الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 206
- بتاريخ: 14 - 06 - 1937
أدب السندوتش
لعلك تقول لنفسك سائلاً أو هازلاً ما علاقة الأدب بالسندوتش؟ ولو
كنت أريد الأدب الذي تعارفه أولو الجد من الناس لأعيا نفسك وأعياني
أن ندلك على هذه العلاقة. ولكنني أريد الأدب الذي تتأدبه ناشئة اليوم؛
والسندوتش أو الشطيرتان بينهما الكامخ كما يريدون أن نقول، لقيمات
تشتريها وأنت واقف في المطعم، وتأكلها وأنت ماش في الطريق،
وتهضمها وأنت قاعد في المكتب، فلا تجد لها بين ذهول العجلة وتفكير
العمل هناءة في ذوقك ولا مراءة في جوفك. وهذا الضرب من الطعام
القائم على القطف والخطف جنى على الأسرة فحرمها لذة المؤاكلة
ومتعة المنادمة وأنس العشرة؛ وجنى على المائدة فسلبها فنها الطاهي
وذوقها المنظم وجلستها البهيجة؛ وجنى على الصحة فأضعف الشهوة
وأفسد الهضم ونقص العافية. والثقافة الأدبية اليوم لاتختلف في سرعتها
وتفاهتها وفسادها عن هذا النوع الجديد من الأكل، فهي نتفات من
الكتب، ولقفات من الصحف، وخطفات من الأحاديث، ومطالعات في
القهوة أو في الترام أو في السرير يلقط الكلم فيها النظر الخاطف، كما
يلقط الحب الطائر الفزع، ثم نتاج مختصر معتسر كجنين الحامل
أسقطته قبل التمام، وصراخ مزعج في أذني هذا السقط ليستهل وهو
مضغة من اللحم المسيخ لا تشعر ولا تنبض، وأصبح مآل غرفة
المكتب في البيت كمآل غرفة الطعام وقاعة الجلوس فيه، بغى عليها
سندوتش الصحيفة كما بغى على هاتين سندوتش البار والقهوة
يقول أنصار السندوتش في الحياة: إن المائدة لا تتفق مع الزمن الدافق والعمل المتصل
والتطور المستمر والحركة السريعة؛ فان في طول الجلوس إليها، وقواعد الأكل عليها، وتعدد الألوان فيها، واحتفال الأسرة لها، إضاعة للمال والوقت، وقتلاً للنشاط والحركة، وجلباً للسقام والمرض.
ويقول أنصار السندوتش في الأدب: إن قواعد اللغة قيود لا توافق حرية العصر، وأساليب البلاغة عوائق لا تجاري قراءة السرعة، وبدائع الفن شواغل لا تساعد وفرة الإنتاج. والحق الصريح أن آكلي السندوتش أعجلتهم محاقر العمل ومشاغل الرزق عن النعيم الآمن، والجمام الخصب، والبيت المطمئن، فجعلوا صعلكة المطاعم نظاماً وفلسفة؛ وأن قارئي السندوتش صرفتهم وعوثة الطريق وتكاليف الغاية عن اكتساب الملكة، وتحصيل الأداة وتوفير المعرفة، فقنعوا بهذا الفتات المتخلف ثم تجشئوا من غير شبع، وتشدقوا من غير علم، وطلبوا محوا القيود والحدود والمقاييس ليصبح الأدب كوناً عاماً والفن حمى مباحاً، فيسموا راوي الأقاويل قصصياً، ووزان التفاعيل شاعراً، ونهاش الأعراض ناقداً، وسلاب القرائح نابغة؛ ولكن الطبيعة التي تحفظ سر الكمال، وتحمي ندرة النبوغ، وتبغي بقاء الأصلح، تأبى إلا أن يظل قراء السندوتش وآكلو السندوتش فقراء ذوي عمل، أو أغنياء ذوي لهو، لا تهيئهم الحياة المضطربة إلى زعامة في أمر ولا إلى نبوغ في فكرة
أثار هذا الموضوع في ذهني طائفة من الرسائل النقدية تلقيتها من أقطار العربية تستنكر بعض ما تظهر المطابع المصرية من لغو الكهول وعبث الشباب، ونشدد النكير على بعض الأحاديث الأدبية التي تبثها الإذاعة اللاسلكية، وبعجب فاضل من بغداد وأديب من حلب كيف تمتهن مصر كرامتها فترفع صوتها الأدبي في العالم من فم شاعر له ديوان مطبوع وذكر مرفوع ثم لا يدري شيئا في قواعد اللغة ولا ضوابط العروض، فكان يقرأ النثر ولا يقيم لسانه، وينشد الشعر ولا يضبط ميزانه، حتى قالوا والعهدة عليهم إنه أنشد قصيدة ابن سعيد المغربي، وهي من بحر السريع على روي الكاف الساكنة، ففتح الكاف وجعل صدور الأبيات من بحر وأعجازها من بحر آخر!
الواقع الأليم أن الذين درسوا لغتهم وفقهوها من الأدباء النابهين نفر قليل، فإذا استثنيت هؤلاء الستة أو السبعة وهم من الكهول الراحلين، وجدت طبقة الأدباء كطبقات الصناع والزراع والتجار يأخذون الأمور بالتقليد والمحاكاة لا بالدرس والمعاناة؛ وكما تجد في
هؤلاء من ينشئ المتجر ثم يكله إلى أجنبي ينظمه ويرتبه، تجد في أولئك من يؤلف الكتاب ثم يدفعه إلى نحوي يعربه ويهذبه. ولا نجد في تاريخ العربية قبل هذا العصر، ولا في تاريخ اللغات في جميع العصور، من يحسب نفسه أديباً في لغة وهو لا يعرف منها إلا ما يعرفه العامي الألَف. والغرور المتبجح والادعاء السفيه لا يستطيعان أن يحملا الناس على أن يقرءوا السخف، ولا الزمن على أن يبقي على الضعيف.
إن رسالة الأدباء كرسالة الأنبياء فيها عبقرية وجلالة وسمو. فإذا لم يكن الكاتب أو الشاعر خليقاً أن يسيطر على العقول والميول بمكانه في العلم وسلطانه في الأدب ورجحانه في الرأي كان أشبه بمن يدعي النبوة في مكة، أو بمن يمارس الشعوذة في لندن!
إن المدارس المصري تعلم اللغة على منهاج غير واضح، والجامعة المصرية تبني الأدب على أساس غير صالح، والجامعة الأزهرية لا تزال تنفض البلى عن كتب ملتاثة التعبير من مخلفات العجمة، إن صلحت لشيء فلن تصلح لتعليم البلاغة. فليت شعري إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد كيف تكون حال الأدب الرفيع في مصر؟ أيذهبون وبُطئان ما يُعوضون على رأي الأستاذ احمد أمين، أم يذهبون وسرعان ما يُخلفون على رأي الأستاذ العقاد؟
أحمد حسن الزيات
ندرة البطولة
للأستاذ أحمد أمين
كتب الكاتب القدير الأستاذ عباس محمود العقاد مقالاً رد فيه على مقالتي في (ندرة البطولة)؛ وأنا سعيد حقاً بهذا الرد الممتع، فقد أبان فيه جانباً من جوانب الموضوع، وأوضحه أيما إيضاح، ودعمه بالحجج والبراهين القوية
وحبذا لو اتخذ هذا المقال مثلاً للناقدين، فيناقشون ما يعرض من الأفكار في هدوء وجد وتفكير عميق وأسلوب مهذب، ولا يكون لهم غرض إلا الوصول إلى الحق وتجليته
ثم نعود بعد إلى موضوعنا، فيخيل إلي أن ليس بيني وبين الأستاذ العقاد خلاف إلا في مسألة واحدة متى حددت ظهر وجه الصواب وانكشف جانب الحق
تلك هي تحديد ما نريد بالنابغة أو البطل، وما نريد بالمقارنة بين العصر الماضي والعصر الحاضر.
مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه ويسبقهم في فنه أو علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان؛ وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ. فسيبويه نابغة في النحو لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه، وفاقهم في ذلك بمراحل؛ واسحق الموصلي نابغة لأنه ابتدع من الفن ما لم يعرفه فنانو عصره، وكان في ذلك هو السباق وهم المقلدون. وقل مثل ذلك في الجاحظ وأبن الرومي وشكسبير وجوته. فأما إن هو عرف ما يعرفه أهل زمانه، أو أتى من الفن بما يأتيه أهل زمانه، فلسنا نسميه نابغة وإنما نسميه عالماً أو فناناً
هذه مسألة، والمسألة الأخرى أننا إذا أردنا أن نقارن عصراً بعصر في كثرة النبوغ وندرته، فلا نقارن معلومات عصر بمعلومات عصر، ولا فن عصر بفن عصر، إنما نقارن مسافة البعد بين النابغين في عصر وبين عامة المتعلمين فيه؛ ونفعل مثل ذلك في العصر الذي نريد أن نقارن به. فإذا أردنا المقارنة بين العصر العباسي الأول - مثلا - وبين عصرنا الحاضر في الأدب، وازنا بين ابن المقفع والجاحظ وبشار وأبي نواس، وبين الكتاب العاديين والشعراء العاديين في ذلك العصر، وقسنا مسافة البعد بينهم؛ ثم فعلنا مثل ذلك في عصرنا الحاضر، فإن كانت مسافة البعد بين البارزين والعاديين في العصر
العباسي أطول منها بين البارزين والعاديين في عصرنا حكمنا بأن البارزين في العصر العباسي أنبغ
هذا في رأيي أعدل في الحكم، وأقرب إلى الصواب؛ وإلا لم يعد أي نابغة من نوابغ العصر الماضي نابغة؛ فتلميذ المدارس الثانوية اليوم يعرف من قواعد النحو ما لم يكن يعرفه سيبويه، ويعرف من الطبيعة ما لم يكن يعرفه (نيوتن)؛ وتلميذ الهندسة اليوم يعرف من نظريات الهندسة ما لم يكن يعرفه إقليدس، ويعرف من الهندسة التحليلية ما لم يكن يعرفه ديكارت؛ وقد يكون من كتابنا اليوم من يجيد الكتابة خيراً من ابن المقفع والجاحظ، ولكن قيمة سيبويه ونيوتن وإقليدس وديكارت وابن المقفع والجاحظ ليست في مقارنتهم بأمثالهم في عصرنا، ولكن بمجموعة المتعلمين في عصرهم، ثم بموازنة ذلك في عصرنا على هذا النمط وهذا المنهج. فنقطة المقارنة هي مسافة البعد، لا مجموع المعارف ولا المقدرة الفنية أو السياسية أو الحربية. هذه هي نظريتي، فأنا أدعي أن العصر الحاضر تندر فيه البطولة ويقل فيه النبوغ بهذا المعنى
فلا يسألني الأستاذ بعد ذلك (ما كتاب الجاحظ الذي يعجز أبناء عصرنا عن الإتيان بمثله؟)
ولا يقل: (إن الموصلي وإبراهيم بن المهدي لا يبلغان شأو سلامة حجازي والسيد درويش وأم كلثوم)
ولا يذكر أن فوش وهندنبرج ومصطفى كمال أتوا من الواقع ما يفوق ما أتى به يوليوس قيصر وإسكندر المقدوني وجنكيزخان. . . الخ
فكل الذي ذكره الأستاذ حق، ولكنه لا ينقص ما ادعيت. قد كان ينقضه لو أنني ادعيت أن النبوغ هو إتيان الآخر بخير مما أتى به الأول؛ ولو ادعيت ذلك لكانت دعوى ظاهرة البطلان، ولكان ابني في المدارس الثانوية خيراً من رياضيي القرون الوسطى، فهو يعرف ما لم يعرفوا، وأنبغ من كل علماء البلاغة في العصر العباسي الأول لأنه يعرف من مصطلحات البلاغة ما لم يعرفوا؛ وهكذا في كل علم وكل فن
أخشى أن أكون في مقالي السابق لم أوضح القصد، ولم أجلِّ الغرض؛ أما الآن فأظن أن الأستاذ يوافقني بعد هذا التحديد على نظريتي؛ فعندنا كتاب قديرون يفوقون الجاحظ في كتبهم وفي تأليفهم، ولكنهم مع ذلك لم ينبغوا نبوغ الجاحظ، فقد كان بصيراً بين عميان،
وصاحياً بين سكارى، وفي القمة ومن حوله في القاع؛ ولكن كتابنا إن فاق منهم عدد قليل فحولهم كثير مقاربون؛ وإن نبغ في عصرنا قانوني فليس هو في السماء ومن عداه في الأرض كما كان الشأن في القرون الماضية، ولكنك ترى قانونيين مثله أو قريبين منه ومسافات البعد ليست واسعة
والعالم الآن متخم بالعلماء المتبحرين، والساسة الماهرين، والفنانين المبدعين، والحربيين القادرين، والصناع الحاذقين، ولكن من العسير جداً أن تعد منهم نوابغ لأن كل طائفة منهم تكاد تكون كأسنان المشط في الاستواء، وإن فاق واحد منها فتفوق قليل
ظهر نابليون فاستعبد الناس، وأجرى الدماء أنهاراً، وقلب الممالك رأساً على عقب، ودوخ الدنيا، فكان نابغة حقاً في ناحية؛ وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب ومن هم أقوى منه إرادة، وأبعد نظراً، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ، لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون، ولأنه وحده كان هو القاهر المريد ومن حوله كانوا هم المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا، ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل
لقد أتى عصرنا بالعجائب - كما يقول الأستاذ - (وأتى بالحقائق التي تشبه الخيال، وبالعبر التي تشبه نوادر الأمثال) ولكن كل ذلك - مع الأسف - لا يسمى نبوغاً بالمعنى الذي نقصده، لأنها قد كثرت حتى صارت مألوفة معتادة. هل إذا كثر الصناع الماهرون في بلدة سميتهم كلهم نوابغ؟ أم هل إذا كثر القانونيون البارعون في فرنسا سميتهم كلهم نوابغ؟ أو هل إذا كثر الفلاسفة المتعمقون في ألمانيا كانوا كلهم نوابغ؟ كلا ليس هذا هو مصطلحنا في الحياة، فالبلدة التي يكثر فيها الجمال يكون الجمال فيها عادياً مألوفاً، والحقل الذي تطول أكثر أشجاره وتنمو نمواً جيداً لا يمكننا أن نسبغ صفة التفوق عليها جميعاً وهكذا
فكثرة العلماء والفنانين في عصرنا الحاضر حجة لي لا عليَّ، وهي السبب في أننا لا نعدهم نابغين ولا أبطالا. ولو كان واحد منهم في الزمن القديم، وكان وحده هو البارز وهو السائد لكان وحده هو النابغ. فلو كانت المسألة مسألة تقدم عصرنا وتفوقه على الاعصر الماضية في سياسة جميع العلوم والفنون لوافقتك على ذلك كل الموافقة، ولكن المسألة هي مسألة النبوغ في العصر. فلو قارنت مزرعة بمزرعة وكانت كل أشجار إحدى المزرعتين ضعيفة وكل أشجار الأخرى قوية نامية لقلت بلا تحرج وبالبداهة إن المزرعة الثانية خير
من الأولى، وإنها تفوقها بمراحل؛ ولكن لو سئلت هل في المزرعة الثانية شجرة متفوقة على أقرانها لقلت بالبداهة أيضاً (لا) بملء فيَّ.
فعصرنا كذلك غني بكل مرافق الحياة، غني بالرجال في كل علم وفن، ولكن هذا الغنى سلبه النبوغ أيضاً، فكان عجيباً أن نرى الغني علة الفقر، والتخمة سبب الجوع.
لقد انقسم كل مجتمع إلى طوائف، وكان من نتائج المدنية الحديثة زيادة التخصص، فكما تخصص الصناع في جزء خاص من الصناعة تخصص علماء كل علم لفرع منه، فصار من المضحك أن يكون الرجل قانونياً في كل فروع القانون، أو طبيباً في كل فروع الطب، أو أديباً في كل فنون الأدب؛ ونشأ عن هذا التخصص توفر العدد الكثير على كل فرع من فروع العلم والفن وإتقانهم له؛ فحيثما تلفت وجدت العدد الذي لا يحصى في الأمم المتمدنة في كل نوع وكل فرع وكل صناعة. ونتج من ذلك أن ما كان يسمى نبوغاً في العصور الماضية أصبح اليوم شيئاً عادياً مألوفاً، فعز النبوغ وندرت البطولة - ولم نعد نرى أمثال الجاحظ الذي يؤلف في الأدب والاجتماع والجغرافيا والتاريخ والمذاهب الدينية والطب والنفس والحيوان والاقتصاد؛ وصار الاقتصار على مادة واحدة بل فرع من مادة بل جزء من فرع هو المنهج العلمي الصحيح، وهذا أغنى العلم وسهل للعدد الوفير أن يصل إلى شأو بعيد وفي الوقت نفسه كان سبباً لقلة النبوغ، فالنبوغ يكثر حيث يعز الشبيه
هذا من ناحية العلماء أنفسهم وكثرتهم، وهناك ناحية أخرى وهي ناحية الناس الذين يحكمون بالنبوغ، فلابد للنبوغ من نابغ وحاكم بالنبوغ، كما لا بد للجميل من ناظر ومنظور. فهؤلاء الناس أصبحوا - على العموم - مثقفين ثقافة عامة خيراً مما كانوا عليه في العصور الماضية. اتسعت معارفهم ودقت أنظارهم، وكان لهم أيضاً شبه تخصص، فمنهم من يميل إلى الأدب، ومنهم من يميل إلى العلم، ومنهم من يميل إلى الفن. وأصبح الفرق بينهم وبين العلماء المتخصصين أقل بكثير من الفرق الذي كان بين العامة والعلماء في العصور الماضية؛ وكذلك شأنهم في السياسة، بل شأنهم في السياسة خير من شأنهم في العلم، كل يعرف حقوقه وواجباته السياسية، ويستطيع أن يزن قادته وزناً صحيحاً إلى حد ما.
كل ذلك أنتج نتيجتين بعيدتي الأثر، أولاهما أنهم أصبحوا يتطلبون من النابغة ما يشبه
المستحيل حتى يعد في نظرهم نابغة، وقد كان ذلك فيما مضى سهلاً يسيراً، فمن عاش في الظلماء يبهره نور القنديل، ومن عاش في ضوء الكهرباء لا يبهره ضوء الشمس؛ والثانية أن الناس أصبحوا متسائلين مدققين باحثين لا يستطيع السياسي القدير أن يتلاعب بهم وأن يجعلهم آلة صماء كما كانوا من قبل. من أجل هذا لا نرى كبار الساسة اليوم يستطيعون أن يخضعوا الناس لأمرهم كما فعل نابليون ويوليوس قيصر وجنكيزخان وأمثالهم، وعدم الخضوع وكثرة السؤال والتدقيق يقلل من مجد الساسة، ولا يرفعهم إلى درجة الآلهة وأنصاف الآلهة كما كان في سالف الزمان؛ ومثل هذا يقال في كل علم وكل فن
فعصرنا الحاضر (طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل) وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية
إن كان هذا - يا أخي - هو الذي أردتُ فأظن أنه لا يرد علي بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر؛ وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرتَ وذكرتُ، وسلامي عليك ورحمة الله
أحمد أمين
آلعلم للعلم، أم العلم للوطن بوسيلة دراسة التاريخ؟
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
- 1 -
رغب إليَّ بعض الشباب أن أدلي برأيي في موضوع (هل العلم للعلم أم العلم للوطن - بوسيلة دراسة التاريخ) وهو الذي استفتت المفكرين فيه الرابطة العربية، فكتبت هذا المقال متوخياً فيه بيان الرأي على وجه عام، غير متصدٍ لمناقشة رأي خاص. وقد رأيت نشره بالرسالة الصديقة ليتسع مدى المناقشة في هذه المسألة بتنوع المجال
أبو خلدون
أنا لا أعترض على من يقول إن (العلم للعلم)؛ واسلم بأن (الأبحاث العلمية) يجب أن تكون غايتها (معرفة الحقيقة)، معرفة مجردة من كل الاعتبارات النفعية.
غير أنني أقول في الوقت نفسه أن العلم شيء آخر، فما يصح في (العلم) قد لا يصح في (التعليم).
فعندما نقول (العلم للعلم)، لا يتحتم علينا - منطقياً - أن نقول في الوقت نفسه (التعليم للتعليم). وعندما نسلم بأن (العلم لذاته لا لشيء غيره)، لا يلزمنا التسليم في الوقت نفسه بأن (التعليم أيضاً لذاته، لا لشيء غيره).
فأن مبدأ (العلم للعلم) لا يمنعنا من القفول بأن (التعليم ليس من الأمور المقصودة بالذات، بل هو من الوسائل التي تستخدم للوصول إلى بعض الغايات).
إن هذه الغايات لا تكون (مادية ونفعية) في كل الأحيان، بل تكون (معنوية وتربوية) في معظم الأحوال: فقد يقصد من التعليم (إعطاء بعض المعلومات المفيدة للحياة) في بعض الأحوال؛ غير أنه يقصد منه - في كثير من الأحيان - (الحصول على بعض الفوائد المعنوية والتأثيرات التربوية)، كالتعويد على البحث والملاحظة، والترغيب في الدروس والمطالعة، أو تنمية الميول الفنية واستثارة العواطف النفسية. . . وأما التعليم الذي يتجرد عن مثل هذه الأهداف والغايات، فأنه يكون مخالفاً لأسس التربية الصحيحة مخالفة كلية.
ويمكننا أن نقول: (إن قيمة التعليم تقاس بقيمة الغايات التي تقصد به من جهة، وبجودة الطرق
التي تتبع في خلاله من جهة أخرى، ولا نغالي إذا قلنا: إن (الغايات) في هذا الشأن تكون أهم من (الطرق) بوجه عام؛ لأن (الطريقة تتبع الغاية وتخضع لمقتضياتها) بطبيعة الحال.
هذا، ومما تجب ملاحظته في هذا الباب أن تعليم أي علم من العلوم لا يمكن أن يشمل ويستوعب جميع الحقائق المكتشفة والمقررة في ذلك العلم، حتى في الدراسات العالية. فكل تعليم يضطر - بطبيعة الحال - إلى انتخاب بعض الحقائق والاهتمام بها أكثر من غيرها. فنستطيع أن نقول لذلك: إن التعليم يتضمن شيئاً من الانتخاب؛ فجودة التعليم تتوقف على حسن الانتخاب؛ ولا جدال في أن حسن الانتخاب لا يتيسر إلا بموازنة الفوائد التي يمكن الحصول عليها من تعليم كل بحث من الأبحاث، من جميع الوجوه العلمية والتربوية. ولا شك في أن هذه (الموازنة) توسع مجال عمل (الغايات في التعليم) توسيعاً كبيراً.
وأما نوع التربية الذي يستهدف والتأثير الذي يتوخى من تعليم كل علم من العلوم، فيختلف باختلاف العلوم من جهة، وباختلاف درجات التعليم من جهة أخرى. فالفوائد العلمية والأهداف التربوية التي تستهدف في تعليم الرياضيات مثلاً تختلف عما يتوخى من تعليم الطبيعيات والاجتماعيات. كما أن الغايات التي تقصد في تعليم هذه العلوم في المدارس الابتدائية، تختلف عما يقصد منها في تعليمها في المدارس الثانوية والعالية.
ونستطيع أن نقول بوجه عام: أن دور الغايات التربوية في التعليم يتضاءل كلما ارتفعت درجة التعليم؛ ومع هذا فإن التعليم العالي نفسه لا يتجرد عن الغايات التربوية تماماً، فإن هذا التعليم أيضاً لا يكتفي بسرد الحقائق وحدها، بل يستهدف في الوقت نفسه تعويد الطلاب على (التعلم من تلقاء أنفسهم)، بمراجعة المصادر وجمع الوثائق وملاحظة الوقائع واستقراء الحوادث. . . حسب ما تقتضيه طرائق البحث العلمي والدرس الذاتي. .
وأما التعليم العالي الذي لا يقوم بهذه المهمة خير قيام، فإنه يكون مقصراً في واجباته الأساسية، مهما توسع في سرد الحقائق وتوغل في شرح الأبحاث:
فلا نغالي إذا قلنا: أن التعليم لا يصبح مقصوداً بالذات، إلا في الدراسات العليا الاختصاصية وحدها.
- 2 -
إن ما قررناه آنفاً في شأن (العلم والتعليم) ينطبق على أمر (التاريخ وتعليم التاريخ) بطبيعة
الحال.
ففي شأن التاريخ أيضاً نستطيع أن نقول: إن الأبحاث العلمية التي تتوخى معرفة الحقائق التاريخية شيء، والشؤون التعليمية التي تتوخى نشر تلك الحقائق شيء آخر. ومهما بالغنا في القول بأن (التاريخ) يجب أن يكون الغرض منه معرفة الحقائق معرفة مجردة عن كل غاية، لا نستطيع أن نقول ذلك في (تعليم التاريخ)، بحال. بل لابد لنا من التسليم بأن هذا التعليم يجب أن يوجه نحو غايات تربوية واضحة. . على أي حال.
ويجب أن نلاحظ زيادة على ذلك، أن الغايات التربوية التي يُرمى إليها من (تعليم التاريخ) كبيرة وخطيرة جداً، لأن المعلومات التاريخية تمتاز عن سائر المعلومات بالتأثيرات العميقة التي تحدثها في الشعور القومي والحس الوطني، وبالأدوار العامة التي تلعبها في تكوين القومية الوطنية.
