المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 21 - بتاريخ: 15 - 11 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٢١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 21

- بتاريخ: 15 - 11 - 1933

ص: -1

‌نهضة الشباب.

. .

نهضة الشباب اليوم إحدى الظواهر المميزة لهذا الجيل. وهي أجلى ما تكون في الأمم المظلومة أو المهددة بالظلم. كأنما أخفق في سياستها (رأي) الشيوخ، فصمد إلى قيادتها (عزم) الشباب! والواقع أن هذه النخوة القدسية التي تعصف برؤوس الفتيان في إيطاليا وألمانيا وسورية ومصر، إنما هي القارعة التي تُصمُّ والظاهرة التي تخيف، لأن الشباب إذا كان لهم الصف الأول في الحرب، فان لهم الصف الأخير في السلم، فإذا ألجأهم تقلب الصروف إلى تقدم الصفوف، دل ذلك على سياسة عاجزة، أو سِلْمٍ مرببة، أو خطر محدق. وعجز السياسة اتهام لحنكة السن، ورياء السلم إيذان بصراحة الحرب، وتفارُس الأهواء إعلان بنزول الغاشية. فا (لفاشيَّة) و (النازية) و (عصبة العمل القومي) و (عيد الوطن الاقتصادي) وغيرها من حركات الشباب وثبات دفاعية بعثتها لإنسانية المهددة بالتفكك والفوضى والهوان والاستعباد والجشع. ولئن كان لكل دولة من هذه الدول، علة أو أكثر من هذه العلل، فان مصر البائسة تكابد هذه النكبات جميعا! فأخلاقها تفككها الحزبية الأثِرَة، وآراؤها تشتتها المطامع الخسيسة، وكرامتها تهينها الامتيازات الباغية، وقوميتها توهنها الأجنبية الموغلة، وحريتها تقيدها القوة المحتلة، وأرزاقها تسلبها (الضيافة) الثقيلة، وأبناؤها (الكرماء) القانعون الخانعون قد ألفوا مضاجع الهون فلا تؤذيهم الفضاضة، ولا تؤلمهم الخصاصة، ولا يبغون حِوَلا عن هذه الحال! ولكن الشباب، وإن أعدهم هذا الحاضر الذليل، قد أعانتهم خصائص الفتوة، وغرائز الفطرة، على أن يدركوا ما نحن فيه من ضراعة الجانب، ووضاعة الشأن، وضيق المضطرب، فهبوا يُعِزُّون النفوس الذليلة، ويمنعون الحوزة المباحة، ويستردون الثروة المضاعة، ويمهدون لهذا البلد العاني طريق الاستقلال الخالص السعيد! ومَن أحقُّ بحماية الوطن وإعزازه من الشباب؟! انهم يعيشون للغد وآباؤهم يعيشون لليوم. فهم يحرصون على المستقبل ويجعلون الحاضر رأس مال، وأولئك يحرصون على الحاضر ويعدون المستقبل تركة! وشتان بين من يعمل لنفسه عن حاجة وبين من يعمل لغيره عن عاطفة.

لقد كان شبابنا ومازالوا أُغرودة الأمل الباسم في فم وادينا الجميل،

وسر النشاط الدافق في روح نهضتنا المرجوة، حملوا وما زالوا

ص: 1

يحملون لواء الغضبة المقدسة في وجه الدخيل العادي وغسلوا وما

زالوا يغسلون أدران الماضي بالعرق الطهور والدم الغالي، ثم رأوا أن

مصر المنكودة إنما يقف في طريق حياتها الطبيعية احتلالان لا احتلال

واحد: احتلال سياسي يحتل الثكنات ويخادع الحكومة ويغل الحرية

ويهين الحق ويؤذي الكرامة، واحتلال اقتصادي يحتل المدائن ويغزو

القرى ويأكل الأرض، ويشرب النيل، ويحتكر التجارة، ويجلب

الخمور، ويهرب المخدرات، ويتكسب بالمنكرات، ويفتك بالجيوب،

ويلغُ في الأعراض، ويعبث بالمدين، ويحلُّ على الجملة في سبيل

المغنم ما حرمته الشرائع والضمائر والعُرف، ثم يتبجح بعد ذلك كله

بأنه القيم على المدنية والحرية والعدالة، يبذرها في طريقه، وينشرها

في مجلسه، ويمثلها في نفسه! فإذا قلت في رقة المغازل لهذا الضيف

المُدلَّل أن ما تعمله يناقض ما تقوله، تجهمت (امتيازات) الدول

وَتَزَغَّمت (تحفظات) الإنجليز!!

