الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 208
- بتاريخ: 28 - 06 - 1937
الضعف في اللغة العربية
للأستاذ أحمد أمين
رددت الجرائد والمجلات في هذه الأيام الشكوى من ضعف الطلبة وخريجي الجامعة في اللغة العربية - ولا شك أنها مسألة لا يصح أن تمر من غير أن يتداولها الكتاب بالشرح والتعليل، ويقلبوها على وجوهها المختلفة، حتى يصلوا إلى علاج حاسم.
أما إن الطلبة ضعاف جداً في اللغة العربية فأمر لا يحتاج إلى برهان. فأكثرهم لا يحسن أن يكتب أسطراً ولا أن يقرأ أسطراً من غير لحن فظيع يكاد يكون بعدد الكلمات التي يكتبها أو يقرؤها؛ وهم إذا خطبوا أو قرءوا أو كتبوا أو أدوا امتحاناً رأيت وسمعت ما يثير العجب ويبعث الأسف. وأما أن الضعف في اللغة العربية نكبة على البلاد فذلك أيضاً أمر في منتهى الوضوح، لا لآن اللغة العربية لغة البلاد والضعف فيها ضعف في القومية فقط، بل لأنها اللغة التي يعتمد عليها جمهور الأمة في ثقافتهم وتكوين عقليتهم؛ فاللغة الأجنبية التي يتعلمها طلاب المدارس الثانوية والعالية ليست هي عماد الثقافة، وليست هي التي تكون أكثر جزء في عقليتنا، إنما الذي يقوم بهذا كله هو اللغة العربية التي نتعلمها في الكتاتيب ورياض الأطفال، وندرس بها العلوم المختلفة في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية. فالضعف في اللغة العربية ضعف في الوسيلة والنتيجة معاً، على حين أن الضعف في اللغة الأجنبية في كثير من الأحيان ضعف في الوسيلة فقط، ولهذا أعتقد أن معلم اللغة العربية في المداس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب وأخطر تبعة، وبمقدار قوته وضعفه تتكون - إلى حد كبير - عقلية الأمة.
وبعد، فما هي الأسباب التي نشأ عنها هذا الضعف؟ أظن أنه يكفينا في هذا المقال الإجابة عن هذا السؤال وإرجاء الكلام في العلاج إلى مقال أو مقالات أُخر.
فعندي أن الأسباب ترجع إلى أمور ثلاثة: طبيعة اللغة العربية نفسها، والمعلم الذي يعلمها، والمكتبة العربية.
فأما طبيعة اللغة العربية فهي صعبة عسره إذا قيست - مثلاً باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. ويكفي للتدليل على صعوبتها ذكر بعض عوارضها: فهي - مثلاً - لغة معربة، تتعاور أواخرها الحركات من رفع ونصب وجر وجزم حسب العوامل المختلفة؛ ولا شك أن اللغة
المعربة أصعب من اللغة الموقوفة، أعني التي يلتزم آخرها شكلاً واحداً في جميع المواضع ومع جميع العوامل كاللغة الإنجليزية والفرنسية.
وهي صعبة كذلك من ناحية أن حروفها وحدها لا تدل على كيفية النطق بها، بل لابد لصحة النطق من الضبط بالحركات أو المرن الطويل، على عكس اللغات الأوربية التي تدل كتابتها على كيفية النطق بها في أكثر مواضعها، والضبط بالشكل عسير فلا نستعمله في الجرائد والمجلات ولا في أكثر الكتب الأدبية قديمها وحديثها.
وهي صعبة - أيضاً - من ناحية الاختلاف الكثير في الفعل الثلاثي، فله أشكال كثيرة لا يمكن إخضاعها لضوابط حاسمة، وكصيغ جموع التكسير فهي كثيرة وضوابطها قلما تطرد، وكنظام العدد والمعدود فإنه معقد تعقيداً شديداً حتى لا يجيده إلا الخاصة وأشباههم.
كل هذا ونحوه يجعل اللغة العربية صعبة المنال، وإتقانها يحتاج إلى مران كثير ومجهود كبير من المتعلم والمعلم.
ولست أعرض هذا لبيان ما إذا كانت هذه الأعراض مظهراً من مظاهر رقي اللغة أو ضعفها فان هذا لا يعنيني الآن، وأما الذي يعنيني فهو تقرير صعوبة اللغة العربية وحاجتها الشديدة إلى عناية كبرى لتذليل صعوباتها ورسم أقرب خطة للتغلب عليها حتى يحذقها المتعلم من أقرب سبيل.
فإذا نحن وصلنا إلى المعلم فقد وصلنا إلى نقطة شائكة، ذلك لأننا اعتدنا دائماً أن ننقل النقد في الأمور العامة إلى مسائل شخصية، ونحول الكلام في المبادئ العامة إلى فئات وأحزاب، ونسئ الظن بالناقد، فإن كان من فئة خاصة ظنوا أنه يدافع عن فئته وأنه يريد تنقص غيره، فهل يسمح لي المعلمون بأن أصارحهم القول مؤكداً أن لا غرض لي إلا الإخلاص للحق؟
إن كان كذلك فإني اصدقهم القول بأن جزءاً كبيراً من ضعف اللغة العربية يرجع إليهم. ولست أنكر أن منهم أفذاذاً نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ننشده، ولكن المنطق عودنا أن يكون حكمنا على الكثير الشائع لا على القليل النادر
فالحق أن دار العلوم والأزهر وكلية الآداب لم تستطع أن تخرج المعلمين الأكفاء الذين نتطلبهم والذين تتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها ومحاربة الضعف الفاشي
فيها.
فأما دار العلوم فقد تأسست، والذي دعا وزارة المعارف إلى إنشائها أنها أحست بعجز الأزهر عن أن يمدها بالمعلمين الصالحين لها، إذ رأت الأزهر تنقصه - إذ ذاك - الثقافة الحديثة والعلم بمناهج التربية والتعليم، وقد نجحت الوزارة في تحقيق هذا الغرض إلى حد كبير، وأخرجت رجالاً نهضوا باللغة العربية إلى حد ما، وأحسنوا التدريس على خير مما كان يدرسه الأزهريون، ولكن دار العلوم كانت سادَّة لحاجة الأمة في السنين الأولى من إنشائها، ثم تقدمت الأمة في ثقافتها ووقفت دار العلوم حيث كانت، فأصبحت لا تؤدي رسالتها كاملة، وأصبح خريج دار العلوم لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو في حاجة إليه، ولا له من المهارة في الوسائل ما يستطيع بها أن ينهض بالطلبة النهوض اللائق، ولا هو يساير الزمن في ثقافته حتى يخضع الطلبة لشخصيته القوية؛ ودليل ذلك أمور كثيرة: منها ضعف المكتبة العربية وهو ما سأبينه بعد؛ ومنها عجز معلمي اللغة العربية عن تشويق الجمهور والطلبة إلى القراءة العربية، حتى أنا نرى الناشئ لا يكاد يستطيع القراءة في الكتب الأجنبية حتى يهيم بها ويفضلها ألف مرة على المطالعة العربية؛ ومنها نظر الطلبة في صميم نفوسهم إلى أن اللغة العربية مادة ثانوية وأن وضعت في المناهج في أوائلها؛ ومنها أن الثقافة في الجمهور فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربي والمعلومات العامة التي تتصل بذلك ضعيفة إلى حد بعيد، والمسؤول عنها - كما أسلفنا - هم معلمو اللغة العربية لأنها لغة البلاد وعليها يعتمد في تكوين العقلية، إلى كثير من مثل هذه الأسباب.
وأما الأزهر من ناحية اللغة العربية فهو الآن وليد دار العلوم، والمشرف على تعليم اللغة العربية فيه هم خريجوها؛ فقصار أه أن يبلغ من الرقي ما بلغته مدرسة دار العلوم في تعليمها ونظمها ومناهجها حتى يحل محلها؛ ويكفي هذا برهاناً على أنه لا يحقق الغرض الذي نرمي إليه.
وأما قسم اللغة العربية في كلية الآداب فكذلك ناقص ضعيف، فهو يعلم طرق البحث الجامعي، وهذا يضطره إلى أن يتوسع في مسألة وأن يهمل مسائل، فلا يخرج الطالب دارساً لكل ما ينبغي أن يدرس. أضف إلى ذلك أنه يعتمد في طلبته على طائفة يخرج
أكثرها من المدارس الأميرية وحصلوا على شهادة الدراسة الثانوية، وهؤلاء لا يصلحون صلاحية تامة لدراسة اللغة العربية إلا بعد عهد طويل لا تكفي له سنو الدراسة الجامعية؛ ذلك أن اللغة العربية متصلة اتصالاً وثيقاً بالدين، ولا يمكن أن يحذقها ويستطيع أن يفهم كتبها القديمة إلا من بلغ درجة عالية في فهم القرآن والحديث والفقه وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي، والطلبة الذين تأخذهم الجامعة لهذا القسم لم يثقفوا هذه الثقافة، ولا تستطيع الجامعة أن تكمل هذا النقص مهما بذل المدرسون من الجهد، ومن أجل هذا ترى أن طلبته بينما يجيدون نهج البحث في المسائل إذ يقصرون تقصيراً معيباً في مسائل تعد في نظر ألا زهر ودار العلوم مسائل أولية وهي في الواقع كذلك.
إذن من الحق أن نقول إن المعاهد التي تدرس اللغة العربية في مصر تعجز عن إخراج المعلم الكف، ومن العجيب أن توجد هيئات ثلاث لتحضير معلمي اللغة العربية والبلد لا يحتاج إلا إلى هيئة واحدة؛ ثم كل هذه الهيئات معيب لتوزع قواها، ولو وجدت القوى في هيئة واحدة - ولا أتعرض الآن لبيان ما هي - لاستطاعت أن تخرج خير نموذج للمعلم، ولكن يعصف بهذه الفكرة الصالحة تعصب كل فئة لنفسها، فضاعت بذلك المصلحة العامة
ويتصل بأمر المعلمين مسائل كانت هي الأخرى سبباً في الضعف وهي مناهج الدراسة والامتحانات والتفتيش
فمناهج تدريس اللغة العربية متحجرة برغم ما يبدو من مدنيتها وأناقتها. خذ - مثلاً - منهج قواعد اللغة العربية والبلاغة تجد أنهما إلى الآن لا يزالان هما بعينيهما منهجي سيبويه والسكاكي على الرغم من زخرفتهما، فالتقسيم الذي قسمه سيبويه في النحو والتعاريف التي وضعها والمصطلحات التي ذكرها هي هي في كتب المدارس اليوم. وكل ما حدث حتى في الكتب التي ألفت منذ سنوات قليلة - هو ذكر الأمثلة الرشيقة وتبسيط الشرح، ولكن لم نبذل أي مجهود في معالجة النحو على أساس جديد كضم مسائل متعددة إلى أصل واحد حتى يسهل على الطالب فهمها وتحصيلها وكوضع مصطلحات جديدة أقرب إلى الفهم ونحو ذلك، وحسبنا دليلاً على ذلك ما نراه في أجروميات اللغات الحية الأخرى، فأجرومية اللغة الفرنسية أو الإنكليزية اليوم تخالف - في الجوهر - ما كانت عليه منذ عشرين سنة فضلاً عن قرن وقرنين
ومصيبتنا في البلاغة أعظم، فبرامجنا لا توحي بلاغة، ولا تربي ذوقاً؛ وإلا فقل لي بربك ماذا تفيد دراسة (الفصل والوصل) على هذا المنهج إلا تكرير مصطلحات فارغة ككمال الاتصال وكمال الانقطاع وشبه كمال الانقطاع وشبه كمال الاتصال؟ وأخبرني أي أديب يراعي ذلك عند كتابته، ومتى كانت هذه المصطلحات الفارغة وسيلة لرقي الذوق الأدبي؟
وليست برامجنا في الأدب بأقل سوءاً من هذين، فأنا نضع في البرنامج أول الآمر مسائل فلسفية وقواعد في النقد وتاريخ الأدب في العصور المختلفة قبل أن يلم الطالب بجمهرة كبيرة من الأدب يقرؤها ويحفظها ويتذوقها، وبذلك تقدم له نتائج من غير مقدمات، وتصعده على السطح من غير سلم
والذين يضعون البرامج يكلفون وضعها في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، وماذا على وزارة المعارف لو كلفت من يضع لها البرامج المستقبلة في سنتين أو أكثر على ألا توضع إلا بعد دراسة عميقة، ثم تنشر في الجرائد والمجلات وتتقبل الاعتراضات عليها ويعمل بالصالح منها، ثم تثبت الوزارة العمل بها عهداً طويلاً حتى تتم تجربتها؟
ثم الامتحانات أمرها غريب! فمع هذا الضعف الذي نسمعه في كل مكان، تظهر نتيجة الامتحانات في اللغة العربية باهرة، والسقوط فيها نادر! فشيء من شيئين: إما أن تكون الشكوى في غير محلها، وهذا ما لا يسلم به عاقل، أو تكون الامتحانات على غير وجهها، وهذا ما يقوله كل عاقل، وسبب هذا السوء في الامتحانات كثير، فنظريات النحو واسعة تحتمل أن يكون لكل خطأ تأويل من الصواب، ومنها عدم تقدير ورقة الامتحانات في جملتها حتى يصح أن يسقط الطالب إن أتى بخطأ شنيع في موضع ولو أصاب في مواضع أخرى، ومنها الرحمة والشفقة في التصحيح، وأؤكد أن لو زالت هذه الرحمة سنة من السنوات وأدرك الطالب ما تعامل به ورقته من الحزم في الامتحان لخدم هذا الموقف اللغة العربية في المدارس جملة سنين
ثم التفتيش؛ والمفتش معذور، فهو كالقاضي يطبق مواد القانون ولا يشرعها، فعليه أن ينظر كم موضوعاً إنشائياً كتبه الطلبة، وهل هذا يتناسب مع العدد المقرر في السنة، وهل ترك المدرس كلمة خطأ في كراسة الطالب من غير أن يصححها، وهل أساء المدرس إساءة كبرى فأستعمل كلمة (التيليفون) و (الراديو) أو على العموم استعمل كلمة ليست في
(القاموس المحيط) أو (لسان العرب) فأما هل نجح المدرس في تعليمه اللغة العربية لطلبته، وما الوسائل التي استعملها، وهل تقدم الطلبة في القراءة والكتابة فأمر في المنزلة الثانية؛ وأما ما ينبغي أن يدرس هنا أو لا يدرس. وما العوامل في الرقي باللغة العربية - على العموم - فأمر يرجع في الأغلب إلى المشرع لا إلى المفتش
نعود - بعد - إلى المسألة الأخيرة من أسباب ضعف اللغة العربية. وهي مسألة (المكتبة العربية) فالحق أنها مكتبة ضعيفة فاترة، هي مائدة ليست دسمة ولا شهية ولا متنوعة الألوان.
والحق أيضاً أن القائمين بإحضارها لم يجيدوا طهيها؛ فدار العلوم وقد أتى على إنشائها أكثر من خمسين عاماً وقد خرجت الألوف من أبنائها، هل أجادت في إخراج الكتب النافعة المختلفة الألوان والموضوع؟ أو هي قصرت كل التقصير فأخرجت من الكتب ما لا يتفق وعدد خريجيها ومنزلتهم في الحياة الاجتماعية والأدبية؟
والأزهر هو أقدم عهداً وأعرق أصلا لم يشترك في التأليف الحديث اشتراكاً جدياً، ولم يساهم بالقدر الذي كان يجب عليه، ولم يعرف عقلية الناس في العصر الحديث حتى يخرج لهم ما هم في أشد الحاجة إليه
وكلية الآداب - وأن قصر عهدها - لم تؤد رسالتها في هذا الموضوع كاملة، واتجهت أكثر ما اتجهت إلى الثقافة الخاصة لا العامة
فمكتبتنا في كل نواحيها ناقصة من ناحية الأطفال، ومن ناحية الجمهور، ومن ناحية المتعلمين. وحسبك أن تقوم بسياحة في مكتبة أفرنجية وأخرى في مكتبة عربية لترى الفرق الذي يحزنك ويبعث في نفسك الخجل والشعور بالتقصير
ماذا يقرأ الطفل في بيته وفي عطلته؟ وماذا تقرأ الفتاة في بيتها؟ وأين الروايات الراقية التي يصح أن نضعها في يد أبنائنا وبناتنا؟ وأين الكتب في الثقافة العامة التي تزيد بها معلومات الجمهور؟ وأين الأدب القديم المبسط؟ وأين الأدب الحديث المنشأ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يعرفها كل قارئ لمقالتي، وواضح أن اللغة لا ترقي بكتبها في قواعد النحو والصرف والبلاغة بمقدار ما ترقى بالكتب الأدبية ذوات الموضوع
سيقول المعلمون: وماذا نصنع وليس العيب عيبنا، فوزارة المعارف ترهقنا بالدروس
وترهقنا بنظام الكراسات وتصحيحها، وبنحو ذلك حتى لا نجد وقتاً لترقية نفوسنا والازدياد في معلوماتنا فضلاً عن المساهمة في تضخيم (المكتبة العربية) والمشاركة في إصلاح جوانب النقص منها
ذلك حق، ولكنه ليس ردا على ما أقول، فإني في هذا المقال أكتفي باستعراض الأدواء استعراضاً خاطفاً سريعاً ثم أعود بعد، إن شاء الله إلى ذكر ما يعن لي من طرق العلاج
وأياً ما كان فالموضوع جد خطير، وهو - كما قلت - جدير بأن يتناوله الكتاب بالبحث والتفكير والكتابة ومناقشة الآراء؛ وكل ما أرجوه هو ما أشرت إليه ألا تتحول المسألة إلى نزاع شخصي أو طائفي، فالأمر أهم من ذلك كله، وإلى الجحيم كل مسألة شخصية أو طائفية تقف في سبيل الخير العام
أحمد أمين
في الحب أيضا
وجواب بعض المسائل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يظهر أنني لم أحسن البيان فيما كتبته عن الحب والوقت الذي تكون فيه النفس احسن تهيؤاً له، فقد تلقيت رسائل من هنا وههنا، ومن مصر وغيرها من أقطار العرب، جملة ما استخلصته منها أني حمار طويل الأذنين، وأن لي نهيقاً عالياً ولكنه نهيق لا أكثر، وقد أكون كذلك فما أدري، ولو أني عرفت نفسي على حقيقتها لكان هذا حسي، وعزائي، إذا كنت هذا، قولُ رصيفي الفاضل أبن الرومي:
فيّ طبعٌ ملائكيُّ لديه
…
عازف صادف عن الإطراب
أو حمارية فمقدار حظي
…
شبعةٌ عنده بلا أتعاب
فبين الملائكية والحمارية هذه الجامعة - إن الملائكية تغري بالعزوف والزهد ترفعاً أو استنكافاً، أو لا أدري لماذا، فما ارتقيت قط إلى هذه المرتبة، وأن الحمارية تؤدي أيضاً إلى الزهد وإن كان هذا منها عن نقص الإدراك وعدم الشعور بالحاجة. ولا تعنيني الأسباب، وإنما تعنيني النتيجة وهي كما ترى واحدة والحمد لله، ولقد أطلت النظر إلى وجهي في المرآة لما وردتني هذه الرسائل ورفعت يدي إلى أذنيّ أتحسسهما ثم قلت لنفسي إن الحمارية طبيعية لا صورة، وارتددت عن المرآة ورأسي مثنىٌ على صدري وأذناي مسترخيتان - مجازاً.
وقال أحد الأفاضل الذين كتبوا إلي، إني لو قضيت يوماً على شاطئ البحر في الإسكندرية لأدركت أن الحب يجئ في وقت النشاط الجم لا الفتور كما زعمت، واعترف لي غير واحد أنهم أحبوا على الريق وذكر لي أحدهم أنه كان يلقي صاحبته كل صباح فأحبها، وقال ثان انه سمع صوتاً في الصباح فخيل إليه أنه يعرفه، فلما رآها عرف أن ذاكرته لم تخنه، وكان أن احب ذات الصوت الذي أيقضه من النوم، ولكن الله لم يكتب له الفوز بها. وذكر ثالث أن المرأة تتزين في كل وقت - في البيت وخارج البيت الخ الخ فما بي إلى الإطالة حاجة
لهذا قلت إني لم أحسن البيان، فما أردت أن أعين ساعة معلومة للحب في الصباح أو
الظهر أو العصر أو الليل، وإنما أردت أن أبين أن الحب - ككل مرض - تكون فرصته حين يكون الجسم متعباً قليلاً وأن كان المرء لا يدرك ذلك ولا يفطن إليه. وهذا التعب الخفيف لا وقت له، وما أكثر ما أصبحت برأس مصدع على الرغم من النوم ساعات طويلة فأضحك وأقول لزوجتي:(يا امرأة، هل رأيت أحداً قبلي يفطر على الأسبرين؟) فتسألني: (أبك حاجة إلى الأسبرين؟) فأقول: (نعم بي حاجة إليه. . إلى صيدلية كاملة من الأسبرين. . . ولكني سأحاول الاستغناء عنه، إنما أردت أن أبين لك أن زوجك أعجوبة. . الناس غيري يصبحون وريقهم يجري على الفول المدمس والبيض والقشدة واللبن والشاي والمربيات وما إلى ذلك، أما زوجك المحترم فلا يخطر على باله شيء من ذلك كل همه قرص من الأسبرين يعفيه من وقع هذه الفؤوس التي تحطم رأسه)
فتقول: (الذنب لك. . من قال لك أفعل ما فعلت البارحة؟)
فأقول: (يا ستي أن المهم الآن هو التسكين وبعد ذلك يصح أن يجيء دور الحساب. . . ثم إني لا أذكر ماذا كنت أصنع البارحة. . كلا. . لا يختلج في ذاكرتي شيء. .)
وأما صاحبنا الذي كان يرى فتاته كل صباح فأحبها، فأقول له أن هذا ليس من الحب على الريق وقد وقع لي ما وقع له، أيام كنت تلميذاً في المدرسة الخديوية، وكان بيتي في (البغالة) وطريقي إلى المدرسة من درب (الجماميز) وكنت أرى في كل صباح فتاة على وجهها النقاب الأبيض وحولها ذلك الإزار الأسود - وكان هذا هو اللباس الشائع في ذلك الزمان - ومعها خادمها يحمل لها كتبها ويتبعها ويحرسها، وهي ذاهبة إلى المدرسة السنية، وعائدة منها إلى البيت فكنا نلتقي كل يوم، واستملحت وجهها، وأعجبني قدها، فكنت أتعمد أن اقف على أول الطريق حتى أراها مقبلة وتكرر ذلك فصار عادة.
ومضت سنوات طويلات وأصبحت مدرساً، وإني لراكب مرة إلى الجيزة وإذا بي أرى أمامي فتاتي القديمة، ومعها طفلان فعرفتها، فما تغيرت عن العهد بها، ونظرت حولي فلم أر أحداً معها سوى هذين الطفلين فتشجعت وقلت لها:(اسمحي لي. . إننا صديقان قديمان إذا كانت ذاكرتك كذاكرتي. . هل تذكرين هذا الوجه الدميم الذي كنت لا أخجل أن ألقاك به كل صباح في شارع درب الجماميز وأنت ذاهبة إلى المدرسة؟)
فابتسمت وقالت: (أظن أني أذكره).
قلت - ويداي على طفليها -: (وهذان. . . المحروسان أهما اللذان كان يمكن أن يكونا ولدي؟).