فإن شعور الأفراد نحو أمتهم ووطنهم لا يتأثر بمعرفتهم أو عدم معرفتهم للحقائق الطبيعية مثلاً؛ غير أن شعورهم هذا يتأثر تأثراً شديداً من علمهم أو عدم علمهم بالوقائع التاريخية التي تعاقبت على الوطن والأمة في سالف الأزمان.
ويمكننا أن نقول: أن الشعور القومي يستند على (الذكريات التاريخية) أكثر من كل شيء آخر. ونستطيع أن نؤكد أن (الأفكار والمعلومات المتعلقة بالتاريخ) تلعب دوراً هاماً في حياة الأمم، وتؤثر تأثيراً كبيراً في سير حوادثها.
ولهذا السبب نجد أن الأمم المتمدينة بأجمعها تهتم بالتاريخ اهتماماً عظيماً. فهي لا تكتفي بالتذكير بالماضي بواسطة الدروس والمؤلفات بل تبذل أنواع الجهود لإقامة التماثيل والأنصاب، بقصد (تجسيد وتخليد الذكريات)؛ كما تنتهز جميع الفرص لإقامة الاحتفالات، لإحياء ذكر بعض الوقائع التاريخية، بقصد استثارة انتباه الشعب وإيقاد نار الذكريات القومية في قلوب الناس.
كما نشاهد أن الدول المستعمرة، عندما تستولي على أمة من الأمم، تحاول أن تدعم استيلاءها العسكري باستيلاء معنوي، وتعتبر السيطرة على (المعلومات التاريخية) من أهم وسائل هذا الاستيلاء. ولذلك، حالما تنتهي من الأعمال التي تمحو بها الحكومة المحلية وقواها المختلفة، تأخذ في تصويب سهامها نحو (التاريخ القومي)، وتبذل كل ما لديها من
الوسائل لإخفات صوت ذلك التاريخ، وتستعمل كل ما لديها من الحيل لإبعاد ذاكرة الأمة عن تاريخها الخاص.
كما نجد أن الشعور القومي عند الأمم المحكومة يأخذ في الخمود والتضاؤل عندما يسحب النسيان ذيله على (التاريخ القومي) ولا سيما عندما تنصرف الأمة عن تاريخها الخاص إلى (التاريخ) الذي تلفقه وتعرضه عليها السلطة الحاكمة. . حسبما تقتضيه سياسة السيطرة والاستعمار.
وأما عودة الشعور القومي إلى مثل هذه الأمم المحكومة فلا تتم إلا بعودة الذكريات التاريخية؛ ولا نغالي إذا قلنا: أن حركات الاستيقاظ والانبعاث ومجاهدات الاستقلال والاتحاد. . لا تبدأ إلا بتذكير الماضي واستلهام التاريخ، هذه حقيقة ناصعة تتجلى من بين صفحات التاريخ بوضوح تام.
فإن (حب الاستقلال) يتغذى بذكريات الاستقلال المفقود؛ والتوقان إلى السؤدد والمجد يبدأ بالتحسر على السيادة الماضية والمجد السالف؛ والإيمان بمستقبل الأمة يستمد قوة من الاعتقاد بماضيها الباهر، والنزوع إلى الاتحاد يزداد شدة وحماسة بتجدد ذكريات الوحدة المضاعة. . . هذه كلها حقائق ثابتة، تشهد بها جميع التواريخ، من تاريخ استقلال اليونان إلى تاريخ اتحاد الألمان، ومن تاريخ ثورة الصرب إلى تاريخ وثبة الأتراك. .
ولذلك كله نجد أن جميع علماء التربية يتفقون في القول بأن دروس التاريخ من أهم وسائط التربية الوطنية والقومية.
فهل يجوز - وهذه هي الحال - للمعلمين ن والمؤلفين أن يتعاموا عن ملاحظة تأثير المعلومات التاريخية في هذا المضمار، وألا يستفيدوا من تأثيرها هذا في تقوية الروح القومي وتوجيه الشعور الوطني نحو الأهداف التي يتطلبها مجد الأمة ونهوضها؟
- 3 -
يظن البعض أن استخدام دروس التاريخ كواسطة للتربية الوطنية والقومية وتكييف كتب التاريخ لمقتضيات هذه التربية، هما من الخطط والنزعات الخاصة بالأمم التي تدار بالديكتاتوريات الوطنية؛ والواقع أنه لا فرق بين هذه الأمم وغيرها في ذلك. ونحن لا نعلم بوجود أمة بين الأمم الراقية تجردت عن هذه النزعة فأهملت الاستفادة من دروس التاريخ
في هذا المضمار.
وإذا تجلت آثار هذه النزعة الآن عند فريق من الأمم بوضوح أكبر فما ذلك إلا لأن هؤلاء غيروا نظام حكمهم حديثاً فاضطروا لذلك إلى القيام بتكييف تاريخهم لمقتضيات هذا النظام الجديد بصورة فجائية وعلى رؤوس الأشهاد، في حين أن غيرهم أقدموا على مثل هذا العمل قبلهم، فأوجدوا لأنفسهم تاريخاً مكيفاً بمقتضيات الوطنية، منذ مدة غير يسيرة من الزمن. . . فيمكننا أن نقول: إن الفرق بين الفريق الأول والفريق الثاني ينحصر في تاريخ عملهم بهذه النزعة، لا في انقيادهم إليها أو انصرافهم عنها.
ومن الغريب أننا نجد بين مفكري الفريق الثاني من الأمم من ينتقد بشدة الخطط التي يتبعها الفريق الأول في هذا الباب. غير أننا نشبه انتقادهم هذا بعمل بعض الأمم المستعمرة التي تستهجن فكرة الاستعمار عندما تشاهد آثارها عند غيرها، مع أنها كانت ولا تزال من آباء الاستعمار وأبطاله، ومع أنها تنعم بخيرات مستعمرات كثيرة ولا تتوانى في التوسل بجميع وسائل العنف والشدة لإدامة سيطرتها عليها.
فيجب علينا ألا ننخدع بمثل هذه الدعايات والانتقادات السياسية وأن نعلم علم اليقين أن تكييف دروس التاريخ بمقتضيات القومية والوطنية من الخطط التي تعمل بها جميع الأمم من غير استثناء، ومن الخطط التي تتحتم على جميع الأمم المستضعفة بوجه خاص. . .
هذا ويجب أن نلاحظ في الوقت نفسه أن (التكييف) الذي نشير إليه لا يستلزم (الاختلاق). لأن (الانتخاب والإبراز) وحدهما يكفلان (التكييف) ويكفيان (للتوجه) بوجه عام.
وذلك لأن الوقائع التاريخية تؤلف سلسلة طويلة لا مجال لتحديدها، بل شبكة معقدة لا حد لتعقيدها، فعدم ذكر الوقائع بأجمعها - قصداً أو اضطراراً - واختيار بعضها أو تفصيله أو اختصاره - كل ذلك مما يغير منظر الوقائع وتأثيرها النفسي تغييراً كبيراً، كما تتغير الألوان حسب مشيئة المصورين، تبعاً لتغيير أنواع الأصباغ التي تمزج بعضها ببعض من جهة، ولتغير نسب هذا المزج من جهة أخرى.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن عملية الاختيار والإبراز، إذا كانت من الأمور المهمة في جميع فروع التعليم، فهي في منتهى الأهمية في تعليم التاريخ.
لنذكر مثالاً بسيطاً لتوضيح تأثير عملية الانتخاب والإبراز في مثل هذه الأمور لنفرض أننا
نود أن نبحث عن علاقة فرنسا بوحدة إيطاليا: فإذا استعرضنا الحوادث التي تعاقبت في إيطاليا منذ حروب نابليون إلى حرب السبعين، ولاحظنا علاقة هذه الحوادث بسياسة فرنسا وأعمالها، وجدنا أن هذه السياسة كانت مساعدة لوحدة إيطاليا في بعض الأحوال والأدوار. ومعرقلة لها في أحوال وأدوار أخرى، فإذا ذكرنا النوع الأول من الوقائع دون أن نبحث عن النوع الثاني منها، أو إذا سردنا النوع الثاني من الوقائع دون أن نتطرق إلى النوع الأول منها. سنوصل قراءنا وطلابنا إلى أحكام متخالفة ومتعاكسة في هذا الباب. وهذا الاختلاف سيظهر حتى عند عدم إهمال ذكر نوع من نوعي هذه الوقائع إهمالاً تاماً، بل نتوسع في شرح أحد النوعين ونكتفي بإشارة مختصرة في النوع الآخر.
وهذا يحدث فعلاً في تدوين وتدريس هذه الوقائع التاريخية في مدارس كل واحدة من هاتين الدولتين. فإن الفرنسيين يوجهون الأنظار إلى الوقائع التي كانت من نوع المساعدة للوحدة الإيطالية، ويبرزون هذه الوقائع أكثر من غيرها. . في حين أن الإيطاليين - بعكس ذلك - يوجهون الأنظار إلى الوقائع التي كانت من النوع الثاني، ويتوسعون فيها أكثر من غيرها ولهذا السبب تجد أن رأي الإيطاليين في هذه القضية يختلف عن رأي الفرنسيين اختلافاً بيناً في معظم الأحوال.
وقد لاحظ الكثيرون من رجال الفكر والسياسة، التأثير الشديدة الذي يتأتى من دروس التاريخ في إدامة الضغائن وإثارة الحروب بين الأمم، فاخذوا يفكرون فيما يجب عمله في هذا الباب؛ وهذا ما حمل عصبة الأمم على الاهتمام بالأمر اهتماماً خاصاً، وتكوين فرع مختص بشؤون تعليم التاريخ بين جوانب معهد التعاون الفكري الأممي. . كما حمل عدداً كبيراً من المربين والمؤرخين على عقد مؤتمرات أممية عديدة للمداولة في القضايا المتعلقة بدروس التاريخ. . .
وإذا تتبعنا مناهج هذه المؤتمرات ونشراتها، ولاحظنا أعمالها ومقرراتها، نجد أنها لم تعارض قط في (استخدام التاريخ كواسطة للتربية الوطنية) وكل ما طلبته من المعلمين والمؤلفين في هذا الباب، انحصر في التماس السعي إلى تخليص دروس التاريخ وكتب التاريخ من الأبحاث والاتجاهات التي تثير الضغائن وتحول دون التفاهم والتقارب بين الأمم.
إنها دعت المعلمين والمؤلفين إلى توجيه جهودهم وأعمالهم إلى هذا الاتجاه على الدوام، دون أن تطلب إليهم أن يجردوا دروسهم وكتبهم من النزعات القومية والوطنية. أو يتركوا الاستفادة من التاريخ في التربية القومية والوطنية.
وعلى كل حال نستطيع أن نؤكد أن (تعليم التاريخ) يستهدف التربية الوطنية والقومية قبل كل شيء، عند جميع الأمم بدون استثناء.
- 4 -
بعد هذه التفصيلات يجدر بنا أن نعود إلى أنفسنا ونتساءل عما يترتب علينا عمله في دروس التاريخ، نحن الناطقين بالضاد.
نحن نعتقد بأن حاجتنا إلى الاستفادة من التاريخ في التربية الوطنية والقومية، تفوق حاجة جميع الأمم على الإطلاق. لأن حالة العالم العربي الآن تزيد في احتياجه إلى الاستفادة من دروس التاريخ وكتب التاريخ في هذا المضمار زيادة هائلة.
هذا ويجب ألا ننسى من جهة أخرى أن موضوع تأليف وتدريس التاريخ - في العالم العربي - ظل بعيداً عن مقتضيات البحث العلمي والتربية الوطنية في وقت واحد
وذلك لأن المؤلفات التاريخية العربية تستند إلى نوعين من المصادر: غربية وشرقية؛ والمصادر الغربية لم تتخلص تماماً من تأثير (النظرات الأوربية) التي نشأت على معاداة الشرق واستضعاف العرب حتى الآن. . . وأما المصادر الشرقية فقد ظلت بعيدة عن التطورات العلمية والنزعات التربوية في وقت واحد. . .
فيجب علينا في مرحلة النهضة التي وصلنا إليها أن نعيد النظر في أبحاث التاريخ بروح علمي وشعور قومي؛ وأن نوجه لأنفسنا - على هذا الأساس - مؤلفات تاريخية تجمع بين مقتضيات البحث العلمي ومطالب التربية الوطنية في وقت واحد. .
بغداد
أبو خلدون
في الحب وتهيؤ النفس له
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أشرت في فصل إلى الوقت الذي تكون فيه النفس أحسن تهيؤاً للحب وقلت أنه وقت الفتور الخفيف، لا النشاط ولا التعب الشديد. وقد رأيت أن كثيرين استغربوا هذا؛ فيحسن أن أبين ما أعني وأن أجلوه إذا استطعت. وخير وسيلة لذلك أن نضيق دائرة الاحتمالات وأن نسأل أنفسنا في أية ساعة يا ترى من ساعات الليل أو النهار يكون المرء أقوى استعداد نفس للحب؟. أيكون ذلك في الصباح حين ينهض المرء من النوم مستريحاً مجدد النفس موفور النشاط؟ أي على الريق؟. لا أظن! وأحسب أنه لو خطرت أمام المرء في هذه اللحظة أبرع الفتيات جمالاً، وأرشقهن قداً، وأسحرهن لحظاً، وأحلاهن ابتسامة، لما كان لجمالها من الوقع إلا أيسره. نعم يطرف المرء ويفرك عينيه ليستوثق من أنه ليس في حلم ولا يسعه بعد أن يوقن أن عينيه لم تخدعه إلا أن يعجب بالقد الرشيق والرونق البارع. وقد ينطق فيقول (ما شاء الله، سبحان ربي الخالق) ولكن الأمر يقف عند حد الإعجاب، أو قل إن السهم لا يستطيع أن ينفذ من اللحاف. وليس أحلى من أن يستطيع المرء أن يستأنف النوم بعد أن يستيقظ في البكور، فإن للنوم في هذه اللحظة إغراء لا أعرفه يكون له في ساعة أخرى؛ والرجل الذي يسعه أن يقاوم إغراء النوم في البكرة المطلولة لا أظن شيئاً آخر يعجزه. والجسم في هذه الساعة يكون مستريحاً إلى تفتير الراحة فيكون المرء مستيقظاً ولكن ينقصه النشاط الكافي والتنبه التام ومن هنا لا يحدث الحسن أثره لأنه لا يلاقي وعياً كاملاً.
أم ترى يكون الحب أسرع إلى النفس وأنفذ إلى القلب حين يخرج المرء في الصباح؟ لا أظن أيضاً! فإن القوى تكون مجددة والنفس منتعشة. ومعنى هذا أن نشاط الإنسان جم وأن قدرته على المقاومة تامة؛ ففي وسع الإنسان أن يعجب في هذه الساعة ما شاء من غير أن يقع في الشرك أو يصاب في مقتل. والحب مرض.
ومن الحقائق التي لا مكابرة فيها أنه كلما كان الجسم أصح كانت مقاومته للمرض أوفى وأكبر؛ وما من ساعة يكون فيها الجسم أوفر نشاطاً، وأعظم استجماماً، كساعة الصباح، بعد راحة النوم العميق الكافي، ومن كان يعرف أن أحداً أصيب بالحب في الفجر أو الصبح
فليتفضل عليَّ بنبأ ذلك فأن العلم به ينقصني؛ وقد قرأت كل ما وسعني أن أقرأ من شعراء العرب والإنجليز وغيرهم واطلعت على ما وقع لي من التراجم والأخبار ومن قصص العشاق الصحيحة والكاذبة المختلفة فلم أر أن أحداً أحب على الريق، فإذا كان هناك من اهتدى إلى غير ذلك فإنه يكون أحسن توفيقاً وأنا مستعد لتصديقه وتصحيح رأيي.
ولا أكاد أتصور أن يحب المرء وهو جائع ولا بعد أن تكتظ معدته بالطعام؛ فأما قبل أن يأكل فلأن إلحاح المعدة يشغله ويستغرق عنايته ولا يترك له بالاً إلى أمر آخر. وأما بعد الأكل فإن الامتلاء يصرف جهد الجسم إلى المعدة؛ أو إذا شئت فقل إنه يعدل المزاج فيشعر المرء أن كل شيء في الدنيا على ما يرام. وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فلا تكون له رغبة ولا فيه استعداد لتغيير هذه الحالة وإبدالها بغيرها مما لعله مزعج أو ناف لهذا الشعور السار الذي تسكن إليه النفس. وقد جربت - وأظن أن غيري جرب أيضاً - أن أسباب الخلاف والنزاع وخصوصاً بين الرجل وزوجته تفتر جداً، وكثيراً ما تزول جملة، بعد الأكل لسببين: الأول أن الجسم يشغل بما حشي به وصار أولى بجهده؛ والثاني أن الشعور بلذة الامتلاء - وهو شعور راجع إلى الحرص على الحياة - وما يفيده ذلك من الرضى والاغتباط لا يدعان محلاً للعودة إلى خلاف سخيف خليق أن يفسد هذا الشعور الجميل.
وأنا لا عالم ولا فيلسوف ولا شيء على الإطلاق مما يجري هذا المجرى، وإنما أتكلم بما أعرف وأتحدث عما جربت؛ والذي عرفته وجربته هو أن المرء في الصباح يحس حصانة ومناعة - من الأمراض ومن الجمال - وقلما يعني بأن يتبع النظرة في هذا الوقت؛ ولو أن اليوم كله صباح لكان على الحب السلام، ولكن اليوم ليس كله صباحاً مع الأسف. والمثل يقول إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع. وما من أحد يستطيع أن يكون في الظهر كما يكون في الصباح، ولا في التاسعة صباحاً كما يكون في التاسعة مساء. في الصبح يكون قوياً قادراً على العمل كفئاً لمقاومة المغريات لأنه مستجم مستريح، فإذا جاء الظهر يكون قد تعب وشعر بالفتور وبالحاجة إلى الراحة والطعام - أو الطعام والراحة - ويكون العمل قد هد منه وسرق من قوته وسلبه بعض ما ادخره للكفاح والنضال. ولكن الحاجة إلى الطعام تكون أقوى ما يحس وألح ما يدرك، فيصرفه ذلك عن كل ما عداه ولا يبقى له هم إلا أن
يجلس إلى مائدة حافلة بما يسكت هذه العصافير المزقزقة ويعفيه من ثقل الشعور بما يتلوى في جوفه. فإذا رأى جمالاً فبعيد جداً أن يحبه مهما بلغ من ظمأ النفس إلى الحب؛ وقد يشعر بالسرور وينشرح صدره ولكنه لا يتمهل في عدوه إلى البيت أو إلى حيث يكون الطعام الذي يطلبه ما لا سلطان له عليه، وأحسب أن كل ما يؤدي إليه رؤية الجمال في هذه الساعة هو أن السرور يزيد القدرة على التهام الطعام.
ويأكل المرء وينام ويستيقظ ويقوم متثاقلاً، وقد أصاب حظاً من الراحة - لا كل ما يحتاج إليه - ويستحم أو يكتفي بغسل رأسه ووجهه ولكن الثقلة لا تزايله، لأنه لم يستوف نصيبه العادل من الراحة، ولم يعوض كل ما أنفقه في يومه، فهو لا يزال متعباً ولكنه تعب خفيف لا يشق على النفس ولا يبهظ الجسم احتماله. وهذا هو الوقت الخطر على ذي القلب الحساس. ويستوي أن يكون الوقت العصر أو نصف الليل فإن المهم أن يكون الجسم متعباً بعض التعب وأن يكون تعبه بحيث لا يثقل عليه ولا يمنعه أن يخرج ويجالس الناس ويشهد السينما ويسهر مع الساهرين ويلتمس المتع التي يلتمسها الناس في العادة بعد أن يفرغوا من أعمالهم ويتخلوا لأنفسهم. والتعب الخفيف هو الخطر. وهذا لا وقت له على وجه التعيين فقد يكون العصر وقته عندي في يوم والصباح وقته في يوم آخر. والتعب الخفيف هو فرصة الأمراض والحب لأن المرء لا يفطن إليه ولا يباليه ولا يتحرز من عواقبه ولا يحاول أن يقاوم ما يهجم عليه في فترته، فكأن المرء يؤخذ على غرة، وأهبته للكفاح والمقاومة غير تامة.
ولو عنى الإنسان بأن يدرس نفسه ويتدبر حالاتها لوجد أنه لا يمكن مثلاً أن يفضي بسر له يحرص عليه وهو مستجم مستريح الجسم، وإنما يبث نجواه ويقول بسره وشجوه حين يكون متعباً قليلاً - كائناً ما كان سبب التعب، فقد يكون ذلك من جراء العمل أو يكون بفعل الخمر أو يكون بعد المشي مسافة طويلة أو بعد جلسة يمتد زمنها، أو على أثر برد خفيف إلى آخر ذلك - وصاحب الجسم المستوفي نصيبه من الراحة لا يخطر له مثلاً أن يخوض بحثاً في نظام الكون، ويروح يجزم بما يدور في نفسه من الأوهام التي يحسبها حقائق لا تدفع، لأن صحة الجسم تساعد على إدراك القصور الإنساني. وإنما يفعل ذلك الذي به تعب خفيف لا يحسه، ولا يعرف له وطأة. والتعب الخفيف يهيج شهوات الجسم كما يتيح
لجراثيم الأمراض فرصة العيث، فيلقى المرء نفسه غير قادر كما ينبغي على المقاومة، ويحس أنه أصبح طوع الجواذب؛ فإذا عرضت عليه كأساً لم يطل تمنعه، وقد تحدثه نفسه بأن ذلك ربما كان أجلب للنشاط وينسى رد الفعل الذي يعقب هذا النشاط المجلوب. وإذا خايله الجمال تحركت نفسه كما لا يمكن أن تتحرك وهو موفور القوة أو شديد التعب. وإذا استطرد الحديث إلى ما وراء الطبيعة جازف بالآراء وقطع وجزم بلا تردد أو تلعثم. وليس ذلك من الثقة بالنفس ولا من طول التدبر والنظر وإنما هو من الفتور الحاصل الذي يغري بالكسل واتقاء عناء البحث الذي يزيد به التعب. والمرء في هذه الحالة لا يكسل وهو شاعر بكسله ولا يتقي العناء وهو عارف بأنه يتقيه، وإنما يفعل ذلك بغريزته التي تدفعه من حيث يشعر ولا يشعر إلى وقاية نفسه والمحافظة عليها.
ومتى جاوز التعب - أعني الشعور به - الحد الذي يسهل احتماله ويهون الصبر عليه فقد استحال الحب. فالمتضور جوعاً، والذي يرعد من البرد، والذي به مغص أو غيره من المزعجات والمنغصات، والذي يكاد يسقط من فرط الإعياء، والذي يغالبه النوم ويثني رأسه النعاس الخ الخ لا يمكن أن يجد الحب سبيلاً إلى قلبه قبل أن يزول ذلك عنه، وإذا اتفق أنه كان عاشقاً فأنه لا شك ينسى حبه وعشقه حتى يشفى أو يستريح أو يشبع، ومن كان لا يصدق فليجرب وليختبر نفسه. وفي وسع كل إنسان أن يجعل باله إلى حالات نفسه في الصحة والمرض وفي الجوع والشبع وأن ينظر هل يكون له عقل يفكر في حبيب وهو جائع أو بردان أو متألم أو متهافت من النصب.
والمرأة تدرك هذه الحقائق بغريزتها الذكية، فهي دليلي على صحة ما أقول. واسألوا أنفسكم متى ترون المرأة تعنى بزينتها وعرض محاسنها على الرجل فلن تجدوها تفعل ذلك في الوقت الذي تحس فيه أن الرجل مستجم مستريح أي قادر على مقاومة مفاتنها، وإنما نراها تفعل ذلك وتلجأ إلى معونة الثياب المنسجمة على الجسم المبرزة للمفاتن، وإلى المساحيق التي تؤكد الإشراق والنضرة في وقت التعب الخفيف لا في وقت النشاط التام ولا وقت التقوض والانهداد. وأحسب أن من المفهوم أن كلامي هو على المرأة حين تتصدى للرجل بحكم طبيعتها لا عامدة ولا حين تخرج لعملها إذا كانت تعمل أو لقضاء حاجة لها فما تستطيع إلا أن تتزين إلى حد ما تبرز للناس لأن طبيعتها وتغريها بأن تحشد قوتها كلها
وسلاحها أجمعه على سبيل الاستعداد للمنازلة، ولو كانت فرصتها بعيدة فأن الأمر بين الرجل والمرأة أمر حرب - هي تقاتله وتحاول أن تغلبه بالجمال وهو سلاحها وهو يقاومها ويحاول أن يغلبها بقوته وجلده الخ، وقد يكون من غريب أمر هذه الحرب أن النصر فيها موزع وأن الذي يبدو فيها ظافراً كثيراً ما يكون هو المهزوم، وأن الذي يتظاهر بالتسليم وإلقاء السلاح عسى أن يكون هو الغالب المنصور بل الفريقان المقتتلان لا نصر لهما ولا هزيمة، وإنما النصر للحياة التي تسخرهما لغاياتها وتتخذ منهما أداة. ولكن هذا استطراد فلنعد إلى سؤالنا، ولنتوسع فيه قليلاً. فهل يظن أحد أن من المصادفات البحتة أن المرأة لا تتزين في الأغلب إلا في العصر أو المساء أو الليل؟. إن ثياب المرأة للزينة، قبل أن تكون للمنفعة - وكذلك ثياب الرجل إلى حد كبير - ولكن الزينة مقدمة على المنفعة عند المرأة، لأن المرأة هي الشرك الذي تنصبه الحياة للرجل، والزينة تؤكد الجمال وتبرزه. وهل يستطيع أحد أن يزعم أن هذه الثياب التي تلبسها المرأة لها أدنى نفع في وقاية أو ستر؟ ولكنها لا تعني بالزينة في الأوقات التي تقول لها غريزتها إنها تكون زيادة لا داعي لها ولا تأثير، مثل الصباح الباكر أو قبل الظهر حين يكون الناس جياعاً، فإذا مال ميزان النهار الذي هو وقت العمل الطبيعي وأحدث العمل اليومي أثره الذي لابد منه وأنتج السعي للرزق أو غيره ذلك الفتور الخفيف وأنشأ الرغبة في اللهو والتسرية عن النفس والتماس ما ينسي الإنسان تعب النهار ومشقات العمل ومتاعب الحياة - إذا جاء هذا الوقت رأيت المرأة معنية بزينتها وثيابها، ومن هنا كانت ثياب السهرة وتوخي المرأة فيها أن تجعلها ثياب جلوة، تجلو محاسنها كلها وتعرض مفاتنها وتحيلها أوقع في النفس، ولو كان الأمر إلى العقل وحده وإلى الفائدة المطلوبة من الثياب لما كان الليل أحق بهذه الثياب من النهار، ولكن الغرض ليس الفائدة بل الفتنة، والفتنة تكون أسهل ومطلبها أيسر بعد تعب النهار وبعد حلول الفتور الخفيف الخفي الذي يساعد على التغلب على الفريسة.