رأى شبابنا أن جهاد هذين الاحتلالين أمر لا يتحقق خلاصنا بدونه، وأن قَصْر الجهود على أحد الميدانين يمكِّن الحليفين من حشد كل القوى في ذلك الميدان، فأرهفوا النشاط، وارصدوا الأُهبَةَ، ولاقوا الواغل في كل طريق. ليس بسبيلنا اليوم أن نعرض فيالق الشباب في مختلف الميادين، فقد أشرنا إلى ذلك في كلمة سابقة، إنما نريد أن نسجل في ثبت المجاهدين فيلقا جديدا جاء يؤكد مرة أخرى أن هذه الأمة الكريمة قد قطعت عزمها على أن تعيش في أرضها حرة وفي ملكها سيدة، ذلك الفيلق هو جماعة عيد الوطن الاقتصادي، وهم فريق من الطلاب العاملين المخلصين البررة، حمَّلوا نفوسهم الرقيقة فوق تكاليف الدرس أعباء الدعاية للتجارة المصرية والمنتجات الوطنية، فهم يُعرضون عن مطالب الصِّبَي، ويصدفون عن مباهج العيش، ويعقلون جهودهم وميولهم في مكاتب العمل من نادي اتحاد

ص: 2

الجامعة: يعلنون بالوسائل المختلفة إن المشروع الذي يعدونه، ويدعون إخوانهم إلى التطوع في الجيش الذي يحشدونه، ويتصلون بالتجار ليقنعوهم بالاشتراك في الدليل الذي يصدرونه، ويجمعون الأُهَبَ للمهرجان الفخم الذي يهيئونه، ويزورون المصانع والمتاجر ليحققوا الوجه الذي يقصدونه، ويعانون في سبيل ذلك رهقاً شديداً في النفس والمال والكرامة، أجل أقول والكرامة! لأن كثيراً من تجارنا لا يزالون يتعاطون التجارة على منهج دارس، وطبع ألَفَّ، فهم يتهمون الناصح، ويستغشون المشير، وينكرون التطور ويجهلون الأعلان، ويعتمدون في جلب الحرفاء ورواج السلع على التمائم والأدعية!!.

يكون عيد الوطن الاقتصادي يوم دعاية وإعلان وعرض، وسيقدم للممارين الأدلة التي تصك الأسماع وتطرف العيون على أن مصر الناهضة تسير في طريق مأمونة إلى غاية مضمونة! فمساهمة الشباب بالتطوع، وانضواء التجار بالاشتراك وعطف الجمهور عليه بالتأييد، ضمان للنصر المبين في إحدى المعارك الفاصلة. إن القبعات في الطرقات، اكثر وأخطر منها في الثكنات، واليوم الذي لا ترى فيه على الرؤوس غير الطربوش، ولا تقرأ على جباه الحوانيت الا العربية، ولا تسمع في مختلف المعامل غير اللهجة المصرية، هو اليوم الذي تقول فيه وأنت صادق: لقد صفا النيل، وملك الأصيل، واستقلت مصر!!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌بقية من لغو الصيف

للدكتور طه حسين

ليتك لم تأمري وليتني لم أطع. فمن صواب الناس ما يكون خطأ،

ومن خطأ الناس ما يكون صوابا. والمرء بخير ما عرف لنفسه قدرها

ولم يعد بها حقها، ولم يكلفها الحياة في النجوم، وقد خلقت لتحيا في

الأرض. ولقد حاولت في غير طائل أن أعرف ماذا كنت تنكرين من

صحبتنا في بلاد الغربة. فقد كنا نلتقي ونفترق لا يكون بيننا إلا حديث

نقي بريء فيه ذكر للأدب والأدباء، فما زلت تحبين ذلك وتظهرين

كرهه، وما زلت تسرين الرغبة فيه، وتعلنين الضيق به حتى ملأت

صدري ضيقا بنفسي، وحرجا بمكاني منك، وخيلت إلي أني أثقل

عليك، وأكلفك من صحبتي مالا تطيقين، حتى إذا كان ذلك اليوم وليته

لم يكن تقدمت إلي في الرحيل فامتنعت عليك وأسرفت في الامتناع،

والحت أنت وأغرقت في الإلحاح، ولم أجد بدا من الطاعة وان كنت

لها لكارها، ولم تجدي بدا من المضي في الأمر، وان كانت نفسك

لتحدثك في العدول عنه. ولم أكد استقر في باريس، ولم تكادي تستقرين

في مدينتك الجامعية الصغيرة حتى اتصلت بينك وبين هذه الكتب

والرسائل التي لا أستطيع أن أصفها بأقل من أنها برهان قوي ساطع.