ففهمت وهزت رأسها أن نعم، فقلت:(وتسمحين لي أن اقبلهما، إذ كنت لا أستطيع أن أقبل غيرهما؟)
فهزت رأسها مرة أخرى، فقبلتهما وقلت كالمعتذر:(اذكري أنهما كان يمكن أن يكونا لي)
وقصت عليّ قصة عجيبة، فقالت: إن جاراً لها أحبها وأن أباه أبى أن يزوجه قبل أن يفرغ من المدرسة، فحاول أن يتصل بها فلم يوفق، فأنتحر، فسألتها: أين كنت تسكنين؟) فذكرت لي أسم الشارع والحارة، فإذا الذي انتحر قريب لي!
وقلت لها: أما أنا وأنت فلم ننتحر. . . آثرنا أن نتزوج. . . أظن أن الأمرين سيان. . .)
فأنا أيضاً أحببت في الصباح، كما أحب الفاضل الذي كتب إلي، ولكن الحب لم يكن على الريق بل كان بتأثير العادة وفعلها.
وصاحبنا الذي سمع الصوت في الصباح فتذكره - هذا أيضاً لم يحبب على الريق وإنما استقيظت في نفسه ذكرى، ولو كانت هذه أول مرة يسمع فيها الصوت الحلو لاستغرب ولكان قصار أه أن يستعذبه وأن يشتاق أن يرى صاحبته، ولما منعه ذلك من أن يتثاءب ويمتطي ويشتهي ويعاود النوم.
بقيت الزينة وأظن أني قلت إن المرأة تحب أن تؤكد جمالها وتبرز مفاتنها بالزينة، وأنها لا تستطيع أن تهمل زينتها حين تخرج في أي وقت. فلا خلاف بيني وبين الناقد الفاضل فما أنكرت أن المرأة تطلب الزينة، لأن طبيعتها تقضي عليها بذلك حتى ولو كان الرجال لا يرتاحون إلى هذه المساحيق المختلفة الألوان. ولو ظللت تنهي المرأة عن ذلك طول العمر لما انتهت إلا إذا كانت هي تزهد في المحسنات من تلقاء نفسها أو تضطر إلى الزهد لمرض جلدي أو نحوه. وما أكثر من قلت لهن:(أين منديلك؟) فتخرجه وترينيه وتسألني: (ماذا تريد أن تصنع به؟) فأقول: (لست أحب أن أرى فمك الجميل كالطماطة المشقوقة، فهاتي المنديل لأمسح هذا الأحمر) فتأبى وتقاوم، فألح عليها وأقول:(ثم إن هناك داعياً آخر هو أن هذا الأحمر يحول دون التقبيل) فيكون هذا مغرياً لها بالإصرار على ترك الأحمر على شفتيها، على حين كنت أظن - لغروري - أني زهدتها فيه. .!!
وأحمد الله الذي أعفاني وأراحني من سخافة المساحيق، فأن زوجتي لا تتخذها، فليس في بيتي ذرة من الأحمر أو الأبيض. ومن القواعد المقررة عندنا أن على من تزورنا من قريباتنا أو من هنّ في حكمهن لتقض يوماً أو أياماً معنا، أن تجيء معها بمساحيقها، فلن تجد حتى ولا ما يُنْفَضُ على الوجه بعد حلاقة الذقن. وأحسب أن زوجتي اطمأنت إلى عجز فريستها عن النجاة فهي لا تعنى الآن بشيء من هذه المزينات. .
ولست مجنوناً حتى أقف على شاطئ البحر وأنظر إلى الفتيات الناهدات، الرشيقات، المشوقات، وهن يخرجن من الماء وقد لصق بأبدانهن القليل الذي عليها، فإني محتاج إلى عقلي كله، ولكني أحسب الفاضل الذي كتب إليّ يدعوني إلى ذلك، يدرك أن الأمر هنا أشبه بأن يكون أمر اشتهاء، لا حب، وخليق بالمرء وهو ينظر إلى هذه الفتنة المجتمعة، أن تدركه الحيرة، وأن يزوغ بصره، فلا يعود يدري أي هؤلاء الجميلات أولى بحبه، فأن لكل جسم فتنة، ولكل محيا سحره، ولو أني وقفت على البحر لكان الأرجح أن احب هؤلاء جميعاً، جملة، وأن أشتهي أن أضمهن كلهن في عناق واحد، فان الظلم قبيح، وأن نفسي لا تطاوعني على غمط الجمال في أية صورة من صوره، ومن يدري. . . لعل القدرة على أدراك معاني الجمال في مظاهره المختلفة هي التي وقتني الحب، ومنعت أن أعشق واحدة على الخصوص أجن بها.
ولكني لست واثقاً أن هذا كهذا، وأن كان يحلو لي أن أغرّ نفسي به، والأرجح إنها بلادة، وان جلدي سميك. . .
ويجب أن نفرق بين النشوة العارضة، والنشاط الصحيح وبين الإعجاب والحب؛ وأن ننسى كل ما علق بالحب من الحواشي الخيالية التي كان الفضل فيها لمبالغة الشعراء وهذيان المرضى، فليس الحب إلا مرضاً فالشأن فيه هو الشان في كل مرض. والمرء يصاب بالأمراض في حالتي الصحة والضعف ولكنه يكون أكثر تعرضاً للمرض في حالة الفتور الخفي الذي يضعف المقاومة، لأنه يغري بالاطمئنان على حين ينبغي الحذر، أو هو في حقيقته ضرب من الجوع كما قلت.
وفي الناس الشره المبطان، وفيهم القنوع الذي يكفيه اليسير الموجود. والجوع ضعف. والجائع لا يملك من القدرة على مقاومة الأغراء ما يملك الشبعان
هذا جواب بعض ما وردني من المسائل. وقد مللت الحب وذكره، ولم أكن أظن أن الكتابة فيه تثير كل هذه الضجة، قاتل الله الشعر والشعراء!!
إبراهيم عبد القادر المازني
جهاد شعب مصر في سبيل حقوقه في القرن الثامن
عشر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
ألف الأستاذ محمد كتاباً أسماه (سيرة السيد عمر مكرم) نتبع فيه تاريخ الحركة القومية في مصر منذ القرن الثامن عشر وتناول سيرة (السيد عمر مكرم) زعيم مصر إذ ذاك، وأوضح فيه سعي مصر إلى الحرية والاستقلال في فجر العصر الحديث، وبين أن الروح القومية والتطلع إلى الحرية كانا قويين منذ القرن الثامن عشر
والكتاب تحت الطبع، وسيظهر قريباً، وهذا الفصل الممتع من ذلك المؤلف القيم:
ولم يكن صوت المصريين داوياً في مجتمعات الديوان وحدها، بل كان للشعب منافذ أخرى يعبر بها عن أرادته ويردد منها شكواه ويرسم بواسطتها أمانيه ومثله العليا، فأن بعض المتكلمين من الوعاظ الذين كانوا يتعاقبون في تلك العصور كانوا بمثابة الصحفيين يعقدون مجالسهم في المساجد فيلقون فيها دروساً في معاني العدل وواجبات الحكام وحقوق المحكومين، ويدسون في خلال تلك الدروس نقدات للحكام لا يخشون منهم غضباً ولا يتوجسون منهم خوفاً، وكان بعض الحكام يضيق بنقدهم؛ ولكنهم كانوا في أغلب الأحوال يتركونهم آمنين أحراراً لا يقيدون ولا يعاقبون على ما يصدر عنهم من النقد. وكان نقدهم في كل الأحوال نقداً عالياً نبيلاً يقصدون به تصوير المثل الأعلى للحكم، ويدعون فيه إلى العدل وأداء الواجب. والعل أول من نبغ من هؤلاء الوعاظ هو الشيخ الحفني الذي كان يعاصر ملك مصر العظيم علي بك الكبير. وهو محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني الحسيني نسباً وكان زاهداً ورعا كريماً كثير البذل للفقراء. واتخذ سبيل الدعوة إلى الخير على طريقة صوفية اسمها الطريقة الخلوتية وكثر اتباعه واعتقد فيه الناس اعتقاداً كبيراً سواء في ذلك العامة والخاصة، حتى قال عنه الجبرتي صاحب (عجائب الآثار):(أنه كان قطب رحى الديار المصرية لا يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه ومشورته)، وكان لا يتردد في إبداء نصحه صريحاً قوياً وإن كره أهل الحكم رأيه وصراحته وكان الشيخ الحفني فوق هذا عضواً في ديوان الحكومة يمثل الشعب المصري مع جماعته من إخوانه تمثيلاً رائعاً، حتى كان علي بك الكبير على شدته وقوة ملكه لا يستطيع مقاومته ولا
معاداته. وكان في مناقشاته في الديوان لا يتردد أحياناً أن يهدد الحكام باسم الشعب إذا هم عمدوا إلى ما يسئ إليه أو يضر بمصلحته، فقد وقف مرة يناقش في ضرورة إرسال حملة حربية لإخضاع بعض الأمراء الخارجين في الصعيد. وكان رأيه أن تلك الحملات الحربية تضر بالناس وتعطل مصلحتهم، فلم يتردد في آخر خطبته القوية أن يصيح قائلاً:(والله لن نسمح أن يسافر أحد وإن سافرت الحملة فلن يحدث خير أبداً) ولما توفى الشيخ الحفني حل محله في زعامة النقد واعظ آخر وهو ابن النقيب السيد علي بن موسى الحسيني المقدسي، وعرف بابن النقيب لأن جدوده كانوا نقباء الأشراف في بيت المقدس. وكان واسع العلم يلقى دروساً في المسجد الحسيني في التفسير والفقه والحديث. وكان فوق ذلك كتاباً وأديباً حسن الأسلوب، وزاهداً لا يضن بشيء يملكه على سائليه.
ولهذا كانت له مكانة عظيمة في قلوب الناس. وكان فوق كل هذا فارساً ماهراً في فنون الحرب واستعمال السلاح واللعب بالرماح، فكان يجمع كل صفات النساك المحاربين الذين ينهجون نهج القاضي عيسى الهكاري الذي كان معاصراً لصلاح الدين الأيوبي واشترك معه في محاربة الصليبين.
وكان أهل مصر يعرفونه بالمحدث، ومع أنه كان محبوباً عند الأمراء ورجال الدولة لم يمتنع عن نقد ما كان يراه فيهم وفي أحكامهم من العيوب، وكان نقده أحياناً يبلغ حد المرارة والعنف، ولكن صدر هؤلاء الحكام لم يضق به، ولم يحدث له من وراء نقده أي ضرر. مع أنه ذهب مرة إلى القسطنطينية حوالي عام 1763 للميلاد فلم يسمح له بالبقاء طويلاً فيها لما عرف عنه من الصراحة في النقد، واضطر إلى العودة إلى مصر. وكان الأمير محمد بك أبو الذهب يرحب به ويوسع له في مجلسه مع ما يلقي منه من النقد، وكان يقابل نقده بالإحسان فوق التسامح، ومن ذلك أنه سأله مرة عن حاله، وكيف وجد عاصمة الخلافة في استانبول عند زيارته لها، فكان جوابه على ذلك قوله:(لم يبق باستانبول خير ولا بمصر كذلك خير، فلا يكرم بهما الأشرار الخلق) فلم يغضب الأمير من رده بل أرسل إليه بعد انصرافه من مجلسه هدية قدرها مائة ألف نصف فضة ليقضي بها ديونه ولينفق منها على الفقراء كعادته.
وقد عاصر هذا الواعظ الكبير شيخ آخر جليل كان ينهج مثل نهجه مع شيء من الاعتدال،
وهو الشيخ علي الصعيدي وكان معاصراً لملكي مصر العظيمين علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب. وبلغ من إكرام هذين الملكين له أنهما كانا إذا دخل عليهما أفسحا له وقبلا يده، ولم يردا له شفاعة، وكان كثير الشفاعة عندهما يتدخل لمصالح الناس. فكان من الدولة بمثابة النائب الشعبي الذي يسعى لمصالح الناس عند أهل الحكم. وكان الناس يلجأ ون إليه إذا ما مسهم ما يشكون منه، فيكتب شكواهم في ثبت ويدخل بها على الأمير فلا يخالفه في شيء مما يرجوه فيه، ولا ينقبض عنه، وكان يقول لمحمد بك أبي الذهب إذا وجد منه شيئاً من التردد:(لا تضجر ولا تأسف على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا، فإن الدنيا فانية وكلنا نموت ويوم القيامة يسألني الله عن تأخرنا عن نصحك؛ وها نحن قد نصحناك وخرجنا من العهدة). فإذا امتنع الأمير عن إجابة مطلب له صرخ وقال له: (اتق النار وعذاب جهنم) ثم يمسك بيده ويقول له: (أنا خائف على هذه اليد من النار).
وسنذكر فيما يأتي أسماء بعض زعماء الشعب الذين انتهجوا فيما بعد خطة أخرى غير النقد والنصح عندما تحولت مجاري الأمور في أيام مراد وإبراهيم. وحسبنا هنا أن نقول إن أمراء مصر في أثناء القرن الثامن عشر كانوا يحاولون بكل ما استطاعوا أن يكون حكمهم مرضياً عنه عند الشعب، وأن يكونوا في سياستهم موفقين إلى العدل فيهم بحسب عقلية عصرهم وأساليبه وكانوا يعملون على تقريب أهل العلم والأعيان والأدباء، ويشجعونهم على غشيان مجالسهم، فكانت مجالس علي بك الكبير تمتاز بوقار من يؤمها من العلماء الإجلاء، والزهاد الفضلاء. وكذلك كانت مجالس أبي الذهب من بعده، في حين كانت مجالس الأمير رضوان بعد ذلك مضرب الأمثال في البهجة الفنية والسمو الأدبي، حافل بأسماء تباهي بها مصر من الأدباء المبرزين الأعلام، وكان هذا التقريب عاملاً من أقوى العوامل على أيجاد روح من الود طالما ساعد على تبادل العطف بين الحاكم والمحكوم، وهو عطف كان يؤدي بغير شك إلى إصلاح الحكم والمحافظة على حقوق الناس وعواطفهم.
ولما تولى الطاغيتان إبراهيم ومراد؛ تغير الحال واختل الأمر ورأى الشعب أن لا بد له من انتهاج خطة جديدة للمحافظة على حرياته وحقوقه؛ فخطا خطوة جديدة لم يسبق له عهد بها، فإن الطاغيتين كانت تحيط بهما هالة من أهل الطاغوت، وهي عصبة للشر ما كانت تتنبه
إلى حق، ولا ترعوى عن غي، ورأى أهل مصر أنهم حيال نوع جديد من الحكم، لا تنفع فيه النصيحة ولا تستقيم معه الأمور على الشفاعة، ولم يكن للشعب بعد أن عجز عن النصح إلا ذلك الحق الطبيعي الذي للشعوب وهو أن يرغم الحكام على الإصلاح، وهكذا رأى أهل مصر إلا ملجأ لهم من طغيان إبراهيم ومراد، إلا أن يلجئوا إلى القوة والثورة.
بعد مضي سنة واحدة من حكم الطاغيتين، ثارت مسألة في خلاف على وقف، ولم يكن للمسألة في ذاتها خطر خاص، بل كان القصد منها نضالاً على مبدأ قانوني وهو: هل يجوز للأمير القوي أن يدل بقوته ويثور على القانون فيعصاه، أم لا بد له من الخضوع للقانون ولو كان خصمه ضعيفاً لا سند له من سلطان الدولة، وكانت الخصومة بين رجل من أفراد الشعب، وأمير من كبار الأمراء من عصبة الطغيان، واعتصم الرجل الضعيف بالشريعة فلجأ إلى القضاء، ولوح الأمير القوي بالقوة والبطش، وحكم الشرع للرجل الضعيف، فأبى الأمير الإذعان للحق؛ وأصبح الأمر معلقاً بين أن ينتصر القانون، وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة.
فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم - وهم ممثلو الشعب والطبقة المستنيرة منه - بالمحافظة على القانون والحق، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لنداء الواجب، وتصدر فيهم زعيم اسمه الشيخ الدردير، رحمه الله وطيب ثراه، فأرعد الأمير المدل وابرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، فوقف العلماء وثبتوا، وأرغوا وأزبدوا كذلك، وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم. وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم لينظروا مآل النضال بين الحق والقوة، وأوشك الأمر أن يؤدي إلى فوضى شاملة، لولا أن جزع عقلاء الأمراء من ذلك الاضطراب، وأشفقوا من تلك الحال فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فلاموه على وقفته، وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يدعوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فطلبوا أن تكتب لهم وثيقة بالحق المكتسب، وكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء، وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف.
وقد أثرت أمثال هذه الصيحة في الأمراء، فصاروا يخشون الشعب خشية عظيمة، حتى إنه عندما أشيع مجيء الحملة التركية لإصلاح الحكم في مدة مراد وإبراهيم بقيادة القبودان
حسن باشا، ذعر الطاغيتان خوفاً من أن ينتهز الشعب تلك الفرصة فيثور مظهراً ما في نفسه من الألم، فحاولوا التقرب إلى زعمائه، وقد وصف أحد من شهد ذلك العصر تذلل الأمراء بقوله:(فذهب إبراهيم بك إلى الشيخ البكري، ثم الشيخ العرومي والشيخ الدردير، وصار يبكي لهم وتصاغر في نفسه جداً وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية عن أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت، فانه كان يخاف ذلك جداً)
والحق أن شعب مصر كان عند ذلك قوى الإحساس بنفسه، وبما ينبغي له من الحرية، وما يجب له من الحقوق، لا يتهاون في إظهار ذلك الإحساس بشتى الوسائل كلما لاحت له فرصة، أو كلما حدث حادث يشتم منه رائحة الاستهانة بكرامته أو الاعتداء على حرماته. ولهذا كانت ثوراته تتوالى عند كل مناسبة، فما تكاد ثورة تهدأ في القاهرة حتى تشب أخت لها في رشيد، وما تكاد تلك تخبو حتى تبدأ أخرى في بلبيس، وكان بعض هذه الثورات يبدو عنيفاً كأنما هو ينذر بثورة شاملة كثورة فرنسا. ونحن إذا بحثنا حال فرنسا قبيل ثورتها لا نستطيع أن نرى من بوادر ثوران النفوس أكثر مما بدا في أواخر القرن الثامن عشر في مصر، فان فرنسا ظلت على ما كانت عليه من سوء الحكم، ومن العبث بالحريات إلى أواخر ذلك القرن؛ لا بل إن سوء الحكم فيها قد زاد في أواخر ذلك القرن عما كان في أواسطه، فكانت أفاعيل لويس الخامس عشر وخليلته المشؤومة في أواخر ذلك القرن جديرة بكل حنق وكل غيظ، ولكن الفرنسيين لم يثوروا عند ذلك، وإنما كانت ثورتهم في أيام الملك الطيب الذي جاء عقبه، أما في مصر فقد بدت تلك الثورات كالشرر المتطاير وما كان أقمنها أن تنتهي إما بثورة تامة كثورة فرنسا، وأما بإصلاح تدريجي شامل يتناول كل نظمها.
وأغلب ظننا أن حكام مصر ما كانوا ليسمحوا للأمور أن تتفاقم إلى أن تحرج الصدور وتدفع بها إلى الثورة المدمرة، فقد كانوا دائماً ينزلون عند إرادة الشعب بعد أن يروا غضبته، ويصلحون ما يشكوا منه من فساد، ويقومون ما يشير إليه من اعوجاج؛ وتكررت الأمثلة الدالة على ذلك
فريد أبو حديد
مصر في خاتمة القرن السابع عشر
كما رآها العلامة عبد الغني النابلسي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ليس في تاريخ مصر الإسلامية أغمض من العصر التركي بل نستطيع أن نقول إن ليل الإسلام وليل الأمم العربية والإسلامية كلها يبتدئ بابتداء العصر التركي. وبينما نرى تاريخ مصر الإسلامية زاهراً وضاء قبل الفتح التركي إذا الستار كثيف من الغموض والظلمات ينسدل من بعده على هذه العصور المجيدة، وإذا بالانحلال والفساد والفوضى تغمر ذلك المجتمع الزاهر الذي لبث قروناً يسطع خلال العصور الوسطى؛ وفي هذه المرحلة الغامضة المؤسية من تاريخ مصر لا نظفر بكثير من المواد أو المصادر التي تلقي كبير ضوء على المجتمع المصري، ولا يدون المؤرخ غير تعاقب الولاة الترك ولا يكاد يروي لنا شيئا من الأحداث العظيمة أو الحوادث الشائقة، اللهم إلا في أواخر هذا العصر، حينما تستيقظ الحركة القومية المصرية من سباتها الطويل، وينزع الزعماء المماليك إلى تحطيم نير الأجنبي، ثم تمهد الحملة الفرنسية لانهيار الحكم التركي، وبزوغ العصر الجديد.
بيد أننا نستطيع أن نتتبع أحوال المجتمع المصري في تلك المرحلة على يد جمهور من الأدباء والرحل الذين وفدوا على مصر في تلك العصور سواء من الشرق أو الغرب. وقد انتهت إلينا طائفة من مشاهداتهم التي دونوها في رحلاتهم، وهي وثائق لها قيمتها في الكشف عن بعض نواحي المجتمع المصري في هذا العصر؛ ثم هنالك أنفس آثار هذه المرحلة إطلاقا، وهي مذكرات الجبرتي التي تلقي أعظم ضياء على تاريخ مصر والمجتمع المصري في القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر.
وقد رأينا أن نستعرض مشاهدات أولئك الرحل كلما سنحت الفرص، وأن نستخرج من آثارهم ما يفيد في تعرف أحوال المجتمع المصري في تلك المرحلة، وسنبدأ اليوم باستعراض رحلة علامة وأديب دمشقي وفد على مصر في خاتمة القرن السابع عشر، وترك لنا عن رحلته بمصر أثراً يدون به بعض الملاحظات المفيدة عن المجتمع المصري في ذلك العصر.
ذلك الرحالة هو الفقيه والعلامة الصوفي الشهير عبد الغني النابلسي، وهو شخصية غريبة
تستحق الدرس؛ بيد أنا نكتفي هنا بترجمته بإيجاز، فهو عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني أبن إسماعيل بن أحمد النابلسي الحنفي الدمشقي النقشبندي القادري، وينعت بشيخ الإسلام وأستاذ الأساتذة؛ ولد بدمشق في سنة 1050 هـ (1640 م) ودرس القرآن والحديث والفقه والنحو، وقرأ على أعظم شيوخ العصر في دمشق، وانتظم منذ فتوته في الطريقة القادرية ثم الطريقة النقشبندية، وأنكب على قراءة الأدب الصوفي ولا سيما آثار محي الدين ابن العربي؛ وتولى التدريس حيناً بالجامع الأموي؛ وحمله تيار التصوف في شبابه إلى نوع من الشذوذ والهيام فلزم داره مدى أعوام، وأطلق شعره حتى تدلى على كتفيه، وأطلق أظافره، وصارت تعتريه نوبات من الذهول حتى ظن أنه جن؛ ورماه خصومه بالزندقة واشتدت الحملة عليه؛ ولكنه تغلب على خصومه، وضاعفت المحنة هيبته وشهرته؛ وكان مغرماً بالسياحة، فسافر إلى استانبول أو دار الخلافة كما كانت تسمى يومئذ، سنة 1075 هـ (1664 م) ومكث بها حيناً؛ ثم طاف بالشام وثغوره، ورحل بعد ذلك إلى مصر والحجاز؛ وانقطع للتدريس منذ سنة 1115 هـ، وهو في الخامسة والستين من عمره وأقام في أواخر حياته بالصالحية على مقربة من دمشق، وعلا قدره وطار صيته، وتوفي سنة 1143 هـ (1730 م) وقد أربى على التسعين من عمره، ودفن بالصالحية، وقبره يعتبر مزاراً يتبرك به إلى اليوم.
