المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 209 - بتاريخ: 05 - 07 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٠٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 209

- بتاريخ: 05 - 07 - 1937

ص: -1

‌الجيل الجديد

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

زارني منذ بضعة أيام عدد من شبان هذا الزمان فنظرت إلى ثيابهم الجميلة وتفصيلها المحبوك على قدودهم الممشوقة وتحسرت على أيامنا. وكان بينهم واحد يلبس بنطلونا قصيرا فقلت له: (أتلبس هذا عادة؟) قال: (نعم. سبور) قلت: (في أي مدرسة أنت؟) قال: (في الخديوية) قلت: (أسمع. أنا أيضاً كنت تلميذا في المدرسة الخديوية ولا أذكر إني رأيت فيها - في تلك الأيام - تلميذاً يلبس بنطلوناً قصيراً، لا أدري لماذا؟ ربما كانت الروح (الاسبور) تنقصهم في تلك الأيام، ولكني أعرف أيضاً أني في صغري كنت لا أقبل أن ألبس هذا البنطلون القصير. . . كان أخي الأكبر يأخذني قبيل افتتاح المدارس إلى محل (ماير)، وكان أشهر محلات الثياب في تلك الأيام، فيعرض على البائع أمثال هذا البنطلون فأقول لأخي: هذه سراويل لا بنطلون، وآبى كل الإباء أن أتخذها. وأصر على البنطلون الطويل فيضحك أخي ويقول للبائع:(هات له بنطلوناً طويلاً. . إنه يريد أن يكون رجلاً ويحس انه رجل، فلا داعي للتنغيص عليه). وأنا أفهم أن تلبس هذا القصير حين تلعب ولكن الحياة ليست كلها لعبا. . فيها ساعات للعمل والجد على ما أظن)

فقال أحد زملائه: (إنه لا يزال صغيراً)

قلت: (لا أدري. لقد كنت أيضاً صغيراً لما كنت أرفض ارتداء هذا البنطلون. كنت في التاسعة من عمري يومئذ. وأحسب أن من كان في التاسعة جدير بأن يسمى صغيراً. . وليس للإحساس بالرجولة وقت معين أو سن مخصوصة. . فمتى تريد يا صاحبي أن تشعر إنك رجل!)

والتفت إلى إخوانه وقلت لهم: (ليت واحداً منكم يقول لي كيف تقضون يومكم)

فترددوا، وصار واحد منهم يبتسم، وثان يفرك يديه، وثالث يتمتم بكلام غير مسموع فقلت لهم:(أنا اصف لكم كيف كنا نقضي اليوم في حداثتنا. . . كان بيتنا في ذلك الوقت عتيقا جداً، وله فناء واسع كبير فيه شجرة جميز ضخمة. وكان في الفناء (حاصل) رحيب فيه أيضاً بئر، فكنت أستيقظ في الساعة الخامسة صباحاً - صيفا وشتاء - فأنحدر إلى هذا الحاصل وأدلي دلوي في البئر فأملأه وأصبه على بدني - بعد خلع ثيابي طبعاً. كان هذا

ص: 1

يقوم عندي مقام (الدوش) في أيامنا هذه. . . فقد كان الماء يحمل إلى البيوت في القرب على ظهور السقائين لا في الأنابيب كما هو الحال اليوم. . . ثم أصعد إلى المسكن فأفطر وأتناول كتاباً وأقرأ حتى يدنو موعد المدرسة فألبس ثيابي بسرعة. . . في دقيقة واحدة بلا مبالغة، وما زلت الآن قادراً على ارتداء الثياب في مثل هذا الوقت القصير. . . أي في دقيقة. . . وأحسب إني لو عملت في فرقة تمثيلية لأدهشت المتفرجين بسرعة اللبس. . . ما علينا. . . إنما ذكرت هذا لأني رأيت كثيرين يضيعون ساعات في ارتداء الثياب: يقفون أمام المرايا ويتأملون أنفسهم في صقالها من الخلف والأمام ومن اليمين والشمال كأنهم سيعرضون في مسابقة للجمال، أو كان أهم عمل للإنسان في هذه الحياة هو أناقة الملبس وحسن البزة وجمال الهندام. إذا مالت ربطة الرقبة نصف ملليمتر كان هذا عيباً فظيعاً؛ وإذا كانت هناك ذرة واحدة من التراب على نعل الحذاء خربت الدنيا وقامت القيامة في البيت على الخادمة المهملة. ما علينا كما قلت. ثم أذهب أجري إلى المدرسة أجري بالمعنى الحرفي لأني كنت أقرأ فلم أجعل بالي إلى الوقت وموعد المدرسة. وما أكثر ما كنت أجري وفي يدي ربطة الرقبة فلا يتيسر لي أن أضعها حول رقبتي إلا في الصف أو في المكتب. ولو تخلفت عن المدرسة لما كان في ذلك بأس ولا منه ضير، فقد كنت أنا ولي أمر نفسي، ولكنا نحب المدرسة وكانت لنا رغبة في التعلم. وينقضي اليوم المدرسي فنكر راجعين إلى بيوتنا ثم نخرج للرياضة والنزهة والترويح عن النفس ساعة أو ساعتين

وأذكر لكم شيئا. . كنا ثلاثة أو أربعة لا نكاد نفترق. ولم نكن في مدرسة واحدة ولكنا كنا نلتقي بعد المدرسة في بيت أحدنا ومعنا كتبنا أو بعضها فنتبادل الدروس التي تلقيناها في يومنا، ثم نمضي إلى قصر النيل أو غيره - على أرجلنا - فإذا كان اليوم خميس ركبنا زورقاً على النيل وكان أبو أحدنا رجلاً فيه شذوذ، فكان يتفق أن يجيء إلى بيتي يقف في الفناء الرحيب تحت الجميزة ويصفق، حتى إذا شعر أن أحداً أطل من النوافذ العليا كف عن التصفيق وانطلق يصيح:(يا أهل عبد القادر. . حوشوا أبنكم عن أبني. . أفسد أخلاقه وعلمه السهر إلى الساعة اثنين) فيخيل لمن يسمعه يصيح إننا نسهر إلى الساعة الثانية صباحا أي بعد منتصف الليل، ولكنه كان يعني لا ساعة الثانية بالحساب العربي: أي العشاء أو بعد ذلك بقليل. . .)

ص: 2

فقال أحد الشبان: (لم يكن في أيامكم سينما ولا غيرها من الملاهي التي تضيع الوقت)

فقلت: (إن اللهو ميسور في كل وقت. وطالبه لا يعدمه في أي مكان أو زمان. والمهم هو إرادة اللهو لا اللهو في ذاته. وأنا أراكم تريدون الحياة كلها لهو لا جد فيها ولا عمل؛ وهذا هو الفرق بيننا وبينكم، فقد كنا ندرك أن اللهو ساعات لا ينبغي أن نعدوها، أما أنتم فلا يكاد الواحد منكم يدرك أن للعمل وقتا أو أن العمل واجب. . تريدون اللقمة ممضوغة بل مهضومة قبل أن تضعوها في أفواهكم، بل أنتم لا تريدون أن تكلفوا أنفسكم عناء بلعها وازدرادها. . من منكم يعنى بأن يفتح كتابا غير كتب المدرسة؟ لقد كنا نذهب إلى المكاتب ونبحث فيها عما نريد من الكتب. . وانتم تنشر لكم الصحف إعلانات مشوقة مرغبة مغرية عن الكتب فلا يخطر لأحدكم أن يشترى منها كتابا. . حتى كتب المدرسة لا تقرؤونها. . وشكواكم أبداً من الامتحان وصعوبته. . وسعيكم دائما إلى التسهيل والتخفيف والرأفة. . وما أحسبكم تطلبون إلا أن تعطوا الشهادات بلا امتحان. . والوظائف بلا استحقاق. . وقد سمعت بعضهم يقول أن الجرائد والمجلات تشغل الطلبة في هذه الأيام عن الدرس والتحصيل، وأعتقد أن هذا كلام فارغ فقد كانت في أيامنا جرائد ومجلات كنا نقرأها جميعا. . اللواء والمؤيد والجريدة والمقطم والدستور والهلال والمقتطف، بل كنا نذهب إلى دار الكتب لنقرأ فيها المجلات القديمة مثل الضياء والبيان لصاحبهما المرحوم اليازجي. . . وكذاب من يقول إنكم تقرءون الصحف، فما تقرءون فيها حين ترونها إلا أخبار الامتحان والإضراب والمظاهرات الساعية إلى الوزارات تستجدي النجاح. . . وما تقرءون إذ تقرءون إلا المجلات الهزلية لأن حياتكم هزل بحت)

فقال أحدهم: أن الحركة الوطنية هي المسئولة عن انصراف الطلبة عن التحصيل. فلم يقنعني قوله هذا وبينت له أن الحركة الوطنية كانت أيضا في أيامنا. . . بل كانت في ذلك الوقت أحمى، وكان مصطفى كامل يقيم البلاد ويقعدها بخطبه ومقالاته اليومية. ولكن قراءة أو سماع الخطبة لا يستغرق اليوم كله ولا يستنفد الجهد أجمعه. . . وقد كانت هناك في أيامنا جمعيات أدبية شتى وكنا نعنى بأن نشهدها كلها. ولو أن جمعية أدبية قامت في زماننا هذا لما حضرها إلا مؤسسوها. . . وحتى هؤلاء في مواظبتهم على الحضور شك كبير. . وفي كل أمة صحف ومجلات وأمور تشغل أبناءها، وما أظن أن أحدا سيدعي أن مشاغلنا

ص: 3

أكبر من مشاغل الشعب البريطاني أو الألماني أو الفرنسي. . ومع ذلك لا نرى هذه البلادة المخيفة والانصراف الموئس عن الجد.

وقصصت عليهم قصة فقلت: (إني بعد أن تخرجت من مدرسة المعلمين العليا وأصبحت مدرسا اتفق يوما أن كنت جالسا في مقهى بميدان قصر النيل - ميدان الإسماعيلية الآن - وكان معي كتاب (حديث المائدة) لويندل هولمز، وكنت أقرأ فيه حديث الشاعر على المائدة، فمر بي إنجليزي كان معلما لي في مدرسة المعلمين فخففت إليه وحييته، فقد كنت أحبه، فكان أول ما قاله لي:(أظن أنك لا تقرأ شيئا في هذه الأيام؟) فسألته عن سبب هذا الظن القبيح بي فقال: (ألست مدرساً وموظفاً ولك مرتب تتقاضاه في آخر كل شهر؟ فما حاجتك إلى القراءة؟) وكان يتهكم. ولو أني شئت لما عبأت بسوء رأيه هذا ولكنه شق على أن يتوهم أني ما كنت أقرأ إلا طلباً للشهادة ورغبة في الوظيفة، فرجعت إلى حيث كنت قاعدا وعدت إليه بالكتاب الذي كنت أقرأ فيه ودفعت به إليه وقلت له:(واسألني إذا شئت. . امتحني. . نعم فأني مستعد، فابتسم وقال: إنما كنت أمزح. . لأحثك على المواظبة على الاطلاع. . وأني لأعرف أنك تحب التحصيل للتحصيل، ففرحت بهذا جدا وعدت إلى مجلسي مسروراً مغتبطاً بحسن رأي أستاذي؛ وقد لقيته بعد ذلك بسنوات طويلات المدد في إنجلترا وكنت أهم بالعودة وأتزود من مكتبة هناك فقال لي: (أراك لا تزال تقرأ؟) قلت: (إن لنا مثلا يقول إن الزامر يموت وأصابعه تلعب. . صار الأمر عادة يا سيدي. . لا أستطيع أن أنام إلا إذا قرأت شيئا. . لا لأنام فان الكتب لا تنيمني، بل لأحلق في سماء الفكر وأرتفع لحظة عن هذه الأرض. .)

فاعتذر أحدهم بأن الدروس كثيرة وأنها مضنية، وهذا صحيح، فإنها أكثر مما ينبغي، ولكني قلت لهم: إن دروسنا كانت أقل وأفرع وكان أمرها أهون، ولكن الذي كنا نقرأه من تلقاء أنفسنا، بلا حث أو حض، كان أضعاف أضعاف ما تتبرمون منه. . لقد كان أحدنا يقرأ في الليلة الواحدة كتابا. . من منكم يعرف أن لداروين كتابا اسمه أصل الأنواع؟. . أو من منكم يعرف اسم داروين؟. . لقد قرأت هذا الكتاب الجاف في صدر أيامي. . وقرأته بلا معين وحطمت رأسي به. . وما أكثر ما حطمت رأسي بأمثاله. . الحقيقة أنكم قوم ولا مؤاخذة فارغون. . وأنتم الذين سيكون في أيديكم زمام هذا البلد المسكين!)

ص: 4

ولا أعرف لماذا زارني هؤلاء الشبان، ولكني أعرف أنهم انصرفوا راضين على الرغم من هذه العلقة!

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 5

‌السندوتش والمائدة

للأستاذ عباس محمود العقاد

أدب السندوتش هو أدب الفاقة والعجلة، وأدب المائدة هو أدب اليسار والوقار، كما سماهما الكاتب البليغ الأستاذ الزيات وأصاب في التسمية. لأنها تسمية وتوصيف وتعليل في وقت واحد

وقد ختم الأستاذ مقاله سائلا: (ليت شعري إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر - أدباء الكهول - الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد كيف تكون حال الأدب الرفيع في مصر؟ أيذهبون وبطئان ما يعوَّضون على رأي الأستاذ أحمد أمين، أم يذهبون وسرعان ما يخلفون على رأي الأستاذ العقاد؟)

وفي جواب هذا السؤال أيضاً لست من المتشائمين، لأن الجواب بعضه من سر المستقبل. وبعضه من حقائق الماضي؛ فان وقفنا من المستقبل بين الشك والرجاء فموقفنا من الماضي أدنى إلى رجاء المتفائل. وأقصى عن يأس المتشائم، بل لعله موقف لا يحمل في أطوائه غير يقين الرجاء.

قبل ربع قرن من الزمان كان أناس غير قليلين يسألون كما يسأل الأستاذ الزيات اليوم: ترى من يرفع لواء الأدب بعد أعلامه البارزين في هذه الآونة؟ ترى هل ينطوي اللواء بعدهم أو تهيئ له الأيام أكفاً تنشره كما نشروه وتعزه كما أعزوه؟

ولم يكن اسم واحد من الأسماء الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الأستاذ الزيات معروفا تلك المعرفة التي تغني في إجابة السؤال؛ وربما كانوا مجهولين كل الجهل في غير مجال الأصحاب أو مجال المتطلعين المتسمعين إلى أبعد الأصداء؛ فكان الجواب الغالب على الألسنة أن المستقبل مقفر مدبر، وأن من مات فات وليس له لاحق بين ناشئة الجيل

فإذا سألنا في مفرق الجيلين مثل ذلك السؤال ورأينا البوادر تملي علينا مثل ذلك من الجواب، فليس من اللازم أن تصدق البوادر، وأن تنقضي خمس وعشرون سنة أخرى دون أن يخلف السابقين عوض من اللاحقين، وإن خفي نجمهم اليوم أو تراءى على الأفق ترائيا يتشابه فيه النجم والسديم

وإننا لنذكر اليوم الستة أو السبعة القائمين بأمانة الأدب وننسى الستين أو السبعين الذين

ص: 6

كانوا يهزلون كما يهزل بعض الناشئين في أيامنا، ويتبلغون بالقليل من زاد الاطلاع كما يتبلغ أدباء السندوتش بيننا: نسينا أولئك الستين أو السبعين لأن الزمان قد نسيهم وعفى على أسمائهم وآثارهم، ولكنهم كانوا في أيامهم يحجبون الأفق ويشبهون الشخوص على الأنظار ويبعثون اليأس ويثبطون الرجاء. فليس من البعيد أن يكون لهم نظراء يلبسون الأمر علينا، وأن يكون للستة أو السبعة نظراء ينقشع عنهم الغبار بعد عشرة أو عشرتين من السنين، وإن جاز أن يخيب الظن كما يخيب بعض الظنون

وفي العالم كله نوازع شتى تنزع بالناس الآن إلى الأدب الرخيص أو أدب السندوتش أو أدب الفاقة والعجلة، وقلما تختلف البلاد في هذه النوازع على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية التي تساس بها الشعوب في العصر الحديث

ففي البلاد الديمقراطية يكثر القارئون بين سواد الشعب ويتوخى الناشرون الرواج فيؤثرون ما هو أشيع وأيسر على ما هو أندر وأنفع؛ ويطغى الأدباء الهازلون على أصحاب الجد والأمانة، فلا تتساوى الرغبة في الأدب النفيس والرغبة في الأدب الخسيس

وفي البلاد الفاشية يتحكم المستبدون في أذواق الكتاب والشعراء فلا يذعن لعسفهم واستبدادهم إلا طائفة من المرتزقة المتزلفين الذين لا يقدرون على الأدب القيم؛ ولو أبيح لهم أن يطرقوه ويتوسعوا فيه، فهم أحرى أن يعجزوا عنه وهم مكبوحون مسوقون بالرهبة والإغراء

وفي البلاد الاشتراكية يعتقد الحكام أن الآداب هي لسان حال الطبقات، وأن الأدب الذي يليق بهم هو أدب الطبقة السفلى ومن إليها من أشباه العامة والمسخرين. وحسبك من أدب يقوم على أذواق هؤلاء، ويجري مع هذه الأهواء

ولا ننس عصر الآلات وما يجرف به الناس من سرعة جامحة ونزوة جامحة. ولا ننس (الحرية الشخصية) وما سولته للصغار والأوشاب من غرور المساواة وتمرد المباهاة، فقد بدأت باعتبار الرجل نفسه نداً للسراة والوجهاء ولو كان في الصعاليك والفقراء، وانتهت باعتبار الرجل نفسه نداً للعلماء والأذكياء ولو كان من الجهلاء والأغبياء، فضعف الخجل من التقصير، وضعف الطموح إلى مساواة الأعلين، وأصبح العي الفهُّ لا يداري عيه ولا فهاهته لأنه صاحب (حق) في العي والفهاهة، وصاحب دعوة في المساواة لا يعدم لها

ص: 7

أنصاراً بالألوف والملايين!

تلك النوازع في بلاد العالم كله على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية خليفة أن تنصر أدب الفاقة والعجلة، وتنحى على أدب اليسار والوقار. ولكننا نرجع إلى العصور الغابرة فلا يصادفنا عصر منها إلا كانت فيه نوازع كهذه النوازع في نصرة الأدب المبذول وخذلان الأديب الكريم العزيز. وقريبا من عصرنا هذا كان تمليق الأغنياء والخضوع للجامدين والولع بمحاكاة الأقدمين وضعف الثقة والعجز عن حرية التفكير والإبداع نوازع أخرى لا تقل في أثرها الوخيم عما أحصيناه من مساوئ عصرنا، فلا نفاذ في عصور الزمن لبواعث الضعف ولا نفاذ فيها لبواعث القوة؛ وشأن العقول في ذلك شأن الأبدان بين دواعي السقم ودواعي الصحة، لا ينفرد عصر بالأمراض كلها ولا ينفرد عصر بالعافية كلها، ولا يزال الحال في تعادل ونقص وتعويض ما دامت الحياة حيه تعطي وتأخذ من دنياها بمقدار

على أننا لا نخادع أنفسنا ولا نستر الفوارق التي بيننا وبين غيرنا. ففي إنجلترا مثلا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم برتراند رسل وهو يتهد في أعوص الموضوعات؛ وفي فرنسا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم رومان رولان وبرجسون في المثل العليا وما وراء الطبيعة؛ وفي ألمانيا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم هوسرل وهيدجر في معارض لا يعنى بها فيما أحسب عشرة من قرائنا المصريين؛ وفي إيطاليا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم فريرو وجنتلي وجروشي في معضلات الاجتماع والتاريخ. وإنما مثلت بالفلسفة وحدها لأن موضوعاتها أعسر، وقراءها أندر، وعقول الباحثين فيها أكبر وأقدر؛ وهي بعد عنوان لما وراءها من أدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور.

