن الذي يبدأ بفتوة الشاعر وينتهي بوفاته

وإنما الوجه أن يحصروا أربعين أو خمسين سنة من العصر الحديث ثم يحصروا أربعين أو خمسين سنة من العصور القديمة، ثم يعقدوا المقارنة بين هاتين الفترتين، فإنهم ليدركون إذن حقيقة التفاوت بين عصرنا الحاضر وبين كل عصر من تلكم العصور

كذلك ينسى النعاة على المحدثين أن يسألوا أنفسهم: ما هي المزية التي كان بها النابغ القديم (أنبغ) من قرينه الحديث؟

فلا يسألون مثلاً: ما هو كتاب الجاحظ الذي يستعجزون أبناء عصرنا عن الإتيان بنظيره؟ فإن لم يكن كتاب فما هو الموضوع؟ وإن لم يكن موضوع فما هو المقال أو الجملة أو العبارة!

ولو كلفوا أنفسهم سؤالاً كهذا لمالت معهم كفة الميزان وعلموا أن الجاحظ ومن هم أكبر من الجاحظ يحتاجون إلى أن يتتلمذوا على أناس من المتخلفين، وقلما يعتزون بمزية واحدة لا يعد لها نظير من مزايا المتأخرين

وأعجب من ذلك حديثهم عن الموصلي وإبراهيم بن المهدي ومن جرى مجراهما من المطربين في العصور الأولى. فماذا سمعوا من هذا أو ذاك؟ ومن أين لهم إن الموصلي يبلغ شأو سلامة حجازي أو السيد درويش أو أم كلثوم فضلاً عن السبق الذي لا يجارى والبون الذي لا يدرك؟

أما أنا فاغلب الظن عندي أن الأمر معكوس، وإن ألحان الموصلي لا تعدو أن تكون مزيجاً من تنغيم البدو وصبغة الحضارة المستعارة والآلات الناقصة، وكل ما يأتي على هذا النمط معروف الأصول معروف النطاق، وإن لم يكن معروفاً بحروف النوطة وأصوات السماع

كذلك ينسى المتشائمون أن يتقصوا عناصر الشهرة في العصور القديمة قبل أن يعقدوا

ص: 5

المقارنة بينها وبين نظائرها في العصور الحديثة

فدع أنهم ينسون أن يرجعوا إلى وقائع قائد مثل يوليوس قيصر أو الاسكندر المقدوني أو جنكيز خان قبل أن يرجحوهم في فنون الحرب على فوش وهند نبرج ومصطفى كمال ولو انهم رجعوا إلى تلك الوقائع لما أكبروا من شأن الانتصار فيها كل ذلك الإكبار

ودع أنهم ينسون أن كل حرب لابد فيها من ظافر ومن مهزوم، وإن الظفر وحده ليس بشيء إن لم ننظر معه إلى عوامله ودواعيه وتتبين أنها صالحة للتكرار في كل وقعة وكل حين

ودع أنهم ينسون أحكام المصادفات والعوارض وأنها تندر في الزمن الحديث وتكثر في الزمن القديم

دع هذا جميعه فقد يكون في نسيانه بعض أعذار لمن ينسونه، ولكن كيف تراهم يجارون الأقدمين في مبالغاتهم عن هؤلاء العظماء وهي قائمة على دعاوي وأكاذيب نحن على يقين من بطلانها كل البطلان؟ ألم يكن هؤلاء العظماء أربابا وأنصاف أرباب وقديسين في رأي الأقدمين؟ فكيف نقابل بينهم وبين خلفائهم في عصرنا قبل أن نسقط في الميزان تلك المبالغات وتلك الدعاوي والأكاذيب؟ إن هذا لخليق أن يضيف إلى فضل المتأخرين لا أن يغض منه ويحيف عليه، لأنهم وهم آدميون ليس إلا يوضعون في الميزان أمام أرباب وأنصاف أرباب!

ليس في تاريخ بني الإنسان منذ بدايته إلى يومنا هذا عصر يعرض لنا من عجائب الحوادث والأمم والأفراد مثال ما يعرضه لنا العصر الذي نحن فيه

ليس في تاريخ بني الإنسان عصر برز فيه من البطولة والمغامرة والدهاء والقدرة والصبر على النصر والهزيمة مثل ما برز أمامنا في الحرب العظمى

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر تولى فيه عروش القياصرة والخواقين والأكاسرة وقبض فيه على أعنة السلطان رجال من (أبناء الشعب) كمصطفى كمال ورضا بهلوي وستالين وموسليني وهتلر وكابللرو وكارديناس. فماذا عندنا من الأدلة على إن العصاميين في الزمن القديم كانوا أعجب وأدنى إلى البطولة في صنيعهم من هؤلاء؟

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من نخوة الحب وفروسية العاطفة مثل

ص: 6

ما عرضه لنا العصر الحاضر في غرام ملك الإنجليز السابق وصديقته السيدة سمبسون. فماذا عندنا من الأدلة على إن غرام هيلانة في طروادة المزعومة كان أعجب وأدنى إلى البطولة من هذا الغرام؟

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من أطوار الشعوب ما عرضته لنا الثورة الأسبانية والثورة الروسية من قبلها وعرضته معها الثورات في مصر والهند والصين. فماذا عندنا من الأدلة على إن عصر الثورة الفرنسية أو عصور ثورات اليونان والرومان كان لها نصيب من العجب وجلائل الخطوب أوفى من هذا النصيب الذي شهدناه؟

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر أنجب في كل أمة نموذجاً يمثلها كما أنجب عصرنا سعد زغلول وغاندي وسون ياتسن وشيان كاي شيكر وفيصلاً وابن سعود

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر فيه ما في عصرنا من الحقائق التي تشبه الخيال، والعبر التي تشبه نوادر الأمثال، والشواهد التي تتعدد على كل ملاحظة من ملاحظات النفس الإنسانية والبواعث القومية والطوارق السياسية. فعندنا وعلى مسمع ومشهد منا مصداق كل رأي حام في ذهن فيلسوف، وتطبيق كل مذهب دعا إليه داعية قديم أو حديث في عالم النظريات

وليس في تاريخ بني الإنسان مخاطرات أهول ولا أنبل من مخاطرات ركاب الطيارات والمظلات والغواصات المتفجرة والسفن المدمرة التي يقع فيها الخطر كل يوم ويقع فيها الإقدام كل يوم، ولا مبالاة بالموت ولا بالخطر كأنهما رياضة من اللهو أو لعبة من العاب الرهان

فإن كنا لا نسمي ما نبصره ونسمعه عجائب وروائع ولا نحسبها معارض للبطولة والنبوغ فقد غيرنا الأسماء وقد بدلنا اللغة، وقد أصبحنا مطبوعين على النظر إلى البعيد دون النظر إلى القريب

نعم إننا ننظر حولنا إلى عظيم في الشعر من طراز شكسبير فلا نرى له نداً بين الشعراء المعاصرين. ولكن النوابغ من طراز شكسبير تتساوى فيهم جميع العصور ولا يستأثر بهم القرن الذي نبغوا فيه، وهكذا كان أبناء القرن السادس عشر خلقاء أن يبحثوا في زمانهم

ص: 7

عمن يضارعون نوابغ القرن العشرين في العلم والاختراع والموسيقى والفن كافة فلا يجدوا بينهم أنداداً لهم يضارعونهم كثرة وقيمة؛ وإن العصر الحديث مع هذا ليفهم قصائد شكسبير خيراً مما فهمها معاصروه، ويقدره خيراً مما قدروه، ويمثل رواياته أكثر وأجمل وأبرع وأكفل بالإقبال والإعجاب مما كانوا يمثلونها في حياته

أذكر أنني رأيت منذ سنوات في إحدى الصحف الإنجليزية صوراً لبعض العظماء الغابرين في أزياء العصر الحديث، شفعتها الصحيفة بهذا السؤال: هل تعرفهم؟

وحق للصحيفة أن تسأل سؤالها الآن. لأن الصور التي رأيناها لأولئك العظماء قد سلبتهم كثيراً من الهيبة وبددت ما حولهم من هالات الفوارق والمسافات التي يوحيها اختلاف المظاهر والأزياء.

وإن حاجتنا اليوم لشديدة إلى متحف يستعرض لنا عظماء الأمس في أزياء اليوم، وعظماء اليوم في أزياء الأمس، لنعرف مقدار ما تضيفه إلى الغابرين من هيبة الفوارق والمسافات ومقدار ما نسلبه المعاصرين من جراء الألفة والمقاربة

فإن تعذر علينا أن نرسم ذلك المتحف عيانا فلنرسمه بالظن والتقدير. ولنرجع إذن إلى مقاييسنا وموازيننا نلمس مواضع الزيادة والنقصان فيها، ونصلح جوانب الغلو والبخس في كفاتها، ونغنم تصحيح الميزان في الحكم على الرجال والأزمان، لأن هذا التصحيح غنيمة أنفس وأجدى من تفضيل نابغ على نابغ أو ترجيح جانب على جانب. إذ لا ضرر ولا قصور في اختلاف التفضيل والترجيح متى صحت النظرة واستقام القياس. تلك هي الحقيقة فيما يقال عن ندرة البطولة والنبوغ بيننا كما أراها

أما تواتر القول بندرتها بين جماعة من الناقدين منهم أناس فضلاء محبون للإنصاف فله أسباب قد نعود إلى تفصيلها ومناقشتها

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌الزمن

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

حدث مرة أني سافرت فجأة إلى أوربا من غير أن يعرف أحد من أهلي وأصحابي - عزمت على ذلك وأمضيت العزم فكانت هذه الرحلة التي لم تكن لي في حساب قبل يومين اثنين. وأسباب ذلك كثيرة يطول شرحها. وركبنا الباخرة فما كان يمكن أن اذهب إلى أوربا سابحاً، ومضى يوم وثان وإذا بفتاة ممن عرفناهن على ظهر السفينة مقبلة علي تقول:

(هل ضبطت الساعة؟)

ونظرت إلى ساعتها الصغيرة على معصمها ثم رفعتها إلى إذنها فقلت: (دعي هذا لي فإني حاد السمع مرهفه. . هاتي يدك واسمعيني)

قالت: (يظهر انك لا تسمع إلا ما تريد. . لقد سألتك الآن هل أصلحت ساعتك؟)

فقلت وأنا أتعجب: (أصلحتها؟. . ومن الذي قال إن ساعتي خربت؟. إني أؤكد لك أنها من أحسن الساعات. . كانت لرجل ممن يكثر المال في أيديهم يوماً فيذهبون يشترون كل ما يخطر لهم على بال، ويصبحون في اليوم الثاني وقد صفرت أكفهم فيرهنون ما اشتروا أمس أو يبيعونه. . صاحب هذه الساعة شاء أن يرهنها، ثم لم يؤد ما اقترض عليها، فاضطر الصائغ اليهودي أن يبيعها. . ولا أحتاج أن أقول إنك ترين الرجل الفاضل الذي اشتراها منه)

فألقت إلي ابتسامة عذبة أدارت رأسي دورة جديدة - وأقول الحق إنها هي التي كانت سبب سفري إلى أوربا فجأة - وقالت: (لاشك أنها ساعة معرقة في الفخار. . ولكنها تحتاج الآن إلى إصلاح)

فقلت ببساطة: (أبداً. .)

فقالت: (أسرع. . رد العقربين)

فدهشت وقلت: (أردهما؟. . لماذا؟. .)

قالت: (نعم. . . ردهما. . . أخرهما ساعة. . . لو كنا في الشتاء لوجب أن تؤخرهما ساعتين)

قلت: (اسمعي. . . لو أمرتني أن أرتد طفلاً، وكان هذا في وسعي، لفعلت بلا تردد، وبلا

ص: 9

شرط سوى أن ترتدي معي طفلة لنلعب معاً. . . ونكبر معاً. . . ونعوض على العموم ما فاتنا - ما فاتني أنا على الأصح - ليس عليك إلا أن تأمري فإذا الذي تشائين كائن - ولكن من المجانين الذين يحبون أن يعلموا لماذا يصنعون ما يصنعون)

قالت: (لا أدري سوى إن كل الناس هنا ردوا عقارب الساعات وأرجعوها ساعة. . . حساب الوقت بعد هذا الخط يتقدم ساعة)

قلت: (تعنين يتأخر)

قالت: (كلا. . . بل يتقدم) قلت: (لن نحل هذا الأشكال قط فيحسن أن نتركه. . . ولننتقل إلى سواه فهل تعنين إننا كنا سائرين إلى الوراء؟. كنا نرتد في الزمن؟)

قالت: (لا أدري. . . هكذا يقولون. . . فأصلح الساعة وتعال إلى فوق فإن الجو جميل)

قلت: (أفهميني أولاً كيف كنا نرجع القهقرى في الزمن)

فلم تستطع أن تفهمني - ولها العذر، وكيف بالله تستطيع أن تفهم إنك تمشي إلى الوراء وأنت تمشي إلى الأمام؟ - وأصررت أنا على ترك ساعتي كما هي، وقلت لها:(إنك ولا مؤاخذة مثل مدرس الجغرافيا الإنجليزي في المدرسة الخديوية)

قالت: (ماله؟)

قلت: (كان يقول لنا، لنفرض أنكم في استراليا - ولا أدري لماذا اختار استراليا ولكن هكذا كان يقول - وإني أنا - يعني نفسه - في لندن. . . فماذا يحدث؟. . . فلا نعرف ماذا يمكن أن يحدث، فيقول. . . اسمعوا في يوم من الأيام، وليكن الجمعة، فأعترض وأقول: إن يوم الجمعة فيه ساعة منحوسة، فيقول: حسن، إذن ليكن اليوم يوم الأحد وليكن الوقت الصباح. . . ولنفرض أيضا أن المخاطبات التليفونية ممكنة بين استراليا ولندن فيدق لي أحدكم التليفون ويقول صباح الخير. . . مفهوم؟. . . فنقول جداً: فيسألنا ماذا ينبغي أن أقول أنا في رد التحية التي وجهها إلي من باستراليا؟ فنقول له تقول صباح الخير، أو عموا صباحاً يا أولاد كما تقول لنا هنا، فيقول كلا!. . . في هذا تخطئون لأننا في لندن نكون في ذلك الوقت في مساء السبت بينما تكونون انتم في استراليا في صباح الأحد، فأنا أرد على تحيته بقولي له (عم مساء) فتقولون لي مستغربين كيف هذا؟. . . إننا مازلنا في الصباح، فأقول إن الوقت الآن في لندن الثامنة مساء، وقد تناولت عشائي منذ لحظة

ص: 10

قصيرة؛ فتقولون كلا، بل الساعة الآن الخامسة صباحاً، ونحن لم نفطر فألتفت إلى الذين معي وأقول اسمعوا. . . إن لفيفاً من تلاميذي في استراليا استيقظوا - بصيغة الماضي من فضلكم - صباح غد فيسألني إخواني كيف يمكن أن تعرف ما عسى أن يفعلوا غداً صباحاً؟ فأقول إني اعرف ما عسى أن يفعلوا غداً صباحاً لأنهم أنبأوني إنهم فعلوه فيقول إخواني لي إنك مجنون - أو كلاماً آخر كهذا - لأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا أن يكونوا هم في الساعة الثامنة مساء من يوم السبت على حين يكون غيرهم في نفس الوقت في الساعة الخامسة صباحاً من يوم الأحد، فنهز نحن التلاميذ رؤوسنا الصغيرة ونقول، ولا نحن نفهم هذا، فيقول المدرس اسمعوا. . . لنفرض إن لي طيارة سريعة تقطع المسافة بين القاهرة واستراليا في أربع ساعات أو خمس. . . اركبها من القاهرة يوم السبت وأفطر في استراليا صباح الأحد وأرجع إلى القاهرة مساء السبت - أرجع إليها قبل الوقت الذي غادرتها فيه - فما قولكم؟. . . أليس هذا واضحاً؟. . . فنضع أصابعنا في الشق، ونريح أنفسنا من العناء الباطل، ونقول إن الأمر واضح جداً.

وأزيد أنا على هذا إن من الواضح من كلامك أن في وسعك أن تقوم من القاهرة يوم السبت وتكون في استراليا - أو حيث شئت غيرها - يوم الاثنين، لا الأحد فقط، ثم ترجع إلى القاهرة يوم الجمعة، الذي هو قبل السبت الذي سافرت فيه. . . معلوم!. . الأمر واضح جداً!. . فيحسب المدرس أني أسخر منه، ويعاقبني بالحبس ساعة، آخر النهار. . هذا يا ستي ما كان مدرسنا يعلمنا. . لقد ضاع علينا والله ما أنفقناه في التعلم. . والآن بعد أن استرحنا من المدارس والمدرسين المخرفين نركب هذه الباخرة الجميلة ونحن نعتقد أن الدنيا بخير، وأن العقول لم تطر من الرؤوس وإذا بهم يقولون لنا ردوا عقارب الساعات لأنا رجعنا ساعة؟؟ والذي يدهشني هو أن تصدقيهم

فتقول فتاتي: (ولكن هذا صحيح)

فأصيح بها - برغمي -: (كيف تقولين هذا الكلام؟. . هل تريدين مني أن أقول إن الساعة الرابعة حين تكون الخامسة؟. إنك تكلفينني شططا)

فتقول: (لقد كسبنا ساعة)

فأقول: (أرجوك!. أرجوك!.)

ص: 11

فتقول: (صحيح والله)

فأقول: (يا بنت الحلال كيف يمكن أن نكون قد كسبنا هذه الساعة وهي قد ولت؟. ثم إني لم أكن معك فيها، لأني كنت نائماً فالخسارة مضاعفة)

فتضحك وتقول: (كسبناها لأنا استرجعناها)

فأقول: (إيه؟ استرجعنا الساعة التي ولت؟. مدهش!)

فتقول: (ألا تصدق؟)

فأقول: (يا حبيبتي، يا روحي، يا عقلي. . أرجوك!. ألف راء جيم واو الخ الخ.)

فتضحك فأقول: اسمعي إني لا أحب أن يبقى هذا الخلاف بيننا، وأنا من أجل عينيك النجلاوين أفعل ما تريدين - لاعن اقتناع، بل إرضاء لك - وأنا مستعد أن أقول إننا رجعنا إلى العام الماضي. . والله فكرة! تعالي نرجع طفلين ونلعب.)