وكتب النابلسي عدة كبيرة من الكتب والرسائل في التفسير والحديث والفقه والتصوف؛ وقد اشتهر بالأخص ببديعيته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهي المسماة (نسمات الأسحار في مدح النبي المختار)؛ وله شرح لديوان ابن الفارض؛ ومنظومة في تاريخ ملوك بني عثمان؛ ودون رحلته عن الشام ومصر والحجاز في سفر كبير اسماه (الحقيقة والمجاز)؛ وبلغت مؤلفاته ورسائله أكثر من مائة، اشتهر الكثير منها في أنحاء العالم الإسلامي
كانت أمنية الحج باعث الرحلة الكبيرة التي قام بها عبد الغني النابلسي سنة 1105 هـ (1693 م) في الشام ومصر والحجاز؛ وهو يخصص لهذه الرحلة كما قدمنا سفراً خاصاً عنوانه (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز)، لدينا منه بدار الكتب نسخة خطية جميلة؛ وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، يخصص القسم الأول منه لرحلة الشام وفلسطين، والثاني للرحلة المصرية، والثالث لرحلة الحجاز؛ ويدون النابلسي رحلته
بطريقة اليوميات، فيذكر تنقلاته وزياراته ومشاهداته، ويستطرد في أحيان كثيرة إلى ذكر النبذ التاريخية والأدبية؛ وقد بدأ رحلته من مدينة دمشق في غرة المحرم سنة 1105، (2 سبتمبر سنة 1693) وطاف أولاً بمدن الشام وثغوره، ووصل إلى الحدود المصرية حسبما يذكر في يومياته في اليوم الثالث بعد المائة من بدء الرحلة وذلك في 14 ربيع الثاني سنة 1105، ودخل مدينة القاهرة من باب الشعرية في 24 ربيع الثاني (أواخر ديسمبر سنة 1693) وهو يحييها بإعجاب وحماسة كما حياها من قبل جميع الأعلام الوافدين عليها من المشرق والمغرب؛ ونزل ضيفاً على صديقه الشيخ شاهين بن فتح الله حيث أفرد له داراً خاصة ملاصقة لداره ورتب له بها كل ما يلزم لراحته ورفاهته؛ وكان أول من استقبله من أعيان مصر عميد السادة البكرية السيد زين العابدين البكري، فزاره بداره الواقعة على بركة الأزبكية، ويشير النابلسي إلى فخامة هذه الدار وروعة مجلسها المنيف المطل على البركة، ويصف البركة الشهيرة (ذات الروح والريحان التي فيها نفحة من نفحات الجنان)؛ ثم يصف الحمام المجاور لدار البكرية، وبه جناح خاص لا يدخله سوى السيد، وقد دعاه إليه وتمتع بالاستحمام فيه. وكان والي مصر التركي يومئذ علي باشا خازن دار واليها من قبل السلطان أحمد خان (1690 - 94)، فاستصحبه السيد البكري لزيارته بمنزله بالقصر العيني المطل على النيل؛ وكان لمضيفه السيد شاهين علاقة صداقة بالوزير (الوالي) فكان يدعوه للمنادمة، ويذهب النابلسي معه إلى مجلس الباشا فيقضيان في زيارته أوقاتاً طويلة
وزار النابلسي المحكمة وقاضيها التركي عارف أفندي وأعجب بضخامتها وبساتينها اليانعة، وزار مراد بك المصري وهو من أعيان الصناجق المصرية بقصره الفخم في (سبيل علام) على قيد ساعتين من القاهرة، وينعته (بفخر الأكارم والاماجد) وقد اعجب النابلسي بفخامة مجالس أعيان المصريين وبذخها وحسن روائها، وكانت تجهز بالأنوار الساطعة من قناديل وشموع، تطلق فيها مباخر العود والعنبر، وينتظم فيها أهل الفن ويوقعون نغماتهم الساحرة على الجنك والعود والرباب وتنشد فيها القصائد الغراء، وبالجملة. فقد كانت مجالس السَحر والطرب والسمر الرفيع.
ويصف النابلسي جزيرة الروضة وجمالها، والمقياس وعجائبه وجامع عمرو وفخامته؛ ثم قلعة الجبل، وقد كانت مركز الوزير التركي (الوالي) وبها ديوان العساكر، ويصف لنا
المؤرخ بئر (الحلزون) الشهيرة التي أنشأها بها السلطان الغوري لاستخراج الماء من أعماق الأرض وقد شهد البقر تدور فيها على عمق سحيق، وكان بالقلعة يومئذ عدة من السرايات والجوامع والمساجد والحمامات كأنها مدينة مستقلة، وأبراجها العظيمة مما يفلت الأنظار، وكان بها مصنع خاص لعمل الكسوة النبوية، وعمل السجاد للحرم الشريف.
ثم يحدثنا الرحالة عن الجامع الأزهر وعن شيخه وهو يومئذ الشيخ منصور المنوفي الشافعي الضرير، وكان يكثر من زيارته ويجتمع بأستاذته وطلابه ويستمع لبعض ما يلقى فيه من دروس ويقول لنا النابلسي إن طلبة الأزهر رجوه في إلقاء بعض دروس في الحديث فأعتذر إليهم، وكانوا يجتمعون حوله، ويلتمسون بركته، وهو يبكي تأثراً.
وكان الرحالة كثيراً ما يمر في غدواته وروحاته بباب زويلة، وقد كان يومئذ مخرج القاهرة القديمة من الجنوب، ولم يفته أن يصف محلة زويلة، وما كان يجتمع بها يومئذ من أرباب الملاعب والسميا، وهم طائفة المهرجين والحواة، الذين لم ينقرض نسلهم إلى يومنا
على أن أهم ما عنى به الرحالة هو زيارته للقرافة ومزاراتها، وقد كانت الفسطاط ما تزال مجمع المقابر والمزارات الفخمة، تتوسطها مقبرة الشافعي الخالدة؛ وكان النابلسي كما رأينا من أقطاب الصوفية الذين تستهويهم ذكريات القبور والمزارات المشهورة، ومن ثم نراه يفيض في وصف زياراته للقرافة ومقابر الفسطاط التاريخية ولا سيما مقبرة الشافعي، وينوه بعظمتها وسحرها، ويترجم لمن يأتي ذكرهم من العلماء والأولياء؛ ثم يصف زيارته لمزار وليه المصطفى ابن الفارض بجامع القرافة، كما يصف لنا حلقات الذكر الصوفي الذي تنشد فيه القصائد والأناشيد المؤثرة، ويقول لنا إنه شهد الأولياء أحياناً يأخذهم التأثر فيمزق بعضهم ثيابه أو يدوس الناس هائماً على وجهه لا يلوي على شيء
ولبث النابلسي بالقاهرة ثمانين يوماً حتى اقترب موعد السفر إلى الحج؛ فقابل أمير الحاج المصري إبراهيم بك واستشاره في خير الوسائل للسفر الأمين، وبذل أمير الحج له ما استطاع من النصح والمعونة، وأعد النابلسي عدته للسفر وودع أصدقائه في مظاهر مؤثرة، وغادر القاهرة في السادس من رجب (سنة 1105) في ركب من المصريين والشاميين، وغادرها من باب الشعرية كما دخلها، وودع الوزير خارج القاهرة بقصره بالعادلية، وإلى هنا تنتهي رحلته المصرية
وإذا كان النابلسي لم يعن كثيراً بدراسة أحوال المجتمع المصري يومئذ ولم يقدم إلينا عنه بيانات شافية، فأنه يقدم إلينا بيانات وملاحظات لها قيمتها في دراسة المجتمع المصري في خاتمة القرن السابع عشر؛ ولعل أنفس ما فيها أقواله عن معالم القاهرة ومعاهدها، فهذه الأقوال في ذكر أبواب القاهرة وبركة الأزبكية وجزيرة الروضة والمزارات الشهيرة وغيرها ما يفيد في تعرف خطط القاهرة في هذا العصر، وهي تعتبر حلقة في مجموعة الآثار التي لدينا عن الخطط، ثم أن أحاديثه عن أعيان القاهرة وعن مجالسهم من الصور التي لها قيمتها في تعرف مجتمع هذا العصر، ولنذكر أن العصر الذي يحدثنا عنه النابلسي يسبق بداية العصر الذي يحدثنا عنه الجبروتي بنحو خمسين عاماً فقط، ومن ثم ففي وسعنا أن نصل بين المواد المشتركة في هذين الأثرين في دراسة المجتمع المصري في القرن الثامن عشر
محمد عبد الله عنان
في الأدب المقارن
التشابه والاختلاف في الأدبين العربي والإنجليزي
خاتمة
للأستاذ فخري أبو السعود
يروع الناظر في الأدبين العربي والإنجليزي شدة ما بينهما من تباعد، وكثرة ما هناك من وجوه الاختلاف، وقلة ما فيها من وجوه التشابه والاتفاق، ولا غرو فان الظرف الجغرافية والتاريخية التي أحاطت بنشأة كل منهما ونموه وازدهاره، وكانت متباينة أي تباين، والعوامل الاجتماعية والسياسية التي تترك آثارها في الأدب كانت متضادة أي تضاد، فجاء الأدبان اللذان هما وليدا تلك الظروف والعوامل مختلفين أعظم اختلاف، في الموضوعات والأساليب والأشكال والأغراض، ولم يتفقا إلا في كل عام من الوجوه التي يستوي فيها جميع الآداب لشيوعها بين جميع شعوب الإنسانية
فالأمة العربية أمة سامية ضربت في فيافي الجزيرة أحقاباً، وترعرع أدبها تحت سماء البادية، ثم خرجت من جزيرتها فورثت حضارات الأمم الشرقية، وأخضعت لسلطانها أغنى بلاد الشرق وسيرت تحت لوائها شعوباً أرقى منها مدنية وأعرق في العلم والصناعة ودانت لحكومة ملكية مطلقة، وكان الدين أساس دولتها وشارة مجتمعها؛ والأمة الإنجليزية أمة آرية خرجت من جزيرتها المنعزلة فجولت في البحار، وشاركت في تراث الإغريق والرومان، واعتنقت المسيحية، وساهمت في الحضارة الأوربية، وتمسكت بنظام الحكم الديمقراطي؛ فهما أمتان مختلفتان في الجبلة ونوع المجتمع ومتجه التفكير، فاختلفت أدباهما تبعاً لذلك، ولم يتفقا كما تقدم إلا في وجوه عامة ومناح عارضة:
فعصر الجاهلية في تاريخ الأدب العربي شبيه بعصر ما قبل اليزابث في التاريخ والأدب الإنجليزيين: ففي ذينك العصرين كان كل من الشعبين يعيش داخل جزيرته في عزلة كبيرة عن العالم. على حال شبيه بعصر الأبطال في بلاد اليونان الذي أنتج ملاحم هوميروس، وكان الأدبان تبعاً لذلك جافين، وعرى اللفظ والأسلوب، ساذجي المعنى، بعيدين عن الصناعة الفنية، وكانا أقل رقياً من الأدب الفني الذي جاء في العصر التالي، وإن يكن
الأدب العربي بلغ في عهد الجاهلية والبداوة والعزلة مبلغاً من الرقي أعلى كثيراً من مبلغ الأدب الإنجليزي قبل أن يتصل اتصالاً وثيقاً بثقافات الأمم الأخرى وآدابها
ونهضة العرب بظهور الإسلام تماثل نهضة الإنجليز في عصر اليزابيث، بوصول النهضة الأوربية إلى إنجلترا، واتجاه نظر الإنجليز إلى ما وراء البحر، ففي كل من هذين العصرين بدأت الأمة تخرج من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها، وتتصل بالعالم وتصطنع حضارته، وتبني لنفسها إمبراطورية مترامية الأطراف، وارتقى أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً، ورقت ديباجته ودخل في طوره الفني، طور الإنشاء المحكّم والمجهود الأدبي المتصل، وانتشرت كلتا اللغتين في بقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم: فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية، صار يتكلم من تخوم الصين إلى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات وأزال غيرها وحل محلها، واللغة الإنجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين معدودة في عهد شكسبير أصبحت تتكلم وتدرس في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب عالمياً على عهد عظمتهم
ولم تكن كل من الأمتين توطد أركان إمبراطوريتها حتى انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ والسلطان، وداناها في ازدهار العلوم والآداب: فكما انفصلت الأندلس عن الخلافة العربية، استقلت الولايات الأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية، بيد أن البلاد الأصلية احتفظت بالزعامة الأدبية على طول المدى: فلم تنجب الأندلس من الأدباء من بذوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الإمبراطورية البريطانية من دانى شكسبير وملتون، فلعل التراث الثقافي الحافل، والماضي التاريخي المؤثل من ضروريات ازدهار الأدب الأساسية، وذلك ما كان يعوز الأندلس الإسلامية، وما يعوز أمريكا الحديثة، فظلت كلتاهما تلتفتان إلى الوطن الأول في طلب النموذج والمنهاج والوحي
وكلا الأدبين العربي والإنجليزي تأثر إلى حد بعيد بالكتاب السماوي الذي تدين به أمته: فأثر القرآن في المجتمع العربي وتاريخ اللغة العربية وآدابها وثقافة آدابها وأساليبهم جسيم شامل، فقد كان منذ جاء مثلاً أعلى في البلاغة وثقافة قائمة بذاتها، والإنجيل منذ ترجم إلى الإنجليزية في عهد صلاح الديني كانت له اليد الطولى في تثبيت الأسلوب النثري
الإنجليزي، وتثبيت مفردات اللغة وإدخال مفردات جديدة، واشتقاق غيرها، واختراع طرق للاشتقاق أدت إلى توسيع جوانب اللغة، وكان دائماً قدوة للأدباء يحتذونها في إسلاس الأسلوب، وله أثر مباشر جلي في كتابين هما من ذخائر الأدب الإنجليزي، أحدهما (رجلة الحاج) لبنيان والثاني (الفردوس المفقود) لملتون، ففي كليهما يقوم أساس القصة على ما ورد في الإنجيل من أنباء الخلق والبعث والحساب، بل أن دراسة الإنجيل كانت هي الثقافة الوحيدة التي نالها بنيان، الذي كان قساً ضئيل الحظ من العلم، ومع ذلك يعد أسلوبه المبني على أسلوب الإنجيل في الذروة في أدب اللغة.
تلك أمثلة من وجوه التشابه في الأدبين، وظاهر أنه تشابه عام عارض محدود، أما وجوه التناقض فعديدة تشمل نواحي الأدب وتضرب جذورها في صميمه: فالأدب العربي ازدهر في كل دولة إسلامية فهو أشد تأثراً واصطباغاً بالنزعة الدينية من الأدب الإنجليزي، ومع ذلك قد جرى العرب إلى غايات من الترف واجتناء اللذات لم يبلغ بعضها الإنجليز، وبدأ أثر ذلك الترف المغرق بجانب ذلك الروح الديني في أدبهم؛ وقضت التقاليد التي نمت في المجتمع الإسلامي بإسدال الحجاب على المرأة، فتقلص ظلها من المجتمع وضؤل أثرها في الأدب، وازداد ضآلة بمرور الأيام بدل أن يزداد جسامة بتوطد الحضارة وذيوع التعليم واتساع جوانب الأدب، فكانت المرأة الإنجليزية أبين أثراً في أدبها - كاتبة ومكتوبا عنها - من المرأة العربية.
وعرف الإنجليز فنونا لم يحفل بها العرب كثيرا كالتصوير والنحت، وأغرموا بما اطلعوا عليه من آثار تلك الفنون من مخلفات الأمم القديمة، وامتلأ أدبهم بوصف كل ذلك وتقديره والأدب العربي يكاد يكون خلوا من ذلك؛ وانكب أدباء الإنجليزية على دراسة الآداب الأوربية المعاصرة وأفادوا منها كثيراً، وتوفروا خاصة على دراسة الأدب الإغريقي القديم، فكان لهذا الأدب أبعد الآثار وأشملها في الأدب الإنجليزي: رحب آفاقه وبسط أساليبه وأشكاله، ومد أمامه منادح القول ووجه نظره إلى جمال الحياة الذي تصويره غرض الأدب والفن جميعاً واكتسب الأدب الإنجليزي صبغة إغريقية ظل الأدب العربي بعيداً عنها، فأن هذا الأخير لشديد اعتداده بنفسه لم يحاول أن يطلع على آداب غيره، أو يستفيد من تراث اليونان الأدبي الحافل فكان ذلك الإقبال على الأدب الإغريقي من جانب الإنجليز، وذلك
الأعراض عنه من جانب العرب من أكبر دواعي اختلاف الأدبين وتباعدهما.
وفي عهد الدولة والحضارة والثقافة، عهد الطور الفني للأدب حين يبلغ أوج رقيه، رضخ العرب للملكية المطلقة، والملكية تكف الشعب عن الحكم وتكف الأدب عن النقد والإصلاح وتلحق الأدباء بحاشيتها، فجاء الأدب العربي بلاطياً في جملته، يمتدح بمآثر الملوك ويصف مواكبهم ومظاهر عظمتهم، ويغفل الشعب وأحواله وآماله إلى حد بعيد، على حين اعتمد الأدب الإنجليزي في اكثر عصوره على استجلاب رضا الشعب، وتصوير أحواله ونشدان آماله، فامتلاء الأدب الإنجليزي بالنظرات النقدية والقصص الاجتماعية والبحوث السياسية، وحفل بتمجيد الحرية والديمقراطية واحترام الفردية والرأي العام، على حين امتلاء الأدب العربي بالمدائح والرسائل الديوانية، فمن أكبر مظاهر اختلاف الأدبين العربي والإنجليزي، صبغة الأخير الشعبية الفردية وصبغة الأول البلاطية الرسمية.
وهذا الانضواء تحت لواء الملكية أكسب الأدب العربي صفات وخصائص ظل الأدب الإنجليزي خلوا منها: فغلبت على الأدب العربي - الذي تعود الإغضاء والرضا بالكائن وعدم محاولة الإصلاح - نزعة المحافظة والتقليد، على حين سادت الأدب الإنجليزي روح التجديد، وتجدد على طول العصور لفظا وأسلوبا وموضوعا؛ وكان من دواعي تلك المحافظة أيضا اشتغال غير العرب بالأدب العربي، بل ظهورهم على العرب في جمال الصناعة الأدبية، وقدم من جراء ذلك كله الأسلوب على المعنى، وكان يعد أديباً من تمكن من أصول اللغة وأحكم إنشاء الجمل البليغة، لا من لطف حسه وأرهف شعوره، واتسعت نظرته وسمت فكرته في الحياة؛ وكان من أثر نزعة المحافظة والجمود التي سادت الأدب العربي أن جمدت أشكاله وموضوعاته، فلم تتطور أشكاله وتتميز وتتعدد، ولم تتجدد موضوعاته وتتكاثر وتتوالد، على حين كان تاريخ الأدب الإنجليزي تاريخ تجدد مستمر وإخصاب متزايد في هذه النواحي جميعا.
ولسير الأدب العربي في ركاب الأمراء، واعتماده على عطفهم دون عطف الجمهور، أهمل الأدب موضوعات كثيرة هي من صميم الفن ولباب الحياة، وهي هم الأديب المفكر المحس، كعبادة مفاتن الطبيعة والتفنن في عرضها، واستلهام حكم التاريخ والتأنق في وصفها، واستيحاء جلائل البطولة وتصوير روائعها، واستخلاص مواضع الفتنة والمتعة
والجمال من خرافات الأقدمين، وإرضاء الفن بنظمها وتجديد شبابها، وعرض آثار الرحلات التي يقوم بها الأديب ووقعها في نفسه، والسبح في عوالم الخيال البعيدة الساحرة، والضرب في أعماق الماضي وآماد المستقبل وآفاق الإنسانية الواسعة، كان الأدب العربي - لاعتماده على صلات الأمراء - في شغل شاغل بحاضر العيش وقريب المطلب عن كل تلك العوالم الزاخرة بالفن والحياة والشعور والمتعة، فأهمل بعضها ولم يمس بعضها إلا مساً رفيقاً، وبكل هاتيك العوالم وذخائرها وأصدائها يحفل الأدب الإنجليزي
هذا الاختلاف المطرد الشامل في البيئة والمجتمع والموضوع والأسلوب، مرجع ذلك الاختلاف الرائع الملحوظ بين كتب الأدبي العرب وكتب الأدب الإنجليزي، وفحول هذا وأقطاب ذاك، وسيرهم وآثارهم وعقليا تهم وشخصياتهم، حتى ما نكاد نرى في الأدبين شاعرين متماثلين أو كاتبين يذكرنا إحداهما بالآخر، من جهة العقلية والأسلوب أو الموضوعات، أو يتشابه موضوع كتاب هنا وموضوع كتاب هناك، أو تخال فكرة قصيدة في هذا الأدب صادرة عن نفس الحالة النفسية الصادرة عنها أخرى في الأدب الآخر، ليس هناك شيء من ذلك، وليس بين الأدبين إلا التباعد والتناكر، كما يتباعد ويتناكر شخصان غريبان مختلفا الموطن والنشأة والتربية، والعقيدة الدينية والثقافة، والنزعة في الحياة والمتجه في التفكير
فإذا وازنا بين كبيري شعراء الأدبين، المتنبي وشكسبير، بدا لنا الاختلاف والبون العظيم: فجانب كبير من شعر المتنبي موقوف على المدح والهجاء، ولم يقل فيهما شكسبير حرفاً، وشعر المتنبي مليء بالحكم البليغة الموجزة المتجاورة يزاحم بعضها بعضاً وشعر شكسبير حافل بوصف الشخصيات وتحليل النفوس تحليلاً مسهباً لا يتوخى بلاغة الإيجاز في شيء؛ وبجانب المدح والهجاء والحكمة وما يتصل بذلك لم يكد المتنبي يطرق موضوعاً آخر بعيداً عن دائرة حياته الشخصية، بينما روايات شكسبير وقصائده تعج بوصف الطبيعة وتقديس الفنون كالموسيقى وتمجيد الأبطال، وتضرب في شعاب الخرافة وأرجاء التاريخ؛ وشكسبير يراوح في نظمه بين أشكال الشعر المختلفة، بين الشعر المرسل والدوبيت والسونيت، والفقرات المتراوحة طولاً، المتداخلة القوافي، وقد دعي ضرب من السونيت باسمه لما أكسبه بعبقريته من مرونة، على حين ظل المتنبي - وهو الشاعر العظيم المتمكن من اللغة
والأدب المطلع على حقائق الحياة - متمسكاً بالشكل الشعري الوحيد الذي وصل إليه من المتقدمين، وهو القصيدة المصرعة الموحدة الوزن والقافية غير الموحدة الفكرة، فلم يمنح الأدب العربي شكلاً ولا موضوعاً لم يكن من قبله؛ وعاش المتنبي ومات طامحاً إلى الملك وتضريب الأعناق، ساخطا على تبريزه في مضمار الأدب الذي كان يحسد عليه ويكاد له من أجله، ولم يكن شيء من ذلك مما يخطر لشكسبير على بال
وجلى واضح أن هذه الفروق بين الشاعرين العظيمين إنما ترجع إلى العوامل الاجتماعية والسياسية، التي كانت تحيط بكل منهما وتكون نفسيته وعقليته، وإلى هذه العوامل ذاتها يرجع التباين الشديد بين أبي نؤاس وأبي تمام والبحتري وأبن العميد وبديع الزمان من جهة، وبين ملتون وبيرون وشلي وكيتس وجيبون وكارليل وماكولي من جهة أخرى، وهو تباين يجعل من المحال تشبيه واحد من الفريق الأول بواحد من الفريق الثاني، في سيرته في الحياة أو فلسفته الفكرية أو مذهبه الأدبي، وإن كان من أسهل الأمور استخراج العديد من أوجه الاختلاف والتضاد.