أما في مصر فأدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور إنما يقوم على كواهل أصحابه ولا يقوم على كواهل القراء؛ وكل ما نملك من عزاء أن الجد والهزل في هذا الباب يتساويان، فليس بيننا كاتب هازل يعيش بهزله، وليس بيننا كاتب جاد يعيش بجده؛ وسبيل العزاء في هذا أن الهزل والجد يعيشان على نمط واحد، فلا يجوز الهزل حتى يطمس معالم الجد، وأن شاء أن يجور

كذلك يتعاقب أدباء الكهول وأدباء الشباب في أوربا، ولهم في التعاقب معنى يتمثل في

ص: 8

تعاقب الأدوار وتلاحق الأفكار، وتباين المدارس الذهنية على حسب الأحوال والأطوار

أما عندنا فحين ظهر بيننا من ينتعون أنفسهم بمدرسة الشباب لم يكن معهم شيء جديد ولا دليل على الحداثة غير شهادة الميلاد، وراحوا في دعوتهم يميعون تميع الذي يربت على عطفيه ويتحبب إلى نفسه ويفرط في تدليل سنه كأنه يتقدم في سوق الرقيق لا في ميدان الفكر وحلبة الصراع

بيد أننا قد جربنا الاختلاف بيننا وبين أوربا الحديثة في خصال كثيرة صلح بعضها ولا تزال لها بقية على سنن الإصلاح؛ فلنجرب ما بيننا وبينها من اختلاف في هذه الخصلة خمسا وعشرين سنة أخرى، ولا ننتظر نهايتها حتى نتفاءل ما وسعنا التفاؤل على أبواب المجهول، وحسبنا منه فيما نحن فيه أن يتساوى الأمران فلا موجب للأمل ولا موجب للقنوط، وكل ما كان بالأمس فهو وشيك في غد أن يكون

أيذكر الأستاذ الزيات ما كانوا يعيبونه قبل خمس وعشرين سنة على كتاب الجيل الناشئ وشعرائه وناقديه؟؟ كانوا يجمعون العيوب كلها في كلمة واحدة يسمونها (التفرنج) ويعنون بها الخروج على قواعد العربية، وكان يخيل إلى سامعيهم أنهم على صواب لا ريب فيه؛ فهل نرى اليوم مصداق ذلك في لغة الفريقين من المسومين بالإعراب والموسومين بالتفرنج في ذلك الحين؟ أقرب الظن أن هؤلاء (المتفرنجين) من كهول اليوم أوفى للعربية من أولئك المستعربين المتشددين، فإن لم يكن ذلك شفيعا للأمل في غد، فلعله أن يكون معينا على الانتظار!

عباس محمود العقاد

ص: 9

‌في التاريخ السياسي

المسألة الفلسطينية والآراء المعروضة لحلها

بقلم باحث دبلوماسي كبير

تجتاز المسألة الفلسطينية الآن دورا دقيقا حاسما؛ فهي الآن قيد البحث والدرس من جانب السياسة البريطانية، والسياسة البريطانية تحاول هذه المرة أن تضع لحلها تسوية دائمة يقبلها العرب واليهود معا؛ ومنذ أن احتلت بريطانيا العظمى فلسطين، وصدر عهد بلفور لليهودية بجعلها وطنا قوميا لليهود، أعني منذ عشرين عاما، لم توفق السياسة البريطانية إلى تحقيق السكينة والسلام في فلسطين؛ ذلك لأن النظام الغريب الذي ابتدعته السياسة الاستعمارية لهذه البلاد العربية لم يكن طبيعيا يرجى له البقاء، فهو فضلا عن كونه يقضي بتمزيقها إلى شطرين هما فلسطين وشرق الأردن، فانه أيضاً يقضي بجعلها، وهي البلاد الإسلامية العربية، وطنا قوميا لليهود من جميع أنحاء العالم؛ وقد كان حلم اليهودية منذ أواخر القرن الماضي أن تستعمر فلسطين، وأن تحقق باستعمارها أمنية العودة إلى أرض الميعاد وإحياء مملكة إسرائيل بعد أن دثرت منذ آلفي عام؛ فلما أسفرت تطورات الحرب الكبرى عن قيام الحكومة البريطانية بإصدار عهدها بتعضيد إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فتحت فلسطين على مصراعيها لتلقى الهجرة اليهودية من سائر الأنحاء، ولم تمض أعوام قلائل حتى طغى هذا السيل الجارف على فلسطين، واستأثرت اليهودية بمعظم مرافقها الاقتصادية، وشهد العرب في فزع وروع بلادهم تتحول بسرعة إلى مستعمرة يهودية يكادون يصبحون فيها غرباء عن أوطانهم؛ ومع أن اليهود ما زالوا من الوجهة العددية أقلية (فهم اليوم نحو أربعمائة ألف مقابل نحو ثمانمائة ألف من العرب) فانهم من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هم ذوو النصيب الراجح في شئون فلسطين وفي مرافقها وثرواتها، تعضدهم السياسة الإنكليزية وترجح رأيهم ومصالحهم.

هذا الوضع الشاذ لمصاير الفلسطينية لم يكن يرجى له البقاء، ولم يرتضه العرب منذ الساعة الأولى بل قاوموه بكل قواهم، وثارت فلسطين العربية غير مرة في وجه هذا الاعتداء الصارخ على حقوقها القومية والتاريخية، وأسمعت صوتها للسياسة البريطانية وللعالم كله، وكان العام الماضي مشهد فصل رائع من ذلك النضال الجلد المؤثر الذي

ص: 10

تخوضه فلسطين للذود عن كيانها. وللمرة الثالثة أو الرابعة تحاول السياسة الإنكليزية أن تبحث المسألة الفلسطينية على ضوء الحوادث والتطورات الواقعة، وقد حاولت من قبل أن تعالجها ببعض الحلول الجزئية، كإنشاء مجلس تشريعي، أو تقييد الهجرة اليهودية، أو الحد من بيع الأراضي إلى اليهود؛ ولكن الأمة الفلسطينية لم تقبل هذه الحلول العرضية، وما زالت تتمسك بمطلبها الأسمى، وهو إلغاء عهد بلفور وإلغاء الانتداب البريطاني ومع أن السياسة البريطانية ما زالت تصر على خطتها في التمسك بالانتداب وعهد بلفور، فأنها تشعر اليوم شعورا قويا بأنه يستحيل عليها من الوجهة العملية أن تمضي في هذه الخطة، وأن السلام لا يمكن أن يستتب في فلسطين ما لم يوضع حل نهائي شامل للمسألة الفلسطينية يرضى العرب واليهود معا. وهذه في الواقع هي النقطة الشائكة في الموضوع، ذلك أن كل حل تلحظ فيه أماني العرب لابد أن يجد فيه من نشاط الصهيونية وأمانيها في فلسطين، وهذا ما لا ترضاه اليهودية، بل تقاومه بكل قواها؛ واليهودية قوة عالمية ذات شأن وذات نفوذ يذكر في عالم السياسة والمالية العليا، والسياسة الإنكليزية لا يمكن أن تنسى هذه الحقيقة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن بريطانيا العظمى قطعت لليهودية في شأن الوطن القومي عهودا يصعب عليها أن تتراجع فيها، أدركنا مبلغهما يحيق بحل المسألة الفلسطينية، من المصاعب الفادحة والاعتبارات الدقيقة.

وقد كانت آخر خطوة اتخذتها الإنكليزية في سبيل المسألة الفلسطينية، انتدابها في العام الماضي على أثر الاضطرابات التي اضطرمت بها فلسطين مدى أشهر لجنة ملكية لتحقيق أسباب هذه الاضطرابات وسماع أقوال العرب واليهود وتعرف موقف كل فريق وأمانيه وأسباب تذمره؛ وأن توصى بعد درس الحالة بخير الحلول التي تراها كفيلة بوضع الأمور في نصابها وحل المسألة الفلسطينية حلا يوفق بين مختلف الأماني والرغبات ويكفل استتباب النظام والأمن في فلسطين؛ وقدمت هذه اللجنة إلي فلسطين في أواخر العام الماضي وقامت بمهمتها؛ وفي الأنباء الأخيرة أنها وضعت تقريرها المنشود ورفعته إلي الحكومة الإنكليزية لدراسته واتخاذ قرارها بشأنه؛ ولم يعرف رأي اللجنة بعد في حل المسألة الفلسطينية بصورة قاطعة، ولكن الصحف البريطانية أذاعت أخيراً أنباء يستفاد منها أن اللجنة ترى أن تقسم فلسطين إلى منطقتين إحداهما عربية والأخرى يهودية، وأن

ص: 11

يختص العرب بالمنطقة الشرقية ولها منفذان إلي البحر عن طريق يافا وحيفا؛ وأن يختص اليهود بالمنطقة الغربية ويعطي لها نظام الدومينون، وأن تجعل مدينة القدس وبيت لحم منطقة دولية مستقلة تحت إشراف عصبة الأمم، وأن تجعل حيفا قاعدة بحرية بريطانية؛ ويلاحظ أولا أن هذه الفكرة في تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب إلى مناطق اتحادية، وجعل مدينة القدس مركزاً دينياً حراً على مثل (مدينة الفاتيكان) في رومه. ليست جديدة ولم تنفرد بإبدائها اللجنة الملكية البريطانية، بل هي فكرة ظهرت منذ أعوام وقل بها بعض زعماء الصهيونية ورجال السياسة، على اختلاف في بعض التفاصيل؛ ولكن هل يعتبر هذا الحل علاجا ناجعا للمسألة الفلسطينية؟ وهل يرتضيه طرفا النزاع؟ وهل يحقق السلام المنشود؟ هذا ما يشك فيه الشك أولاً، لأن العرب لا يرتضون حلا لقضيتهم يقوم على تمزيق بلادهم واقتطاع نصفها لليهودية بصفة نهائية وحصرهم في منطقة ضيقة هي أقل المنطقتين من حيث المزايا الإقليمية والاقتصادية؛ وثانيا لأن اليهودية تأبى أن تحد أطماعها في فلسطين على هذا النحو، ولا ترضى بأقل من فلسطين كلها ميدانا لنشاطها الاستعماري، بل لقد حاولت اليهودية في الأعوام الأخيرة أن تدفع نشاطها إلى شرق الأردن، وهي المنطقة التي حرمها صك الانتداب على الوطن القومي اليهودي فكيف بها ترضي اليوم أن تحصر في المنطقة الساحلية؟ وكيف ترضى اليهودية أن تنزع من نفوذها مدينة القدس، إيليا أو أورشليم عاصمة داود وسليمان. ومثوى ذكرياتهم التي يبكونها منذ ألفي عام؟ الواقع أن فكرة التقسيم؛ إذا صح أنها هي العلاج الذي تراه اللجنة الملكية، حلا للقضية الفلسطينية، تصطدم بأكبر العقبات، ولا يلوح أنها تلقى حظاً كبيراً من القبول أو النجاح

هذا وقد تقدمت في تلك الأثناء بعض المقامات المصرية العليا التي تعنى بالشئون العربية والإسلامية باقتراح جديد لحل المسألة الفلسطينية خلاصته أن تضم فلسطين إلى سوريا وأن تؤلف منهما مملكة عربية إسلامية متحدة يتبوأ عرشها أمير من أمراء العرب البارزين وتعقد هذه المملكة مع بريطانيا العظمى وفرنسا معاهدة صداقة وتحالف على مثل المعاهدة المصرية الإنكليزية. وإدماج فلسطين في تلك المملكة العربية الجديدة يعاون على حل مسألة الوطن القومي اليهودي بصورة عملية؛ ذلك أن اليهود يصبحون في المملكة الجديدة أقلية دينية، ويكون مثل الأقليات الدينية بمصر، تكفل لهم قوانين البلاد الأساسية المساواة مع

ص: 12

باقي السكان في الحقوق والواجبات

وأذاعت الأنباء أيضا أن الأمير عبد الله أمير شرق الأردن يرى لحل القضية الفلسطينية رأياً مماثلا بيد أنه يرى أن تكون المملكة العربية المشار إليها مكونة من فلسطين وسوريا، والعراق

ويقال أن هذا الاقتراح بإنشاء مملكة عربية متحدة تكون فلسطين إحدى أجزائها هو الآن موضع اهتمام الدوائر السياسية البريطانية، بيد أنه يلوح لنا أن هذا الحل يثير صعاباً عملية جمة. ومن المحقق أولا أن الأمة الفلسطينية يسرها أن تنضم إلى شقيقتها الكبرى سوريا، وأن يستأنف القطران بذلك وحدتهما التاريخية. ولكن هذا الضم لا يتوقف على رأي السياسة البريطانية وحدها، بل يتوقف أيضا على رأي السياسة الفرنسية التي تسيطر حتى اليوم على مصاير سوريا؛ ومن المشكوك فيه جدا أن توافق عليه بريطانيا العظمى لأسباب عسكرية واقتصادية خطيرة؛ ومن جهة أخرى فان سوريا الجمهورية لا ترتضي الانضواء تحت لواء الملوكية المقترحة ولبنان تتمسك باستقلالها وانفصالها؛ وأما اليهودية فإنها قد لا تأبى مثل هذا الحل، بل ربما رحبت به لأنه يفتح أمامها آفاقا جديدة للعمل، وإذا كان وجود الوطن القومي اليهودي في فلسطين خطراً اقتصادياً واجتماعياً على الأمم الإسلامية المتاخمة له، فان هذا الخطر يغدو أشد وأعظم إذا اتسع نطاق العمل أمام اليهودية واستطاعت أن تخلق لها مراكز جديدة للنشاط والعمل في القطر السوري أيضاً؛ هذا ومن الخطأ أن نقدر قوة اليهودية بأقليتها العددية، فان هذه أقلية تستند إلى قوى عظيمة في الخارج تغذيها بتعضيدها المادي والمعنوي؛ واليهودية العالمية قوة لا يستهان بها

والخلاصة أن المسألة الفلسطينية لا تزال في دور؛ وليس في الحلول المعروضة ما يؤدي إلى تسويتها بصورة دائمة مرضية، غير أنه لما كانت الحكومة البريطانية قد اقتنعت بعد حوادث العام الماضي بأنه لابد عمل شيء جديد يكفل استتباب النظام والأمن في فلسطين فهي بلا ريب ستحاول القيام بتجربة جديدة؛ واستتباب السلام في فلسطين يهم السياسة البريطانية في الظروف الحلية بنوع خاص، لأنها أضحت ترى في فلسطين مركزاً جديداً للدفاع الإمبراطوري يمكن الاعتماد عليه؛ وتقرير اللجنة الملكية الآن قيد البحث والدرس، وسنرى عند أذاعته على أي الأسس ترى اللجنة أن تقسم فلسطين إلى دولتين إحداهما

ص: 13

عربية، والأخرى يهودية، وسنرى أيضاً إذا كانت الحكومة البريطانية تميل إلى تطبيق هذه التجربة الجديدة في فلسطين، على أنه مما لاشك فيه أن اليهودية تعمل اليوم كما عملت دائما على تدعيم مطالبها وأمانيها مهما كانت السياسة الجديدة التي تنتهجها السياسة البريطانية؛ وسيجتمع عما قريب في مدينة تسيريخ (زيوريخ) بسويسرا مؤتمر صهيوني عالمي جديد، يعيد إلينا ذكرى مؤتمرات بال الشهيرة التي وضعت فيها أسس السياسة الصهيونية الحاضرة؛ ونحن على يقين من أن العرب يقصروا في الدفاع عن قضيتهم التي برهنوا دائما على انهم أهل للدفاع عنها؛ بيد أن الظرف الحاضر يقتضي بلا ريب مضاعفة الجهود؛ فعلى العرب أن ينظموا صفوفهم ليستأنفوا نضالهم السلمي المشروع، مزودين بقوة العدالة والحق والإيمان

(* * *)

ص: 14

‌فصول في التصوف الإسلامي وفتوحات ابن العربي

التصوف والصوفية في الإسلام

للأستاذ خليل هنداوي

وإن كانت (الأبيقورية) ذهبت مذهباً متطرفاً في المادة فأن

الصوفية أيضاً قد نحت نفس هذا المذهب في شططها وغلوها

في الروح والنفس وجوهر الله.

يقول الأستاذ (فريد وجدي) في دائرة المعارف: إن التصوف هو مذهب كان الغرض منه تصفية القلب عن غير الله والصعود بالروح إلى عالم التقديس بإخلاص العبودية للخالق والتجرد عما سواه. وهذا قديم كقدم النزعة التي أوجدته، فان الإنسان منذ ألوف من السنين أدرك أن خلف هذه الغلف الجسدانية سراً مكنوناً، فنشأ هذا المذهب في كل أمة راقية، ولبس شكلاً مناسباً لعقولها وأفكارها، وهو معروف في الهند والصين ألوف من السنين، وله عند الهنديين أساليب شديدة على النفس، ولكنه لما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن دخل في دور جديد). وقد اختلف العلماء والمتصوفون أنفسهم في حقيقة تاريخ مذهب التصوف والى أين يذهب عهده، على أن عهده يرجع إلى قديم الزمن وان لم يكن معروفا قبل بهذا الاسم، وقد اختلق العرب اشتقاقا لهذه الكلمة واختلفوا في وضعها، فمنهم من ذهب مذهب القائل:(إن أول من انفرد في الإسلام بخدمة الله عند المسجد الحرام رجل يقال له (صوفة) واسمه الغوث بن مر فانتسبوا إليه لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله، فسموا بالصوفية) وقال الزبير: قال أبو عبيدة: (وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئاً من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك). وقد ذهب قوم إلى أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة في الانقطاع إلى الله وملازمة الفقر، وهم المعروفون في الإسلام بأهل الصفة. والتصوف عندهم يقصد به رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة وحمله على الأخلاق الفضيلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص. ومنهم من نسب الصوفية إلى لباس الصوف. فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولاهم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.

ص: 15

ويقول الشيخ الشعراني في كتابه الطبقات: (إن طريق الصوفية مقيدة بالكتاب والسنة، وإنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء) وأنها لا تكون مذمومة إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير، أما إذا لم تخالف فغاية الكلام أنه فهم أوتيه رجل مسلم، فمن شاء فليعمل به ومن شاء تركه. والتصوف هو عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل والكتاب والسنة، فكل من عمل بها انقدح له من ذلك علوم وأدب وأسرار وحقائق تعجز الألسن عنها نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها. فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو. ولا يدرك أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى النهاية. وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة؟ وقد اجتمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعارتها وغير ذلك، فكل صوفي فقيه ولا عكس.

وقد ورد فصل يحسن ذكره في هذا الموضع للدلالة على الروح الصوفية التي كانت تسود عقول أصحابها من كتاب (اللمع في التصوف) قال الشيخ أبو نصر: سألني سائل عن علم التصوف ومذاهب الصوفية وزعم أن الناس اختلفوا في ذلك فمنهم من يغلو في تفضيله ورفعه فوق مرتبته، ومنهم من يخرجه عن حد المعقول والتحصيل، ومنهم من يرى أن ذلك ضرب من اللهو واللعب وقلة المبالاة بالجهل، ومنهم من ينسب ذلك إلى التقوى والتقشف، وليس التصوف في تنوق الكلام واللباس وغير ذلك، ومنهم من يسرف في الطعن وقبح المقال فيهم حتى ينسبهم إلى الزندقة والضلالة، وليس من مذهبهم النزول على الرخص وطلب التأويلات والميل إلى الترفه والسَّعات، وركوب الشهوات لأن ذلك تهاون بالدين، وإنما مذهبهم التمسك بالأولى والأتم في أمر الدين. والصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ولم يترسموا برسم من الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة.

ما هو التصوف؟ سال سائل محمد بن القصاب وهو استناد الجنيد الصوفي الشهير، فقال: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام. وقال الجنيد: التصوف

ص: 16

أن تكون مع الله بلا علاقة. وفي الحقيقة أن هذه الكلمة هي التي يتخذها الصوفيون أساسا لتصوفهم في المشرق كان أم في المغرب. ويدخل موضوع التصوف المبني على هذه القاعدة في عداد المذاهب الفلسفية، فالإنسان إذا أراد أن يكون مع الله بلا علاقة فهو محتاج ولا ريب إلى معرفة الله وتحديد علاقاته مع الإنسان معه، ولا ريب أن هذه الموضوعات هي سبيل مظلمة من سبل الفلسفة التي يستضيء الفيلسوف عقله لإنارتها، والصوفي يعتمد توكله وإيمانه.

وكلمة التصوف جاءت إلى العربية من اليونانية (صوفيا وهي تعني إغلاق الفم والصمت. وليس ببعيد هذا، لأن التصوف جاء إلى العرب ونشأ بينهم بعد هجرتهم من الجزيرة، وتعرفهم إلى مدنيات الأمم المجاورة لهم كالفرس واليونان وكانت فكرة التصوف عند هؤلاء شائعة

والأرجح أن يكون التصوف مذهبا مستقلا له شأنه. ينظر صاحب هذا المذهب إلى الكون نظر أصحاب المذاهب الأخرى له. وكما أن المتشرع الحكيم يضع من عنده القوانين للكون ويحدد كل شيء بالنسبة إليه بنظام، وكما أن الفيلسوف قد يجحد كل ما يصنعه غيره ويناقش الطبيعة بلغته الفلسفية الخاص، فالصوفي كذلك له من مذهبه ما يجعله مستقلا تمام الاستقلال عن المذاهب الأخرى: ينظر إلى الكون بعينه المجسدة، ويتفهم الفضائل حسبما يوحي إليه مذهبه، ولا بأس بأن نقول كمن قال (فيكتور كوزان): إن التصوف هو مذهب من المذاهب الفلسفية وإنما يستعين على الظهور بالدين؛ وهو إن لم يكن غنيا بمنطقه وقواعده وارتقائه على العقل فهو يتضمن قالب المذهب الفلسفي ولا يحدد إلا نقطة نظرية ضيقة المجال. وقد غلب هذا المذهب على المذاهب الطبيعية، وعم في سائر الديانات التي ارتكزت على الكتب السماوية والتعاليم البشرية.