ولنسأل سؤالاً آخر: لماذا يحلو الغزل والمناجاة في الليل الساجي وفي ضوء القمر اللين ولا يحلوان تحت الشمس المحرقة وفي الظهر الأحمر؟. وأجمل الجواب اتقاء للإطالة فأقول: إن الليل هو وقت الفتور، وإن سهوم القمر وسكونه يزيدان هذا الفتور، وإن اجتماع الفتور الطبيعي بالليل بعد الكدح بالنهار واللين المفتر الذي يحسه الإنسان من ضوء القمر يجعل
مقاومة الإغراء أضعف، لما يحدثه ذلك من استرخاء الأعصاب وكسلها؛ وشيء آخر أحسبه حقيقة وإن كنت لا أعرف له علة وذلك أن للقمر أثراً محسوساً في حالة الأعصاب. ومن هنا يعتقد العامة أن طول النظر إلى وجه القمر يحدث الخبل ويورث الجنون؛ ولا أعرف علة لذلك ولست أدري أن العلم اهتدى إلى تعليل له، ولكن الذي أعرفه أن للقمر أثراً معترفاً به في المد والجزر، فما دام أن له هذا الأثر فماذا يمنع أن يكون أثره أبلغ وأوسع نطاقاً وأمس بحياة الجسم الإنساني وحالاته؟ إن الماء الذي يؤثر فيه القمر ليس شيئاً أجنبياً منا وإنما هو بعض ما نحيا به، بل هو أصل لا مكابرة فيه. ثم أن أثره في المرأة معروف، حتى أن الدورة عندها تحسب بالشهر القمري. والذي أعرفه أيضاً أن الناس من اقدم العصور قرنوا ضوء القمر بالجنون ولا تزال في اللغات المختلفة ألفاظ يفهم منها اقتران معنى الجنون بضوء القمر. بل إن اللفظ الدال على الجنون في لغات كثيرة مشتق من أسم القمر. وعسى من يسأل (ولكن ما علاقة هذا بالحب؟) والجواب أني لفت النظر إلى أن الغزل والمناجاة يكونان في الأغلب والأعم في الليل ويطيبان في ضوء القمر. وقد قلت إن تجربة الناس من أقدم العصور هدتهم إلى أن للقمر أثراً سيئاً في عقل الإنسان واتزانه؛ وقد بقي في لغاتهم أثر هذا الاعتقاد. وقد يكون أو لا يكون هذا صحيحاً ولكنه خلاصة تجارب الخلق ومشاهداتهم في عصور طويلة لا يعرف لها أول، وبعيد جداً أن يكون كله وهماً. ومهما يكن من ذلك فالمحقق أن ساعات الليل ساعات ضعف بالقياس إلى نشاط النهار بعد راحة النوم الكافي. فالتأثر بالجمال يكون فيها أقوى والمقاومة تكون أضعف.
وقد قلت أن الحب شرك تنصبه الطبيعة للإنسان لإبقاء الدنيا عامرة بنسله - لا أدري لماذا - ولكن هذا هو المشاهد على كل حال. ففي هذا يحسن أن أقول كلمة وجيزة: سئلت امرأة عجوز عن آرائها في بعض وجوه الحياة فقالت: إن سخافة الرجال تظهر في ثلاثة أمور: الأول أنهم يتكلفون عناءً شديداً ليتسلقوا الشجر ويقطفوا الثمر؛ ولو أراحوا أنفسهم وجلسوا ينعمون بالظل تحت أفنان الشجرة لألقت إليهم بثمرها في أوانه. والثاني أنهم يذهبون إلى الحرب ليقتل بعضهم بعضاً؛ ولو انتظروا لجاءهم الموت جميعاً. والثالث أنهم يجرون وراء المرأة؛ ولو كفوا عن ذلك لجرت وراءهم المرأة. فهذه عجوز حكيمة. وأحسب أن حكمة الصبر هذه يرجع الفضل فيها إلى السن العالية وما تجره من العجز. ولكن الواقع على كل
حال أن المرأة هي التي تطارد الرجل وليس الرجل هو الذي يطارد المرأة. وقد كنت في أول عهدي بالأدب أستنكر قول ابن الرومي:
أصبحت الدنيا تروق من نظر
بمنظر فيه جلاء للبصر
أثنت على الله بآلاء المطر
فالأرض في روض كأفواف الحبر
نيرة النوار زهراء الزهر
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدح للذكر
والشطر الأخير هو المقصود. وكنت أستثقل قوله إن المرأة تتبرج لتتصدى للرجل ولكن المرء يزداد فهمه للحياة على الأيام. وإنه ليضحكني الآن أن الرجل يتوهم أنه هو الصائد الجريء المقدام الذي يوقع منظره الخشن الرعب في قلب المرأة المسكينة الضعيفة! وإنما يضحكني أن هذا الوهم وما يفضي إليه من الغرور هما اللذان يوقعانه في شرك المرأة. فهو ينسى لغروره أنه لا يفكر في الحب إلا بعد أن تلقحه المرأة بجرثومته، أي بعد أن يصاب به. على حين كانت المرأة تعد عدتها لهذا اليوم وتتدرب على إجادة هذا الفن وتدرس كل أساليب الإغراء مذ كانت طفلة في المهد. وهذه مبالغة ولكني أريد أن أقول إن الطبيعة جعلتها أداة لإغراء الرجل وأعدتها بفطرتها لاجتذابه واستدراجه وإيقاعه في الفخ. وهي في هذا لا تحتاج إلى معلم، وحسبها غريزتها هادياً ومرشداً. وهي تتقن فن الاستدراج إتقاناً عظيماً وتعرف في أية لحظة ينبغي أن تزيد المسافة بينها وبين الرجل الذي تدعه يتوهم أنه هو الذي يبدأ بمطاردتها، وتعرف متى تتباطأ وتقصر الخطو، لتزيد أمله في إدراكها، فيقوى عزمه ويشتد عدوه وراءها والمرأة أعرف بالمرأة، أو هي أولى بذلك من الرجل وأخلق بأن تكون أقدر عليه، وقد وجدت في كتاب لكاتبة اسمها (الينورجلين) - واسم الكتاب (العاطفة التي تدعى الحب) هذه النصيحة التي يجدر بكل رجل أن يتدبرها قالت:
(قاعدة عامة - أول ما ينبغي أن تتذكريه هو ألا تظهري رغبة شديدة أو إقبالاً عظيماً أو لهفة، فأن الغرض هو الاستيلاء على الرجل. والرجل مهما بلغ من وداعته وضعفه يحب
أن يتوهم أنه هو الذي يقوم بالمطاردة. ولا بد للفتاة التي تخرج للقنص والصيد من أن تدرس أساليب الصيد ووسائله وأن تستعين على التوفيق بمعرفة طباع القنيصة. وما من رجل يعتقد أن في وسعه أن يصيد غزالاً بأن يجري وراءه ويصيح به. والأساليب التي يستخدمها لصيد الفهود والنمور غير التي يلجأ إليها حين تكون غايته الأرانب، ومتى استطعت أن تثيري اهتمامه بك فليس عليك بعد ذلك إلا أن تغذي نفسه ببواعث الرغبة فإذا هو بين يديك، واعلمي أن الرجل يجد لذة في المطاردة، ولكن حماسته تفتر متى ألفى الطريدة في حقيبته. وإذا وجد أن الصيد سهل جداً فقلما يعنى بأن يمد يده ليتناوله وقد يدعه على الأرض حيث وقع. أما إذا كان الطراد شاقاً عنيفاً مثيراً وكانت الطريدة شديدة الحذر طويلة الصبر على جهد الطراد فإن الرجل خليق بأن يزهى بالفوز بها وأن يروح يعرض الصيد على العيون مفاخراً مباهياً) أهـ.
ولا شك أن الواجب الذي أوكلته الطبيعة إلى المرأة شاق، فليس من السهل أن تلعب دور الهارب وهي في الوقت نفسه مصممة على الوقوع في يد المطارد. فقد تطول المسافة بينها وبينه جداً فييأس وينكفئ راجعاً ويعدل عن المطاردة. فإذا تركته يدنو منها جداً ويدركها بسرعة وسهولة وبلا جهد يستحق الذكر فقد ينفض يده من الأمر لأنه يراه أسهل عليه من أن يحس أنه يفيد منه متعة ويروح يلتمس صيداً غيره يستحق العناء. فالأمر يتطلب حذقاً في التقدير وبراعة وسرعة في التقرير من جانب المرأة. ومن هنا يحدث كثير من المضحكات التي يعجب لها الرجل ولا يرى له قدرة على فهمها. وكثيراً ما يفوته الجانب المضحك لأنه يشغل بالفهم على طريقه هو، فيصرفه ذلك عن الفكاهة. من ذلك مثلاً أن واحدة اشترطت لقبول الزواج أن يكون للرجل ألف جنيه مدخرة لأن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، فراح المسكين يقتصد ويدخر - أو يحاول ذلك على الأصح - وطال الأمر وتعاقبت الشهور وهو يجد ولا يتكلم ولا يظهر أيضاً وكيف يظهر لها قبل أن يجمع المبلغ المطلوب. فلقيته اتفاقاً وسألته عما صنع، فقال:(لم استطع أن اقتصد إلى اليوم أكثر من جنيهين) فابتسمت له بعد أن أطالت النظر إليه وقالت (أظن أن هذا قريب جداً من الغاية)
وكما أن الرجل يجد لذة في المطاردة، كذلك المرأة تجد لذة في أن تُطارَد حتى ولو كانت
نيتها معقودة على النجاة لا على الوقوع؛ وهذا معقول، لأنه يسر المرأة أن تعرف أنها جميلة وأن الرجل يريدها وإن كانت هي لا تريده. وأحسب أن المتعة المستفادة من الطراد هي كل ما في الحب من لذاذة؛ ومتى انتهى الأمر ووقعت الفريسة، فتر النشاط والحماسة، وسكنت النفس وهدأت الأعصاب. ومن هنا يخطئ الذين يتوهمون أن للحب عمراً أكثر من عمر المطاردة، ومن هنا أيضاً يخيب أمل الذين يتزوجون وهم يحسبون أن الحب يدوم. وما أكثر من يسألون عن الوفاء والحفاظ ما فعل الله بهما. ولو فكروا لما انتظروا وفاءً ولا حفاظاً ولا خاب لهم أمل ولا ندبوا حظوظهم في الدنيا، فإن الحب - ككل شيء في هذه الحياة - لا عمر له ولا بقاء؛ وهو يبقى ما بقيت لذته؛ ولذته تنتهي بانتهاء المطاردة. كل شيء في هذه الدنيا إلى حين، فلماذا يكون الحب وحده هو الباقي الدائم؟
والمرأة تدرك هذه الحقيقة بغريزتها أيضاً؛ ولذلك نراها تحاول أن تستبقي روح المطاردة بعد انتهائها بما نسميه الدلال وهو فن يراد به أن يشعر الرجل أن به حاجة إلى السعي والجهد فيؤدي ذلك إلى شحذ الرغبة ونفي الفتور وتجدد الطلب. فالحق أن الطبيعة حكيمة وإن كانت حكمتها لا تبدو لنا في أكثر الأحيان.
إبراهيم عبد القادر المازني
لمناسبة تتويج جلالة الفاروق
رسوم البيعة والتتويج في عهد الدولة الفاطمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يبلغ صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر رشده الدستوري في الثامن والعشرين من شهر يولية القادم. وقد أثيرت بهذه المناسبة مسألة الرسوم والإجراءات التي يحسن اتباعها لإعلان هذا الحادث السعيد، وافتتاح العهد الجديد بما يليق به من الروعة الملوكية والدستورية.
ومن المقرر أن الدول الملوكية العريقة تتبع في مثل هذه المناسبات رسومها وتقاليدها الملوكية الخاصة؛ وقد رأينا كيف أحيطت حفلات التتويج البريطاني بكثير من الرسوم الملوكية القديمة التي يرجع بعضها إلى عدة قرون؛ ولكن يلاحظ هنا أن الملوكية الإنكليزية لبثت منذ قيامها حتى يومنا متصلة الحلقات، يحتفظ العرش بمعظم رسومها وتقاليدها عصراً بعد عصر. أما الملوكية المصرية فقد انقطع سيرها وعفت رسومها منذ الفتح العثماني زهاء أربعة قرون حتى أعلن المغفور له الملك فؤاد الأول ملكاً على مصر في سنة 1922.
ومع ذلك فأن للملوكية المصرية الإسلامية رسوماً وتقاليد عريقة انتهت إلينا منها صور وذكريات باهرة. وقد عرفت مصر الإسلامية هذه الرسوم الملوكية الخاصة منذ استحالت من ولاية خلافية إلى وحدة سياسية مستقلة في ظل الدولتين الطولونية والأخشيدية اللتين كانتا بالرغم من ولائهما الاسمي للخلافة العباسية تتمتعان ببعض الرسوم والتقاليد الملوكية الخاصة، مثل صدور البيعة للأمير، وتحليه بألقاب الإمارة وأحياناً بالألقاب الملوكية مثل اتخاذ محمد بن طغج لقب الأخشيد (أي أمير الأمراء)، أو تمتعه ببعض الامتيازات الملوكية السياسية، كما فعل الأخشيد حينما اتصل بقيصر قسطنطينية مباشرة في المكاتبات الدبلوماسية المتعلقة بمصر وغير ذلك؛ وثانياً حينما غدت مصر خلافة أو دولة مستقلة كاملة السيادة في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة.
وقد عرفت الملوكية المصرية رسومها وتقاليدها الراسخة في ظل الدولة الفاطمية: وكانت هذه الدولة القوية تجنح إلى البهاء والفخامة في جميع رسومها وتقاليدها. وكانت تولية
الخليفة الفاطمي تحاط بطائفة من الرسوم والمواكب الباذخة؛ ولما قدم المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين إلى مصر سنة 362هـ، بعد أن افتتحها قائده جوهر الصقلي قبل ذلك بأربعة أعوام (سنة 358هـ) لم ترتب إجراءات خاصة لإعلانه خليفة أو ملكاً على مصر، لأن المصريين ارتضوه على يد زعمائهم وأعيانهم خليفة وملكاً عليهم عند الفتح حينما قدموا خضوعهم لنائبه وممثله جوهر، وقطع جوهر الدعوة العباسية، وبدأت الدعوة للخليفة الفاطمي؛ بيد أنه حينما وصل المعز إلى الإسكندرية في شعبان سنة 362هـ، استقبله أعيان مصر وعلى رأسهم قاضيها الأكبر وجددوا له مراسيم الخضوع والبيعة، وقصد المعز بعد ذلك إلى القاهرة ونزل بالقصر، وبدأ عهده في الحكم والولاية في اليوم الخامس عشر من رمضان، إذ جلس بالقصر على عرشه الذهبي الذي أعده له جوهر في الإيوان الجديد، وأذن بدخول الأشراف ثم الأولياء وسائر وجوه الناس، وكان القائد جوهر قائماً بين يديه يقدمهم إليه فوجاً بعد فوج فيأخذون له البيعة والعهد، وعلى هذا النحو نظمت مراسيم التتويج لأول خليفة فاطمي بمصر.
ومنذ عهد العزيز بالله ولد المعز لدين الله تتخذ رسوم التتويج الفاطمية صورها الباذخة، وكانت هذه الرسوم تجري أولاً في القصر الفاطمي في الإيوان الكبير ثم بعد ذلك في قاعة الذهب التي أنشأها العزيز بالله، وجددها المستنصر بالله فيما بعد، وكان بها عرش الخلافة، وبها يجلس الخليفة أيام المواسم العامة، ويجلس للركوب يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وبها كان يقام سماط العيدين، وسماط رمضان للأمراء، وكانت تعرف بقصر الذهب. وكانت مبايعة الخليفة الجديد تجري في حفل عام يرتبه مدبر الدولة أو كبير الوزراء أياً كان لقبه، وصاحب الباب أو حاجب الحجاب وهو اكبر رجال القصر، والسفهسلار أو القائد العام للجيش، وذلك بالاتفاق مع قاضي القضاة، وهو في العرف السياسي أعظم رجال الدولة مقاماً ونفوذاً
وكان ينادي بالخليفة الجديد عقب وفاة سلفه مباشرةً؛ ولا فرق في ذلك أن يكون الخليفة الجديد صبياً أو بالغ الرشد؛ ويقع هذا الإجراء الأول بالقصر أو حيث كانت وفاة الخليفة الذاهب، ويتولاه أعظم رجال القصر نفوذاً أو قاضي القضاة ثم يعقبه إجراء البيعة العامة بالإيوان الكبير وهو أيضاً من منشآت العزيز بالله، وجرت فيه بيعة الحاكم بأمر الله فابنه
الظاهر لإعزاز دين الله، فابنه المستنصر بالله، فابنه المستعلي بالله، فابنه الآمر بأحكام الله. ثم نقل الخليفة الآمر بأحكام الله سرير الملك (العرش الخلافي) من الإيوان الكبير إلى قاعة الذهب، فحلت مكان الإيوان من ذلك الحين في إجراء الرسوم الخلافية العظيمة؛ وكان الاحتفال بالبيعة عامّاً يشهده رجال الدولة وأكابر الجند والأعيان وأفراد الشعب، ويبدأ بأخذ البيعة للخليفة الجديد قاضي القضاة وأعضاء الأسرة الفاطمية وأكابر رجال الدولة والقصر، ويسلمون عليه بسلام الخلافة وصيغته (السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته) ثم يقبلون له الأرض؛ وإذا وافق جلوسه يوم عيد، خرج الخليفة في موكبه إلى الصلاة، كما حدث عند تولية الظاهر لإعزاز دين الله حيث وافق جلوسه يوم النحر (عيد الأضحى) فأخذت له البيعة، ثم خرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة وحوله العساكر، وصلى بالناس، ثم عاد إلى القصر، فكتب بخلافته إلى سائر الأنحاء.
وكان للعرش الفاطمي عدة من الذخائر والآلات الملوكية كانت آية في الفخامة
والبهاء والبذخ، من ذلك سرير الملك، أو العرش الذي يجلس عليه الخليفة يوم توليه الملك، ثم بعد ذلك أيام المواكب والاستقبالات الرسمية. ويقول مؤرخ معاصر في وصفه:(إن وزن ما استعمل من الذهب الابريز الخالص في سرير الملك الكبير مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال، ووزن ما حلي به الستر الذي أنشأه سيد الوزراء أبو محمد اليازوري من الذهب أيضاً ثلاثون ألف مثقال، وأنه رصع بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر ألوانه. وذكر أن في الشمسية الكبيرة ثلاثين ألف مثقال ذهباً، وعشرين ألف درهم مخرقة، وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر من سائر ألوانه وأنواعه، وأن في الشمسية التي لم تتم من الذهب سبعة عشر ألف مثقال) والى جانب العرش يوجد تاج الخليفة أو التاج الشريف، وهو تاج يضعه الخليفة على رأسه في الموكب والأيام العظام، وبه جوهرة عظيمة تعرف باليتيمة زنتها سبعة دراهم، وحولها جواهر أخرى دونها؛ وقضيب الملك، وهو عود طوله شبر ونصف ملبس بالذهب مرصع بالدر والجواهر يحمله الخليفة بيده في المواكب العظام؛ والسيف الخاص، يحمل مع الخليفة في المواكب العظام أيضاً؛ وله أمير من أعظم الأمراء يحمله عند ركوب الخليفة؛ ومنها المظلة التي تحمل على رأس الخليفة عند ركوبه، وهي قبة فاخرة ملبسة في أنابيب الذهب، وحاملها من أعظم الأمراء؛ والرمح والدواة، والدرقة،
والحافر، وهي قطعة من ياقوت أحمر في شكل الهلال تحمل في وجه فرس الخليفة عند ركوبه في المواكب العظيمة؛ ومنها الأعلام والبنود والسلاح الخاص الذي يحمله الركابية أو الحرس الملكي.
وقد انتهى إلينا وصف بعض المناظر الواقعية التي أحاطت بتولية أحد الخلفاء الفاطميين، وهو الحاكم بأمر الله ولد العزيز بالله، نقلها إلينا مؤرخ معاصر هو عز الملك المسبحي وزير الحاكم وصديقه ونحن نعرف أن الحاكم بأمر الله تولى الحكم حدثاً عقب وفاة والد العزيز في مدينة بلبيس في 28 رمضان سنة 386هـ. يقول المسبحي: (قال لي الحاكم، وقد جرى ذكر والده العزيز يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني إليه وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمي عليك يا حبيب قلبي ودمعت عيناه. ثم قال امض يا سيدي والعب، فأنا في عافية قال، فمضيت، والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه، قال فبادر إلى برجوان، وأنا في أعلى جميزة كانت في الدار، فقال: انزل، ويحكم الله فينا وفيك، قال فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي وقبل لي الأرض، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال، وأخرجني حينئذٍ إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض وسلموا علي بالخلافة، وقع هذا المنظر بمدينة بلبيس في 28 رمضان. وفي اليوم التالي سار الحاكم إلى عاصمة ملكه في موكب رهيب فخم وأمامه جثة أبيه، وبين يديه البنود والرايات؛ وقد ارتدى دراعة مصمت، وعمامة يكللها الجوهر، وتقلد السيف وبيده رمح فدخل القاهرة عند مغيب الشمس؛ وفي الحال أخذ في تجهيز أبيه، ودفن عشاء بالقصر. وفي صباح اليوم التالي، بكر سائر رجال الدولة إلى القصر، وقد نصب للخليفة الصبي في الإيوان الكبير، سرير من الذهب عليه مرتبة مذهبة، وخرج من القصر إلى الإيوان راكباً وعلى رأسه معممة الجوهر والناس وقوف في صحن الإيوان، فقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على عرشه، وسلم عليه الجميع بالإمامة ونودي في القاهرة والبلدان أن الأمن وطد والنظام مستتب فلا مؤنة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال.
هذه لمحة من الرسوم والتقاليد التي كانت تجري عليها الدولة الفاطمية في تولية خلفائها، وهي رسوم ملوكية عريقة يطبعها لون من البذخ الساحر، وقد كانت الدولة الفاطمية، وهي
أولى الدول الإسلامية المستقلة بمصر، دولة البذخ والبهاء. وكانت رسومها وتقاليدها فيما بعد مستقى خصباً للدولة الإسلامية التي تعاقبت من بعدها في عرش مصر.
محمد عبد الله عنان
دموع الحب
للأستاذ يوسف البعيني
لتَتَذوق رحيق الفن، وتتسلل إلى سراديبه الرهيبة وتعانق غوانيه المعطرة. . يجب أن تقرأ - بول فاليري - فقصيدة واحدة من هذا الشاعر العبقري المجدد حياة فنية منفردة لها ألوانها وخطوطها وأصباغها. جملة صغيرة من ريشة بول فاليري تعطيك معنى ألذ من تغريد البلبل، وأطرب من أنغام الرباب. وأعذب من الأحلام. . أما الحياة التي تلمسها في سطوره وصوره فتبكي وتفرح، تشكو وتبتسم. تغرد للصباح الضاحك، وتكتئب للمساء الحزين؛ حياة ككل حياة، لكنها تختلف برموزها وأسرارها. وهذه الرموز والأسرار هي عبقرية الشاعر العظيم والفنان الملهم؛ وهي كائنه الحي الأعلى؛ هي روحه التي غاصت في البحر فالتقطت درره، وتغلغلت في الليل فاتشحت بإزاره. وفي القلوب فاجتنت ميولها وعواطفها وشهواتها.