هذا الاختلاف في البيئتين الجغرافية والظروف التاريخية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، والجبلة والتقاليد والمنازع، وهذا التباين بين الأدبين في المشرب والأسلوب والموضوع وشخصيات الأدباء وسيرهم، كل ذلك يجعل الموازنة بين الأدبين من أمتع الدراسات الأدبية وأحفلها بالدروس والعبر، وادعاها إلى استخلاص المبادئ والنظريات الأدبية، وإلى التفطن إلى العوامل المؤثرة في الآداب ونتائجها، وقديماً قيل: وبضدها تتميز الأشياء، ولو كان الأدبان شديدي التشابه وليدي ظروف متقاربة وعوامل مؤثرة متماثلة، لما كان في الموازنة بينهما كبير طائل، ولا كان تتبع ظواهرهما يستحق طويل عناء، ولأشبها أن يكونا أدبا واحدا مشتركا بين أمتين، موزعا بين لسانين.
فخري أبو السعود
واجبنا الثقافي نحو الآداب والفنون
للأستاذ إسماعيل مظهر
قال الأستاذ الكبير لزلي إستيفن في أول الفصل الثاني من كتابه العظيم (الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر) ما يلي:
إن الكتب التي هي بمثابة الدعائم الثابتة في تاريخ الآداب، إنما تكون من الطائفتين: أحدهما طائفة الكتب التي تلخص جدل الماضي، والثانية طائفة الكتب التي تعد جدل المستقبل
والظاهر من كلام هذا الرجل الفذ يتضمن في مطاويه كثيرا من الحقائق التي ينبغي لنا أن ننعم النظر فيها، ونطيل التأمل والاستبصار منها، ذلك بأن آدابنا وفنوننا حتى الآن تفتقر إلى الطائفتين معاً: تحتاج إلى كتب تلخص جدل الماضي، وتحتاج إلى كتب تعد العدة لجدل المستقبل.
أما الكتب التي تلخص جدل الماضي فلا سبيل إليها إلا بالترجمة والنقل عن اللغات الأخرى، لنستكمل بها - في لغتنا العربية المنيفة - الأداة التي تعدنا لجدل المستقبل. وعلى هذا نريد أن ننظر أتسع آدابنا وفنوننا اليوم تلك الكتب التي تتضمن مشاكل الماضي وتعدنا لمشاكل المستقبل؟
أما الذين هم أميل إلى التفاؤل فيقولون إن ما بين أيدينا من الكتب يكفي لتكوين الأديب الذي يستطيع أن يخلق القضايا العقلية والنظريات التي سوف تكون عدة الجدل في المستقبل. وعلى النقيض من هؤلاء فئة تذهب إلى عكس ما تذهب إليه الأولى وإن كل من يعرف مقدار التراث الذي خلفته القرون الأولى، ويجول بفكره جولة يقطع بها تاريخ ستين قرناً من الزمان ليقنعه بعدُ الشقة التي تفصل بين أبناء العرب وبين المراجع التي هي عدة لجدل المستقبل، بلزوم الإكباب على درس ما يلخص جدل الماضي، من آثار الآداب والفنون.
عن لي أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أخص الرسالة بما أكتب، إثر سؤال تقدم به إلي صديق من خريجي الأزهر ومن رجال التخصص فيه يريد به أن يعرف المصادر التي يستطيع أن يدرس فيها تاريخ الاسكندر المقدوني وحياته وأعماله، وقد أراد أن يكتب رسالة
في تاريخ هذا الرجل وأن يعقد في الرسالة فصلا يبحث فيه العلاقة التاريخية بين الاسكندر المقدوني وذي القرنين الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وعبثاً ما حاولت أن أستذكر اسم كتاب واحد في اللغة العربية يمكن أن يتخذ مرجعاً في مثل هذا الدرس التاريخي الحافل. وهب أني استطعت أن اقفه على أسم كتاب أو كتابين، على تقدير ذلك، فهل ذلك يغنيه عن الرجوع إلى المصادر القديمة التي تصدت لذكر الاسكندر المقدوني وفتوحاته، مثل فلوطرخوس وإفلينيوس وإسطرايون وبطليموس ويوستين وكورتيوس وغيرهم وغيرهم ممن لا تحصيهم الذاكرة، وهل ذلك يغنيه إذا أراد أن يكتب في أخلاق الإسكندر عن درس المراجع التي كتبت في فيليبس الثاني أبيه، والمراجع التي كتبت في صفات أمه أولمبياس؟ هل ذلك يغنيه عن أن يعرف أن هناك قصة أكثر ما فيها خرافي تدعى عند الأعاجم قصة الاسكندر، يرجح الثقات أنها كتبت في مصر في خلال القرن الثالث الميلادي، وأن هذه القصة ترجمت إلى أكثر اللغات الحية ما عدا العربية بالطبع، وأن ذيوع هذه القصة كان سبباً فيما ذاع عن الإسكندر من الخرافات، حتى قيل إنه نبي مرة وإنه رسول مرة أخرى؟
ذكرت للأديب العالم الذي سألني مجمل هذه الأشياء، وزدت على ذلك أن درس تاريخ الإسكندر على الصورة التي رسمها يحتاج إلى إلمام بتاريخ الثقافة الهلينية وعلاقتها بغزوات الإسكندر في الشرق؛ ثم زدت على ذلك أن هذا الدرس يحتاج إلى إكباب على درس جغرافية حوض البحر المتوسط القديمة والمدن التي قامت حقاً فيه وتاريخها وأثرها في نشر الثقافة الهيلينية، ثم درس جغرافية الشرق القديمة من حدود بحر الروم إلى حدود بلاد الهند؛ ثم زدت على ذلك أنه من المحتوم على من يريد أن يدرس هذا الدرس وينحو هذا النحو أن يلم بتاريخ الصراع بين فارس وبلاد اليونان قبل ظهور الإسكندر، وأن يلم بالحالات التي قامت في بلاد فارس قبيل الفتح المقدوني.
صور لنفسك أيها الباحث بعد ذلك عدد المراجع التي يحتاج إليها باحث كهذا الباحث ليدرس موضوعاً خيل إليه بدءاً أن بحثه هين وأن درسه سهل، وصور لنفسك بعد ذلك مقدار ما يكون في بحث مثل هذا يتم بغير مراجع وثيقة فيها من نقص وجهل وتقليل، ثم صور لنفسك بعد هذا كله مقدار ما يكون في مؤلف يبرز للناس عفو الخاطر من قدرة على تلخيص جدل الماضي، وليكون للمستقبل جدله الخاص به؟ وإني لأقول آسفاً إن صديقي
هذا على مقدار ما كان فيه من شغف لبحث هذا الموضوع، قد أضطر إلى الميل عنه إلى بحث آخر عربي المرجع، بحث من تلكم البحوث التي يعتمد فيها على كتب عربية لم يصقلها النقد، ولم يقف على إخراجها للناس علماء أنفقوا من وقتهم في تصحيحها وضبط أعلامها وألفاظها ما يجدر بكتب هي في الواقع مراجع العلم ومآل العالم في البحث
انتهت محاولة ذلك العالم بأن يتحول عن الإسكندر إلى غيره، لأنه فقد المراجع التي يستطيع أن يتخذها عدة للبحث. ولم ينته الأمر عند ذلك. فقد أرسل إلى أديب من أدباء العراق كتاباً يسألني فيه عن المراجع العربية التي يستطيع أن يخلص منها بشيء من تاريخ تأسيس مدينة الإسكندرية والبحوث التي قام بها الذين عنوا بموضوع هذه المدينة، ولقد أردت أن ألبي طلب الأديب فبحثت عن المراجع فلم أجد لها أثراً، ونقبت عن الكتب التي ألمت بشيء من تاريخ العصر المقدوني بمصر فلم أقف لها على وجود وفي النهاية اضطررت أن أكتب إليه بأن يستعين بأحد الذين يجيدون اللغة الإنجليزية ويراجع ما كتب مهفي وهوجارت واردن بيفن، وأنا على علم بأن حظه من التأليف والبحث سوف لا يعدو حظ صديقي الأول:
وبعد فأن أمثال الباحثين كثيرون، يريدون أن يلخصوا جدل الماضي، وأن يعدو العدة لجدل المستقبل، ولكن عمادهم مفقود، وسلاحهم مفلول، على أن ما طلب الباحثان لأهون بكثير مما يطلب غيرهما، فالتاريخ على ما فيه من عويص المشكلات يهونه نقل مراجعه إلى العربية، بقدر ما يصعب نقل الآثار الأدبية أو الفلسفية، فلو أن كاتباً أراد أن يكتب في تاريخ الشعر الإغريقي فأي المراجع يقصد وأي الأبواب يلج؟ ولو أن كاتباً أخر أراد أن يستقصي تاريخ المذاهب الفلسفة التي اندست في ما نظم شعراء الحكمة عند اليونان، فأي الكتب ستذكر وأي المدونات يدرس؟
دعك من كل هذا، وصور لنفسك حال باحث يريد أن يقف على تاريخ العصر الروماني في مصر، أو أن يقف على شيء من تاريخ الكنيسة النصرانية فيها، أو أن يقيم من تاريخ الصراع بين الهيئتين السياسية والدينية، هيكلاً يخلص منه تاريخ شامل لمصر في خلال سبعة قرون حكم فيها الرومان أرض النيل، فأي الكتب العربية يستوحي وأي الأبواب يطرق؟
أما إذا كان هذا مقدار النقص الذي نحسه في مراجعنا العربية في مسائل هي أكثر المسائل مساساً بتاريخنا، فكيف بنا إذا أراد أحدنا أن يتخذ من الكتب العربية مرجعاً لدرس تاريخ الاستكشاف الجغرافي وعلاقة ذلك بتاريخ الاستعمار الأوربي، أو التاريخ السياسي لدول أوربا في القرن التاسع عشر، أو أثر الحروب الأوربية في تكوين التصور السياسي الجديد في القرن العشرين؟
تشعرنا هذه الحقائق بأن أدبنا ناقص، وأن علمنا ناقص، وأننا مصدودون عن البحث بصواد ليس لنا من يد في دفعها ونحن اكثر شعوراً بذلك إذا أردنا أن نؤلف في تاريخ العلم الحديث أو في تاريخ الفكر عامة أو في تاريخ الفنون أو الفلسفة.
مثل الظرف التي تجتازه ثقافتنا، قد اجتازته من قبل أمم عديدة. والعرب في العصر العباسي، وأوربا في حدود القرون الوسطى، أقرب ما نمثل به، على أن احتياجنا إلى الكتب التي ندرس فيها شتى موضوعات الأدب والفن، ونكمل بها عدتنا في اللغة العربية، ينبغي أن لا يقتصر على كتب المراجع وحدها بل يجب أن يتعدى إلى الأمهات المؤلفة في مختلف الموضوعات، ففي تاريخ اليونان مثلاً تدعونا الحاجة إلى أن ننقل إلى جانب المؤلفات القديمة مؤلف جورج جروت مثلا، وفي تاريخ الرومان نضطر إلى نقل كتاب ممزن الذي حلل الحياة الرومانية اجتماعياً واقتصادياً وكتاب انحلال القيصرية الرومانية الذي يبحث الأسباب السياسية التي أدت إلى ذلك الانحلال. كذلك ينبغي لنا أن ننقل إلى العربية كل المراجع التي تعالج تاريخ الفكر وثورات العقل وأن لم نلم بكل ما يتاح لنا الإلمام به من المظان التي توسع من أفق العلم بأخبار الأمم وحالاتها وأسباب ارتفاعها وسقوطها
أضف إلى ذلك أن أدبنا تنقصه المعاجم الكثيرة، فهل يمكن لأديب باحث أو عالم متفرغ للعلم أن يستكمل عدة البحث بغير معاجم قريبة التناول سهلة الأسلوب؟ وإذا أردت أن تعرف مقدار افتقارنا إلى المعاجم فانظر هل في مراجعنا شيء من المعاجم الآتية: -
(1)
معجم لغوي تاريخي
(2)
معجم اصطلاحي لمفردات العلوم
(3)
معجم لغوي عام
(4)
معجم الآداب
(5)
معجم للفلسفة وعلم النفس
(6)
معجم الأسماء القديمة
(7)
معجم الأسماء الحديثة: في الجغرافيا والتاريخ
(8)
معجم الأسماء العربية
(9)
معجم أسماء طبقات الحيوان
(10)
معجم أسماء طبقات النبات
(11)
معجم المصطلحات الإسلامية
إلى غير ذلك مما يصعب حصره وتحديد الحاجة إليه.
وأنك إذا تصفحت رسالة في التاريخ القديم مترجمة إلى اللغة العربية عن الفرنسية، ثم قارنتها برسالة في نفس الموضوع مترجمة إلى العربية عن اللغة الإنجليزية أو الألمانية، لتعذر عليك في كثير من الأحوال التمييز بين الاسم العلم الواحد لشدة ما تنافر الناقلان في طريقة نقله إلى العربية، حتى لقد تقدم إلي كثيرون من طلاب الآداب يسألون عن حقيقة أسماء مختلفة عرضت في درج رسائل في التاريخ، وبمقارنتها اتضح لي أنها اسم واحد نقله عدة من المترجمين بصيغ مختلفة في العربية. ولا شك في أن هذه الفوضى الغامرة من شأنها أن تعمي على طلاب العلم وربما كانت سببا في تناقضهم.
وإذا وقع التناقض للملمين بشيء من آداب اللغات الأوربية بسبب ذلك، فأحرى ممن يدرسون باللغة العربية خالصة، أن يكونوا أشد تناقضا وأكثر تطوحا مع الأوهام التي أكاد أجزم بأنها شائعة في أكثر ما يكتبونه ويؤلفونه شيوعاً عظيماً إذا تعرض أحدهم للكتابة في غير الموضوعات الإسلامية، وما السبب في هذا إلا احتياجنا إلى معاجم لأسماء الأعلام تجري في تعريب الأسماء القديمة والحديثة على قواعد معينة، اللهم إلا ما عربه العرب، وهو قليل، فأنه يبقى كما عربوه.
خيل إلى بعض المشتغلين بحركة الثقافة في مصر، وتتبعوا أطوارها منذ مائة سنة، أن ما نقل إلى العربية من فروع المعرفة كاف لأنه يكون جزءاً صالحا من العلم بحقائق الأشياء، والحقيقة التي أحسها تناقض هذا الخيال، فقد اتبع النقلة عندنا حتى الآن طريقتين: إما
التلخيص وإما نقل نتف من المذاهب أو قطع متفرقة عن كتاب الأدب المعروفين، وكلا الأمرين مضر أقصى الضرر بالثقافة الصحيحة، فأن هذه الثقافة لا يمكن أن تتلقى نتفا وأقساطا إلا لتكون أدبا ناقصاً أو علماً ناقصاً أو فناً ناقصاً، والمعرفة إذا اعتورها النقص في الأصول التي تقوم عليها، امتنع عليها أن تكون أداة قويمة لخلق التصورات العامة في العلم والأدب والفلسفة. وخلق التصور العام في العلم والأدب والفلسفة هي الغاية التي يجب أن تنتهي إليها الثقافة العامة، هي المثل الأعلى الذي ينبغي أن ينشد من العلم، وهي الهدف الذي يجب أن يرمي إليه التعليم.
إذن يكون ما نقلنا إلى اليوم من الآثار العلمية والأدبية عن المعرفة الجديدة، وبالحرى عن الثقافة الأوربية، إنما هو نتف وأجزاء، لها من الفائدة على قدر ما فيها من تعبير صحيح عن مذاهب أصحابها، وقلما يعبر الجزء عن الكل تعبيراً صادقاً قويماً
من جراء هذا كان ذلك الارتجاج العظيم الذي نشهده في مجالي الأدب العصري في مصر والشرق. ذلك بأنه أدب اعتمد على نتف من قديمنا وعلى نتف من الحديث المنقول عن أوربا، اعتمد على درس غير كامل لآدابنا القديمة، وعلى درس غير كامل للآداب الأوربية، فكان في جملته أشبه ببقايا السلع المختلفة إذا اجتمعت لتكون شيئاً جديداً، ولك أن تتصور مقدار ما في ذلك الشيء المكون من تلك البقايا من تنافر ونقص، إذا أنت صورت لنفسك حيواناً استحدثت صورته من أجزاء مختلفة من البقايا الحفرية جمعت من مختلف أجزاء الكرة الأرضية.
تلك حال الأدب، وهذه طريق العلم في عهدنا الجديد؛ فمن المسؤول إذن عن هذه الفوضى العظيمة؟
من الحقائق التي لا نزاع فيها أن ما استحدث حتى الآن من ألوان الأدب والعلم على نقصه، إنما يرجع إلى جهود بضعة أفراد يمكن عدهم على أصابع اليدين. على أن جهود هؤلاء كانت جهوداً متفرقة موزعة لم تجتمع يوما على غرض رمت إليه ولا نظرت إلى هدف صوبت نحوه ووجهت عملها نحو البلوغ إليه. ولقد عانى أكثر هؤلاء من عنت الدنيا ومن انصراف الناس عن الأدب والعلم ما جعلهم يفرون من ميدان العمل الواحد تلو الأخر، ليفسحوا الطريق لغيرهم ممن يريدون أن يقامروا على موائد الأدب والعلم إما بمالهم أو
بعافيتهم، تاركين للأقدار وزن ما جهدوا فيه وعملوا له السنين الطوال. ومن أعجب العجب أن أكثر الذين سقطوا في ذلك الميدان كانوا ممن حملوا لواء فكرة جديدة أو مذهب حديث حاولوا نشره في الناس وفيهم حرارة الأيمان وحماسة الاقتناع بصلاحياته، وكان من الواجب أن يؤيدوا ولو إلى الحد الذي يمكنهم من إتمام رسالتهم وتأديتها على وجه يضمن في المستقبل سلامتها لتكون عدة من العدد التي يقوم من حولها جدل المستقبل. ولكن شيئاً من ذلك لم يعش في بيئتنا الأدبية على صورة يتخيل معها أشد الناس تفاؤلاً بأن لها أثراً ثابتاً في عقل الجماعات العلمية أو الأدبية في هذه البلاد أو في غيرها من بقاع الشرق.
فلا نكران إذاً في أن الأفراد قد قاموا بأوفر نصيب في تنشئة تلك الجرثومة التي تبعث في أدبنا شيئا من مجالي الحياة، ولا يطالب الأفراد مطالب بأكثر مما جهدوا له إلا ويكون إلى الظلم والتجني أقرب منه إلى الأنصاف والعدل.
غير أن أمامنا بعد الأفراد الذين عملوا على تكوين التصور الأدبي الجديد جهات أربع يجب أن نتوجه إليها بالكلام في ختام هذه الكلمة
فأن الأدب والعلم لم ينلهما حتى الآن نصيب من تقدير ظهراء لهم من الجاه والمال ما يكفل لأفراد ممتازين في المعرفة على اختلاف ألوانها إبراز أثارهم وتسجيلها في تاريخ العصر الذي يعيشون فيه ولقد كان لظهراء العلم والمعرفة في القرون الوسطى الأثر الأعظم في نقل العلوم إلى أوربا، كما كان لهم في العصر العباسي الأثر الأدنى في نقل العلوم والمعرفة إلى الشرق. وفي مصر ولله الحمد فئة من هؤلاء ولكنهم لا يفكرون في الأدب أو في العلم أو في حماية حرية الفكر إلا كما يفكرون في أتفه الأشياء التي تمر بهم في الحياة. وهؤلاء لا يستحقون من كل نصير للأدب أو حليف للعلم إلا أشد اللوم والتقريع. ولقد برهن هؤلاء على أنهم في هذا العصر، عصر النور والمعرفة، أقل إجلالاً للعلم وتقديراً للمعرفة والأدب والفن، من أمراء المماليك رحمهم الله، وقد أزدهر عهدهم بالأدب واستنار بالعلم، لأنهم كانوا ولا شك من أشد أمراء المسلمين رعاية لآثار العقل والفن أدبية كانت أو فنية. لقد كان أمراء المماليك ظهراء لرجال العلم نصراء لرجال الأدب وفي معتقدي أن ذلك أفخم وأروع ما خلفوا لإعقابهم من صالح الأعمال
بقي بعد ذلك جهات ثلاث: الأولى وزارة المعارف، والثانية الجامعة المصرية، والثالثة
الأزهر الشريف، ولا أعلم لماذا لا يكون في كل من هذه الجهات مؤسسات علمية لترجمة ما يعنيها من المؤلفات قديمة وحديثة؟ اللهم إلا أننا لم ندرك بعد أننا في نهاية الأمم المتمدنة من حيث العلم والمعرفة والعناية بنقل العلوم والمذاهب الأدبية والفلسفية إلى لغتنا العربية المبينة
سيظل أدبنا وعلمنا ناقصين من نقل المظان والأمهات إلى العربية؛ فهل نحن فاعلون؟
إسماعيل مظهر
على هامش رحلتي إلى الحجاز
ليلة في مكة
بقلم الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست
تتمة ما نشر في العدد الماضي
ولا بد أن هذا الأمر كان مقصوداً من الله جلت قدرته وهي بعض صفاته العليا. فالعلماء الذين يتجردون من المادة ويصعدون بأفكارهم إلى أعلى عليين، والصوفيون الذين يحاولون التوحيد بين ذاتهم وذات الله وفنائهم فيها، والفلاسفة الذين ارصدوا أنفسهم في سبيل البحث عن الحق المطلق الذي لا يلمس وليس له زمان. ألم يكن هؤلاء جميعاً يحاولون الوصول من طرق مختلفة، إلى غرض واحد، هو الأشراف الباطني؟ تلك هي نعمة التجرد التي ترد الظلام كما يرده المشعل في الليل، وفي الوقت ذاته يعمي حامله إلا عن نفسه.
ولا يخفى أن النفس العربية نبتت في الصحراء القاحلة - أجل - لقد رأت ذلك النور المتألق في تلك الصحراء التي تحدها بحار من الرمال، ويعلوها أفق لا شائبة فيه حيث يستطيعون حتى في ضوء القمر أن يميزوا بين الظل والنور، بين الأسود والأبيض. ولكنهم قلما يدركون شيئاً من أسباب هذا التطور، ولا يعرفون ما تخفيه لهم الأقدار في رحلاتهم البعيدة وهم يجتازون مفاوز الصحراء، إنهم يستخفون بمظاهر هذا العالم الفاني لأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بحياة أطيب وأنقى من تلك التي يعيشونها الآن، وللدار الآخرة خير وأبقى.
لقد راعني جلال الحفلة، فرأيت الرجال يضطجعون على الأرائك المبعثرة في أركان الثوى يتمتعون بلذة التدخين في ظل المصابيح ذات الضوء الشاحب، وعلى الرغم من أن التدخين محرم في الأراضي السعودية فقد ألفيت بعضهم يدخن النارجيلة ويسبح مع دخانها في عالم الخيال.
وقابلني رب الدار بكل بشاشة وترحاب وكذلك بقية الضيوف، وكان السرور يطفح من وجوههم والبشر يتألق على محياهم، وكانت أول تحية سمعتها من صاحبي قوله:
- على الرحب والسعة، الله سبحانه وتعالى يوليك برحمته ويمنحك بركته.
فأجبت: شكراً لك وللرفاق، وفي الحقيقة إنني مستأنس لوجودي بينكم، فلا حرمنا الله منكم.