فتذهب تعدوا ضاحكة وأعدوا وراءها حتى أدركها.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 12

‌خاتمة المأساة الأندلسية

الصراع الأخير بين الموريسكيين وأسبانيا

للأستاذ محمد عبد الله عنان

بينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم في هضاب الأندلس وسهولها وتحمل إليها أعلام الخراب والموت، إذ وقع في المعسكر الموريسكي حادث خطير هو مصرع محمد بن أمية؛ وكان مصرعه نتيجة المؤامرة والخيانة؛ وكانت عوامل الخلاف والحسد تحيط هذا العرش بسياج من الأهواء الخطرة، وكان محمد بن أمية يثير بين مواطنيه بظرفه وفروسيته ورقيق شمائله كثيراً من العطف، ولكنه كان يثير بصرامته وبطشه الحقد في نفوس نفر من ضباطه؛ وتقص علينا الرواية القشتالية سيرة مقتله، فنقول انه كان ثمة ضابط من هؤلاء يدعى ديجو الجوازيل له عشيقة حسناء تسمى (زهرة) فانتزعها محمد منه قسراً، فحقد عليه، وسعى لإهلاكه بمعاونة خليلته، فزور على لسانه خطاباً إلى القائد العام (ابن عبو) يحرضه على التخلص من المرتزقة الترك، وكان ثمة منهم فرقة في المعسكر الموريسكي، فعلم الترك بأمر الخطاب، واقتحموا المعسكر إلى مقر محمد بن أمية. وقتلوه بالرغم من احتجاجه وتوكيد براءته؛ واستقبل الجند الحادث بالسكون؛ وفي الحال اختار الزعماء ملكا جديدا هو (ابن عبو) فتسمى بمولاي عبد الله محمد، وأعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذي وصفناه. وكان مولاي عبد الله اكثر فطنة وروية وتدبراً، فحمل الجميع على احترامه؛ واشتغل مدى حين بتنظيم الجيش واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرباً قوامه زهاء عشرة آلاف بين مجاهد ومرتزق ومغامر

وفي أواخر أكتوبر سنة 1569 سار مولاي عبد الله بجيشه صوب (أورجبة) وهي مفتاح غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير، فذاعت شهرته، وهرع الموريسكيون في شرق البشرات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطته جنوباً حتى بسائط رندة ومالقة؛ وكثرت غارات الموريسكيين على فحص غرناطة (لافيجا)، وقد كان قبل سقوطها ميدان المعارك الفاصلة بين المسلمين والنصارى. وكان فيليب الثاني حينما رأى استفحال الثورة الموريسكية وعجز القادة المحليين عن قمعها؛ قد عين أخاه الدون جون (خوان) قائداً عاماً

ص: 13

لولاية غرناطة؛ ولما رأى الدون جون اشتداد ساعد الموريسكيين، اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه، فخرج في أواخر ديسمبر على رأسي جيشه، وسار صوب (وادي آش)، وحاصر بلدة (جاليرا) وهي من امنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكي منهم فرقة ترية، فهاجمها الأسبان عدة مرات، وصوبوا عليها نار المدافع بشدة، فسقطت في أيديهم بعد مواقع هائلة أبدى فيها الموريسكيون والنساء الموريسكيات اعظم ضروب البسالة، وقتل فيها عدة من أكابر الأسبان وضباطهم، ودخلها الأسبان دخول الضوارى المفترسة وقتلوا كل من فيها، ولم يفروا النساء والأطفال، وكانت مذبحة رائعة، (فبراير سنة 1570) وتوغل الدون جون بعد ذلك في شعب الجبال حتى سيدون الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هنالك قوة أخرى من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى (الحبقي) تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الأسبان في سيدون ومزقت بعض سراياهم، وأوقعت الرعب والخلل في صفوفهم، وقتل منهم عدة كبيرة، ولم يستطع الدون جون أن يعيد النظام إلا بصعوبة، فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر في سيره حتى وصل إلى اندرش في مايو سنة 1570

وهنا رأت الحكومة الأسبانية أن تجنح إلى شئ من اللين خشية من عواقب هذا النضال الرائع، فبعث الدون جون رسله إلى الزعيم الحبقي يفاتحه في أمر الصلح، وصدر أمر ملكي بالوعد بالعفو التام عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوماً من إعلانه، ولهم أن يقدموا ظلاماتهم فتبحث بعناية، وكل من رفض الخضوع ماعدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، قضي عليه بالموت؛ فللم يصغ إلى النداء أحد. ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائيا بأن أسبانيا النصرانية لا عهد لها ولا ذمام وإنها غير أهل للوفاء، فعاد الدون جون إلى استئناف القتال والمطاردة وانقض الأسبان على الموريسكيين محاربين ومسالمين يمعنون فيهم قتلاً وأسراً؛ وسارت قوة بقيادة دوق سيزا إلى شمال البشرات واشتبكت مع قوات مولاي عبد الله في عدة معارك غير حاسمة وسارت مفاوضات الصلح في نفس الوقت عن طريق الحبقي؛ وكان مولاي عبد الله قد رأى تجهم الموقف ورأى اتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعا، والقوة الغاشمة تجتاح في طريقها كل شئ، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من براثن القوة

ص: 14

القاهرة؛ واتفق المفاوضون على أن يتقدم الحبقي إلى الدون جون بإعلان خضوعه وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الأسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت إقامتهم، وفي ذات مساء سار الحبقي في سرية من فرنسا إلى معسكر الدون في اندرش وقدم له الخضوع وحصل على العفو المنشود

ولكن هذا الصلح لم يرض الموريسكيين، ولم يرض بالأخص مولاي عبد الله وباقي الزعماء، ذلك لأنهم لمحوا فيه نية أسبانيا النصرانية في نفيهم ونزعهم عن أوطانهم؛ ففيم كانت الثورة إذاً، وفيم كان النضال؟ لقد ثار الموريسكيون لأن أسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز الذي نشأوا في ظلاله الفيحاء، والذي يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاي عبد الله في موقف الحبقي إذ رآه يروج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعوا إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه إلى معسكره بالحيلة؛ وهنالك اعدم سراً

ووقف الدون جوان على ذلك بعد أسابيع من الانتظار والتريث، وبعث رسوله إلى مولاي عبد الله، فأعلن إليه انه يترك الموريسكيين أحراراً في تصرفهم، بيد انه يأبى الخضوع ما بقي فيه رمق ينبض، وانه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه على أن يحصل على ملك أسبانيا بأسره؛ والظاهر أن مولاي عبد الله كانت قد وصلته يومئذ أمداد من المغرب شدت أزره وقوت أمله؛ وعادت الثورة إلى اضطرامها حول رندة، وأرسل مولاي عبد الله أخاه الغالب، ليقود الثوار في تلك الأنحاء؛ وثارت الحكومة الأسبانية لهذا التحدي، واعتزمت سحق الثوار بما ملكت؛ فسار الدون جوان في قواته إلى ودي آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دوق ركيصانص إلى شمال البشرات، وسار جيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الأسبان في طريقهم كل شئ وأمعنت في التقتيل والتخريب، وعبثاً حاولت السرايا الموريسكية أن أن تقف في وجه هذا السيل فمزقت تباعاً، وهدم الأسبان الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول حتى لا يبقى للثائرين مثوى أو مصدر للقوت، وأخذت دعائم الثورة تنهار بسرعة وفر كثير من الموريسكيين إلى إخوانهم في أفريقية، ولم يبقى أمام الأسبان سوى مولاي عبد الله وجيشه الصغير؛ بيد إن مولاي عبد الله لبث معتصماً بأعماق الجبال يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف

ص: 15

وفي 28 أكتوبر سنة 1570 اصدر فيليب الثاني قراراً بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد. ومصادرة أملاكهم العقارية وترك ملاكهم المنقولة يتصرفون فيها؛ ونفذ القرار الجديد بمنتهى الصرامة والتحوط، وجمع الموريسكيون في الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند في كل مكان، ونزعوا من أوطانهم وربوعهم العزيزة، وشتتوا داخل الأقاليم الأسبانية، وانهار بذلك المجتمع الموريسكي في مملكة غرناطة

ولم يبق إلا أن يسحق مولاي عبد الله وجيشه الصغير؛ وكان هذا الأمير المنكود يرى قواده وموارده تذوب بسرعة وقد انهار كل أمل في النصر أو السلم الشريف؛ بيد انه لبد مختفياً في أغوار الجبال مع شرذمة من جنده المخلصين، وفي مارس سنة 1571 كشف بعض الأسرى سر مخبئه للأسبان فأوفدوا رسلهم إلى معسكره في بعض المغائر وهناك استطاعوا إغراء ضابط مغربي من خاصته يدعى (الزنيش) أغدقوا له المنح والوعد إذا استطاع أن يسلمهم مولاي عبد الله حياً أو ميتاً وزودوه بالعفو الشامل؛ فدبر الضابط الخائن خطة لاغتيال سيده؛ وفي ذات يوم فاجأه مع شرذمة من أصحابه فقاوم مولاي عبد الله ما استطاع ولكنه سقط أخيراً مثخناً بجراحه فحمل الخونة جثته إلى غرناطة؛ وهناك رتب الأسبان موكباً أركبت فيه الجثة مسندة إلى بغل كأنما هي إنسان حي، ثم حملت إلى النطع وأجري فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ثم جرت في شوارع غرناطة مبالغة في التمثيل والنكال، وبعد ذلك أحرقت في الميدان الكبير

- 5 -

وهكذا انهارت الثورة الموريسكية وسحقت وخبت آخر جذوة من العزم والنضال في صدور هذا المجتمع الأبي المجاهد وقضت المشانق والمحارق والمحن المروعة على كل نزعة إلى الخروج والنضال، وهبت ريح من الرهبة والاستكانة المطلقة على ذلك المجتمع المهيض المعذب، وعاش الموريسكيون لا يسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، في ضل العبودية الشاملة والإرهاق المطبق حقبة أخرى

على أن أسبانيا النصرانية لم تطمئن مع ذلك إلى وجود هذا الشعب المستكين الأعزل الذي مازال رغم ضعفه وذلته يملأ جنباتها بفنونه ونشاطه المنتج؛ وكانت الكنيسة مازالت تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض على مجتمع لم تطمئن إلى صحة إيمانه، وكانت الدولة ذاتها

ص: 16

تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع ومطاردته. فهي تخشى من أن يعود إلى الثورة، وهي تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمي أفريقية، وكان التنصر المطبق قد عم الموريسكيين وغدا أبناء قريش ومضر بحكم القوة والتطور نصارى وقشتالين، يشهدون القداس، ويتكلمون القشتالية؛ غير انهم لبثوا مع ذلك في معزل تلفظهم أسبانيا النصرانية وتحيطهم بريبها وبغضها؛ وكانت ثمة منهم جموع كبيرة في بلنسية ومرسية؛ ففي عهد فيليب الثالث اتخذت أسبانيا النصرانية خطوتها الحاسمة، وأصدرت قرارها الشهير في صحف الاضطهاد، بنفي الموريسكيين أو العرب المنتصرين من أسبانيا، وإخراجهم نهائياً من جميع الأراضي الأسبانية (سنة 1609م - 1017هـ) وحشدت السفن لنقل من كان منهم في الثغور إلى أفريقية، ونزح سكان الشمال منهم إلى فرنسا حيث استقروا في لانجدوك وجويان، وبذلك انتهى الفصل الأخير، من مأساة الموريسكيين وطويت صفحة شعب من امجد عصور التاريخ وحضارة من اعرق حضاراته

ولكن فلك التاريخ يسير بلا هوادة؛ فقد كانت مأساة الموريسكيين ضربة لأسبانيا النصرانية ذاتها، وكانت بدء عصور التدهور والانحلال التي مازالت تتخبط أسبانيا في ظلماتها

وهل يكون من عدالة الله في أرضه وبين شعوبه أن تجتاح أسبانيا النصرانية اليوم موجة مدمرة من الحديد والنار تحصد أبناءها وحضاراتها حصداً؟ وهل تكون الحرب الأهلية الأسبانية نقمة الموريسكيين تلحق أسبانية بعد أربعمائة عام؟

(تم البحث)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 17

‌في الأدب المقارن

أثر الأخلاق في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

التخلق من صفات الإنسان الذي يحيا في الجماعة، تضطره الحياة الاجتماعية إلى تعديل كثير من طباعه الفطرية التي يجبل عليها، وكبح ما يتنافى منها مع مصلحة المجتمع، الأخذ بما فيه تلك المصلحة، فالأخلاق الحسنة أو الفضائل هي الصفات التي بها يكون صلاح الفرد والمجتمع، ومن أجل هذا الصلاح يحمد الصدق والشجاعة والعفة، ويذم الكذب والجبن والفجور؛ وهذه الأخلاق الحسنة التي هي مزيج من طباع الإنسان المركبة فيه، ومقتضيات المجتمع التي يفرضها عليه، تكاد تتفق بين جميع الأمم في شتى الأصقاع والعصور، فما من أمة لا يحمد فيها الكرم والإيثار والقناعة وتذم الرذائل المضادة لهذه الفضائل، معايير الأخلاق هذه يكاد يتحد فيها الجميع، إنما تختلف الأمم والأفراد في مدى مراعاتها حقاً واتباعها عملاً، باختلاف الجبلات والأوساط الجغرافية والاجتماعية.

وللأخلاق أثرها المحقق آداب الأمة وأدب الفرد. تنعكس الأخلاق في مرآة الأدب كما تنعكس العقليات، ويكون ظهور آثارها في الأدب أحياناً بدهياً تلقائياً غير مقصود، كما يكون أحياناً مقصوداً معنياً، إذ يلجا الأديب إلى تصوير أخلاقه الذاتية وأخلاق غيره من أفراد مجتمعه، وتختلف صبغة أدب الأمة الأخلاقية من جيل إلى جيل، حسب ما يتوالى على المجتمع من عوامل الفضيلة والرذيلة، ومتانة العقيدة الدينية أو انحلالها، وارتفاع المثل العليا التي يتوخاها المجتمع أو انحطاطها، اثر كل ذلك واضح في آداب الأمة المكتوبة وفي أقاصيصها الشعبية وأناشيدها المتداولة.

وفي الأخلاق الفاضلة كما تقدم صلاح المجتمع، بيد أن تحبيذ الفضيلة وذم الرذيلة ليسا وضيفة الأدب الأولى، إنما وضيفته تصوير الجمال ووصف الشعور وبيان الحقائق على ما هي عليه غير مموهة، والعبقرية الفنية والفضيلة ليستا دائما توأمين، بل ربما كان الكثير من رجال الفن أميل إلى الإفراط والتفريط في حياتهم، وابعد عن القصد والاعتدال من عامة الناس، وقد ترقى الفنون وتزدهر في عصور الأدبار الخلقي، كما كانت الحال في إيطاليا في عهد النهضة الأوربية؛ على إن الأدب وان لم تكن غايته نشر الفضيلة، ولا

ص: 18

وضيفته ترقية الأخلاق، إن هو إلا مظهر من مظاهر رقي الإنسان وتحضره، وناحية من نواحي حياته الاجتماعية يجب عليه أن يخضع لما يخضع له سائر مناحي تلك الحياة من مقاييس خلقية فيها صلاح المجموع

فإذا لم يكن واجب الأدب الوعظ والإرشاد إلى الخلق القويم فواجه الذي لاشك فيه ألا يصادم الخلق القويم ولا يتحدى تقاليد المجتمع الصالحة، وواجبه أن يتجه ما استطاع وجهة الخير ويتنكب مواضيع الفساد ودواعي التبذل، وكل اثر أدبي مهما بلغت براعته وصدقه ودل على عبقرية صاحبه، إذا خالطه الفجور والإفحاش واتسم بالاستهتار وتوخي الهنات والسوءات، لابد أن يمجه الذوق السليم وينفر منه الطبع الكريم، لما فيه من منافاة للأخلاق السامية التي يأخذ نفسه بها كل متحضر متهذب متثقف ويدرج عليها حتى تتأصل فيه وتصير له طباعاً ثانية

كانت للعرب في الجاهلية أمثلة عليا من الأخلاق الفاضلة التي تمليها حياة البادية، كالشجاعة والذود عن الذمار والدفاع عن الحريم والجود والقناعة وإجارة المستجير؛ وحول التمدح بتلك الأخلاق يدور جانب عظيم من الشعر الجاهلي، يعزو الشاعر تلك الفضائل إلى نفسه تارة كما فعل عنترة في معلقته، وإلى قومه عامة كما فعل عمرو بن كلثوم ولبيد والسموأل، وإلى ممدوحه كما كان يفعل زهير والأعشى، ولبعض أشراف الجاهلية كالأفوه الأودي وحاتم الطائي وذي الإصبع العدواني، وآثار في ذلك رائعة ببلاغتها وقوة أسرها وسمو منزعها، ويرسلها بعضهم قصيداً رصيناً، وبعضهم يرسلها نصائح للمخاطب، ويصوغها بعضهم وصايا إلى أبنائهم، وبعضهم يجعلها حواراً بينه وبين زوجه على تلك الطريقة العربية الجميلة؛ وطلب العرب حسن الأحدوثة وطيب الأثر، ولم يدخروا في ذلك قولاً أو فعلاً، قال حاتم الطائي:

وتذكر أخلاق الفتى وعظامه

مغيبة في اللحد بال رميمها

وبديهي إن التمسك بكل هاتيك المثل العليا الخلقية لم يكن ديدن جميع العرب ولا التغني بها دأب جميع الشعراء، بل كانت أسباب الشر والفجور موفورة، ودواعي المجون والخلاعة عديدة، تتجلى في سيرة امرئ القيس الذي لم يكن يكاد يفيق غراماً أو خماراً، وحياة طرفه التي صورها في معلقته، حيث وصف ثلاث حاجاته في الحيات، فمنهن سبقه العاذلات

ص: 19

بشربة كميت، وتقصير يوم الدجن ببهكنة تحت الخباء المعمد، وكره إذا نادى المضاف محنباً، وكان ذيوع المفاسد قبيل ظهور الإسلام سبب ظهور كثير من الحكماء الذين اخذوا أنفسهم بالزهد ودعوا إليه، كما اخذ كثير من أشراف العرب أنفسهم بمجانبة الخمر والقمار ونحوهما، ومن أولئك عامر بن الظرب الذي يقول وقد حرم في جماعة من السادة الخمر على أنفسهم

أقسمت بالله اسقيها واشربها

حتى يفرق ترب القبر أوصالي

مورثة القوم أضغاناً بلا إحن

مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي

وظل أكثر المثل العليا الأخلاقية في الإسلام كما كان في الجاهلية، بعد أن هذب الإسلام من حواشيها وكفكف من غلوائها، فتمدح شعراء الإسلام بالفضائل كالكرم والوفاء وحسن الجوار وكتمان السر والحلم عن السفيه والتصون عن الفحشاء والترفع عن المماراة والمجازاة بالحسنة عن السيئة، كما فعل مسكين الدارمي وأوس بن معن، والمقنع الكندي والشريف الرضي، وتفاخروا بالبلاء في الحروب والإباء على الضيم والتعالي على الجهال وطلب السيادة والمعالي، كما فعل أبو فراس والمتنبي، ومدح الشعراء ممدوحيهم بهذا وذاك، ورموا مهجويهم بأضداد تلك الفضائل، وتهكموا في مداعباتهم بالبخلاء والجبناء والمنهزمين والأدعياء والمتطفلين. ومن محاسن أشعار امتداح الخلق الكريم قول سالم بن وابصة الذي يتمثل فيه الروح الإسلامي:

أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه

كأن به عن كل فاحشة وقرا

سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى

ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا

إذا ما أتت من صاحب لك زلة

فكن أنت محتالاً لزلته عذرا

وقول الشريف الرضي:

يصول عليّ الجاهلون وأعتلي

ويعجم في القائلون وأعرب

لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى

إذا نال مني العاضه المتأوب

ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها

ولا انطق العوراء والقلب مغضب

وكأن احتواء الشعر على تلك الآداب النفسية من أسباب ضن العرب الشديدة به، وتسميتهم إياه ديوانهم، وأخذهم أبناءهم بحفظه. وكانت دراسة آثار أبطال العرب وأشرافهم تلك تقوم

ص: 20

في التربية العربية مقام دراسة أشعار هوميروس في التربية اليونانية القديمة، كل منهما تقدم للناشئ نماذج من الفضيلة وأمثلة من الشخصيات العظيمة يحاكيها ويتشبه بها، وهذا الباب من اكرم أبواب الشعر العربي واجمعه لخير ميزات الأدب العربي، ومن البلاغة والصراحة والإيجاز ونفاذ النظرة

على انه بجانب هذه النزعة الخلقية السامية المتخلفة عن أشراف الجاهلية، والتي رفعتها فضائل الإسلام درجات من الرقة والسمو ظهرت رويداً رويداً نزعة مضادة لها كانت ذات اثر في الأدب واضح وضوح نزعة التسامي تلك أو هو أوضح، وتلك هي نزعة الاستهتار والمجون والإباحة التي كانت نتيجة محتومة لاتساع الفتوح واختلاط العرب بأشتات الأجناس واستفحال الترف واتساع الثروة وتفاقم دواعي الشهوات؛ ثم انحطاط مكانة المرأة من جراء ذلك واختفائها من المجتمع. حتى ذاعت فيه الآداب الخشنة والألفاظ الفاحشة، بدل أن يتهذب مع الحضارة، ويتخلص من جفوة البداوة الجاهلية

وانعكس أثر كل هذا الفساد في الأدب العربي، فجاءت كتب الأدب محملة بالحكايات المخزية والعبارات النابية والإشارات المندية، وشبب الشعراء بالذكور، وتمدحوا بالتسلل إلى الخدور، وتفاخروا بالإسراف في الشراب والعكوف على سماع الألحان، وجاهر بعضهم بالزندقة وتهكموا بعقائد المجتمع الدينية، ووقع بعضهم في خصومهم بأفذع الهجاء وتهجموا على أعراضهم واتهموا حلائلهم. وفي أشعار جرير والفرزدق وبشار وأبي نواس والمتنبي وابن الرومي من ذلك الشيء الكثير

أوغل الشعراء في تلك الأبواب إيغالاً لا يكاد يصدقه العقل، ومن العجيب أن الطريقة التقليدية التي يجري عليها تاريخ الأدب العربي لا تزال تعد من فحول العربية شعراء لم يكد يؤثر عنهم مقال في سوى تلك الأغراض الحيوانية. ومن البديهي انه مهما تفنن الناظم في وصف الخمر وتصوير الشهوات، فلن يرفعه ذلك إلى مصاف الشعراء العظام. ودواوين ابن أبي ربيعة وبشار وحماد وأبي نواس وأمثالهم إن هي إلا استهتار وتمدح بالمخازي ومجاهرة بالفسوق محكمة الديباجة بارعة النظم؛ فإذا كان هؤلاء من فحول الأدب العربي فما أقصره عن بلوغ المثل الأعلى للأدب الراقي. ومن ايسر مجون أبي نواس قوله:

ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر

ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

ص: 21

فهو لا يقنع أن يفرط في الشراب ما شاء، بل يأبى إلا الإمعان في الفجور وإلا أن يتم لذته بالجهر بالعربدة

ولئن حمدت الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها الفلاسفة والعلماء في كثير من الدول الإسلامية، فما كذلك هذه الحرية التي استباحها المجان من الأدباء، الأولى حرية تساعد تقدم الفكر ورقي العلم، والثانية تؤدي إلى انحطاط الخلق وتضرب في دعائم المجتمع. الأولى حرية فكرية نافعة، والثانية إباحية خلقية ضارة، والأدب يرسم للمجتمع - وان لم يقصد - مثلاً عليا يتوخاها، فإذا تمادى في تصوير دنئ النوازع فانه يهبط بالنفوس إلى مستوى منحط لا تريد عنه ارتفاعاً. وليس شك في إن أشعار أبي نواس ومثاله كانت من اكبر أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي، وقد كانت حياة الصعلكة التي كان يحياها، وأشعار العربدة التي نظمها، نموذجا للأدباء في عصور الأدبار، فكان الأدب والصعلكة وإدمان الشراب ووصف الخمر فبنظرهم توائم لابد أن تجتمع