على أن هذا لم يمنع قول القائلين: أن الصوفية ليست مذهبا يعتنقه المرء، يأخذ بعقائده وتقاليده. فإنها أدنى إلى الطبائع في بعض النفوس منها إلى قواعد مذهب مقرر، وأنت ترى كثيرين من الناس يعيشون عيشة الصوفية في زهدهم وقناعتهم وما هم بالصوفيين.

حكم العلماء على الصوفية

نشأ المذهب الصوفي شأن كل مذهب يكون الإخلاص رائده، ثم يتسرب إليه التحيل

ص: 17

والهدى، ولم يعرف التاريخ مذهبا داجي فيه أصحابه مثلما عرف من التصوف، فقد دخل فيه المخلص والزنديق والنشيط والبليد، فالتصوف أساسه الزهد والتظاهر بالفقر وكراهية الدنيا، وكم من أناس حبب لهم العيش الرخاء والتواني في السعي، فأووا إلى هذه المذاهب التي تعلي من قيمتهم وتظاهروا بالتصوف، وقديما كان الناس يتسابقون إلى إيواء الصوفي وإطعامه، والمبالغة في إكرامه، وهكذا كانوا ينتقلون في عيشهم من بادرة إلى بادرة معتمدين على الظاهرة الصوفية، وليس في قلوبهم إلا الغل والنفاق، ولابن تيميه فتوى جليلة في الصوفية وحال أقسامهم، فقد قال بعد أن شرح موضع الصوفية من العلماء: (والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، ففيهم السابق السابق بحسب اجتهاده، وفيهم من قد يجتهد فيخطيء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، وقد انتسبت إليهم طائفة من صوفية الحقائق الذين اعتنقوا مذهب الصوفية بإخلاص قلب، ووفاء سريرة، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم ممن لا يغنون فتيلا، والصوفية كانوا ولم يزالوا من جملة الزهاد، ولكنهم انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال، واتسموا بسمات خاصة بهم، والتصوف طريقة بدؤها الزهد الكلي كما قدمنا في كل متاع الدنيا؛ ثم ترخص المنتسبون إليها - لما حرموا من ملذة الدنيا فجعل البعض ذلك لهم حيلة - بالسماع والرقص، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب.

ويبدو أن هذا الضرب من التحيل لم يبخس حق قيمة المتصوفين الحقيقيين، وقد قال القشيري في رسالة:(لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا له تباركوا به، فقد أذعن الإمام الشافعي لشيبان الراعي حين طلب الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي؟ وإذعان أحمد لشيبان كذلك حين قال لشيبان (هذا رجل غفل عن الله فجزاؤه أن يؤدب). وكذلك إذعان الإمام أحمد لأبي حمزة البغدادي واعتقاده فيه حين كان يرسل إليه دقائق المسائل ويقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟ وكان يروى أن الإمام أحمد كان يحث ابنه على الاجتماع بصوفية زمانه، ويقول انهم بلغوا في الإخلاص مقاما لم يبلغه

وقد أوى منهم إلى ضروب من الكرامات زعموا أنها خاصة لا تصدر إلا عنهم، يريدون

ص: 18

من وراء ذلك أن الله يسخر قوات الطبيعة والأشياء لهم، ولكن هذا النوع من هذه الكرامات لم يرق معشر العلماء فاختلفوا في أحكامها. والناس في إنكارها أقسام، منهم من ينكرها مطلقاً، ومنهم من يقول أن هذه الكرامات تشبه السحر من أهل السيميا، وينصح للإنسان بعدم صدهم وعدم تصديقه لهم. وقد أفتوا بتكفيرهم كما أفتوا بتكفير الغزالي وحرق كتابه الأحياء. ولكن البعض من أئمة هذا المذهب لم يجعلوا هذه الكرامات قواعد راسخة للصوفية لا يكون صادقا إلا من يؤتاها ويأتي بها.

وقد قال أبو يزيد البسطامي - واضع الله وراء جبته: (لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود، ومن ترك التقشف ولزوم الجماعة وحضور الجنائز وعيادة المرضى وتلاوة القرآن وادعى بهذا الشان فهو مبتدع، وفي هذا دلالة واضحة على أن من يدخل في هذا المذهب ويعتنق مبادئه ثم يطرح عنه قواعد الشريعة المشيد عليها هو مبتدع مختلق، يحترف الصوفية فرارا من كلفات الدين ومشقات العيش

وخلاصة الأمر أن التصوف تقلب كثيرا وتحرر كثيرا وطرأ عليه ما يطرأ على سائر المذاهب عادة، ولكن التصوف الحقيقي ظل محترما في عيون الناس وقلوب الناس. وليس بوسعنا إخراج الحكم عليها من باب أحكام العلماء لاختلاف فتاواهم فيها وإنما علينا أن نستعرض مبادئها وقواعدها ونرى ما يلائم منهاجه منها سنة الحياة وما يباين، وهنالك القول الفصل

خليل هنداوي

ص: 19

‌من الأدب التحليلي

أنا. . . والنجوم!

للأستاذ علي الطنطاوي

ما من كلمة هي أثقل على أذن السامع وأبغض إليه، من كلمة (أنا)، وما حديث أكره إلى الناس من حديث المرء عن نفسه. . . بيد إني متحدث الليلة عن نفسي، وقائل (أنا)، وجاعلها عنوان مقالتي، لأني منفرد بنفسي، لا أجد من أتحدث عنه إلا (أنا).

أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفسي، وحين أصف شعور واحد وعواطفه، أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين ثم يقعد القاعدة، ويؤصل الأصل، فلا يشذ عنه إنسان. . . سنة الله في الخلق، وقانونه المحكم، ونظامه العجيب الذي جعل الناس مختلفين وهم متشابهون - ومتشابهين وهم مختلفون، برأهم على الوحدة في الحقيقة، والتنوع في الجمال، فخلق العيون كلها خلقا واحدا، كل عين ككل عين، في تركيبها ووضعها، وصفتها، وما عين في شكلها ومعناها وجمالها، تلك حكمة الحكيم الخبير، وهذه صنعة المبدع القدير!

أنا منفرد على سطح دار في (الزبير) في هذه الليلة الساكنة المتلألئة النجوم، وأمامي الصحراء التي تمتد إلى عمان واليمن ونجد والحجاز، وورائي السواد الذي يصل إلى أرض فارس، وهي قريبة، حتى أني لأرى لهيب النفط المشتعل في (عبادان) وأنا في مكاني. . . أتأمل هذه الصحراء المجيدة المباركة، التي كتب على رمالها أروع سطور المجد، وأجل صحائف التاريخ، ونبت في رمالها دوح الحضارة الذي أوت إليه الإنسانية، وتفيأت ظلاله يوم لا ظل في الأرض إلا ظله؛ وأفكر فيطول بي التفكير، ويطل بي الفكر على آفاق واسعة ودنياوات عظيمة، وتنبلج في نفسي أصباح منيرة، فأجد في رأسي مئات من الأفكار الجديدة الكبيرة، وفي نفسي مئات من الصور الرائعة المبتكرة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيدها بالألفاظ، وأغلها بالكلم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم، ولا أنا سجلتها في مقالة وصنعت منها تحفة أدبية، ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكنت شيئا

ص: 20

عظيما، ولكني لا أقدر. . . ولا أصب في مقالاتي إلا حثالة أفكاري؛ تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجف فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي!

ويتفجر الينبوع في نفسي، ويتدفق ويسيل، ثم ينضب وينقطع، فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي!

وينبثق الفجر في نفسي، ويقوى ويشتد، ويكون الضحى والزوال، ثم يعود الليل، فآخذ قبضة من ظلام الليل، لأكتب منها مقالة، عنوانها. . . (ضياء الفجر)!

من أجل ذلك أكره أن أنظر في كل ما نظرت، وأستحي أن أعود إليه، وأحب كل جديد لم ينشر، وأرى أن الذي يمدحني بمقالاتي يحقرني لأنه لا يعلم أنها درهم من خزائن نفسي المفعمة بالذهب، فهو يقول لي: إن الدرهم كبير منك لأنك فقير، ولكن الذي ينقد مقالاتي وينقصها يقول لي: انك غني فالدرهم قليل منك، إن هذه المقالة حقيرة لأنك أنت عظيم. . .

لقد تعلمت هذه المسألة من عهد قريب، فصرت أحب النقد، وكنت أجهلها من قبل فأميل إلى الثناء والتقريظ

لبثت أعرض هذه المواكب من الأفكار، حتى تعبت ومللت، فألقيتها كلها في الصحراء، وجلست أفكر في الصحراء وحدها. . .

نظرت إليها وهي متمددة على سرير الجزيرة الواسعة - نائمة - فامتلأت إكباراً لها وإعظاماً، ثم فكرت أن لو فتحت الصحراء عينها - أكانت تبصرني - وتحس بوجودي؟ أأشعر أنا بوجود رملة حملتها الريح فطارت بها، فمست وجهي وهي طائرة، ثم مضت في سبيلها؟ ما أنا في وجود الصحراء الأرملة، وما حياتي إلا لحظة من حياتها، ولو تثاءبت الصحراء، أو حكت أنفها لتصرم قرن كامل قبل أن تنتهي من تثاؤبها وحكها أنفها. . . فما أعظم الصحراء وما أطول عمرها. . .

- بل ما أقل الصحراء. وما أقصر عمرها!

ما الصحراء؟ بل ما الأرض كلها؟ وما هذا المليار من القرون الذي عاشته؟ انه يوم من حياتي، إنها نقطة من بحري. . . إني نمت يوما فلما أفقت وجدت نقطة صغيرة هناك، فقلت: ما هذا؟ قالوا: مخلوق صغير يدعى الشمس. . . فعجبت من صغرها، ثم لم أحفل بها، فما أرضك هذا يا. . . يا. . . يا أيها العدم!

ص: 21

هذا ما قاله لي كوكب قريب، كان ينظر إلي باسما. . . فذكرت ما قاله علماء الفلك عن الكواكب وعظمتها، فسكت ولم أنطق. . . وإذا بكوكب آخر يطل من هناك يقهقه ضاحكا يصرخ في وجه الأول: اسكت أيها النملة الحقيرة، من أنت؟ إن آلافاً مثلك لا تملأ وادياً واحداً من أوديتي، أنني أحمل مائة مثلك بين أصبعين من أصابعي. . .

وكان وراءه كوكب خافت لا يقول شيئا، لأنه لم يعلم بوجود هذا كله - لا يراه لبعده وصغره، وكان وراءه ستمائة مليون من الكواكب كل واحدا أكبر من الذي قبله، وأصغرها من هذا الكوكب كالفيل من البعوضة. . . فجلست أحدق في هذه الكواكب ذاهلا مشدوها، وانقطعت أفكاري عن الجريان وأحسست بضآلتي، حتى لقد خلتني عدما. . .

ثم صغرت هذه الكواكب في نظري لما رأيت شيئا أعظم منها، صغرت لما رأيت السماء (سقفا مرفوعا)؛ حتى غدت كلها (مصابيح تزين السماء الدنيا)، ورأيت السموات تطيف بها كلها. تحيط بهذا الفضاء (سبعاً طباقا) ورأيت الجنة من وراء ذلك (عرضها السموات والأرض) ورأيت العرش والكرسي. وملك الكائنات العظيمة، فأحسست أن عقلي ينهدم ويتحطم حين يحاول التفكير فيها وهي مخلوقة، فكيف به حين يحاول التفكير في الخالق؟

وذهبت أقابل بين هذه العظمة الهائلة التي لا يدنو من تصورها العقل، وتلك الدقة الهائلة دقة الجراثيم التي يمر الألف منها من ثقب إبرة، دقة الكهارب التي يكون منها في الذرة الواحدة مئات من الكواكب الصغيرة، يدور بعضها على بعض، كما تدور كواكب المجموعة الشمسية، ذهبت أقابل بين هذا وذاك فعجزت، وأنكن نفسي وجحدتها وامتلأت إيماناً بالخالق الأعظم، فصحت من أعماق قلبي:

لا اله إلا الله!

أنكرت نفسي. ولم أعد أراها شيئا. . . ونسيت يدي ورجلي، حتى لقد حسبتهما جزءا من الكرسي أو السرير الذي أجلس عليه، وأضعت ميولي كلها وشهواتي. حتى لم يبق لي (أنا) وإنما صرت (أنا) الكون كله، الكون الذي ردد معي قولي، لا اله إلا الله! فأحسست حينما أنكرت نفسي. بلذة الوجدان التي لا توصف:

لا يعرف العشق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

وبدأت أفهم ما كنت قرأته من أقوال أهل التصوف، وتعلمت أن الإنسان لا يحس بعظمة إلا

ص: 22

إذا نسي نفسه وعظمته. هنالك يجد هذا (الجرم الصغير) الذي هو رملة في الصحراء وعدم في وجود الكوكب، والذي لا يمتد عمره أكثر من لحظة في عمر السماء. . . يجده أكبر من الكواكب، وأخلد من السموات، لأنه عرف الله وأدرك حلاوة الإيمان. . . وقمت بعد ذلك أصلي، فلما قلت: الله أكبر، محي الكون كله من وجودي، ولم يبق إلا أنا العبد المؤمن الضعيف، والله الإله العظيم الجبار!

ليس في الدنيا شيء أجل ولا أجمل من الصلاة!

(البصرة)

علي الطنطاوي

ص: 23

‌على هامش رحلتي إلى الحجاز:

في تكية الدراويش

للدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست

عن كتاب نشره باللغة المجرية بعنوان (الله أكبر)

كان شعاع شمس الشتاء يسطع في جو القاهرة ويتألق في السماء اللازوردية، ويريق ضوءه القرمزي على المآذن والقباب فتتوهج أطرافها في الضوء الساطع كما يتوهج الذهب في كف الرجل الكريم. أما أسطح بيوت القاهرة فكانت فرصة لها لتداعب هذه الأشعة - تلك المداعبة الصحية - والريح تعبث بالأوراق والغصون في حدائق قصر النيل الغناء.

وكنت في خلال هذا الوقت وحيدا في غرفتي، شاعرا بأن السكون يطبق علي كجناحين كبيرين، ومنصرفا إلى دراسة بعض كتب الأدب العربي القديم لأقارن بين عصر وعصر، وبلغ بي التعب أشده من عكوفي على القراءة ومحاولة تفهم معاني الكتاب لأنني كنت أميل بفطرتي إلى تحليل أفكار المؤلف والوقوف على المعاني المستترة في باطن الكلمات. ولاح لي أنني أشبه بغواص يجاهد في بحر من الظلمات ليستخرج منه اللآلئ والأصداف. وما أمر العكوف على قراءة الكتب الخطية في بلاد الشرق؟ تغلق باب الغرفة دونك وتحاول أن تظل بمعزل عن العالم لتمثل في خاطرك العصر الذي عاش فيه المؤلف والظروف التي كانت محيطة بها، وإنها لمعجزة أن يظل الكتاب مهملا سنوات برمتها، فما تكاد تفتحه حتى تهب عليك النسمة القديمة بسحرها وعطرها وتسمع كلام المؤلف أو صوت الشاعر كأن لم يغيره تقلب الحوادث وانصرام الأجيال

وفيما كنت أقلب هذه الأفكار وأشباهها إذ طرق الباب، وكان الطارق صديقي محمد أمين حسونه، أتى لزيارتي ودعوتي إلى نزهة خلوية في ضواحي القاهرة. وكانت الزيارة في يوم الجمعة - وهو يوم عطلة عامة في البلاد الإسلامية - ففي هذا اليوم المقدس تعطل المصالح والدواوين وتقفل الحوانيت، ويتحتم على المسلمين أن يهرعوا إلى المساجد إذا سمعوا صوت الآذان. أما الآخرون الذين لا تربطهم بالتجارة صلة فهم يقضون ذلك اليوم

ص: 24

في اللهو والمتعة على ضفاف النيل الجميلة وفي داخل الحدائق الفيحاء المبعثرة في جوانب القاهرة.

وفي أثناء احتساء القهوة اقترح صديقي حسونه أن نقصد إلى حدائق الحيوانات للتريض أو تناول طعام الغداء في ظلال الأهرام. ولكني أجبته: وما رأيك في زيارة إحدى تكايا البكتاش

هناك طفح وجه صديقي بشرا. وفي الحال وافقني على القيام بهذه الزيارة. فقلت له: لقد زرنا الهرم عدة مرات وتحملنا بعض المشاق للوصول إليه بالترام. ثم تحدثنا عن بناء الأهرام وكيف حاول العرب أن يهدموا ذلك الأثر الخالد لاعتقادهم بأنه يحوي كنوزا في جوفه. ولكن على الرغم من المجهودات الشاقة التي بذلوها فانهم اضطروا إلى الانقطاع عن هدمه بعد أن أنهك قواهم وكلفهم نفقات باهظة، وعندما استولى المماليك على مصر كانوا يظنون أن الأهرام من عمل الطبيعة. وحاول البعض منهم أن يجرب أخذ الأحجار منها للبناء ولكنهم أكرهوا على التخلي عن هذه الفكرة لصعوبة تنفيذها وربما كان عدم قدرتهم على تنفيذها موافقة لإرادة الله الذي قضت حكمته ببقاء هذا البناء المهيب الشامخ كرمز لعظمة مصر القديمة. وكثيراً ما قصدت إلى منطقة الأهرام وقضيت سويعات شاعرية أناجي القمر وأراقب أشعته اللجينية وهي تغمر الأحجار الضخمة التي يتألف منها البناء الشامخ.

في هذه البقعة الساحرة يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل وتبدو عظمة مصر الخالدة التي بهرت العالم. ولكن مالنا نتغنى الآن بتلك الأكوام الحجرية المكدس بعضها فوق بعض. أجل ليس في هذا ما يسر الخاطر ولا ما يشرح النفس - وما هي القيمة الروحية التي تمدنا بها رؤية الأهرام أمام زيارة تكية الدراويش، تلك الطائفة التي ما زالت تلهب في نفوسنا أسمى معاني الخلود ومتاع الآخرة.

وانطلقنا في طريقنا إلى تكية البكتاشية بعد أن عبرنا شوارع القاهرة الرئيسة وانتهت بنا العربة إلى مقابر الخلفاء. هناك أفضى إلى صديقي حسونه أنه حين كان طفلا وأسيئت معاملته أمام الأسرة، لم يجد من يلجأ إليه سوى كلب أرمنتي كان مقعيا على الدرج في نفس هذه البقعة، وكان يستدفئ بالشمس فاحتضنه ثم بكى. وبعد برهة وصلت إلى سمعه أصوات

ص: 25

موسيقية متنافرة، فإذا بها حفلة من حفلات الزار التي تعودت نساء القاهرة إحياءها. وكانت الحفلة تقام في أحد المنازل المجاورة لتلك القبور. فحمل صديقي الكلب وانطلق إلى هناك حيث أتيح له أن يشاهد أكثر من عشرين سيدة وهن يرقصن على نغمات الموسيقى بجنون وحشي إلى حد أن كن يتصادمن ويتلاحمن، وكان البعض منهن يمزقن الأثواب. أو يمتطين ظهور الخراف البيضاء المصبوغة بالدم. وأسر إلى صديقي بأنه أحس بالراحة ساعتئذ ولم يعز هذه الراحة إلى أية صفة مجهولة، بل ببعد هؤلاء المريضات عن الإنسانية، وفي عزلتهن هذه ما يشفي عواطفهن الهستيرية ويبرئهن من النضال الدنيوي الذي وقعن فيه.

وبينما كنا نبحث ونتجادل في البواعث الحقيقية لحفلات الزار، ألفينا أنفسنا أمام أبنية التكية الملصقة بحبل المقطم، وبعد أن ارتقينا الدرج واجتزنا حدائق التكية أحسست بنشوة وانتعاش، كالنشوة التي تحدثها الريح في يوم ساكن، ولقد ازداد سرورنا عندما اجتمعنا بطائفة من الزوار الأجانب الذين أتوا خصيصا لشهود حفلات الذكر الموسيقي، كذلك رأينا فريقا من النساء وهن واقفات بخشوع وشاخصات بأبصارهن إلى الأشجار الباسقة التي تكاد تشق أجواز الفضاء.

أما بيوت الدراويش ومساكنهم فتقع في الجهة اليسرى من الحديقة، وهي مساكن نظيفة، غاية في البساطة ولكنها فاخرة الرياش، تزينها لوحات بها رسوم رؤساء الطائفة السابقين. وتعلو هذه الإطارات - بلطة - وهي رمز الدراويش. ويزور التكية عادة جم غفير من أعيان الأجانب وبعض أمراء الشرق، ولقد شاهدت الكثير من رسومهم الفوتوغرافية وتوقيعاتهم لدى شيخ التكية. ويقع بالجهة اليمنى من الفناء الداخلي مطبخ ضخم البناء، وما كدنا نصل إليه حتى شممت رائحة الشواء ورائحة الطهي الزكية، وسال اللعاب في فمي وتحركت شهيتي فتقدمت نحو المطبخ ورأيت الطاهي يشوي شرائح اللحم الضأن. وعزم علينا الطاهي بأن نتذوق طعامه، فلم أجد مانعا من إجابة طلبه وأخذت ألتهم قطعة اللحم بشهية.