ثم اتكأت على إحدى الأرائك ووضعت وسادة تحت ذراعي. وفي الحال أحضر صاحب الدار نارجيلة مزخرفة بالنقوش بيد أني اعتذرت عن التدخين لعدم تعودي عليه من قبل، وأنني أخشى أن يصيبني دوار منه، مع اعتقادي بأن في تدخين النارجيلة لذة وتنشيطاً للقريحة، وهو مظهر من مظاهر العز الشرقي البائد، حيث تظل رافعاً رأسك، محدقاً في غيرك وأنت ممسك بقبضة خرطوم النارجيلة.
في ذلك الثوى المثقل بدخان التبغ والذي كانت حرارته تكاد تصهر الوجه، رأيت لأول مرة منظر الجواري وهن يدخلن علينا بأكواب الشاي المعطر، وكانت إحداهن المسماة فريدة، عذراء في ريعان الصبا، وهي من جنوب بلاد العرب، صبوحة المحيا، بسامة الثغر، رشيقة في حركاتها، تخطو كخطو الغزال الوحشي. وكانت تحلي جيدها ومعصميها ببعض الحلي، وترتدي من الملابس أفخرها، وكانت عندما تصل إلى موضع الضيف تحني رأسها بابتسامة ثم تقدم إليه الشراب المثلج.
هذه الجارية كانت مملوكة لصاحب الدار الذي يسيطر عليها سيطرة تامة، فمن حقه مثلاً أن يبيعها أو يعتقها أو يهبها إلى غيره وعلى الرغم من أن الفتاة كانت تدرك ذلك فقلما كانت تأبه بهذه الأحمال الثقيلة، بل كانت تتنقل من مكان إلى مكان دون خوف أو وجل، كعصفور موضوع في قفص يحوي طيوراً جارحة. أما الرجال فأنهم يتسامرون في خلواتهم بأحاديث الهوى والعشق ويلتمسون في ذلك عزاء وسلوى. لآن المرأة في كل البلاد العربية لا يمكنها أن تشترك في الحفلات والمجتمعات، بل أنهن يكتفين بالنظر خلسة إلى الرجال أثناء سمرهم، وهن لا يعلمن شيئاً من مجريات الأمور الخارجية إلا ما يصل إلى سمعهن من الأحاديث التي تدور حول الموائد
ولقد أفضى إليَّ أحد الضيوف المسمى الغرابي بحادث زواجه للمرة الثانية وما لاقاه من زوجه الجديد من عنت وقسوة عندما أراد التبني بها، فالزواج في تلك الديار موكول إلى أهل الزوجة، وعليهم أن ينتخبوا بأنفسهم الزوج الصالح لأبنتهم، أما القبائل البدوية التي ترابط خارج مكة فهم لا يتزوجون إلا من عشيرتهم. وذكر صاحبي الغرابي، أنه بعد إتمام
مراسيم حفلة العرس، تلك الحفلة التي يحتفل بها الرجال والنساء كل على حدة، يدلف العريس إلى مخدعه حيث تكون العروس في انتظاره، ومن البديهي أن ذلك السيد الذي فرضوه عليها، لم يقع نظرها عليه قبل الساعة.
يدخل صاحبنا المخدع الذي يكون مضاء بمسرجة باهتة اللون، وهناك يقع نظره على كومة منزوية في أحد الأركان وما تلك الكومة إلا عروسه ملفوفة بين الوسائد، ومشدودة بالحبال، وتشعر بدخول عريسها فتخرج رأسها من بين تلك الوسائد - كما يخرج القنفذ رأسه - فيتقدم إليها بلطف محاولاً أن يصافحها، ولكن عوضاً عن أن تمد يدها إليه، فأنها تلطمه على خديه بكل قواها، بحيث تبعده عنها. ثم يحاول أن يقترب منها للمرة الثانية فيكون نصيبه مثل ما أصابه في المرة الأولى
وربما أحدثت في يده جروحاً من أظافرها الطويلة - أما هو فيجد نفسه غير قادر على معاملتها بالمثل. وبفرض أنه حاول أن يضربها، فأنها لا تحس بتأثير تلك الضربات التي لا تقع إلا على الوسائد. وفي هذه الحالة ليس من وسيلة أمامه سوى أن يشرع في تمزيق هذه الوسائد، الواحدة بعد الأخرى.
وهو في خلال هذه الفترة معرض لكل ضروب اللكم والعض والخربشة. ولا يكاد يفرغ من هذه العملية الشاقة حتى يضنيه الإجهاد فتهدأ ثائرة العروس وتبدأ تسلم نفسها إليه).
وضحكنا ضحكا عالياً من هذا الحديث ثم أخذنا نتمتع باحتساء القهوة العربية وأكل شرائح البطيخ. وكانت هذه القصة الطريفة بداءة السمر لأنهم استحضروا بعد ذلك حاكياً كان مخبأً في إحدى الزوايا، وشرعوا يضعون عليه أقراصاً بها قصائد وأغاني تسودها مسحة من الحزن والكآبة. وأرتفع صوت بعض الضيوف بأغان من نوع الرومبا، وكان في ركن من أركان الثوى رجل يغني بواسطة عود يحمله، وكان هذا الرجل قد تعلم هذا النوع من الضرب الموسيقي المصحوب بالغناء في فترة إقامته بالديار المصرية ولما رآني مهتماً بالأغاني التي يذيعها اقترب مني وطلب إلي بإلحاح أن أندمج معهم في هذا اللهو البريء، فلبيت الطلب وتناولت العود فضممته إلى صدري، كما تضم المرضعة فطيمها، وسرعان ما تحركت أصابعي فوق الأوتار وانبعثت من حلقي أنشودة مجرية، من نوع تلك الأغاني التي تعلمتها في البراري فسر المدعوون من تلك النغمات التي لم تألفها آذانهم وأقبلوا
يصافحونني بحرارة. وهنا دخلت الجواري حاملات في أيديهن الصواني الطافحة بأنواع شتى من المرطبات، ثم تقدمت إحداهن فتصدرت الثوى وبدأت تطربنا بصوت عربي جميل يسيل رقة وليونة على حين كنا نتلذذ بالشراب المثلج سكارى من رائحة التبغ ومسرات الغناء.
والواقع أن هذه الأغاني الشعرية الرائعة هي إحدى عوائد العرب القديمة التي ما برحت نافذة إلى عصرنا الحاضر دون تغيير ولا تبديل. فالعرب عن بكرة أبيهم ميالون بفطرتهم إلى الشعر، ففيه الحكمة التي تأخذ بمجامع اللب، وله تأثير خاص على الحواس والمشاعر. مع أنهم في أحاديثهم الخاصة يلجأ ون إلى استعمال اللغة الدارجة، وهي لهجة معقدة ليس في وسع كل إنسان أن يتفهمها بمجرد سماعها. وقد يتعذر على كثير من الناس أن يتذوقوا طلاوتها لأول وهلة، رغم أنها حافلة بالألفاظ العذبة والنكات السمحة، أما الشعر العربي فيدور كله حول الغزل، ويرجع الفضل في ازدهار حركة الشعر الغزلي إلى عمر بن أبي ربيعة الملقب (بدون جوان جزيرة العرب).
وكانت الفتاة قد انتهت من غنائها فنهضت وغادرت الثوى ثم تقدمت أخرى وأنشدت قصيدة غرامية تفيض بالعواطف الذاتية، وبعد ذلك خيم الصمت والسكون، ولم يعد يسمع غير أصوات تقلب المياه في جوف النارجيلة، وأصوات التنهدات والزفرات وهي تخرج قوية حارة من صدور الرجال وراعني هذا الصمت العميق الشامل، وأحسست أني تحت تأثير قوة مغناطيسية لا قوة لي على دفعها أو ردها، وراعني أيضاً أنها كانت حالة جميع الضيوف تقريباً، فلقد رأيت أنهم يتوجعون ويتأوهون، ولاحظت أن البعض منهم يئن من لوعة الفراق، ويتذكرون خليلاتهم، فاقتربت من أحدهم ويدعى الكتبي وسألته على الفور:
هل أنت مغرم يا صاحبي إلى هذا الحد؟ فأحنى رأسه ولم يحر جواباً لأول وهلة، ولاحظت أن وجهه احتقن بالدم ثم سمعته بعد لحظة يقول:
ولكن ليس في وسعي أن أملكها، فأنا كما ترى رجل فقير، وهي من عائلة مثرية. ما حيلتي وقد وقعت في شراك غرامها وأصبحت أسير هواها؟ لقد أصبحت أسير امرأة. . .
وكف عن الحديث فجأة، فطيبت خاطره وقلت له:
- ولكن المرأة التي تشير إليها ليست كسائر النساء
فقال الرجل:
- انك تقول الحق وتنطق بالصواب ولكن انظر إلي فقد أصبحت في حالة يرثى لها، بعد أن وقعت في غرامها. ما حيلتي وقد رزقها الله قدٌّا نحيلاً وقامة هيفاء، وعينين نجلاوين كعيني الغزال؟ أنني أبتهل إلى الله ليل نهار أن يجعلها من نسائي ويرزقني منها الذرية الصالحة
وتأثرت تأثراً شديداً من حالة هذا العاشق المد نف وأردت أن أنتقل إلى صاحب آخر، وكان الليل قد أنسلخ منه نحو ثلثيه، فألفيت الضيوف يسبحون في عالم الخيال وعالم الحب، وكلهم يشكون تباريح الهوى ولوعة الهجر، ولاحظت أن البعض منهم يبكون نساءهم ويندبون حظوظهم، وهكذا كانت ترتعد فرائصي من هول الموقف وأنا أفر من صاحب إلى صاحب
والخلاصة التي أستطيع أن أقررها أن هذه العواطف النبيلة التي اكتسبها البدو إن هي إلا أثر من آثار الصحراء التي يرجع الفضل إليها في تهذيب نفوسهم، وفي تلقينهم أصول هذا الغزل الذي قلما نجده في سواهم من الشباب
وحينذاك أخذ ضوء المصابيح يخفت فدخلت إحدى الجواري الحسان إلى البهو تحمل مصابيح أخرى جديدة بعد أن سحبت المصابيح المستعملة من داخل الفوانيس.
وكان من حظي أن اقتربت الجارية من ناحيتي ولاحظت أن وسادتي سقطت على الأرض فالتقطتها من مكانها بمهارة وقدمتها إلي. هناك وقع نظري عليها وطالعت وجهها في ضوء المصباح اللامع، وراقني منها شعرها الأسود المتموج كخيوط الليل، وأسنانها اللؤلؤية وقامتها الهيفاء، كما أعجبت بحركاتها الرشيقة، فأدمنت النظر إليها وصرت أتبعها بخاطري وهي تتحرك كالطائر من غصن إلى غصن، ولاحظ مضيف اهتمامي بهذه الجارية فأقترب مني وقال:
- هل أزعجتك عائشة؟
فأجبته على الفور:
- أنها فتاة بديعة حقاً
ثم حاولت أن أغير مجرى الحديث، ولكنه أدرك حيلتي فقلت له: ماذا دهاك يا أخي؟ هل
كنت سبباً في إيلامك؟
فأجاب: كلا! لا شيء مطلقاً، لقد اغتبطت حين سمعتك تطنب في جمال عائشة، لأنني شخصياً مفتون بها موله في حبها فقلت مبتسماً:
- ولكن مادام الله قد من عليك بها فانك في نظري رجل سعيد.
فتبرم وقال في ضجر: أنا سعيد؟ ومن أين لي هذه السعادة؟
فقلت له: أليست عائشة ملك يمينك؟
فقال: أجل أنها لي، ولكنها جارية، ابتعتها بعشرين ديناراً من سوق الرقيق، كانت إذ ذاك في العاشرة من عمرها وهي الآن في السادسة عشرة.
فنظرت إليه في دهشة، بيد أنه أحنى رأسه ثم صرح لي أنه يحبها من أعماق قلبه، فسألته للمرة الثانية: وما يمنعك عنها وهي جاريتك وملك يمينك؟
فأجاب: هذا صحيح، ولكن دون ذلك خرط القتاد، فالإنسان في هذا الوجود قد يبلغ قمة المجد وقد يصل إلى الشهرة وإلى المال ولكن هذه أمور ثانوية وليست لها أدنى قيمة إذا لم تؤدبنا إلى حب جارية مملوكة.
فهززت رأسي وأعدت نفس السؤال: ولكنها ملك يمينك؟
فقال: هذا صحيح، أن جسمها ملكي ولكن روحها ليست ملكاً لي، إنني لا أبغي منها ذلك الجسد ولا متعة الشهوة وحدها، بل أريد أن تبادلني حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص.
وراحت الدموع تنحدر من عينيه وتسيل فوق خديه، ورمقته بنظرة فيها كل معاني الشفقة والرثاء لحالته، فهو والد وله أطفال وزوجتان أخشى عليهم جميعاً عاقبة هذا الحب الجديد.
وأعقب ذلك صمت طويل، تذكرت في خلاله مواقف الحب وسلطانها على النفوس، ثم رأيت أن أغادر الدار فودعت مضيفي وسرت اجتاز شوارع مكة الضيقة، حتى وصلت إلى الميدان العام وكانت تخترقه قافلة يحدو أصحابها بغناء شجي مطلعه:
من ذا (يلمني) إن بكيت صبابة
…
الدمع دمعي والعيون عيوني
عبد الكريم جرمانوس
موانع الابتكار في أدبنا الحديث
للأستاذ محمد يونس
إنه ليسعدنا حقاً أن يكون قريباً ذلك اليوم الذي نشعر فيه من جمهرة كتابنا أنهم أحلوا الابتكار محل المحاكاة وأبدعوا فيما يكتبون إبداعاً فيه غناء وإغناء للأدب العالمي العام
الدكتور منصور فهمي
مجلة مصرية
كان حديث الدكتور منصور فهمي في مجلة المصرية ذا شجون، فقد تناول فيه الأدب العربي الحديث والأدباء بالنقد اللاذع، وصورهم بصورة المقلد المفتون، وعراهم من أردية المجد التي اكتسوها بعد الكفاح الطويل.
وأنا وأن كنت إلى حدّ ما أؤيد الدكتور في أن أدبنا الحالي أدب تقليد ومحاكاة لا أدب ابتكار وإبداع، فأني أخالفه في تحديد أدب المحاكاة عندنا وفي قيمة هذا الأدب، ثم لا ألقي اللوم كله على الأدباء أنفسهم، لأن الدوافع إلى المحاكاة كما سيرى القارئ قريباً أقوى من أن يغلبها الكاتب اللبيب.
كان كلام الدكتور عن الأدب عاماً وشاملاً كل أنواعه، ولكن من الظلم ونحن نلصق طابع التقليد على أدبنا الحديث أن نغفل طائفة خاصة من الكتاب برعت في الابتكار وأعني بها كتاب المقالة. فالمقالة خطت في الأدب العربي الحديث خطوات واسعة وأصبحت تتحدث في موضوعاتها الخاصة وأهدافها القريبة حديثاً وصل حد الابتداع عند كثير من الكتاب وها هي ذي المقالة العربية في مصر لا تقل عنها في البلدان الغربية إن هذه المقالات التي تقدمها إليك الصحف والمجلات تحركك معها إلى حيث تريد من حيث لا تريده أنت، وتفهمك مطالبها بكل وضوح، هي فخر الأدب الحديث. وكثيرون لدينا برعوا في حيل الإقناع وفي مفاجأة القارئ واللعب به وبكل ما يجعل للمقالة العربية مجدها وشخصيتها. إلى هنا يقف أدباؤنا عن الابتكار، وما بقي من أنواع الأدب العربي أكثره خلو من الابتكار، ولكن خلوه من الابتكار لا يعني فقره في الإجادة ودقة الإنتاج، فأدب المحاكاة أدب قائم بذاته له قيمته وفائدته، وله - وهذا ما نريد الإشارة إليه في هذا المقال - أو انه، ولابد للأدب
كما للمجتمعات البشرية من المرور في أدوار تاريخية مختلفة يتبع فيها سنة التطور ومنطق التدرج وهو قانون ثابت لا تفيد معه ثورة الأديب، ولا ألقاب الابتكار والتجديد التي تمنح له بغير حساب
وهذا الدور في الأدب العربي، دور محاكاة ونقل تتجه فيه العبقرية راضية أو غير راضية إلى النقل عن أدب الغرب أو إحياء ما اندرس من أدب العرب، وهو تيار جارف لا يقف أمامه كاتب مهما كبر، ولذلك فشلت محاولات الابتكار عند كبار أدبائنا. هذه محاولات شتى قام بها كثيرون منهم في السنوات الأخيرة وأرادوا أن يظهروا بها الابتكار والإبداع. ليقرأها القارئ جيداً وليحكم عليها من غير مداجاة، ألا يرى عليها الهزال والشحوب؟ فيدرك أن هذه الجهود المبتورة لا تناسب اسم أولئك الكتاب ومالهم من مجد عظيم نالوه عن طريق النقل.
وما يقال عن النثر يقال عن الشعر أيضاً. ولقد أدرك شوقي رحمه الله في أواخر أيامه أن خير ما يختم به إنتاجه قصص شعرية، عجز عن أن يستمدها من المحيط الذي يعيش فيه فرجع إلى كليوباترة في التاريخ المصري ومجنون ليلى في التاريخ العربي، وكأن الحياة الدارجة ما استطاعت أن تلهم الشاعر الموهوب موضوعاً لرواية قوية تقترن بحياة هذا الجيل
ولا عيب على هؤلاء الأدباء أن ينجحوا في دور الناقل ويخفقوا في دور المبتكر، ولا ينقص من قيمة جهدهم أن يبرز في النقل وحده، فالأدب المنقول يؤدي واجباً كبيراً في خدمة الأمة العربية ويشغل حلقة لابد منها للوصول بين الماضي والمستقبل، هي قسمة لابد منها وتوزيع لنوع الإنتاج بين أدباء المستقبل وأدباء اليوم الذين كان من حظهم أن يأتوا في في هذا العهد، عهد النقل فلا يسطع نجمهم إلا فيه ولا يذهب تقيدهم به سناء عبقريتهم
وهنا من حق القارئ أن يسألني: لماذا يعجز أدباؤنا عن الابتكار؟ أهو كسل منهم كما يقول الأستاذ المازني وفيهم النشاط الجم. أم فقر في المواهب، وفيهم العبقري الموهوب أم فقر في المحيط وهو عامر بشتى الصور والمفاجآت؟
وقد ثار مثل هذا التساؤل من حين قصير بين أدباء الإنكليز وتناول ناقدان كبيران البحث عن أسباب جمود الأدب الإنكليزي الحديث (ولا سيما في ناحية القصة التي تجتاح أكثر
ميادين الأدب الغربي) وتأخره عن الأدب الأمريكي الذي أصبح يخطو خطوات واسعة وينتج آثاراً مدهشة.
قال أولهم: أن الابتكار - وليد ما أسماه شعوراً بالاستغراب يأخذ على الكاتب أنفاسه ويدفعه في مجالي الإبداع، ومتى عجز المحيط عن إثارة مثل هذا الشعور في الكاتب إما لكثرة الصور السابقة المرسومة عنه أو لفقره خلا جو الأدب من المبتكرين
وقال الثاني: إن الأديب يبتكر يوم يثق بمحيطه ويؤمن به، ويعجز عن الابتكار إذا فقد هذه الثقة فلا يثير فيه العناية بدرسه وتصويره بلونه الخاص
وإني أرى أن المانع من الابتكار في الأدب العربي، مزيج من السببين.
ولقد يبدو غريباً لأول وهلة أن تكون الحالة واحدة في المحيط الإنكليزي الذي كثرت الصور عنه وفي المحيط العربي الحديث الذي لم ترسم له صورة صحيحة باهرة إلى الآن، ولكن هذا نتيجة فقدان الشعور بالاستغراب، أما في الأول فأحسب القارئ قد فهم سببه وهو كثرة الصور الباهرة التي رسمها لهذا المحيط أكابر الكتاب فلم نترك مجالاً للمزيد؛ وأما في الثاني فلأن هذا المحيط لا يمكن أن يثير الكاتب إلى الاهتمام به ما دام فكره مشدوهاً بأنوار أخرى بديعة تأتيه من بعبد.
أرجو أن يتصور القارئ نفسه مكان الأدب العربي اليوم: فهو إذا كان مجدداً لا يزال مسحوراً بصور الأدب الغربي العامرة وما فيها من عبقرية ونبوغ؛ وإذا كان من دعاة القديم فلا يزال مفتوناً بالصنعة الباهرة وقوة الاندفاع والحيوية التي يشهدها عند الجاحظ أو المتنبي مثلاً. أن هذه الصور تأخذ بلبه فتشغله عن المحيط الذي هو فيه وهو لا يزال محدقاً بها غير ملتفت إلى ما حوله ما دامت أضواؤها الخلابة تبهر عينه، وأني لأشعر أن هذا الكاتب المنصف لنفسه ولقارئه إذا حاول رسم صورة لشخص من الذين حوله يقعده عن المحاولة ما يراه من تصوير باهر لأساتذة كبار كموباسان ودكنز، فيقول في نفسه: خيراً أن أنقل هذه الصورة الغريبة للناس من أن أقحمهم على مجازفاتي في التصوير، ويقعد عن الابتكار.
ومثله هنا مثل العاقل لا يشعل سراجه ما دامت الشمس طالعة، فهو يكتفي بفتح باب النافذة فتضيء أشعتها المكان وليس في هذا عيب على كهرباء البيت ولا انتقاص لمخترعها
العظيم.
ولن يشعل صاحبنا العاقل كهرباءه إلا ساعة تغيب الشمس وهي هنا في الأدب الساعة التي تذهب فيها دهشة الأديب من منتجات الأدب الغربي أو العربي القديم.
وهنا يدخل السبب الأخر الذي ذهب إليه الناقد الإنكليزي الثاني، فأن انبهار الأديب العربي بصور الأدب الغربي أو العربي القديم يبهت أمامه صور محيطه ويضعف ثقته فيه، فلا يزال هذا المحيط متردداً بين الغرب والشرق وبين الجديد والقديم وبين التقليد والرجعية وقد فقد شخصيته المستقلة القديمة التي تثير الكاتب إلى التغني بأمجادها، ولم يكتسب الشخصية الجديدة التي تثيره إلى الإشادة بقوتها، ولذلك كان طبيعياً أن يذهب الكتاب والشعراء إلى المحيطين البعيدين، الغربي والعربي القديم، لأن شخصيتهما أقوى وأتم.
وأظن القارئ أدرك الآن لماذا اندفع شعراء العصر الأول من الإسلام في الابتكار في الشعر لأن المحيط الجديد الذي خرج إليه العرب من الجزيرة كان عامراً مدهشاً وهكذا ذهب أبو نواس المشدوه بالمحيط الجديد يفاخر به ويتهكم على شعراء الجاهلية، أما ابن المعتز الذي ألف حياة النعيم الجديد إلى حد ما، فكانت أحسن نفحاته هي التي يستمد وحيها من الصحراء ومعانيها التي أصبحت غريبة عنه تثير استغرابه أكثر مما حوله، وأن كانت نضارة هذا المحيط الباقية حافزة له على عدم التخلي عنه تماماً كما صنع الذين جاءوا من بعده ممن ذبلت أمامهم زهرة المحيط الجديد وعاشوا في العهد المتأخر فرجعوا إلى تراث الجاهلية يقلدونه تقليداً فاضحاً لأن هذا الشعر الجاهلي أقوى شخصية وأسطع نوراً من أي شعر جاء بعده
ونعود إلى أدبائنا اليوم، فهم مهما غالوا في المكابرة لا يستطيعون إنكار زهدهم واستخفافهم بهذا المحيط الباهت الألوان الفقير إلى الأمجاد الباهرة، ولذلك فهم لن يبتكروا إلا يوم يؤمنون به، ولا يؤمنون به إلا متى ذهب أثر الدهشة التي يحدثها الأدب الغربي الجديد أو العربي القديم في أذهانهم، على أن ترافق هذا زيادة في سطوع المحيط.