على أننا نخدع أنفسنا عن أنفسنا. ونتكلف في أرضاء الناس

وأوضاعهم ما لا يحفل به الناس، ولا يلتفتون إليه، وما لا نحتمله

نحن إلا في جهد جاهد وعسر لا حد له.

والآن وقد أضعنا من حياتنا أياما طوالا كنت تترددين فيها على حجرات الدرس في

ص: 4

الجامعة، وكنت أتردد فيها على الأندية وملاعب التمثيل أكتب إليك وقد أنىّ لي أن أعود إلى القاهرة. لعلك تإذنين في أن نلتقي مرة قبل أن أعبر البحر. ولست أدري أيقع هذا الكتاب منك موقع الرضى أو موقع السخط؟ ولكني أعلم أن الأيام معدودة علينا في هذه الحياة وان من الحمق أن يستطيع الأصدقاء التلاقي ثم لا يلتقون، ينتظرون أن يتاح لهم ذلك في يوم آخر قريب أو بعيد. فمن يدري لعل هذا اليوم ألا يجيء. ولعل الأحداث والخطوب أن تحول بين الأصدقاء وبين ما كانوا يقدرون من اللقاء فيه. ولو عقل الناس لما تفرقوا إلا حين لا يكون من الفراق بد، ولكن الغرور يغرهم بأنفسهم ويطمعهم في الأيام، فيخيل إليهم أنهم مخلدون وأنهم ليمرون بالحياة كما يمر الطيف بالنائم المغرق في النوم وقد تعجبين حين تعلمين إني لا أكتب إليك من باريس، وإنما أكتب إليك وقد دنوت منك حتى لم يبق بينك وبيني إلا مسير دقائق على الأقدام. فقد وصلت إلى مدينتك الجامعية مع المساء وأنا أكتب إليك وستقرئين كتابي مع الصباح فان أردت لقائي فهذا رقم التلفون، وإن أبيت فان القطار يبرح مدينتك إلى مرسيليا مع الظهر، ولن أراك حتى أعلم بأن رؤيتي لا تؤذيك ولا تثقل عليك، ولا تخيل إليك أنك تخرجين على ما ألف الناس من أوضاع وأطوار.

عجبت للأذكياء وكبار العقول انهم ليأخذون أنفسهم أحيانا بما لا يلائم الذكاء ولا تسيغه العقول.

وكانت تختلف على وجهها الناصع وهي تقرأ هذا الكتاب مظاهر الوفاق والخلاف وآيات الرضى والسخط. فكان وجهها يشرق حينا، وتغشيه ظلمة رقيقة حينا آخر. حتى إذا فرغت من قراءة الكتاب وضعته في رفق أمامها على المائدة ومدت بصرها كأنما تريد أن تبلغ به أقصى الآفاق. لولا هذه الجدران التي تقوم غير بعيد وتقف عينها عند حد محدود وأرسلت نفسها الحرة إلى أبعد مما استطاعت أن ترسل إليه بصرها السجين، وظلت على هذه الحال وقتا لم تعرف أطال أم قصر ثم عادت إلى نفسها وثابت إلى غرفتها من الفندق، وأخذت كتابها برفق، وأعادت النظر فيه، وظلت كذلك تنظر في الكتاب ثم تدعه، ثم تعود إليه. حتى أدارت رأسها عن غير عمد فرأت التلفون، فقامت من غير عمد، وسعت إلى التلفون، ثم تحدثت فيه عن غير عمد، وعادت إلى مكانها، فأخذت الكتاب ونظرت فيه، ثم نظرت

ص: 5

فيه، ثم طوته ثم أخفته، ثم ظهر عليها تردد شديد، كأنها تنبهت لأنها أتت أمرا عظيما وكأنها تراجع نفسها في استدراك ما فات، وإلغاء ما قدمت من الأمر، وكأنها تفكر في أن تتحدث إلى التلفون بغير ما تحدثت به إليه منذ حين.