ففي الأدب العربي آثار من الخلق الكريم وتمدح بالفضيلة، بجانبها آثار من الأخلاق المنحطة ومجاهرة بالاستهتار؛ وفي الإنجليزية طرف من هذه وطرف من تلك أيضاً: فقد تأثر بعض شعراء الإنجليزية بالمثل العليا الأخلاقية التي سنتها المسيحية، بجانب تلك التي أثرت عن الوثنية، وظهر اثر ذلك في أشعار سبنسر الذي جعل كل فارس في ملحمته (الملكة الحسناء) عنواناً على فضيلة من الفضائل المسيحية. وبدا ذلك أيضاً في أدب عهد المطهرين، ففي كتاب (رحلة الحاج) لبنيان تتشخص الفضائل والرذائل على ذلك النحو، ثم كان تنيسون وكبلنج يمزجان النزعة المسيحية بالنعرة الوطنية؛ وظهرت في الأدب الإنجليزي بجانب ذلك نزعة الاستهتار والمجون في بعض الفترات، كما حدث في بعض القرن السابع عشر من جراء التأثر بالبلاط الفرنسي المترف، وفي أواخر القرن التاسع عشر من جراء التأثر بالأدب الفرنسي أيضاً، إذ نزع بعض القصصيين الإنجليز كأوسكار وايلد إلى ذلك الضرب التحليلي من القصص الذي يسرف في تصوير الذات، واستكناه دنئ العواطف وخسيس النزعات

على إن كلا الأمرين - اعني التمدح بكريم الأخلاق والمجاهرة الاستهتار والتبذل - كانا ضئيلي الأثر قصيري العمر قليلي الاتباع في تاريخ المجتمع والأدب الإنجليزي، فالتشدق

ص: 22

بالمحامد والمكارم ليس يعجب الذوق الإنجليزي الذي يؤثر الصمت ويفضل العمل على القول، ومن ثم لم تنفق أخلاقيات تنيسون وإضرابه بين صفوة المثقفين، بل كانت من أسباب خمول ذلك الشاعر بعد وفاته؛ والتمادي في التحدث بالشهوات بعيد كذلك عن طبع الإنجليزي والاجتراء على قواعد الفضيلة ومراسيم الحشمة وتقاليد المجتمع لا يحظى منه بغير الإنكار والإعراض، ومن ثم ثار بالمتهورين من الشعراء والكتاب أمثال بيرون وشلي واوسكار وايلد، فالجأ الأولين إلى حياة المنفى وزج الثالث في غيابة السجن، ولم تشفع لهم لديه مواهبهم الممتازة ولا صيتهم خارج إنجلترا، بل قد يغلوا المجتمع الإنجليزي في الغيرة على تقاليده إلى حد يسميه بعض الناس نفاقاً اجتماعياً، فيغضب على أدباء كرام سليمي الطوية، كما غضب على هاردي ولورانس من القصصيين المحدثين

فالطبع الإنجليزي يأبى أن يكون الأدب مطية للتفلسف الخلقي والفخر الطنان، كما يأبى أن يكون الأدب معرضاً للتبذل والتوقح، وإنما رسالة الأدب الإنجليزي التي ورثها عن الأدب الإغريقي هي الجمال والشعور الصادق، يحوط ذلك جو من الوقار والتسامي كان يعوز حتى الأدب الإغريقي ذاته أحياناً؛ وإنما احتفظ الإنجليز بصفات الرجولة والرزانة تلك لأنهم - فضلاً عن طبيعتهم الهادئة التي هي وليدة جوهم البارد - لم ينساقوا في تيار من الترف الموبق بانتشار فتوحهم وترامي أملاكهم، كما فعل غيرهم من الأمم التي شادت الإمبراطوريات في عصور التاريخ، لان تشييد الإمبراطورية البريطانية جاء تدريجياً هادئاً كالنمو الطبيعي، وبنجاة الإنجليز من مفاسد الترف والثروة المفاجئة سلمت لهم أخلاقهم القويمة.

أضف إلى ذلك تمتعهم بالحكم الديمقراطي، أي بحكمهم أنفسهم وخضوع الشعب لمشيئة الشعب وحدها، مما جعل للرأي العام الكلمة العليا في المحافظة على الأخلاق والذب عن تقاليد المجتمع إذا تحداه متحد وقع عليه الغرم المادي والأدبي وطاشت دعوته قبل ان يتأثر بها سواه؛ على حين كان الرأي العام في الأمم الإسلامية ضعيفاً مستخذياً أمام جبروت الملكية المطلقة، فكان أفاضل القوم ينقمون على حركات الاستهتار في المجتمع وآثار المجون في الأدب، ولكنهم كانوا مغلولي الأيدي لا يستطيعون عن عقيدتهم دفاعاً، وألف بعضهم حيناً جمعيات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على أيدي العابثين

ص: 23

فأصابهم من بطش السلطان وتعقبه ما لم يصب أولئك العابثين.

وكانت الملكية في الدول الإسلامية أحياناً تشجع التهاجي بالمقذغات بين الشعراء شغلاً لهم وللجمهور عن شؤون السياسة وظل بشار يتحدى عقائد الناس ويسخر من فضائلهم وينال من أعراضهم وهو آمن معافى، حتى تطاول على عرض الخليفة ذاته فكان في ذلك تلفه. ولما لم يكن للناس من قوة الرأي العام حارس ومدافع، عمد من استطاع منهم بحول أو مكيدة إلى الانتقام بنفسه ممن تعرض له بالفحش، فلقي كل من المتنبي وابن الرومي حتفه على يد مهجوه. هكذا استفحل المنكر في المجتمع والإباحة في الأدب من اثر ذيوع الترف وتحكم الملكية المطلقة، رغم أن المجتمع كان مجتمعاً إسلامياً والدولة كان أساسها دينياً، وكان الأجدر أن أدباً يزدهر في ظل الدين الإسلامي الحنيف، يكون اعف الآداب لفظاً وأشرفها قصداً.

وقد تقدم القول إن سريان ذلك الفساد في كيان المجتمع الإسلامي عقب الفتوح أدى إلى انحطاط المرأة واختفائها من المجتمع، وكان ذلك من دواعي انتشار هجر القول في الأدب فان وجود المرأة في المجتمع عامل تجمل وتوقر وتعفف في المسلك والمقال، وهو عامل سعد به الأدب الإنجليزي فكان من أسباب تساميه الخلقي، وظلت النظرة إلى المرأة في الإنجليزية سامية عفيفة، وظلت صحبتها منبع وحي وداعية تكرم لدى الأدباء، وقد قال ستيل عن صاحبة له فاضلة إن محادثتها هي ثقافة قائمة بذاتها

فالأديب الإنجليزي لا يتمدح بالمحامد ولا يجاهر بالمباذل، لأن طبعه لا يستسيغ هذا ولا ذاك، ومجتمعه لا يقبلهما منه، ثم هو لا يهجو غيره ولا يفحش في الهجاء. وإنما يصور أخلاق أفراد المجتمع بما فيها من فضائل ومعايب، ويتهكم بالمنشدقين بالفضائل والمتظاهرين بالعلم أو بالثروة أو بالعظمة، أي بالمسرفين في كل شئ المجاوزين حد القصد والاعتدال، والتوسط الذي هو خير الأمور، فالاعتدال شعار الإنجليزي في مسلكه وفي أدبه، والتطرف يثير سخره واحتقاره، وهذا الميل منه واضح في مواضيع الأدب الفكاهية، وضوحه في أغراضه الجدية

فخري أبو السعود

ص: 24

‌ذكريات.

. .

للأستاذ علي الطنطاوي

هما موقفان لا أزال اذكرهما، أو تغمض عيني كف الغاسل:

أما الأول فعلى ضفاف بردى، في الثامن والعشرين من سبتمبر 1936

وأما الثاني فعلى شاطئ دجلة في الخامس من مايو 1937

كان بردى يخطو على مهل، متهللاً منطلق الوجه، يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها، وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء. . . وكنت في السيارة الفخمة، انظر إلى جموع المودعين من الصحب والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح، ليودعوني قبل نزوحي إلى العراق فأقلب النظر في وجوههم، شاكراً لهم فضلهم، حزيناً لفراقهم، ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجي النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دَلاً وتيهاً، وارى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب في الماء فابصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي، وتتلو علي تاريخي فأحس بلوعة الفراق، وأشعر في تلك الساعة باني احب دمشق. . . دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي من الدنيا، وغاية أملي في حياتي. . . ثم يطوي المرج هذه الصور كلها، ولا يدع حيال عيني إلا صور اخوتي، فأتأملها بعين دامعة وقلب واجف خائف من الفراق، ثم تجتمع كلها في وجه واحد، هو احب الوجوه إلي وأدناها إلى قلبي. . . والمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان. فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر، ويعود حياً جديداً. . .

. . . رأيتني في محطة الحجاز، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمن مسافر عجل، ومن مودع باك، ومن بائع يصيح. . . ومن آت وذاهب، وطالع ونازل. . . وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا، وإلى جانبي أختي الصغيرة. . . انظر إلى بعيد، فأرى هناك، في أخريات الناس امرأة تمسك بيديها طفلين، ملفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا من القطار. وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً، ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجو، وزلزالاً شديداً يدك نفسها

ص: 25

دكاً. . .

وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد قلبنا خفقاناً واضطراباً، ثم قذف إلى الجو بدخانه كأنما هو حي قد اخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين، والألم الحبيس ثم هدر وسار وراحت المحطة تبتعد عنها وعني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض، حتى غاب عني كل شئ. . .

هنالك تلفت فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجد لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار - لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها اكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى واجلد. . .

أردت أن القي بنفسي لأني لم اكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي التي كان تعلقها بنا، وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان. . . آه ماذا تفيد (كان)، وقد كان ما كان؟. . .

تلك هي أمي، التي مر على (غيابها) عني سنوات طوال، ولكني أحس كان الحادثة كانت أمس - فتحز في نفسي ولا أطيق أن اكتب عنها حرفاً

تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً، بعد أبي رحمهما الله، وكانت حبيبة وكانت أستاذة، وكانت دنياي وكانت آخرتي. . . وكانت أمي!

تلك هي أمي التي فوجئت كما تفاجأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً. . .

تلك هي أمي التي ما نسيتها - علم الله - أبداً، ولم اذكرها أبداً، كأنها تملأ نفسي ولكني لا اجري ذكرها على لساني. أراها في أحلامي حية فاشعر كأني عدت حياً، وأهم بعناقها وافتح عيني فأجد على وجهي حر لطمة الدهر الساخر، ولكني احمل اللطمة. وأغضى على القذى، ولا اخبر اخوتي بشيء، لئلا اذكرهم ما هم ناسون، أو اجدد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونه. . . ولعل كل واحد منهم يحس مثلما أحس ويكتم مثلما اكتم!

ذكرت ذلك ساعة الوداع، لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلا معنى واحد هو إني اذكر وفاة أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه

فلما صحوت نظرت في وجوه المودعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية، ولكني لمحته حياً

ص: 26

ماثلاً في وجوه اخوتي الأحباء. فودعته بدمعة من العين، وابتسامة على الفم، وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء. . .

ذلك هو الموقف الأول!

أما الموقف الثاني فقد كان على شاطئ دجلة في الهزيع الأول من الليل؛ وكانت محطة بغداد الغربية زاخرة بعشرات من خير شباب بغداد وزهرة فتيانها تركوا دروسهم وامتحانهم القريب وخرجوا من دورهم في هذا الليل ليودعوا صديقاً احبهم وأحبوه، واخلصوا له الحب واخلص لهم. . . ذلك الصديق هو أنا، وأولئك هم تلاميذي بل اخوتي، جاءوا يودعونني لا قياماً بواجب رسمي، ولا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، ولكن وفاء وحباً. والحب اجمل ما في الوجود؛ والوفاء اقدس ما فيه بعد الإيمان. . . وكنت مستنداً إلى نافذة القطار الذي سيحملني إلى البصرة، أصغي إلى خطبهم وأشعارهم التي صبوا فيها عواطفهم، وكتبوها بمداد قلوبهم، أتأمل فلا أرى (والله) إلا بردى ودمشق واخوتي

وغبت عني في شبه ذهول، فما انتبهت إلا وأنا وحيد في القطار، أضم إلى قلبي هذه الهدية التي قدمها إلي تلاميذي. وأطللت من النافذة فلم أجد إلا الظلام. . .

لما دخلت عليهم الصف أول مرة كنت مشتاقاً إلى بلدي كارهاً لغربتي متألماً ملتاعاً، فلم أر في الصف إلا عيوناً جامدة وقلوباً معرضة وأفواهاً مغلقة، وكانوا عندي من العدم لأنه لم يكن لهم في ذاكرتي وجود. ولكن لم ألبث أن وضعت بين أيديهم قلبي فأحببتهم كما يحب الأخ أخاه، (احبهم في مجموعهم لا احب واحداً منهم. . .) واخلص لهم، واحرص على رضاهم وأحس الفرح يغمر نفسي إذا قدمت لواحد منهم خيراً. أو درأت عنه شراً ويتصدع فؤادي إن وجدت أحدهم متألماً، فلا أني اخفف ألمه. وادفع عنه حزنه؛ وكنت أعيش بهم ولهم ومعهم

ووضعت بين أيديهم رأسي أطلعهم على كل ما اختزنته فيه هذه السنين الطوال. استغل اضعف المناسبات لأطلعهم على جمال الأدب العربي، وعظمة التراث الإسلامي، وقيمة التفكير الحديث، واتجاه النقد الجديد، وأعلمهم الاستقلال الفكري، واحفزهم إلى المناقشة، ولا استعمل في إقناعهم سلطة المدرس لان ذلك ضعف، ولكن استعمل قوة المحق ولسن الجدل النظار. واعترف لهم بالحق إذا ظهر على لسانهم؛ واقر باني لا ادري ما لا أكون

ص: 27

أدريه. . . وابعث في ملكاتهم المهملة، وأشجعهم على الإنتاج والنشر. . .

وكان زملاؤنا المدرسين يحذرونني عواقب هذه الطريقة لان الطلاب (في رأيهم) لا يقدرون قيمة الحرية واللطف، ويحسونها عجزاً وضعفاً ويتخذونها سبيلاً إلى الشغب ولكني وجدتهم يقدرون قيمتها، ويحترمون المدرس العادل العالم اللطيف، أكثر مما يحترمون المدرس الجبار العنيف، ووجدت هذه الطريقة قد أجدت جدى كبيراً، فاقبل الطلاب على الأدب وقد كانوا عنه منصرفين، وصار احب الدروس إليهم وقد كانوا يكرهونه، ونشأ فيهم كتاب وشعراء ونقاد يؤمل منهم بعث الحياة الأدبية في العراق في بضع سنين. . .

وضعت بين أيديهم رأسي وقلبي، فلما أثمر الثمرة ولما تحركت هذه العيون بالإخلاص، وأقبلت هذه القلوب بالحب وتفتحت هذه الأفواه عن اجمل أحاديث العلم والأدب والود. . . ولما محيت تلك الفروق كلها. وزال التكلف بين المدرس والطلاب، ولم يبق إلا اخوة يعيش الواحد منهم للجميع، ويعمل الجميع للواحد. . . جاء الأمر بنقلي إلى البصرة. . .

وهأنذا الآن في البصرة في هذه الغرفة الصغيرة اذكر مجالسنا على شاطئ دجلة فيخفق قلبي خفقاناً شديداً، وأتمثل أمامي صورة أخي الشاعر وهو ينشدنا أعذب أشعاره التي تشبه في رقتها نسيم الماء الرخي اللين، وفي انسيابها دجلة التي خلع عليها الغروب ثوباً منسوجاً من خيوط النور فيه مائة لون. . . واذكر (ليلة المطر). . . ليلة جلسنا في هذه الحديقة التي تنبسط وراء المطار المدني في بغداد، وأمامنا الفضاء الذي يمتد إلى. . . إلى دمشق، لا يحجبه شئ؛ وكان مصباح المطار الأحمر القوي يريق ضوئه على الحديقة ومن فيها فيجعلها كأنها بقعة من عالم مسحور، لا يشبهه شئ، ولكنه جميل أخاذ يملأ النفس نشوة وسكراً؛ وكانت الطبيعة تبدو أمامنا كأنها لوحة خطتها ريشة ابرع المصورين؛ فهذه الحمرة العجيبة، وزرقة السماء الصافية، وسواد الليل عند الأفق، والنساء بثيابهن الملونة المبرقشة، والنادبون بقمصهم البيض، يمشون على الحشائش. لا يسمع لهم صوت، يتكلمون همساً. . .

وكان النسيم رخياً ناعشاً، تميل منه الأزهار فتفوح من أثوابها رائحة العطر، فتطفو على هذا النسيم والأضواء البعيدة - كأنها تائهة في الظلام فهي ترتجف من الخوف، وقد جمعت الطبيعة في تلك الليلة سحرها كله: صفاء السماء، وسكون الليل: والربيع الذي زخرف هذه

ص: 28

الحديقة ورصعها بالورد والزهر، ووضع فيها خلاصة فنه ونتاج عبقريته

وكان كل شئ عاشقاً قد سكر بخمرة الجمال، وراح يحلم. فالصحراء الواسعة قد سكرت وتغلغلت في الظلام منفردة تحلم بالظل والماء، والسهول المجاورة راحت تحلم بربيع دائم، وعاد الأمس حياً حالماً بالخلود، واطل الغد نشوان يحلم بليلة مثل هذه الليلة. . .

وكنت احلم. . . فما راعني وهبط بي من سماء أحلامي إلا ضحكة عذبة رقيقة كأنها رنين الذهب، لم اسمعها بإذني ولكني رايتها بعيني تتدحرج طافية على وجه النسيم الأحمر حتى غاصت في الظلام الساكن، وعاد الصمت. . . وكانت ضحكة عاشقين قد نسيا الوجود وما فيه، وغابا في حلم حي يقظان!

فهاج ذلك صديقي الشاعر فانحنى علي، وألقى في أذني إحدى أغانيه (الجديدة)

(زرعت روض شفتي بالقبل فأزهر واينع، ولكن لم يقطفه أحد فذوى وجف

(وأعددت سرير الحب في قلبي وضمخته بالعطر، ولكن لم يهجع عليه أحد فعلاه الغبار

(كأن الناس لما خلقوا قسموا أنصافاً، ثم نثروا في الحياة، فمن وجد نصفه صار إنساناً، ومن وجد غيره كان مسخاً، ومن لم يجد بقي نصف إنسان

(فأين أنت يا نصفي الآخر؟

(لقد ضاع النصف الذي فيه قلبي، فمن هي التي يخفق قلبي في صدرها

(من هي التي تنظر بعيني، وتسمع بأذني؟

(ومن هي التي لم أرها أبداً، ولا أرى غيرها أبداً؟)

شعرت بأن أغاني الشاعر قد سمت بي إلى عالم كله خير وجمال، وشعرت بنشوة عجيبة وعلمت أن ما أنا فيه غاية السعادة ونهاية السمو، وإذا أنا اسمع نغمة موسيقية فاتنة عادت تسمو بي، حتى رأيت ما كنت فيه أرضاً وهذي سماء، فذكرت كلمة فاجنر:(تبدأ الموسيقى حيث ينتهي الشعر)

واختلط علينا الجمال، فصار باقة واحدة، قد اجتمع فيها همس الحب وألحان الموسيقى بعبق الزهر، وأريج العطر؛ بخيوط الأشعة، وروعة الألوان، فصرنا نسمع ما يرى، ونشم ما يسمع، وصارت الحواس كلها حاسة واحدة. . . هي حاسة الجمال!

وهأنذا اذكر مئات من الذكريات، وأتمثل طلابي كلهم أمامي حتى إني لأمد يدي أصافحهم

ص: 29

فلا تقبض يدي إلا الهواء فأرتد مذعوراً واجلس يائساً. . . لقد غدا هؤلاء الفتيان جزءاً مني لأنهم عاشوا في نفسي ذكريات. . . كما عشت في نفوسهم ذكرى، فنحن مجتمعون ولو نأت بنا الديار. . .

وهأنذا آلف هذا البلد الذي كرهته واجتويته، وأصبر على شظف العيش فيه من اجل هؤلاء الطلاب الذين أحبوني هم أيضاً و. . . أحببتهم، وتعلقوا بي، فلا يأتون المدرسة إلا لسماع درسي، فان لم يكن لي درس أقاموا في بيوتهم يجدون ويستعدون للامتحان، ولا يدخرون وسعاً في إسداء يد إلي أو دفع الألم عني. . . ويحرصون على راحتي اكثر من حرصهم على نجاحهم في امتحانهم، ويفضلون كلمة مني على كلمة تقولها القانون. . .

اصبر من اجل هؤلاء الذين اغرس الآن حبهم في قلبي لانتزعه منه غداً وادعه جريحاً. . . أفهذه حياة المعلم؟ ماذا يبقى من قلب في كل مدرسة منه قطعة؟

هنيئا لمعلم ليس له قلب. . . . . .