لقد قرأت أكثر مؤلفاته فتبينت فيها الفن المجنح الذي يفتح عينيك على صور موشاة بجميع ألوان الحياة وأدهنتها الرائعة. وما إن تحدق قليلاً بسطر من سطوره حتى تتولاك رحاب الشاعرية؛ هي غيبوبة بعيدة القرار يشملك بها الشاعر الفنان فيريك بهجة الربيع واخضراره، ويسمعك عويل الخريف وشكواه. وإن شاعراً يغمرك بكل ما تشتاقه الروح ويحلم به القلب ليعرف من الحياة غير أسمائها. ويقرأ من الكلمات أكثر من حروفها، ويبصر في مشاهد الأعراس والمآتم غير ما يبصره الناس!
ومن أروع ما طالعته أخيراً لهذا الشاعر الساحر رسالة دعاها - دموع الحب - قرأتها بروح نَهِمة تريد أن تتفهم معاني الحياة وتتكشف أسرار الجمال فإذا هي قطعة فنية خالبة يشوقك ما فيها من تقديس لدموع الحب، الحب الذي يتفجر من صدر المرأة فيبقى خافقاً في روع الماضي والحاضر والمستقبل. وليت شعري هل في العالم حديث أعذب من حديث رقيق تدبجه ريشة الفنان المتعبد للمثل الأعلى في ساعات وحيه وإلهامه؟ إن الكلمة التي تتحدر في قلبك وقد تشربت بدموع الحب وتسربلت بضبابه لهي الكلمة الحية، بل هي الكلمة الخالدة التي تتباغم بها أشباح الأيام والليالي.
ولكنني وقفت مبهوتاً أمام مقطع صغير عنوانه - انتحار ودموع - لا لشيء إلا لأنه مقطع
تنبو عنه الحياة، وإن يكن يستظرفه الفن؛ وينبذه الحب الروحاني الملظى بجمر التضحية والمدمَّى بالألم والاستشهاد، وإن تكن ترتضيه الشهوة الوحشية المتنطسة. . وإني لمورد خلاصته فيما يلي لتعلم أن الشاعر مهما مُنح من فن وإبداع. وأوتي من تصور وإدراك، يظل جاهلاً أسرار المرأة، رازحاً من حبها ودموعها على كلال.
أما المرأة التي جاء الشاعر يقدس دموعها في ذلك المقطع الصغير فهي - كليوباطرة - ملكة مصر وربة النيل. ولكن أصادقةٌ تلك الدموع التي ذرفتها المرأة الحسناء على موت حبها؟ هذا ما أريد معرفته. . فلتقرأ الآن خلاصة القصيدة:
قبل أن تودع كليوباطرة حياتها الزاخرة بذكريات الحب أحبت أن تهيئ لعشاق جمالها مأدبة كبرى مثقلة بكرمها الملكي، ففعلت: وبعد انتهاء المأدبة أحضرت لها وصيفتها الأمينة (إيراش) سلة مملوءة بالتين، فكافأتها وشكرتها كثيراً ثم أخرجت من طيات ثوبها الفاخر خطاباً قصيراً لتسلمه الوصيفة إلى (أوكتافيوس) قيصر رومه في ذلك العهد.
وبعد هذا بحين انسحبت كليوباطرة إلى مخدعها الشيق المزين بزهر الجلنار وجلست وحيدة، وفي وحدتها الموحشة شرعت تحلم إلى أن اخضلت أجفانها بالدموع
بكت لأنها تذكرت أيامها الماضية. . . تلك الأيام المخمرة بالحب!
إلا أنها لم تلبث أن مسحت دموعها ونظرت إلى وريقات التين نظرة عميقة مفعمة بالتأمل وطافحة بالحزن والألم. وذلك لأن عيني الحية الماكرتين كانتا تلمعان في وسطها لمعاناً موجساً مخيفاً كنور الحباحب على قبر مهجور.
وفيما هي تتناول الحية السامة بأناملها قالت تباغمها بكلام رقيق كنوم السحر: أيتها المخلوقة الفاتنة، المرذولة من جميع الناس، إني أعبدك. . . ولهذا ترينني لا أخشى لذعتك! نعم لا أخشاها. . . لكونها تريحني من هذا العالم، وتجمعني بمن أحب. . . ثم وخزتها وخزة موجعة فتململت الحية ولسعتها في صدرها!
عند هذا نهضت كليوباطرة وتمددت على سريرها هامسة: هأنذي أوافيك يا أنطونيوس! يا من غذيت أزاهير أحلامي بالحب!
انتحرت - كليوباطرة - فاضطرب النيل وارتعشت أوراق النخيل في مملكة ممفيس. . . لقد ارتجف كل كائن حي خلا قلباً واحداً لم يرتجف، هو قلب - أوكتافيوس - سيد رومة
في ذلك الزمن. لكنه على الرغم من كل ذلك فض الخطاب الصغير وتمتم قائلاً:
إنها تريد أن تدفن مع حبيبها أنطونيوس. نعم، تريد أن تعانقه دائماً بعد الممات. فليكن لها ما تبتغي. . . هو الحب فلتبلل ضريحها دموعه المقدسة.
هذا ملخص القصيدة. ففيه تلمس تخليد الشاعر لحب - كليوباطرة - ذلك الحب الذي شغل فريقاً من العبقريين في التاريخ، ولكن على الرغم من الجمال الشعري والإشراق الفني في القصيدة أود أن أعرف أصادقة تلك الدموع أم كاذبة، أشريفة أم أثيمة؟
لم يبق بين الذين عنوا بتاريخ كليوباطرة من لم يمجد دموعها في حبها، ويطري موقفها المؤثر في ساعات انتحارها. أما أنا فأهزأ بتلك الدموع التي حملتها على الانتحار لأنها دموع لا يقرها الحب الروحي السامي الخاضع للتضحية
لقد بكت كليوباطرة وهي تنتحر، ولكنها لم تبك على حب مقدس، بل على نزوة حمراء تصرمت وتبددت. . . والحب الذي يسوده نزوان اللحم والعظام خادع كالتراب المذهب
إن أشرف أنواع الحب هو ما تندت به العاطفة واختمرت به الروح، فدموعه تبقى منهلة في المحاجر كندى الفجر. أما الحب الذي تولده الأعصاب فدموعه مستقطرة من الوحل لا من أجفان السماء
ولا يعتقد القارئ أن كليوباطرة احتكرت وحدها هذا النوع الفريد من الحب الحيواني الغليظ، فهنالك امرأة تبزها هي (جان ديفال) التي أضرمت بضراوتها المستنكرة عبقرية - بودلير - شاعر فرنسا في الجيل الماضي. فقد كونت فيه عنصرين متناصرين أبداً. . . عنصر يستلينه جسدها الغامر بالشهوة، وعنصر يحترق حنقاً منها فيجوب رحاب الروح شاكياً من تلك النار المشبوبة، الناغلة بأحط أنواع الحب. ومن يراجع كتابه المشهور - أزاهير الشر - وهو من أروع الكتب الشعرية في دولة البيان يقرأ تلك المقاطع التي تصور انتحاره النفسي البطيء، وهي عندي من أبلغ ما أخرجه الشعراء في العالم
فانظر كيف يصفها الشاعر:
(عندما أجلس قربها في ليالي الخريف الدافئة مستنشقاً شذا صدرها الحار. . . تحملني الأحلام إلى بلاد سعيدة رافلة في حلل وضاءة من نور الشمس فأرى فيها نساء تسبيك أجسامهن الفاترة المتكاسلة لما يعذبها من شهوة مخدرة، وبرح أليم!
وعندما تنتقل متمايلة في غلائلها الهفافة، المنبهة للحواس. . . أخالها ترقص كتلك الأفاعي الخبيثة التي يرقصها الحواة في الشرق على أنغام الشبابة الحزينة!
وعندما تتمدد عند أقدامي مستضرعة إليَّ بأرق كلمات الصبابة لكي أطفئ جذوة لحمها المحرقة. . . أحسبني أرى موجة من أمواج البحر العرارة تتراخى واهية على الشاطئ بعد أن أفرغت الزبد من فمها!
- هي بعينيها المتقدتين كأشرار المعادن
- وهي بلحمها الوضاء المغري كجمرة الأتون الحمراء
- إن فيها بريقاً وناراً. . .
- وإن فيها لهيباً وكبريتاً!
- هي امرأة سحرية. . . تمثل لك بجمودها المخزي أبا الهول الصامت، وبشهوتها اللافحة حية هائلة مخيفة!)
ثم انظر كيف يصفها هنا:
(أحبك وأمقتك معاً أيتها الفاجرة الطاعنة قلبي بخنجر سام، الناغلة في جسمي كما تنغل الحشرات في جيفة منتنة!
الماردة في روحي كالشياطين!
أيتها الضارية المتخذة شرفي سريراً لفحشائها، أيتها الساقطة المكبلة إرادتي بالأصفاد، إني أكرهك. . . فلعينة أنت!
لقد استغثتُ بالسماء أن تقبضني إليها. واستنجدت بالموت تخلصاً من موبقاتك. . . فلا السماء سمعت دعائي، ولا الموت استجاب طلبي، وكيف تفعل السماء والموت وأنا أنزف دمي على مضجعك الفاسد، وأنحر جسدي في طريق استهتارك المتقنعة؟)
إن دموعَ الحب رائعة ومؤثرة عندما تجيشها العاطفة المسحوقة، ويحركها الإحساس الذبيح. أما إذا أجراها الغرام العابث فهي أفظع من المقصلة، وأقسى من العبودية
مسكين إذاً - بول فاليري - لقد أخطأ وهو يصور دمعة من دموع الحب. فلو أنه رسم لنا دموع الذين يموتون من اليأس، ويأسهم من خيانة المرأة لكان أبدع وأجاد
إن الحياة، الحياة المتغلغلة في القلوب والأرواح والسابحة على أمواج الماضي والحاضر
والمستقبل، إن هذه الحياة لتهزها نبرة الشاعر العبقري وتفتنها ألوانه وخطوطه وأصباغه التي يطلي بها قصائده. أما الدموع الكاذبة الأثيمة التي يسعى إلى تقديسها بذلك البيان المورق الأنيق لتنفر منها ولا تقرها أبداً!
البرازيل
يوسف البعيني
في الأدب المقارن
أثر المرأة في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
للمرأة أثرها الخطير في المجتمع، ولمنزلتها من الارتفاع أو الانحطاط أوثق الصلات بتقدم المجتمع أو تأخره، واطراد رقيه أو ابتداء تدهوره، ولنظرة الرجل إليها ومعاملته إياها أبلغ الدلالة على سمو الأخلاق أو تدليها، فالمرأة هي الأليف الذي يسكن إليه رجل اليوم، والمربي الأول الذي ينشئ رجل الغد؛ فإذا كان ذلك يأوي منها إلى صحبة ممتعة للنفس مغذية الشعور، وكان هذا ينشأ في حجر راعية نيرة حازمة، فقد توفرت للمجتمع أكبر أسباب السعادة والنجاح، أما حيث تحتقر المرأة وتذاد عن نور العلم ازدراء لها واستهانة بوظيفتها، ويساء فهم علاقتها بالرجل حتى لا تحسب تلك العلاقة سوى شهوة تافهة، فذاك مجتمع دوام انحطاطه محتوم، واطراد تدهوره بدهي، إذ لا نجاح لمجتمع تغمط فيه مكانة المرأة، وتغفل وظيفة الأم، وتجهل نعمة التعاون الزوجي.
ولما كان للمرأة هذا الأثر العميق في المجتمع ورقيه وآدابه العامة، كان لها في أدب اللغة أثر بعيد ومكان ظاهر؛ فإلى منزلتها من الرفعة أو الضعة ترجع الصبغة التي ترين على الأدب من وقار وعفاف أو استهتار وفجور، وعلى التغني بجمالها والترنم بحبها يتوفر باب من أهم أبواب الأدب وهو النسيب، وارتفاع شأنها في المجتمع مقرون دائماً بازدهار الأدب، لأن المجتمع الذي يجل المرأة ويتغنى بمحاسنها مجتمع صادق الشعور، عالي النفوس، وبعكس ذلك المجتمع الذي يزدري المرأة ويسخر منها وترين فيه الشهوة لا ينتج علماً ولا أدباً، وارتفاع شأن المرأة في المجتمع مقرون كذلك بمساهمتها في الأدب منشئة وناظمة وناقدة، والأدب لكل هذه الأسباب مرآة صادقة واضحة لمنزلة المرأة في المجتمع، ومنزلة المجتمع من الرقي، وحظه من الأخلاق.
كان للمرأة العربية على العموم في الجاهلية وصدر الإسلام لاسيما نساء السادة والأشراف، منزلة عالية: كانت تشارك الرجل أعمال السلم وتعاونه في إبان الحرب، واشتهرت نساء كثيرات في تاريخ تلك العهود، واحترفن الأعمال كالطب والتدريس، وشاركن في السياسة فتركن أثرهن في سير الحوادث، وزاد الإسلام منزلة المرأة ارتفاعاً وحررها من كثير من
أسباب الشقاء التي كانت تقاسيها نساء الطبقات السفلى، ومما له دلالته على مكانة المرأة إذ ذاك أن كبار الرجال كانوا يغمزون بالانتساب إلى أمهاتهم وعصبياتهن، وكانوا يلقبون في مواقف التبجيل والمدح بابن هند وابن عائشة وابن ذات النطاقين.
هذه المكانة المحترمة التي تمتعت بها المرأة في المجتمع في ذلك العصر، تركت آثارها واضحة في أدبه: فقد كان أدب ذلك العصر مزدهراً قوياً صادق العاطفة نبيل الغرض في جملته، وكان للمرأة فيه ذكر مردد، تستهل بذكرها القصائد، وتنظم في الترنم بحبها الأشعار. ويسجل الشاعر حواره مع زوجه في شتى الشئون في القصيدة يبدأها بقوله:(وقائلة. . . فقلت لها. . .)؛ وبلغ النسيب في هذا العصر أعلى درجاته من الرقي وعمق الشعور وعفة المقال. وما أجمل نسيب عنترة بعبلة، ومناجاة جميل لبثينة، وهتاف قطري بن الفجاءة بزوجه أم الحكيم؛ وساهمت المرأة في الأدب، فأثر عن كثير من الأعرابيات غرر من سحر البيان، وعرفت نساء من خيرة المسلمات بالرواية والنقد، وظهر في هذا العصر أكبر شاعرتين في تاريخ الأدب العربي: الخنساء وليلى الأخيلية اللتان ضارعتا الفحول رصانة قصيد وجودة معان؛ وكان بجانبهما العدد العديد من الشاعرات المجيدات اللائى كان بعضهن يساجلن محبيهن شعراً؛ وتفاخر الشعراء بالعفة وحسن المعاشرة والجوار ورعاية مكانة المرأة، قال مسكين الدارمي:
ما ضر جاري إذ أجاوره
…
ألا يكون لبيته ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت
…
حتى يواري جارتي الخدر
هنالك بلغ المجتمع الإسلامي أوج رقيه، ثم داخلته عوامل الفساد بتضخم الملك الفجائي وانتشار الثروة والجواري والغلمان وذيوع الترف والانصراف إلى الشهوات، ومخالطة الشعوب المختلفة واقتباس الضار من تقاليدها. ووهنت أخلاق العرب القويمة التي رفعوا بها لواء سيادتهم، فضعفت روابط الأسرة بذيوع التسري، وانحطت نظرة الرجل إلى المرأة بانتشار صناعات القيان والمغنيات والراقصات، وفشت الريبة وشدد الحجاب على المرأة وعزلت عن المجتمع فحرمت العلم والنور والحياة، وحرم المجتمع تأثيرها المرقق للشعور المتسامي بالآداب، وازداد المجتمع انحطاطاً وشاع فيه هجر القول، وخلا تاريخ ذلك العهد من اسم امرأة واحدة ذات أثر في حياة الأمة.
فهذا الطور الثاني من تاريخ المرأة العربية مضاد للطور الأول سارت فيه مكانتها إلى انحطاط مستمر، وبدا أثر ذلك الانحطاط في أدب ذلك العصر: اتسم بالإفحاش والإقذاع، وضعف وحل التقليد فيه محل الابتكار، والزخرف اللفظي محل الشعور العميق وأصبح النسيب فيه إما بذيئاً شهوانياً كأشعار بشار. وإما تقليدياً وهمياً أجوف كاستهلالات البحتري، وشبب بعض المجان بالذكور، وتفنن بعض الكتاب كابن دريد في أحاديثه وصاحب كتاب محاسن الأضداد، والأصبهاني في أغانيه في إيراد القصص الشهوانية والنوادر التي تبدو فيها المرأة متاعاً ينهب، أو مخلوقاً نزقاً خائناً متقلباً؛ ولم تنبغ في الأدب امرأة يعتد بآثارها، وإذا كانت القيان قد ألهمن الشعر كثيراً من الشعراء، وكانت منتدياتهن مجمعاً للأدباء، فما أنتج ذاك كله إلا أدباً شهوانياً فاتراً هزيلاً، وبعد أن كان الشاعر في الطور السابق يتمدح بتبجيل المرأة، ويتقرب إليها بالمكارم (لنحمد يوماً عز شمائله) كما قال كثير أصبح النيل منها والإغراء بها والتهكم بطباعها من هم بعض الشعراء، قال بشار:
عسر النساء إلى مياسرة
…
والصعب يسهل بعد ما جمحا
وقال غيره:
وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها
…
فليس لمخضوب البنان يمين
وهكذا حرم الأدب العربي إلهام المرأة السامي الجميل، وما أقل ما بقي من منادح القول لأدب حرم ذلك الإلهام! وجاء شعر فحول العربية في أوج ازدهار الأدب خلواً من تاريخهم الغرامي الصحيح؛ فهل كان لأبي تمام والبحتري والمتنبي غرام صادق عميق، صهرت في تنوره نفوسهم، وتكشفت لهم الحياة من خلاله عن عوالم جديدة من الإحساس والتفكير. إن أثر ذلك معدوم في شعرهم، وليس في شعرهم إلا النسيب التقليدي الاستهلالي المملوء بذكر هند ودعد، والكثبان والأغصان، والأطياف والمدامع؛ لا يثير في نفوسهم هذه العواطف العجيبة إلا الطمع في عطايا الممدوحين، أما النسيب المستقل بكل القصيدة المقصود لذاته فليس هناك. وبلغ من موت العلاقة السامية بين الرجل والمرأة أن المتنبي نفسه كان لا يكاد ينظم في النسيب الاستهلالي أبياتاً تحمله عليها تقاليد الصنعة حتى يبرم وتململ، فيزيح النسيب جانباً صائحاً بصاحبته المتخيلة: صلينا نصلك في هذه الدنيا، فإن مقامنا فيها قليل، فإن لم تصلي فاذهبي ودعيني أستطرد إلى ما هو أهم من أمرك من امتداح هذا الكريم ذي
العطايا الجزيلة، أو ربما انقلب على محبوبته وجنسها هاجياً، فقال إن القوافي جميعاً في بواطنه ظلام.
لم يقتصر التهجم على المرأة على ذوي المجون وعبيد الشهوات بل اتخذ سبيله إلى كتابات المفكرين، وتقنع بمظهر العلم في آثار المعري الذي صب في لزومياته جام غضبه على المرأة، ورماها بالغدر وشبهها بالأفعى، وعاد إلى تشديد الحجاب عليها ونهى عن تعليمها حتى تقويم السطور، ولا ريب أن مزاج المعري السوداوي وحياته المقفرة من حنان المرأة، ونقمته على الحياة جميعاً، كل ذلك كان ذا أثر في نظرته القاسية إلى المرأة، واعتباره إياها رمزاً للحياة في جهلها وتقلبها وغدرها، بيد أن ظروفه الشخصية التعسة هذه إنما هيأته ليكون معبراً عن أفكار عصره الذي كان يعج بالفساد والاضطراب والانحطاط الخلقي، فلا ريب أنه كان يجد آذاناً صاغية، وأنه مسؤول عن بعض ما حاق بالمرأة بعد ذلك من قهر وإهمال.
فتاريخ المرأة العربية طوران: الأول طور رقي مصاحب لسمو الأخلاق ورقي المجتمع ونهوض الدولة وازدهار العمران، والثاني طور انحطاط معاصر لقعود الهمم وتدهور المجتمع وإدبار السلطان وركود الأدب؛ أما تاريخ المرأة الإنجليزية فهو طور رقي مستمر مطرد من عهد شكسبير إلى الوقت الحاضر، ازدادت فيه المرأة حظاً من التعليم والاحترام والمساهمة في الأعمال، ولم تعترض ذلك الرقي المطرد إلا فترة رجعة في عهد الملكية العائدة من فرنسا في القرن السابع عشر، وما لبثت تلك الفترة الماجنة أن تلاشت إذ صمد لها الخلق الإنجليزي المتين، وشمر لإماطة آثار كبار الهمم من الأدباء المثقفين، وتابعت المرأة سبيل رقيها المقرون برقي الأخلاق وسيادة الآداب العامة وتقدم المجتمع.
كانت منزلة المرأة في عهد اليزابث على درجة من الرقي محسوسة وكان بنات السراة ينلن من التهذيب مثل حظ البنين، واشتهرت منهن بسعة العلم كثيرات مثل ليدي جين وليدي بيكون والدة الفيلسوف فرنسيس بيكون، وليس أدل على ارتفاع مكانة النساء في ذلك العهد من قبول الشعب اليزابث، وهي بعد في حداثتها ملكة عليه دون تردد، وإيلائه إياها من الولاء ما لم يوله غيرها من الملوك، وإظهارها هي حنكة سياسية بذت بها ملوك أوربا وساستها، ووضعت بها أساس مجد إنجلترا، وازن ذلك بما كان من ارتياع الناس في عهد
انحطاط المرأة العربية سالف الذكر، حين وليت شجرة الدر عرش مصر، حتى بعث الخليفة العباسي يوبخ أمراء مصر ويتوعدهم بالويل والثبور، إن لم ينضحوا ذلك العار الذي يبقى في الأجيال، على حين لم يحرك أسلافه ساكناً يوم ولى نفسه العرش عبد خصي، كان يبرى بظفره القلم.
وأثر المرأة الإنجليزية في الأدب تبعاً لرقي منزلتها الاجتماعية جليل، يزداد وضوحاً وشمولاً على تقدم العصور: فهي تبدو في قصص تشوسر تشارك الرجال أعمالهم، وفي درامات شكسبير مثالاً للقدرة الفائقة أحياناً، وموضعاً للحب والتقديس تارة، ورمزاً للطهارة والوفاء طوراً، وفي أشعار شكسبير ومعاصريه ومن جاءوا بعده من كبار شعراء الإنجليزية نسيب حار العاطفة سامي النظرة، وفي القصص والشعر دراسات لشتى الشخصيات النسوية، وفيهما تمجيد للجمال وتبجيل للمرأة، ويتوسل إليهما بسرد خرافات الإغريق وبطلاتهم وإلاهاتهم، وأساطير القرون الوسطى، سرداً شعرياً خيالياً؛ وضربي المرأة في إنشاء الأدب بسهم وافر فكان من النساء شواعر وقصصيات بارين فحول الرجال.