ولكنها لم تبلغ من ذلك ما تريد لأن طرقا خفيفاً على الباب قد ردها عنه، واضطرها إلى أن تصلح من شأنها على عجل وترفع صوتها إذنة بالدخول. ولم يكد ينفرج الباب عن صاحبها الأديب حتى أقبلت عليه باسمة تحييه وتقول في جرأة متكلفة، واستحياء ظاهر، إن كنت أقبلت للوم والعتاب فعد أدراجك وارجع من حيث أتيت، وخذ قطار الظهر. فان في كتابك من اللوم والعتب والفلسفة والتشاؤم ما يغني عن إضاعة الوقت. قال فان ما أضيعه من الوقت في اللوم والعتب لن يكون شيئا بالقياس إلى هذه الأسابيع الطوال التي أضعتها أنت حين أبيت إلا أن تقيمي هنا، واذهب أنا إلى باريس. قالت فذلك شيء قد كان، وقد مضى بأثقاله وأوزاره وليس إلى استدراكه من سبيل فلست أرى خيرا في ذكره، ولا نفعا لإعادة الحديث فيه، قال أما أنا فأرى في ذلك الخير كل الخير والنفع كل النفع، لأنك لم تستفيدي بما مضى ولن تنتفعي بذلك الفراق الطويل الأليم، قالت وما يدريك؟ قال أرأيتك لو أنبأتك بأني سأقيم معك في هذه المدينة وسأختلف معك إلى دروس الجامعة حتى ينقضي الصيف ونعود معا إلى القاهرة، ماذا تصنعين؟ قالت أو قادر أنت على ذلك وقد انتهت إجازتك، ولم يبق لك بد من القفول. قال فان الإجازات تمد وان الحيل أوسع من أن تضيق وإن رسالة برقية قد ذهبت إلى القاهرة خليقة أن تمنحني من الوقت ما يتيح لي أن اختلف إلى حجرات العلم بعد أن اختلفت إلى معاهد اللهو والفراغ. قالت كالواجمة أو فعلت هذا؟ قال نعم قالت فعد إلى باريس أو أذهب أنا إليها. قال محزونا لابأس عليك فلن نلتقي في هذه المدينة الا بياض هذا اليوم، ولكن كيف تريدين أن تقضيه؟ وأين تريدين أن تقضيه؟ فما أظن أن غرفتك هذه الضيقة تسع أحاديثنا وخواطرنا التي لاحد لها والتي ينبغي أن تكون حرة كالطبيعة الحرة. ومطلقة كالهواء الطلق. وإني لأعرف من هذه الأرض أكثر مما تعرفين. قالت فإني لا أعرف منها إلا الجامعة والفندق والطريق بينهما. قال أما أنا فلا أعرف الجامعة وإنما أعرف الجبل والسهل وأعرف الربى والوديان، وأعرف الغابات الملتفة والرياضة النضرة، والغدران الجارية، ذات الصفحات النقية، والصوت الجميل، وأعرف