تبلغ مساحة مطبخ البكتاشية نحو مائة متر مربع بحيث تسع إعداد طعام لأكثر من مائتي شخص تقريبا، ولقد أخبرني الطاهي أن للزمن تقلباته وانهم الآن يتوخون الاقتصاد في مأكلهم مع انهم من سنوات خلت كانوا يتمتعون بأنواع المآكل الشهية، وأنهم كانوا يولمون

ص: 26

الولائم الفاخرة لأكثر من مائة ضيف بعد انتهاء حفلات الذكر، أما الآن فقد تغيرت الأحوال لأن الهبات التي كانت تصلهم كادت تقطع، ومن الغرابة أن كل ما في التكية قديم أثري، فالدراويش قد بلغوا من العمر عتيا، لا يعرف من أمرهم إلا نفر قليل من سكان القاهرة، ولا يزورهم إلا خاصة الأصدقاء، ولولا زيارة بعض الأجانب لأصبحت تلك الدور في عالم النسيان. حتى صديقي المصري حسونه الذي لازمني في هذه الزيارة لم ترق في عينيه أحوال تلك الطائفة ولكني على الضد منه ألفيت لذة عظيمة لزيارة هذه الطائفة التي تربطني بها روابط روحية.

البقية في العدد القادم

عبد الكريم جرمانوس

ص: 27

‌حديث الأزهار

للكاتب الفرنسي ألفونس كار

نخاسة الأزهار

ما اجتزت سوق الأزهار مرة إلا شعرت بحزن شديد، كأنني أتجول في سوق النخاسة حيث تقوم المساومة على الأجساد وتلقى العبودية طابعها المروع على وجه الإنسان

يتمشى الأغنياء بين الأزاهر فيحدجونها بأنظارهم متفحصين أشكالها وصحتها وأعمارها. فإذا ما تمت الصفقة خرجت الزهرة المبيعة من سوق النخاسة لتتبع خطوات سيدها.

سيرى وراء من اشتراك أيتها الزهرة التعسة. اذهبي إليه لتخدمي شهواته، زيني قصره بجمالك فلسوف ينزلك ثمين الآنية ويحوطك بأطالس الأعشاب. سيكون مسكنك فخما، أيتها لزهرة، فودعي الشمس والهواء، ودعي الحرية فالعبودية فاتحة ذراعيها لتضمك إلى صدرها.

يا لشقاء هذه الأزهار! إنها تعرض أكواماً يلفحها الحر والقر فتذوي مهتوكة تحت نظرات الفاحشين من الناس

لقد مر البائع فارفعي رأسك أيتها الزهرة، ليراك منتصبة تملأك الفتوة نضارة، فأنت لنضارتك معروضة على المشترين إن أكثر الأزهار المعروضة في سوق النخاسة تحني رأسها وقد ارتخت قوائمها فتلاعبت فيها أضعف النسمات. لقد رسمت الأسفار البعيدة عليها آثار الضنى. وكتب الشقاء على تويجها آيات المذلة والاستعباد. وما تهتم هذه الزهرات بجمالها، وهي تعلم ما تحتم عليها من الخضوع لسيد مجهول يتحكم فيها.

لقد تسعد إحداها إذا اشترتها فتاة لتزين بها نافذتها فتجد الماء وتجد الهواء لتحيا وتطل عليها من وراء الأشجار أشعة الكوكب الذهبي يناجي فيها ابنته في كل صباح.

هنالك تسمع الزهرة تغريد أخيها الطير يمازجه نشيد الغادة بصوتها الحنون.

ما أسعد الزهرة التي تمر بها فتاة معلقة بذراع أمها فتحملها إلى غرفتها الطاهرة تجود بعطرها في الليل ممتزجا بأحلام العذراء أما أنت أيتها الأزهار التي ينثرك الأغنياء في قصورهم في ليلة عيد، فما أشد ويلك وما أظلم الأفق الذي تستقبلين. أملاي أجواء القصر بالعبير في ليلة واحدة لقاء اجر معين،

ص: 28

فانك ستحملين من عيد إلى عيد حتى يرتعي السل صدرك الضعيف فتجودين بالحياة على المزابل بزفرة دامية

وأشد منك شقاء يا زهرات الأعياد زهرة تشتريها سيدة مستبدة لا تطلب من الأزهار إلا أوائل أريجها حتى إذا تخدرت منها طرحتها إلى الخدم يجهزون عليها بعيدة عن الهواء في ظلمات الليالي.

ويل لهذه الأزهار تهمس أنينها همسا فلا يسمع أحد ببلواها، فهي مستعبدة صامتة لا تعرف إلا أن تحني رأسها وتندفع إلى الفناء.

تقتطف الزهرة من حضن أمها وتؤخذ بالعنف من بين أخواتها وأصحابها، لتطرح حيث تجود بنضارتها وعبير صباها، فيا للجريمة لا عقاب عليها!

لقد منعت القوانين نخاسة السود ولكنها ما منعت نخاسة الأزهار.

ليهتف المصلحون بصوت وجدانهم فما من سميع وقد مات جان جاك روسو وبرنار دي سان يار. ولكن من نستصرخ وإلى من نتجه؟ فليس أنصار الحق نفسهم المنادون بمنع النخاسة بين الناس هم الذين ينسلون تحت جنح الليل يتلهون بدوس الأزهار واقتلاع وريقاتها الطاهرة من تويجها الضعيف. . .؟

أفليست السلطة هي التي تسمح باقتلاع الأزهار من منابتها إلى سحيق الإفطار حيث تعيش ولا أسرة لها لأن بذورها تطرح على أرض تخنقها وتواريها.

مررت يوما في تلك الساحة، فرأيت زنبقة رائعة الجمال يساوم عليها رجل ألقت السنون غشاء على عينيه، وهو يصب نظراته على الوريقات البيضاء فتختلج ويمد يده إلى ساقها ليجس بضاضته، فتتلوى خجلا وذلا، فانحدرت من أجفاني دمعة حري رأيت مثلها تنحدر على مهل من التويج الأبيض، فخيل إلى أن الزنبقة تقول لي: - اشترني أنت ولا تتركني فريسة في يد هذا الرجل فان نظراته تحرقني ولمساته تقضي علي، أنقذني فإنني إن تبعته أموت

هتفت: - سأخلصك أيتها الزهرة الطاهرة

فدهش الشيخ لهذا الهتاف، فأدار وجهه نحوي وأرسل إلي نظرة الاحتقار مشيرا إلى الخادم، فحمل الزنبقة وسار بها وعبثا حاولت إقناع البائع بفسخ البيع لأن الشيخ كان قد أدى ثمن

ص: 29

الأمة الشقية

تبعتها وأنا أزودها نظرات الأسى والحنان فكانت تبتسم لي بدموعها من بعيد. وتوارت عن ناظري، وفي صباح اليوم التالي وقفت أمام القصر أستخبر النسيم عن زهرتي الحزينة. ففتحت النافذة بعنف ورأيت الخادم يرمي بالزنبقة الذابلة إلى مطارح الأقذار

لكم من زهرة تجود بأنفاسها على مثل هذا الفراش. . .

(ف. ف)

ص: 30

‌باقة من شعر طاغور

ترجمة الأديب نصري عطا الله سوس

- 1 -

// لقد خلعت أغنيتي كل زينتها

إنها لا تُزهَى بالملبس والزخرف

إن الزخرف ليفصم عرى وحدتنا ويقف بيني وبينك، وطنينه يغرق همساتك

وان زهوي كشاعر لَيتبدد خجلا أمام مرآك.

آه يا مولاي الشاعر!

إني أجلس عند قدميك

وكل ما أبغيه أن تجعل حياتي بسيطة ومستقيمة كعود من القصب، كي تنفخ فيه موسيقاك

- 2 -

أتناول يديها وأضمها إلى صدري

وأحاول أن أملأ ذراعي بجمالها، وأن أسرق بسمتها الحلوة

بالقبل، وأن أشرب نظراتها الفاتنة بعيني

آه! ولكن أين ذلك؟ من ذا الذي يستطيع فصل الزرقة عن السحاب؟

أحاول امتلاك الجمال فيتملص مني، تاركا (الجسم) وحده بين يدي فأرجع حائرا تعبا

كيف للجسم أن يلمس الزهرة التي لا تمسها إلا الروح؟

- 3 -

قلبي، ذلك الطير الآبد وجد سماءه في عينيك

انهما مهد الصباح ومملكة النجوم

إن أغاني تضيع في أعماقهما.

دعيني احلق في هذه السماء المتفردة بلا نهائيتها

دعيني أشق سحبها وأنشر جناحيَّ في نور شمسها

- 4 -

ص: 31

قال: (حبيبتي، ارفعي عينيك)

فنهرته في حدة وقلت: (ابتعد) فلم يتحرك

وقف حيالي واجعل يدي الصغيرتين في يديه فقلت: (اتركني) ولكنه لم يذهب

مال علي بوجهه حتى لامس أذني فنظرت إليه وقلت: (يا للعار!) فلم يتحول

ولمست شفتاه خدي فارتعشتُ قائلة: (لقد تماديت كثيرا) فلم يخجل

ورشق زهرة في شعري فقلت: (بدون جدوى) ولكنه وقف ساكنا

ثم أخذ إكليل الزهر من عنقي وذهب. . .

أني أبكي وأسائل قلبي: (لم لا يعود؟)

- 5 -

أيها الحب

إن قلبي يتوق ليلا ونهارا إلى أن يلقاك لقاء يستغرق كل شيء. . . كلقاء الموت

إكتسحني كعاصفة

خذ كل ما لدي

شرد نعاسي

وانهب أحلامي واستلبني من دنياي

وفي ذلك الدمار - وفي العراء الروحي المطلق، دعنا نصير وحدة من الجمال

وا أسفاه! باطلة رغبتي

أين الأمل في اندماج تام فيك وحدك. . . يا الله.

- 6 -

إن عينيك القلقتين الحزينتين تطلبان كنهى كما يطلب القمر أعماق البحر

لقد نزعت عن حياتي أثوابها أمام عينيك - لم أخف عنك شيئا من البداية للنهاية. ولذا

أنت لا تعرفينني

لو كانت حياتي جوهرة لكسرتها مئات من القطع وصنعت منها عقدا يزين عنقك

لو كانت زهرة صغيرة رشيقة لقطفتها من جذرها ورشقتها في شعرك!

ص: 32

ولكن حياتي (قلب) يا حبيبتي. . . لا شواطئ له ولا نهاية إنك لا تعرفين حدود هذه

المملكة. . . ولو أنك ملكتها

لو كانت حياتي لحظة سرور لتفتحت عن بسمة لطيفة تدركينها في لحظة!

لو أنها لم تكن غير ألم لذابت دموعا شفافة تنعكس عليها أعمق أسرارها دون كلمة!

ولكنها حب. . . يا حبيبتي

مسراتها وآلامها لا تحد

حاجاتها وثروتها أبديان

إنها قريبة منك كحياتك

ولكنك لا تستطيعين إدراك قرارها. . .

- 7 -

أنا أهواك يا غرامي فاغفري لي حبي إياك

مثل عصفور ضال أسرت

عندما هز قلبي سقط عنه قناعه وعاد عاريا. دثريه بالشفقة يا حبيبتي، واغفري لي حبي.

إذا لم تستطيعي حبي - يا حبيبتي - فاغفري لي ألمي

لا تنظري إلي من بعيد بازدراء

سأسترق خطاي إلى زاويتي وأجلس في الظل

وأحجب خجلي العاري بكلتا يدي

فأشيحي بوجهك عني واغفري لي ألمي

حبيبتي، إذا كنت تحبيني فاغفري لي سروري

وإذا حمل فيض السعادة قلبي بعيدا فلا تبسمي لاستسلامي للخطر

وعندما أستوي على عرشي وأحكمك بقسوة الحب، وعندما أمنحك عطفي - كإله -

تحملي كبريائي - يا حبيبتي وسامحيني عن فرحي. . .

- 8 -

أيتها المرأة! انك لست من صنع الله فقط، بل من صنعا الرجال أيضاً

ص: 33

انهم يضفون عليك من قلوبهم جمالاً. . .

الشعراء ينسجون لك نسيجاً من خيوط الخيال الذهبي،

والرسامون يمنحون صيغتك خلودا مجددا

البحر يعطي لآلئه، والمناجم ذهبها، وحدائق الصيف أزهارها، لتجملك وتجعلك أنفس مما

أنت

رغبات قلوب الرجال تضفي مجدها على شبابك

إنك نصف امرأة ونصف حلم.

نصري عطا الله سوس

ص: 34

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 11 -

تطور البراهمية الأولى

نصت (الفيدا) على أن الخيرين يذهبون إلى جوار الآلهة ويمتزجون بهم في عالم الخلود، وأن الشريرين يذهبون على بعض الأقوال إلى العدم المطلق، وعلى البعض الآخر يتجسدون من جديد. ولما أصبح القول بالرأي الأول يتنافى مع عقيدة خلود النفس التي كانت قد عمت جميع البيئات المفكرة على أثر إيمان الناس بأن العالم ليس ألا أجزاء (براجاباتي) المتناثرة، فلم يبق إلا الأخذ بالقول الثاني، فأخذوا به وتفلسفوا فيه، فنقلوه من تجسد ساذج إلى تناسخ فلسفي معقد، ولكنه كان تناسخا آريا، مبعثه السرور من الحياة والتفاؤل في تقدمها وسيرها نحو الكمال والرغبة في الامتزاج بالإله (براجاباتي) والاتصال ببقية الآلهة والشغف بتحقق السرور والمعرفة الكاملة التي لا تتحقق إلا بالتناسخ الذي هو شبيه بفعل الإله (براجاباتي) في تحقيق السرور والمعرفة، إذ قررت شروح أحد نصوص (الفيدا) وهو النص الخاص بنثر أجزاء (براجاباتي) في الكون، إن هذه الأجزاء لم تنتثر إلا بدافعين قويين كانا عند هذا الإله: أحدهما الشغف بحيازة السرور، والثاني الشوق إلى المعرفة. واذا، فيجب أن يكون هذان المقصدان ضمن غايات التناسخ ليتم تشبهنا بهذا الإله الخير الذي رضي بتفريق أجزائه، ليحوز السرور بوجودنا، ولتحدث له المعرفة الكاملة بطوفان أجزائه في الكون كله.

غير أن هذا التفاؤل لم يلبث أن تضاءل شيئا فشيئا حتى تلاشى نهائيا وحل محله تشاؤم قاتم قابض أثر في الحياة الفكرية الهندية تأثيرا عميقا. وقد نشأ هذا التشاؤم في أول أمره من اعتقاد المفكرين في أن الحياة خير كلها، وإنها لهذا يجب الحرص عليها والتهالك في الاستمساك بها، ولكن قصرها من ناحية وعدم التحقق من الاستيلاء على زمامها من ناحية

ص: 35

أخرى، يوجدان حسرة في القلب وضيقا في الصدر وشعورا بخيبة الأمل يسود له المزاج وتنقبض له النفس، وهذا هو الذي كان في المبدأ ثم جعل يتطور مع الزمن حتى زالت العقيدة في خيرية الحياة زوالاً تاماً وحلت محلها عقيدة تناقضها تمام المناقضة، وهي أن الإنسان شقي تعس في جميع أدوار حياته، إذ هو في حياته الأولى فريسة للمصائب والنكبات والمخاطر والأمراض، وهو قاصر عن الاستحواز التام على جميع المتع والمسرات، وإذا حاز شيئاً منها فالأجل قصير جداً يستوجب الشفقة والرثاء، فإذا ترك هذه الحياة كان أكثر تعاسة وبؤساً، إذ هو ينتقل في الأجسام المختلفة من وضيع إلى اوضع، غير عارف بمصيره ولا متحقق من حظه، لأن كل مرحلة من مراحل حياته المتعددة تقذف به إلى المرحلة التي تليها قذفاً دون إرادة منه ولا اختيار، وفوق ذلك فهو مسئول في كل مرحلة من هذه المراحل التناسخية أمام الآلهة مسئولية قاسية على ما اقترف أو ما هوى فيه قسر إرادته من آثام وسيئات

وإذاً فالحياة شر، والعالم شر، وهذا الوجود المادي كله شر، وكله باطل، والحقيقة هي غيره، والاعتقاد بأن هذا العالم المادي هو متناثرات أجزاء (براجاباتي) - كما كان سائدا في الزمن السابق - جريمة من الجرائم، لأن الآلهة حق، وهذا العالم المادي باطل، ولا يمكن أن يتكون الباطل من أجزاء الحق، وإنما الصحيح هو أن أجزاء الحقيقة الإلهية حالة في هذا العالم المادي الباطل، ولا وسيلة للخلوص من شر هذا العالم إلا استخلاص الحقيقة من الباطل، ففي جانبنا الاستخلاص لا يتحقق إلا بالتخلي عن المادة، وفي جانب الآلهة، حسب الإنسان أن يفهم أن وراء كل مظهر من هذه المظاهر حقيقة هي الجوهر الصحيح في هذا المظهر. وهذه القاعدة عندهم تتناول حتى (براهما) رأس الآلهة نفسه، فهم يعتقدون أن الحقيقة في (براهما) هي (براهمان) أي الكائن اللا شخصي أو الموجود المنزه عن الجرمية، والحال حلولا غير مادي في جميع عناصر الكون، وأن إدراكه على هذه الصفة هو المحقق الأوحد للنجاة من التناسخ المؤلم ولضمان الخلود، ولكن - الإدراك لا يتيسر إلا بهجر المادة وتجنب جميع مظاهر الحية العملية وتسليم النفس للتأمل العميق المنتهي إلى الغيبوبة والامتزاج بالله والفناء في ذاته

ص: 36

‌الكتب الدينية في عهد التطور

البرانات

(الفيدا) وهو الكتاب الأساسي للديانة البراهمية، وهو وحده المنزل، أما غيره من الكتب فهي من عمل البشر المصطفين الذين هم أقرب إلى (براهما) وهي لذلك. لاتصل من القداسة في نفوس الشعب إلى المرتبة التي وصلت إليها (الفيدا) وهي كذلك غير معجزة ولا مستحيلة التقليد ولكن إمكان تقليدها مقصور على طائفة واحدة من المقربين وهي طائفة (راشين) من خواص البراهمة. وهاك حديث البيروني عن هذا الكتاب:

(وأما البرانات - وتفسير بران: الأول القديم - فأنها ثمانية عشر، وأكثرها مسماة بأسماء حيوانات وأناس وملائكة بسبب اشتمالها على أخبار أو بسبب نسبة الكلام فيها أو الجواب عن المسائل إليها من عمل القوم المسنين: (رشين) والذي كان عندي منها مأخوذاً من الأفواه بالسماع فهو (آدبران) أي الأول. و (مج بران) أي السمكة و (كوم بران) أي السلحفاة. و (براه بران) أي الخنزير و (نارسنك بران) أي الإنس الذي رأسه رأس أسد. و (يامن بران) أي الرجل المتقلص الأعضاء بصغرها. و (تاج بران) أي الريح. و (نند بران) وهو خادم له (مهاديو) و (اسكند بران) وهو ابن (مهاديو). و (آدت بران) و (سوم بران) وهما النيران. و (سانب بران) وهو ابن (بشن) و (هماندبران) وهو السماوات. و (ماركتو يوبران) وهو (رش كبير). و (تاركش بران) وهو العنقاءو (بشن بران) وهو (ناراين). و (براهم بران) وهو الطبيعة الموكلة بالعالم. و (يشن بران) وهو ذكر الكائنات في المستأنف)

كتب أخرى

يروي لنا البيروني كذلك أن للقوم كتباً كثيرة أخرى تعد بمثابة دساتير وقوانين دينية واجتماعية وأخلاقية. وقد لخص الكلام عنها فقال: (وأما كتاب (سمرت) فهو مستخرج من (بيذ) في الأوامر والنواهي، عمله أبناء (براهم) العشرون ولهم كتب في فقه ملتهم وفي الكلام وفي الزهد والتأليه وطلب الخلاص من الدنيا مثل كتاب عمله (كور الزاهد) وعرف باسمه ومثل (سانك) عمله (كبل) في الأمور الإلهية ومثل (باتنجل) في طلب الخلاص واتحاد النفس بمعقولها ومثل (نايبهاش) لكابل في (بيذ) وتفسيره وأنه مخلوق وتميز

ص: 37

الفرائض فيه من السنن. ومثل (ميمانس) عمله (جيمن) في هذا المعنى. ومثل (لوكايت) عمله المشتري) الخ

ألوهية الطور الجديد

كان العامة في الهند بعد تطور (البراهمة) يعتقدون بوجود ثلاثة آلهة: الأول (براهما) وهو الرئيس الأعلى. الثاني (فيسنو) وهو اله الحياة الدائب على إنماء الحياة وازهارها، والثالث (سيفا) وهو اله التدمير والخراب الذي أهم مميزاته الهدم والإبادة والذي لولا سلطان (براهما) لصير الحياة منذ زمن بعيد أثرا بعد عين، ولكن (براهما) الغير المحدود القوة يمسكها دائما أن تميد ويحفظها من شر هذا المدمر الوحشي.