ويا ويل المعلم إذا كان إنساناً. . . . . .

(البصرة)

علي الطنطاوي

ص: 30

‌الإسلام والديمقراطية

للأستاذ عبد المجيد نافع

أحببت أن أتكلم عن الإسلام والديمقراطية لأني رأيت بعض الصحف الأجنبية كلما تعرضت للنظم في مصر قالت: ليست الديمقراطية مادة للتصدير! وهي تقصد أنها لا تصلح لنا ولا نصلح لها. وما علمت أن قوما يدينون بالإسلام حرام أن تضيع الديمقراطية بينهم

وإذا ناديت أن الإسلام دين الديمقراطية فإني استوحي التنزيل الحكيم، وأستلهم الحديث الشريف، وأستهدي المأثور من أقوال أعلام الإسلام، واحكم في ضوء الأعمال الخالدة في تاريخ الإنسانية، ليتم لي القول أن دين محمد قد كتب للحرية أجل الصفحات وأروعها، وقرر من مبادئ الأخاء أسماها، ومن قواعد المساواة أعلاها. فكان دين الديمقراطية من الوجهتين النظرية والعملية، وكانت خير ديمقراطية أخرجت للناس

إذا اعتبرنا ميلاد الديمقراطية الغربية إعلان حقوق الإنسان في الانقلاب الفرنسي الكبير عام 1789 فان الإسلام قد سجل مبادئها قبل مولدها في أوربا بأكثر من ألف ومائتي عام. وإذ كان الفضل للمتقدم، فالفضل للإسلام في تحرير الإنسانية من ربقة الاستبعاد، وخلاصها من أغلال الأوهام

جاء الإسلام فوضع قواعد الديمقراطية في غير جلبة ولا ضوضاء، ودون أن يحدث هزة عنيفة في كيان الأمة العربية، بل دون أن يريق قطرة واحدة من الدماء. على حين أن الروح الديمقراطي لم يستطع أن يتنفس في جو أوربا، وبذور المساواة لم تنبت في البيئة الغربية، إلا بعد قرون ثلاثة حافلة بالثورات، وصراع دموي بين طبقة الأشراف وطبقات الشعب، صبغ ارض أوربا بالدماء

وسترون إن الإسلام جاء بالأخاء الصحيح، والمساواة الحق في حين أن الديمقراطية العصرية، باعتراف أنصارها وخصومها على السواء، لم تبرأ من شوائب النظم البالية العتيقة

الديمقراطية، في اصطلاح العلوم السياسية، هي النظام الذي يحكم الشعب فيه نفسه بنفسه، أما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارهم عنه

ص: 31

على إني أسارع إلى القول بان مدلول عبارة الديمقراطية قد اتسع اليوم نطاقه بحيث اصبح يشمل النظم الاجتماعية والاقتصادية فوق اشتماله على النظم السياسي. ولو شئنا أن نستغني بالأجمال عن التفصيل، لقلنا في كلمة: إن الديمقراطية هي النظام أو مجموعة النظم التي تحقق مبادئ الحرية والمساواة بين الناس بقدر ما يمكن أن يكون الإنسان حراً، وبالقسط من المساواة الذي لا يصطدم مع النواميس الطبيعية

ورأيت الناس مشغوفين كلفين بالديمقراطية حتى لأجدهم يسرفون في استعمالها فيقولون الأدب الديمقراطي، والفن الديمقراطي؛ بل أراهم لا يقتصون في التبرع بها حتى يخرجوا بها عن معناها الأصلي، فالرجل المتواضع في عرفهم رجل ديمقراطي، وان كان للديمقراطية من ألد الخصام

عرف أرسطو الديمقراطية بأنها نظام الحكم الذي تنتقل السلطة فيه إلى أيدي طائفة من المواطنين الأحرار المتساوين عند طبقة الأرستقراطية

يخلص لنا من هذا التعريف إن الحرية والمساواة هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما صرح الديمقراطية.

إن من ينعم النظر في أقوال أرسطو يجد إن حكيم اليونان كان متبرماً بالنظام الديمقراطي في عصره، لا لأنه كان يتنكر لمبادئ الحرية، أو يخاصم تعاليم المساواة، أو يضيق صدراً بتوسيع دائرة اشتراك الشعب في إدارة شؤون الدولة، بل لان النظام الديمقراطي في عهده قد ساء حتى تردت اليونان في هاوية الفساد والفوضى

كلما اتسع أفق المعارف الإنسانية، شعر الناس بالكرامة وأحس العقل البشري بالعزة، فتطلعوا إلى تحقيق المثل العليا، وطمحوا إلى توسيع قاعدة اشتراكهم في إدارة دفة الشؤون العامة، والهيمنة والإشراف على أمور الدولة، لذلك كان النضال حاداً عنيفاً بين الشعوب الطامحة إلى الحرية، والطغاة المستبدين الذين يصدونهم عن سبيلها، والتطاحن شديداً بين طبقة الأشراف التي تنعم بالامتيازات، وطبقات الشعب التي تتطلع إلى تحقيق مبادئ المساواة. وإذن فمن الحق أن يقال: إن تاريخ الديمقراطية هو تاريخ الحضارة الإنسانية

وما انصف كارل ماركس الحقيقة والتاريخ حين صاح بان البطون هي مصدر الانقلابات في كل أدوار التاريخ، وان الناس حين هبوا يسفكون دماءهم، ويزهقون أرواحهم، فإنما

ص: 32

كانت هبتهم للخبز لا للحرية، وفورتهم في سبيل أغراض مادية لا لتحقيق المثل العليا والسعي وراء الكمال الإنساني

وما انصف من قبله بعض قادة الفكر في روما حين قالوا بان الشعب الروماني يجتزئ بالخبز والملاهي عن الحرية السياسية والاشتراك في تسيير أداة الحكم

وإذا كان قد أتيح لفريق من الرومان أن يقولوا ساخرين متهكمين: لدى الشعب أصوات انتخابية وليس لديه خبز؛ فقد كان ذلك من جراء فساد النظم، وانحطاط أداة الحكم، لا من جراء مسخ الطبيعة البشرية

تميز تاريخ روما القديمة بسلسلة من المناضلات متصلة الحلقات بين جماعة الأشراف وطبقات الشعب لتحقيق مبادئ المساواة

على أن تربة روما لم تكن صالحة لنمو بذور الديمقراطية، وكلما اتسع ملك الرومانيين وبسطوا سلطانهم في الأرض طلقوا مبادئ الديمقراطية واعتنقوا روح الاستعمار، وأقاموا بناء إمبراطوريتهم على الغلبة والقهر، وأصبحت الأمم المغلوبة على أمرها أسلاباً تقتني وضياعاً تستغل

كان المسلمون إذا فتحوا أمة تركوا لأهلها حرية العقيدة وحرية العبادة وخلوا بينهم وبين أملاكهم، وضمنوا لهم أمنهم وأرواحهم وسووا بينهم في المعاملة وهتفوا فيهم بذلك المبدأ القويم: لهم مالنا وعليهم ما علينا

وكذلك كان الإسلام كلما دخل أمة حمل معه بذور الإخاء والمساواة.

أود أن أضع تحت الأنظار صورتين متباينتين لامة اليونان القديمة، وأمة العرب قبل بزوغ فجر الإسلام، لتروا بأعينكم وتلمسوا بأيديكم، إلى أي حد وفق دين الهدى والحق إلى صبغ جزيرة العرب بالصبغة الديمقراطية وطبع أهلها بطابع المساواة

كانت اليونان القديمة بطبيعة تكوينها ومزاج أهلها مهداً صالحاً للديمقراطية، فقد كانوا يقيمون بالمدن ولا مشاحة في أن المدن هي مواطن الديمقراطية. وكانت ميول اليونانيين متجانسة، ومشاعرهم منسجمة، ومصالحهم متحدة، غير متنافرة تجمعهم ذكريات تاريخية مشتركة، وتؤلف بين قلوبهم مثل عليا واحدة

على النقيض من ذلك تماماً تجد سكان الجزيرة: فقد كان العرب يسكنون مضارب الخيام،

ص: 33

وانقسموا إلى شيع وقبائل. وكانت أهواؤهم متفرقة، ومصالحهم متنافرة. بل كانت المنازعات بينهم سلاسل متصلة الحلقات، والحروب متواصلة الضروب

ومن ينكر اعتزاز العرب بالعصبية؟!

ومن ينسى تطاولهم بالأحساب والأنساب؟!

ومن ذا الذي لم يملأ سمعيه بأخبار مفاخرتهم ومكاثرتهم ومنافرتهم؟!

فأنت ترى من هذه الصورة أن جزيرة العرب لم تكن المهاد الصالح لنموا شجرة الديمقراطية، والعرب لم يكونوا القوم المستعدين لإساغة تعاليم الديمقراطية وهضمها

وجاء الإسلام فنشر راية الديمقراطية، وبث مبادئ الأخاء والمساواة، لا لأن الجو كان مهيئاً لها، ولا لأن العقول كانت مستعدة لهضمها، ولا لأن الإسلام شاء ان يتمشى مع العرب في رغباتهم، ومنازع نفوسهم ليصم الأولياء، ويكسب الأنصار، ولكن الإسلام جاء فألقى بذور الديمقراطية، لأنه دين الفطرة، لأنه دين الإنسانية الطامحة إلى الكمال، لأنه الدين الذي اخذ نفسه ببث احكم المبادئ، وغرس أقوم الأحكام.

اجل، لقد حمل الإسلام راية الأخاء وأهاب باتباعه: إنما المؤمنون اخوة. والمؤمنون بعضهم أولياء بعض: وعبيدكم الذين هم ملك يمينكم إخوانكم في الدين.

نعم، لقد رفع الإسلام لواء المساواة، وأذن في أنصاره: لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس سواسية كأسنان المشط.

ولم يقف الإسلام عند حد تلقين اتباعه مبادئ الإخاء والمساواة نظرياً، بل راضهم عليها عملياً، فشرع لهم الأحكام القائمة على الإخاء والمساواة، واراهم القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، فطبعت قلوبهم على الإخاء، وأشربت نفوسهم حب المساواة، حتى صاح أعرابي في وجه عمر صيحته التاريخية الخالدة، ولم يتعثر، ولم يتلجلج: لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا.

انطفأت شعلة الديمقراطية في عصور الظلمات في أوربا، وخبا نور الحرية، واندثرت معالم المساواة، وانشطر المجتمع الأوربي إلى ثلاث طبقات: فريق الأشراف، وجماعة الاكليروس، وطبقة الشعب. وكان التاريخ الغربي صفحة دامية من النضال بين الشعوب المهضومة الحقوق والطغاة المستبدين الذين يتنكرون لتلك الحقوق فينكرونها. واتصل

ص: 34

التطاحن بين الطبقات؛ فأما الأشراف فكانوا يحرضون على امتيازاتهم، وأما رجال الدين فكانوا يضنون بأنفسهم أن يهبطوا إلى مستوى الشعب، وأما الشعب الطامح الطامع في رد اعتبار الكرامة البشرية، ووضع حد لامتهان العقل الإنساني؛ فلم يضن بأية تضحية يبذلها في سبيل الحرية والمسواة، فبذل دماء المجاهدين بسخاء

كانت الحرية السياسية منعدمة، والحرية الشخصية كلمة جوفاء، والحرية الدينية خيالاً متلاشياً، والمساواة عبارة ذاهبة في الهواء. وكان الملوك المستبدون يستمدون عناصر طغيانهم مما أسموه (الحق الإلهي). وكان الأشراف يلتمسون أسباب تميزهم من اختلاف المولد، ورجال الدين يتوسلون إلى التمتع بالامتيازات بما تأولوه من نصوص الدين، وصبرت الشعوب وصابرت حتى عقد النصر بلوائها على تلك القوى مجتمعة.

وشاورهم في الأمر: وأمرهم شورى بينهم: وكذلك وضع الإسلام قاعدة الحكم النيابي.

وما كان على الإسلام ان يضع غير الأصول والكليات والقواعد العامة؛ فأما الصور والأشكال التي يتحقق بها معنى الحكم النيابي فمن الطبيعي أن يترك اختيارها للقائمين بالتنفيذ.

ولا تحسبوا أن الحكم النيابي لا يوجد إلى حيث يوجد مجلس نواب ومجلس شيوخ. ففي مدن اليونان القديمة كان الشعب يحكم نفسه بنفسه مباشرة بغير واسطة نواب أو ممثلين. وكذلك الشان اليوم في بعض المقاطعات السويسرية حيث يحصل استفتاء الشعب في جميع الشؤون التي تمس حياته العامة. ولقد يوجد التمثيل النيابي وعلى الرغم من وجوده تنعدم سلطة الأمة وتصبح خيالاً متلاشياً. ثم ألا ترى أنصار الحكم النيابي وخصومه على السواء في أوربا يشكون من اضطهاد الأغلبيات للأقليات وتراهم يحاولون أن يطبوا لهذا الداء بواسطة التمثيل النسي؟

الشورى إذن هي قوام الحكم النيابي وهي دعامته وروحه دون اعتبار بالصور والأشكال.

في الصدر الأول من الإسلام كان يطبق مبدأ الشورى تطبيقا دقيقاً.

أيقن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لم تعد للمسلمين مندوحة عن حرب الفرس، وانه إذا دانت لهم تلك البلاد خفقت راية الإسلام في ربوع الشعوب.

لم يشأ ابن الخطاب أن يستبد بالأمر أو يستأثر بالرأي وهو من تعلم بعد نظر وصواب فكر

ص: 35

وقوة حزم وعزم، بل أراد أن ينزل على رأي المسلمين فيمن يصلح لتولي القيادة؛ وأراد أن لا يضيق دائرة الاستشارة أو يقصرها على فريق دون فريق، فاستشار العامة والخاصة معاً، فأما العامة فأشاروا عليه أن يكون بنفسه على رأس الجيش إذ كان الناس اشد تعلقاً به، واكثر طاعة له. وأما الخاصة فأشاروا عليه بان يسلم القيادة لغيره وان يبقى هو بالمدينة ضناً بحياته وحرصاً على بقائه يدير دفة الشئون. ثم ارتأوا أن يكون سعد بن أبي وقاص على رأس الجيش، فنزل عمر على إرادتهم وولاه القيادة.

وضع الإسلام دعائم الحكم النيابي وطبق أبو بكر وعمر مبدأ الشورى تطبيقاً دقيقاً.

لكن وا أسفاه ما لبثت دولة بني مروان أن احتك خلفاؤها بالفرس والروم فرأوا مبلغ تسلط الحكومة على الرعية، وإذعان المحكومين لسلطان الحاكمين، فجنحوا للاستبداد، وضربوا بمبدأ الشورى عرض الأفق، ذلك بان النفس البشرية نزاعة إلى الاستبداد بفطرتها، وللبيئة في طبع النفوس بطابعها اثر أي اثر.

ولو أن بني مروان لم ينزعوا إلى الاستبداد لما وجدت دعاية بني العباس ضدهم سميعاً ولا مجيباً

كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال ثالث: عليّ طبخها. فقال صلى الله عليه وسلم: وعليّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك، فقال قد علمت ولكني اكره أن أتميز عليكم، فان الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه؛ وقام فجمع الحطب

ولا أريد أن اشوه جلال هذا المثل الرائع بمحاولة التعليق عليه ولما استقرت الخلافة إلى أبي بكر، وذلك سنة إحدى عشرة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني

ومما يروى عن زهده ورضاه بالكفاف من العيش إن زوجته اشتهت حلواً. فقال: ليس لنا ما نشتري به. فقالت: أنا استفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به. قال: افعلي، ففعلت ذلك، فاجتمع لها في أيام كثيرة شئ قليل، فلما عرفته ذلك ليشتري به حلواً أخذه فرده إلى بيت المال. قال: هذا يفضل عن قوتنا، واسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم وغرمه لبيت المال من ملك كان له

ص: 36

ولما ولى الخلافة رأى أن يستمر على استغلال ملكه والارتزاق من وراء عمل يده ولا ينفق على نفسه من بيت مال المسلمين شيئاً واصبح يوماً وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق فلقيه عمر فقال: أين تريد؟ قال: إلى السوق. قال: أتصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقاً إلى أبو عبيدة فقال: افرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم كسوة الشتاء والصيف، إذا أخلفت شيئاً رددته وأخذت غيره، ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه في الرأس والبطن

واخرج ابن سعد عن ميمون قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال: زيدوني فان لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة

وخطب عمر بن الخطاب يوماً فقال: أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه. فقام رجل فقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا. فقال عمر: الحمد لله الذي أوجد في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بسيفه

أراد أحد ملوك الروم أن يتعرف شخصية عمر العظيمة ويتبين العوامل التي جعلت حفنة من العرب تدوخ الممالك وتبسط سلطانها على الإمبراطوريات الضخمة العظيمة، فبعث برسول فتلمس الرسول طريقه إلى عمر، وإذ سأل الناس عنه أشاروا إلى رجل نائم إلى جانب جدار وهو يتوسد عصاه. فقال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.

ولما سير العرب جيوشهم على مصر وعلى رأسها عمرو بن العاص أرسل ملك مصر من يستطلع طلع تلك الحملة. فما راعه إلا أن يرى عمراً القائد للجيش يتبسط في تناول الطعام مع جنوده على الأرض. فلما ارتد الرسول فأعطى الملك تلك الصورة الرائعة قال: إن قوماً ذلك شأنهم، وتلك حال كبارهم مع صغارهم، محال أن تجد الهزيمة إلى صفوفهم سبيلاً.

يجترئ خصوم الإسلام على الدعوى بان مجد الإسلام قام على السيف. وتلك دعوى باطلة تضافر العدل والحق على هدمها من أساسها.

وكيف يجوز في عقل عاقل أن حفنة من الرجال تقوى على هدم إمبراطوريتي الرومان والفرس إذا لم تكن عدتها إلا السيف؟

أين قوة العرب المادية من قوة الفرس والرومان؟ وأين مواردهم من مواردهم؟

ص: 37

وكيف استطاع المسلمون أن يفتحوا في ثمانين سنة ما فتحه الرومان في ثمانمائة؟ فامتد رواق الملك العربي من الأندلس إلى حدود الهند، وخفقت راية الإسلام فوق تلك الربوع جميعاً؟

عندي أن المبادئ الحقة العادلة هي التي مهدت للمسلمين السبيل إلى بسط ملكهم في الأرض.

ثلاثة قرون كاملة حفلت بالثورات الدموية في سبيل تقرير قواعد الديموقراطية العصرية في أوربا. شهدت إنجلترا انقلابين في سنة 1642 و1688. وفي عام 1766 وقعت حرب استقلال أميركا لخلع نير الاستعباد البريطاني. واضطرمت نيران الثورة في فرنسا عام 1789. وكأن شجرة الحرية كانت لا تزال في حاجة لدماء لترويها، والديموقراطية لضحايا وشهداء لتغذيها، فتأججت نيران الثورة في 1830 و1848. وتواصلت الثورات في أوربا بين 1906 و1920

فأنتم ترون أن النصر لم يعقد بلواء الديمقراطية إلا في القرن التاسع عشر

وفي أواسط القرن الثامن عشر في فرنسا لم تكن حرية سياسية ولا مساواة اجتماعية. حتى هب فولتير وروسو يبشران بمبادئ الحرية والمساواة. وتشبع لافايت بتعاليم الديمقراطية، فلما عاد ورفاقه إلى فرنسا حملوا إليها بذورها الصالحة

وجعل روسو براعة الاستهلال في كتابه (العقد الاجتماعي) ولد الإنسان حراً على أنا نراه في كل مكان يرسف في القيود

وأعلنت الثورة الفرنسية حقوق الإنسان في عام 1789 وجرت المادة الأولى من إعلان الحقوق: يولد الناس أحراراً ويبقون أحراراً ومتساوين

رأيتم أن الحرية والمساواة هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما صرح الديمقراطية.

ولقد جاء الإسلام فأعلن حقوق الإنسان قبل الثورة الفرنسية بأكثر من 1200 سنة

أتى رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذاً: قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه ويقدم بابنه عليه فقدم: فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر اضرب ابن

ص: 38

الأكرمين. ثم قال للمصري: ضعه على صلعة عمرو، قال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. يعني المصري.