ص: 6

بنوع خاص ربوة بديعة يجرى من تحتها جدول بديع لا تقع القدم فيها إلا على عشب. ولا ترى العين فيها إلا جمال الشجر والزهر، ولا تسمع الإذن فيها الا هفيف النسيم وحفيف الورق وغناء الطير، وقد دارت حولها طائفة من الشجر الباسق الذي ارتفع في الجو كأنه يريد أن يبلغ السماء، والذي مد أغصانه في كل وجه حتى التفت واشتبك بعضها ببعض، وهيأت فوق هذه الربوة الجميلة الهادئة غرفات جميلة هادئة تصلح لتفكير المفكرين، وحديث المتحدثين، والرأي عندي أن نقصد إلى هذه الربوة فننفق فيها بياض هذا اليوم فإني مشوق إلى أن أراها بعد أن فارقتها منذ أعواما وأن أراك فيها بعد أن فارقتك منذ أيام تعدل أعواما وأعواما. قالت لا أرى بهذا بأسا ولكن على أن يسبق منك الوعد باثنتين أما أولهما فان تكف عن اللوم والعتب وما يشبه اللوم والعتب من هذا التجني الذي تحسنه أكثر مما تحسن أي شيء آخر، قال زعموا أن قيمة كل امرئ ما يحسن، فإذا كنت ترين أني ممتاز في التجني لا أكاد أحسن شيئا غيره وتطلبين إلي مع ذلك إلا اقصد إليه ولا أخوض فيه فأنت إذاً تريدين أن تضعيني موضع الذي يقول فيما لا يحسن، ويخوض فيما لا علم له به. قالت ذهابنا إلى هذه الربوة الجميلة الهادئة رهين بهذا الوعد. فلك أن تختار بين الجد الخالص الذي لا عبث فيه ولا دعابة، ولا لوم فيه ولا عتب، ومعه ربوتك الجميلة الهادئة وغرفتك البديعة التي تصلح للتفكير والحديث، وبينما تحب من العبث والخلط تذهب فيهما كل مذهب، وتندفع فيهما إلى غير الطريق، قال أوحرنا في الاختيار، فإني إذن أختار الثانية وأوثر أن نطوف بالعبث والخلط في شوارع هذه المدينة الصغيرة الهادئة، لا يضيق بنا مكان إلا تركناه إلى مكان آخر، ولا نستنفد فنا من فنون السخف إلا عدلنا عنه إلى فن آخر. فإني أصبحت أرى السخف أقوم ما في الحياة. قالت لقد أفسدتك باريس قال بل أفسدتيني أنت حين أكرهتيني على الذهاب إلى باريس، قالت فإني لا أدع لك حرية الاختيار وإنما أفرض عليك الربوة الجميلة الهادئة وحديثها البريء من العبث والتجني فرضا، قال لقد أطعتك حين نفيتني إلى باريس فأحرى أن أطيعك حين تذهبين بي إلى هذه الجنة الخضراء، وأكبر الظن أن طبيعة هذه الربوة الجميلة الهادئة ستكون أقوى منك ومني وستوجه عقلينا وقلبينا إلى حيث تريد هي لا إلى حيث تريدين، ولا إلى حيث أريد. قالت مادمت واثقا بالطبيعة إلى هذا الحد، مؤمنا لها إلى هذا الحد، فلنذهب إلى ربوتك ولنحكم

ص: 7

جمالها وهدوءها فيما ستفيض به قلوبنا من شعور، وفيما ستضطرب به عقولنا من تفكير، وفيما ستجري به ألسنتنا من حديث. وأنتصف النهار وإذا هما في هذا المكان الجميل الذي خلت فيه الطبيعة إلى نفسها فاتخذت زينتها حرة طليقة لا متكلفة ولا خاضعة لعبث الناس. وإذا هما ينظران ويسمعان ويتنسمان هذا النسيم الهادئ القوي وقد أزيلت الحجب بين نفسيهما وبين ما في هذه الربوة من جمال هادئ قوي خصب مختلف الألوان. ولو قد خلي بينهما وبين ما كان يغرقان فيه من هذا الصمت الحلو الذي كان يمزجهما بهذه الطبيعة الحلوة لظلا صامتين هادئين حتى تزعجهما ظلمة الليل، فتخرجهما عما كانا فيه من صمت وهدوء، ولكن الطبيعة نفسها أبت عليهما ما كانا فيه كأنها أحبت أن تسمعهما وكأنها أحبت أن تمتزج أصواتهما بأصواتها. فما هي إلا أن يحسا نبأه تخرجهما من نعيم الصمت والذهول إلى شقاء الحديث والتفكير. أحسا نبأه فريعا لها، وهما أن يتعرفا مصدرها فلم يصلا مما أرادا إلى شيء ولكنهما تساءلا، وسمع كل منهما صوت صاحبه فأغري به واشتدت رغبته فيه، وعادا إلى ما كانا فيه من حوار، قبل أن يبلغا هذا المكان الجميل.