ويبدو أثر المرأة الإنجليزية في المجتمع والأدب الإنجليزيين على أوضحه في القصة: فقد كان للمرأة الفضل الأول في ظهور هذا الضرب من الأدب، فعلى أيدي اديسون وستيل اللذين اهتما بتثقيف المرأة وتنقية المجتمع ظهرت بذور القصة، ولما أخذت القصة شكلها الاجتماعي الحديث في القرن الثامن عشر، كان للمرأة دور رئيسي في حوادثها، ولولا اختلاط المرأة الإنجليزية في المجتمع ومساهمتها في الحياة لما نمت القصة، ولا وقفت على قدميها، وقد جاء نموها وذيوعها مصاحباً لنهضة المرأة وازدياد حظها من التثقف. ولما بلغ ذلك الرقي الاجتماعي غاية بعيدة في القرن التاسع عشر، بانتشار الديمقراطية وذيوع التعليم العام، نبغت جمهرة من كبريات القصصيات بارين كبار قصصيي العصر الحديث، وفي مقدمتهن جين أوستن وشارلوت برونتي ومزجاسكل
والقصة ضرب من الأدب يلائم طبع المرأة أكثر مما يلائمه نظم الشعر الذي هو أشبه بالرجل، لأنه يحتاج إلى قوة وفخامة وشمول نظرة لا تتسق كثيراً للمرأة، التي إنما صفاتها الدماثة والدعة، أما القصة التي تدرس الحياة الاجتماعية وتصف الحركات والسكنات، وتحصي التفاصيل وتتبع الحوادث وتسرد ما قيل وما فعل، فتجد فيها المرأة خير مجال
للتعبير عن خلجاتها ومشاهداتها، وملاحظاتها الدقيقة للأشخاص والأشياء؛ زد على ذلك أن المرأة تستطيع في القصة أن تعبر على لسان غيرها عن نزعات الحب وأطواره، تعبيراً لا يستساغ منها إذا هي أطنبت فيه شعراً
فالقصة أدب المرأة: ظهورها رهن برقي منزلة المرأة في المجتمع، فإذا ظهرت فحول المرأة يدور حديثها، وبين النساء تلقى الرواج والإقبال، وفيها تجد المرأة خير مجال لمواهبها الأدبية، ومن ثم أنتجت المرأة الإنجليزية في فن القصة خير إنتاجها الأدبي، أما المرأة العربية فأخرجت أحسن آثارها في الشعر في طورها الأول، فلما تطور المجتمع العربي وجاء أوان ظهور القصة الاجتماعية، كانت عوامل الفساد سالفة الذكر قد اجتاحت مكانة المرأة وضربت بحجاب كثيف بينها وبين المجتمع والأدب، فأقمئت القصة في بدء نموها، واستحال تطورها ورقيها، وجاءت مقامات البديع التي هي الخطوة الأولى في الأدب العربي في سبيل القصة الاجتماعية، خلواً من شخصية نسائية واحدة جديرة بالذكر، ولم يعرض الحريري إلا عجوزاً يسحبها أبو زيد في استجدائه، أو لكاعاً ينابزها وتنافسه في بذائه
ولنجاة المجتمع الإنجليزي من مثل تيار الترف الجارف الذي غمر المجتمع العربي، عقب الفتوح، ظل ذلك المجتمع رفيع الآداب قويم الأخلاق، وظل الأدب عفيف المقال، وظل النسيب شريف اللفظ والغرض، وخلا النسيب الإنجليزي مما تدرن به النسيب العربي في عصره المتأخر، من تحدث بالشهوات ووصف لأجزاء الجسم وهجاء للجنس اللطيف وتغزل بالذكور؛ فإذا حمل على المرأة خصم عنيد كملتون الذي وصمها بالنزق والختل وجعلها دون الرجل منزلة، وجعل شخصية (دليلة) في قصته الشعرية (سمسون الجبار) نموذجاً لها، أو سلك مسلك الاستهتار والتبذل كبيرون الذي كان يقرن الانقياد للشهوات باحتقار المرأة، لم يجد من حوله إلا صدى ضعيفاً لا يلبث أن يتلاشى مع صوته، ويتابع المجتمع سبيل تقاليده التي درج عليها، تقاليد الاعتدال والتعفف واحترام المرأة
فأثر المرأة في الأدبين العربي والإنجليزي جلي خطير، بيد أنه أجلى وأجل خطراً في الأدب الإنجليزي، وهو في الأدب العربي دليل ارتقاء تبعه انحطاط، وفي الإنجليزية برهان ارتقاء مطرد، في المجتمع والأخلاق والأدب، ومكانة المرأة الإنجليزية العالية في
مجتمعها مرد ما يمتاز به الأدب الإنجليزي عامة والنسيب خاصة، من عفة ووقار؛ وهبوط مكانة المرأة العربية في عصور التدهور مرجع الفحش الذي ذاع في النسيب والهجاء وغيرهما من أبواب الأدب العربي في عصوره المتأخرة، وبرغم تساوي المرأة العربية والمرأة الإنجليزية في تقصيرهما دون الرجل في حلبات الأدب، وضآلة أثرهما فيه إذا قيس بآثار الرجل في شتى الأغراض، فإن المرأة الإنجليزية تفوق العربية في كثرة إنتاجها الأدبي، كما فاقتها في كثرة ما أنشأ الرجل حولها من أدب، وما استلهمها من وحي، للسبب عينه: وهو أن المرأة الإنجليزية كانت أكثر مساهمة في المجتمع وارفع منزلة فيه
فخري أبو السعود
الإسلام والديمقراطية
للأستاذ عبد المجيد نافع
بقية ما نشر في العدد الماضي
رأى عمر مرة يهودياً ممسكاً برسول الله يطالبه بدين له، فعظم ذلك عليه وأخذ بخناق اليهودي وقال: دعني أقتله يا رسول الله. فقال: دعه يا عمر إن لصاحب الحق مقالاً
وخطب أبو بكر فقال: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق إن شاء الله تعالى
واختلف عمر مع أعرابي فاحتكما إلى أبي بكر فقال: قف بجانب خصمك وقص يا ابن الخطاب قصتك. فقام عمر وعلى وجهه أثر الامتعاض. فقال له أبو بكر: أيسوؤك أن تقف بجانب خصمك؟ قال: لا، ولكن ساءني أن كنيتني وفي الكنية تعظيم
ولما أسلم جبلة بن الأيهم ملك غسان وفد على عمر بن الخطاب بأبهة الملك وحشمه فتلقاه عمر بالترحيب، وبينما هو يطوف يوماً وطئ على إزاره أعرابي فضربه على وجهه، فشكاه الأعرابي إلى أمير المؤمنين، فاستدعى عمر جبلة وقال له: إما أن ترضيه وإما أن يضربك كما ضربته. فكبر ذلك على جبلة وقال: ألا تفرقون بين الملك والسوقة؟ قال: لا، قد جمع بينكما الإسلام. فاستمهله إلى الغد ثم أخذ قومه وفر بهم ليلاً، ولحق بالإمبراطور هرقل بالقسطنطينية
وعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد من قيادة الجيش وقال له: ما عزلتك لريبة فيك، ولكن افتتن الناس بك فخفت أن تفتتن بالناس
على أن نفس خالد كانت متشبعة بمبادئ المساواة، فارتضى أن يهبط من القيادة إلى مصاف الجندية، وأن يكون في الجهاد جندياً بسيطاً
وإن شئت أن ترى آية من آيات المساواة في الإسلام فأنعم النظر في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء حيث يقول: آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك
وكذلك كان يبغي عمر العدالة ومظاهر العدالة
وجمع عمر الناس بالمدينة حين انتهى إليه فتح القادسية ودمشق فقال: إني كنت امرأً تاجراً
وقد شغلتموني بأمركم هذا فماذا ترون أن يحل بهذا المال؟ فأكثر القوم وعلي رضي الله عنه ساكت. فقال: يا علي ما تقول؟ قال: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف ليس لك من هذا الأمر غيره. فقال: القول ما قال علي بن أبي طالب
وما كان المسلمون يأنفون من العمل الحر الشريف، فقد كان أبو طالب يبيع العطر وربما باع البر. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بزازاً. وكان عثمان بزازاً. وكان طلحة بزازاً. وكان عبد الرحمن بن عوف بزازاً. وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل. وكان العوام أبو الزبير خياطاً. وكان الزبير جزاراً، وكان عمرو بن العاص جزاراً
يفاخرنا الغربيون بعظمائهم الذين خرجوا من صفوف العمال وأولئك بناة مجد الإسلام قد خرجوا من جميع البيئات. ونبتوا في كل الطبقات
وما سقت لك تلك الأمثال عبثاً، وإنما أردت أن أدلك على أن المساواة في معناها الصحيح، وفي كافة مظاهرها ومختلف صورها لم تتحقق يوماً كما تحققت في الصدر الأول من الإسلام
مساواة أمام القانون، فقد شرع للناس كافة لا فرق بين عظيم وحقير، وغني وفقير، وقوي وضعيف
مساواة أمام القضاء، ولقد أطلعتك على جانب منها في أروع مظاهره وأسمى معانيه
مساواة في الوظائف العامة، فقد رأيت كيف ينشأ الرجل منهم في البيئة الصغيرة ثم يصل إلى أسمى مناصب الدولة
مساواة في الضرائب، فما كانوا يرهقون أحداً أو يظلمون فتيلا
وعلى الجملة فقد كانت مساواة في الحقوق والواجبات
حقق الإسلام مبدأ المساواة السياسية والمساواة المدنية
على أنه لم يشأ أن يمني أتباعه بالمساواة الاقتصادية أو بعبارة أوضح بالمساواة في الأرزاق، ذلك بأنه دين الفطرة
وكيف السبيل إلى المساواة الاقتصادية، وفي الناس العملاق والقزم والقوي والضعيف وجبار العقل والأبله المعتوه
إن نواميس الطبيعة تأبى المساواة الاقتصادية، ولئن جاز أن تكون في هذا الميدان مساواة
فأولى بها أن تكون مساواة في البؤس والشقاء
رأى الإسلام أن المساواة الطبيعية مستحيلة. فقال تعالى في محكم كتابه: وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات
وشاء الإسلام أن يلطف من قسوة قوانين الطبيعة فشرع الزكاة. وعندي لو أن نظام الزكاة طبق على وجهه الصحيح لوجدنا السبيل إلى حل المسألة الاجتماعية التي عجز إلى اليوم عن حلها فطاحل الاجتماع في أوربا. تلك المسألة التي كانت مثار النضال بين الطبقات، ومبعث المذاهب المتطرفة والنظريات الهدامة
وإذن فليس من الإسراف في القول أن يقال أن الإسلام هو الحصن الذي يرد غزوة المذاهب الهدامة التي تهز كيان المجتمع الأوربي أعنف الهزات، وتهدد الحضارة الأوربية بالتلاشي والفناء
لم تعرف أوربا المساواة في القرون الوسطى فقد انقسمت الشعوب إلى طبقات ممتازة وطبقات محرومة من الامتيازات، وكان للأشراف قوانينهم الخاصة ومحاكمهم الخاصة وعقوباتهم الخاصة وضرائبهم الخاصة، وكانت المدارس الحربية يحرم دخولها على طبقات الشعب، وكانت المناصب الكبرى في الدولة وقفاً على طبقات الأشراف
وهل تحققت المساواة بمعناها الصحيح في أوربا اليوم؟ لا تزال هناك مراحل كثيرة لا يزال على أوربا اجتيازها قبل ترسيخ قواعد المساواة
أوليس النظام في فرنسا مزيجاً من النظم الديمقراطية والأوضاع الملكية والأشكال الأرستقراطية؟
وإنجلترا التي يقولون عنها إنها مهد النظام الدستوري ومعقل الديمقراطية أوليس فيها إلى اليوم لوردات ومجلس لأولئك اللوردات؟
أثار كاتب فرنسي الشكوك حول تحقق مبدأ الحرية السياسية في فرنسا فاسترعى النظر إلى أن رأي الأمة الفرنسية لا يؤخذ في أمس الشؤون بحياتها وأشدها تعلقاً بمصيرها كحالة الحرب مثلاً
واستلفت ذلك الكاتب الأنظار أيضاً إلى أن القضاة في فرنسا يؤخذون من بيئات خاصة والمحلفين من طبقات عليها مسحة الأرستقراطية، واختلاف العقوبة حين يرتكب الفعل
الواحد غني أو فقير
والحكم مع إيقاف التنفيذ؟ أفلا يكاد يستأثر به الغني دون الفقير مع أن الغني قد يكون اختلس مبالغ طائلة أو بدد أموالاً كثيرة؟
أفلا يسخر المداره المقاويل من كبار المحامين بلاغتهم في انتزاع في انتزاع الأغنياء دون الفقراء من براثن العدالة؟
وهل يتاح للفقير ما يتاح للغني أن يبقى بملابسه فلا يرتدي ملابس السجن، ويأكل من بيته فلا يأكل من طعام السجون حين يكون سجيناً تحت التحقيق مقابل جعل بسيط تتقاضاه منه إدارة السجن؟
وأين المساواة إذا كنتم أيها الغربيون تسلحون الأغنياء بأسلحة العلم العالي وتجردون منه الفقراء الذين لا يكادون يجدون السبيل إلى ثمن الخبز فضلاً عن أجر التعليم؟
ليس عجيباً إذن أن يهاجم الديمقراطية خصومها تارة باسم العلم وطوراً باسم الواقع
وليس بدعاً أن يصيح صائح: المجتمع الأوربي يسعى للمساواة ولا يجد السبيل إليها، شأنه في ذلك شأن الإنسانية التي تجد في طلب السعادة والحقيقة فلا تظفر بهما كما أعيا طلابهما فوست جيته
التسامح الديني في الإسلام يقابله الاضطهاد الديني في أوربا في عصور الظلمات
وإذا ذكرنا اضطهاد الفكر والعقيدة ذكرنا محاكم التفتيش
وفي الحق لم تشهد الإنسانية قضاء أشد نزوعاً إلى الظلم وأكثر جنوحاً إلى القسوة من قضاء محكمة التفتيش
نهضت تلك المحاكم لتصد عن الكنيسة تيار الإلحاد المتدفق، فلئن كانت دينية في نشأتها فان التعصب قد سخر العدالة في سبيل تحقيق لبانته وغايته
وفوق ذلك فقد وقفت تناهض كل حركة فكرية وعلمية، ولعل من أبرز ضحاياها غاليلو الرياضي الفلكي الشهير. أحدث ذلك العالم ثورة في العلوم الفلكية ولبث ردحاً من الزمن يواصل العمل في بث نظرياته في دوران الأرض. فأصدرت البابوية، وفقاً لآراء أحبار محكمة التفتيش قراراً بنقض تلك النظريات وتحريمها، واعتبارها تحدياً للنصوص المقدسة. ونصح البابا لغاليلو بالكف عن نشر دعاويه. فلم يأبه الرجل لقرار التحريم، ولم
يحفل بذلك النصح، ومضى في خدمة العلم والحقيقة. وفي عام 1632 نشر كتابه (محادثات عن الأصول العالمية) فأحدث صدوره رجة عظيمة واستقبلته دوائر العلم والفكر في أوربا استقبالاً حماسياً منقطع النظير. وهنا ثارت ثائرة الكنسية وحرمت بيع الكتاب في الحال. ودعي غاليلو للمثول أمام محكمة التفتيش في روما، فاعتذر بشيخوخته وضعفه وكان قد نيف على السبعين. فاستشاط البابا غضباً وعد تخلفه عصياناً. فأجاب الدعوة واعتقل في قصر محكمة التفتيش في إبريل من عام 1633. حقق معه وعذب ولم ترحم محكمة التفتيش شيخوخته وضعفه. وكانوا كلما أمعنوا في تعذيبه، ولجوا في التنكيل به، أمعن هو في التشبث بالحق، والإصرار على الحق. فإذا زادوه نكالاً صاح في وجوههم: ومع ذلك فإن الأرض تدور!
وإنه ليهولك أن تعلم أن عدد المحكومين عليهم من محاكم التفتيش المختلفة بلغ في الفترة ما بين 1481 - 1498، 125294 منهم 8800 أعدموا بإحراقهم و6500 أحرقت رموزهم و90 ألفاً طبقت عليهم عقوبات مختلفة بالسجن والغرامة والتوبة
وفي الفترة ما بين 1499 - 1506 بلغ عدد المحكوم عليهم 34992 منهم 1664 أحرقوا و832 أحرقت رموزهم والباقون وقعت عليهم أحكام مختلفة
ومن 1506 إلى 1518 بلغ عدد الضحايا 50 ، 167 من هؤلاء 2536 ماتوا حرقاً و1638 أحرقت رموزهم والباقون طبقت عليهم عقوبات أخرى
والآن ندع التقدير للمؤرخ الشهير (لورنتي) وهو أكبر حجة وأعظم ثقة في الموضوع
31 ، 912 أحرقوا
17 ، 659 أحرقت رموزهم
271 ، 450 طبقت عليهم عقوبات شديدة
ــــــ
341 ، 021 المجموع
والآن فاسمع هذا الوصف الذي تقشعر له الأبدان وصاحب الوصف هو فيكتور هوجو ألقاه في الاحتفال بتأبيت فولتير:
في 13 أكتوبر من عام 1761 وجد شاب مشنوقاً. ثارت الخواطر واضطربت الأفكار.
وهاج رجال الدين بينا أخذ رجال القضاء في التحقيق. ومشى الناس بعضهم إلى بعض يتساءلون: انتحار أم قتل؟ وكان الاتهام منصباً على رأس الوالد. وقال الذين أثاروا الشكوك حوله إنه من الهجنوت وقد حال بين ابنه وبين اعتناق المذهب الكاثوليكي. وكانت البداهة تمج هذا الاتهام وتحمي الوالد من ارتكاب هذا الجرم الفظيع. وإلا فأي عقل يسوغ أن يسفك الأب دم الابن ويشنق الشيخ الشاب
وما لبث الناس أن شهدوا في يوم 9 مارس سنة 1762 مشهداً هائلاً رهيباً. رأوا رجلاً جلل الشيب فوديه يساق إلى أحد الميادين العامة، ذلكم هو جان كالا، وما راعهم إلا أن يروا الشيخ المتهدم الفاني عاري الجسم مطروحاً على عجلة موثق الأكتاف متدلي الرأس. ووقف إلى جانب المشنقة ثلاثة رجال فأما الأول فطبيب ليعنى به. وأما الثاني فقس يحمل الصليب. وأما الثالث فالجلاد وبيده قضيب من حديد.
وعرت الضحية نوبة ذهول واضطراب، وتمشى الرعب في أضالعه، فما كان يرنو إلى القس بل كان يرمق الجلاد بنظراته المضطربة الحائرة، وما يلبث الجلاد حتى يهوي بالقضيب الحديد فيهشم للمسكين ذراعاً. أنين يمزق نياط القلوب يعقبه فقد الرشد. فيتقدم الطبيب فيعيده إلى الصواب بشم بعض الأملاح. فينبري الجلاد لضربة جديدة. صرخات دامية ثم غيبة عن الصواب. يعيدونه للحياة والجلاد يعاود الضرب. وإذا كان كل عضو لابد أن يكسر في موضعين فلا مفر له من تلقي ضربتين. وإذن فقد تلقى المسكين ثماني ضربات. وفي عقب الضربة الثامنة يقدم القس له الصليب ليقبله. على أن (كالا) يشيح عنه بوجهه. لو كانت الرحمة تجد سبيلاً إلى تلك القلوب المتحجرة لقلنا إن كان في نفوسهم بقية منها فقد أجهز الجلاد على (كالا) بضربة قاضية من رأس القضيب الغليظة، حطمت صدره تحطيما. وبذلك وضع حد لعذاب كالا وآلامه. إذ فاضت روحه في الحال.
دام التعذيب ساعتين كاملتين، وما إن مات كالا حتى تبين في جلاء ووضوح أن الشاب مات منتحراً. على أن جريمة قد ارتكبت ومن هم مرتكبوها؟ هم جماعة القضاة الذين قضوا على كالا بغير حق.
وفي عام 1765 بعد ليلة عاصفة وجدوا على إفريز أحد الجسور صليباً خشبياً عتيقاً ملقى على الأرض. ومضت ثلاثة قرون والصليب معلق في رأس السور. فمن الذي طرح
الصليب أرضاً؟ من ذا الذي اجترأ على ارتكاب ذلك الإثم؟ لا يعلم أحد. أيكون أحد المارة هو الذي عبث به؟ أم تكون الريح هي التي عصفت به؟ ويرى الناس مطران (أميان) يرغي ويزبد، ويبرق ويرعد، ويتوعد ويتهدد بالنار كل من يعلم الحق ثم يكتمه. وهنا تتلاقى هوجاء التعصب مع هوجاء الجهالة. ولا تلبث العدالة أن تكتشف أو تتوهم أن تكتشف أن ضابطين مرا بالجسر وأنهما كانا ثملين وينشدان نشيداً حربياً؛ فأما أحدهما فيلوذ بأذيال الفرار، وأما ثانيهما (لابار) فيؤخذ بتلابيبه، فيسأل، فيعتصم بالإنكار ويقسم جهد أيمانه إنه لم يمر بالجسر. فيبدو لهم أن يسألوه عن شركائه. ولكن شركاءه في ماذا؟ أفي أنه اجتاز الجسر؟ أم في أنه أنشد وصاحبه نشيداً عسكرياً؟ ثم يعذبونه لينتزعوا منه اعترافاً فيحطمون إحدى ركبتيه. والمكلف بأخذ الاعتراف منه يهوله صوت قرقعة العظام حتى يغيب عن صوابه من عظم الهول. ثم يسوقون لابار إلى أحد الميادين العامة، وقد أذكوا في بعض جوانبها نيراناً مضطرمة. يتلون عليه الحكم. فيكسرون إحدى يديه. ثم يستلون لسانه بكماشة من حديد. ثم يرحمونه بأن يفصلوا رأسه عن جسده. ثم يلقون جثته طعاماً للنيران، وكذلك مات لابار في ربيع العمر إذ لم يكن جاوز التاسعة عشر وراح ضحية بريئة للتعصب الأعمى.
لم يقض الإسلام بإلقاء أحد طعمة للنار لمجرد الزيغ في عقيدته ولم يضطهد حرية الفكر والاعتقاد، ولم ينكل بغير معتنقيه ولم يطارد العلماء والفلاسفة بل اتسع صدره للعلم والفلسفة.
وهنا لا نرى مندوحة عن أن نبدد وهماً، فنسارع إلى القول بأن حروب الخوارج لم تكن لها صبغة دينية على الإطلاق، بل كانت حروباً سياسية بحتة.
نعم، لم يكن مثار تلك الحروب الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة الحكم، وما اقتتل الخوارج مع الخلفاء لينصروا عقيدة. ولكن سعياً وراء قلب نظام الحكم وتغيير شكله.
ومن اضطرمت نار الحرب بين الأمويين والهاشميين لشيء غير الخلافة، وبذلك كانت حروباً سياسية لا دينية.
وكان المسلمون إذا هموا بفتح أمة خيروا أهلها بين الإسلام أو الجزية أو الحرب. وذلك هو
أقصى ما يبلغ إليه التسامح. فإذا أدخل الإسلام بلداً تحت ظلاله خلى بين المحكومين وبين حريتهم الدينية، وما يكلفهم إلا بجزية يؤدونها صيانة لأنفسهم ومحافظة على أمنهم في ديارهم وذوداً عن عقائدهم ومعابدهم
لهم ما لنا وعليهم ما علينا
من آذى ذمياً فليس منا
إن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم
ذلك هو شعار الإسلام في معاملة الذميين.
روى البلاذري في فتوح البلدان أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخارج، وقالوا قد شغلنا عن نصرتكم والدفاع عنكم فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ونهض اليهود وقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها.
من ذلك ترون أن الجزية كانت تؤخذ مقابل الدفاع
يقولون إنا في عصر عملي يكره الأحلام والحالمين
بل نحن في عصر مادي فترت فيه حرارة الناس في التعلق بالمثل العليا وانعدم إيمانهم بالمبادئ السامية أو كاد وأصبح من يتشبث فيهم بتلك المبادئ يسمى خيالياً يعيش في السحاب.
وترى خصوم الديمقراطية يهاجمونها بعنف وشدة، فهذا يهاجمها باسم العلم وذاك يهاجمهم باسم الواقع وغيرهما يتكلم عن أزمة الديمقراطية، ورابع يخوض في حديث إفلاسها.
يقولون أن النواميس الطبيعية لا تعرف المساواة، وإن الأرستقراطية هي دعامة الحضارة والرقي، وإن من الناس من يجب أن يعمل بيده ومنهم من يجب أن يتوافر على الأعمال العقلية، وإن حكماء اليونان كان لهم بعض العذر حين ذهبوا إلى تبرير الرق بضرورة أن يتفرغ الحكماء لإدارة شؤون الدولة.
ولا شك أن الديمقراطية تعاني اليوم أزمة شديدة بدليل أن الديكتاتورية قد غلبتها على أمرها
في بعض الأمم.
على أن البقاء للأصلح من المبادئ والفوز معقود بلواء الديمقراطية في النهاية إن شاء الله.
والذين بنوا الحضارة هم من الطبقات الشعبية لا من طبقات الأشراف.
والمشاهد الملموس في أوربا أن طبقات الأشراف تفنى سراعاً.
والمذاهب المتطرفة التي تغزو موجتها أوربا اليوم لا يلبث أن يتجلى زيغها حين يتبين للناس أنها تبني لهم قصوراً من الورق أو قصوراً في إسبانيا.
والإسلام الذي وقف طوال العصور في وجه العواصف الهوج الجبل الأشم هو الإسلام الذي يقف اليوم معقلاً حصيناً يرد عن العالم الإسلامي عادية خصوم الديمقراطية وعدوان دعاة المذاهب الهدامة.
فإذا دعونا اليوم للتشبث بمبادئه والتعلق بتعاليمه فإنما ندعو إلى الاحتفاظ بمعقل الديمقراطية، إنما ندعو إلى الذود عن دين الحرية والإخاء والمساواة.
عبد المجيد نافع
الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 9 -
الفلسفة الهندية
تمتاز بلاد الهند بخصوبة أوديتها، وتعدد نباتاتها وكثافة غاباتها وتعقد مسالكها، وكثرة متعرجاتها ومصاعدها ومهابطها، وتباين أجوائها ومناخاتها، ووفرة التناقض الطبيعي في أرضها وسمائها، فبينما ترى فيها جبالاً شاهقة تتجاوز السحاب سمواً، وهضبات متفرقة تفصل بعضها عن بعض هوى سحيقة وحفر طبيعية عميقة، وتلالاً تتخللها من جهة كثبان ضخمة وتعترضها من الجهة المقابلة صخور عظيمة النتوء صعبة الاجتياز، إذ بك ترى إلى جانب هذا أودية مبسوطة ومروجاً باسمة تتباهى بما تزدان به من ألوان وأفانين الثمار والبقول. وكذلك جوها لا تكاد تحس بدفئه وحرارته حتى يفاجئك بردة ورطوبته، بل أن الإنسان - كما أنبأني أحد الذين أقاموا في هذه البلاد - قد يشكو من شدة الحرارة التي يحس بها في جنبه الأسفل الذي يلي الفراش بينما يألم أشد الألم من الرطوبة التي تصب على جنبه الأعلى. ولا ريب أن هذه طبيعة غريبة قد يدهش لها المصري الذي اعتاد أن يشاهد زيادة النيل ونقصانه، واشتداد البرودة وتوسطها، وارتفاع الحرارة وهبوطها، وحرارة الشمس ووداعتها، وحلول الفصول وارتحالها، كل ذلك في أوقات منظمة محددة لا تختلف إلا لشذوذ نادر يعلله العلماء حيناً ويعجزون عن تعليله حيناً آخر.