(يتبع)

عبد المجيد نافع المحامي

ص: 39

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

71 -

فما يبلغ السيف المهند درهماً

في (نقد الشعر) لقدامة:

قد أومأ السمط بن مروان بن أبي حفصة في مدحه شرحبيل بن معن بن زائدة إيماء موجزاً ظريفاً أتى على كثير من المدح باختصار وإشارة بديعة فقال:

رأيت ابن معن أفتن الناس جوده

فكلف قول الشعر من كان مفحما

وأرخص بالعدل السلاح بأرضنا

فما يبلغ السيف المهند درهما

72 -

نقنع منه ببعضه

في (غرر أخبار الفرس وسيدهم) للثعالبي:

رُفع إلى أبرويز إن بعض العُمال استدعي إلى الباب فتثاقل عن الإجابة فوقع: إن ثقل عليه المصير إلينا بكله. فأنّا نقنع منه ببعضه، ونخفف عنه المؤونة فيحمل رأسه إلى الباب دون جسده

ومن معنى هذا التوقيع أخذ المنصور قوله في توقيعه إلى قائد ركب محظوراً: يا هذا إن كان رأسك قد أثقلك خففناه عنك

73 -

لم تبق رتبة لمستحق

في (تاريخ الوزراء) لهلال بن المحسن:

بلغني أن بعض خواص (المقتدر بالله) سأل علي بن عيسى الوزير زيادة أحد العمال المتقدمين، في خطابه. وكان يخاطبه بـ (أعزك الله) فامتنع عليه امتناعاً شديداً وعاوده حتى وعده وكتب إلى الرجل بـ (أعزك الله) ممدود ما بين العين والزاي فقال: ألم يعدني الوزير بالزيادة؟ قال: قد فعلت. قال: في أي شئ؟ قال: كنت أجمع بين العين والزاي وقد مددت بينهما مدة، وهي الزيادة

فكان القوم على هذه الصورة من المناقشة ليبين الترتيب فيها. فأما عصرنا هذا فقد اختلفت الرسوم فيه، وقلت المراعاة لما كانت موكولة به. لا جرم أن الرتب قد نزلت لما تساوت

ص: 40

ولم يبق لها طلاوة يشار إليها حتى لقد بلغني عن مولانا الخليفة (القائم بأمر الله) أنه قال لم تبق رتبة لمستحق.

74 -

إذا تقاربت الآداب

كتب البحتري إلى صديقه ابن خرداذبة الأديب المشهور:

إن كنت من فارس في بيت سؤددها

وكنت من محتدى بالبيت والنسب

فلم يضرنا تنائي المنصبين وقد

رحنا نسيبين في علم وفي أدب

إذا تقاربت الآداب والتأمت

دنت مسافة بين العجم والعرب

75 -

ما عندكم في المرية غير الدجاج

في (نفح الطيب): كان المعتصم ابن صمادح قد أحسن إلى النحلي البطليوسي ثم إن النحلي سار إلى إشبيلية فمدح المعتضد ابن عباد بشعر قال فيه:

أباد ابن عباد البربرا

وأفنى ابن معن دجاج القرى

ونسي ما قاله حتى حل بالمرية فأحظره ابن صمادح لمنادمته، وأحضر العشاء موائد ليس فيها غير دجاج، فقال إنما أردنا أن نكذبك في قولك:

وأفنى بن معن دجاج القرى

فطار سكر النحلي، وجعل يعتذر فقال له: خفض عليك إنما ينفق مثلك بمثل هذا، وإنما العتب على من سمعه فاحتمل منك في حق من هو في نصابه ثم أحسن إليه

وخاف النحلي ففر من المرية ثم ندم فكتب إلى المعتصم:

رضا ابن صمادح فارقته

فلم يرضني بعده العالم

وكانت مريته جنة

فجئت يما جاءه آدم!

فما زال يتفقده بالإحسان على بعد دياره

76 -

تمثال شبديز وابرويز

شاعر:

(شبديز) منحوت صخر بعد بهجته

للناظرين فلا جري ولا خَبَبُ

عليه (برويز) مثل البدر منتصباً

للناظرين فلا يجدي ولا يهب

ص: 41

وربما فاض للعافين من يده

سحائب، ودقها المرجان والذهب

فلا تزال مدى الأيام صورته

تحن شوقاً إليها العرب والعجم

أبو عمران الكردي:

وهم نقروا (شبديز) في الصخر عبرة

وراكبه (برويز) كالبدر طالع

عليه بهاء الملك والوفد عكف

يخال به فجر من الأفق ساطع

تلاحظه (شيرين) واللحظ فاتن

وتعطو بكف حسنتها الأشاجع

يدوم على كر الجديدين شخصه

ويلقى قويم الجسم واللون ناصع

77 -

ثم أتوب

في (أمالي) القالي:

دخل أعرابي على بعض الأمراء وهو يشرب فجعل يحدثه وينشده ثم سقاه، فلما شربها قال: هي (والله) أيها الأمير (أي هي الخمر) فقال: كلا، إنها زبيب وعسل، فلما طرب قال له: قل فيها فقال:

أتانا بها صفراء يزعم أنها

زبيب فصدقناه وهو كذوب

وما هي إلا ليلة غاب نجمها

أواقع فيها الذنب ثم أتوب

78 -

. . . ما فاته من الدنيا

في (روضة المحبين) لابن قيم الجوزية:

عن عبد الله بن شوذب: دخلت امرأة جميلة على الحسن البصري فقالت: يا أبا سعيد ينبغي للرجال أن يتزوجوا على النساء؟

قال: نعم

قالت وعلى مثلي؟ ثم سفرت عن وجه لم ير مثله حسناً وقالت: يا أبا سعيد لا تفتو الرجال بهذا ثم ولت

فقال الحسن: ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا!

79 -

مهرها إسلامه

في طبقات ابن سعد:

ص: 42

جاء أبو طلحة يخطب أم سليم بن ملحان، فقالت: إنه لا ينبغي لي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة. إن آلهتكم التي تعبدون ينحتها عبد آل فلان النجار، وإنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت فانصرف عنها وقد وقع في قلبه من ذلك موقعاً، وجعل لا يجيئها يوماً إلا قالت له ذلك. فأتى يوماً فقال: الذي عرضت عليّ قد قبلت

فما كان لها مهر إلا إسلام أبي طلحة

ص: 43

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 8 -

الديانة المصرية

العلم والأب والفن والقانون

رأى رجال الدين أن الشعب لا يتبع التقاليد الدينية إلا إذا امتزجت تعاليمها بنفوس أبنائه امتزاجاً قوياً، وهذا لا يتيسر إلا إذا بشر بالدين رجال مثقفون فصحاء يملكون أعنة البلاغة ويستولون على أزمة البيان. وإذاً، فهم مضطرون قبل كل شيء إلى أن يفسحوا في مدارسهم للأدب أمكنة واسعة وأن ينزلوه بين معارفهم منزلة عالية وقد فعلوا، فكان من نتائج هذه العناية الفائقة بالأدب أن ظهر كتاب (أفتاح حتب) وزير الملك (إيزيس) الذي هو أقدم كتاب في الدنيا والذي يرى فيه القارئ من الحكم والنصائح والأمر باحترام المرأة وإعزازها والتحذير من إغضاب الملوك والرؤساء والحث على طلب العلم واعتباره أهم ضروريات الحياة وألزم واجبات الأشخاص من كل الطبقات إلى غير ذلك من وصف حلاوة الشباب ولذة القوة ومرارة الشيخوخة وانكسار النفس في أيامها وانطفاء مصباح الآمال والأحلام إلى آخره إلى آخره، مما يجعل من غير الممكن أن يكون كتاب هذا شأنه من منتجات عقول شابة في الأدب، ناشئة في الكتابة والتأليف.

ومن الطبيعي أن الأمة التي يصل فيها الدين والأدب إلى هذه المرتبة الرفيعة تسمو فيها الحالة الاجتماعية سمواً عظيماً يتبعه تقدم في جميع نواحي الحياة، لأن الأمة تنبغ في المخترعات وتبرع في الفنون بمقدار حاجتها إليها، وهذه الحاجة تتعدد تبعاً لتقدم المدنية التي هي أولى مظاهر السمو الاجتماعي. وإذن فالدين يتطلب سمو الأدب، والأدب عامل أساسي في الرقي الاجتماعي، والمدنية أولى مظاهر هذا الرقي، والحاجة إلى الاختراع والفن طليعة نتائج تلك المدنية. وهذه هي الدرجات التي صعدت عليها الدولة المصرية القديمة حتى وصلت إلى قمة سلم الحياة العالية فارتقت فيها الفنون الجميلة على اختلاف

ص: 44

ألوانها حتى وصلت إلى درجة حيرت كبار الفنيين في العصر الحديث.

لم تكن معارف المصريين إبان الدولة القديمة ناشئة ولا في أول عهدها بالحياة كما يزعم الجاهلون، ويدل على ذلك أنه في أواخر القرن الماضي اكتشف عالم من كبار المستمصرين الفرنسيين خلف الهرم الغربي جثة موظف كبير من موظفي الإمبراطورية الأولى كتب على تابوته العبارة التالية:(هذه جثة الحارس الأكبر لدار الكتب الملكية).

وقد علق الأستاذ (ماسبيرو) على هذه العبارة في كتابه (تاريخ الشرق القديم) طبعة أولى بأن هذه المكتبة التي كان هذا الموظف الكبير مديرها أو حارسها كانت تحوي بين جدرانها كثيراً من الكتب في الأدب والفلسفة والأخلاق والتاريخ والاجتماع والقانون والسياسة والطب والحساب والهندسة والفلك والسحر والتنجيم

ويؤكد الأستاذ (ماسبيرو) أن هذه المواد التي كانت موجودة في أدمغة العلماء ومسطرة في أوراق البردي لم تكن أثناء الدولة القديمة في عهد الحداثة والتكوين، بل كانت قد نضجت نضوجاً تاماً وأصبحت في دور الإنتاج العملي المفيد، إذ أن من المستحيل أن تبنى الأهرام في عصر بادئ في الهندسة لم يتعمق أهله - أو العلماء منهم على الأقل - في غامض النظريات ومعقد الرسوم؛ وكذلك من المستبعد عقلاً أن نتصور أن المحاكم التي لا تحكم على المجرم إلا بعد سماع المرافعات الشفوية الطويلة، وقراءة المذكرات التحريرية المقدمة من المتهم يكون قضاتها ومستشاروها حديثي عهد بالقوانين المدنية والجنائية

وإنني أنتهز فرصة هذه المناسبة فأذكر لك مثلاً من أمثلة استقلال هذا القضاء وعدالة الملوك في تلك العصور الغابرة التي نتصور أنها كانت مفعمة بالظلم والاستبداد:

حاولت زوجة (باتوو) الخائنة قتل زوجها عدة مرات قبل أن يجلس على عرش مصر، فلما تولى المملكة لم يشأ أن يقتلها دون تبرير هذا القتل بحكم المحكمة، ولم يكن شئ أسهل عليه من أن ينتقم بالقتل من زوجة مجرمة أثيمة، ولكنه أعلنها بالحضور أمام المحكمة التي تألفت من أكابر رجال القضاء في الدولة، ووقف جلالته خصماً نزيهاً لهذه الخائنة، وتلا مذكرة الاتهام على مسامع القضاة ثم ترك لهم الكلمة، فطلبوا إليها أن تدافع عن نفسها، ولكنها حنت رأسها مشيرة إلى الإفلاس من البراهين وإلى التسليم بالإجرام، فأصدر القضاة حكمهم عليها بالإعدام

ص: 45

فأنت ترى هذه الصورة العادلة التي صور بها مؤلف القصة فرعونه العظيم. وقد تكون هذه القصة خيالية، ولكن الذي لاشك في هو أن الكتاب في كل عصر يستمدون مؤلفاتهم مما يقع حولهم من الحوادث ولو في شئ من المبالغة والمغالاة فنحن نستطيع أن نؤكد أنه كان في تلك العصور الغابرة قضاة يستندون في أحكامهم إلى قوانين مدنية وجنائية، وأنهم كانوا يسمعون ويقرأون دفاع المتهمين وشهادة الشهود، بل يبالغ الأستاذ (نوباري) المستمصر الألماني فيؤكد لنا أن القضاء في تلك العصور كان لا يقل عنه في عصرنا الحاضر بحال

وإذا غادرنا القضاء وعنايته بالقوانين وتوجيه العدالة والإنصاف واهتمامه بأنواع الدفاع وضروب المرافعات ثم اتجهنا إلى الطب ألفيناه قد بلغ حد النضوج ووصل إلى درجة توشك أن تلحق بالكمال. ويبرهن على ذلك ثقة الأطباء بأنفسهم وتحققهم من معارفهم إلى درجة المجازفة بحياتهم في سبيل توطيد تلك المعارف، فقد كان الطبيب إذا اخترع نوعاً جديداً من الدواء لم يكن قد سبقه إليه طبيب آخر يرفع اختراعه إلى هيئة الاختصاص حتى إذا نظرت فيه استدعته أمامها وتلت عليه نص الشرط الذي نلخصه فيما يلي: - (للطبيب أن يعالج مريضه بهذا الدواء الذي اخترعه، فإذا شفي وثبت بالكشف الطبي بأن شفي بسبب هذا الدواء، منح مكافأة مادية قدرها كذا وكذا. وأخرى معنوية، وهي تدوين اسمه واسم دوائه في الدواوين الرسمية والكتب العلمية المقررة، وإذا مات المريض مسموماً بدوائه حكم على الطبيب بالإعدام).

فإذا قبل الطبيب هذا الشرط وأخذ منه توقيع بالقبول أمام شهود عدول صرح له بالابتداء في تجربة الدواء.

وفي رأينا أن هذا النظام المصري القديم أدق وأحرص على سلامة الجمهور من نظام القرن العشرين الذي لا يتحرز فيه الأطباء من العبث بأرواح المرضى الذين أصبحوا لهم عبيداً يأتمرون بأوامرهم التي لا يلاحظ فيها قانون ولا تترتب عليها أية مسؤولية رادعة، بل لا يترتب عليها سؤال بسيط من قبل القضاء وضحايا الأطباء والصيادلة الذين لا يعنون العناية الكافية بتركيب الدواء لا تندرج تحت حصر، ومهما يكن من الأمر فهل تتصور أن أطباء ناشئين في الطب أو مبتدئين في الحكمة لم يقتنعوا بعد بتجاربهم العلمية يقدمون على تعريض حياتهم للخطر؟

ص: 46

أحسبك بعد أن صورت لك هذه المنزلة العالية التي ارتقى إليها الطب المصري في العصور القديمة توافقني على أن الآراء القائلة بأن الطب المصري كان نوعاً من الرقي والتعاويذ السحرية أو مشوباً بها كما صرح الأستاذ أمين الخولي في مذكراته صفحة 44 هي ضرب من الخرافات التي ليس لها من الأدلة العلمية مستند ولا دليل

وإذا ألقينا نظرة متأملة على الرسم مثلاً وجدناه لا يقل روعة وجلالاً عن بقية الفنون والعلوم الأخرى التي أسلفنا لك أنها كادت تصل إلى مرتبة الكمال

وأخص ما يمتاز به الرسم المصري هو ما يشاهده عليه الرائي من الحياة لأنك حين تنظر إلى ما يرسمونه من صور لا تشك في أنها حية تستمتع بالحركة والإحساس وذلك لإتقان رسمها وإجادة الفن فيها.

ولقد بلغ هذا التصوير درجة جعله يعم المعابد والمقابر ثم يتخطاها إلى المنازل والمنتديات، والحدائق والمتنزهات والمحاكم والدواوين وينقش على الحوائط والأسوار والسقوف والأراضي وفي غرفة النوم وحجر الاستقبال وقاعات المائدة وفي كل مكان. وإليك ما قاله الأستاذ (بريستيد) في هذا الشأن:

(وبلغت الفنون الجميلة درجة قريبة من الطبيعة. بعيدة عن الأوهام لم تبلغها أية بلدة أخرى في تلك العصور القديمة) إلى أن يقول: (بل كان المصري مغرماً بمظاهر الطبيعة الأصلية فقط كما يراها داخل منزله وخارجه، ولذلك نقش زهر (اللوطس) على أيدي ملاعقه وشرب النبيذ في أقداح زرقاوية اللون على شكل برعوم اللوطس، وصنع أرجل سريره بهيئة أرجل الثيران القوية العضلات ولبسها بالعاج، ورسم سقف منزله بهيئة سماء تبدو منها النجوم ورفعها على عمد شبيهة بالنخيل الباسقة الأغصان أو بسيقان اللوطس المنتهية أعاليها ببراعيم ذلك النبات، وكثيراً ما زين المصري سقوف حجراته برسوم الحمام والفراش الطائرة بين الأشجار. وكان يحلي أرض منزله باللون الأخضر على شكل مستنقعات يسبح بين أعشابها السمك ونشاهد بها أحياناً ثيراناً وحشية طاردة للعصافير المحلقة فوق الأعشاب المائلة، ويرى الناظر أن هذه الطيور تسعى في الوقت نفسه لخلاص صغارها من ابن عرس الذي يريد افتراسها.

أما الأدوات المنزلية المستعملة يومياً في منازل الأغنياء فجميلة متناسبة الأجزاء تشاهد

ص: 47

على أبسطها صنعاً مناظر الطبيعة وجمالها المرئيات في خلال القطر المصري).

وليس هذا هو كل شئ في رقي الصناعات العملية في مصر بل إن هناك خوارق ومعجزات ظهرت على أيدي أولئك الصناع المهرة البارعين، فالتاريخ يحدثنا بأن الصائغين قد بلغوا في صناعة الحلي دقة لم يسع فنيي مصر الحديث إلا أن يعترفوا أمامهم بعجزهم الكامل عن مجاراتها، وهو ينبئنا كذلك بأن صناع الكؤوس والأكواب قد وصلوا في صناعتهم إلى حد أن يبتدعوا أكواباً من الصوان تشف عما في دخلها فيرى في وضوح كما يرى ما هو في داخل الزجاج سواء بسواء، وأن النساجين توصلوا إلى صنع غلائل من الكتان شفافة لا تحجب ما وراءها ولا ريب أن هذا هو في الصناعة أعلى مراتب الإعجاز.

ويحدثنا الأستاذ (بريستيد) في صفحة 66 من كتابه (أن مهندسي العمارة والبنائين عرفوا شيئاً كثيراً من علم رفع الأثقال (الميكانيكا) كما يستدل من قبو مقبرة ببيت الخلاف يرجع تاريخها إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد وغير ذلك مما يبرهن على أن العلوم العقلية والعملية كانت قد وصلت في مصر إلى أبعد مدى تستسيغه تلك العصور.

هذا، ولما كانت الفلسفة الهندية هي أهم الفلسفات الشرقية جميعها بعد فلسفة مصر من ناحية وأقدمها إلا الفلسفة المصرية من ناحية أخرى فقد آثرنا أن نثني بها بعد أن بدأنا بفلسفة وادي النيل التي هي مبدأ الجميع في رأي أدق العلماء والباحثين.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 48

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

مشاهير الحكماء

جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة، قد خدمتم الشعب وما يؤمن به من خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوكم في بيانكم المنمق لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه. وهكذا يوجد السيد لنفسه عبيداً يلهو بضلالهم الصاخب. وما الإنسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب إلا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبد ولا يلذ له إلا ارتياد الغاب

إن ما حسبه الشعب في كل زمان روحاً للعدل إنما هو العدو الكامن المترصد لروح الحرية يستنبح عليها أشد كلابه افتراساً وقد قيل في كل زمان (لا حقيقة إلا في الشعب فويل لمن يطلبها خارجاً عنه)

لقد أردتم أن تؤيدوا الشعب في ما يبدي من خشوع وإجلال، فدعوتم هذه المذلة (إرادة الحق) فيالكم من حكماء

غير أنكم كنتم تقولون في أنفسكم لقد نشأنا من الشعب وصوت الشعب هو صوت الله فكنتم كالحمار الصبور المراوغ تعرضون وساطتكم على الشعب، ولكم من ذي سلطان أراد أن توافق عجلته ذوق الشعب ففطر لجرحها حماراً صغيراً، حكيماً مشهوراً. . .

فيا مشاهير الحكماء، إنني أطلب منكم أن تخلعوا عنكم ما تتلبسون به من جلود الأسود وجلود الوحوش الكاسرة المخططة وفراء المستكشفين للمجاهل والفاتحين. إذ لا يسعني أن أؤمن بالحقائق التي تنادون بها ما لم تقلعوا عن بذل التبجيل والتعظيم، فما رجل الحق إلا الضارب في القفار ولا إله له لأنه حطم بين جنبيه قلب التبجيل والتعظيم وإذا هو تلفت ورمال الصحراء تحرق قدميه إلى الواحات حيث يتدفق الماء الزلال، ويمتد وارف الظلال، وترتاح الحياة ملقية عصا الترحال، فلا يقتاده الظمأ إلى الاتجاه نحوها طلباً للاغتباط بين المغتبطين لأنه يعلم أنه لكل واحدة أصنامها، وما يريد الأسد إلا الانفراد

ص: 49

محرراً من عبودية الأرباب ومن سعادة المستبدين، بعيداً عن الآلهة والمتعبدين وعن الخوف ومنزليه في القلوب، ذلك ما يصبو رجل الحق إليه. وما عاش رجال الحق إلا في القفار يسودونها بانطلاق تفكيرهم في مجالها الوسيع. وهل في المدن إلا مشاهير الحكماء يتناولون خير الغذاء كذوات الضرع تغذى لتحلب. ويجرون عجلة الشعب وقد كُدنوا بها كالحمير

وما أنا بالناقم عليهم ولكن ليعلموا أنهم خدم مشدودون إلى عجلة وما يرفع من ذلهم توهج الذهب على العجلة التي يجرونها

ولطالما أخلص هؤلاء الناس في خدمتهم فاستحقوا الثناء لأن الحكمة تقضي بأن يفتش الخادم عن سيد يستفيد من خدماته

لقد وجب أن يتسامى عقل سيدك وتعلو فضيلته لأنك بهما تعلو أنت

والحق أنكم قد علوتم بارتقاء عقل الشعب وفضيلته، أيها الحكماء الخادمون للشعب كما اعتلى هو بكم. وما أعلن هذا لتمجيدكم، فإنكم قد بقيتم أنتم شعباً حتى في فضائلكم، وما تزالون شعباً لا بصيرة له، ولا يدرك للعقل معنى

إنما العقل حياة تمزق الحياة تمزيقاً، وما تزداد الحياة معرفة إلا بما تتحمل من آلام، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

لا يسعد العقل إلا إذا مسح بالدموع وتوج بالتضحية فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

إن عماء الضرير وتلمسه لطريقه إنما هو شهادة لقوة الشمس، التي حدق بها فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

على طالب المعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة لإقامة صرحه، وما يصعب على العقل أن ينقل الجبال، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟

إنكم لا تلمحون من العقل إلا ما يقذف به من شرر، فلا تعرفون، أي سندان هو هذا العقل، ولا تعرفون أيضاً قساوة المطرقة التي تتهاوى عليه

والحق أنكم تجهلون كبر العقل ويصعب عليكم احتمال تواضعه لو أراد تواضع العقل أن يعلن حقيقته

إنكم ما تمكنتم في أي زمان من إرسال عقلكم إلى مهاوي الثلوج، فما بكم الحرارة الكافية

ص: 50

لاقتحامها، ولذلك لا تدركون لذة من تنعشه لفحات هذه المهاوي، غير أنني أراكم بالرغم من هذا تقدمون على مداعبة التفكير، وقد جعلتم الحكمة ملجأ ومستشفى للمتشاعرين. . .