هذا عند العامة. أما الخاصة فكانوا يعتقدون - كما أسلفنا - بوجود اله واحد أزلي أبوي منزه عن الاستعانة بغيره وعن كل ما يوجب نقصه في زعمهم.

وأبو الريحان البيروني يذهب في كتابه إلى ما هو أبعد من هذا فيؤكد أن فكرة الألوهية عند خاصة الهنود كانت سامية جليلة، وأنهم كانوا يعبدون إلها متصفا بكل كمال، ميزها عن كل نقص. ويعلق على هذا بقوله:(ولنورد في ذلك شيئا من كتبهم لئلا تكون حكايتنا كالشيء المسموع فقط) ثم يروي بعد ذلك محادثة وردت في أحد كتبهم المقدسة بين سائل مسترشد ومجيب موضح؛ وفي هذه المحادثة يرى الباحث الأدلة ناصعة على ما يدعيه البيروني من سمو التأليه عند خاصة الهند. واليكم نص هذه المحادثة: قال السائل في كتاب (باتنجل): (من هذا المعبود الذي ينال التوفيق بعبادته؟. قال المجيب: (هو المستغني بأزليته ووحدانيته عن فعل لمكافأة عليه براحة تؤمل وترتجي، أو شدة تخاف وتتقى، والبريء عن الأفكار لتعاليه عن الأضداد المكروهة والأنداد المحبوبة؛ والعالم بذاته سرمدي. إن العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم، وليس الجهل بمتجه عليه في وقت ما أو حال) ثم يقول السائل بعد ذلك: (فهل له من الصفات غير ما ذكرت؟ ويقول المجيب: (له العلو التام في القدر) لا المكان، فانه يجل التمكن. وهو الخير المحض التام الذي يشتاقه كل موجود. وهو العلم الخالص من دنس اللهو والجهل): قال السائل: (أفتصفه بالكلام أم لا؟) قال المجيب (إذا كان عالما فهو لا محالة متكلم). قال السائل: (فان كان متكلما لأجل علمه، فما الفرق بينه وبين العلماء والحكماء الذين تكلموا من أجل علومهم؟. . . قال المجيب: (الفرق بينهم

ص: 38

هو الزمان فانهم تعلموا فيه وتكلموا بعد أن لم يكونوا عالمين ولا متكلمين، ونقلوا بالكلام علومهم إلى غيرهم، فكلامهم وإفادتهم في زمان؛ وإذ ليس للأمور الإلهية بالزمان اتصال. فالله سبحانه عالم متكلم في الأزل، وهو الذي (يراهم) وغيره من الأوائل على أنحاء شتى، فمنهم من ألقى إليه كتابا، ومنهم من فتح الواسطة إليه بابا، ومنهم من أوحى إليه فنال بالفكر ما أفاض عليه)، قال السائل:(فمن أين له هذا العلم؟) قال المجيب: (علمه على حاله في الأزل وان لم يجهل قط، فذاته عالمه لم تكتب علما لم يكن له كما قال في (بيذ)، قال السائل:(كيف تعبدون من لم يلحقه الإحساس؟) قال المجيب: (تسميته تثبت أنيته. فالخبر لا يكون إلا عن شيء، والاسم لا يكون إلا لمسمى، وهو وان غاب عن الحواس فلم تدركه، فقد عقلته النفس وأحاطت بصفاته الفطرة، وهذه هي عبادته الخالصة، وبالمواظبة عليها تنال السعادة

ثم يعقب البيروني على هذه المحادثة بقوله: فهذا كلامهم في هذا الكتاب المشهور. وفي كتاب (كينا) وهو جزء من كتاب (بهارث) فيما جرى بين (باسديو) و (أرجن): إني أنا الكل من غير مبدأ بولادة ومنتهى بوفاة، لا أقصد بفعلي مكافأة ولا أختص بطبقة دون أخرى لصداقة أو عداوة؛ قد أعطيت كلا من خلقي حاجته في فعله، فمن عرفني بهذه الصفة وتشبه بي في إبعاد الطمع عن العمل، انحل وثاقه، وسهل خلاصة وعتاقه) وهذا كما قيل في حد الفلسفة: إنها التقيل بالله ما أمكن. وقال هذا الكتاب: اكثر الناس يلجئهم الطمع في الحاجات إلى الله. وإذا حققت الأمر لديهم وجدتهم من معرفته من مكان سحيق، لأن الله ليس بظاهر لكل أحد يدركه بحواسه، فلذلك جهلوه، فمنهم من لم يتجاوز فيه المحسوسات، ومنهم من إذا تجاوزها وقف عند المطبوعات. ولم يعرفوا أن فوقها من لم يلد ولم يولد ولم يحط بعين أنيته أحد، وهو المحيط بكل شيء علماً)

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 39

‌الموشح

للأستاذ توفيق الضوي

لقد كان الشعر في أول أمره سجعا غير مقيد بالقوافي الموحدة؛ إنما كان قطعاً قطعاً وشذوراً شذوراً كل اثنين منها أو أكثر على قافية واحدة، ثم توحدت القوافي في بعض الأوزان الشعرية انطلاقا مع الأفكار والمحاكاة، عدا الأراجيز التي بقيت مختلفة القوافي فسهل النظم عليها في القواعد والضوابط التي هي من القيود المتينة، ثم لما كثرت الأغراض وضاقت قوافي الشعر عن استيعابها عدل الأندلسيون إلى التفنن فيها فأوجدوا الموشحات غير متقيدين بالقوافي الواحدة، بل تفننوا فيها بمظاهر مختلفة ذهابا مع الأفكار وهياما في سماء الخيال. على أن للقريحة والذوق وللحس والخيال تأثيرا كبيرا على الشعر وتجديده وابتكار معانيه والتصرف في قوافيه والتلاعب بأوزانه فوق ما لتأثير السلالة والإقليم والعمران وما يتعلق بها، فلهذا كان الفرق بين الشعر العربي والأعجمي عند الأمم، ويبن الغربي والشرقي عند العرب. ومن المعلوم أن فنون الشعر سبعة: هي القريض، والموشح، والدوبيت، والمواليا، والزجل، والكان وكان، والقوما. وقيل إن الحماق منها أيضا فتكون ثمانية. وثلاثة من فنون الشعر هذه معربة ولا يغتفر اللحن فيها. وهي القريض والموشح والدوبيت؛ وثلاثة ملحونة دائما وهي الزجل وكان والقوما. وأما المواليا فيحتمل الإعراب واللحن. والآن نتكلم عن الموشح الذي هو مدا بحثنا. . .

فالموشح فن من فنون الشعر الرائعة التي توسع فيها شعراء الأندلس إطلاقا لبنات أفكارهم في سماء الخيال فأجادوا ما شاءت بلاغتهم وعنايتهم في إظهار المنظومات في قالب جديد مطبوعة على غرار جميل مطرزة بوشي لطيف حتى تفرقوا على غيرهم بهذا التصرف البديع الذي اقتبسه عنهم المغاربة فالمصريون فالسوريون فالعراقيون؛ وعم عالم الشعر العربي الذي زاده التوشيح محاكاة فوق محاكاة أوزانه المطربة، فكانت الموشحات موسيقى الشعر التي تضرب على أوتار القلوب، فتناولها الشعراء بمنتهى الإقبال والتكريم وتباروا في الإجادة في فنونها هائمين في سهولها وضروبها، راشفين من صافي معينها، واصفين مظاهر الطبيعة والعالم على اختلاف شؤونها. فالأندلس أم الموشحات، وصفاء أذهان شعرائها راس هذه الاختراعات. . . وهذا ما قال صفوان المرسي الأندلسي يصف تأثير

ص: 40

مناظر الأندلس في شعرائها حتى أحسنوا النظم والنثر متفوقين فيهما على غيرهم

هنالك بين الغصن والقطر والصباح

وزهر الربى ولدت، آدابى الُغرا

إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري

تعلم نظام النثر من ههنا شعرا

وإن نثرت ريح الصبا زهَر الربى

تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا

فوائد أسمار هناك اقتبستها

ولم أر روضا غيره يقرئ السحرا

كأن هزيز الريح يمدح روضها

فيملأ فاها من أزاهره درا

قال ابن خلدون في الموشح: لما كثر الشعر في الأندلس وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنا سموه الموشح ينظمونه اسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتا واحدا، ويلتزمون عدد قوافي تلك الأغصان وأوراقها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة. واكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتم كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجاروا في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه.

قال أبو عبد الله محمد الأزرق الأندلسي في مدح موشحه ذهابا إلى القصيدة:

بعثت بها عذراء رائعة الحلى

قضت أنها للمعلمات مرشحة

توشحت اللفظ البديع وأقبلت

فها هي تبدو للعيون موشحة

ووصفها ابن دحبة الأندلسي بقوله:

الموشحات هي زبدة الشعر ونسبته، وخلاصة جوهره وصفوته. وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق، وظهروا فيها ظهور الشمس الطالعة والضياء المشرق. . . وقال ابن معصوم في سلافة العصر: ولأهل اليمن أيضا نظم يسمونه الموشح غير موشح أهل المغرب؛ والفرق بينهما أن موشح أهل المغرب يراعى فيه الإعراب، وان وقع اللحن في بعض الموشحات التي هي على طريقتهم لكون ناظمه جاهلا بالعربية فلا عبرة به، بخلاف موشح أهل اليمن فانه لا يراعي فيه شيء من الإعراب بل اللحن فيه أعذب، وحكمه في ذلك حكم الزجل

وللموشحات اصطلاحات لابد منها، مثل اللازمة، والمبدأ، والدور، والدرج، والبطايحي،

ص: 41

والمجنح، والخرجه، والسلسة، والقفلة، والانصراف، والمجنب الخ

وأول من اخترع الموشحات في شبه جزيرة الأندلس مقدم بن معافر الفريري؛ والفريري نسبة إلى فريرة وهو حصن بالأندلس من أعمال كورة البيرة؛ وقد يكون جده منسوبا إلى فرير وهي قرية بين جيجون وبخارى في بلاد العجم، أو بلدة بخراسان كما ذكر السمعاني في أنسابه وياقوت الرومي في معجم البلدان. وهو من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني (273هـ، 886م) وأخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عبد ربه مؤلف العقد الفريد. وجاء بعدهما كثير من الشعراء فتفننوا في الموشحات حتى فاقوا من سبقهم فاشتهرت موشحاتهم، وأشهرهم عبادة القزاز وغيرهم. وانتقل بعد ذلك الموشح من الأندلس إلى المغرب، ومن هذه إلى مصر، ومنها اتصلت بسورية فالعراق. وذلك في العصر العباسي الرابع وفي أثناء القرن السادس للهجرة. . .

قال الزبيدي في معجم تاج العروس: التوشيح اسم لنوع من الشعر استحدثه الأندلسيون، وهو فن عجيب له أسماط وغصون وأعاريض مختلفة، واكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات. وقال أيضا: الوشاح بالضم والكسر رسان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، تتوشح المرأة به، ومنه اشتق توشح الرجل بثوبه، وقال غيره أخذ التوشح من الظبية الموشحة وهي التي في جنبها طرتان

قال القيراطي موجها بالزجل والموشح ذهابا إلى الشعر:

أرتاح للأقمار وهي طوالع

وشموس راحي للمغارب تجنح

ويهزني زجل الطيور بلحنها

والروض بالزهر النظيم موشح

وباختراع فن الموشح كان له الثر العظيم في الشعر الأوربي، فحاكى شعراءهم هذه الأوزان والأشكال كما نرى في منظوماتهم، ولاسيما قصائد فكتور هوجو شاعر فرنسا في ديوانه المسمى بالشرقيات، وكذلك قصائد غوته الشاعر الألماني وغيرهما من شعراء بقية الأمم الأوربية التي وقفت على أشعار عرب الأندلس وموشحاتهم الخالدة، فكانت القافية عندهم لا تلتزم في أكثر من بيتين كالأراجيز عندنا، أو أنها تلتزم في أبيات وتتغير وتعود إلى اللازمة كما في الموشحات؛ ومنها نوع من الشعر يسمونه الأبيض وهو ما كان غير مقفى كشعر شكسبير شاعر الإنكليز وغيره. . .

ص: 42

قال أبو الوليد بن رشد الأندلسي في تلخيص كتاب أرسطو في الشعر ما نصه: والمحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء: من قبل النغم المتفقة، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوحد كل واحد منها مفردا عن صاحبه مثل وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ: أعني الأقاويل المخيلة غير الموزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة إذ كانت الأشعار الطبيعية هي ما جمعت الأمرين جميعا؛ فالصناعة المخيلة أو التي تفعل فعل التخييل، ثلاثة. . صناعة اللحن. والوزن وعمل الأقاويل المحاكية. ومن أبدع فنون الموشحات كتاب المديحات لعبد المنعم عمر بن حسان الغساني الأندلسي الجلياني ألفه سنة 569هـ ويوجد في المكتبة الخالدية في القدس الشريف، وكتاب جيش التوشح للسان الدين بن الخطيب، وعقود اللآل في الموشحات والأزجال، لشمس الدين النواحي، لدار الطراز في عمل الموشحات لابن سناء الملك، والدر المكنون في سبعة فنون لمحمد أحمد بن إياس الحنفي، وحاوي الفنون وسلوة المحزون لابن الطحان وغيرها من المؤلفات القديمة القيمة. هذه كلمة موجزة عن تاريخ الموشح وعمله كتبها خدمة الشعر والموسيقى ليكونوا على علم بأصول الموشح وتاريخه لارتباطه الوثيق بفن الموسيقى والغناء

(إسكندرية)

توفيق الضوي

أستاذ في الموسيقى

ص: 43

‌من روائع أدب الغرب

ناقوس القرية

لشاعر الحب والجمال: ألفونس دي لامرتين

الحياة: موجة في خضم تأوهات، صبرها الشهد، كأس المجد،

تملأ بالعبرات.

(لامرتين)

كالزفرات تعلو خفقات الناقوس الخاشع المتئدة. الإحراج تمسكها. الوديان تبددها. يد الصغير، توازن كأسه، وتفرغ نغمات الروض العلوية، في نسيم الليل المدلهم.

رجف من أصواته العالية، جزع من خفقاته المتوالية. البلبل يطير تاركا بيته المضطرب مياه الغدير المتموجة، تجنى الأزهار اليانعة من جوانبه. أرملة القرية، تركع لصدى نغماته تترك خيط مغزلها لترسل الرحمات للموتى.

يوقظ في قلبي، غناء هذا البرج الرنان. . .

لا سرور النهار الذي انتهى،

ولا بؤس اليوم الذي انقضى،

ولا صور الماضي الفتية، والذكريات الغنية، التي تهدمت في هذه الطرقات بين الأنوار الذابلة.

لا نومي الهادئ في ظلال أغصان الدلب الندية،

ولا أول نسمة في حياتي،

ولا صوت أقدامي التائهة، فوق هذه الذروات العالية، ولا السرور العظيم تحمله إلى موجاتك يا نسيم الصبا، المثقل بالروائح العطرة التي لا تنضب.

لا ذكرى الجواد الواقف في المرج وقد لوى عنقه الحريري على يدي المدربة، ومزج ضفائر عنقه، بشعرات رأسي الشقراء، والأرض ترن تحت سنابكه القوية كالسندان، بينا

ص: 44

ردفه يحملني، وزبد شدقيه يكسو فضة ناصعة حشائش الوادي.

لا الحب نفسه. . .

الحب، الفجر الأول في الحياة.

حيث شهور الربيع تجري ماء الحياة في نسغ النبات، فتزهر العقول وتخضر الأحراج.

في الظلال أصوات العذارى الحاملات الجرار لملئها من الينبوع، تصل لسمعي وئيدة، فتدب في جسدي الرعشة ولا أنت. . .

أنت التي أبكيك أبدا،

الفورة الأولى لدمي،

صوت الفؤاد الذي يفنى، ويوقظ في روحي الدمدمة السحرية، معطرة بالعنبر، فتنثر في الأجواء رياح الشعر

أواه. أيها المجد، ولا أنت. . .

لا الشتاء يحمل إليك دون أسف أيامي مع بقايا الأعشاب الفارغة من الحب.

ونثرات الأوراق الذابلة، وصدى المجد الفارغ.

أعشاب الطريق، مزروعات علوية، تعطر الأقدام، ولكن جذورها لا تغرس في القلوب.

لا أكاليل الأعراس، يقطفون زهورها في المساء. فيسممها الحقد، ويذبلها الحسد.

ولا ما يهب الحياة نشوة، تاج المجد المحطم تحت يدي. الزهرات المعارة، لا تمسكها ساق، تذبل وتجف، ثم تقع من فوق الحبيين

هو ذاك اليوم.

أصواتك ممتزجة بزفرات امرأة، مخضلة بالعبرات، مترعة باليأس، رنت في أرجاء الوادي، تبكي نعشين مرا، يجللهما الحزن، ويسبل عليهما الألم رداءة،

في قبر واحد، دفنت أرواح ثلاثة ونسيت على حافة اللحد.

من الفجر حتى الليل، من الليل حتى الفجر، تذرف الدمع أيها الناقوس. كما أذرفه. تجمع بين قلبينا زفرة محرقة. الأهوية والسماء تردد نواحك، كما لو فقد كل كوكب أمه، وكل نسيم ولده.

من ذلك اليوم رنانك المقدسة ارتسمت في ذاكرتي المفجعة. وامتزجت بكأس آلامي

ص: 45

المترعة. اختلطت زفراتك بأصوات قلبي، وتردد صداها في أنحائه. معدنك الرنان المغموس في اللهيب يماثلني عندما يبكي، هو قطعة من روحي، يوقع عليها ملاك نغماتك.

أرقد لغفلتك، وانهض ليقظتك. صوت نعيك، صديق تسمعه أذناي. بين رنين الأجراس، أفرق نغمتك. تغمرني موجاتك. كالأجراس تعلو في جنباتها رنات بعوضة طائرة.

أقول لنفسي: هذه الزفرة الحزينة المبهمة، يحملها إلي نسيم الليل العميق، موجة اثر موجة. أواه لأجلي تتردد هذه الأصوات العالية. أفهم ما يقول. ويدرك ما أفكر. والهواء الجاهل في هذا السكون المحتدم يحمل إلى لهجته المؤثرة.

أقول لنفس: صوت هذا المعدن المتردد، قبل أن يصل إلى قلبي، ويغمر جنباته ويغرق قطعاته. اهتز فوق أطلال الماضي الراقد، يحمل إلي من بقايا قبته المتهدمة أشياء.

حجر القبر، حيث دفن حبي، يقرع بهذا اللحن العذب. لا تعجب يا ولدي إذا اهتزت أفكاري لأصوات هذا الناقوس. مغرم بصمته الأمين للردى. لأول رنة تختلج تحت قبته أقف مصغيا لما يحمله إلي الحمام

أما أنت، مذياع الحزن البشري الذي اخترعته الأرض لتجهر بآلامها. غن نشيد القلوب المحطمة الرائع، فزفراتك تهب الأحجار روحا، والمقل الجافة دموعا، والصلاة خشوعا أبديا، والقبور حزنا سرمديا.

عندما يحمل العمال نفسي وبقايا حطامي، تبقى هنا روحي تقذف حممها الملتهبة نحو السماء. الباكون، حاشية باردة، تسير خلفي لتضع جسدي، تحت باب حقير، ترتمي عليه أشعة الشموس.

إذا يد ورعة قرعتك لشرفي. فلا تحزن مخلوقا بزفراتك المتصاعدة. لا تنشر الدموع في الأفق. التمس جرس العيد واقرع فوق لحدي، برنة سلسلة سجن قرحة تقع على عتبته

غرد كالعندليب لحنا خالدا، يرتفع من منزلك، والسوط الأسمر يوجه نحو فجر النهار خفقته المحزنة.

غن أنشودتك المترددة في أعماق السموات تطفئ شهوة الخصوم المتشبثين بأدران الحياة.

إليك

اقرع قبل اليوم، دق رويدا الساعة. صديق في منزلي الحقير، يحضر ليضيء في هذا

ص: 46

القلب المهدم، الحزن العميم، ويترك قبل أن يذهب قطرتين من العطر تضمخان طويلا كفني.

حسين تفكجي

ص: 47

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

في بلاد المدنية:

ذهبت بعيدا طائرا في أجواء المستقبل فارتعشت وذعرت عندما نظرت ما حولي فما وجدت من معاصر لي غير الزمان. وليت الأدبار مسرعا حتى وصلت إليكم، يا رجال اليوم، ونزلت بينكم في بلاد المدنية، فألقيت عليكم أول نظراتي بصفاء نية لأنني جئتكم بقلب مصدوع، ولا أعلم ما أهاب بي إلى الضحك بالرغم من ارتياعي، فان عيني ما رأت من قبل مثل هذه الخطوط والألوان.