قال، وإذاً فأنت تجدين من المشقة في قراءة القصص التمثيلي ما يرغبك عن هذه القراءة، وينفرك منها، ويحبب إليك قراءة هذا القصص اليسير الذي لا أخذ فيه ولا رد ولا جدال فيه ولا حوار. قالت نعم وان كرهت ذلك ورأيته آية من آيات الضعف ومظهرا من مظاهر القصور. قال وكيف يكون ضعفا ما تحبين، وكيف يكون قصورا ما تكلفين به من الأمر؟ قالت تنبه فإني أراك مقدما على إخلاف الوعد الذي سبق. قال فإني لم أعد بشيء على أني لا أدرى أين يكون هذا الإخلاف. لست عابثا، ولا متجنيا، إنما أقول ما أعتقد، وأصور ما أرى. وإني لأشعر بالنفور من قراءة التمثيل، وبالرغبة في الاكتفاء بهذا القصص اليسير. قالت فانك تكبر التمثيل إكبارا أراك تسرف فيه، فلست أجحد قدره ولا مكانه بين مظاهر التعبير الأدبي، ولكن التمثيل خلق للملاعب لا للمكاتب. وخلق لينفذ إلى النفس من طريق الإذن والعين، لا من طريق العين وحدها. وخلق لينفذ إلى النفس ممتزجا بأصوات المتحاورين وحركات اللاعبين، لا لينفذ إليها كلاما غير منطوق، وعملا لا يأتي به أحد من الناس. قال حجة قوية هذه لا أريد ولا أستطيع أن انقضها وليس من شك في أني أوثر أن أرى التمثيل في الملاعب على أن أخلو إليه في مكتبي، وأوثر أن أرى أشخاص القصة

ص: 8

يذهبون ويجيئون، وأسمعهم يجادلون ويحاورون، ولكن ماذا أصنع إذا حيل بيني وبين الاختلاف إلى الملاعب، لأن ظروف الحياة لا تريد ذلك أو لأني أعيش في بلد لا يزهر فيه التمثيل، ولا يكاد يزوره إلا لماما أو لأن آيات من القصص التمثيلي قد قطعت الطريق بينها وبين الملاعب. أأجهل هذا الفن من فنون الأدب جهلا، وأهمله اهمالا، وأنسى أنه موجود وان فيه للنفوس الراقية متاعا، وللعقول الراقية غذاء، وللقلوب الراقية لذة. قالت وقد أخذها شيء من الدهش كأنما رفع عنها حجاب فرأت نورا باهرا لم تكن تنتظر أن تراه. ماذا تقول! وأين ذهب بي الجدال! وإلى أي حد انتهى بي حب الخصومة. قال إلى حيث تأتين ما لم يستطع الدهر أن يأتي وتصدرين أحكاماً عجز النسيان وعجزت الأيام وعجزت المحن والخطوب، وعجز الجهل والجمود عن أن تصدرها، إلى حيث تمحين من سجل التاريخ الأدبي أعلام الأدب القديم والحديث، إلى حيث تعتبرين ايشيل، وسوفوكل، واوربيد، وارستوفان، وشكسبير.

قالت في شيء من الجزع لا تقل هذا، وكيف السبيل إلى قبر هؤلاء الأعلام ومحو هذه الأسماء، وإهمال لهذه الآيات وان أصحابها لأبقى من الدهر كله وأقوى من الناس كلهم، وأحق بالعناية ممن شئت وممن لم تشأ من أبطال العلم والأدب والفلسفة جميعا. ثم انحدرت من عينيها دمعتان وقالت بصوت رقيق تقطعه العبرة، كيف يمكن أن ينسى قول سوفوكيل على لسان انتيجون في حوار الملك: ولدت للحب لا للبغض. قال مهلا، فأنا لم نأت إلى هذه الربوة الجميلة الهادئة، ولم ننزل ضيفا على هذه الطبيعة النضرة الباسمة لنسفح الدموع. ونثير في نفوسنا عواطف الحزن، وقد وعدتك أو قد وعدت نفسك بالا نعبث هنا ولا نلهو، ولكني لم أعدك، ولم تعدي نفسك بأن نبكي ونرسل الزفرات ونسفح العبرات. قالت والهدوء يثوب إليها وإشراق الابتسامة الهادئ الخفيف يذود عن وجهها ما غشيها من ظلمة الحزن، والبكاء، لولا شغفك بالجدال وكلفك بالحوار واحتيالك في خلق الخصومات التي لا تنتهي، ولما اضطررت إلى أن أتورط في هذا الكلام الذي لا يمكن أن يوصف ألا بأنه فن من فنون السخف أو لون من ألوان الجحود، قال لست جاحدة، ومعاذ الله أن تكوني جاحدة، ولكني قلت لك أني أصبحت أرى أن السخف أقوم ما في الحياة. قالت فكن سخيفا ما شئت. فأني لا أحب السخف. لا أحب ان أسمعه ولا أحب أن أخوض فيه، ولولا إننا هنا بعيدان