كل هذا التعدد في المناظر والمظاهر الطبيعية أثر بارز في عقلية الهنود على رغم ما يوجهه بعض العلماء إلى نظرية تأثير المناظر في العقليات من طعون واعتراضات يحطون بها من شأنها ويحاولون إثبات الأثر كله للعنصر ومواهبه الفطرية.
ومهما يكن من الأمر فقد استطاع التاريخ أن يتغلغل بالمدنية الهندية في أغوار الماضي مدى ثلاثين قرناً قبل المسيح إذ يحدثنا أن تلك الأودية المخصبة كانت في ذلك العهد مأهولة بقوم من الجنس السامي لهم مدنيتهم وديانتهم وتفكيرهم، وأن هؤلاء القوم قد ساهموا في
بناء صرح المدنية العالمية بنصيب وافر، وكان لهم في تاريخ الفكر البشري مجهود جبار ظل مجهولاً أو غامضاً على الأقل حتى قام العلماء الأثريون والمستشرقون بمكتشفاتهم العلمية وأماطوا اللثام عن هذه الحقائق الناصعة وساعدوا البحث الحديث على رد الأشياء إلى أصولها، وأبانوا أن الديانات الهندية المتأخرة والفلسفات العويصة التي ظهرت في تلك الأصقاع إنما تتصل بالعناصر السامية القديمة أضعاف اتصالها بالمنتجات الآرية التي غمرت الهند بعد الفتح الأجنبي.
يحدثنا بعض المؤرخين أن الهند كانت قبل هذا الفتح الآري قبائل متفرقة أو شعوباً صغيرة، لكل شعب حاكمه وقوانينه وعقائده وعاداته، وأن الوحدة السياسية والعمرانية إنما وجدت فيها على أيدي أولئك الفاتحين (الآريين) الذين يزعم الأستاذ (ماسون) أنهم كانوا في أزمنة لا تعيها ذاكرة التاريخ يقطنون وادي (الدانوب) المخصب في تلك العهود الغابرة، ثم عبروا البوسفور إلى آسيا لضرورة العيش الذي ألجأهم إليه قحل وقع في وطنهم قبل هذه الهجرة التي لم تكن مألوفة لديهم على عكس الشعوب الآسيوية الرحالة. ومازالوا يتابعون سيرهم انتجاعاً للغيث فعبروا الفرات وواصلوا الزحف حتى (البنجاب) وأخذوا يغيرون على تلك البلاد الخصبة الوادعة حتى بسطوا سلطانهم وأسسوا بها وحدات قوية يصح أن تسمى دولاً، وكان ذلك حوالي القرن الخامس عشر قبل المسيح. ومنذ ذلك العهد بدأت الهند في مرحلة جديدة في الدين والفلسفة والعلم والسياسة، وهذه المرحلة هي التي تشغل الآن أذهان الباحثين المشتغلين بدراسة الفلسفة الهندية.
أما الأغصان الأخرى التي بقيت في الدانوب من تلك الدوحة الآرية فقد انتشرت في أوربا يحمل كل غصن منها اسماً خاصاً به مثل (السيلت) و (الجرمان) و (السلاف) و (الاتين) و (الهيلين) وقد خالف أصحاب هذه الفكرة الرأي القديم القائل بأن أصل العنصر الآري كان يقيم في بلاد الهند ثم ارتحلت منه بطون إلى أوربا فكانت منشأ هذه الأجناس السابقة الذكر. ولا ريب أن لكل منهما أدلة خاصة.
غير أن النار لم تكن هي الإله الأوحد عند هؤلاء القوم تؤيد مذهبه، لأن مجرد اتفاق هذه الأجناس الأوربية مع آريي الهند في اللغة (السنسكريتية) وفي بعض العقائد والنظريات لا يؤيد الرأي الأول ولا ينصر الثاني؛ غير أن أصحاب الرأي الحديث يزعمون أن مكتشفات
حديثة يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح تؤيدهم فيما ذهبوا إليه من أن الهجرة كانت من أوربا إلى آسيا. وسواء أصح الرأي الأول أم الثاني فإن الاستكشافات الحديثة التي قام بها العلماء منذ أن بدأها الأستاذ (يانيرجي) الهندي، وثنى على أثره فيها (سيرجوهن) تسمح لنا بأن نؤكد أن مدنية الهند الغابرة تمتد جذورها في الماضي أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، ولكن هذه المدنية التي كانت قد ازدهرت في وادي (البنجاب) قبل احتلال (الآريين) لتلك الأصقاع بأكثر من خمسة عشر قرناً قد اندثرت قبل هذا الاحتلال بزمن لا يعرف التاريخ تحديده بالضبط.
ويؤكد فريق من الباحثين أن تلك المدنية القديمة كانت راقية رقياً يسمح لها بأن تصعد إلى ما هو أدنى من صفوف المدنية الفرعونية بقليل، ويجعل (الآريين) الفاتحين إلى جانب الوطنيين برابرة متوحشين، وأنت ترى أن هذا الرأي يخالف ما نقلناه لك آنفاً من أن السكان الأصليين كانوا شعوباً منتثرة أقل مدنية من الفاتحين، وأن (الآريين) هم أول من حققوا لبلاد الهند الوحدة السياسية والاجتماعية.
ومهما يكن من شيء فقد احتل أولئك (الآريون) تلك الأصقاع المتمدينة وطغوا على مدنيتها وديانتها طغياناً محاهما من صحائف أذهان الخاصة وإن كان لم يستطع أن يمحوهما من صحائف الوجود، بل ولا من أذهان العامة والجماهير.
هذا، وللعلماء الباحثين موطد الأمل في أن يصلوا على ممر الزمن إلى حل رموز الآثار الهندية القديمة التي أنشأها الوطنيون قبل الاحتلال الأجنبي، فإذا وصلوا إلى هذه البغية استطاعوا أن يتبينوا المدنية الهندية القديمة والديانة المحلية وما امتزج بهما وطغى عليهما من مدنية الفاتحين وديانتهم. أما الآن فأكثر ما يقال في هذا الصدد لا يعدو دائرة الفرض والتخمين.
على أن أهم ما يلفت النظر في الاكتشافات الحديثة للآثار الهندية القديمة هو أنه قد عثر على بعض تماثيل يرجع تاريخها إلى عهد المدنية الأولى، ولكنها تشبه كل الشبه تمثال الإله (سيفا) الذي هو من آلهة عهد الاحتلال (الآري) وكذلك عثر المكتشفون على رموز يرجع تاريخها إلى القرن الثلاثين قبل المسيح، وهي لا تزال حية في الديانة الحديثة حياة قوية.
ويستنتج الباحثون من هذا أن الإله (سيفا) ليس إلا إلهاً محلياً قديماً لونه الفاتحون بلون جديد ثم أقروه في الديانة المحدثة، كما أن تلك الرموز الحية في الديانة (الهندوأرية) هي بعينها الرموز الوطنية القديمة. وينجم عن هذا أن تكون الديانة الهندية المستحدثة بعد (البراهمانية الأرثوذوكسية) مزيجاً من الديانة المحلية المندثرة والديانة (الهندوآرية) ولكنه كان مزيجاً مجهولاً لدى الهنود أنفسهم ولدى جميع العلماء والمؤرخين حتى ظهرت استكشافات (بانيرجي) الأخيرة.
وتدل دراسة الديانة الهندية بوجه عام على أن الهند هي بعد مصر البقعة الثانية التي يصح أن يطلق عليها اسم أرض الآلهة والتي لا يفوقها في كثرة آلهتها وتعقد مشاكلها الدينية وصعوبة تحديد اختصاص الآلهة وسعة الخيال وخصوبته في تصوير المعبودات إلا بلاد الفراعنة.
الديانة المحلية
لم يصل الاكتشاف الحديث بعد إلى الدرجة التي يصح معها للباحث الدقيق - كما أسلفنا - أن يصدر حكماً جازماً على الدنيا المحلية التي سبقت عهد الاحتلال (الآري) إذ قد رأيت تناقض العلماء وتضارب آرائهم في هذا الموضوع حيث يقرر فريق منهم أن الوطنيين الأوليين كانوا أرقى عقلية وأعظم مدنية من الفاتحين. ويذهب فريق آخر إلى العكس فيقرر أنهم كانوا بطوناً منتثرة وقبائل متفرقة لا تربطهم مدنية اجتماعية ولا تجمعهم وحدة سياسية، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن أولئك القوم كان لهم ديانة مهما تبلغ من السذاجة فإن لها قيمة تاريخية لا يصح للمشتغلين بتاريخ العقلية الإنسانية أن يهملوها. وتتلخص هذه الديانة في أن النار كانت هي المعبودة المقدسة التي تقدم إليها الضحايا والقرابين من لحوم مشوية وخمور معتقة وألبان وخبز وأعشاب صالحة للأكل أو للتخمير إلى غير ذلك، وأن كهنة النار الذين كانوا يتولون إيقادها كان لهم بين أفراد الشعب مكانة رفيعة وإجلال مفروض. وقد كان هؤلاء الكهنة سدنة للنار وسحرة وأساتذة فنيين يعلمون الشعب طقوس الدين وأركان العبادة.
وإنما كان هناك آلهة كثيرون، بعضهم يتمثل في الشمس وما تسكبه على الكون من نعمة الإضاءة والدفء والإنعاش، والبعض الآخر يتمثل في تنين هائل أو وحش مخيف. وكان
عدد أولئك الآلهة يصل أحياناً إلى ثلاثين أو ثلاثة وثلاثين إلهاً متساوين حيناً، ولهم رئيس أعلى حيناً آخر، ولكن هذا الرئيس لم يكن هو خالق الأكوان، لا لأن هؤلاء القوم كانوا دهريين أو طبيعيين، بل لأن سذاجتهم كانت قد بلغت حداً حال بينهم وبين الرجوع بعقولهم إلى بدء الخلق، فاقتصروا على التفكير فيما هو بين أيديهم فحسب ولم يتعدوه إلا إلى ماض قريب فرضوا فيه وجود عالم أحط منهم مرتبة وأقل مدنية. وبناء على هذا كان عمل الإله أو الآلهة عندهم مقصوراً على التصرف في الموجود ولا يتناول الإيجاد بأي حال.
وكانوا يعتقدون أن هناك عالماً آخر وراء هذا العالم يدعى (عالم الأموات) وأن ملك هذا العالم هو أول ملك من أجدادهم وهو: (ياما) بن (فيفاسفان) كما كانوا يعتقدون أن الخيرين الذين يموتون وهم حائزون رضى الآلهة لا تكاد أرواحهم تغادر أجسامهم حتى يمنحهم أولئك الآلهة معرفة الغيب والقدرة على التصرف في الكون وعلى تدبير الأقدار خيرها وشرها.
(يتبع)
محمد غلاب
الرافعي في الحجاز
مصطفى الرافعي
للأستاذ محمد حسين زيدان
ليست هذه الكلمة رثاء أرثي به الفقيد ولكنها حادثة وقعت لنا بسببه فأحب إخواني نشرها ليعلم الناس مكان الفقيد من نفس شباب الإسلام والعرب في كل قطر ومصر.
كنا أربعة نسمر حول مائدة فانتحى اثنان منا جانباً يتذاكران اللغة الإنكليزية وجلس آخر يقرأ - يقرأ ضحى الإسلام - أما أنا فكنت أكتب موضوعاً لجريدة (المدينة) وجاء صديق يحمل (الرسالة) ولم نكن قرأنا هذا العدد الذي يحمل، إذ تأخر وصوله فقلت: الرسالة؟ الرسالة! هاتها. فتصفحت الافتتاحية وخطوتها إلى كلمة الأستاذ أحمد أمين. فالأستاذ المازني، ثم إني قرأت للرافعي (أمراء للبيع) فلما وصلت إلى منتصف المقال ألقيت الرسالة وقلت لأصدقائي (هلموا إليَّ - هيا بنا نؤمن ساعة - أقرأ لكم الرافعي) فقالوا: اقرأ. اقرأ. فأخذت أقرأ وهم سامعون ساهمون. يسمعون البيان بيان الرافعي. ويعجبون بالبطولة. بطولة الشيخ ابن عبد السلام. ويهزءون بالقوة الغاشمة والإمارة الكاذبة والجهل الفاضح. وما انتهينا من المقال حتى ملأ الإعجاب أفئدتنا. وهذا حالنا كلما قرأنا لأبي السامي ومن تصاريف القدر وأعاجيبه أنه لم تمض لحظة حتى وافانا البريد فطالع أحدنا (أم القرى) وفيها الخبر الفاجع المحزن خبر وفاة الفقيد. فنزل علينا كالصاعقة ولقد كنا لا نصدق. قبل لحظة كان الرجل حياً يسمعنا بيانه وإيمانه ويطالعنا بعجيب من البطولة والصراحة والصرامة في الحق وتأييد الحق. والآن هو ميت نسمعه أنين الحزين وبكاء المتألم. وطفق أحدنا يبكي ويقول: لكم العزاء في الرافعي فقد حرمنا نحن الناشئة أديباً كبيراً نتعلم منه البيان والأدب العالي والنبل والفضيلة. حرمنا هذا في زمن اتجه أدباؤنا إلى إرضاء الساسة والعامة، والعامة هم عصا الساسة يسوقون بها هؤلاء الأدباء، وإن كان هؤلاء الساسة لا يتحركون إلا بما يرضي العامة لأنهم يستمدون سلطتهم على مقدرات الأمة وشؤونها من هذه العصا العوجاء (الرأي العام) وما هو الرأي العام (يرحم الله قاسم أمين) - قلت: حسبك فقد آلمتنا وأبكيتنا قال: أكتب حادثنا وحديثنا في جريدة (المدينة) ليعرف هذا وإني أعرفك لا تستطيع أن تكتب راثياً فالرثاء شعر ولست بشاعر، وإنما أنا أبكي الفقيد
بدموعي وفؤادي المحترق. قلت: أعرفك بكاء وإني لعاجز. ولكن اسمع وما أردت أن أكون دونه - اسمع لقد انهدمت الدعامة الرابعة من دعائم (الرسالة) بموت الرافعي. وإنا لنرجو أن تعود، فهي اليوم تقوم على ثلاثة دعائم، قال: لم أفهم فأفصح، قلت: يا هذا ألا ترى أن دعائم الرسالة أربع:
العاطفة والشعر، فالعقل والعلم، فالتجربة والتهذيب، فالإيمان والفضيلة: رجل العاطفة والشعر الزيات يكتب بعاطفته من قلبه وحنينه وأنينه ليلهب عواطف الأمة ويوقظ شعورها ويوقد حماسها فتتجه نحو المثل الأعلى. يفعل هذا لأن فيه طبيعة الشاعر الملهم المتألم المتأمل.
ورجل العقل والعلم أحمد أمين يكتب بعقله وعلمه ليثير عقل الأمة وليزيد في علمها من علمها وتراثها فتسير في طريق العقل النير والعلم الممحص، يفعل هذا لأن فيه طبيعة القاضي النزيه والعالم المخلص. . . ورجل التربية والتجربة المازني يكتب من تجاريبه ودراسته للنفس والأمة ليهذب من أخلاق الشباب، فيسير على ضوء التجربة من حوادث الماضي. يفعل هذا لأن فيه طبيعة الأستاذ المربي.
ورجل الإيمان والفضيلة الرافعي يكتب بإيمانه وعقيدته ليدافع عن إيمان الأمة ويثبت إيمان الأمة وعقيدتها، فتسير بنور الإيمان ثابتة العقيدة طاهرة المبادئ جريئة في الحق صريحة في نبذ الباطل، يفعل هذا لأن فيه طبيعة المسجد وشيوخ المسجد، ولأن فيه أثراً من وراثة الأسرة المجيدة والبيت الرفيع من الفاروق رضي الله عنه إلى عبد الغني وعبد القادر وأمين وعبد الرحمن ومصطفى صادق. أسمعت ووعيت؟ قال: سمعت وزد. قلت: وإن هذا الارتباط بين كتاب الرسالة بدون تعمل وتعمد من أعاجيب نهضة الأمة ويقظة الأمة ورغبة الأمة وتوفيق الرسالة، فهي قد لفظت وتركت غير هؤلاء الذين شذوا عن هذه المبادئ وضمت من سار على نهجها وخطتها. تركت غير هؤلاء عن غير قصد ولا عمد، وإن زعموا أنهم تركوها حاسبين أنها محتاجة إليهم مع أنها في غنى عنهم، فليسوا هم أصحاب الرسالة وإن أيدوها بموقفهم السلبي ومناقضتهم، فإن جلاء الحق لا يظهر إلا بمزاحمة الباطل، أسمعت ووعيت؟ قال: هذا صحيح فزدني. قلت: ماذا أزيدك؟ وأخذتني عبرة وطفقت أنشد بيت الرافعي الذي يرثي به أحمد تيمور باشا، وما أحقه أن يرثى به.
تأتي المصائب كالتقليد في نسق
…
أما مصيبتنا هذي فتخترع
وبعد فهذه حادثة واقعة وحديث جرى ما زدت في ذلك شيئاً. يرحم الله أبا السامي فقد ناضل عن الأدب وجدد في البيان. إنه خلاق المعاني وملك الألفاظ يتلاعب بها كيف شاء. ناضل عن الأدب حتى كاد يستقر، ودافع عن الدين والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً يجزيه الله عليه أحسن الجزاء وإنه ولي الرحمة والغفران.
عن جريدة (المدينة المنورة)
محمد حسين زيدان
أدب الرافعي أدب ممتاز
للسيد كمال الحريري
للمرحوم فقيد الأدب مصطفى صادق الرافعي في وصف الجمال وصوره والتعبير عن آثاره في النفس والروح طريقة ممتازة هو فيها طراز وحده بين أدباء العربية في جميع عصورها. فأنت من وصفه الجمال الإنساني أمام لوحات بيانية سحرية، تكاد الحياة والعاطفة والروح تنطق مجتمعة من خلالها. وهو في الوصف الروحي العاطفي للجمال الإنساني المادي، صاحب مدرسة سدت في فراغ الأدب ثغرة ما أغنت استعاراته وتشابيهه عن سدها شيئاً. ولا غرو فإن روح التعبير عن الجمال التي تسللت إلى أنامل فيدياس الإغريقي فأنشأت له من الصخر الأصم هياكل وتماثيل بشرية في عاطفتها وحيويتها وروحها، قد هبطت بعد أجيال على قلم الرافعي، فأوحت إليه تحفه الأربع في فلسفة الجمال والحب. وأنا في هذا الحوار الذي دار بيني وبين صديقي الرسام إنما أعرض لوناً جديداً حيوياً من أصباغ وصف الجمال البشري، للأستاذ الرافعي وحده فضل استكشافه وفرضه على الأدب، ولوددت أن الأدباء غمسوا فيه ريشاتهم حين رسمهم لوحات الجمال الإنساني. ولا بأس أن أحتكم في تذوق هذا اللون أو النفور منه إلى أدباء الرسالة ليقولوا فيه كلمتهم.
لي صديق فنان في الرسم، وريشته لسانه، وترجمانه ألوانه، أسمعته جملة لي في وصف أبي نواس وهي: لقد كان أبو نواس في حدائق الكرخ فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود وأوراد الخدود. ثم وقفت عند هذه الجملة منتظراً أن تروقه هذه الاستعارة. ولكنه زاد علي أن قال: صعب علي يا صديقي أن أتصور كيف يتجرد صاحبك أبو نواس من هيكله البشري ليتجسد في جسم فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود ووردات الخدود. وهل القدود مما تنبت الأيكة والخدود مما تتفتح عنه خميلة الورد؟
قلت دهشاً: أين يذهب بك يا صاح؟ إن هي إلا استعارة بديعة يلجأ إليها الأدباء حين يشبهون اعتدال القد بالغصن وحمرة الخد بالورد. قال: إن أصحابك يسيئون إلى الخدود الموردة والقدود المتأودة حين يشبهون الأولى بالورد والأخرى بالغصن. الغصن جميل والورد فتان ولكن جمالها مادي لا يقاس إلى جمال خد العذراء حين يتورد وقوام الحسناء حين يتأود.
وأمامي الآن - وهنا أشار إلى لوحته - منظر فتاة حسناء تقطف من خميلة وروداً زاهية حمراء. فأيهما أجمل وأنضر وأحلى وأملح؟ هذه الورود في يديها أم هذه الحمرة في خديها؟. إن حمرة خديها الملتهبين بدماء النضارة والصبا حرام أن تشبه بحمرة الورد. فليس في الورد خدود تلتهب التهاباً، ولا وجنات ترف نضارة وشباباً. وكيف يستوي خد الورد البارد الجامد الذي لا يحرك إحساساً ولا يثير عاطفة، وخد الفتاة المضرم من نار الصبى، المتوهج من حرارة العاطفة، المشبوب من خمرة الروح، المطلول من ندى الشهوة، يثير في كل قلب ألواناً من المشاعر الراقدة، وضروباً من الأحاسيس الهامدة؟
وعيون النرجس على ما بها من جمال وتناسق بليدة جامدة فليس فيها هدب طويل يثير، ولا جفن كحيل يغري. وأين من مقل النرجس (مغناطيس) العيون (وكهرباؤها) وسحرها وإغراؤها؟
الجمال بسره الكامن وجوهره الرمزي إنما هو فن الروح والعاطفة، فكيف تعبر عنه وردة محمارة أو غصن أملود أو طاقة نرجس أو سبيكة ذهب أو فضة مجلوة أو ما شئت من هذه التشابيه النفسية المادية التي خلقت لإمتاع النظر اللهيف وإرضاء الحاسة الرغيبة؟ أما تمثيل الجمال وتصوير الحلاوة ففن تلعب فيه الروح أهم دور وأخطره، وليست كل هذه التشابيه من فن الروح في مراح ولا مغدي. قلت: ولكن الجاحظ يقول في وصف جارية حسناء (وكأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة أو كأنها خرطت من ياقوتة) ثم ينقطع به نفس الوصف فلا يجعل للروح وفنها بالاً ولا ذكراً. قال صديقي ولكن ما عجز عنه الجاحظ من الوصف الروحي للجمال المادي أدركه نابغة كتاب هذا الجيل الرافعي. وهمك به من أديب يستعلن بالأدب العربي على آداب الأمم الراقية ويقول (أنا أدب لغة القرآن).
ولقد لبثت زمناً أبتغي من الأدب العربي صوراً بيانية لوصف الجمال الإنساني تكون في دقة تعبيرها كلوحات الزيت أو صور الفوتوغراف، فلا أظفر منه إلا بهذه الاستعارات (الزهرية) أو التشابيه الجوهرية حتى قرأت للمرحوم كتبه الثلاثة في فلسفة الحب والجمال فألقيت عصاي وآمنت بمعجزات الرافعي.
قال الأستاذ رحمه الله في كتابه حديث القمر:
يا رحمة لهذا الجمال! وجه وضئ الطلعة كأنه السعادة المقبلة يصل إليه دم الشباب من
القلب فيتحول فيه إلى جمال وفتنة، وكأن معاني الحسن التي تتحير في خديه حقيقة إلهية تطل على النفوس من وراء الشفق. فيه عينان تنظران والله بروح تكاد تنطق ولا يفهم عنها إلا كأنها ناطقة. وتفيضان دلالاً وتفتراً فكأنما تلقيان على الروح فترة تحلم فيها من أحلام السماء وتستيقظ. وخدان تحير فيهما الجمال فوقف يتلفت عن يمين وشمال، وتراهما أسيلين بارزين، فيالله! هل هما ثديان صغيران من الورد يرضعان كفل الحب؟ قال: صديقي فكم بين هذا الوصف الساحر الدقيق العاطفي وبين وصف صاحبك الجاحظ المادي السطحي (وكأنها طاقة نرجس وكأنها ياسمينة)؟. إن هذه التشابيه على ما بها من جمال المادة والعطر واللون مادية لا ترسم حور العين وسحر الجفون ولا تصور تواثب النهود والحياة الكامنة في الخدود. أتدري لماذا؟ لأن لغة العواطف يا صاحبي غير لغة الورود، وتمايل الأغصان لا يشبهه تأدد القدود.
(حلب)
كمال الحريري
أي أسبانيا
للأديب حسين شوقي
أي أسبانيا! إني لأذرف دمعة صادقة على نكبتك لأنك وطني الثاني! ألم أقض طفولتي في ربوعك أثناء الحرب العالمية حينما نفي إليك والدي؟
أي أسبانيا! أصحيح أن الموت والدمار نزلاً بمدنك التي كانت رؤيتها بهجة للنفس ومتعة للنظر؟
أي أسبانيا! أصحيح أن المرء يستنشق رائحة البارود البغيضة من حقول بلنسية حيث كانت تعبق رائحة البرتقال؟
أصحيح أن يد الدمار قد امتدت إلى غرف الحمراء حيث مرحت الأميرات العربيات في شباب الدهر، بين أحضان الترف والنعيم؟
أصحيح أن كنائسك الفخمة قد أحرقت أو تهدمت، وكانت مقصد النبيلات الأسبانيات - أيام فتوح شارل الخامس وفيليب الثاني - للتضرع والصلاة، كي ترد إليهن أزواجهن من الحرب سالمين مظفرين؟. .