هذه هي موانع الابتكار وهي قوية لا يستطيع الكاتب مهما كانت عبقريته التخلص منها
خير لأدباء هذا الجيل أن يكتفوا بأدب النقل ويجودوا فيه ويهيئوا المجال للجيل القادم فأن مجدهم لن يقوم إلا على النقل وهو مجد له خلوده.
(نزيل القاهرة)
محمد يونس
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
102 -
فيه غيره. . .
ابن الشبل البغدادي:
وكأنما الإنسان فيه غيره
…
متكوناً والحسن فيه معار
متصرف وله القضاء مصرف
…
ومكلف وكأنه مختار
طوراً تصوّبه الحظوظ وتارة
…
خطأ تحيل صوابه الأقدار
تعمى بصيرته ويبصر بعد ما
…
لا يسترد الفائت استبصار
فتراه يؤخذ قلبه من صدره
…
ويزد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يضرب بالملامة نفسه
…
ندماً إذا لعبت به الأفكار
لا يعرف الإفراط في إيراده
…
حتى يبينه له الأصدار
103 -
لم تبلغ قدريتي هذا كله
حدث المبرد: قال رجل لثمامة (القدري المعتزلي):
أنت إن شئت قضى فلان حاجتي
فقال ثمامة: أنا قدري، ولم تبلغ قدريتي هذا كله؛ إنما قلتُ:(أن شئتُ فعلتُ) ولم أقل: إن شئتُ فعل فلان
104 -
جد الأدب جد وهزله هزل
قال خالد بن يزيد الكاتب: لما بويع إبراهيم بن المهدي طلبني، وقد كان يعرفني وكنت متصلاً ببعض أسبابه.
فقال: يا خالد، أنشدني من شعرك
فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله:(إن من الشعر حُكما) وإنما أمزح وأهزل، وليس مما ينشده أمير المؤمنين
فقال لي: لا تقل هذا يا خالد، فأن جد الأدب جد، وهزله هزل، أنشدني، فأنشدته:
عش فحبيبك سريعاً قاتلي
…
والضنى - إن لم تصلني - واصلي
ظفر الشوق بقلب كمد
…
فيك، والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وبلى
…
تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمة
…
فبكائي لبكاء العاذل
فاستملح ذلك، ووصلني
105 -
ندمان الفتى قبل كأسه
العطوي (أبو عبد الرحمن):
يقولون قبل الدار جار موافق
…
وقبل طريق المرء أنس رفيق
فقلت:
وندمان الفتى قبل كأسه
…
فما حث سير الكأس مثل صديق
106 -
الملحية
قال ابن أبي الحديد: وجدت بخط أبي محمد عبد الله بن أحمد الخشاب في تعاليق مسودة أبياتا للعطوي وهي:
قد رأينا الغزال والغصن والنجمين
…
شمس الضحى وبدر الظلام
فوحق البيان يعضده البرهان
…
في مأقط ألد الخصام
ما رأينا سوى الملحية شيئا
…
جمع الحسن كله في نظام
فهي تجري مجرى الاصالة في الرأي
…
ومجرى الأرواح في الأجسام
وقد كتب أبن الخشاب تحت الملحية: ما اصدقه إن أراد بالملحية الحكمة!
107 -
شهود ثقات
أنشد رجل الأمام إبراهيم الحربي قول الشاعر:
أنكرت ذلي فأي شيء
…
أحسن من ذلة المحب
أليس شوقي، وفيض دمعي
…
وضعف جسمي، شهود حبي
فقال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات. . .
108 -
هذا من خاطر الجن
قال الصولي: حدثني علي بن عيسى قال: كان البحتري معي جالسا، فسلم على ابن لعيسى
بن المنصور، فقال لي: ومن هذا
قلت: هذا ابن عيسى بن المنصور الذي يقول أبن الرومي في أبيه:
يقتر عيسى على نفسه
…
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
…
تنفس من منخر واحد
فقال لي: أف، وتف! هذا من خاطر الجن لا من خاطر الإنس ووثب ومضى
109 -
وإذا غاب فبالثاني
(في محاضرات الأدباء) للراغب:
قال خالد بن صفوان لجاريته: أطعمينا جبناً فأنه يشهي الطعام ويدبغ المعدة، ويهيج الشهوة، فقالت: ما عندنا
فقال: ما عليك، فأنه يقدح في الأسنان، ويلين البطن وهو من طعام أهل الذمة.
فقال بعض أصحابه: بأي القولين نأخذ؟
فقال: إذا حضر فبالأول، وإذا غاب فبالثاني
110 -
استعدت التاريخ
قال الفقيه المقري: أنشدت يوماً الابلي قول أبن الرومي:
أفنى وأعمى ذا الطبيبُ بطبه
…
وبكحله الأموات والأحياء
فإذا مررت رأيت من عميانه
…
أمما على أمواته قدَّاء
فاستعادني حتى عجبت منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر وانفعاله، وظننت أنه أعجب بما تضنه البيت الأول من غريب اللف والنشر والمكرر الذي لا أعرف له ثانياً فيه، فقال: أظننت أني استحسنت الشعر؟
فقلت: مثلك يستحسن هذا الشعر
فقال: تعرفت منه أن العميان كانوا في ذلك الزمان يقرءون على المقابر فأني كنت أرى ذلك حديث العهد فاستفدت التاريخ
111 -
. . . حتى أتى الله بالفرج
في (العقد): قال عبد الله بن مسلم بن جندب:
تعالوا أعينوني على الليل إنه
…
على كل عين لا تنام، طويل
قال عبد الله: فطرقني عيسى بن طلحة فقال لي: سمعت قولك فجئت أعينك
فقلت: يرحمك الله، أغفلت الإجابة حتى أتى الله بالفرج
112 -
وآباؤنا أفعال غيرنا
أتى ضرار المتكلم بمجوسي ليكلمه فقال: أبو من أنت؟
فقال: نحن أجل من أن ننسب إلى أبنائنا إنما ننسب إلى آبائنا
فورد على ضرار ما لم يكن في حسابه، فأطرق ساعة ثم قال: أبناؤنا أفعالنا وآباؤنا أفعال غيرنا
113 -
ليته جور مشاع
عبدان الأصبهاني:
تكلفني التصبر والتسلي
…
وهل يسطاع إلا المستطاع؟
وقالوا قسمة نزلت بعدل
…
فقلنا ليته جور مشاع!!
114 -
وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهن
قال المبرد: حدثني الزيادي قال: قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة؟
فقال: لم ذاك؟
قال: لتصبو إليك النساء
فقال: أما نساؤنا فما يرون بنا بديلا، وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهن
115 -
كيف يصوغ الموسيقي الألحان
قال الرشيد لإبراهيم المَوْصلي: كيف تصوغ الألحان؟
فقال: يا أمير المؤمنين أخرج الهم من قلبي وأمثَل الطرب بين عيني، فتنزع إليّ مسالك الألحان فأسالكها بدليل من الإيقاع فلا أرجع خائباً
فقال له الرشيد: يحق لك (يا إبراهيم) أن تدرك ما طلبت
116 -
أن الحديث مع الغناء حرام
أحمد بن علَّويَه الكرماني:
حُكْمُ الغناء تسمّع ومدام
…
ما للغناء مع الحديث نظام
لو أنني قاض قضيت قضيّة
…
أن الحديث مع الغناء حرام
117 -
أعطني فروتي
في الشرح الكبير للشريشي، قال بعضهم: كنت في متنزه لي وإذا شيخ معه صبي في يوم بارد فكنت أسمع الصبي يقول للشيخ: أعطني فروتي، فيناوله شيئا لا أتبينه. فبعثت غلامي ينظر إليه فإذا عند الشيخ قنينة، كلما طلب الصبي فروته سقاه قدحاً.
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 10 -
الفلسفة الهندية
البراهمية الأولى أو الأورثوذوكسية
تشبه آلهة البراهمية الأولى بوجه عام آلهة الإغريق، إذ لا يخفى على الباحث - إذا أغضى عن الموازنة الدقيقة - ما يلفت النظر من المشابهة الواضحة بين آلهة (الفيدا) وآلهة (الإلياذة) و (الأودسا) تلك المشابهة التي لا تجعل مجالا للشك في أن آلهة الكتابين من أسرة واحة يتفقون جميعاً في البساطة والطفولة وسرعة الغضب وسهولة العودة إلى الرضى وفي الخلو من الحقد وسوء النية والأنانية والوحشية المتأصلة في آلهة الآشوريون أو البابليين مثلاً، وهم يتفقون كذلك في القرب من صف الإنسانية كاستعانتهم ببني البشر مثلا في الوصول إلى غاياتهم ثم مكافأتهم إياهم بحمايتهم لهم وعطفهم عليهم.
ومما يلفت النظر في هذه المشابهة هو بساطة اختصاص آلهة (الفيدا) كآلهة (الالياذة) و (الأودسا) وخلوها من التعقيد الذي كان فيما بعد من مميزات الديانة (الأندويسمية) التي ظهرت بعد الفيدا بعدة قرون وكانت مزيجاً من الديانتين:
(الفيدية) والهندية المحلية القديمة، ف (أندرا) مثلاً هو كبير الآلهة وهو إله السماء والمناخ، و (رودرا) و (أجني) هما صاحباه وساعداه على تصريف شؤون الكون. و (جاما) إله الموت و (أوسهاس) إلهة الفجر. وهكذا كل إله له اختصاص محدد ودائرة محصورة.
بدء الخلق
تستقي (البراهمية) الأولى عقيدة بدء الخلق من أسطورتين قديمتين فأما أولهما، فهي أن الإله (براجاباتي) هو في نفس الوقت خالق ومخلوق، لأنه كان في أول الأمر واحداً فأشتاق
إلى التكثر وتمناه، فلم يكن من بقية الآلهة إلا أن أجابوه إلى سؤله، فضحوه وقطعوه إرباً ونثروا أجزائه في جميع البقاع، لتحقيق هذا التوحد المنشود من جميع الأجزاء، وهذا الشوق هو سر التجاذب الخفي الموجود في جميع عناصر الكون، وأنجع الوسائل لتحقيق هذه الغاية هي الضحايا التي يقوم بها بنو البشر.
على أن الوصول النهائي إلى هذه الغاية لا يتحقق تماماً، لأن ما يجتمع من هذا الإله بوساطة الجاذبية الطبيعية من جهة وبالضحايا المقدمة من بني الإنسان من جهة أخرى لا يلبث أن يعود إلى التفكك بعملية خلق جديد يتولاها هذا الإله بنفسه من نفسه رغبة في إنشاء كون وتكثير وحداته. وستظل هذه الدورة مستمرة كالحلقة المفرغة التي لا يمتاز مبدؤها عن منتهاها إلى ما شاء الله أن يكون، ولكن القرابين والضحايا هي أهم أسباب هذا التجاذب الذي بقع بين العناصر المتناثرة فيجمع شتاتها، إذ هي العامل الأوحد الذي يصل بين الإله والأناسي من جهة وبين الأفراد بعضهم مع بعض من جهة أخرى، وأكثر من هذا أنها هي التي تعيد للإله قوته بعد تفككها بسبب تناثر أجزائه.
هذه هي الأسطورة الأولى في عقيدة بدء الخلق، أما الثانية فهي أن الإله (براجاباتي) أحس يوماً بشغف مادي شديد نحو ابنة (أوسهاس) إلهة الفجر الجميلة فأبدى لها هذه الرغبة فارتاعت منها ارتياعاً شديداً وفرت من وجهه مذعورة، فتعقبها وأخذ يرقب حركاتها، فكلما تشكلت بأنثى كائن من الكائنات تشكل هو بصورة ذكر هذا الكائن، وظل على هذه الحال حتى استولى عليها ونال منها بغيته، فحملت لساعتها بأول أفراد هذا العالم الموجود.
وحدة الوجود
كان من نتائج الأسطورة الأولى أن سرت في تلك البلاد فكرة وجود ساذجة لم تلبث أن تحولت إلى وحدة الوجود الفلسفية، تلك الوحدة التي أخذت تقوى مع الزمن حتى عم الاعتقاد بها بلاد الهند كافة. وها هو البيروني يحدثنا عن وحدة الوجود في الديانة الهندية بعد تاريخ (الفيدا) ببضعة وعشرين قرناً فيقول:(قال (باسديو) في كتاب (بكيتا): أما عند التحقق فجميع الأشياء إلهية لأن (بشن) جعل نفسه أرضاً ليستقر الحيوان عليها، وجعله ماء ليغذيهم، وجعله ناراً وريحاً لينميهم وينشئهم، وجعله قلباً لكل واحد منهم، ومنح الذكر والعلم وضديهما على ما هو مذكور في بيذ).
اختلاف الطبقات
كانت طبقات الشعب الهندي في عهد البراهمية الأولى أربعاً، أولاها البراهمية وهم الكهنة ثانيتها (كساتريا) ويسميها البيرتي (كشتر) وهي طبقة الجند، ثالثتها طبقة الفيسيا يسمها البيروني (بيسن) وهي طبقة العمال وأصحاب المهن والزراع، رابعتها سودرا ويسميها البيروني (سودر) وهي طبقة الأرقاء، ومما جاء في كتاب البيروني عن هذه الطبقات قوله:(وهذه الطبقات في أول الأمر أربع، علياها البراهمة قد ذكروا في كتابهم أن حلقتهم من رأس براها وأن الاسم كناية عن القوة المسماة طبيعية، والرأس علاوة الحيوان فالبراهمة نقاوة الجنس، ولذلك صاروا عندهم خيرة الأنس، والطبقة التي تتلوهم (كشتر) خلقوا بزعمهم من مناكب براهم ويديه، ورتبتهم عن البراهمة غير متباعدة جداً، ودونهم (ييش) ثم (شودر) خلقوا من رجلي براهم. وهاتان المرتبتان الأخيرتان متقاربتان)
كتابهم الأول المقدس - الفيدا
ليست (الفيدا) كتاباً هندياً أصلياً وإنما هي كتاب (أندروآرى) حمل الفاتحون عناصره معهم إلى وادي (البنجاب) المفتوح حيث فرضوا تعاليمه على الوطنيين فرضاً. وإذاً فهو لا يمثل العقلية الهندية ولا يصور المدنية القديمة التي كانت زاهرة في تلك البلاد قبل وجوده فيها بأكثر من خمسة عشر قرناً كما أسلفنا، بل بالعكس كثيراً ما يجد فيه القارئ صورا عقلية واجتماعية هي على طرفي نقيض مع الصور التي اكتشفها الأثريون حديثاً للهند المحلية الغابرة، وفوق ذلك هو مكتوب باللغة (السانسكريتية) التي لم تكن معروفة عند الهنود الأصليين من غير شك والتي هي لغة الآريين وحدهم.
غير أن هذا الكتاب لا يزال هو أقدم المستندات العلمية المعتمدة في تاريخ الديانة الهندية، وسيظل كذلك - رغم يقيننا بأجنبيته - حتى يكشف علماء العاديات ما يحل محله في هذه الأولوية من الكتب المقدسة القديمة.
ولا يعرف المؤرخون بالضبط متى جمعت (الفيدا) وإنما كل الذي ثبت لديهم هو أن بعض أناشيدها يرجع إلى القرن الخامس عشر قبل المسيح، وأن صيرورة هذا الكتاب إلى ما هو عليه الآن قد استغرقت عدة قرون، ويرجح بعض العلماء أنه قد جمع في القرن الثاني عشر
قبل المسيح، وأن تياره القوي لم يستطع أن يجرف العقيدة القديمة من نفوس جميع أبناء الشعب الهندي، وإنما قد صبغ تلك العقيدة بلونه الجديد كما أسلفنا، ولم يقو على محوها إلا من نفوس الخاصة المثقفة أما الجماهير فقد ظلت العقيدة القديمة محتفظة بمكانتها في نفوسهم احتفاظاً كان في أول الأمر صامتاً أما قوة الديانة الأجنبية المنتصرة، ولكنه أخذ بعد ذلك يقوى وينتعش شيئاً فشيئاً حتى برز منه الشيء الكثير على مسرح الوجود.
لكلمة (الفيدا) عدة معان، أدقها:(العلم عن طريق الدين بكل ما هو مجهول). وينجم عن هذا التعريف أن تكون (الفيدا) منبع جميع المعارف الهندية من: ديانات وأخلاقيات ونظريات علمية أو اجتماعية، وهي تحتوي أوراداً تعبدية وأناشيد دينية، وتعاويذ سحرية نزل بها الوحي من عند الله على قلب (براهما) فتلاها على الناس فاستظهروها وأخذوا يتعبدون بتلاوتها دون أن يكتنهوا أسرارها. وهي مؤلفة من أربع مجموعات تختلف كل واحدة منها عن الأخرى باختلاف الموضوع الذي تعالجه، فالأولى تسمى (رك بيذ) - (رك فيدا) وهي تحتوي على الأوراد، والثانية تسمى:(سام بيذ) - (سامان فيدا) وتحتوي على الأناشيد. والثالثة (جزر بيذ) - (ياجوس فيدا) وتحتوي على طقوس الضحايا والقرابين. والرابعة (أثارفين - بيذ) - (أتهارفان فيدا) وتحتوي على التعاويذ السحرية.
هذا، واليك ما كتبه أبو الريحان البيروني عن هذا الكتاب:(بيذ) تفسيره العلم بما ليس بمعلوم، وهو كلام نسبوه إلى الله تعالى من فم (براهم) ويتلوه (البراهمة) تلاوة من غير أن يفهموا تفسيره، ويتعلمونه كذلك فيما بينهم يأخذه بعضهم من بعض، ثم لا يتعلم تفسيره إلا قليل منهم. وأقل من ذلك من يتصرف في معانيه وتأويلاته على وجه النظر والجدل ويعلمونه (كشتر) فيتعلمه من غير أن يطلق له تعليمه ولو لبرهمن، ثم لا يحل لبيش ولا لشودر أن يسمعاه فضلاً عن أن يتلفظا به ويقرآه، وإن صح ذلك على إحداهما دفعته البراهمة إلى الوالي فعاقبه بقطع اللسان. ويتضمن (بيذ) الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب بالتحديد والتعيين بالثواب والعقاب، ومعظمه على التسابيح وقرابين النار بأنواعها التي لا تكاد تحصى كثرة وعسرة، ولا يجوزون كتابته، لأنه مقروء بألحان، فيتحرجون عن عجز القلم وإيقاعه زيادة ونقصاناً في المكتوب. ولهذا فاتهم مراراً ويروي لنا البيروني كذلك أن أكثر البراهمة يدعون أن (الفيدا) معجزة لا يستطيع أحد مهما أوتي
من ذكاء الجنان وقوة البيان أن يأتي بمثله، أما أقلهم فيزعمون أن بلغاءهم قادرون على الإتيان بمثله ولكنهم ممنوعون عن ذلك احتراماً له)
ولعلك - إن كنت ممن لهم إلمام بالمذاهب الإسلامية - تذكر أن هذه المسألة بالذات قد أثيرت بين علماء المسلمين، وأن هذا الخلاف عينه موجود بينهم على الصورة التي وجد عليها بين البراهمة، فذهبت الأكثرية الساحقة من علماء المسلمين إلى أنه ليس في طاقة البشر الإتيان بمثل أصغر سورة من القرآن مهما أوتوا من الفصاحة والبلاغة، وذهبت أقلية من هؤلاء العلماء إلى أن الفصحاء ممنوعون قسر إرادتهم عن هذه المحاكاة بحيث أنه لو فرض وجود كتاب آخر يستوي مع القرآن في البلاغة ويصعد إلى طبقته في الفصاحة والإتقان لأمكن للفصحاء تقليده. وإذاً فالعجز عن الإتيان بمثل القرآن في رأي هذا الفريق ليس أصلياً في عقول الفصحاء، وإنما هو عارض دعا إليه إجلال القرآن. ونحن نرجح أن عناصر الخلاف في هذه المسألة بين علماء المسلمين إنما هي دخيلة جاءتهم من الديانة الهندية، ونرجح كذلك أنهم لو لم يتأثروا بهذا الخلاف الهندي لضلوا جميعاً على رأي واحد في هذه المسألة ولأجمعوا على أن القرآن لا يقصد به بقوله:(قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) إلا إعلان العجز الطبيعي الأصيل، وإلا لما صح التحدي، لأنه لا معنى لأن تتحدى شخصاً ثم تدعه على حريته، بل تحاول صرفه عما تحديته فيه وإذا، فلو دقق هذا الفريق النظر في الآية الكريمة لما ذهب إلى ما ذهب إليه.
هذا، ولا يفوتنا قبل مغادرة هذه النقطة أن نعلن أن هذه المغالاة من جانب البراهمة في تقديس كتاب الفيدا هي التي حالت بينه وبين التبديل والعبث اللذين وقعا في كتاب البوذية كما سنشير إلى ذلك في حينه.
(يتبع)
غلاب
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الانتصار على الذات
ليست إرادة الحق في عرفكم، أيها الحكماء، إلا تلك القوة التي تحفزكم وتضطرم فيكم، تلك هي إرادتكم التي أسميها أنا (إرادة تصور الوجود) فأنكم تطمحون إلى جعل كل موجود خاضعاً لتصوركم، وأنتم تحاذرون بحق أن يكون هذا الوجود قد أحاط به التصور من قبل فتريدون أن تخضعوا لإرادتكم كل كائن لتتحكموا فيه بالصقل ليصبح مرآة تنعكس عليها صورة العقل.
هذا ما تطمحون إليه، يا أحكم الحكماء، وتلك هي إرادتكم تجاه القوة والخير والشر وتقدير قيم الأشياء.
إنكم تريدون خلق عالم يمكن لكم أن تجثوا أمامه، تلك هي نهاية نشوتكم وآخر أمنية لكم. ولكن البسطاء الذين يدعون شعباً يشبهون نهراً تخوضه أبداً ماخرة تقل الشرائع، وقد جلسن عليها بعظمة وأنزلن على وجوههن الحجاب.
لقد أرسلتم إرادتكم وشرعتكم على نهر الزمان، ولكن إرادة القوة مثلت أمامي وكشفت لي حقيقة الخير والشر في اعتقاد الشعوب.
وهل سواكم، أيها الحكماء، من أنزل بإرادته المتسلطة هذه الشرائع في هذه الماخرة وقد حليتموهن بالجواهر وأسبغتم عليهن أروع الأسماء.
لقد سار النهر يحملن بانسيابه وسهم الماخرة يشق أمواجه ومن يبالي بالموجة تقاوم عبثاً في إرغائها وإزبادها.
إن الخطر الذي يتهدد خيركم وشركم لا يكمن في النهر، أيها الحكماء، بل الخطر في إرادة القوة نفسها لأنها الإرادة الحية الدائمة المبدعة.
أن ما سأقوله عن الحياة سيوضح لكم اعتقادي في الخير والشر عندما أتناول ببياني ما تفعل العادات في الأحياء.
لقد سايرت الكائن الحي على معابره وأشواطه لأتعرف إلى عاداته، وعندما كانت الحياة صامتة نصبت أمامها مرآة بألف ضلع لأستنطق عينيها فكلمتي لحاظها.
في كل مكان عثرت فيه على حي، طرقت أذني كلمات الطاعة فما من حي يتعالى عن الخضوع، وعرفت أيضاً أن ليس من محكوم في الحياة سوى من لا قبل له بإطاعة نفسه. . . تلك هي عادة كل حي. .