ذهبت في ضحكي وقد ارتعش قلبي واصطكت رجلاي فقلت في نفسي (لعل هذه مصانع آنية المواد الملونة).

لقد برزتم أمامي يا رجال اليوم، وعلى وجوهكم أعضائكم من الألوان عشرات الأنواع، وحولكم عشرات المرايا تعكس تموجات ألوانكم؛ والحق أنكم لا تستطيعون أن تجدوا ما تتقنعون به أشد غرابة من وجوهكم نفسها، يا رجال اليوم، فمن له أن يعرف من أنتم؟

لقد حفر الماضي في وجوهكم آثاره فألقيتم فوقها آثارا جديدة، لذلك خفيت حقيقتكم عن كل معبر وأعجزت كل بيان.

ولو كان لأحد أن يفحص الأحشاء فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحشاء وما أنتم إلا جبلة هباب ألوان وقطع أوراق ألصقت إلصاقا. وهذه جميع الأزمنة وجميع الشعوب تتزاحم مرسلة نظراتها من وراء قناعكم كما تفصح جميع حركاتكم عن تراكم كل العادات والمعتقدات فيكم. فإذا ما نزعت أقنعتكم وألقيت أحمالكم ومسحت ألوانكم ووقفت حركاتكم فلا يبقى منكم إلا شبح ينصب مفزعة للطيور.

والحق، ما أنا إلا طائر مروع، لأنني رأيتكم يوما عراة لا تستركم ألوانكم فاستولى الذعر علي إذ انتصبتم أمامي هياكل عظام تومئ إلي بإشارات العاشقين.

أنني افضل أن أكون من عمال الجحيم وخدام الأشباح. لأن لسكان لجحيم ما ليس لكم من

ص: 48

شخصية معينة، وأمر ما ألقاه هو أن أنظر إليكم سواء استترتم أو تعريتم، يا رجال اليوم. . .

إن جميع ما يدعو إلى القلق في آتي الزمان وجميع ما ارتاعت له في الماضي تائهات الطيور، إنما هو أدعى الاطمئنان والارتياح من حقيقتكم، لأنكم أنتم القائلون:(إنما نحن الحقيقة المجردة عن كل خرافة واعتقاد) وبهذا تتبجحون وتنتفخون دون أن يكون لكم صدور.

وهل من عقيدة لكم وأنتم المبرقشون بجميع ما عرف الزمان من ألوان حتى اليوم؟ وهل أنتم إلا دحض صريح للإيمان نفسه وتفكيك للأفكار جميعها؟ فانتم كائنات أوهام يا من تدعون أنكم رجال الحقائق.

لقد قامت العصور كلها تتعارك في تفكيركم، وما كانت هذه العصور في أحلامها وهذيانها إلا أقرب إلى الحقيقة من تفكيركم وأنتم منتبهون.

بليتم بالعقم ففقدتم الإيمان وقد كانت للمبدع أحلامه وكواكبه قبلكم فوثق من إيمانه.

ما أنتم إلا أبواب فتحت مصاريعها لحفار القبور، وما حقيقتكم إلا القول بان شيء يستحق الزوال.

إنكم تنتصبون أمامي كهياكل عظام متحركة، أيها المبتلون بالعقم، ولا ريب في أن أكثركم لم يخف عليه أمر نفسه عندما تساءل:(هل اختطف اله مني شيئا وأنا نائم؟ والحق أن ما سلب مني يكفي لإيجاد ارأة، فما اضعف أضلاعي) هكذا يتكلم العدد الوفير من رجال هذا الزمان.

ان حلكم ليضحكني أيها الرجال؛ ويزيد في ضحكي أنكم لأنفسكم مستغربون. ولشد ما يكون وبلى لو امتنع على أن أضحك من استغرابكم ولو اضطررت إلى ازدراد ما في أوعيتكم من كريه الطعام.

أنني أستخف بكم لما على عاتقي من ثقيل الحمال فما يهمني لو نزل عليها بعض الذباب فانه لن يزيدها ثقلا وما أنتم من يحملني أشد الأتعاب أيها المعاصرون.

وا أسفاه إلى أية ذروة يجب علي أن أرتقي بأشواقي فأنني أدير لحاظي من أعالي الذرى مفتشاً عبثا عن مسقط رأسي وأوطاني، فأنا لا أزال في أول مرحلتي في المدن أتنقل أمام

ص: 49

أبوابها.

لقد اندفعت بعواطفي نحو رجال هذه الايام، ولكنني ما لبثت أن تبينت فيهم قوما غرباء عني لا يستحقون إلا سخريتي، وهكذا أصبحت طريدا يتشوق إلى مسقط رأسه وأوطانه. ولا وطن لي بعد الآن إلا وطن أبنائي في الأرض المجهولة وسط البحار السحيقة، لذلك وجب أن ندفع بشراعي على صفحات المياه لأفتش عنه.

على أن أكفر أمام أبنائي لأنني كنت ابنا لآبائي. على أن أكفر عن حالي العتيد بكل جهودي في آتي الزمان

هكذا تكلم زارا.

المعرفة الطاهرة

عندما أطل القمر على ليلة أمس خيل إلي أنه أنثى أثقلها الحبل وكأن في أحشائها كوكب النهار. وقد جاءها المخاض وأنا أميل إلى تذكير القمر مني إلى تأنيثه وإن خلا من صفات الرجولة فانه رائد ليل يمر على السطوح وقد ساءت نواياه، فهو كالراهب المتدفق شهوة وحسدا يتمنى لو يتمتع بملذات جميع العاشقين

لا، إنني لا أحب هذا الهر المتجول على مزاريب السطوح، لأنني أكره كل متلصص أمام النوافذ التي لم يحكم أقفالها. إن القمر ليمر خاشعا متعبدا على بساط النجوم وأنا أكره كل من ينساب في مشيته فلا تسمع وقعا لأقدامه، فان خطوات الرجل الصريح تستنطق الأرض؛ وما يمشي الهر إلا متجسسا، وهذا القمر لا يتقدم إلا بخطوات الغدر كالهر.

ما أوردت هذا المثل إلا لكم وعنكم يا أبناء الخبث وقد أرهقت إحساسكم لطلب المعرفة الصافية، وما أنتم في نظري إلا عبيد الملذات لأنكم أنتم أيضاً تحبون الأرض وما عليها ومنها. لقد عرفت طويتكم فإذا في حبكم ما يخجل وما يفسد الأخلاق، فما أشد شبهكم بكوكب الليل.

لقد أقنعوكم بأن تحتقروا كل ما ينشأ من التراب، ولكن هذا الإقناع لم ينفذ إلى أحشائكم، وأحشاؤكم هي أقوى ما فيكم؛ وهكذا أصبح عقلكم خجلا من سيطرة أحشائكم عليه، فهو يتبع الطرق الخفية المضلة فزعا من حجله. أنصتوا إلى مناجاة عقلكم لنفسه فهو يقول: ليت لي أن أرتقي إلى حيث أنظر إلى الحياة محررا من الشهوة فلا ألهث أمامها ككلب يدلي

ص: 50

لسانه وقد شفه السغب من شهوته.

ليت لي أن أسعد بالتأمل متفوقا على إرادتي متحررا من خساسة الأنانية ومطامحها فيسود على السلام ولا يبقى لعيني سوى لحظات القمر الثملة.

إن عقلكم يطلب التملص من ذاته لأنه طريد يشتهي أن يتعشق الأرض كما يتعشقها القمر فلا تتمتع إلا عيونكم بجمالها

إن عقلكم يرى المعرفة الظاهرة لا تحتله ما لم ينبسط أمام الأشياء دون امتلاكها مكتفيا بانعكاس أشباحها عليه كما تنعكس الأشباح على مرآة لها مئات العيون.

أيها الخبثاء المتحرقون بالشهوات، لقد خلت شهوتكم من الطهارة فلذلك تجدفون على الشهوة، فأنتم لا تحبون الأرض كما يحبها المبدعون والمجدون الذين يسرون بما يبدعون وبما يجددون. فلا طهارة إلا حيث تنجلي إرادة الإبداع، فمن اتجه إلى خلق من يفوق عليه فذلك عندي صاحب اطهر إرادة وأنقاها.

طلبت الجمال فما وجدته إلا حيث تنصب الإرادة بأكملها إلى المراد، وحيث يرتضي الإنسان بالزوال لتجديد الصور وتبدلها، فالمحبة والموت صنوان متلازمان منذ زمان الأزل فمن أراد المحبة فقد رضي بالموت. هذا ما أقوله لكم أيها الجبناء

ولكن نظراتكم المنحرفة المؤنثة تحب الاستغراق في التأمل فتريدون أن يدعي جمالا ما تحدجونه أنتم بعين الحذر والجبن؛ إنكم لتدنسون أشرف الأسماء.

إن اللعنة التي تحل بكم، أيها السائرون وراء المعرفة الطاهرة إنما هي عجزكم عن التوليد في حين أنكم تلوحون كالحبالى المثقلات على الآفاق.

إنكم تحشون أفواهكم بأنبل الكلمات بان قلبكم يتدفق عطفا وما أنتم إلا منافقون.

لقد أخشنت القول لكم فكلماتي مشوهة ذرية؛ غير أنني أتناولها من الفتات المتساقط من موائد ولائمكم فاستعملها حين أعلن الحقيقة للخبثاء وهذا ما بيدي من حسك وأصداف يخدش آنافكم أيها الخبثاء.

إن الهواء الفاسد يهب بلا انقطاع حولكم وحول مآدبكم لأنه مشبع من أفكاركم الدنسة وأكاذيبكم وخداعكم.

عليكم بأن تبدءوا باطراح خوركم لتتوصلوا إلى الوثوق بأنفسكم فما ينقطع عن الكذب من

ص: 51

لا ثقة له بنفسه

لقد أخفيتم وجوهكم بأقنعة الإلهة أيها الرجال الأتقياء فأنتم ديدان قبيحة نتشح برداء الأرباب

إنكم لجد متبجحين يا رجال التأمل، حتى إن زارا نفسه أخذ بمظاهر جلودكم الإلهية فخفيت عنه الأفاعي الكامنة وراءها

لقد كنت أرى في عيونكم روح اله أيها الطالبون المعرفة الطاهرة، قبل أن تكشف لي تصنعكم فعرفت أنكم امهر المتصنعين

لقد بعد المجال بيني وبينكم فما تميزت فيكم الثعبان القبيح، ولا وصلت إلي رائحته الكريهة، وما خطر لي أن أمامي حرباء تتلون بشهواتها. ولكنني عندما اقتربت منكم تبددت الظلمة حولي. وها إن الفجر يغمركم بأنواره فلكل قمر جنوح إلى الغياب في شهوته. انظروا إلى هذا القمر فهو في افقه شاحب مذعور وقد باغته الفجر بأنواره المرسلة، فكل شمس يتجلى حبها الطاهر في تشوقها إلى الإبداع

أما ترون الفجر ينسحب على البحر وقد اهتاجه الشوق والحنين؟ إنما تشعرون بظمأة في حبه وحر انفاسه، فكأنه يزيد ارتشاف اللجج. وهاهي ذي تتعالى نحوه بآلاف نهودها، واللجة نفسها متشوقة إلى وصال كوكب النهار ليرشفها ارتشافا فتتحول إلى سحب ومسالك أنوار، بل هي نفسها تفنى في النور متحولة إلى نور

وأنا كوكب النهار أحب الحياة وكل لجة بعيدة الأغوار؛ تلك هي معرفتي. إنني أجتذب كل غور ليتعالى إلي. . .

هكذا تكلم زارا. . .

ص: 52

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسقاف النشاشيبي

118 -

المرأة والكتب

في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة: حدثني الشيخ شديد الدين المنطقي بمصر قال: كان الأمير ابن فاتك محبا لتحصيل العلوم، وكانت له خزائن كتب، فكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها، وليس له داب إلا المطالعة والكتابة. وكانت له زوجة كبيرة القدر من أرباب الدولة. فلما توفي رحمه الله نهضت هي وجوار معها إلى خزائن كتبه، وفي قلبها من الكتب، وانه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها. . . ثم أشيلت الكتب بعد ذلك من الماء. وقد غرق أكثرها، فهذا سبب أن كتب المبشر بن فاتك يوجد كثير منها وهو بهذه الحال

119 -

على الطنبور

قال جحظة: وهب لي جعفر بن المأمون طنبور عبيدة الطنبورية فإذا عليه مكتوب بآبنوس:

كل شيء سوى الخيانة في الحب يحتمل

120 -

حتى متى أرفعك؟

قال أسماء بن خارجة لجاريته:

أخضبيني

فقالت: حتى متى أرفعك؟!

فقال:

عيرتني خلقاً أبليت جدته

وهل رأيت جديداً لم يعد خلقاً

121 -

في الدنيا والآخرة

قال الجاحظ: روي أن أعرابيا اشتد عليه البرد فأصاب نارا، فدنا منها ليصطلي بها وهو يقول: اللهم، لا تحرمنيها في الدنيا ولا في الآخرة

122 -

الجديد والقديم

ص: 53

أبو بكر محمد بن نصر الأوسي:

وان كان عندي للجديد لذاذة

فلست بناس حرمة لقديم

123 -

إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف

قال عبد العزيز بن الفضل: خرج القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج وأبو بكر محمد بن داود الظاهري وأبو عبد الله نفطويه إلى وليمة دعوا لها، فأفضى بهم الطريق إلى مكان ضيق، فأراد كل واحد منهم أن يتقدم عليه، فقال ابن سريج: ضيق الطريق يورث سوء الأدب

وقال ابن داود: لكنه يعرف مقادير الرجال. . .

فقال نفطويه: إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف

124 -

غزل الصداقة

في (المقابسات) قال الحسن بن وهب: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة)

وهذه نفثة فاضل قد أحس كمال الصداقة

125 -

أسمه أبو العتاهية

تكلم بعض القصاص قال: في السماء ملك يقول كل يوم: لدوا للموت وابنوا للخراب.

فقال بعض الأذكياء: اسم ذلك الملك أبو العتاهية. . .

126 -

الشاكر والصابر في الجنة

نظرت امرأة عمران بن حطان يوما في المرآة - وكانت أجمل النساء - فأعجبها حسنها، ونظرت إلى عمران - وكان قبيحا فقالت أبا شهاب، تعال فانظر في المرآة! فجاء فنظر إلى نفسه وهو إلى جانبها كأنه قنفذ ورأى وجها قبيحا، فقال: هذا أردت؟!

فقالت: إني لأرجو أن أدخل الجنة أنا وأنت

قال: بم؟

قالت: لأنك رُزقتَ مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت. والشاكر والصابر في الجنة. . .

127 -

فلا

ص: 54

في (العمدة) لابن رشيق: قيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟

فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا. . .

128 -

لا حكم إلا للملاح

أبو القاسم المرتضى:

بيني وبين عواذلي

في الحب أطراف الرماح

أنا خارجي في الهوى

لا حكم إلا للملاح

129 -

ماء الملام، جناح الذل

قال أبو تمام في قصيدة:

لا سقني ماء الملام فإنني

صب قد استعذبت ماء بكائي

فبعث مخلد الموصلي إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام، فقال لصاحبه: قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعث إليه

قال ابن أبي الحديد: هذا ظلم من أبي تمام لمخلد، وما الأمران سواء لان الطائر إذا أعياه تعب وذل، وخفض جناحه، وكذلك الإنسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا، ويده جناحه، فذاك هو الذي حسن (واخفض لهما جناح الذل) ألا ترى لو أنه قال: واخفض لهما ساق الذل أو بطن لم يكن مستحسنا

130 -

ولع الشعراء ببعض الألفاظ

في (سر الفصاحة) للخفاجي:

قلما يخلو واحد من الشعراء المجيدين أو الكتاب من استعمال ألفاظ يديرها في شعره. وقد كان أبو الحسن مهبار ابن مرزويه ممن غَرِى بلفظ (طين وطينة) فما وجدت له قصيدة تخلو من ذلك إلا اليسير.

وقال أبو الفتح بن جني: لأبي الطيب المتنبي: إنك تكرر في شعرك (ذا وذي) كثيراً، ففكر ساعة ثم قال: إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد. فقلت: صدقت إلا أن المادة واحدة، فأمسك

131 -

القاضي بسعادتك

ص: 55

قال أبو اليمن زيد الكندي: كنا نلقب أبا المكارم محمد بن الملك بن أبي جرادة (القاضي بسعادتك) وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة - وكنت حاضرها - فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو أساء إلا قال في عقبه (بسعادتك) فان قال له: ما فعل فلان؟ قال: مات بسعادتك، وان قال له: ما خبر الدار الفلانية؟ يقول: خربت بسعادتك. فسميناه (القاضي بسعادتك) وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه، وكان أدب وفضل وفقه وشعر جيد

132 -

وبأ حسنت لا يباع دقيق

حضر جحظة مجلس بعض الكبار مراراً، وكان إذا غنى يقول له: أحسنت، ولم يكن يخوله شيئا، فقال فيه:

إن تغنيت قال: أحسنت أزدني

وب (أحسنت) لا يباع دقيق

133 -

فلهذا يرقص الحبيب

قال كان: من معاني الأبيوردي البديعة قوله من جملة أبياتا وصف الخمرة:

ولها من ذاتها طرب

فلهذا يرقص الحبب

134 -

أنت الحسن إذن

قال أبو نواس: استقبلتني امرأة فسفرت عن وجهها، فكانت على غاية الحسن، فقالت: ما اسمك؟

قلت: وجهك

قالت: أنت الحسن إذن!

135 -

يتيم

قال ابن خالويه في كتاب (ليس): أنشدني أعرابي:

ثلاثة أحباب: فحب علاقة

وحب تِمِلاّق وحب هو القتل

فقلت له: زدني

فقال: البيت يتيم.