لستم عقباناً أيها الحكماء المشتهرون، فأنتم إذاً لا تدركون ما يلد العقل من لذة في ارتياعه، فلا يحق لغير المجنح أن يخترق الهواء فوق الوهاد

ما أنتم إلا فاترون أيها الحكماء، وفي كل معرفة عميقة يهب تيار من الصقيع لأن ينابيع العقل الخفية باردة كالثلج ولا تلذ ببردها غير الأيدي الملتهبة بحرارة جهادها

إنني أراكم أمامي أيها الحكماء المشتهرون ملفعين بقساوتكم جامدين على غروركم فما للريح أن تدفعكم ولا للإرادة أن تهيب بكم إلى الإقدام

أما رأيتم على مضطربات الأمواج شراعاً خفاقاً يندفع وقد عصفت في ثنياته هوجاء الرياح. إن حكمتي تجتاز العمر خافقة كهذا الشراع وقد ملأتها عواصف التفكير، تلك هي حكمتي الشاردة النفور. فهل لكم أن تجاروني في اندفاعي أنتم يا من تخدمون الشعب، أنتم مشاهير الحكماء

هكذا تكلم زارا. . .

نشيد الليل

لقد أرخى الليل سدوله فتعالى خرير المياه المتدفقة، ولنفسي أيضاً ينبوعها المتفجر

لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد. إن في داخلي قوة ثائرة تريد إطلاق صوتها وهي شوق إلى الحب بيانه بيان المغرمين. أنا نور وليتني كنت ظلاماً، وما قضي عليّ بالعزلة والانفراد إلا لأنني تلفعت بالأنوار. ولو أنني كنت ظلاماً، لكان لي أن أتعلق بإسداء النور فأنقع من درها غلتي، لكان لي أن أرسل بركتي إليك أيتها النجوم المتألقة كصغيرات الحباحب في السماء إذ أتمتع بما تذرين عليّ من شعاع. غير أنني أحيا بأنواري فأتشرب اللهب المندلع من ذاتي وقد حرمت لذة الآخذين، وقد خطر لي مراراً أن في السرقة من اللذة ما ليس في الأخذ.

إن يدي لا تقف عن البذل وذلك هو فقري فأنا أنظر أبداً إلى العيون يملأها الانتظار وإلى الليالي تلهبها الأشواق، وذلك هو الحسد الذي يقض مضجعي

يا لشقاء الواهبين. . . يا لظلمة شمسي ويا لشوقي إلى الاشتياق ويا لشدة المجاعة في

ص: 51

شبعي

إنهم يأخذون ما أهبهم ولكنني أبقى بعيداً عن أرواحهم فإن بين الباذل والآخذ هوة عميقة، ولعل أقرب الأغوار قعراً أصعبها ردماً

إن نوعاً من الجوع ينشأ في أحشائي فيحفزني إلى إيلام من أرسل إليهم أنواري. فأتوق إلى سلب من أغدق عليهم هباتي وهكذا أتعطش إلى إيقاع الأذية فأرد يدي بعد أن أكون مددتها وأتردد تردد الشلال في تدفقه نحو مراميه

إن مثل هذا الانتقام يراود عظمتي، ومثل هذا المكر ينشأ من عزلتي

لقد فقدت السعادة في العطاء لوفرة ما أعطيت وقد زهقت فضيلتي من نفسها ومن جودها، إن من يستمر على بذل الهبات مهدد بفقد الحياء. ولابد أن تتصلب راحته ويتصلب قلبه.

لم تعد مآقيّ تذرف الدموع على خجل المسترحمين وها إن يدي قست حتى امتنع عليها أن تشعر بارتعاش الأيدي إذا امتلأت.

أين هي دموع عيني وأين رقة قلبي. فيا لوحدة جميع الواهبين ويا لصمت كل متلفع بالسناء.

إن شموساً لا عداد لها تدور في قفار الأجواء مخاطبة بإشعاعها لبدات الظلام وأنا وحدي محروم من حديث هذه الشموس وبيانها.

ويلاه! أية علاقة يمكن أن تربط الأنوار بالأجرام المنيرة من نفسها؟ فإن الأنوار تمر عليها وهي تحدجها بلفتات الجفاء وتمضي ذاهبة في سبيلها، وهكذا تسير جميع الشموس في أجوائها نافرة من كل جرم منير باردة لا تحس أخواتها بحرارتها.

إن الشموس تندفع كالعاصفات في أبراجها متبعة ما اختطته إرادتها الجبارة وفي ذلك كتمان حرارتها وبرودتها.

هل غيرك أيتها الأجرام الملفعة بظلام الليل من يخلق حرارة من اللمعان؟ أنت وحدك ترضعين أفاويق القوة من أنداء النور.

ويلاه إن الصقيع يدور بي ويدي تحترق من لفحات الجليد، فأنا مشتعل بسعار لا يطفئ أواره غير عطشكم، لقد سادت الظلمة فلماذا قضي عليّ أن أكون نوراً منفرداً متعطشاً إلى الظلام؟

ص: 52

لقد سادت الظلمة فتدفقت كالجداول أشواقي وهي تريد أن تهتف بما تضمر.

لقد أرخى الليل سدوله، فتعالى خرير المياه المتدفقة، ولنفسي أيضاً ينبوعها المتفجر.

لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد.

هكذا تكلم زارا. . .

ص: 53

‌ساعة في هياكل الشعراء

طاغور

شعره، تأمله وتساؤله، مناجاته، الشرق والغرب

للأستاذ يوسف البعيني

كأني بالقارئ وقد أثاره حب الاستطلاع فقال يطالبني بشوق واهتمام قائلاً: أراك قد اخترت - طاغور - موضوعاً لبحثك وحديثك دون سواه من الشعراء اللامعين على كثرتهم وتعدد نواحي الاستقراء في شؤونهم وشجونهم. وأنا حتى أجيبك إلى طلبك وأبين لك الغاية من اختياره لحديثي هذا، أريدك أن تعلم أن طاغور هو شاعر عبقري متصون ذو خيال رقيق تسربل بالرشاقة والفخامة والتوت عنه عواتير العقم والخشونة. وهذه مزية سامية لم يتصف بها شاعر من شعراء هذا العصر

على أن إذاعة البحث في شاعرية طاغور تتطلب أمراً هاماً وهو أن نلقي نظرة بعيدة على شخصيته لنعلم ما إذا كان مثالاً صادقاً للعصر الذي يعيش فيه، وما إذا كان مرآة صافية لأخلاق البيئة التي ترعرع فيها. أم هو شاعر محلي محصور الثقافة والإحساس لا ينقل لقرائه سوى أصداء أوهامه، ولا يرسم شعره إلا المواضيع التافهة والصور الباهتة فحسب

أما أنا فأرى أنه يمثل عصره تمام التمثيل لأنه يعيش في عهد التجديد ونهوضه وبعثه، وفي عهد يقظة الروح بالشرق الأقصى وإذاً فأحلامه التي تلمع في شعره هي أحلام الجيل الذي يعاصره، ذاك الجيل الذي روعته الثورات والحروب، وأبهضته مخاوف الألم والموت

شعره

قرأت لطاغور كثيراً من شعره، وكنت قبل أن أقرأ ذلك الشعر أعتقد أن الشاعر الحقيقي هو من يحسن حبك القوافي وسبك الألفاظ وتحكيم الأوزان. ولكن بعد أن قرأته وتذوقت أقواله وتصوراته أصبحت أعلم أن الشاعر هو ذلك المفن المتقد الإحساس الذي يحرق نفسه بخوراً فوق محاريب البشرية لينير تلك الأرواح العامهة في دياجي آلامها وبلاياها

وتأكدت أن الشاعر هو من يرهف أذنيه لاستماع خشخشة العبودية تجرها الأقدام الدامية في سيرها إلى أعماق السجون، ونحو أعواد المشانق!

ص: 54

هو من تحزنه الزهرة الذابلة، وإنه يشاهد في ذبولها صفحة حياته البالية. . .

هو من يخيفه قصف الرعود لأنه يعيد إلى ذهنه ذكرى الحروب والثورات. . .

بلى. . . في شعر طاغور شاهدت كيف يحرق الألم نفس الشاعر، وسمعت زفرات قلب متفطر ينسحق في قبضة الأسى والحنين، ويتبعثر بين غمائم التذكار والكآبة!

وطاغور شاعر متفنن ذو رقة لذيذة وخيال طافح بالعذوبة، وأنت إذا قرأت قطعة من شعره فكأنك تقرأ روحاً تذوب في مرجل آلامها وحسراتها، أو تشرب كأساً من الدموع المريرة

إذا حدثك عن حب مستتر في كهوف الماضي، فأنت ترى ذلك الحب بعينيك. وإذا رسم لك ما ينهش قلبه من أسى وحنين فتكاد تسمع ذلك بأذنيك فتحترق شفقة عليه!

يداعب ميولك ومشاربك فتحس به قد دخل عليك واحتل ذاتيتك، فتتعشقه راكضاً وراء الفراشة في الحقل، أو صاعداً إلى النجوم على سلم منسوج من ضوء القمر

وهو خيالي. . . ولكن ياله من خيالي رائع يحاول أن يملأ كأسك من عصير روحه الساحرة. لكنه يعترف لك بأن هذا الذي يرشحه في مراشف سطوره وتعابيره ليس سوى أنداء هابية سكبتها الطبيعة في روعه الخافق ليفرغها في محاجر الإنسانية التي تريد التملص من قيودها وأغلالها

فمن هذا يستدل القارئ على بعد غور شاعريته، وصفاء مصدره، وصدق عقيدته، ورحابة آفاق تأملاته وأحلامه!

تأمله وتساؤله

لم يعرف الأدب العالمي في أوائل هذا الجيل شاعراً كثير التأمل والتساؤل إلا - بيير لوتي - الأديب الفرنسي المشهور، هذا الشاعر الحساس أخرج للناس طائفة من القصائد والقصص هي غاية في الاستغراق والتحالم بينها كتاب (موت أنس الوجود) الذي رسم فيه ليالي مصر المقمرة البيضاء رسماً يغمر القلوب بموجة من السحر والجمال، وينبه في سراديبها المظلمة أشباح الشجن والحنين، ويعلم الناس أن بيير لوتي لم يفعل ذلك إلا ونفسه مستبشرة بنور الفن، ثملة بلذة المذهب الوجداني وفتونه. ولكن طاغور، أي حافز، بل أي داع دفع به إلى اجتناء تلك الزهرة اليانعة وهو رجل يعيش في معترك بعيد من الفن والنضج والألمعية. إذا لم يكن ذلك دليلاً واضحاً على أن الروح العظيمة، الروح المستنيرة

ص: 55

بنور الآلهة، لا يقعدها المحيط الصاخب عن تغريدها، ولا تؤثر بها عوامل الحياة

ولكي يقف القارئ على صحة ما أقول، أورد له مثالاً من تأمله وتساؤله. قال في قصيدة جزلة مؤثرة تحت عنوان (المنشأ) أنالته مع غيرها جائزة (نوبل) في عام 1914:

(سأل الطفل أمه ذات مرة: أين كنت يا أماه، وفي أي مكان كنت تحتفظين بي؟

فارتعشت عواطف الأم حنواً وضمت طفلها إلى صدرها وأجابت:

كنت يا حبيبي مستتراً في أعماق فؤادي، بل كنت ماثلاً بين ألاعيب طفولتي. . فعندما كنت أنهض في الصباح لأجبل مثال الله العجيب من الطين لم أكن أجبل سواك

كنت يا بني في هيكل بيتنا المقدس سراً أعبده فأعبدك فيه. وهكذا نشأت في حياتي وحياة أمي من قبلي. فبآمالي ورغائبي كنت أغذيك، وبحرارة الروح الكامنة فيّ كنت أهيئك للحياة!

وبينما كنت لا أزال عذراء، كانت روحي تفتح كمائم زهرتك المزممة لتلفك بعبير الشوق والحنين. يوم ذاك كنت يا بني نوراً ضئيلاً يلمع في أحشائي كسنا الشمس عندما تنحسر عنه سجوف الظلام.

فيا حبيب السماء ووليد الصباح المشرق في وهاد قلبي: إني كلما تأملتك يغمرني فيض من العاطفة فأحس أنك لي وحدي، وأننا متحدان دائماً بالشعور والعاطفة

ولكن ليت شعري، أي القوى هي تلك التي جعلتني أحتفظ بك أيها الكنز الثمين؟

وفيما هو مصغ إليها، دب الموت في فؤاد الطفل فقال متمتماً:

- ها قد دنا الموت يا أماه ليذهب بي حيث يذهب الموتى أجمعون. . ولكن عندما يأتي المساء وتمدين يدك لكي تطبعي على شفتي قبلة ناعمة يمازجها العطف والحنان سيهتف بك هاتف من الظلام مغمغماً بأن لا تجدينني ههنا!

ولكن ثقي يا أماه بأني سأتحول نسيماً يقبل ثغرك كل حين، أو نوراً يضيء مأواك في الليالي الداجية المفعمة بعويل العواصف وأنين الرياح

وفي الليل، في ذكرياتك المحرقة عندما تناجين طفلك الحبيب، سأقول لك نامي يا أماه ولا تذكريني. فإني عندما يمسي البدر هلالاً أسيل مع الشعاع لأنام في حضنك الأمين!

وسأغدو حلماً يدخل من فتحات عينيك لأنزع من قلبك حزنه القاتل الساحق. ولكن إذا أفقت

ص: 56

مذعورة ترين حولك فراشة بيضاء تؤنسك بطنين أجنحتها الصغيرة

ومتى أقبل عيد (جايا) وترنحت عذارى الهيكل مخففات بأنغامهن العذبة وحشة حياتك، سأهربق نفسي في تلك الأنغام حتى إذا لامست قلبك محت عنه كل الأحزان

وإذا جاءتك خالتي حاملة إليّ هدية جميلة وسألتك أين طفلك يا أختاه فإني أذوب شوقاً إليه. . . فأجيبي أختك يا أماه بأني توسدت عينيك، وامتهدت روحك التي لا يستطيع أن يلحدها الموت)

أجل. . . إن في هذه القطعة الفاتنة التي يسأل فيها - رابندرانات طاغور - أمه الطبيعة عن كيفية مجيئه إلى هذا العالم

نعم إن فيها عصارة من جيد الشعر لا تأتي بمثلها إلا نفس انحدرت إلى قلب الحياة حيث التقطت كل ما فيها من ألم وبؤس، وفرح وسعادة، وابتسامات ودموع. . . ولعمري إن نفساً تنتهي بك إلى هذا الحد العميق لهي نفس جبارة تجابه الدهر بشعاعها الوضاح، فتملأ الأيام هيبة وجمالاً، والليالي سحراً ونوراً!!

مناجاته

وطاغور شاعر عالمي قبل كل شئ. فإن آراءه أصوات مرتلة تلعب بالقلوب والمشاعر، وتحمل الإحساس على أجنحة من الخيال، فترود به معالم الخلود وتغذيه بمواد الجمال الأزلي، وتطبعه بطابع الجمال الإلهي

ومما يمتاز به طاغور هو أنه شاعر متصوف كثير التأمل، عميق المناجاة. وإن الإنسان لبحار عندما يقرأ قطعة له فيرى المعاني موشحة بغلاف رقيق من الفلسفة الوجدانية. وقد نجح تصوفه أخيراً إلى حد أصبح يحب فيه أن يرى الله في كل مكان تحتضنه عيناه، فهو يود أن يشاهده في الوردة الخضراء، وفي طلعة الفجر، وفي مغرب الشمس، وفي سكون الليل، وفي سر الموت والحياة

نجوى

(ألا شرفني يا إلهي، وجرد حياتي من تلك المساوئ المعيبة التي تسود دائماً ابن الطينة. ضعها تحت رعايتك، وأخبئها بين ظلال الموت والنور، أو في مكمن الليل بين نجومك. ثم

ص: 57

أطلقها في الصباح بين الزهور لتشدو كالبلابل بتسابيحك وترانيمك!!)

حنين

إيه أيها القدر العاتي! لقد حجبها القبر عني فما اكتأبت. ولكن أبت إرادتك إلا أن تبقى ساقية حبها سارية في أودية قلبي لا ينضب لها معين، ولا ينقطع لها خرير

ولكن الزمن قاس جداً، فهو لا يحنو على النفوس المعذبة. وإنه ليهزأ من ألم القلوب كلما لج بها تذكار الماضي الدفين

آه!! إني أذكر. . . ولكن الحياة كلها نسيان. إنها سريعة الخطى نحو الموت. . . إنها تختفي ولكنها تترك للخيال مرارة الذكرى وتباريح الشوق والحنين

وفي اعتقادي أن هذه المقاطع هي من أروع المناجاة. وأنت إذا قرأت باقي مناجاته ترى رجلاً حائراً مرتعشاً قد شمله ظلام ليل الأسى. فهو يبكي، وهو يرجو (القدر) أن يرحمه في دجى الليل البهيم بخلود ذكرياته الماضية. ويالها من ذكريات رقيقة عارية من أثواب الادعاء والكبرياء، حافلة بمعاني اللوعة والحزن هي ذكريات الشاعر الحنون

والحقيقة أنك لا تكاد تقرأ هذه المناجاة حتى تجري الدموع من عينيك ويغمرك سكون رهيب طافح بالجبن والكآبة، وحتى يأخذك شئ من اليأس والسخط على الحياة والاستمساك بها!!

الشرق والغرب في نظر طاغور

ولطاغور رسالة قيمة يبشر فيها بانتشار السلام والمحبة بين الناس على اختلاف مشاربهم ومنازعهم وميولهم. وهذا لعمري عمل جليل يدل على عظمة هذا الشاعر الجبار. فهو رجل عالمي جامع، وبخلاف (كتابنا وشعرائنا) الذين يكتبون للدين والأحزاب والجنسية أو لفئة جاهلة متعصبة من الناس. . . ومن المضحك أن هؤلاء الأدباء المزيفين الذين يقلقون الشرق العربي بكتاباتهم وأشعارهم ينعون على البشرية عدم اكتراثها بهم. . .