وهذا ما سمعت أخيراً: إن تولي الحكم أصعب من الطاعة لأن الآمر يحمل أثقال جميع الخاضعين له وكثيراً ما ترهق هذه الأثقال كواهل الآمرين.
إن في أمر خطراً ومجاذفة، وكل مرة يصدر الحي فيها أمراً يقتحم خطراً.
وإذا ما تحكم الحي في ذاته فأنه يؤدي جزية لسلطانه إذ يصبح قاضياً ومنفذاً وضحية للشرائع التي يستنها.
وتساءلت عن علة هذه الأمور وعن القوة التي ترغم الحي على الانقياد والتحكم فتجعله خاضعاً حتى إذا حكم. ولعلي توصلت إلى سبر قلب الحياة إلى الصميم، فأصغوا إلى قولي أيها الحكماء
لقد تيقنت وجود إرادة القوة في كل حي ورأيت الخاضعين أنفسهم يطمحون إلى السيادة لأن في إرادة الخاضع مبدأ سيادة القوي على الضعيف، فإرادة الخاضع تطمح إلى السيادة أيضاً لتتحكم فيمن هو أضعف وتلك اللذة الوحيدة الباقية لها فلا تتخلى عنا.
وبما أن الأضعف يستسلم للأقوى والأقوى يتمتع بسيادته على هذا الأضعف فإن الأقوى يعرض نفسه للخطر في سبيل قوته فهو يجاذف بحياته مستهدفاً للأخطار.
أن إرادة القوة كامنة حتى في مجال التضحية والخدمة المتبادلة وبين نظرات العاشقين لذلك يتجه الأضعف إلى السبل الملتوية قاصداً اجتياز الحصن والتربع في قلب الأقوى مستولياً فيه على قوته
لقد أودعتني الحياة سرها قائلة: لقد تحتم علي أن أتفوق أبدا على ذاتي. وأنكم لتحسبون هذا الاندفاع إرادة إبداع أو غريزة تحفز بي إلى الهدف الأسمى والأبعد منالاً بعديد جهاته، في حين أن ليس هنالك إلا وجهة واحدة وسر واحد. وأنني لأفضل العدم على التحول عن هذه الوحدة.
والحق أنكم حيث تشهدون انحداراً وسقوط أوراق من الأدواح، فهنالك تشهدون تضحية الحياة من أجل القوة.
لقد وجب علي أن أكون أنا الجهاد والمستقبل والهدف وأن أكون في الوقت نفسه الحائل الذي يعترضني في انطلاقتي إلى هدفي
لذلك لا يعرف الإنسان الطريق المتعرجة التي عليه أن يسلكها إذا هو لم يدرك حقيقة إرادتي.
مهما كان الشيء الذي أبدعه ولي ومهما بلغ حبي له فإن عليّ أن أنقلب له خصماً، وأتحول عن حبي وحناني، ذلك مل قضته إرادتي عليّ
وأنت، أنت يا من تطلب المعرفة ليس لك من سبيل غير سبيلي فعليك أن تقتفي أثر إرادتي، وما تقتفي إرادتي إلا آثار إرادة الحق
ما عثر على الحقيقة من قال بإرادة الحياة، لأن مثل هذه الإرادة لا وجود لها، وليس للعدم إرادة كما أن المتمتع بالحياة لا يمكنه أن يطلب الحياة
ولا إرادة إلا حيث تتجلى حياة، ومع هذا فإن ما أدعو إليه إن هو إلا إرادة القوة لا إرادة الحياة
أن هنالك أموراً كثيرة يراها الحي أرفع من الحياة نفسها، وما كان ليرى أشياء أفضل من الحياة، لو لم تكن هنالك إرادة القوة.
هذا ما علمتني إياه الحياة يوماً، وأنا بهذا التعليم أهتك أسرار قلبكم، أيها الحكماء، فأقول لكم: إنه ليس هنالك من خير دائم وشر دائم، لآن على الخير والشر كليهما أن يندفعا أبداً إلى التفوق والاعتلاء
وأنتم أيها الواضعون للقيم أقدارها بمقاييسكم وأوزانكم وبما تقولونه عن الخير والشر هل كان لكم أن تفعلوا هذا لو لم تكن لكم إرادة القوة؟ وما تطمحون في أعماق ضمائركم إلا إلى الشهرة والشعور بتأثركم وفيضان أرواحكم. ولكم تجهلون أن في الأمور التي تخضعونها لتقديركم قوة أعظم من تقديركم تنمو وتتفوق على ذاتها لتحطم غلافها وقشورها، فمن أراد أن يكون مبدعاً سواء أكان في الخير أو في الشر فعليه أن يبدأ بهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه تحطيماً. وهكذا فأن أعظم الشر يبدو جزاء من أعظم الخير، ولكن هذا الخير لم
يعط إدراكه إلا للمبدعين
لقد حق القول علينا أيها الحكماء، مهما كلفنا الجهر به فأن الصمت أشد وطأة علينا، لأن كل حقيقة نكتمها إنما تتحول إلى سم زعاف فينا، فلنحطم الحقائق التي نجهر بها ما يمكنها أن تحطم فأن هنالك أبنية عديدة يجب علينا أن نرفعها
هكذا تكلم زارا. . .
العظماء
إن في بحراً هدأت أعماقه، فمن يظن أنه يخفي مسوخا دأبها المزاح؟ إن أغواري صامدة لا تتزعزع، غير أنها تتماوج بالمعميات وتجاوب فيها من الضحك نبرات وأصداء.
رأيت اليوم رجلا من العظماء الإجلاء الذين يكفرون من أجل الروح. فاستغرقت روحي في ضحكها هازئة بقبحه. غير أن هذا العظيم لم يبد ولم يعد. بل أنتفخ صدره كمن يتنفس الصعداء، فلاح لي بحقائقه المروعة وبأثوابه الممزقة غصناً كله أشواك وليس فيه ورد.
ما تعلم هذا القناص الضحك ولا عرف الجمال، فأنه راجع من غاب المعرفة أغبر الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش فانطبعت صورهم على سيمائه، فهو كالنمر يتحفز للوثوب، وما أحب مثل هذه الأرواح المنقبضة على ما تضمر.
تقولون، أيها الصحاب، إنه لا جدال في الذوق وفي الألوان فكأنكم تجهلون أن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان.
ما الذوق إلا الموزون والميزان والوزان. . . فويل لكل حي يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين
ليت هذا الرجل العظيم يتعب من عظمته ليظهر الجمال فيه فأنه في ملاله من هذه العظمة يستحق أن أتذوقه فأجد له طعماً.
إذا لم يتحول العظيم عن نفسه فلا يمكنه أن يقفز فوق خياله لتغمره أشعة شمسه. لقد تفيأ الظل طويلا، هذا المفكر من أجل الروح، فشحب وجهه وكاد في انتظاره أن يموت جوعاً، وهذه عيناه تشعان بالاحتقار وشفتاه تتبرمان بالاشمئزاز، أنه يلتمس الراحة الآن ولكنه لم ينطرح تحت الشمس بعد.
ليت هذا الرجل يتمل بالثور فيفوح من سعادته عبق الأرض لا احتقار الأرض. ليته كالثور
الأبيض يعج أمام المحراث فيرتفع عجيجه تسبيحاً للأرض وما عليها.
لقد أكفهر وجه هذا العظيم إذ تلاعبت على خديه إظلال يده فاخفت عيناه. وأعماله نفسها لم تزل كالخيال تلوح ولا تبدو عليه. فإن اليد ترسل ظلا قاتماً على العامل إذا هو لم يتفوق على عمله
إنني أقدر احتمال هذا الرجل لنير الثور ولكنني أتمنى أن تشع نظرات الملاك في عينيه، ولن تشع هذه النظرات ما لم ينس ما فيه من إرادة الأبطال. لأن ما أريد له هو أن يصير رجلاً سامياً لا أن يبقى في مربية الرجل العظيم حيث يفقد الإنسان إرادته فتتلاعب به أضعف النسمات.
لقد تغلب هذا العظيم على الجبابرة وتوصل إلى حل الرموز ولكن عليه الآن أن ينقذ هذه الجبابرة وهذه الرموز ليحولها إلى طفولة الألوهية.
إن معرفة هذا الرجل لم تتعلم الابتسام ولا الترفع عن الحسد كما أن موجة شهواته لم تكن في خضم الجمال. وما عليه أن يدفع بهذه الشهوات إلى سكون الشبع بل عليه أن يغرقها في الجمال لأن اللطف لا ينفصل عن مكارم من بلغوا الأوج بتفكيرهم
على البطل ألا يستسلم للراحة ما لم يضع يده على رأسه ليتفوق على راحته، وما يصعب على البطل شيء كإدراكه الجمال، لأن الجمال لا يستسلم لأبناء العنف.
أن بين الإفراط والتفريط قيد أنملة، فلا تحتقروا هذا المدى لأنه بعيد وإن قصر وفيه الأهمية الكبرى. ولكن عضلات العظماء لا تلجأ إلى السكون وأرادتهم لا تنضب. وما من جمال إلا في تنازل القوة إلى الرحمة وحلولها في المنظور.
أنني لا أطالب بالرحمة سواك، أيها المقتدر، فلتكن الرحمة آخر مرحلة تقطعها في انتصارك على ذاتك. وما كنت لأفرض الخير عليك لولا أنني أراك قادراً على ارتكاب كل الشرور. ولكم أضحكني أولئك الصعاليك يعدون أنفسهم رحماء وقد شلت يدهم ولا حول لهم ولا طول
عليك أن تتمثل في فضيلتك بفضيلة الأعمدة التي تزداد بها دقة وصلابة في لبابها كلما ازداد ارتفاعها
أجل أيها الرجل العظيم إنك ستبلغ الجمال يوماً فترفع المرآة إلى وجهك لتتمتع برؤية
جمالك وعندئذ تختلج روحك بالشهوات وعندئذ تتجلى العبادة في غرورك
لا يقترب البطل في أحلامه إلى مرتبة البطل الكامل ما لم يغفل الروح ويتحول عنها.
هكذا تكلم زارا. . .
رسالة الفن
ميكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور أحمد موسى
- 3 -
وما صادفه من صعاب سبق ذكرها، صادفه هنا في تنفيذ مشروعاته الفنية الخاصة بحقوق أميري المديتشي جيليانو ولورنسو، اللتين كان قد أوصى بعملهما الكردينال جليودي مديتشي في سنة 1519، ولم يبدأ في تنفيذهما إلا سنة 1521 بعد تعديلات وأخذ ورد
على أنه عمل بيده فيها من سنة 1527 إلى سنة 1530، ووقف عندما أضطر للفرار لهبوب العاصفة السياسية التي انتهت بانهزام المديتشي وخروجهم من فلورنسا. عندئذ عمل ميكيلانجلو تحت لواء الجمهورية حتى عودة المديتشي ثانياً
وبعد موت البابا بقليل سافر في سبتمبر سنة 1534 إلى روما دون أن يتم أعماله إلى النهاية فقد ترك اثني عشر تمثالاً دون إكمال إلى أن أتمها جورجيو فاساري (1511 - 1574) الذي كان مصوراً ومهندساً معمارياً ومؤرخاً لعصره، والذي بنى قصر أوفيسين بفلورنسا بردهته المعتبرة من أجمل ردهات قصور إيطاليا
ويحسن بنا أن نعلم بعض الشيء عن هاتين المقبرتين المشهورتين، التين تعدان آية من آيات الإعجاز الفني، فبين حائطين تنحصر مسافة خصصت للمقبرتين، ولكل منهما تمثالان رمزيان إحداهما لامرأة والآخر لرجل، وفوقهما نافذة أشبه بقبلة وضع فيها تمثال للمتوفى جالس.
أما التماثيل الرمزية فهي عارية الجسم، وأكبر من الحجم الطبيعي قليلاً، وتمثل الأوقات اليومية الأربعة وعلاقتها بالنفس وهي (الليل، النهار) و (الفجر، المساء) معبرة عن الأسى والحزن لوفاة الأميرين.
وقد عبر ميكيلانجلو عن الليل بامرأة نائمة وعند قدميها بوم. وأما النهار فقد مثله برجل هرقلي التكوين، ولكنه ترك الرأس والذراع غير كاملين، وكلاهما في غاية القوة الإنشائية
وحسن الإخراج، ولكن الطريقة الوضعية لهذين التمثالين تكاد تكون مستحيلة بالنظر إلى الكيفية التي أجلسهما بمقتضاها، وهذا ما قررته عندما تناولنا مميزاته الفنية بالبحث
ونأتي هنا بصورة لجانب آخر من هذه المقبرة (ش1) فترى فيها لورنسو جالساً، وعند قدميه تمثالا الفجر والمساء (ش2، ش3). أنظر إلى رأس كل منهما وتأمل القوة في الإخراج والعظمة في الإنشاء؛ فالوضع العام خال من الإرغام والطريقة الوضعية أهدأ كثيراً من تماثيله لليل والنهار، وقد عبر عن الحزن تعبيراً قوياً، هذا والتكوين الجسماني وسير الخطوط الإنشائية مما يثير الدهشة والاستغراب لهذه القوة الخارقة في تقدير الجمال الكامل وحسن إخراجه
أنظر إلى جمال اليد اليسرى للمرأة، وإلى اليد اليمنى للرجل وتأمل نعومة جسم المرأة وقوة عضلات الرجل، ترى أن ميكيلانجلو كان موفقاً كل التوفيق في هذين التمثالين
أراد أن يمثل لك بطريقة إخراجه ألم الأحلام الحزينة في الليل وما ترسمه على الملامح عند الفجر، فأخرج وجه المرأة على هذه الصفة، كما أراد أن يمثل لك كيف أن الحزن نهاراً يعود على الجسم العامل والعقل المفكر بملامح أقرب إلى إنهاك القوى والتعجيل بحلول الشيخوخة، فكان إماماً يحتذي وقائداً يتبع وفناناً يذكر على مر القرون
وتمثالاه لجليانو وفلورنسو أقرب إلى الإخراج الإغريقي وهما لا يمثلان صاحبيهما وإنما رمزيان للتعبير عنهما فالأول مثل قائداً حربياً ارتسمت على وجهه ملامح التفكير وقوة الإرادة وصرامة الأوامر. وأما الثاني (لورنسو)(ش1) فتراه جاساً وقد اكتسى جبينه بغطاء رأسه فأحدث ظلاً على العينين أكسب صاحبهما شيئاً من الخفاء وعمق التفكير. أنظر إلى اليد اليسرى وقد لامست شفتيه وإلى السبابة وقد جاورت الأنف، ثم تأمل المجموع الكلي، تر أن صاحب هذا التمثال بحالته هذه وبطريقة جلسته وعمقه في تفكيره، لابد وأن يكون من رجال السلطة العامة. وهذا ما قصده ميكيلانجلو تماماً فقد سجل بذلك للأخوين أميز وأبرز صفاتهما وهي الحكم.
والدارس للمجموع الإنشائي لهاتين المقبرتين يسجل لميكيلانجلو المعرفة الصادقة بأصول علم التشريح بالنسبة إلى التماثيل، والإحاطة الكاملة بعلم النفس بالنسبة إلى مظهرها، فضلاً عن القدرة في فن المعمار التي تجلت في وضعه التصميم الكلي وما أنطبع عليه من
الانسجام
وله على الحائط الثالث للمقبرة مجموعة تمثل المادونا مع يسوع الطفل، وهي جالسة والطفل متجه إلى ثديها للرضاعة، وهي لا تقل جمالاً عن قطعه الأخرى، لا سيما وأن المادونا على جانب كبير من الجمال الرفيع مع شيء كثير من الحزن
وعلى ذلك لا مناص للمؤرخ الفني من اعتبار هاتين المقبرتين مجموعتين أعظم إنتاج مجسم أخرجه ميكيلانجلو وأكمل عمل فني أفرغ فيه غايته وأدى به رسالته، كما أن ما شملتاه من تماثيل بجانب تمثاله للنبي موسى (راجع المقال السابق) أهم وأبرز إنتاج فني في مدرسة النحت الحديث
أما المرحلة الثالثة من حياته فقد بدأت منذ رحيله نهائياً إلى روما في سبتمبر سنة 1534، وإقامته فيها حتى وفاته بعد أن بلغ التاسعة والثمانين في 18 فبراير سنة 1564
وقد ارتقى رئيساً عاماً للمعماريين والنحاتين والمصورين في القصر الابوستولي، وكلفه البابا بتصوير السقف السكستيني (نسبة إلى البابا سكستس الرابع) واشتغل منهمكاً فيه من سنة 1535 إلى سنة 1541، وصور (يوم القيامة) كما صور بين سنة سنة 1542 وبين سنة 1550 الصور اللازمة لمجموعة باولينا.
أما من سنة 1542 إلى سنة 1545 فقد أكمل البناء التذكاري ليوليوس، وهو بناء شامل لطبقتين (دورين) لكل منهما ثلاث قبلات، في الطبقة الأرضية تمثال موسى، وعلى اليمين واليسار وضع تمثالان جديدان، الأول يمثل (ليا) امرأة يعوب الأولى وبيدها المرآة، والثاني لامرأته الثانية (راشيل) وهي تصلي، وهما مليئتان بالحياة والحركة.
أما في الطبقة العليا، فله قطع مثلت البابا والمادونا والكاهن والنبي، وهي ليست في جودة قطعه السابقة، ولذلك يخيل إلينا أنها من نحت تلاميذه.
ونحت بعض التماثيل وتركها دون إتمام، منها مجموعته لبيتا ومنها المجموعة الصغرى محفوظة بقصر روندانيني بروما، ومجموعته الكبرى عملها خصيصاً لمقبرته وهي تشمل أربعة تماثيل موجودة الآن في كاتدرائية فلورنسا بالردهة الرئيسية.
واشتغل في هذه المرحلة بالشعر أيضاً وله ملحمات معروفة، خصوصاً تلك التي كتبها غزلاً في معشوقته فيتوريا كولونا بين سنة 1534 و1547 وكان لها تأثير عظيم في فنه وفي
مجرى حياته
ومنذ سنة 1546 أسند إليه الأشراف الفعلي على بناء قبة كنيسة بطرس واشتغل بهندسة المعمار السبعة عشر سنة الأخيرة من عمره، ودفن في كروسه بفلورنسا.
أما ميكيلانجلو المصور فسيكون موضوع بحثنا في العدد القادم.
أحمد موسى
البريد الأدبي
وفاة جيمس باري عميد الكوميديا الإنكليزية
نعت أنباء لندن الأخيرة كاتباً من أعظم كتاب إنكلترا المعاصرين هو السير جيمس باري القصصي والكاتب المسرحي الكبير؛ توفي عقب أصابته بالتهاب رئوي صاعق. وكان مولده سنة 1860 في قرية من أعمال أسكتلندة وتلقى تربيته في جامعة أدنبورج، وشغف بالأدب منذ حداثته وفي سنة 1883 بدأ حياته في الصحافة، واشتغل بالتحرير في جريدة (نونتنهام جورنال)، ولفت الأنظار إليه بعدة مقالات أدبية رائعة؛ وفي سنة 1885 انتقل إلى لندن، وظهر كتابه الأول بعد ذلك بعامين بعنوان:(الموت أفضل) وهو مزيج من الخيال الساحر والتهكم اللاذع ثم ظهر كتابه وهو مجموعة صور ريفية فزاد في شهرته؛ وبعد قليل ظهرت روايته الصحفية الشهيرة (حينما يكون الرجل أعزب) ثم مجموعة صور جديدة عن الحياة في أدنبورج، وظهرت في سنة 1889 أقوى وأعظم رواياته وهي (أرملة في ثياب خشنة) ثم رواية ظريفة عن التدخين عنوانها ثم (الوزير الصغير)
وفي ذلك الحين بدأ باري يكتب للمسرح، وافتتح مجهوده بمسرحية عنوانها فنالت نجاحاً عظيماً وتلاها بكوميديا عنوانها (قصة غرام الأستاذ) ' - في سنة 1895؛ وأصدر في هذا الوقت أيضاً مذكراته في حياته الأولى مع والدته بعنوان ثم استأنفها في روايتين أخريين هما وتمتاز هذه السلسلة بأسلوبها الفكاهي اللاذع الذي برع فيه باري براعة عظيمة
وفي سنة 1902، أخرج باري مسرحيته الغريبة:(العصفور الصغير الأبيض)، وهي أول حلقة من سلسلة القطع الشهيرة التي اتخذ لها بطلاً مدهشاً هو (بيتر بان).
واشتهر أيضاً بقطعة أخرى عنوانها: (لعبة الاختفاء مع الملائكة) وفيها يشرح طريقته في العمل وفي الحياة كأنها مداعبة مع الملائكة
ويرى النقدة أن سير باري بلغ أروع مواهبه في الكوميديا، وأنه يعرضها بفن لا يجارى ويتفوق فيها على المأساة (الدرامة)، وفي أثناء الحرب أخرج باري عدة من المسرحيات المؤسية والكوميدية، بيد أنها لم تكن من النوع الممتاز وأشهر هذه القطع:(قبلة لسندريلا) ويبدو باري في هذه القطع متأثراً بطابع هانس اندرسون
وحصل باري سنة 1913 على وسام البارونية، ثم وسام الاستحقاق سنة 1922. وانتخب منذ سنة 1830 مستشاراً لجامعة ادنبورج.
أعياد جامعة لوزان
قرأنا في البريد السويسري الأخير شيئاً عن جامعة لوزان التي احتفلت أخيراً بعيدها بمناسبة مرور أربعمائة عام على تأسيسها ويذكر القراء الجامعة المصرية قد اشتركت في هذا الاحتفال على يد مديرها الأستاذ الكبير لطفي السيد باشا وقد نشأت جامعة لوزان سنة 1537 أكاديمية متواضعة أنشأها أهل برن في مقاطعة فات (فود) بعد أن افتتحوها لتكون معهدا للتبشير للدين البروتستانتي الذي غلب في سويسرا يومئذ، وقطعت الأكاديمية الجديدة عهداً من الاضطراب خلال الجدل والخصومات الدينية، ولكنها لقيت عضداً كبيراً في معاونة البروتستانتيين الفرنسيين؛ وفي سنة 1700 زادت الأكاديمية على قسم اللاهوت قسمين جديدين للتاريخ والقانون، ولما استقلت مقاطعة فات بشئونها الإدارية عنيت بتنظيم الأكاديمية، وصدر سنة 1837 قانون بإنشاء ثلاث كليات بها. وفي سنة 1869 وضع العلامة لوي ريشونيه مشروعا لتنظيمها، وأخيرا في سنة 1890 حولت إلى جامعة كبيرة، وأنشئت لها مبان فخمة.