أي أسبانيا! أصحيح أن قومك الذين كانوا بالأمس مضرب الأمثال في اللطف والدعة وإكرام الضيف والترحيب بالغريب جن جنونهم بغتة، كأنهم أصيبوا بداء الصرع، فأخذوا يقتلون يمنة ويسرة؟
أصحيح أن قلوبهم غلظت إلى حد أنهم يقطعون أيدي الحسان الناعمة كي يلبسوها حليها، تلك الأيدي التي ما خلقت إلا للتدليل والتقبيل؟
أصحيح أنهم سئموا مصارعة الثيران فاستبدلوا بها الأنفس البشرية؟
أي أسبانيا! أين كانت كامنة هذه القسوة؟
بل من أين هبطت عليك؟
إن بعض الكتاب الغربيين ينسبها إلى الدم العربي الذي يجري في عروق الأسبان اليوم، ولكن الله يشهد أن هذا الدم بريء، لأنه دم أموي نبيل! إن أسلافنا العرب الذين استوطنوا الأندلس كانوا أبطالاً ولم يكونوا أنذالاً، إنهم لم يقتلوا العجزة والأطفال والنساء!
بل إن العرب فقدوا ثمار فتوحهم العظيمة بما كانوا يبدون من الحلم المتناهي إزاء الشعوب
المغلوبة! ألم يتركوا لها حرية العقائد والعادات، وكتفين بأخذ الجزية؟
إذن ما مصدر هذه القسوة؟
إن (أنامونو) الفيلسوف الأسباني الشهير الذي توفي أخيراً ينسبها إلى دم النور (بفتح الواو) المنتشرين بكثرة في ربوع أسبانيا، وبخاصة في الجنوب، لأن هؤلاء القوم لهم - على حد زعمه - غرائز بعيدة عن المجتمع، بل وحشية. ومما يؤيد قوله هذا ما حدث في برشلونة من أعمال القتل والحرق والسلب فقد قام بمعظمها عمال من الجنوب لم يستوطنوا برشلونة إلا في السنوات الأخيرة. . .
أي أسبانيا! أصحيح أن حسانك قد مللن أقنعة رؤوسهن الجميلة من (الدانتلا) والمعروف (بالمانتليا) ففضلن عليها خوذة الجند الحديدية؟
أصحيح أنهن حطمن بأيديهن تماثيل العذراء التي طالما توسلن إليها كي ترقق لهن قلب العاشق النافر؟
أصحيح أنهن أصبحن يقتلن بالحديد والنار بعدما قتلن زمناً بسهام اللواحظ وحد الجفون؟
أصحيح أنهن سئمن أناشيد الحب فأخذن يحرضن خطابهن الرشيقين ذوي العيون العربية البراقة على الذهاب إلى ساحات الموت؟
أي أسبانيا! أصحيح أن قومك يهدمون مآثر ماضيهم المجيد بزعم التقدم والرقي؟
رب! كيف تمحى قرون متتابعة من العز والفخار؟ هل من المدنية أن تدفن المتاحف وتنسف الآثار؟
ألا ينظرون إلى حسرة أبناء العالم الجديد لافتقارهم إلى الآثار وهم قدوة المدنية والتقدم؟
ألا يرون كيف ينقل هؤلاء القوم الكنائس والقصور الأثرية من أوربا، حجراً حجراً، لإعادة تركيبها في بلادهم، رغم ما يكلفهم عملهم هذا من جهد ومال؟
أي سرفانتس! هلا تركت ضجعتك الهنيئة الأبدية لحظة لتشاهد مقدار عبث قومك؟
أي سرفانتس! إن صاحبك (دون كيخوت) لأقل جنوناً من هؤلاء القوم جميعاً إذ جنونه برئ لا يتعدى مهاجمة الخراف والطواحين، أما هؤلاء فلا يهدأ لهم بال إلا بقتل الأطفال والنساء والإخوان من بني جلدتهم!
(كرمة ابن هانيء)
حسين شوقي
رسالة الشعر
هياكل بعلبك
للأستاذ أمجد الطرابلسي
وأجل من حللِ الغبيّ ووشيه
…
خِرَق على الأبطالِ أو أسمال
أطلالُ! ما البنيانُ يا أطلالُ؟
…
فَنِيَتْ على ضُحاتِكِ الأجيالُ!
هَزِئَتْ رمامُكِ بالزمانِ وصرفهِ
…
ما تفعلُ النكباتُ والأهوالُ؟
يفنى الزمان جديدُهُ وجميلهُ
…
وعلى حطامِكِ بسمةٌ وجمالُ
إن الخلود يَفرُّ من سطواتهِ
…
عادي الردى وتباعَدُ الآجالُ
لا يَقحمُ النّكسُ المُروِّعُ غابةً
…
تختال في جنباتها الأشبالُ
يا غادة الماضي البعيد تَبَختَري!
…
إن العصورَ هوادِجٌ وحِجال
تيهي على الدنيا فإنكِ أختها
…
والسّحْرُ بينكما الزمانَ سِجال
وتخايلي مِلَء العيون، مليكهً
…
تعنو لها الأملاكُ والأقيال
فَلَصَولجانُكِ يا مليكةُ صفعةٌ
…
يخزي بها المتكبر المختال
هاتي حديثَكِ بَعلَبَكُّ أو اصمتي!
…
إن الزمان محدِّثٌ قوّال
تتكلم الآبادُ فيكِ مبينةً
…
وتخيرُ الأعصارُ والأجيالُ
هذي الرسمُ وهي الزمان وما وهت
…
وقضى البُناةُ الظالمون ودالوا
مازال يدهمها الزلزال بعدهم
…
حتى ارتضى بالخَيبَةِ الزلزال
ماذا يضيركِ أَن وَهَت وتمايلت
…
عَمَدٌ ودالت دولةٌ ورجال
إن الخلود على جبينكِ مشرقُ
…
ونصيبُكِ التقديسُ والإجلالُ
وأجلُّ من حُللِ الغبيِّ ووَشيهِ
…
خِرَقٌ على الأبطال أو أسمال!
يا بعلبكُّ! وقفتُ فيكِ كأنني
…
وصحابتي بين الطلولِ رمالُ
نرنو إلى الرِّئبالِ وهو من الصفا
…
فيكادُ يُفزِعنا بكِ الرئبالُ
ونحدّثُ الأطلالَ وهي طريحةُ
…
فتكادُ تنطقُ مثلَنا الأطلالُ
نتسلَّقُ العمَدَ المنيفةَ مثلما
…
تتسلّق الصَّخَر الأشمَّ نِمالُ
فنُطلُّ منها فوق سفرٍ زاخرٍ
…
أسطارُه الأعصارُ لا الأقوال
نتلو صحائفَهُ وملء برودنا
…
عُجبُ العجيبِ، وفيمَ لا نختال؟
أقدامنا فوق الزمان قَريرةٌ
…
ولنا الهيكِلُ والبُعولُ نِعالُ
نختالُ في ذُرُواتِها فتسُبنا
…
عُصُرٌ تكنّفها الظلامُ طوالُ
يا أيُّها العاتون! بعض عُتوِّكم
…
إن الزمانَ مخادعٌ ختّال!
أرأيتمُ لَعِبَ الصّروفِ وهدمَها
…
ما يرفعُ الإرهاقُ والإذلال؟
هذي النِّعالُ تدوسُ وهي فخورةٌ
…
ما شادتِ الأصفادُ والأغلال!
تلكَ الأوابدُ كم أهِلَّ لها دمٌ
…
وسقى ثراها مَدمَعٌ هَطَّالُ
كم ذلّتِ الأملاكُ في أعتابها
…
وجَثَت على أقدامِها الأبطالُ
واليومَ نَمرَحُ نحنُ في هاماتِها
…
يا للمَشيب تُهينُهُ الأطفالُ!
يا للفنونِ الخالداتِ تَدوسُها
…
وتُذِلها المجَّانُ والجُهَّالُ!
عفواً هيكِلَ بعلبكّ! فإنما
…
هذا الزمانُ وصَرْفُهُ أحوالُ
صبْراً على عبَثِ الزمان! فربما
…
رقصت على جُثث الأسود سخال
كنّا نجوسُك ساخرين وربما
…
أقعى لكِ الجبّارُ والصَّوَّالُ
كم ذلَّتِ الأدغالُ بعدَ لُيوثِها
…
ولقد تُهابُ لأسدِها الأدغال
جوبتيرُ! أين جبارٌ لك شيدوا
…
ما لا يزول على الزمان وزالوا؟
بذلت لهيكلك الرفيع نفوسهم
…
ودمائهم، وأُهينتِ الأموال
أَرضيتَ أن تُبنى القُصورُ من الأذى
…
لك أو يخضَّبَ بالدم التِّمثَالُ
عبدوكَ فاستعْبدتهم، وتمزَّقت
…
في ظلِّكَ العُبدانُ والعُمّالُ
تلك العُبوديَّاتُ من آثارها
…
هذي الصُّروحُ كأنها الأجْبالُ
نحتتْ بأصفادِ العبيد صخورُها
…
وعلى العُناةِ أقيمتِ الأثقال
لا كنتِ يا آثارُ! إنكِ طعنةٌ
…
في كلِّ قلبٍ شاعرٍ ونصلُ
عبدوا بكِ الشمسَ المنيرةَ في الضحى
…
والشمسُ خيرٌ كلَّها وجَمال
خَشَعتْ لها منذُ القديم مَعاشرٌ
…
شغَفتهُمُ الأنوارُ والأظلالُ
فَلئن يَعبدكِ الناسُ أو يستهزِئوا
…
فاليومَ معبودُ الأنامِ المالُ
كم تُحْرقُ الأبناءُ قُرْباناً لهُ
…
وتُذبَّحُ الأعمامُ والأخوالُ
أغلى من الخُلُق المُكَرَّم دِرْهَمُ
…
وأجلُّ من أعلى العُلى مِثقالُ
(باخوسُ) يا رَبَّ الكؤوسِ! وكم عَنا
…
لمُجونكَ المُتزمِّتُ المفضالُ
هذي الكروم تكادُ وهْي نحيتةٌ
…
يُصْبي العُقولَ رَحيقُها السَّلسَالُ
يا ليتَ شِعريَ ألهّوك فهلْ رأوا
…
كيفَ استبدَّتْ خمرُك الجِريالُ
شادوا لكَ الصَّرْحَ الأشمَّ تَجِلّةً
…
وجَثا لكَ النُّسَّاكُ والضُّلاّلُ
وبنوا لِفينوس جِوارك معْبداً
…
يختالُ فيهِ الحُسْنُ والإدلالُ
صُوَرُ الهوى المعسولِ ملءُ رحابهِ
…
والجوُّ حُبٌّ كلُّه ووِصال
يا أمَّةَ الرُّومانِ! مازالَ الوَرى
…
يَسبيه كُوبٌ مُترَعٌ ودلال
في كلِّ قلبٍ للمحاسِن مَعْبدٌ
…
تأوى الجراحُ إليهِ ةالآمالُ
لكنّما ذهَبتْ مُلوكُكِ في الهوى
…
سِيَراً تدارُ كُؤوسُها وتُجَالُ
(أنطونيو) ملءُ الخمائِلِ حبُّهُ
…
و (سِزَار) كم ضُربَتْ به الأمثال
مَلِكان صاغَهما الغرامُ قصائداً
…
تَشدو بها الأسحارُ والآصال
بِنتَ الخلود! أما سَئِمْتِ جراحَهُ؟
…
إن الخلودَ سآمةٌ ومَلال!
إني لأسمعُ من صَفاكِ صُراخَهُ
…
وكأنهُ التَّنْعابُ والإعوالُ
ماذا عرَفْتِ من الحياةِ، وإنما
…
سرُّ الحياةِ تعاقُبٌ وزَوالُ؟!
ويل لمفجوعٍ يرى أحبابَهُ
…
يترَحَّلون ومالَه تَرحال!!
تنتابُهُ من بعدهمْ أطيافُهمْ
…
والذكرياتُ عواصفُ ونبال
أوَ تذْكرينَ (أبا عبيدة) غازياً
…
من حولِهِ الفرسانُ والنُّبَّالُ؟
تتبخترُ الجُرْدُ الضّوامرُ تحتهُمْ
…
نَشْوى يُصَعِّرُ جيدَها الإدلال
تزْهو على الأرض الفخور بحمْلها
…
عَزَّت وعَزَّت فوقها الأحمال!
رَكْبٌ تحفُّ به الملائكُ هُتَّفاً
…
وتحوطُهُ بقلوبها الأجْيالُ
أرَأيتِ أشرَفَ فاتحاً، سارَ الهدى
…
في ركْبهِ واليمنُ والإقبالُ؟
أعلمت. . .؟ مالى والسؤال فربما
…
نكأ الجراحَ الداملاتِ شؤال!!
أمجد الطرابلسي
إلى عصفورة
للأستاذ خليل هنداوي
حلِّقي، حلقي! لك الجو مهد
…
والسماوات، والمعي كالشهاب
رجعي ما أردت شدوكِ حتى
…
يسكر الكون بالغناء المذاب
أنا لا أستطيع يوماً صعوداً
…
وجناحي مهشم الأسباب
أنا طير يدري السماء ويدري
…
ما يواري السحاب خلف السحاب
كلما هم لم يطعه جناح
…
أوهنت عزمه رياح الرغاب
كمحب سار الركاب بمن يهوى
…
ولكن هواه عند الركاب
أنا كالزهر أملأ الجو عطراً
…
وجذوري تعلقت بالتراب
رسالة الشباب
هلموا يا شباب!
كأن كلمة الشباب مقصورة الدلالة على الطلاب. كأن الذين هم في ربيع العمر من الموظفين والمحامين والأطباء والملاك لا يعنيهم الأمر إذا وجهت دعوة إلى الشباب. فقد دعت الرسالة الشباب إلى أن يديروا بينهم الرأي فيما يهيئ الأمة إلى العهد الجديد من توفير سلامة الجسم وتقريب وسائل الثقافة وترقية أساليب الإنتاج وتكوين رأي عام صحيح وصريح يتشاور في بناء الهيكل القومي على أساس الخلق والدين والعلم والتعاون، ويتجاوب في كل حادث بالصوت المتحد الذي ينبه الغافل ويحذر المغتر ويكون سياجاً للأمة من جمحات الأهواء وطغيان النفوس. تحرك هذه الدعوة الطيبة كرام الطلاب ثم شغلهم الاستعداد للامتحانات عن توسيع المناقشة فيها ودراسة الوسائل إليها، وانتظرنا من غيرهم أن يلجوا هذا الميدان الإصلاحي، أو يعملوا على تزويد الداخلين فيه، فلم نسمع صوتاً ولم نشعر بحركة، كأن أصحاب الوظائف وأرباب الأعمال يظنون أن واجبهم ينتهي عند عتبة الديوان، وأماهم يقف على باب المكتب؛ أما العمل التعاوني القومي فأمره بين شيوخ الحكومة وشباب الجامعة.
أنا أحد الذين حددت آمالهم وأعمالهم الوظيفة، ولكني أشعر أن الإنسان المثقف والوطني الصادق لا يسمح لنفسه أن يمثل في يقظة أمته فتور النعسان أو جمود الكسلان فيكتفي بقراءة الصحف في القهوة ومناقشة الأخبار في الطريق. المسألة مسألة تجنيد عام لمحاربة عوامل الضعف التي فشت فينا من تغير الزمان وفساد الحكم، فيجب أن يؤدي كل منا واجبه الوطني في الميدان الذي يستطيعه. والموظفون وهم ألصق الناس بالجمهور يستطيعون أن يؤدوا واجبهم على الوجه الأكمل فيرشدون الجاهل، ويعاونون المتعلم، ويضربون للناس الأمثال في إخلاص العمل وتقدير المسئولية وسلامة الضمير ومراعاة المصلحة. والذين يتصلون منهم بالفلاحين من أطباء ومهندسين ومعلمين يتسع أمامهم مجال الإصلاح فيكونون رسل سلام ودعاة خير وناشري ثقافة، فإلى إخواني الشباب والموظفين أوجه هذه الكلمة وأرجو أن يكون لها صدى في نقاباتنا وأنديتنا ومكتباتنا، يبلغ كل أذن ويهز كل قلب فنجيب دعوة الداعين ونعمل مع العاملين.
علي إسماعيل بالمالية
حول توجيه الشباب
إن أول واجب أشعر به هو تقديم وافر الشكر لصاحب الرسالة ومحرر رسالة الشباب فيها، وكل من ساهم ويساهم في تأدية هاته الرسالة السامية التي اضطلعت بأعبائها الثقال المجلة المحبوبة إلى جانب رسالة الأدب والعلم والفن التي قامت بتأديتها خير قيام. ونحن شديدو الإيمان بأن نصيبها من التوفيق في تأدية رسالة الشباب لن يكون أقل منه في غيرها إن شاء الله.
ولقد استرعى انتباهي - بصفة خاصة - هاته الكلمة التي ختم بها محرر رسالة الشباب صفحته في عدد سابق وكان عنوانها: (عبرة الشباب من حفلة التتويج). وإني وإن كنت من كارهي الحديث المعاد أشعر بدافع قوي يحملني على أن أعيد مغزاها على إخواني الشباب لا ليمتعوا أنفسهم بسلاسة أسلوبها أو جمال شاعريتها أو غير ذلك من ضروب الاستمتاع. بل ليجعلوها منهاجهم في كل عمل من أعمال الحياة.
ذلك المغزى أو العبرة، كما أرادها المحرر - والتي أريدها نبراساً للشباب هي: إن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لم يمنعها احتفاظها بالتقاليد من أن تكون أمة التجديد، واحترامها للدين من أن تكون أمة المدنية، وإخلاصها للملك من أن تكون أمة البرلمان والديموقراطية والدستور.
فأي عبرة هذه؟ بل أي عبر يمكن لشبابنا المثقف أن يتلقنها من حفلة تتويج ملك الإنجليز؟ وأي توجيه هذا الذي ينادي به أستاذنا عميد كلية الآداب لشباب مصر بعدما سمع بأخبار حفلة التتويج، وفهم منها ما فهم من محافظة الإنجليز على تقاليدهم واحترامهم لدينهم الذي هو مصدر الروحانية عندهم كما أن ديننا يجب أن يكون مصدر روحانيتنا؟
وحتى هذا المقال الأخير الذي قرأته لعميدنا الكبير في إحدى مجلاتنا تحت عنوان: (توجيه الشباب أيضاً) كنت أحس في مطالعته بارتياح عميق بل باغتباط لا شائبة فيه. ولكني لم أكد أتصفح هذا المقال وأكرر ذلك - عادتي في كل ما يكتبه كبار أدبائنا - حتى وجدت لساني يتطاول - على الرغم مني - باتهام عميد الأدب بعدم توفيقه المرة في معالجة شئون
الشباب. فليسمح لي سيدي الدكتور بهذه اللهجة الجافة التي لم أجد خيراً منها لمناقشة رسالته. فهي الصراحة لا تعرف المجاملة والحق لا يقوم على المداهنة.
ينادي عميد الأدب بأن يتجرد شباب مصر من روحانية الشرق التي هي لباب دينه، ليتجه بفكره صوب مادية الغرب ليغترف من تعاليمها الخير على ما يقول، فأي خير هذا الذي وجدته يا سيدي في مادية الغرب التي تحبها، وتؤمن بها وتنتظر منها الخير الكثير وقد فقدته في روحانية الشرق؟
أهذه المبادئ والمذاهب الخاطئة التي ينادي بها زعماء الغرب والتي تسير بأوربا نحو الهلاك السريع والتي بنيت على حب المادة والعمل للمادة وحدها؟ أم هذه النزعات والميول المتطرفة التي قلبت رسالة الإنسانية السامية إلى رسالة بهيمية وضيعة والتي سوف يجني الغرب ثمارها المرة الشائكة إن عاجلاً وإن آجلاً؟ أم هذا وذاك من مساخر الغرب ومساوئ ماديته؟
إن أحداً لا ينكر سير الغرب بخطى واسعة نحو الرقي والحضارة المزعومة في هذا العصر. ولكني كبير الشك في أن هذه الحضارة - التي سخرت للمادة وقامت على دعائم خالصة من المادية - تعمر أو تطول. وليست هذه الأحداث والمهازل - التي يعج بها المجتمع الغربي، ويستصرخ المصلحين لإنقاذه منها - إلا إحدى نتائج هذا الاتجاه المادي الصرف.
أما الحضارة الحق التي يؤمل من ورائها الخير، وينتظر لها البقاء، ويجب علينا أن ننير سبيل شبابنا إليها فهي تلك التي تأخذ ضرورتها من المادة إلى جانب حاجتها من الروح. وما تذوق الحياة جسد من غير روح. وهذه سنة الله في خلقه أنطق بها رسوله الأمين حيث قال:(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
وعندي أن هذا الحديث الشريف هو جماع دستور الفرد الذي ينشد الكمال من المجتمع الذي يرجو الصلاح. وتلك الإمبراطورية الإسلامية - التي بلغت حدود الهند والسند شرقاً والاطلنطيقي غرباً - قامت على أسس من الروحانية الشرقية التي ينكرها الدكتور ولا يرى فيها أي خير. . .
كامل بركات
من رسالة
. . . أما إن الشباب سيظل زيت النهضة المضيء المحترق فهذا مما لا شك فيه.
سلخنا من العمر ثمانية عشر عاماً هي ربيعه في نهضة شريفة سامية طامحة جامحة جريئة رزينة - نقنع بالحجة ونغرى بالعاطفة ونلهم الشعور ونحرك القلوب - فعزيز علينا ثم عزيز أن نسلم علم الجهاد وقد دافعنا عنه بالمهج والأرواح، فإلى الأمام نسير في كل فن وعلم بتجاريب السنين الماضية، أما الميدان السياسي فلن يضيق عن الجهود الوثابة التي اكتسبت من المحن خبرة ومن الشدائد عظة، وقد كان لنا فضل السبق في الإصلاح وهاهو ذا بنك مصر لا يزال شاهداً بما كان للشباب من قوة أثر في تعميره. بل إن طربوش القرش هو غرس الشباب.
فمن يوم أن قام الشباب قومته إلى الآن لا نجد أثراً عمرانياً أو أدبياً أو سياسياً إلا لمست فيه يد الشباب حادة قوية.
ومازال كل في طريقه شجاعاً في غير عنف، فخوراً في غير زهو، جريئاً يقول الحق ولا يهاب فيه الموت. وتلك كلها صفات اكتسبت من تعاليم سعد، وتغلغل أثر النهضة في نفوس تعطشت إلى الحرية فنالتها من يوم أن طلبتها.
حرية بعنا لأجلها نفوساً عزيزة علينا، ودستوراً قاومنا في سبيله كل من حدثته نفسه أن يكون عليه ظهيراً. وسنعرف بإذن الله كيف نحيطه بسياج من الأخلاق متين، غير منتظرين الوحي من الغرب؛ فالديموقراطية الشرقية مستمدة من وحيي الله ومن تعليم الأنبياء، فالمشورة كانت من صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما كان مستبداً حتى في إبان الحروب التي تتخذها الأمم الغربية كلها ذريعة لإعلان الأحكام العرفية. وإن كان بعض مشرعي الغرب يحذرون شعوبهم من اندفاع جارف يؤدي بهم إلى الفاشستية أو الشيوعية، فانا لا نزال بحمد الله بعيدين عن كل ذلك، فإن التأني البصير خير من الاندفاع الأعمى، وإن دستوراً راسخاً متين البنيان لذو أثر عظيم في تشييد صرح النهضة. فليطمئن الشيوخ، فلن يجدوا إلا شباباً مجرباً وثاباً دمه الحار بمثابة وقود لعقله المتزن.
م. س سليمان
البريد الأدبي
تقرير صحيفة ألمانية لأمة سامية
استقبلت مصر حين دخولها في عصبة الأمم في أواخر مايو الماضي بتحية إجماعية مؤثرة من اثنين وأربعين دولة بينهما اثنتان من الدول العظمى؛ وكان التقدير الذي لقيته مصر يقوم بالأخص على التنويه بمكانتها التاريخية، وعلى الدور العظيم الذي أدته في تكوين الحضارة اليونانية القديمة؛ ومن ثم في تكوين الحضارة الغربية بوجه عام؛ ولم تكن هذه المظاهرة الاجتماعية المؤثرة حديثاً أفلاطونياً فقط، ولكنها كانت إشارة بحقيقة تاريخية يستحيل على أوربا الحديثة تجاهلها، وفي الأسبوع الماضي نشرت جريدة (الأسبوع) الألمانية عدة صفحات خاصة بمصر وحضارتها القديمة، ثم استأنفت في عددها الصادر هذا الأسبوع فكتبت عدة صفحات أخرى واستطردت فيها إلى الإشادة بما لمصر من فضل على المدنية وما يرجى لها من مستقبل باهر، وهذه أول مرة في عهد ألمانيا النازية تقوم الصحف الألمانية بمثل هذه الإشادة بمقام أمة شرقية (سامية)، ولقد كان علماء الآثار الألمان في مقدمة علماء الغرب الذين عاونوا على اكتشاف الحضارة الفرعونية وعلى إظهار الدور العظيم الذي قام به الفراعنة في تكوين حضارة العالم، فلم تكن هذه الحقيقة بخافية يوماً على العلم الألماني. ولكن حدث بعد ذلك أن اجتاحت الدعوة الهتلرية العلم الألماني كما اجتاحت كل شيء في حياة هذه الأمة العظيمة، وذاعت نظريات هتلر عن الشعوب الشرقية والشعوب السامية بوجه خاص.