ص: 56

136 -

فر زيتون من الجبن

في (الغيث المسجم) للصفدي: كتب القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر لما التقى (الملك الظاهر) مع (زيتون الفرنجي) قريبا من عكا، وهرب زيتون، وأسر غالب من كان معه من الفرنج، فجاء في جملة الكتاب:(وفر زيتون من الجبن) قيل إن الملك الظاهر لما سمعها أعجبته وخلع عليه

137 -

أينما كانت انتفعنا بها

في كتاب (قضاة قرطبة) لمحمد بن الحارث الخشني:

قال محمد بن فرج الفقيه: ما رأيت أعقل من زياد بن عبد الله (الخطيب بالمسجد الجامع بقرطبة) قلت له يوما: يزعم هؤلاء المعدلون إن هذه الشمس. مقرها السماء الرابعة. فقال: (أينما كانت انتفعنا بها) ولم يزدني على ذلك فعجبت من عقله

ص: 57

‌نفثة محزون

للأستاذ إبراهيم عبد الوهاب

في ميعة الصبا ونضرته، وفي ربيع الحياة وزهوه، أختطف الموت أبني ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ففاض صدري بهذه الكلمة تفجعاً عليه ورثاء له

عافَ الحياة ومَلَّ من أوْصابها

لما ألَحّ الداَء في أسبابها

بَكَرَت إليه يد المنونِ ولم يكد

يُوِفي من الدنيا على أبوابها

ورمت مَنيته إليه شباكها

وعَدَتْ عليه بظفرها وبنابها

وطوت صحيفتَهُ ولما يَكْتَمِلْ

عنوانُ قصتها وبَدْءُ كتابها

فمضى كأزهارِ الربيع قصيرةٌ

أيامُها وفريدة في بابها

أبني أيُّ فجيعةٍ غدَّارةٍ

دَهْياَء قد نزلت بفصْلِ خطابها

رمت القلوب فأقْصَدتْ حياتها

وَمَحتْ جميل الصبر في أعقابها

وأسالت الدمع الأبيَّ كأنه

غيثُ السماءِ هَمَي وهَطْلُ سحابها

لَهَفي عليك وأنت نِضْوٌ خائر

تشكو من الحمى ومن أذنابها

وتبينت مضطرباً كأنك في لظى

قَلقَا تَوجَّعُ من أليم عذابها

حلت بجسمك لا تريد فراقه

فكأنما ألْفتْكَ من أحبابها

ورمت يديك برعدة مشئومة

أيقنْتُ أن الموت ينذرنا بها

الجسم مرتعها ولحمك طُعْمُها

وعصير قلبك من لذيذ شرابها

صهرتك لم ترحم صباك ولم تَهِنْ

حتى مضت بالروح أسلابها

وقف الطبيب إلى سريرك مطرقا

حَيْران مُغْتنمًّا لدائك آبِها

ودعا صحابته إليك فلم يجد

رأياً جديداً أو مشيراً نابها

وأهابَ بالطب العتيد فخانه

وأراد معجزة فما أوْفَى بها

الطب إن شاء الإله وسيلة

تشفي من الحمى ومن أترابها

أو لم يشأ تلقاه شر رسالة

للموت يُزْجيها إلى أربابها

قل للمؤمل في الطبيب وطبه

إن الحياة رهينةٌ بكتابها

لا الطب يصنعها ولا أقطابه

الله قدرها ليوم مَآبِها

ص: 58

هي صنعة المولى تَمَلَّكَ سِرَّها

وأجادها وَوَعي دقيق حسابها

أبُنَيَّ أزْمَعْتَ النوى وتركتني

أشْتَفُّ من كدر الحياة وصابها

أذكيت نار الحزن تلتهم الحشا

وتذيب قلبي من سعير لهابها

تلك الدموع الحائرات بمقلتي

هي مهجتي تنساب من أهدابها

أفلا رَحِمْتَ أباك من أدوائه

حتى أضفت لها الفراق مشابهاً

ورَحِمْتَ أمك من لواعج ثكلها

وغزير عبرتها وسود ثيابها

تبكي وتندب حظها وعِثَارهُ

وَربيبَ مهجتها وصِنْوَ شبابها

وتود لو أنَّ الدموع شرابُها

أو أن ماء البحر من تسْكابها

وتطوف حول القبر تلتمس الهدى

فكأنما أوفتْ على محرابها

حَيْرَى مُحَسَّرةً تمثل حزنها

فتكاد تلمسه على جلبابها

الخطب أرهقها وحَطَّمَ عودها

ولرُبَّ عاقلةٍ مَضى بصوابها

قد كنت وَثّاب الذكاء مَحَّبباً

وبرئت من طبَعِ الخصالِ وعابِها

قد كنت بهجة دارنا وسرورها

فغدت بفيض الحزن من أَعتابها

قد كنت لي أملاً ألُوذُ بنوره

في لجة الدنيا وشق عبابها

غدت الحياة ثقيلة أيامها

ضَيْقٌ على رَغمي فسِيحُ رحابها

ما أضيع الآمال بعدك والمنى

هي خُدْعَة الدنيا وكِذْبُ سَرَابها

حشدت لي الأيام حُرَّ نِصَالها

ومضت تجُذُّ بحدها وذُبابها

وتتابعت نُوَبُ الزمان كأنما

ألِفتْنيَ الأحداثُ في إغْبَابها

وأصاب هذا الدهر خير أحِبّةٍ

سَلكتْهُمُ العلياءُ في أنْسَابها

كانوا ملاذ الفضل مُعتصمَ الحجا

وبشاشة الدنيا وزَهْوَ خِضَابها

قد كنت أمرح بينهم في روضة

والآن صرت لوحدتي ويَبابها

أَبني إن عظمت بفقدك نكبتي

فرَجائيَ المولى عظيمُ ثوابها

ناداك ربك فاستجبت نداءه

وصدَفْتَ عن دنيا الورى وكذابها

نم في جوار الله غير مُرَوَّع

وانعم بجنته ورحب جنابها

وَارْتعْ هنالك بين رَيِّق مائها

وبهيج سُنْدُسِها وفي أعْنابها

ص: 59

وارْجُ الإله لوالديك تصبُّراً

ينسيهما البلوى وَوَقعَ مُصابها

إن الذي خلق المكاره والأسَى

هو باري الرحماتِ يُسْعِدُنا بها

إبراهيم عبد الوهاب

المدرس بمدرسة المنيرة الابتدائية الأميرية

ص: 60

‌رسالة الفن

ميكيلانجلو

العبقرية الملهمة

للدكتور أحمد موسى

- 4 -

تكاد تكون شخصية ميكيلانجلو من أعقد الشخصيات؛ ذلك لتعدد نواحي دراسته وتحديد مواهبه الفنية فإذا استعرضت تاريخ حياته في مختلف المصادر، وجدت أن كل مؤرخ فني تفرغ لتناوله من ناحية معينة، بغية الوصول إلى تعريف محدود له، ينتهي بوضع أساس يتفق وعظمته.

وقد قرأنا عنه الكثير، وشاهدنا من إنتاجه وأثاره ما فيه الكفاية، ووجدنا بعض مؤرخي الفن يدرس كمهندس معماري، وآخر يحلله كنحات، وثالث كنقاش، ورابع كمصور، وخامس كشاعر، وسادس كعاشق، دفع به الهوى إلى تلحين ملحمات غزلية ألفها في ساعات إلهامه.

وقد أخذنا على عاتقنا دراسة ميكيلانجلو دراسة فنية مبسطة ولكنها شاملة، وتناولناه بالبحث كنحات عظيم. ولكن لا نكون قد أدينا رسالة الفن تمام التأدية إذا لم ندرسه كمصور أيضاً، حتى تتم بذلك معرفتنا له من ناحيتيه البارزتين وهما النحت والتصوير؛ ولا سيما وهو لم يكن ليقل عظمة في الأخير عن الأول، بل إنه استطاع إظهار أدق وأعمق مشاعره النفسية، وأفكاره الملهمة في التصوير الذي أخرجه على أعظم جانب من الإجادة وحسن الانسجام.

وإذا كنا قد علمنا أن ترك بعض منحوتاته دون إكمال، فإنه يهمنا أن نعلم أنه لم يترك من مصوراته إلا ما ندر غير كامل، ومن هنا نستطيع أن ندرسه دراسة وافية كمصور، ونصل بها إلى الأعماق التي لم نستطع الوصول إليها في النحت الذي قررنا أن اتجاهه فيه كان مثلياً كما كان في التصوير، وهي ظاهرة طبيعية يحتمها التناسق في الإنتاج الفني والخلق المبتكر.

ص: 61

وإذا كان ميكيلانجلو قد ظهر أمامنا بعد استعراض منحوتاته، دائم الطموح نحو الكمال الإنساني، ساعياً وراء المثل العليا في التكوين الإنساني والموضوعي، مهتما تمام الاهتمام باختيار المواقف العنيفة التي خرج بها عن المألوف من ناحية الإنشاء الوضعي والتي مقتضاها أن أظهرت تفاصيل الجسم على أقوى ما يمكن ظهورها به؛ فإن هذا نفسه كان الاتجاه الذي سار فيه والهدف الذي رمى إليه في التصوير الذي لم يجمع فيه بين المناظر الشخصية مفردة كانت أو مجتمعة وبين الطبيعة إلا فيما ندر، مخالفاً في ذلك ما رأيناه عند ليوناردو دافينشي (راجع المقالين الخاصين به)

ويشعر المشاهد لمصوراته عموماً كأنه واقف يستعرض تماثيل مجسمة لا صور أو لوحات مسطحة، ومن هذا نستطيع أن نكون لفنه التصويري طابعاً مميزاً وروحاً خاصا، وهو أنه كان مصوراً نحاتياً أكثر منه مصوراً بحتاً، إذ أن كل مصوراته تمت بصلة كبيرة إلى قواعد النحت، أكثر من انتمائها إلى قواعد التصوير.

على أن مصوراته هذه لم تكن مرسومة بالزيت كما يعتقد كثير من الناس، بل كانت تصويراً على الجص الطازج، وهذه الطريقة التي تتلخص في التصوير بألوان الماء على طبقة رقيقة من الجص أو الجير قبل جفافه هي التي يعبر عنها رجال الفن بتصوير الفرسكو

وقد صور بعض مصوراته بطريقة أخرى. وذلك أنه أخذ الألوان الطبيعية من الأرض وأضافها إلى محلول الغراء والعسل، وعندما أراد التصوير بها أضاف إليها الغراء الكثيف أو بياض البيض واستعملها مباشرة ولعلنا بدرسه على ضوء أبسط أصول تاريخ الفن نضطر إلى تقسيم تراثه إلى ثلاث مراحل تستغرق كل مرحلة منها نحو ثلاثين سنة، على اعتبار أنه عاش حوالي التسعين

وتنحصر المرحلة الأولى بين سنة 1475، 1505 وهي التي قضى معظمها كنحات، وقد سبق لنا درسها، وله فيها ثلاث قطع لا تزال باقية، أولها صورته (دفن المسيح) وثانيهما (مادونا مانشيستر) وتشمل مريم ويسوع ويوحنا وأربعة ملائكة والروح الغالبة على هذه اللوحة ظهور البساطة بأجلى معانيها، مع عظمة التكوين الإنساني، وهذه سابقتها محفوظتان بجاليري لندن غير كاملتين.

ص: 62

وقطعته الثالثة تمثل العائلة المقدسة، وهي صورة مستديرة - ش1 - محفوظة بمتحف أوفيسين بفلورنسا، صورها سنة 1504 وتمثل مريم والطفل وخلفهما يوحنا ومجموعة أطفال في مؤخرة اللوحة.

أنظر إلى مريم وكيف أسندت الطفل بوضع أطراف يدها اليمنى تحت إبطه وإسناده له بيسراه ثم تأمل الجمال البادي على ملامحها، وحسن إخراج الملابس وثناياها. إلى جانب جلستها الرائعة، وظهور قدمها اليمنى بحالة فنية لا ترتفع إلى مثلها غير عبقرية ميكيلانجلو.

ثم شاهد ما أرتسم على وجه يوحنا من علامات الحب والإشفاق على الطفل يسوع. ولا حظ شعر الرأس والذقن إلى جانب الحياة التي تشع من عينيه.

ورسم الأطفال في مؤخرة الصورة أقوياء التفاصيل والتكوين الجسماني وهذا من مميزاته الخاصة، وميله إلى قواعد النحت أكثر من ميله إلى قواعد التصوير.

وتعطيك النظرة الشاملة للمجموع الإنشائي للصورة فكرة هائلة عن جمال الوضع الأولي والتصميم الكلي للوجه. فالرؤوس الثلاثة تكاد تكون بارتفاع واحد. ومع هذا لم تخرج عن أصول الانسجام فضلا عن بعدها عن الازدحام الذي يؤدي غالباً إلى ضعف التوجيه. هذا إلى هدوء الألوان وبعدها عن الحدة.

وله مصورات تخطيطية بين سنة 1501، 1505 منها ما مثل دراسات لرؤوس بمشاهدتها تعطيك فكرة صادقة عن مدى تأثره بليناردو دافينشي.

ولعل أبرز ما أنتجه في هذه المرحلة أيضاً الصور الكارتونية للتصوير الجصي (الفرسكو) الذي لم يتم عمله والذي كان مخصصاً لبيت البلدية في فلورنسا، وهذه تخالف في روحها وتكوينها لوحاته التي أظهرت تأثره بليوناردو وهي تمثل مذبحة كاشينا التي أنتصر فيها الفلورنسيون على محاربيهم من بيزا في 27 يوليو سنة 1364

وقد مثل في هذه اللوحة جمهرة من الفلورنسيون يستحمون وأعداؤهم من بيزا يفاجئونهم، وهي رائعة الإنشاء قوية الإخراج مليئة بالحركة والرشاقة.

وله أيضاً في هذه المرحلة (1505) كارتونات مصورة لم يبق منها للأسف إلا اثنتان، الأولى لأجوستينو فيسيانو والثانية تمثيل منظر (الصاعدين) - ش2 - ، وهي بالنظر إليها

ص: 63

تبين رجلا عجوزا جلس على مرتفع من الأرض بينما يشير بيمناه إلى الهدف الذي يريد الوصول إليه، وأمامه ولداه وقد مد الأول منهما يسراه إلى رابع لم تظهر منه إلا أطراف أصابعه الأربعة، والطريقة التي انحنى بها الولد للأخذ بيد زميله من أطراف أصابعه هي من أقوى ما يستطيع فنان اختياره.

أنظر إلى اليد اليمنى وكيف استندت إلى حافة المرتفع، ثم تأمل الحرص البادي على يده اليسرى الممدودة لمساعدة زميله. وإذا تأملت ما تخلل الأحجار من نباتات ظهرت نهايتها ونظرت إلى الأشجار وما غلب عليها من ظل ونور، وشاهدت الكيفية التي عالج بها أوراق الشجر إلى جانب المرتفعات البعيدة في مؤخرة الصورة، ترى أن ميكيلانجلو كان عنيفاً ولكنه العنف الذي أدى إلى الخلود الفني.

أحمد موسى

ص: 64

‌البريد الأدبي

كتاب عن التربية في مصر

صدرت أخيراً كتاب بالإنكليزية عن مستقبل التربية في مصر بقلم أستاذ إنكليزي معروف في دوائر التربية المصرية هو الدكتور جاكسون الأستاذ سابقاً بمعهد التربية، عنوانه:(التربية والعهد الجديد في مصر) وقام بإصداره معهد التربية؛ ويقول الأستاذ جاكسون إن الذي حمله على تأليف هذا الكتاب هو الحاجة الماسة إلى هذه المرحلة من تاريخ مصر الاجتماعي، إلى وضع سياسة حديثة للتربية تقوم على جهود موحدة نزيهة ومثل عملية. ويتناول الأستاذ في كتابه ثلاث مسائل رئيسية هي: أولا - مهمة التربية في مصر وفي رأيه أنها العمل على إنشاء ثقافة مصرية. ثانياً - مسألة أعداد المعلمين. ثالثاً - مسألة النظام.

ويتناول الأستاذ جاكسون في هذه المسائل تناول العارف المطلع، ولا غرو فقد أنفق أعواماً يعمل في أوساط التربية المصرية، وهو يحاول في بحوثه أن يوفق بين المقاصد العملية وبين المثل النظرية، ويقدم اقتراحات عملية لبعض المسائل المستعجلة التي تواجهها مصر اليوم: فهو يرى مثلاً أن التعليم الثانوي في مصر نظر محض ويقترح أن تدمج فيه بعض العناصر العملية، وينوه بخطر التعليم السطحي، ويرى أن تزداد البعثات العملية القصيرة إلى الخارج؛ ثم هو يحذر ولاة الأمر من التقتير على المعلمين لأن المعلمين المغبونين الساخطين يعدون خطرا على المجتمع، ويرى في تعليم اللغة الإنكليزية ألا يبدأ به إلا من السنة الثالثة الابتدائية بعد أن يكون التلاميذ قد حصلوا على قسط معقول من اللغة العربية.

ويتحدث الأستاذ جاكسون طويلا عن مسألة النظام والطاعة؛ وهو يرى أن استتباب النظام شرط جوهري للتقدم، ويرى ضرورة التشدد في مسألة القوانين النظامية، ثم يقول إنه ما دامت الصبية في وسعهم أن يقلبوا قرارات معلميهم إلى عكسها سواء بالشكوى إلى ذويهم أو بالاعتصاب والصخب، فإنه يستحيل عليهم أن يتعلموا احترام السلطة المدرسية التي هي جوهرية بالنسبة للتعليم والعلم. إن الاعتصاب من أنواع العنف فيجب محاربته وقمعه بالحزم من جانب السلطات وبتنمية الروح الاجتماعي في المدارس وهو روح يكاد يكون مفقوداً.

ص: 65

ولا شك أن مسألة التربية وتوجيهها من أهم المسائل التي يجب أن تعنى بها مصر المستقلة؛ فمصر تحتاج إلى خلق جيل جديد يتمتع بصفات جديدة تناسب العهد الجديد وتناسب مسئولياته؛ ومن الأسف أن ولاة الأمر لم يوفقوا حتى اليوم إلى تناول هذه المسألة الخطيرة بما يجب من الاهتمام، ولا ريب أن كتاب الأستاذ جاكسون يحتوي كثيراً من الحقائق والملاحظات الجديرة بالدرس والاعتبار.

حول عيد القاهرة الألفي

أذاعت الصحف المصرية أن وزارة التجارة والصناعة تنوي أن تنتهز فرصة سنوح العيد الألفي لمدينة القاهرة المعزية فتقيم معرضاً مصرياً عظيماً تدعو الدول ولا سيما الدول الشرقية والإسلامية إلى شهوده والاشتراك فيه؛ وهذه فكرة جليلة بلا ريب؛ وقد سبق أن نوهت (الرسالة) في أكثر من مقال رنان بأهمية هذا العيد التاريخي ووجوب الاحتفاء به في مظاهر عظيمة تتفق مع أهميته وجلاله؛ على أن هذه الدعوة لم تلق إلى اليوم صداها المنشود؛ وإذا كان مجلس التنظيم قرر بهذه المناسبة أن يطلق اسم الخليفة المعز واسم القائد جوهر على شارعين من شوارع القاهرة القديمة، وإذا كانت وزارة التجارة تريد أن تتخذ هذه المناسبة لإقامة معرض دولي عظيم، فإن هذه الإجراءات والقرارات المتفرقة لا تكفي في نظرنا للاحتفاء بهذا العيد. بل يجب أن يكون الاهتمام به شاملاً، وأن تؤلف لجنة حكومية عامة تمثل جميع الوزارات المصرية والهيئات العامة، لتضع برنامجاً شاملاً لهذا الاحتفال التاريخي الجليل، تندمج فيه هذه الإجراءات الجزئية التي ترى الجهات المختلفة اتخاذها؛ ومن المحقق أن عيد القاهرة الألفي هو من أعظم الأعياد القومية، فيجب أن يتخذ برنامج الاحتفال به هذا اللون، وعلى أي حال فما يدعو إلى الغبطة أن تبدأ السلطات بالتحرك للتفكير في إحياء هذا العيد بعد أن طال صمتها، وبعد أن لم يبق على وقوعه سوى زمن قليل.

الشيخ منصور المنوفي لم يكن شيخاً للأزهر

قرأت ما كتبه الأستاذ الجليل محمد عبد الله عنان في عدد الرسالة الغراء (208) تحت هذا العنوان - مصر خاتمة القرن السابع عشر كما رآها العلامة عبد الغني النابلسي - فرابني

ص: 66

منه قوله (ثم يحدثنا الرحالة عن الجامع الأزهر وعن شيخه وهو يومئذ الشيخ منصور الشافعي الضرير) وحدثتني نفسي أن هذا الاسم لم يمر عليها في شيوخ الأزهر، فأخذت على عادتي أرجع إلى مصادري التي قرأتها لأحقق هذا الأمر الذي استغربت فيه، وأدركني الشك في صحته.

فرجعت إلى الخطط التوفيقية وإلى تاريخ الأزهر فوجدتهما متفقين على أن الذي كان شيخاً للأزهر في تلك السنة التي رحل فيها الشيخ النابلسي إلى مصر، وهي سنة 1105هـ - 1693 - هو الشيخ محمد النشرتي المالكي. وقد كان شيخاً للأزهر من وفاة الشيخ عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي سنة 1101هـ إلى أن توفي سنة 1120هـ.

وقد ذكر الجبرتي وفاة الشيخ الخرشي في سنة 1101هـ وقال عنه إنه الإمام العلامة والحبر الفهامة شيخ الإسلام والمسلمين وارث علوم سيد المرسلين الشيخ محمد الخرشي المالكي شارح خليل وغيره، ويروى عنه والده الشيخ عبد الله الخرشي وعن العلامة الشيخ إبراهيم اللقاني، كلاهما عن الشيخ سالم السنهوري المالكي، عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن ابن الحافظ الحجر العسقلاني بسنده إلى الأمام البخاري.

ثم ذكر وفاة الشيخ محمد النشرتي في سنة 1120هـ وقال عنه إنه الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتي المالكي، وهو كان وصياً على المرحوم الشيخ الوالد بعد موت الجد، توفي يوم الأحد بعد الظهر، وأخر دفنه إلى صبيحة يوم الاثنين، وصلى عليه بالأزهر بمشهد حافل، وحضر جنازته الصناجق والأمراء والأعيان، وكان يوماً مشهوداً.

أما الشيخ منصور المنوفي فقد ذكر الجبرتي وفاته سنة 1135 وكان قد جاوز تسعين سنة، وقال عنه أنه الشيخ العلامة الفقيه المحدث الشيخ منصور بن علي بن زين العابدين المنوفي البصير (لا الضرير) الشافعي، ولد بمنوف ونشأ بها يتيماً في حجر والدته، وكان باراً بها، فكانت تدعو له، فحفظ القرآن وعدة متون، ثم ارتحل إلى القاهرة وجاور بالأزهر وتفقه بالشهابين البشبيشي والسندوبي، والشمس الشرنبابلي والزين منصور الطوخي، ولازم النور الشبراملسي في العلوم وأخذ عنه الحديث، وجد واجتهد وتفنن وبرع في العلوم العقلية والنقلية. وكان إليه المنتهى في الحذق والذكاء وقوة الاستحضار لدقائق العلوم، سريع الإدراك لعويصات المسائل على وجه الحق، نظم الموجهات وشرحها، وانتفع به

ص: 67

الفضلاء وتخرج به النبلاء وافتخر بالأخذ عنه الأبناء على الآباء.

وقد رأيت بعد أن ارجع إلى المصدر الذي نقل عنه الأستاذ عنان، فذهبت إلى دار الكتب وطلبت رحلة الشيخ النابلسي (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز) فوجدته قد ذكر في صفحة (202) أنه طلع عليه صباح يوم الأحد 28من شهر ربيع الثاني فحضر عنده الإمام العام الهمام الشيخ منصور المنوفي الأزهري الشافعي الضرير شيخ الأزهر ومعه الجماعة والطلبة وكثير من المجاورين بالجامع الأزهر، وحصل بعض أبحاث وفوائد علمية.