وقد كان الاحتفال بعيد جامعة لوزان مظاهرة علمية دولية عظيمة؛ فقد اشترك فيه ممثلو الجامعات والهيئات العلمية في سائر أنحاء الأرض؛ وافتتح الاحتفال في الكاتدرائية الكبيرة، ثم أقيم مهرجان علمي بالجامعة لمنح العالميات الفخرية لطائفة من العظماء؛ ثم نظمت بعد ذلك نزهة لقصر شيلون الشهير الذي تغنى به الشاعر بيرون
كتاب جديد لأميل لودفيج
يعنى الكاتب المؤرخ الألماني الكبير أميل لودفيج بعد أن أخرج كتابه الضخم عن نهر النيل بقسميه حسبما ذكرنا ذلك في الرسالة، بوضع كتاب جديد عن كليوباترا ملكة مصر، وينتظر أن يظهر هذا المؤلف الجديد بعد بضعة أشهر فقط؛ وفي ترجمة كليوباترا يستطيع أميل لودفيج أن يعرض كل مواهبه وبراعته كمترجم لأبطال العالم، وقد ظهرت هذه البراعة من قبل في جميع التراجم التي أخرجها المؤرخ عن (المسيح) وعن (نابليون) وعن
(بسمارك) وعن (ولهلم القاني) وغيرها، بيد أنه يجد في حياة كليوباترا ميداناً أكثر سحراً وخصوبة، فحياة هذه الملكة المصرية العظيمة لم تكن سوى مأساة مؤثرة؛ وأميل لودفيج في الواقع كاتب مسرحي قبل كل شيء يجيد عرض المآسي؛ وأخص ما في تراجمه هو هذا العرض الذي يصوغها في صور الأشخاص الحية، تراها أمامك تحت قلمه بجميع مناظرها وجميع حسناتها وعيوبها، وعنصر المأساة هو الذي يجذب أميل لودفيج ويذكي خياله وقلمه، ولا يتوفر هذا العنصر قدر توفره في حياة كليوباترا فهي ملكة عظيمة وامرأة ساحرة، تستعمل سحرها كامرأة في الذود عن مركزها كملكة، فإذا خانها الحظ، ولم يعد سحرها يحدث أثره، وحينما تشعر أن كل شيء قد أفلت من يدها ولم يبق غير العبودية، فإنها تؤثر أن تغادر هذه الحياة بمحض أرادتها؛ وفي حياة كليوباترا نلتقي بشخصيات عظيمة كشخصية أنتوني، ويوليوس قيصر، ثم أوغسطوس، وفي هذا المزيج من العبقريات المدهشة يستطيع أميل لودفيج أن يطلق العنان لقلمه، وسوف تعني شركة (الان وانوين) بإخراج هذا الكتاب
جامعة إنكليزية في قبرص
منذ بضعة أشهر قام اللورد جورج لويد المندوب السامي لإنكلترا بمصر سابقا برحلة في بلاد الشرق الأدنى، وقيل أنه مكلف بمهمة سياسية وثقافية خاصة، والآن يتضح لنا طرف من هذه المهمة؛ فقد راع السياسة البريطانية انتشار الثقافات الأجنبية الأخرى؛ ولا سيما الثقافة الإيطالية في مصر وفلسطين وقبرص ومالطة، فرأت أن تتقي هذه المنافسة الخطرة بمثلها؛ وعرض لورد لويد أخيراً نتائج بحثه على لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني؛ وأخص ما يقترحه اللورد علاجاً لهذه المشكل أن تنشأ جامعة إنكليزية في قبرص تكون مهداً لإذاعة الثقافة البريطانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، ويقول لورد لويد بأن الثقافة البريطانية ليست اقل في نوعها ونفوذها من الثقافة الإيطالية، وأن شعوب هذه الأنحاء تفكر ولا ريب أن تتغذى بالثقافة البريطانية، ثم أن الدعاية الإيطالية التي تشتد وطأتها الآن في شرق البحر الأبيض المتوسط لا يمكن مقاومتها إلا عن هذا الطريق الثقافي القوي
وإذا كانت إيطاليا وهي ليست ذات مصالح حيوية في هذا القسم من البحر الأبيض تعنى
هذه العناية بنشر ثقافتها فأولى ببريطانيا العظمى ذات المصالح العظيمة في هذه البلاد أن تدعم هذه المصالح بنشر ثقافتها
مسارح الهواء الطلق
أعدت ألمانيا هذا العام ثمانية وأربعين مسرحاً مكشوفاً يمثل فيها في الهواء الطلق، وتوجد هذه المسارح اليوم في معظم المدن الكبرى ومراكز الاصطياف والاستشفاء؛ ويجري فيها التمثيل في شهور الصيف من يوليه حتى سبتمبر وقد اختير لها برنامج معظمه من القطع الكلاسيكية الخالدة مثل (حلم ليلة صيف) و (روميو وجوليت) لشكسبير ومسرحيات جيته وشيللر شاعري ألمانيا العظيمين، وكذلك أنتخب عدة قطع محدثة من مسرحيات أبسن وهابتمان، وبيرجنت، وفلوريان جينر وغيرهم، وبعض قطع كوميدية شهيرة. وسوف تمثل أيضاً في هذه المسارح المكشوفة أوبرات موسيقية لأعظم أقطاب الموسيقى مثل جلوك، وهاندل وريخارد شترادس، وأوجين البرت وغيرهم
وفكرة المسارح المكشوفة مستمدة من اليونان القديمة حيث كانت أثينة وأسبارطة وكورونته تغص بهذه المسارح الرياضية الفنية، وكانت المدارس الشعبية العملية تتخذ أداة لتثقيف الشعب وتهذيب مشاعره
الاحتفال بذكرى وفاة أبن سينا
من أنباء الآستانة أن جمعية التاريخ التركية احتفلت في 21 من هذا الشهر بمرور 900عام على وفاة الطبيب الفيلسوف التركي الكبير أبن سينا احتفالا يليق به. وقد بدأ الاحتفال في الساعة الثانية في معهد البيولوجيا بالجامعة. وألقى كثير من العلماء الأتراك والأجانب محاضرات شرحوا فيها الخدمات التي أداها أبن سينا للعلم. ونخص بالذكر من بين هؤلاء العلماء المسيو لوفان رئيس شرف الجمعية الدولية لتاريخ الطب والدكتور تريكور رداير أستاذ تاريخ الطب بالجامعة والرئيس العامل لنفس الجمعية والدكتور جوبولو. وقد نشرت بهذه المناسبة كتاباً عن حياة الفيلسوف الشهير وأعماله وعرضت في الوقت نفسه كتب أبن سينا المخطوطة والمطبوعة في المعهد البيولوجي وقد أعدت جمعية التاريخ التركية في المطبعة الأميرية بالألوان الكتاب الأصلي للفيلسوف الشهير وهو الموجود في متحف
المؤلفات التركية والإسلامية
كذلك احتفل في جميع أوزبكستان بالذكرى التسعمائة لوفاة (أبن سينا) وقد جمعت بهذا المناسبة النماذج النادرة لمؤلفات العالم الكبير باللغات العبرية والعربية واللاتينية في مكتبة طشقند وقد نشر المستشرقون في أوزبكستان نشرة تضمنت مقالات عدة عن أبن سينا
منح جوائز التفوق العلمي
أتصل بنا أن معالي وزير المعارف يدرس الآن مشروعاً لإقامة حفلات عامة في القاهرة تمنح فيها جوائز للتفوق العلمي وهذه رغبة من رغبات الرسالة نادت بها في مستهل هذا العهد الجديد ونقول بهذه المناسبة إن مجلس إدارة الجامعة قرر إقامة حفلة سنوية تمنح فيها الدرجات الجامعية باحتفال كبير
القصص
بقعة من حبر
للقصصي الفرنسي رينه بازين ' '
للأديب أحمد المحمود
1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23، هذا كل ما أستطيع أن أذكره عن الثلاث والعشرين سنة الأول من سني حياتي، ومجرد تعداد هذه الأرقام يكفي - كما ترى - لإظهار تشابهها المشترك وتوضيح وحدة اللون بينها.
مات أهلي ولم أعد للطفولة الأولى، وإني لأستحضر صورهم في شيء من الجهد والمشقة، وتكاد معالم البيت الذي شهد حبوي الأول تنمحي من ذاكرتي لولا أنني نشأت غير بعيد عنه أرنو إليه ويرنو إلي، ولكن الدار بيعت وا أسفاه! وغاضت حياتها أبد الدهر، أجل بيع البيت فجرى عليه حكم القدر القاسي وفي هذا المكان اكتحلت عيناي بالنور، وفي مدرسة البلدة تصرم ثمانية عشر عاماً من عمري وقد أعتاد المدير أن يشرح لنا معنى المدرسة وأنها عائلة ثانية لها قيمتها وأثرها في النفس حتى خيل لنا أنها تفضل الأولى بمراحل كثيرة وتسمو عليها شرفاً وقدراً.
وما كدت أنهي دراستي الثانوية وأحمل شهادتها النهائية حتى بعث بي خالي إلى باريس لدراسة الحقوق والتثقف بالثقافة العالية وفي ثلاث سنوات نلت الإجازة التي مضى عليها ثمانية عشر شهراً وهي في يدي، ثم أقسمت يمين المهنة وغدوت - بهذه الصفة المكتسبة على حد تعبير خالي - محامياً متمرناً وكنت كل صباح اثنين أثبت وجودي في المكتب مع زملاء آخرين وظهر لي بذلك أنني حزت ثقة الأرملة واليتيم.
نلت إجازة الأدب - في يسر ولباقة - بينما كنت أتابع دراستي الحقوقية، وأنا الآن أوشك أن أغدو (دكتورا) في الحقوق، ولقد كانت امتحاناتي حسنة في الجملة، ولكنها ليست في الدرجة التي كنت أرجوها إذ قال لي أستاذي إن الذوق الأدبي عمل فيها عمله الشديد (وطبيعة الحقوق - يا بني - لا تمت - على عادة العلوم - إلى القلب والعاطفة بسبب من
الأسباب). أصحيح أن قلبي موزع بين الأدب والحقوق؟ ذلك ما لا أعتقده، ولكنني لن أعترف بهذا إلى أستاذي الذي لم ينس بعد أنني نلت أجازة في الأدب. إنه يبني علي بعض الآمال ومن الطبيعي أن أبني عليه - بدوري أنا - بعض الأماني في الفحوص المقبلة.
وماضي حياتي تختصره ورنقتان نلتهما وثالثة تتراءى لي عن بعيد، وأوشك أن أنالها، ثم خال ذو ثروة كبرى. وإلى تاريخ 10 ديسمبر 1884 لم يكن ثمة حادث يذكر ولكن من يستطيع أن يضمن جمود الحياة فلا تتطور، وهذا حادث خطير جرى لي بعد ظهر هذا اليوم فأثر في نفسي أثره العميق وهاج من خواطري كلما أمعنت التفكير والتحليل له والوقوف عنده.
كثيراً ما كنت أذهب إلى دار (المكتبة الأهلية) للعمل في صالة المخطوطات الخاصة التي تضم بين جدرها الطبقة المشهورة من الكتاب والعلماء المرخص لهم بالعمل فيها، وكنت في كل مرة ألج باب هذه الصالة أحس بشعور الغبطة والكبرياء لوجودي في مكان لا يقبل إلا من كان على جانب من الشهرة وذيوع الاسم. وأتخطى برهبة سدة الحارس الذي اتخذ مكانه إلى رتاج الباب يستقبل الزائرين القدماء ببسمة لا تخرجه عن وقاره وهيبته عندما يمرون به إلى مقاعدهم. ولم تكن بيني وبينه هذه المعرفة الزمنية حتى يجود عليَّ بابتسامة، ولكنه على كل حال كان يستقبلني بانحنائة قصيرة من رأسه وقد اعتاد أن يراني كل يوم فلا يطلب مني البطاقة كما كان يطلبها من الزائرين الجدد وفهمت أنني أصبحت فرداً من أفراد العائلة فما عليَّ إلا أن أجوس خلال البيت بأمن وسلام.
ها أنذا في هذه الصالة الفخمة أسرح البصر في اتساعها وجدرها المزينة التي تشبه في أصباغها الجميلة الألواح الفنية الرائعة فتبعث في النفس شعور الإجلال والتعظيم. وعلق بصري بما يشبه المنبر فتبينت أن هذا المكان يجلس فيه النفر المختار من رواد هذه الدار الذين يتمتعون بألقاب العلم وأوسمة الأندية الأدبية. وينتثر إلى جانبي هذا الممر على صورة أصبحت عادية سكان المكتبة العلماء، ومن يتأملهم مقوسي الظهور مطرقي الرؤوس حادبين على كتبهم يفترسونها بصمت وسكون رهيبين يتعظم في نفسه تأثير الفكرة في العقل البشري ومبلغ اجتياحها في رؤوس هؤلاء التي قلت شعورها، ومع ذلك فإن هذا الجمع من القرعان كان لا يعدم بعض من برقت شعورهم
وغالبا ما ينقطع بعض هؤلاء العلماء القراء - عندما أمر - عن القراءة فيشخصون إلي بعين (تائهة) بلهاء لا تميزني جلياً لإغراقها في القراءة والتفهم، ولكن هذه الأبصار كانت تنحسر عني عندما تلمح تقطيب وجهي فتتصهب العيون وتعود إلى ما كانت عليه وهي أشد ما تكون نشاطاً وشوقاً وندماً على أن أضاعت الوقت في تفحص هذا الآتي الغريب. ولكني كنت أحس بخواطر هؤلاء وبما هم دائبون فيه. هذا يبتدر رفيقه بأنه يدرس منشأ الصناعات والحرف وأصولها، وذاك عاكف على دراسة عصر لويس الثاني عشر، وآخر يهمس في أذن رفيقه: أنا أدرس أحوال المرأة المدنية في عصر طيباريوس، ويسرع آخر إلى شده الجمع بأنه يبحث عن ترجمة جديدة لهوراس. وشعرت بأن جميع من في هذا المكان يبتدرني بالسؤال: وأنت أيها الحدث ماذا جئت تفعل هنا؟ ألا لا تعكر صفو هذا المكان الوقور
ماذا جئت أفعل هنا؟! وا أسفاه!. . . يا سادة. . . وهل أنا في حاجة إلى أن أقول لكم إن خالي ما فتئ يستحثني ويلحف علي في إنهاء أطروحة الدكتوراه ويضطرني إلى العودة إلى الريف ويبدي سأمه من بطئ الوضع والتأليف، وها هو ذا صراخه في كتبه إلي:(أقلل من النظريات يا بني؟. . . أسرع إلى العمل ودع عالم الخيالات والأحلام وما الذي أهاب بك إلى انتقاء هذا الموضوع دون سواه؟. .) والواقع أن موضوع (أطروحتي الرومانية) انتقى خصيصاً لتمديد إقامتي في باريس. (لاتين جونيوس) هذا موضوع أطروحتي - أيها السادة القراء - وأنه لموضوع طريف كما ترون ولكنه صعب عسير التوضيح، وليس بينه وبين الحياة العملية أقل صلة أو علاقة وهو يسبب لي تعباً كثيراً ونصباً جما، ويا ليتكم تتصورون بعض ما أقاسيه من مشاق الدرس والمراجعات والمطالعات
ومن الصدق والواجب أن أقول إنني كثيراً ما أمزج مع هذه المشاق بعض القراءات المسلية الجذابة وأرود أمكنة المعارض والملاهي وأن خالي يجهل من أمري كل شيء إلا أنني مدمن للكتب والموسوعات ومغرق في استنطاق أسطرها ومتونها وهوامشها وأن خالي ليعجب كثيراً بابن أخته الناشئ، هذا الراهب الناسك (البندكتي) الذي لا يفارق دور العلم وأروقة (المكتبة الأهلية) في باريس، بابل الحديثة - كما يسميها - مفنياً لياليه وأيامه مع (غايوس) مستصحباً (لانتييه) غير عابئ بكل ما لا يمت إلى هؤلاء بصلة. وأنا أحرص
كثيراً على حسن ظنه بي فأرسل له دائماً بطاقات الانتساب للمكاتب ودور العلم موقعة من قيميها ومحافظيها وهو دائماً يحتفظ بها حتى يتوفر لديه منها صندوق.
ولقد وصلت هذا الصباح ناشطاً أكثر مني في بقية الأصباح وكأن سوء الطالع كان يرافقني للقضاء على هذا النشاط المنبعث من قرارة نفسي فسبب لي بلية ما كان اشغلني عنها وأغناني!. .
تنتصب إلى جانبي سدة قيم المكتبة أريكتان تحملان أوراق الطلب وأقلام الكتابة وقادتني خطاي إلى الأريكة اليمنى ويا ليتني لم أقصدها، إذن لكنت في نجوة عما أنا فيه الآن من أسف وندامة.
أخذت الريشة المتصلة بسلسلة نحاسية وخططت بغير وضوح كثير أسم الكتاب والمؤلف الذي أتوخى مطالعته وأعدت الريشة إلى مكانها، ولكن ما أدري والله كيف أركزتها ولعلها فقدت اتزانها فاضطربت وتدحرجت السلسلة والريشة وأني لأسمع صوتها. . . لقد ارتجفت وندت نقطة حبر كبيرة. . . على. . . على كتاب أثري. . . أمام أحد الأعلام الشيوخ!. . وإن كنت أذكر لا أذكر إلا انتصاب هذا الإنسان الأبيض الهزيل في ظلام مقعده صارخاً:
- يا للغباوة!. . لقد لوثت الكتاب الأثري!
وملت إلى المقعد أتفحص فعلتي التاعسة فوجدت أن نقطة الحبر السوداء القاتمة قد استقرت على غلاف الكتاب إلى جانب اسمه المذهب، وها هي ذي تتفرطح فتتشعب إلى ما يشبه المغزل والسنان وأشكال مختلفة، وهنا وهناك انتثرت نقاط صغيرة وتوزعت على صفحته كما تنتثر النجوم في السماء. وإذا ببعض الخطوط تتجمع فتشكل أخدوداً ينحدر فيه الحبر إلى أسفل الصفحة. وتطلعت فإذا أنا محاط بهالة من القراء وكلهم ينظرون إلي بعين متفحصتين فجمدت عروقي وسمرت في مكاني لانتظار الفضيحة وتمتمت بكلمات اعتذار وأسف كانت لا ترد علي ما فات. وأما قارئ الكتاب فلم ينبس ببنت شفة وكأنه قد فقد الحركة وكنا ننظر سوية إلى تشكل البقعة ونرود بأعيننا خطوط جريانها وانبثاقها على الصفحة وكأنه قد عاد إلى مداركه بعد استقرار البقعة واستكمال الملاحظة فاهتز اهتزازة محمومة وتناول من جيبه ورقة نشاف وشرع يمتص برجفة عصبية لطوخ الحبر ويعالجها بدقة الممرضة تضمد جراحاً. واهتبلت الفرصة لا تقهقر إلى الصف الثالث من المقاعد
حيث وضع لي غلام المكتبة الكتب التي طلبتها. وجلست أحمل نفسي على الاعتقاد بأنني لو لم أفه بشيء ولو أنني أتوارى عن الأنظار أو أن أخبئ رأسي بين يدي كرجل أثقلته جسامة المسؤولية إذن لكفيت هذا الغضب وهذا الصخب ولكن الأمر لم يكن ليتوقف عند هذا الحد، وفوقت البصر قليلاً أسترق تتمة المشهد فإذا بي أبصر هذا الإنسان الأبيض الصغير الذي كان واقفاً إلى جانب القيم يكثر من الحركات بيديه قد أصبح بين يدي وكان تارة يشير بسبابته إلى الكتاب الملوث وطوراً إلي متجها نصف اتجاه، وحزرت من دون ما تعب أو مشقة أنه يقصدني بالكلمات الخشنة التي كان يذروها، وقد بدا لي بنظرة خاطفة أن قيم المكتبة أشفق علي من كلمات هذا الشيخ الذرب، فاحمر وجهي خجلاً وأحسست بالخجل يسير في كل جسمي
وهاهم أولاء يتصفحون دفتر وأظنه البيان الذي يشير إلى قيمة الكتاب وثمنه ومكان الابتياع وانهم ليتآمرون على إفراغ المكان مني وتحديد الجزاء والغرامة!. . أواه!. . يا خال تأهب لتحملها!
إلى هنا استرسلت في أفكاري المحزنة وما رجعت إلى نفسي إلا وشعرت بأن يداً تربت على كتفي دون أن أحس بدنو صاحبها، وقال:
- إن المحافظ يطلبك إليه
فنهضت أتأثر الغلام وما أن حاذيت القارئ الرهيب الذي كان قد استقر به مكانه حتى لممت بعضي في الوصول إلى سدة القيم الذي بدرني:
- أو أنت الذي لوثت هذا الكتاب؟. .
- نعم يا سيدي
-. . . إنك لم تتعمد فعلتك هذه؟
- طبعاً لا، وأنا آسف لوقوع الحادث يا سيدي
- أنت على حق في ندمك وعلى صواب، لأن هذا الكتاب من أندر الكتب الأثرية الموجودة، والبقعة أيضاً من اغرب البقع ولا أعتقد أني رأيت بقعة على هذا الشكل.
وأحسست بأني سأقول له إن الإنسان يلوث كما يشاء، لولا أنني أمسكت نفسي، فقال لي:
- اكتب أسمك وصنعتك ومكان أقامتك؟
فكتبت ما يلي:
(فابيان جان جاك مويارد محامي، 91، شارع رن
- هذا كل شيء؟. . .
- نعم هذا كل شيء، مؤقتاً ولكنني أعلمك بأن (مسيو شارنو) مغيظ جداً ومن المناسب والمستحسن أن تعتذر له عن الخطيئة التي اقترفتها.
- مسيو شارنو!؟. .
- نعم المسيو شارنو عضو المؤسسة العلمية الذي كان يقرأ الكتاب الأثري.
وتساءلت في نفسي عن هذا القارئ الخطير. . . يا الهي!. . أيكون المسيو شارنو هذا الذي تكلم لي عنه المسيو فلامارون رئيس لجنة التدقيق في أطروحتي؟ أنهما زميلان إذن إحداهما عضو مجمع العلوم السياسية والمعنوية والثاني عضو معهد دراسة النقوش والفنون الجميلة.
شارنو!. . شارنو!. . أجل ولا يزال جرس هذه الكلمة يطن في أذني ولا سيما في المرة الأخيرة عندما قال لي أستاذي: أنه (أي شارنو) صديقي الحميم من معهد الفنون والآثار. وأحسست بأن خطراً يتهددني في شهادتي وامتحاناتي ونزلت إلى أعماق نفسي أتحسس غوامضها فإذا بي في مأزق حرج ما أهتدي إلى الخروج منه، وأن الخوف يتسرب إلي من جهتين اثنتين:
أولاً - لا أعلم ماذا ينتظرني من الجزاء والعقوبة للكلمة التي فاه بها القيم عندما استكتبني اسمي وكنيتي. وثانياً - أخشى أن يفسد علي هذا العالم (شارنو) عطف أستاذي فلامارون لانتهاكي حرمة الكتاب الذي كان يقرأه، هذا إذا كان نزقا غضوباً كما ظهر لي عند وقوع الحادث المشئوم.
وهل يجب أن أعتذر للمسيو شرنو؟ وأي الأعذار أقدمها له؟ وهل أنا لوثته حتى أسرع إلى الاعتذار؟ أم أن هذا من حق الكتاب الذي احتمل اعتدائي؟ أن المسيو سالم مما لحق بالكتاب وليس على قميصه أو أثوابه شيء من الحبر أو اللطوخ، فلماذا أذن يأخذني بهذه الحدة وهذا الغضب؟. . ولكنني سأقول له:
- سيدي أنا أسف جداً لأنني عكرت عليك الصفو في أبحاثك العلمية. أن كلمة أبحاثك
العلمية ستتملق ولا ريب أثرته وإحساسه وستكون مخدراً قوياً لأعصابه المتوترة. . .
واستجمعت نفسي للنهوض وإذا بالمسيو شارنو يقبل بهزة عصبية وبغضب ما زال يشتد منذ وقوع الحادثة وترتسم على وجهه أمائر الاستياء الشديد من تقلص في الشفاه إلى سهوم في الوجه والنظر وكان يتأبط محفظته وذراعه تضطرب في إمساكها إلى خاصرته. وحدجني بنظرة قاسية. . . وتابع خطاه.
حسناً يا مسيو شارنو!. . إن رجلا غاضبا في حالتك التي أشهد لا يمكنه استساغة المعاذير ولكنني سأعتذر لك فيما لو تقابلنا إذا كان للأيام أن تضعنا وجهاً لوجه. . .
(طرطوس)
أحمد المحمود