لقد قرأت كثيراً من مؤلفاته. ففي كتابه - سيد هانا - يتغنى بالمحبة ويدعو الناس إلى اعتناقها. ولطالما نادى بتوثيق عرى الحب ليعيش العالم في سعادة وهناء. ومن قوله:

(إذا كانت الأمهات يلدن والقبور تبتلع، فلماذا الحروب والثورات التي تدمي فؤاد الإنسانية

ص: 58

وتقلق روعها؛ ولماذا لا يعيش الإنسان تلك المدة القصيرة في حب وسلام؟)

فمن هذه الجملة الوجيزة يستخلص القارئ صورة صحيحة لنفسية طاغور

وأما الشرق والغرب فهما في نظره أخوان توأمان يجب عليهما التقيد بقانون العدل والمساواة. وأنه ليس حقاً أن يظل الشرق عبداً للغرب كما هي الحال اليوم، فيسومه جميع أنواع الذل والعبودية

في عام 1920 طاف طاغور في أنحاء العالم، ثم عرج أخيراً على - نيويورك - المدينة المنتعلة أجنحة الروح، والهازئة أبراجها الحديدية الصماء بأحلام الشرق وعوائده القديمة. . . فألقى هناك محاضرة فخمة عن مدينة الشرق وطابعها الفلسفي جاء فيها ما يأتي:

(الغرب يكون للشرق عوامل الحياة الراحلة، والشرق يعطي الغرب تعاليم الروح الخالدة. فيالله انظر أيها الغرب وتأمل. ألا يستطيع الشرق المستعبد أن يقدم لك غير أرضه ورقاب أبنائه؟

فإلى متى ينظر الغرب إلى الشرق نظرة السخرية والاحتقار، ومتى يستيقظ الغرب من نشوته العمياء؟

لا تصدق يا غرب عنا كل ما تسمعه من دعاة الاستعمار، فإن هؤلاء يصورون لك الشرق صورة متناقضة ينهش حقائقها التعاظل الممقوت. بل تعال أنت أيها الغرب الحر المتسامي، غرب أجناد الحق وأبناء الخلود، وادرس حياة الشرق الجميل. . . تعال بروح الحرية التي بنيت عليها حضارتك الأولى، فترى حينئذ كما نرى نحن أن الشرق الضعيف أهل للحرية، وأن في أعماق أخلاقه ومبادئه وميوله حكمة خالدة أسمى من الحياة المادية)

وكأني هنا - بطاغور - وقد رأى بعينيه جشع الغرب وتكالبه على امتلاك قطعة من الأرض، وشاهد انتحار الفضيلة فيه، واستيلاء الحياة المادية على عقول أبنائه، وتقلص الشعور من النفوس، وتلاشي حرارة الشعر، وتمشي الأطماع والأكاذيب في سننه وقوانينه فهو يقول (إن في أعماق روح الشرق وميوله جمالاً أسمى من الحياة المادية التي يعيشها الغرب) وإن ذاك الذي تضمه روح الشرق ومبادئه ليس سوى الوداعة المستحكمة من قلوب أبنائه، والطهارة الناشرة أجنحتها فوق قصوره وأكواخه، والنجوم التي تنير حقوله ووهاده. . . فتبدو الحياة في ذلك الشرق الشعري الخالب كأنها حلم من الأحلام الرائعة.

ص: 59

وفي الحقيقة أن طبيعة الشرق لهي عرس من أعراس الحياة. فعلى الشواطئ تمرح عذارى الحب والجمال، وفي الكهوف تمرح تخيلات الدهور والأجيال

إن في روح هذا الشاعر الهندي المتصوف الذي نشأ في ظلال الشرائع الشرقية القديمة مالئاً قلبه من عصير (النرفانا) وكتب أجداده الخالدة خيالاً يقظاً سوف يصغي الدهر إلى همسه المسكر مستمهلاً في فراره بين أكوام الموتى وساحات الحروب. . . ولكن إنسانية اليوم لن تصغي إلى حفيف أجنحة أطيافه، ولن تلمح ما في حكمته من نور، ولن تجرع ما في كآبته الصاحية من كوثر حي، لأنها إنسانية ثملة بأبخرة الدماء، وعبق البارود، وهزيم المدافع، وقلقلة القيود

ستبقى ثملة. . . وسوف لا تستفيق من نزواتها وخيلائها حتى تقتلها النزوات وتقهرها الخيلاء فتبصر عندئذ نجمة الحق لامعة في أفقها المعلى حيث تلتقي الأزلية والأبدية، وحيث يتعانق فجر الحياة ومساؤها.

(البرازيل)

يوسف البعيني

ص: 60

‌رسالة العلم

قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي بك مدير مصلحة الكيمياء

ظل يغدو ويروح بين عماله في هذا البيت فلا يستقر به مكان، وظل يشرف فيهم على تركيب مركبات جديدة رجاء أن تكون أكثر إبداعاً من المركب الذي كان، ودار في كل حجرة وسار إلى كل ركن فلم يستطع أحد حتى قدريت أن يتتبع أثره. وأملى كاتبته الآنسة مرثا مركرت مئات من الكتب اتسعت لكثير من حماسته وحرارته، وقرأ آلافاً من الكتب جاءته من كل ركن من أركان الأرض، واحتفظ بتقرير دقيق عن كل حالة بل عن كل جرعة من الجرعات الخمس والستين ألفاً من السلفرسان التي حقنها الحاقنون في بقاع الدنيا في عام 1910. وكان احتفاظه بها على مثال هذا النظام الغريب الذي تأصل في هذا الرجل: كتبها جميعاً على صحيفة ورق كبيرة دبسها في باطن باب القمطر الذي كان في مكتبه، وغطت الصحيفة باطن هذا الباب من أعلاه إلى أسفله فكان كلما طلب شيئاً في أسفل الصحيفة تقاصر وتقرفص، وكلما طلب شيئاً في أعلاها تطاول على أصابع رجليه وتمدد، وكان في كلتا الحالتين يركز بصره تركيزاً. ويعمله إعمالاً ليقرأ سطورها وهي خطوط دقيقة مهملة معماة.

وتزايدت التقارير فجاءت بأنباء عن حوادث للشفاء غريبة بديعة حبيبة تلذ قراءتها، ولكنها تضمنت كذلك أنباء مسيئة متجهمة تتحدث عن فواق وقيء ثم تصلب في الأرجل وتشنج في الجسم يعقبه الموت. وجاءت الأنباء الفينة بعد الفينة بموت مرضى كان يجب ألا يموتوا، وجاء موتهم عقب حقنهم بالدواء.

ألا ما أشد ما اشتغل إرليش ليفسر هذه الأحداث! ألا ما أشد ما قسى على نفسه ونحل من جسمه ليتجنب هذه الأرزاء، فما كان إرليش بالرجل الجامد الذي لا تهزه مصائب الخلق ولا تؤلمه آلام الناس، فأجرى التجارب العديدة، وكتب الكتب الكثيرة يستفسر عن تلك الرزايا كيف وقعت، وعن المحاقن كيف ضربت، وكان يجلس في الأمساء يلعب الورق

ص: 61

وحده، فيغلبه الفكر في تلك الحوادث، فيأخذ يكتب على هوامش الورقات ما يعن له من تفسيرات، أو هو يكتبها على ظاهر مجلات قصصية تحكي عن فظائع وجرائم بوليسية كان يفزع دائماً إلى قراءتها ظناً منه أن فيها دون سواها راحة البال المكدود ورياضة النفس المريضة، ولكنه ما استروح قط ولا استراض، وكيف يفعل وهذه البلايا تتقفى أثره فتذهب بالذي كسبه من مجد عظيم.

وزادت أسارير جبينه تغضناً، وازدادت تعمقاً، واسود ما تحت عينيه الزرقاوين، وبقيت فيهما بقية ما فتئت ترقص من تلك الفكاهة الهادئة المستحية.

فهذا المركب رقم 606 نجى آلافاً من الموت، ونجى آلافاً من الجنون، وخلص آلافاً آخرين مما هو شر من الموت: من قطيعة المجتمع إياهم لما ضرب المكروب في أجسامهم ضرباً، وأكل منها أكلاً، حتى صارت مناظرهم في العين قذى وفي الأنفس تهوّعاً. ولكنه بعد تنجيته المرضى بهذه الآلاف أخذ يقتل منهم بالعشرات، وأخذ إرليش ينهك جسمه الناحل أو ما تبقى له من جسم، حنى أصبح خيالاً، وذلك ليفسر أحجية عز على الحكماء تفسيرها. ولقد مضى الآن على آخر سيجارة دخنها إرليش عشر سنوات، والأحجية ما زالت أحجية. فترى من هذا أن النجاح العظيم الذي كسبه إرليش كان أكبر حجة على بطلان نظرياته. قال:(إن المركب رقم 606 يتحد اتحاداً كيميائياً بالمكروب فيقتله، وهو لا يتحد مع الجسم فهو لا يناله بسوء). هذه نظرية من نظرياته فأين هي مما جرى؟

إن المركب رقم 606 مركب ذو كيمياء معروفة، ولكن تفاعله مع الجسم تفاعل خاف مجهول، وأخفى منه كيمياء هذا الجسم الإنساني العجيب، هذه المكنة الحية الغريبة، هذا الطلّسم الذي لا نفهم إلى اليوم منه وآسفاه كثيراً. ولقد أخطأ إرليش ونال عاقبة خطأه، لأنه لم يدرك إلا بعد فوات الأوان أن رصاصته المسحورة يطلقها آلاف المرات فتصيب غايتها من المكروب آلاف المرات، ولكنها قد تطيش أحياناً فتصيب غير غايتها فتقتل العدو والصديق. على إنه لا تثريب اليوم عليه ولا ملامة، فإن يكن أردى العشرات فقد رد الصحة والسلامة على الألوف. وصادة المكروب العظام ماذا كانوا سوى سادة مقامرين، إذن فلنذكر إرليش بالحمد، ولنذكره بشجاعته وجرأته ومخاطرته، ولنذكره بما دفع من البؤس عن ألوف كثيرين

ص: 62

ولنذكر بأنه أنار سبيلاً جديدة سيسلكها صادة المكروب لا محالة من بعده يبحثون فيها مثله عن رصاص جديد يطلقونه على مكروب جديد

وليس هذا بالأمل البعيد أو الأمنية الخائبة. فقد بدت فعلاً تباشير ما نرجوه من بعد إرليش. فإن قوماً بحاثاً من غير ذوي النباهة وذائعي الصيت قاموا في مصانع الأصباغ بمدينة إلبرفلد يترسمون خطى الأستاذ الأكبر، وبعضهم من أعوانه الأقدمين، فكدوا وكدحوا كما كانوا في خدمته يكدون ويكدحون، حتى وقعوا على عقار جديد غريب أبدعوه إبداعاً. وقد احتفظوا بسر تركيبه، وأسموه (باير رقم 205)205. وهو مسحوق عادي المظهر لا يهولك منه شئ، ولكنه يشفي من مرض النوم الذي ينتهي دائماً بالموت في بلاد روديسيا وبلاد نياسا بأفريقيا. وإن كنت لا تزال تذكر فهو الداء الذي كافحه الرجل الجلد دافيد بروس آخر كفاح في حياته، وارتد عنه مغلوباً. فهذا العقار يفعل في خلايا الجسم وسوائله أفعالاً لو سمعتها لحسبتها خرفاً أو خيالاً. ولكن أحسن ما في الحسن منها أنه يقتل المكروب قتلاً، وأنه يقتله قتلاً دقيقاً جميلاً كاملاً شاملاً لو سمع به إرليش لتحركت أشلاؤه في قبره سروراً واغتباطاً. فإن كان في المكروب ما لا يقتله، فهو على الأقل يحُد من نشاطه ويقلم من أظفاره فيجعله أنيساً مأموناً. على أن حكاية هذا العقار لم تختتم بعد فلندع للأيام ختامها

وإني لواثق وثوقي بطلوع الغد بأن المستقبل كفيل بخلق صادة للمكروب غير من ذكرنا يطلعون على الناس برصاصات غير ما وصفنا، ستكون أكثر سلاماً على الإنسان وأشد حرباً على المكروب وأفتك بكل جرثوم خبيث شديد المراس حكينا حكايته في هذه القصة فلنذكر إرليش بأنه فاتح هذا الباب وأول سالك لهذه الطريق

وقبل أن أختم هذه القصة أجد في صدري سراً لابد من فضحه قبل الختام: ذلك أني أحب صادة المكروب هؤلاء، من لوفن هوك إلى إرليش، ليس على الأخص للكشوفات التي كشفوا، ولا للنعم الجليلة التي بها على البشرية أنعموا، ولكني أحبهم على الأكثر لأتهم رجال أي رجال، أحبهم لرجولة جميلة فيهم سأظل أذكرها لكل فحل منهم ما استطاعت ذاكرتي وعياً

ولهذه الرجولة الجميلة أحببت إرليش. كان إرليش رجلاً مِغراماً ممراحاً يحمل أوسمته معه

ص: 63

في صندوق أخلاطاً أملاطاً لا يدري في أي المحافل والمآدب بأيها يزدان. وكان رجلاً قليل التؤدة فزاعاً يخطر له الخاطر فيفزع فجاءة إليه وينسى ما هو فيه. جاءه رجل من إخوانه بحاث المكروب ليخرج به العشية على شراب، وكان إرليش في بيته في حجرة نومه يلبس ويتهيأ للخروج، فما علم بمقدمه حتى خرج في قميصه يحييه

وكان رجلاً صموتاً معتكفاً. قال له بعض عباده يشير إلى المركب رقم 606: (إنه عمل رائع من خلق عقل جبار. إنه كشف من كشوفات العلم الرائعة). فقال له إرليش معيداً: (عمل رائع من خلق عقل جبار، وكشف رائع من كشوفات العلم!؟ لا يا زميلي العزيز، بل هي فلتة واحدة من فلتات الحظ جاءتني بعد سنوات لم أعرف فيها إلا إلى الخيبة سبيلاً)

احمد زكي

ص: 64

‌رسالة الفن

مكيلانجلو

العبقرية الملهمة

للدكتور احمد موسى

- 2 -

وعاد من بولونا إلى فلورنسا في صيف سنة 1495 بعد أن نحت فيها بعض القطع التي نذكر أهمها (الملاك الراكع) و (القديس بطرونيوس). أما في فلورنسا فقد عمل تمثال (يوحنا الصبي)، وهو التمثال الذي أتمه سنة 1495 كما سبق القول وهو محفوظ ببرلين

وله أيضاً تمثال مشكوك في صحة انتسابه إليه يسمى (أودونيس الميت) لا يزال محفوظاً بمتحف ناسيونال في فلورنسا

وسافر في يونيو سنة 1496 إلى روما لأول مرة، وأقام فيها إلى يونيو سنة 1501، وهناك أنتج أبرز عمل في مرحلة حياته الأولى بناء على طلب أحد الفرنسيين سنة 1499 لعمل مجموعة منظرية تمثل المادونا حاملة جثة المسيح على فخذيها وهي موجودة بكنيسة بطرس بروما. والناظر إليها يرى إشعاع المثل الأعلى ممثلاً خير تمثيل في كل أجزائها، فضلاً عن رجوعها إلى الفن الإغريقي من الناحية المجموعية، إلى جانب حداثتها في قوة الإخراج، وحسن التكوين، والألم والجزع الذي ارتسم على وجه المادونا بالغ حد الإعجاز لغيره

وله أيضاً قطعة أسماها باخوس (إله الخمر)(ش 1) عملها تنفيذاً لطلب السنيور جالي أحد مشاهير النجار في عصره، وبالنظر إليها يتضح الإبداع في التكوين الجسماني الرقيق، كما تظهر لنا الكيفية التي أخرج بها الوجه والشعر المحاط بعناقيد العنب ظهوراً جلياً وبهذا يتم الانسجام المعنوي للتمثال، انظر إلى اليد اليمنى وكيف حملت وعاء الخمر، وتأمل إلى أي حد بلغت رقة إله الخمر في طريقة حمله هذا الوعاء، ثم شاهد الولد الصغير الجالس إلى

ص: 65

يمين باخوس حاملاً عناقيد أخرى غطاها بلباسه في شئ كثير من الحرص أشبه بمن يطوق حاجة عزيزة عليه. وقد كون ميكيلانجلو الساق على هيئة ساق الخيل إكمالاً للتعبير عن قصته الإغريقية

وله غير ذلك تمثال كيوبيدو (أو أبولو) محفوظ بمتحف لنسنجتون بلندن

ومن يونيو سنة 1501 إلى مارس سنة 1505 أقام في فلورنسا واتصل فيها بليوناردو دافينشي، بالرغم من اختلاف مشارب كل منهما؛ إلا أنه تأثر به إلى حد بعيد. وله في هذه الفترة تمثال (داود)(ش 2) وهو منحوت من قطعة واحدة من الرخام ومحفوظ بأكاديمية فلورنسا

ولعلك تلمس الفارق الشديد بين تمثال باخوس وبين هذا التمثال من الناحية المجموعية والتكوينية والتفصيلية، وبذلك تستطيع أن تقرر أن هذا العبقري الملهم قد أدى رسالته بأقصى ما يمكن الوصول إليه من النجاح.

وتمثاله (صبي الراعي) لا يقل عن هذين التمثالين روعة، وهو لصبي طويل حسن التكوين إلى أبعد حد، ارتسمت على وجهه مسحة الصلابة والأنفة الريفية. وغير ذلك خمسة تماثيل صغيرة عملها لتحلية هيكل كنيسة سينا والمادونا مع يسوع الطفل بكنيسة لييفراون في بروجه، وهي ويسوع بالحجم الطبيعي تقريباً، وقد جعل ملامح المادونا على غاية البهاء والتناسب

هذا وله منحوتات نصف بارزة مستديرة الشكل للمادونا مع الطفل القارئ ويوحنا، وهي محفوظة بفلورنسا وبأكاديمية لندن

إلى هنا تكون مرحلة إنتاجه في شبابه قد انتهت. ويستقبل مرحلة الرجولة من سنة 1505 عندما استدعاه البابا يوليوس الثاني إلى روما ليشرف على تشييد ضريحه. وقد صادفته عقبات جمة حالت دون تنفيذ هذا المشروع الفني، وقاسى الأمرين. أهمل التصميم الذي وضعه لهذا الضريح بعد المجهود الهائل الذي استنفده. ولم ينفذ إلا بعد انقضاء أربعين سنة بعد كثير من التعديلات والبتر. وأول خطوة لهذه المأساة بدأت عندما أهمل البابا نفسه تصميم ميكيلانجلو مدة سنة كاملة، ولم يطق العبقري هذا التسويف فرحل إلى فلورنسا، لأنه لم يكن قد حضر إلى روما إلا بناء على استدعاء البابا.

ص: 66

وشاءت المصادفة أنه كان يوماً في بولونا، وإذا به يواجه البابا ويصافحه، فطلب إليه ترميم تمثاله البرنزي في هذه المدينة؛ وهو تمثال قيم كان قد أصيب بالعطب من جراء التخريب الذي قام به البولونيون فيها. وبعد انتهائه من العمل عاد إلى روما في ربيع 1508، وهناك كلفه البابا تعديل مصورات السقف ذي الستة عشر حقلاً بالفاتيكان، وفيه انهمك عاملاً أربع سنوات من 1508 إلى 1512.

وبعد موت يولويس بدأ ميكيلانجلو في تنفيذ مشروع الضريح من سنة 1513 إلى 1516، وما قارب الانتهاء حتى فاجأه ليو العاشر خليفة يوليوس بوقف العمل.

وانقضت الأيام وتعاقبت الشهور، فاستأنف ميكيلانجلو العمل في الضريح الشامل لبناء أرضي مربع الشكل ينتهي أحد أضلاعه إلى حائط مجاور؛ كله من الرخام وله ستة نوافذ مستعارة كل منها أشبه بقبلة أقام فيها تمثالاً لإحدى آلهات النصر وجعل السقف محمولاً على رؤوس الأسرى كما هو واضح بالنظر إلى الصورة. هذا عدا التماثيل الحاملة للتابوت، والمحيطة به، منها ستة جالسة وأربعة واقفة، وعدا تمثال البابا نفسه راكعاً أعلى التابوت.

وللبناء الأرضي لهذا الضريح تمثالان لعبدين (محفوظان باللوفر) وفيهما تمثل ألم العبودية تمثيلاً رائعاً، كما أن له تماثيل أخرى لمساجين وهي أيضاً عظيمة.

ولابد لنا من ذكر تمثاله (النبي موسى) وهو الجالس في الوسط (ش 3) وهو تمثال معروف في العالم كله بعظمة إخراجه وقوة إنشائه، ولذلك يعتبر دون حاجة إلى تدليل أعظم تمثال مفرد في مدرسة النحت الحديث. انظر إليه تره جالساً وقد ارتسم على وجهه ألم التفكير في مصير بني إسرائيل، وظهرت بوادر الغيظ على وجه النبي، مما دفع به إلى وضع يده اليسرى على بطنه، وأسند اليمنى على كتابه، مداعباً شعر لحيته الطويل بأصابعه، ألا ترى أن ميكيلانجلو بهذا النحو قد وفق إلى إخراج آية من آيات الفن الخالدة؟ وهل تظن أنه مهما أوتي فنان من سعة الخيال وقوة الإخراج، يستطيع أن يعبر لك عن نبي طائفة من الناس دون وطن معين، بأحسن مما أخرجه ميكيلانجلو؟ تأمل الكيفية التي أخرج بها التمثال العظيم الذي يعد في نظر الدارس معجزة فنية لا يستطيع إنسان أن يأتي بمثلها! ثم انظر إلى اللحية وإلى طول الشعر والبعثرة التي أصابته من مداعبته له بأصابع يمينه كما قلت.

ص: 67

هذا كله لا ينسينا التنويه بعظمة الإخراج الكلي للضريح، الشامل لنقوش على غاية الدقة والانسجام المعاصر

ترك روما إلى فلورنسا في صيف سنة 1517 للشروع في عمل الواجهة البنائية (لسان لورنسو) التي قرر أن يكون لها ثمانية أعمدة واثنا عشر تمثالاً كلها من الرخام، وستة تماثيل نحاسية، وتسعة عشر منظراً نصف بارز، وصادفته صعاب لا تقل عن سابقتها، إلا أن نظرته إليها لم تكن بالحدة الأولى.

ظل مقيماً في فلورنسا، وهناك أتم في سنة 1521 إخراج التمثال الرخامي للمسيح، والذي كان قد وضع منهج العمل فيه سنة 1514 ولعل هذا التمثال أعظم قطعة تمثل فيها النبل والترفع في الإخراج

وله أيضاً في هذه الفترة تمثال مشهور لأبولو، تركه دون إكمال وهو لا يزال محفوظاً بفلورنسا.