ثم ذكر في صفحة (204) أنه أصبح صباح يوم الاثنين 29 من شهر ربيع الثاني، فجلس على عادته يستقبل من يأتي إليه من الأصحاب والأخوان، ثم قام من مجلسه إلى مجلس الشيخ زين العابدين بدعوة منه، فرأى عنده صديق فخر العلماء الأعلام الشيخ أحمد المرحومي شيخ الأزهر، ومعه بعض أصحابه الكرام، فجلس يتذاكر معهم في مسائل العلوم ويتطارح الكلام من منطق ومفهوم.

ثم ذكر في صفحة (275) أنه أصبح يوم الجمعة 10 من جمادي الثاني فاجتمع بالشيخ الأمام العلامة منصور المنوفي الشافعي الضرير شيخ الأزهر.

ثم ذكر في صفحة (284) أنه اصبح يوم السبت 25 من جمادي الثاني فذهب بعد الظهر إلى عيادة صديقه العلامة الشيخ أحمد المرحومي شيخ الجامع الأزهر.

وهذه هي المواضع التي جاء فيها ذكر هذين الشيخين المتعاصرين في كتاب الشيخ النابلسي، وهو يعطيهما فيها صفة الشيخ الأزهر في الزمن الذي قضاه بمصر في رحلته إلى الحجاز وكان ذلك سنة 1105هـ كما سبق. فلو أخذنا هذا الكلام على ظاهره لكان للأزهر في تلك السنة شيخان مجتمعان معاً وهذا غير مقبول، مع مخالفته لما ذكره من أن شيخ الأزهر في تلك السنة كان الشيخ النشرتي المالكي، فلم يبق إلا أن الشيخ النابلسي تبرع بتلك الصفة لذينك الشيخين، ويجب أن تؤخذ على هذا لا على أنها حقيقة تاريخية.

وقد ذكر الجبرتي وفاة الشيخ أحمد المرحومي في سنة 112 وقال عنه أنه السيد عبد الله (لعله أبو عبد الله) الإمام العلامة الشيخ أحمد المرحومي الشافعي.

وهذا رأيي في تحقيق هذه المسألة التاريخية أنشره على صفحات الرسالة الغراء، ولعله

ص: 68

يكون للأستاذ عنان رأي آخر في تحقيقها ينشره علينا فيها، والله يتولانا جميعاً بتوفيقه.

عبد المتعال الصعيدي

بين الجامعات الألمانية والإنكليزية

احتفلت جامعة جتنجن الألمانية خلال هذا الأسبوع بمرور مائتي عام على قيامها؛ وكان المظنون أن يكون هذا الاحتفال بالغاً في أهميته وعظمته، لما لهذه الجامعة القديمة العريقة من ماضي علمي جليل، ولما لها بالأخص من علاقات وثيقة بالثقافتين الإنكليزية والأمريكية إذ كانت دائماً مقصد الشباب من الأمتين، ولكن حدث ما لم يتوقعه أحد، وهو أن الجامعات الإنكليزية والأمريكية اعتذرت جميعاً عن شهود هذا الاحتفال الذي دعيت جميعاً إليه، ولم تذكر الجامعات المعتذرة أسباب هذه المقاطعة العلمية؛ ولكن بعض الصحف الإنكليزية والأمريكية تحدثت عنه، وهي جميعاً ترجع الأسباب إلى خضوع الجامعات الألمانية في منهاجها العلمية والثقافية لسياسة الحكومة النازية خضوعا يضر بالمثل العلمية والثقافية العليا وينافي أسمى المزايا العلمية وهي حرية البحث وتوجيهه إلى الحقيقة وحدها؛ ولم ترض الجامعات الإنكليزية والأمريكية أن تشترك في احتفال جامعة جتنجن حتى لا يقال أنها تعترف بوحدة المثل الثقافية والتعليمية بين الدول الديمقراطية التي تمثلها بين الوطنية الاشتراكية الألمانية.

والواقع أن حال الجامعة الألمانية قد ساء في العهد الأخير وانحط مستوى التعليم العالي وأقفر كثير من الجامعات من الأساتذة والطلبة. مثال ذلك إن جامعة جتنجن فقدت من أساتذتها النصف فأصبحوا خمسة وأربعين بعد أن كانوا تسعين، وأبعد البعض لأسباب عنصرية والبعض لأسباب سياسية، ونقص عدد طلبة الجامعة من 4200 في سنة 1933 إلى 1800طالب فقط هذا العام، وهجرها معظم الطلبة الأجانب، وأصيبت سمعتها العلمية والثقافية.

وقد حذت الجامعات السويسرية حذو الجامعات الإنجليزية فاعتذرت عن الاشتراك في هذا الحفل لأسباب مماثلة، ولكن الجامعة المصرية قد قبلت الدعوة واشتركت في الاحتفال على يد مديرها.

ص: 69

إنكلترا وطريق الهند

صدر أخيراً في ألمانيا كتاب سياسي عسكري خطير عنوانه (طريق إنكلترا إلى الهند) ' بقلم الهر كارل بارتس يشرح المؤلف بأسلوب تاريخي سياسي قصة الصراع بين السياستين البريطانية والفرنسية لامتلاك الهند في القرن الثامن عشر، وكيف أن إنكلترا استطاعت أخيراً أن تظفر بالهند دون معارك عسكرية كبيرة، لأن الهند كانت عندئذ ممزقة الأوصال مفرقة الكلمة، فاستطاعت السياسة الإنكليزية أن تضرب الطوائف والممالك الهندية بعضها ببعض.

ويقول الكاتب أن إنكلترا من ذلك التاريخ تحمي إمبراطوريتها الهندية بجميع الوسائل والقوى، وتحمي الطريق إلى الهند من جبل طارق ومالطه ومصر وعدن والجزيرة والدردنيل؛ ثم يحلل جميع العوامل السياسية والعسكرية التي ترتبط بهذه المسألة؛ ويستعرض شعوب الهند وآسيا ومهادها الصوفية الغريبة، كما يستعرض من حياة الرجال الذين تدين لهم بريطانيا بامتلاك الهند.

ويلاحظ الكاتب أن إنكلترا لا تطيق ظهور أية دولة عظيمة على مقربة من طريق الهند؛ ومع ذلك فقد استطاعت إيطاليا أخيراً أن تفتح الحبشة وأن تربض في منتصف هذا الطريق؛ ومن المحقق أن إنكلترا لقيت في المسألة الحبشية هزيمة فادحة، بيد أن إنكلترا لزمت الصمت، وسارت في برنامج تسليحها، وسوف يبين لنا المستقبل، ما إذا كانت استطاعة السلاح الجوي أن يحافظ على طريق الهند، وهو إلى اليوم لم يجرب تجريباً كافياً.

وفاة العلامة أدولف ايرمان

نعت أنباء برلين الأخيرة العلامة الأثري أدولف ايرمان وهو من أكبر الأخصائيين في علم الآثار المصرية؛ وكان مولده في سنة 1854ودرس التاريخ والفلسفة، ثم تخصص في الحضارات القديمة، وبالأخص في حضارة مصر الفرعونية ولبث أعواماً طويلة أستاذاً لحضارة مصر القديمة بجامعة برلين. ثم عين بعد ذلك مديراً لقسم الآثار المصرية بمتحف برلين، فعكف على دراسة النقوش القديمة وأوراق البردي التي يغص بها هذا القسم،

ص: 70

وأخرج عدة رسائل في حضارة مصر الفرعونية وفي آثارها وفنونها.

وزار الأستاذ ايرمان مصر مرتين؛ بيد أنه درس الآثار المصرية في متاحف أوربا دراسة مستفيضة؛ وكان يعتبر حجة فيها؛ وكان إلى جانب زميله الدكتور أبشر العلامة الأخصائي في حل الرموز والنقوش الفرعونية أعظم أستاذين في تلك المدرسة الأثرية التي ما زالت منذ نحو نصف قرن تعمل للكشف عن حقائق أعظم وأقدم الحضارات.

الحركة التمثيلية في مصر حديث لرئيسي فرقة (دبلن جيت)

نشرت جريدة (ايرش تيمس) حديثا طويلا للمستر هلتون أدواردس مدير فرقة (دبلن جيت) التي قدمت إلى مصر في الشتاء الماضي؛ ومما قاله أن الشعب في مصر على اتصال دائم بالقارة الأوربية فلديهم إلمام بالقصص التمثيلية الأوربية أوسع من إلمام الشعب الإنجليزي بها.

قال: وقد زرنا مصر عامين متواليين فمن سوء السياسة الاستمرار على الذهاب إلى هناك. وسيكون في العام القادم دور إحدى الشركات الفرنسية.

وتقول الجريدة أن المستر إدوارس درس المسرح المصري دراسة عميقة. ومن رأيه أن الشركات التمثيلية المصرية ستبلغ أعلى مستوى وأن أهل الإسكندرية أقل اهتماماً بالروايات التمثيلية من أهل القاهرة.

قال: وقد شهدنا في أثناء مقامنا في مصر التمثيل في المسارح العربية ورأينا فيها حركة نشيطة جداً، وقد طلب إلينا أن نتقبل عددا من الطلبة المصريين في دبلن ولكنهم ليسوا متضلعين في اللغة الإنجليزية، فمتى جاءوا فستتاح لهم الفرصة لتعلمها ودراسة الطرق المسرحية في وقت واحد.

تأبين الرافعي في طنطا

تألفت بطنطا لجنة من بعض المحاميين والأطباء والعلماء وأعضاء مجلس النواب والشيوخ ومن الأعيان والتجار لتأبين فقيد الأديب الكبير المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وسيعلن فيما بعد عن ميعاد الحفلة ومكانها.

وقد قررت اللجنة أن لا يتعدى التأبين الموضوعات الآتية:

ص: 71

(1)

الرافعي: تاريخه وحياته الوظيفية.

(2)

الرافعي الشاعر.

(3)

الرافعي الأديب.

(4)

الرافعي المؤلف

(5)

فلسفة الرافعي.

وترجو اللجنة حضرات الأدباء والشعراء ممن يرغبون في الاشتراك فيها بأعمالهم أن يخابروا سكرتيرها، ويتفضلوا بإرسال خطبهم وأشعارهم إليه لعرضها على اللجنة وإقرارها.

أمين حافظ شرف

طنطا - شارع الشيخة صباح القديم

ص: 72

‌القصص

أغنية الدير

للكاتب الإنجليزي وليام كانتون

ترجمة الأستاذ كامل محمود حبيب

هبط جون أوف فولد إلى هيثهولم - لأول مرة - رئيساً للدير هناك وفي صحبته شتى المؤلفات النادرة الأنيقة في الفلسفة والدين والأدب، مغلفة في جلد ثمين موشى بالذهب والفضة ثم الملابس الغالية الطريفة من الحرير والمخمل؛ وعباءات من الكتان الجميل، دقيقة الصنع، وقلانس محلاة بالعسجد، أشياء تنبئ عن نعمة وترف. . .

وراح القس الجديد ينفث من روحه التواقة الصافية في جنبات الدير، فوضع في نوافذ الناحية الغربية التي يسكنها هو أصصا من البلور بها طاقات من شتى ألوان الزهور الناضرة. وزين حجرة سانت إيجون بالأصص المرصعة باليواقيت، فيها فنون وفنون من الزهر الصناعي؛ وفي سماء الحجرة طير من لجين تبدو كأنها محلقة في سماء الأرض تهفو نحو هذه الطاقات وتحوم حولها؛ ثم أمر فصففت المناضد والكراسي الخشبية الجميلة في حديقة الدير ليجلس عليها الموسيقيون كل صباح وكل مساء، يعزفون ويرتلون الأناشيد الدينية الشجية. . . لقد كان الأب جون يفور نشاطاً وقوة، في روحه الصفاء والجمال، وفي قلبه الإيمان واليقين؛ فأراد أن يبعث في الدير روح الجنة ليستروح هو وإخوانه من الرهبان نسمات الخلد من هذه الناحية النائية من الأرض. . .

وبذ هذا الدير غيره جمالا وروعة وبهاء

وكان الأب توماس وكيل الرئيس يرى ما يفعله الأب جون وفي قلبه الاضطراب والأسى، وفي نفسه الغيظ والحنق؛ وكان يجلس إلى نفسه بين الحين والحين يحدثها: حقاً، إن هذه الأشياء لا تعني الرب، وهي تبعث في العين السرور والبهجة، وتدخل إلى القلب اللذة والطرب، وتنفث في الحياة المتعة والجمال! ماذا تفيد هذه الكنوز الغالية، والطرف الجميلة، والآثار النادرة؛ وهي تجذب القلب عن العبادة، وتورث في النفس حب الحياة وحب الاستمتاع؟ ما للراهب ولهذه الأشياء وهو يريد وجه ربه مخلصاً له؟ هذا بعض عبث

ص: 73

الشيوخ وحرفهم حين يسيطرون على بيوت الله، يجمعون شتى الطيبات، وألوان الملذات، فتلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة؛ وعن أناس يبيتون في العراء حفاة عراة، ويتضورون جوعاً، لا يجدون مأوى، ولا يجدون كساء ولا طعاماً، ليت هذا الشيخ الغفل ينظر بعين القس الورع إلى ما يقاسيه الفقراء وذوو الحاجة فيخفف من غلوائه، وينزع عنه بعض حماقاته!. .

وفي الحق لم يكن توماس ليستشعر في نفسه الأسى والألم لما يقاسيه بعض الناس من فاقة وعوز، ولم تكن في قلبه الرحمة والشفقة؛ ولكنه كان يحس ألم الحقد والحسد يتنزى في صدره كلما وقعت عينيه على ما أنتثر هنا وهناك في نواحي الدير منذ هبط الكاهن الأعظم جون.

لقد كان توماس على غير ما كان عليه رفاقه: كان رجلا فيه الكآبة والعبوس، فكان الرهبان والقسس يعبدون الله مخلصين وفي قلوب الطرب والسرور. وفي قلبه هو التجهم والحقد؛ في أرواحهم اللذة والقناعة، وفي روحه هو الجفاف والغلظة؛ وفي أنفسهم الرضا والاطمئنان، وفي نفسه التقلقل والاضطراب. ثم هم يرون في أرض الله مسرحاً للعين والقلب والنفس جميعاً، وهو في منأى عنهم قد شغلته فكرة تضطرب في رأسه.

واعتاد الأب توماس أن يدلف إلى المعبد كل مساء وفي يده مصباحه، وقد أرخى الليل أستاره، ونامت الحياة في كل حي، يتهجد ويتعبد، ساجداً راكعاً، قارئاً مرتلا؛ يناجي ربه في هدأة الليل وسكونه، يسأله ويستغفره، فما يبرح حتى تخونه قوته، ويهن عزمه، وتضطرب مفاصله، من أثر الاندفاع والبرد في وقت معاً؛ فيرتد إلى حجرته يتكفا في طريقه. .

وانطلق - ذات مرة - إلى حيث ينطلق كل ليلة، وقد تأججت في نفسه ثورة الحقد على رئيسه جياشة مضطرمة، تكاد تعصف بإيمانه وعقيدته. . انطلق والبرد يزلزل أعصابه ويتغلغل في أوصاله وهو في طريقه لا يتململ ولا يعبأ. . وسجد في محرابه. . . غير أن صوتاً موسيقياً عذباً هادئاً رن في مسمعيه فنزعه من أخيلته، فأنصت يتسمع. . . ثم استوى جالساً، وحدق فيما حوله يريد أن يستشف أمراً، وبدت عليه الدهشة حين رأى ضوءاً خافتاً يضطرب في أرجاء الدير يزداد سطوعه رويداً رويداً، وتعلو معه نغمات الموسيقى فتزداد حلاوة ووضوحاً.

ص: 74

ورنت الموسيقى الإلهية في جنبات المعبد، وارتفعت الأصوات الملائكية تنشد نشيداً عذباً يرقق القلب، ويبعث فيه الروعة والجلال وخيل إليه أن الرسوم والأحجار والسقف والحوائط. . . جميعاً تردد هذا النشيد في رنات سماوية وأحس بالناي الإلهي تحت ركبتيه تنبعث منها أهازيج يطرب لها الفؤاد وتهتز النفس.

واستولت على الراهب الحيرة فما استطاع أن يبرح مكانه. . . ثم أرهف سمعه فإذا الصوت ينبعث من ناحية المحراب أولا ثم يمسك، فيندفع كل ما حوله يرتلون الأنشودة في صوت فيه السحر والجمال، وترتفع رنات الموسيقى لتزيد النشيد طلاوة وحلاوة، وبدا له المكان يهتز طرباً كأنه يرقص مع النغم الشجي المنبعث من هنا ومن هناك.

وتراءت له صور الملائك تضطرب في هذا الضوء الإلهي الساطع، وفي أيديهم المعازف، وخيل إليه أن هذه الأشباح رسوم صورها له خياله فحسب، فانتفض من مكانه يحدق ذات اليمين وذات الشمال، ويتحسس بيديه نواحي المكان، وحين بدا له أن ما يرى حقاً لا مرية فيه، اضطرب، وزالت عنه شجاعته، وجمد في مكانه وقد سيطر عليه الفزع والخوف، غير أن صوتاً لذيذاً رن في مسمعيه يطمئن نفسه:

نحن الملائك نبتهل إليك يا رب

نحن الملائك نبتهل إليك يا رب

وأجال بصره فرأى على جانبي المحراب ملكين يترنمان: على مر الأيام والليالي ونحن نسبح بحمدك يا رب ونقدس اسمك العظيم يا رب، ما دام هذا الكون اللانهائي. ومن بين شفتيهما يتصاعد النفس فينعقد سحباً كثيفة بيضاء في أعلى المكان، فاستشعر في نفسه الخور والضعف غير أن حب الاستطلاع دفعه إلى المحراب ليرى. . .

واستطاع أن يرى رسوم الملائك والملوك على أستار المعبد تردد هي أيضاً هذه الأغنية.

والصور على زجاج النوافذ ترتل هي أيضاً الأغنية ورؤوس الملائكة المنحوتة في رخام المعبد ترتل الأغنية والأسد والدواب المرسومة هنا وهاهنا ترتل هي الأخرى الأغنية.

وتماثيل القديسين المنثورة في نواحي المكان ترتل هي أيضاً الأغنية.

والرسوم على الجدران ترتل أيضاً الأغنية.

وبدا له أن كلمات هذه الأغنية قد رسمت بحروف من ذهب يتوهج فيخطف البصر. على

ص: 75

دروع الملوك والأمراء وذوي الجاه في سقف المعبد؛ والجميع يهزجون ويهتزون من فرح ومن سرور كأنهم أحياء، وتصاعدت أنفاسهم إلى سماء المعبد، سحبا تغطي السقف وتحيط بالأعمدة، ثم أمسك الجميع سوى رنات الناقوس العظيم في أعلى المحراب

وملأ مسمعي توماس صوت يردد الأغنية خارج المعبد في نبرات أخاذة شجية، يخترق سكون الليل وظلامه ليستقر في أذنيه هو. إنه. . . إنه منبعث من حجرة التماثيل، حيث الملوك والملكات، حيث الأمراء والعظماء، حيث الكهنة والشهداء، حيث القسس والرهبان؛ قد صففت تماثيلهم الفضية والبرنزية والرخامية والحجرية، لقد أجابوا جميعاً دعوة الداعي فانطلقوا يترنمون بالأغنية الإلهية في طرب ولذة. . . وهدأت الموسيقى خارج المعبد لتبدأ مرة أخرى داخله، ثم. . . ثم اندفعوا جميعاً بصوت فيه العذوبة والحلاوة يرددون:

على مر الأيام والليالي ونحن نسبح بحمدك يا رب، ونقدس اسمك العظيم يا رب؛ ما دام هذا الكون اللانهائي واصطرعت في رأس توماس فكرة أفكار متناقضة فما استطاع سوى أن يرفع عقيرتة:

يا إلهي، فليشملنا عفوك وغفرانك؛

فليشملنا عفوك وغفرانك يا إلهي!

ثم تراخت قوته فانطرح على الأرض ذاهلا. . .

وأفاق فما وجد إلا الظلام يشمل الأرض، وإلا السكون يسيطر على الكون، وإلا مصباحه الضئيل يضطرب في ناحية من المعبد. . . فارتد إلى حجرته وقد آلمه ما نازعته إليه نفسه من حقد على عبد من عباد الله الصالحين، حباه الله بفضل من لدنه، فبذل فضل جهده في العناية بمخلوقاته الخرساء الصماء، وفي تنسيق قطعة من أرض الله لتكون جنة الله على أرضه، ونزع ما في صدره من غل، فأيقن أنه إن لها الإنسان عن ذكر ربه ففي الكون مخلوقات ما تفتأ تردد ما دامت السموات والأرض:

. . . نحن نسبح بحمدك يا رب،

ونقدس اسمك العظيم يا رب؛ مادام هذا الكون اللانهائي.

كامل محمود حبيب

ص: 76