فهذه الشعوب في نظر زعيم ألمانيا الجديدة، شعوب منحطة، هدامة للحضارة، غير أهل لإنشائها. ومصر أمة سامية شرقية، فهي طبقاً لإنجيل ألمانيا الجديد أمة منحطة هدامة للحضارة، لا تستحق أن ترتفع إلى مصاف الأمم (الآرية) وهي الشعوب التي يحق لها أن تستعبد الشعوب السامية وأن تخضعهالثقافتها. ولقد اعتبرت مصر في ألمانيا بعد ذلك بصفة رسمية دولة غير آرية لا يصح لأبنائها أن يختلطوا بالعنصر الآري، وكان لذلك فيما نذكر ضجة في العام الماضي. فهل نعتبر إقدام صحيفة ألمانية كبيرة على التنويه بحضارة أمة (سامية) كمصر دليلاً على تطور هذه النظرية النازية المجحفة؟ إن الصحافة الألمانية تخضع في كل ما تكتب لرقابة حكومية صارمة؛ فإذا كان يسمح لها الآن أن تنوه بمركز
أمة (غير آرية) في إنشاء الحضارة العالمية، فإنه يسمح لنا إن نعتقد أن التفكير الألماني قد أخذ يتحرر من بعض النظريات المفرقة التي أذاعها كتاب (كفاحي)، وهي نظريات ليس لها في الغالب سند من التاريخ الحق أو التدليل الصائب.
كتاب عن تاليران
عرف تاليران الوزير الفرنسي الشهير بأنه نموذج للسياسي الداهية الذي لا يعرف في سبيل تحقيق سياسته مبدأ ولا ذمماً، وأضحى اسمه علماً على السياسة القادرة المتقلبة، بيد أن للتاريخ دورته وتطوراته؛ فإذا كان التاريخ قد رأى في تاليران من قبل سياسياً غادراً متقلباً، فقد يرى فيه اليوم رأياً آخر. وهذا الرأي الجديد عن شخصية تاليران وعن سياسته يقدمه إلينا وزير إنكليزي هو مستر دوف كوبر في بحث تاريخي جليل صدر أخيراً بعنوان (تاليران) والواقع أن حياة تاليران العجيبة تستحق الدرس؛ فقد خرج من الكنيسة إلى السياسة، وخدم لويس الخامس عشر، فلويس السادس عشر، فالمؤتمر الوطني والثورة الفرنسية، فنابليون بونابرت في جميع أطوار حكمه، ثم لويس الثامن عشر، وشارل السابع، وأخيراً لويس فيليب؛ وهكذا وضع تاليران مواهبه تحت تصرف أنظمة وحكومات مختلفة؛ ولم يحجم في أي ظرف عن أن يتخلى عن حكومة أفل نجمها لتأييد حكومة جديدة، ولم ير بأساً من أن يخون عرشاً على وشك السقوط لخدمة عرش تألق نجمه؛ فهذا التقلب الغادر هو الذي يأخذه المؤرخون الفرنسيون على تاليران، ويرون فيه سفالة أخلاقية لا تغتفر؛ ولكن الوزير الإنكليزي يرى في كتابه الجديد رأياً آخر؛ فهو يرى أن تاليران كان مثل السياسي العملي البارع؛ وهو يقدم لنا عنه هذه الصورة القوية: (إن للفرنسيين ذاكرة بعيدة؛ والسياسة في نظرهم هي استمرار التاريخ. والكتاب الفرنسيون ينتمون إلى مختلف الأحزاب والنحل: فهم ملكيون أو جمهوريون أو بونابارتيون. أما تاليران فلم يخلص لناحية خاصة من هذه. ولهذا لم يجد قط مدافعاً عنه في فرنسا. ومع ذلك فليس للفرنسيين أن ينحوا عليه باللوم؛ ذلك لأن تقلباته كانت تبذل في سبيل فرنسا كلها، وهو يصرح بحق أنه لم يتآمر قط إلا حينما يندمج معظم مواطنيه في سلك المؤامرة. وقد هلل كباقي الفرنسيين لمثل الثورة الفرنسية واعتقد في ضرورتها. ولكنه كباقي فرنسا سخط على حكم الإرهاب وخدم الحكومة المؤقتة وناصر نابليون كرسول النظام والسلم. بيد أنه كباقي فرنسا كان يبغض
الظلم، فلما سئم من الحروب عاد يسعى إلى إعادة البوربون. ولما رأى استحالة العمل مع شارل العاشر، اتجه نحو لويس فيليب، وقد كانت مثله التي لم يحد عنها قط الملكية الدستورية، وتأييد النظام والحرية في فرنسا. والسلام في أوربا، والتحالف مع إنكلترا).
وقد انتهى الوزير الإنكليزي إلى هذا الرأي بعد البحث واستقراء الوثائق التاريخية الهامة؛ وهو يستعرض كل أعمال تاليران وتقلباته ويشرحها على ضوء الحوادث والأشخاص؛ وهو يجنح إلى العطف في معظم تعليقاته؛ ومن رأيه أن تاليران كان من أعظم الساسة الذين عرفهم العالم، وأن تقلباته المزعومة لم تكن إلا نوعاً من السياسة العملية التي يقدرها الإنكليز قدرها، وأنه كان يتمتع بصفات باهرة جعلت منه أقدر سياسي في عصره.
ونحن إذا قلبنا صحف تاريخنا وجدنا لدينا قرين تاليران؛ ذلك هو السياسي الفيلسوف ابن خلدون؛ فهو أشبه الناس بتاليران في خدمة الحكومات المختلفة، وفي الأخذ بقواعد السياسة العملية، وفي تقلباته مع الظافرين.
من نفائس أوراق البردي
تحتفظ مكتبة فينا الوطنية بمجموعة من أوراق البردي المصرية القديمة، ومنها خمسة أوراق ظهر من فحصها ودراستها أنها جزء من التوراة، وأن هذه التوراة المخطوطة هي أقدم توراة وجدت حتى الآن. وقصة هذه التحفة الأثرية هي كقصة جميع التحف التي تتسرب من مصر إلى الخارج بانتظام؛ وهي أنه في سنة 1930 اشترى بعضهم لحساب مكتبة (فينا) عدة من أوراق البردي من أحد تجار العاديات في القاهرة؛ ولما أظهر البحث أنها قسم من التوراة سئل التاجر المذكور عما إذا كان يمتلك أوراقاً أخرى من هذا النوع فذكر أنه باع مجموعة أخرى منها إلى أحد اليهود المشهورين وهو مستر شستربيتي. ولم يمض على ذلك قليل حتى أذاعت الدوائر الأثرية في لندن أنها قد حصلت على أقدمنسخة في العالم كله من العهد الجديد (الإنجيل)، وبه نص كامل لإنجيل متي، وأن هذه النسخة ترجع إلى منتصف القرن الثالث الميلادي. وتحتفظ فينا في الوقت نفسه بأقدم قطعة من أوراق البردي اليونانية، وبهذه الوثيقة نص كامل لقصة (فرار ارتميسيا) الشهيرة كذلك تحتفظ بأقدم ورقة من أوراق البردي اللاتينية، وهي وثيقة عسكرية ترجع إلى أيام الإمبراطور أوغسطوس أعني إلى القرن الأول من الميلاد غير أنه لا ريب أن أوراق
البردي المصرية القديمة من أثمن ما تحتفظ به العواصم الأوربية المختلفة، ومع أن مصر لا زالت تحتفظ منها بمجموعة ضخمة فإن أثمن ما فيها قد تسرب إلى الدوائر الأثرية الأجنبية في مختلف أنحاء العالم.
المكاتب العامة في فرنسا
قررت الحكومة الفرنسية تحقيقاً لأغراض سياستها الثقافية أن تعمل على تعميم المكاتب الشعبية بطرق وأساليب مغرية للقراءة والتثقيف. وقد رؤى أن تنظم هذه المكاتب في المدن المكتظة بطريقة خاصة، إذ تنشأ في مواقع مزهرة منيرة، وأن تعمل لها واجهات زجاجية تحلى بالصور ولأزهار والتحف، ثم تعرض فيها أحدث الكتب كما تفعل المكاتب التجارية؛ والمقصود بذلك التوصل إلى إغراء المارة من عمال وعاملات وطلبة أنهكهم العمل أو الطواف بدخول المكتبة وتمضية لحظات في القراءة أو تصفح الكتب والمجلات المصورة، وسيعنى بأن تعرض في هذه المكاتب جميع الصحف والمجلات من كل لون ونزعة سياسية، كما تعرض الكتب العلمية والروايات وغيرها ليكون هناك مجال للجميع كل حسب ذوقه ونزعته، كذلك ستنشأ في هذه المكتبات أجنحة خاصة للأطفال وتزود بطائفة من كتب الأحداث المصورة؛ بل واللعب والصور المختلفة.
المؤتمر الدولي لكتاب اللغة الفرنسية من الأجانب
افتتح يوم الثلاثاء الماضي في باريس المؤتمر الدولي لكتاب اللغة الفرنسية من الأجانب فألقى الأستاذ جورج قطاوي الأديب المصري خطبة جاء فيها:
في مقدمة الكتاب المصريين باللغة الفرنسية واصف غالي باشا وزير الخارجية المصرية وقد شرفنا بحضور اجتماعنا هذا. وجميع المصريين يقدرون عمله السياسي حق قدره، فالاستقلال الذي أحرزته مصر مكنها من دخول جامعة الأمم من عهد قريب مرجع الفضل فيه إلى الجهود الوطنية والتضحيات وهمة الذين جاهدوا إلى جانب سعد زغلول باشا وفي جملتهم واصف غالي لنيل الأمة المصرية مطالبها المشروعة. فالخطب التي ألقاها واصف غالي والنشرات التي أصدرها في أثناء الثورة المصرية تكاد تكون صدى لصوت دانتون أحد أعلام الثورة الفرنسية الكبرى. ومع اشتغال واصف غالي بالشئون السياسية لم يهمل
حرفة الأدب والبحوث التاريخية وقرض الشعر، فإن آثاره القلمية معدودة من محاسن النثر وعيون الشعر، وقد بين أن الغرب والنصرانية اقتبسا كثيراً من الحضارة الإسلامية. وأحيا ذكر شياطين الشعر العربي القديم والقصة العربية، ولم يسبقه في معالجة هذا الموضوع إلا المغفور له ثروت باشا أحد رؤساء الوزارة المصرية السابقين.
وما من أديب في مصر كلطفي السيد وطه حسين وأحمد ضيف ومنصور فهمي لم ينشر نبذاً باللغة الفرنسية على هامش مؤلفاته العربية النفيسة. ولو شئنا الإسهاب في هذا الموضوع لتمادى الكلام إلى مدى بعيد. وحسبنا أن نذكر أسماءهم. وأظن أن اسمي عدس وجوزيبوفتشي مستحقان أن يكونا في رأس جدول أسماء الذين نكرمهم، فإن كتابهما (جحا الساذج) قد بلغ بهما إلى أوج البلاغة، فقال عنه اوكتاف ميريو إنه لا يقل قيمة عن الكتب التي نسجت بردتها يراع ستندهال وفلوبير وتلستوي.
وقال إنه لم يدرك حقيقة الشرق إلا حينما قرأ كتاب (جحا الساذج)
وكتب أحمد ضيف بالاشتراك مع فرنسوا بون جان قصة (منصور) وغيرها فوصف الأول محاسن الريف المصري ومعيشة النوتية في النيل ومرفأ الإسكندرية، واشترك معه بون جان في وصف جامعة الأزهر.
وفي جملة الذين عالجوا محاسن مصر القديمة التركية أحمد راسم فإن نثره الشعري يحكي بسلاسته وابتكاره ما نراه في شعر فرنسيس جام، وفي كتابة أحمد راسم تكثر النكتة والتعابير الشعرية والأمثال العلمية. وقد عالج تحليل قصائد الشعراء المصريين باللغة الفرنسية، وسيتسنى لكم الإطلاع على تراجم هؤلاء الشعراء في الديوان الذي يعده في القاهرة المسيو روبرت بلوم الأديب الفرنسي الذي اختار مصر وطناً له.
ومن المؤلفين الذين لا يذهل راسم عن الإشادة بهم أمامكم شاعر أريد أن أسبقه إلى التنويه به وهو محمد ذو الفقار فإنه من أرقى شعراء مصر وأحسنهم ديباجة، ولكنه ينفر من الظهور والتبجح، وهو علاوة على تفوقه في الشعر يعد من المصورين البارعين. ويحب في غالب الأحيان أن يستر عواطفه الحقيقية بنكتة لطيفة أو بتهكم لاذع. وقد قال عنه أحد النقاد:
(أن الكلمات العادية في اللغة الفرنسية تتخذ إذا عالجها بقلمه طلاوة جديدة).
وأول من رفع الستار عن قصائد ذو الفقار وأعلنها للجمهور هو الكاتب المصري جورج دوماني بك، ولم يكن قبل ذلك قد اطلع عليها إلا خلصاؤه. أما جورج دوماني الذي استهوته السياسة والأعمال وشغلته عن عالم الأدب، فهو والحق يقال من أدق النقادين نظراً وألذعهم قلماً. فالمواهب التي يسخرها لتخليد ذكرى بعض زملائه وإظهار عبقرية البعض الآخر، تدل على أن نزوعه إلى النقد لم يضعف فيه قوة الشاعرية.
ومن عهد قريب صارت مصر تضيف إلى عداد شعرائها الذين ينظمون باللغة الفرنسية شاعرة جديدة هي السيدة قوت القلوب كريمة المغفور له عبد الرحيم الدمرداش باشا، فقد أصدرت رواية مطولة بعنوان (الحريم) أجادت في إنشائها كل الإجادة ونظم لها الكتاب الفرنسيون عقود الثناء عليها.
وإذا كانت الصداقة، الحقيقية وليدة اندغام بعض المتضادات والتقرب عن طريق المصاهرة فقد وجدت فرنسا ومصر لتتفاهما فعند طرفي حوض البحر الأبيض المتوسط لا تتخدش شواطئنا المتطرفة بخطوط منحرفة. وكأن شعبينا قد أعدا من الوجهتين الجغرافية والتاريخية لأن يكونا في ملتقى الطرق حيث تتواجه وتندغم الحضارات المتضادة. فباريس في الغرب تقوم بين العالم الجرماني والعالم اللاتيني بهمة تماثل المهمة التي تقوم بها الإسكندرية بين آسيا والعالم الأفريقي. ونجد في فرنسا كما نجد في مصر الفلاح المتعلق بالأرض وحراثتها، فاليسر لم يجرده من الميل إلى العمل ولا التعلق بأهداب الحرية ولا يسعى وراء الاقتصاد المحمود. وكان (بوسيه) يقول عن مصر الفرعونية: إن الأحوال الجوية المتساوية فيها دائماً تولي عقول أهلها متانة وثباتاً.
الكتب
غريب القرآن
لمحمد بن عزيز السجستاني المتوفى 450هـ
طبع المطبعة الرحمانية بالخرنفش بمصر
أنجزت المطبعة الرحمانية بالخرنفش بمصر طبع هذا الكتاب النفيس من تراثنا الأدبي بعد ما عهدت إلى الأستاذ الشيخ مصطفى عناني بك المفتش الأول بالمعاهد الدينية، تصحيحه وترقيمه، وضبط المهم من ألفاظه وتعليق حواشيه ومراجعته على أصوله؛ وقد اعتنى به ناشره عناية فائقة تناسب قيمة هذا الكتاب الجليل.
ونحن نحب أن نعرف هذا الكتاب إلى جمهور المتأدبين من قراء الرسالة لينتفعوا به ويستفيدوا منه؛ فهذا كتاب وضعه واضعه ليعين قارئ القرآن وسامعه على أن يفهم ما يشاء من آياته على وجه السرعة، غير مستعين بما كتب المفسرون لأنه ينشد الفهم العاجل أو لأنه لا يتسع صدره لفضول الكلام الذي يملأ كتب التفسير في إسهاب عجيب. ونحن الآن نسمع القرآن يتلى في (الراديو) أو يقرأ في المساجد والمآتم والبيوت، فنستمع إلى هذا الجرس الجميل في كتاب الله ونتابعه بإذن واعية وفكر يقظ وقلب مشوق؛ ثم يضايقنا أحياناً أن يقف الفكر عند آية أو كلمة من آية لا نستطيع أن نفهمها لطول العهد بما قرأنا من كتب التفسير، أو لبعدها عن محيطنا اللغوي؛ في مثل هذه الحالة يعيننا كتاب (غريب القرآن) فيفسر لنا الكلمة الغريبة عنا في بساطة ووضوح تعيننا على فهم الآية كلها وتصل بين ما نسمع من آي الذكر الحكيم.
وعلى أنه مع ذلك قاموس صغير يعين اللغوي والكتاب والشاعر بما اجتمع فيه من كلمات قد لا نجدها فيما بين أيدينا من معاجم اللغة. ثم هو مرتب ترتيباً أبجدياً يدل على موضع الكلمة منه بسهولة وبغير كبير عناء.
لهذه الأسباب كان طبع هذا الكتاب خدمة كبرى أسديت إلى العربية يستحق ناشره من أجلها الشكر الجزيل.
وهذه هي الطبعة الثانية من الكتاب، وكانت طبعته الأولى منذ خمس عشرة سنة؛ على أن
ما لقيه الكتاب من رواج، وتقدير الأدباء والمتأدبين لقيمته العلمية والأدبية، قد حدا ببعض المرتزقة من تجار الكتب أن يعيدوا طبعه من غير إذن ناشره، فكان على عملهم طابع السرقة ودليلها، فجاء مطبوعهم مغلوطاً ناقصاً مشوهاً يسيء إلى الكتاب وقارئه أكثر مما يسيء إلى ناشره.
ولكن هذه الطبعة الجديدة بضبطها وتحقيقها والعناية بها قد أنستنا هذه السيئة التي أقدم عليها طابعه المغتصب، وردت إلى الكتاب قيمته العلمية الجليلة.
س
شرح الإيضاح
تأليف الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي
أتمت المطبعة المحمودية التجارية بالأزهر بمصر طبع الجزء الرابع من شرح الإيضاح في علوم البلاغة للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي، فتم به شرح كتاب الإيضاح للخطيب القزويني، وهو الكتاب الذي جمع فيه بين طريقة الإمام عبد القاهر الجرجاني، وطريقة الشيخ أبي يعقوب السكاكي، بعد أن هذب الطريقتين، وأبدع في ترتيب مسائل علوم البلاغة، فاستقام له بهذا طريقة ثالثة يلغ من حسنها أنها لا تزال قدوة المؤلفين في علوم البلاغة إلى يومنا هذا.
وقد شرح الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي في هذا الجزء علم البديع من كتاب الإيضاح، وسار فيه على طريقته في الأجزاء الثلاثة قبله؛ لا يعني إلا بشرح ما بهم من المسائل التي تكون من صميم هذه العلوم. فإذا فرغ من شرح المسألة عنى بشرح شواهدها وتكميلها وإيراد شواهد أخرى لها، وضرب بما سوى هذا عرض الحائط، وهو مما لا تزال المعاهد الدينية تشبث به، وترى أنه الميزة التي يمتاز بها الأزهري على غيره. ونرى نحن أن إصلاح العلوم في الأزهر لا يتم إلا بالقضاء على هذا الأسلوب الذي يبعدها عن تحقيق ثمراتها، وتلتوي به مسائلها على المعلم والطالب حتى ينتهي منها على مثل ما بدأ به فيها، وحتى لو شاء الاثنان أن يقضيا سنة في مسألة على هذا الأسلوب لقضياها في تحقيقها، وقد تضيق بهما عن غايتهما، ومن غريب أمر هذا الأسلوب أنك تتعب في تذليله ما تتعب حتى
تنتهي منه، فإذا عدت إليه بعد هذا بسنة أو شهر أو يوم كنت كأنك تحاول شيئاً لم تذلله من قبل، وأحوجك إلى مثل تعبك الأول أو أشق منه. فيا لله من هذا الأسلوب العويص الذي لا يذلل، ولله لهؤلاء المساكين الذين يشقون فيه هذا الشقاء بدون ثمرة نافعة!
ولا يفوتنا بعد هذا أن نذكر مثالاً من شرح الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي في هذا الجزء، ليعرف منه القارئ نوعاً من طريقته في شرح مسائل البلاغة، وهي طريقة يجمع فيها بين العلم والأدب، وتحقيق المسألة وإيراد الشاهد على نحو ما كان يفعل المتقدمون قبل شيوع الطريقة النظرية في تدوين هذه العلوم.
قال الخطيب في تعريف علم البيان (علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة).
فقال في شرحه: قد أخطار السبكي أن كل واحد من تطبيق الكلام على مقتضى الحال ومن الإيراد بطرق مختلفة ومن وجوه التحسين قد يوجد دون الآخرين، فلا يكون الأول عنده شرطاً في الثاني كما سبق في علم البيان، ولا يكون كل منهما شرطاً في الثالث كما هنا، ولكن الحق خلاف ذلك، لأنه لا قيمة لوجوه التحسين عند فقد المطابقة ووضوح الدلالة، ولا لوضوح الدلالة عند فقد المطابقة، ولهذا عد من عيوب الطباق قول الأخطل:
قلت المقام وناعب قال النوى
…
فعصيت قولي والمطاع غراب
لأن هذا من غث الكلام وبارده.
وكذا قول أبي تمام:
يوم أفاض جوى أغاض تعزياً
…
خاض الهوى بحري حجاك المزبد
لأنه جعل الحجى مزبداً، ولا يعرف عاقل يقول إن العقل يزبد، وكذلك خوض الهوى بحر التعزي من أبعد الاستعارات.
وإنا نهنئ الأستاذ الصعيدي بتمام شرحه على الإيضاح، وندعو الله أن يقويه على هذا العمل المتواصل.
(ص)
بغداد أو المدينة المدورة في عهد الخلافة العباسية
كان الأستاذ النبيه بشير يوسف فرنسيس قد أخرج في الصيف الماضي الجزء الأول من ترجمة كتاب (بغداد أو المدينة المدورة) لمؤلفه المستشرق الذائع الصيت الأستاذ (غن ليسترنج) وكنت في وقته قد كتبت كلمة في العدد (153) الصادر بتاريخ 8 حزيران 936 من مجلة (الرسالة) الغراء بينت فيها ما لفريق من علماء المشرقيات من الفضل الأكبر في إخراج الآثار القيمة والأسفار العظيمة، وقد وعدت القراء بنشر مقال أصف به الكتاب عند نشر الجزء الثاني، وهأنذا بعد أن تناولت الجزء الثاني - وهو المتمم للكتاب - من مؤلفه الفاضل أفي بوعدي فأقول كلمتي خدمة للحقيقة والتاريخ.
لقد بذل المؤلف في إخراج كتابه هذا جهوداً عظيمة لا تقدر بقدر حتى تمكن من إخراج كتابه إلى عالم المطبوعات بصورة متقنة مستنداً إلى أوثق المصادر التاريخية وأصدقها برهاناً وأقواها حجة، وإن هذا الكتاب لهو معجم جغرافي لمدينة بغداد وفروعها وشعباتها، ومحلاتها، وأزقتها، وشوارعها العامة والخاصة، وقبورها، وبيوتها، ودورها، وجسورها، وجميع مرافقها ومساجدها، ومعابدها، ومدارسها، ومعاهدها الدينية والعلمية منذ تأسيسها على عهد أبي جعفر المنصور المتوفى سنة (145هـ 762م) حتى انقراض الدولة العباسية بهجوم المغول على بغداد واستيلائهم عليها سنة (656هـ 1258م). نظرة بسيطة يلقيها القارئ على مقدمة الكتاب وثبت المصادر التاريخية التي استقى منها المؤلف وألف كتابه هذا تجعله يقدر ما لهذا السفر الجليل من القيمة التاريخية العظيمة التي خدم بها المؤلف العرب والعلوم التاريخية العربية، وبعد أن فرغ المؤلف من مقدمته دون الوقائع المهمة التاريخية منذ سنة (132هـ 750م) حتى سنة (640هـ 1242م) بجدول ذاكراً فيه اسم السنة واسم الخلفاء والحوادث والأبنية الحادثة والمؤرخين المعاصرين. ثم قسم الكتاب إلى أربعة وعشرين فصلاً بين فيها الحوادث الواقعة واحدة تلو الأخرى بصورة واضحة لا إشكال فيها ولا التباس، وقد وضح كثيراً من الحوادث في ثماني خرائط تبين موقع بغداد في مختلف القرون. وقد بلغت صفحات الكتاب ثلاثمائة واثنتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط.
وبعد فإن الجهود العظيمة والأعمال الجبارة التي قام بها المترجم الفاضل لم تكن بأقل أهمية مما بذله المؤلف من الجهود.
ويكفيه فخراً أنه بالرغم من أن التعليم مستغرق كل وقته فإنه اغتنم فرص الراحة والخلود إلى السكينة فآثر الخدمة العامة على النفع الخاص وثابر على جهاده في الترجمة وتعقيب الحوادث من مصادرها الأصلية - رغم ندورها في العراق - حتى أخرج ترجمته هذه إلى عالم المطبوعات بأحسن صورة وأبدع أسلوب. وإني لا يسعني هنا إلا أن أقدم التهاني القلبية للمترجم الفاضل، وأدعو إخوانه الشبان المتحمسين المخلصين إلى اقتفاء أثره والسير على منواله ليفيدوا بلادهم ويستفيدوا، فإن رجل الدنيا من أفاد واستفاد.
(بغداد)
إبراهيم الواعظ