أما ثاني إنتاج رائع في حياته، فهو وضعه لتصميم مقابر المديتشي وتنفيذه لما جاء فيها من فن الإعجاز، وهو ما سنتناوله بالدرس في المقام القادم

احمد موسى

ص: 68

‌البريد الأدبي

مجلس التنظيم وعيد القاهرة الألفي

يظهر أن الدعوة التي وجهت منذ حين على صفحات الرسالة إلى السلطات المختصة للعمل على إحياء عيد القاهرة الألفي بما يليق بهذه المناسبة التاريخية من الاهتمام والتكريم قد لقيت صدى ضعيفاً في بعض الدوائر، فقد نشرت الصحف أخيراً أن مجلس تنظيم القاهرة قد رأى لمناسبة حلول العيد الألفي للقاهرة المعزية أن يطلق اسم القائد جوهر الصقلي منشئ العاصمة الفاطمية (القاهرة) على قسم من شارع السكة الجديدة، وأن يطلق اسم الخليفة المعز لدين الله الذي أمر قائده جوهر بإنشاء المدينة، وإليه تنسب (القاهرة المعزية) على شارع المغربلين. ومجلس التنظيم يرى بذلك أن يكرم ذكرى الرجلين العظيمين اللذين يرجع إليهما قيام هذه العاصمة الألفية الجليلة. بيد أننا نلاحظ أن اختيار هذين الشارعين لإطلاق الاسمين عليهما ليس اختياراً موفقاً، بل هو ينم عن التقتير والضن؛ إذ بينما نرى أسماء تاريخية أقل أهمية ورنيناً وأقل جدارة واستحقاقاً تطلق على شوارع عظيمة من شوارع العاصمة، نرى مجلس التنظيم يكتفي بهذين الشارعين تكريماً لمنشئ القاهرة. وإذا كان مجلس التنظيم يريد بهذا الاختيار أن يحافظ على المناسبات التاريخية، فيحسن به أن يختار شارع الأزهر الجديد ليطلق عليه اسم القائد جوهر، فجوهر هو أيضاً مؤسس الجامع الأزهر، وفي وسعه أن يطلق اسم المعز على شارع الموسكي ثم امتداده من السكة الجديدة حتى الدراسة، أو على الشارع الممتد من باب الفتوح حتى السكة الجديدة، ثم امتداده حتى باب زويلة، فهذان الشارعان هما في الواقع قطر المدينة الفاطمية القديمة. أما إذا لم يكن للخطط التاريخية دخل في هذا التكريم، وإذا كان التكريم مقصوداً لذاته فليطلق اسمي جوهر والمعز إذن على شارعين من أعظم شوارع القاهرة، لا على شارعين من أحقر شوارعها

النيل في مصر لأميل لودفيج

ظهر أخيراً الجزء الثاني من كتاب النيل لأميل لودفيج وعنوانه (النيل في مصر) أما الجزء الأول وعنوانه (النيل من المنبع إلى مصر) فقد صدر منذ بضعة أشهر حسبما ذكرنا في هذا المكان من الرسالة، وهو يتناول وصف النهر العظيم من منابعه حتى حدود مصر

ص: 69

الجنوبية، ووصف الحيوانات والجماعات التي تسكن هذه المناطق. أما الجزء الثاني فقد خصص للقسم الممتد داخل مصر، وفيه وصف ضاف لهذا القسم ولمصر التي عاشت من مائه منذ القرون الغابرة حتى الوقت الحاضر. ومن رأي الكاتب أن النيل كانت له دائماً في هذا القسم العامر من مجراه مؤثراته العميقة على الشعوب التي سكنت واديه، وكان لهذه الشعوب بلا ريب نفوذها وإرادتها في تكييف مجرى النهر والانتفاع بمائه. ويتناول لودفيج وصف هذه المرحلة التي يبلغ طولها ستمائة ميل، كما يتناول وصف مصر منذ الفراعنة، وعصر المسيح والقديسين، ثم مصر الإسلامية، ومصر أيام عصر الانحلال التركي؛ ثم يصف مغامرة نابوليون القصيرة، وحفر قناة السويس وتدخل إنكلترا، ثم يتناول حركة مصر القومية في أسلوب حماسي مشبع بالعطف. ويتبع لودفيج في الكتابة والوصف أسلوباً جديداً لم يسبق لمن طرق نفس الموضوع أن اتبعه، فالنيل ليس في نظره وحدة جغرافية فقط توصف من الناحية الطبيعية، بل هو كائن حي له خواصه الإنسانية كما أن له خواصه الجغرافية والطبيعية، ولهذا يعامله لودفيج كأنه شخصية تترجم كما يترجم الرجل العبقري. وفي مواقف كثيرة ترى لودفيج شاعراً يتبع الوصف الخيالي؛ وإذا كان يبدو محققاً في بعض الحقائق والوقائع التاريخية، فهو يبدو أحياناً سطحياً يكتب كما يكتب السائح الطارئ. ومن جهة أخرى فقد وجه النقد المر إلى الأسلوب الذي أخرج به الكتاب بالإنجليزية (لأنه كتب أصلاً بالألمانية) وقيل إن فيه كثير من النقص والتشويه

كتاب خطير عن روسيا السوفيتية

ظهر أخيراً كتاب خطير في روسيا السوفيتية بقلم زعيم كبير من زعمائها القدماء هو ليون تروتسكي أحد مؤسسي روسيا البلشفية؛ ويقدم إلينا تروتسكي كتابه الجديد بعنوان (خيانة الثورة. ما هو الاتحاد السوفيتي وأين يسير) ونحن نعرف أن تروتسكي لبث من سادة روسيا وزعمائها حتى سنة 1927، وعندئذ بدأ الخلاف بينه وبين ستالين وعصبته، وانتهى الأمر بتغلب ستالين ونفي تروتسكي وتمزيق عصبته. ومن ذلك الحين يعيش تروتسكي في منفاه متتبعاً أحوال روسيا وتطوراتها. ولكن تروتسكي يخلف وراءه عدداً كبيراً من الزعماء القدماء الذين يناصرونه ويخاصمون النظام الجديد، ولهؤلاء أنصار كثيرون في روسيا. وينعى تروتسكي على ستالين سيد روسيا الحالي أنه خان قضية العمال، وبدد تراث

ص: 70

لينين، واتبع سياسة رأسمالية، وأنه أقام نظام إرهاب شامل. ويقول تروتسكي في كتابه المذكور:(إن الثورة قد غدر بها القائمون بالأمر، ولكن لم تسحق نهائياً). هذا هو ملخص نظريته وهو يشرح بعد ذلك مساوئ النظام القائم، ويدلل على أن ستالين يسير بوحي الدول الرأسمالية، ويرغم روسيا على الخضوع لها؛ ويشهر بسياسة الإرهاب القائمة، وذيوع الجاسوسية الشنيعة. وتدبير المؤامرات ضد الأبرياء من الزعماء المخالفين. ولا ريب أن تروتسكي هو اليوم أعظم حجة في شؤون روسيا السوفيتية. ويقال إن لديه مستندات هامة تلقي الضياء على أعمال العصبة التي تسيطر اليوم على مصاير روسيا؛ وسوف يثير كتابه اهتماماً جديداً بأحوال روسيا وشؤونها

ومما يؤثر عن تروتسكي أنه فضلاً عن الدور العظيم الذي لعبه في قيام الثورة البلشفية وسحق حكومة القياصرة، يعتبر من أعظم كتاب روسيا المعاصرين؛ وهو يكتب بعدة لغات بمقدرة مدهشة.

حديث جديد عن المسرح المصري:

قرأنا في بعض الصحف الفرنسية الواردة في البريد الأخير حديثاً جديداً لمسيو أميل فابر عن المسرح المصري. ويذكر القارئ أن مسيو فابر، وهو من أكبر الفنانين الفرنسيين، وكان مدير المسرح الكوميدي فرانسيز، قد انتدبته الحكومة المصرية في الشتاء الماضي لدراسة المسرح المصري، واقتراح ما يجب اتخاذه لإنهاضه وإصلاحه، وأنه قام بهذه المهمة، ولا يزال تقريره بين يدي ولاة الأمر في وزارة المعارف. ويقول مسيو فابر في حديثه الجديد إن المسرح المصري يرجع نحو أربعين سنة، ولكنه يعيش منزوياً على هامش الحوادث؛ بيد أن المسرح العربي جدير بأن ينهض وأن يتسع نطاق عمله، فاللغة العربية هي لغة مصر وشمال أفريقية، فضلاً عن البلاد العربية، بل هي ذائعة في أمريكا الجنوبية حيث يوجد ثمانون ألف سوري في المهجر.

والمسرح المصري ينقصه التأليف المسرحي وتعوزه الأبهاء والزخارف. وهنالك ممثلون للكوميديا ولا توجد لها ممثلات، حتى أن أدوار النساء يقوم بها الرجال. ومن الأسف أن المسرح المصري لا يملك الآن غبر دار الأوبرا؛ وهذه الدار تحتلها في معظم الفصل فرق أجنبية مختلفة؛ وفي وسع الحكومة أن تشتري مسرح الأزبكية، فهو يصلح لتمثيل القطع

ص: 71

الكوميدية. والمسرح المصري فقير في المناظر حتى أنه يصعب فيه تمثيل القطع المنوعة. أما عن التأليف المسرحي فلا يوجد بمصر، وكل ما هنالك قطع مترجمة عن الإنكليزية والفرنسية والألمانية. وليست هنالك قطع أصيلة مكتوبة بالعربية. وأخيراً توجد مشكلة اللغة، فالحكومة ولجنة الفرقة القومية تريدان استعمال اللغة العربية الفصحى، وهذه لا يفهمها كثير من رواد المسرح.

راء (المبرد) مرة أخرى للأستاذ إبراهيم مصطفى

لقي اسم المبرد من عناية الرسالة وعناية الأدباء الباحثين حظاً حسناً. وكان مثار الخلاف أني قلت (المبرَّد) بالفتح في محاضرة ألقيتها بالجمعية الجغرافية فنقدني أديب وتصدى له أديب وامتلأ الحوار بالحجة وبقيت أقرأ مستفيداً شاكراً. وحق عليّ من بعد، أن أذكر ما من أجله فتحت هذه الراء

لقد تلقيت هذا الاسم بالكسر عن الشيخين اللغويين الشنقيطي والمرصفي. وسمعنا من الشنقيطي شعراً أو نظماً في ذم من فتحها ليس يخلو ذكره من تفكهه وهو:

والكسر في راء المبرَّد واجب

وبغير هذا ينطق الجهلاء

وكان رحمه الله يلقي القول يفخمه ويمط البيت عند آخره. أما شيخنا المرصفي فلم يكن متشدداً في الكسر تشدد الشنقيطي، ولكن كان يفضله ومن هنا غلب على لسان الأدباء كسر الراء وتلقيناه ولقيناه كذلك. ثم تبين لنا أن الصواب هو الفتح لما رأينا أن هذا الاسم إنما وضع نبزاً للعيب لا لقياً للمدح. وكان من عادة ذاك الزمن أن يكون تكريم العلماء بالكنية؛ ويكثر أن تغلب عليهم ألقاب تحمل نبزاً وعيباً؛ وقد يبدو ذلك غريباً ولكنه أمر واقع. فأبو العباس محمد بن يزيد (المبرد) شيخ النحاة بالبصرة، وأبو العباس احمد بن يحيى (ثعلب) شيخ النحاة بالكوفة في زمنه يعاصره وينافسه؛ وثعلب والمبرد نبزان، وكذلك أمام الأدباء في ذات العصر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

والجاحظ نبز بلا ريب. ومن ألقاب العلماء في ذاك الزمن قطرب وعجرد والجعد والبغل والحامض والأخفش والأعمش والأعور والأعمى والأثرم والأشعث والفراء والزجاج والرؤاس (بائع الرؤوس) ولكل كنية لا يدعى إلا بها ولا يحب أن يتسمى بغيرها.

ولو كان في هذه الأسماء مثار للخلاف واحتملت أنبازهم الفتح والكسر كالمجحظ والمخفش

ص: 72

والمعور لرأيت من يدعى لها ويقربها من المدح بوجه ما (كالمبرد) وينسى أصل النبز وعادة العصر ولولا سعة صدر الجاحظ لقال أيضاً جحظ الله من جحظني. وقال الأخفش خفش الله من خفشني كما قال المبرد: برد الله من بردني - على أن السعي لتجميل ألقاب العلماء عاطفة جميلة، ولكنها تباعد التاريخ وتخفي الحق؛ فقد رأيت لم خالفنا ما روينا عن الشيخين. ولعمري لو أنهما شهدا وهدي إليهما ما قدم في الرسالة من النصوص لما رأيا إلا الفتح، ولشكراً للأديب العالم الذي تسمى (أحد القراء) فطوى اسمه ونشر علمه. فما كان لهؤلاء العلماء من التشدد في الحق إلا ريثما تنكشف لهم الحجة في غير ما بأيديهم؛ فهم أتباع الحق أبداً. ولقد ذكرت بهذا قصة للمرحوم الشيخ الشنقيطي كان يقرأ عليه الأستاذ الخضري شعراً فيه كلمة (الخرامي) بالراء المهملة، فقال الشنقيطي هي الخزامي بالزاء أصلحها، فحدثنا الشيخ الخضري أن نفسه تطلعت أن ينظر القاموس ليرى الكلمة وكان قريباً منه فنظره وإذا في القاموس الخزامي والخرامي بالزاء وبالراء وكل منهما نبت بالصحراء، فقرأ على الشيخ ما وجد. قال الشيخ: أعدها بالراء وأستغفر الله. قال الخضري: كنت أظن أن القاموس أدنى علم الشيخ من اللغة. فضحك الشنقيطي وقال: (دون هذا وينفق الحمار) فتلك منزلة العلماء من الحق إذا تبين وما التوفيق إلا بالله

إبراهيم مصطفى

ص: 73

‌القصص

بل ضرورية جداً

للسيدة كرم حسن فهمي

(إلى أستاذي الجليل عباس محمود العقاد)

عادت خضرة وقد أنهكها التعب من جمع القطن تحت أشعة الشمس المحرقة في الحقل

عادت خضرة إلى الدار ذات الحيطان السود والسقف المتداعي وجلست بجانب أخيها حسن على الحصير البالية وسألته:

. . . ألم تجد عملاً في القاهرة؟

. . . لم أجد

ألم تذهب إلى عمك؟

. . . لا فائدة

تذكرت خضرة زيارات عمها الغني للقرية وكيف كان يستقبله القرويون وما استدانه والدها الفقير مبالغة في إكرامه

بل تذكرت كيف كان حديث عمها لا يدور إلا عن نفسه وأملاكه ومركزه الرفيع في الجيش وعن قصره وما يحويه من تحف وصور وتماثيل

وتذكرت خضرة أن عمها عرض على والدها قبل وفاته أن يستصحبها معه إلى القاهرة ورفض والدها إذ ذاك

فاليوم وقد مات أبوها وماتت زوج عمها المخيفة التي ورث عنها كل هذه الثروة فلِمَ لا تذهب؟

. . . ألا تأخذني معك يا حسن إلى قصر عمي

. . . إنك لم تذهبي إلى القاهرة قط

. . . أرجو يا حسن! ربما كان لي من التأثير على عمي ما ليس لك فيهتم بشأنك

سافرا إلى القاهرة وأدهشت حركة المدينة الكبيرة الفتاة وبلغت أخيراً قصر عمها وتساءلت عن محتوياته في دهشة والعم يشرح:

ص: 74

هذا البساط النادر ثمنه مائة جنيه. فخلعت الفتاة خفيها ووضعتهما تحت إبطها خشية تلويثه

العم: وهذه السجادة الفارسية الأثرية ثمنها ثلاثمائة جنيه.

فتحسستها الفتاة وقالت: لكنها قديمة يا عمي، فقهقه صاحب القصر وأجابها: لهذا كانت ثمينة، فإنها أثرية منذ ألف سنة

. . . انظري هذا التمثال النصفي البديع! صنعه أكبر مثال فرنسي معاصر

. . . وهذه صورة زوجتي بريشة الرسام سوسانت كلفتنا مائة جنيه

قالت الفتاة: هل هي أثرية أيضاً أي منذ ألف سنة؟

فقهقه العم مرة أخرى لسذاجتها

وفي المساء نامت الفتاة تحلم بالقصر البديع الذي يقطنه عمها وحيداً لا يشاركه فيه إلا خادمه العجوز وإلا هذه التحف والتماثيل. ونام أخوها حسن وهو يدبر أمراً

في مساء اليوم التالي عاد حسن إلى القصر بعد أن جال في شوارع العاصمة وقال لعمه:

عثرت اليوم يا عمي على صورة فنية بديعة للرسام الشهير ج. س

قال العم: يا لشوقي لصورة من ريشته!

حسن: رفض الإيطالي العنيد أن يبيعها

العم: أغره بالمال، هذه ألف جنيه؛ وإذا طلب أكثر فأنا مستعد

وعاد حسن في صباح اليوم الثالث يحمل إطاراً كبيراً أسدل عليه ستار من الحرير الأزرق حجب الصورة، ووضع الإطار بصورته الغامضة في صدر قاعة الاستقبال الكبرى بقصر عمه

وفي المساء حضر صاحب القصر ومعه رهط من الغواة والفنانين والمعجبين بالفنون

ووقف حسن بجانب الإطار ورفع عن الصورة الستار وتكلم:

أيها السادة. ترون الآن صورة (فانتين البائسة) صورها هوجو بقلمه كلاماً، وعربها حافظ بلاغة، ورسمها ج. س الرسام الإيطالي الشهير صورة ناطقة

كم أتقن الفنان تصويرها وتصوير البؤس فيها! ألا تعد آية من آيات الفن؟ كم تقدرون ثمناً لها؟

ص: 75

العم: ألف جنيه

بعضهم: وأكثر

واستطرد حسن يقول: يجب أن نقدر الفن فالفن ضروري للحياة (بل ضروري جداً)

فمن الواجب أن نقلع عن تقويم مطالبنا بمقدار الحاجة إليها، فإن ذلك التقويم غير صحيح، فنحن نستطيع أن نفقأ أعيننا بأصابعنا أو نقطع ألسنتنا ونعيش بغير ملكة النظر والكلام سبعين سنة ولا نستطيع أن نعيش بغير الخير. . .

وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فالحلية أقوم من الآنية الضرورية، ولأن نشيد قصراً بديعاً ينحت فيه عشرة مثالين فينتجون تماثيل للزينة خير ألف مرة من بناء مصنع أو سفينة يعمل فيهما الآلاف فينتجون. . .

(والتمثال أغلى من الكساء) وكأس الويسكي أغلى من طن الماء، والطباق أغلى من الهواء.

(وأقصى ما نبلغه في تحصيل الخبز أن نتساوى وسائر الأحياء، ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأناسي فحسب بل أناسي ممتازون نعيش في أمة ممتازة) نعيش في أكواخ من اللبن والطين

(فإن كنا نبغي أن نعيش كما تعيش الأحياء فحسبنا الضروريات المزعومة) حتى تأتي الكماليات فتلاشيها (وحتى يأتي غيرنا) فينزع هذه وتلك.

(ومن الواجب ثالثاً أن نذكر ما هو العلم الذي يفوقنا به الغربيون) فليس هو التجارب العويصة في مصانع السيارات، ولا الاختبارات والمخاطرات الشاقة في عالم الطيارات والسفن والدبابات، كلا، لا يفوقنا الغربيون بهذا فإن الشرقي ليحذق صناعة الطيارة. . . إذا. . . (فتأملوا من فضلكم إذا).

أيها السادة! في علم حسابنا أن القصيدة الغرامية تساوي طيارة، وفي نحونا أن التمثال يعني سفينة أو سيارة، وقال أمين الريحاني: يا من يبيعني فلسفة بطيارات فلم يعبأ به أحد.

(ولقد يخطئ بعض المصلحين في تقويم الفنون فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك والسروات) وأخطأ اللورد بافرلوك لما قال (إن المقتصدين أسياد العالم) ورو كفلر مجنون إذ رفض رسم صورته نظير ثلثمائة جنيه بريشة أكبر رسام أمريكي.

أيها السادة! قدرتم ألف جنيه لصورة (فانتين البائسة) فكم تقدرون لها الآن إذا عرفتم أنها

ص: 76

بائسة حقيقية من اللحم والدم؟ (تتحرك الصورة وتخرج من الإطار لأنها امرأة حقيقية)

كم تقدرون لها الآن؟

أصوات - لا شئ

أيها السادة. . . هكذا نقوم الحقيقة. وهكذا نقوم الخيال، وهكذا نبيع نصف عقولنا ونخسر نصف أعمارنا وننفق نصف أموالنا لنظهر بمظهر الامتياز واللباقة والتهذيب

أيها السادة. . . تلك أمم بلغت شأوها ونالت الضروريات ثم التفتت إلى الكماليات، ونحن أمة لا نزال في أشد الحاجة إلى الضروريات، والضروريات القصوى أولاً

كرم حسن فهمي

حرم ناظر محطة م. أ

ص: 77