ص: 9

عما احب من الكتب لفرضت عليك عقوبة. . . قال وهي أن اقرأ لك فصلا من فصول التمثيل، لأقيم لك الدليل على أن التمثيل يمكن أن يقرأ فيثير اللذة والإعجاب بعيدا عن الملعب، قالت ولمن تريد أن تقيم الدليل وقد عرفت أني أشاركك في الرأي، وإني لم اقل ما قلت ولم أذهب إلى ما ذهبت إليه، الا حين اضطررتني أنت إلى هذا الحوار الذي لا ينقطع، والذي لا خير فيه. قال ماكرا، ومن يدري لعلك إن حاورتك في الشعر أن تقولي انه لا يقرأ. وإنما يسمع من المنشدين. ولعلي إن حاورتك في الموسيقى أن تقولي أنها لا تقرأ، وإنما تسمع من الموقعين.

قالت ومن يدري لعلك أن حاورتني في أي شيء أن تسيء رأيي في كل شيء، وان تردني إلى حيث كان أسلافنا في العصور الأولى، لا يعرفون الترف العقلي ولا يبتغون لذة العقل والشعور إلا من أقرب الطرق وايسر الوسائل. فقد كانوا يسمعون الشعر ويسمعون الموسيقى ويسمعون التمثيل، لأنهم لم يكونوا يقرؤون فأما الآن فقد نستطيع نحن أن نسمع فان فاتنا الاستماع فقد نستطيع أن نقرأ. وأني لأفكر في هذا فاعجز عن إحصاء نعمة الله على الناس حين ألهمهم الكتابة وعلمهم القراءة. فهذه النعمة هي التي حفظت لنا ما بقي في أيدينا من آيات البيان في العصور القديمة وأتاحت لنا ان نعجب بما كان يعجب به الناس من سحر الشعر والنثر، منذ القرون الطوال. وهذه النعمة هي التي تتيح لنا دائما أن نستبقي آيات التمثيل التي لم يبق بينها وبين الملعب من سبيل، لأن الأذواق قد أصابها من التغير والتبدل ما جعل تمثيل هذه الآيات أمر لا مطمع فيه، فلولا أنها قد حفظت لنا بالكتابة ولولا أننا نستطيع أن نحييها في نفوسنا بالقراءة. لماتت موتا لا نشور بعده وكيف ترى تمثيل ارستوفان، وأي قصصه يمكن أن يظهر في الملاعب الآن وأين الآذان التي تستطيع أن تسمع لحواره وما فيه من تجاوز الذوق الاجتماعي ومخالفة الأدب المألوف. ومع ذلك فكيف يستطيع مثقف أن يجهل تمثيل ارستوفان، إني لأكره كل ما يشذ عن الأدب الذي تواضع عليه الناس ولأرفض كل الرفض أن اقرأ على أحد، أو أسمع من أحد كثيرا من قصص ارستوفان، بل إني لأكره أن أقرأ هذه القصص كما كان القدماء يقرؤون بصوت عال تسمعه الإذن، ولكني على ذلك اعترف باني أطيل النظر في هذه القصص واقرأه المرة بعد المرة واقرأه كلما ضقت بالحياة أو ضاقت بي الحياة، اقرأه بالعين لا بالشفتين

ص: 10

واللسان. قال ومالك تقفين عند ارستوفان وإن في آيات سوفوكل وصاحبيه لما يعجز الملعب عن إخراجه للناس الآن، لأن فن التمثيل نفسه قد تغير وتبدل، ولكن أي حرمان يصيب المثقفين لو قضى عليهم أن لا يقرؤوا غناء الجوقة في شعر هؤلاء الأعلام. وشكسبير أيجب أن يحرم المصريون مثلا لذة الاستمتاع بآياته لأنها لا تمثل في بلادهم، بل أيحرم الإنجليز أنفسهم لذة الاستمتاع بآياته لأنها لا تمثل عندهم إلا بمقدار. قالت بل نستطيع ان نذهب إلى أبعد من هذا فقد نستطيع أن نؤمن بأن القصص التمثيلي فن من فنون التعبير الأدبي يمكن أن يقصد إليه من حيث هو، وان يكتب الكاتب قصة تمثيلية لتقرأ لا لتمثل، قال فأنك لا تذهبين إلى شيء مستحدث وهل كانت كتب أفلاطون كلها الا فنا من فنون التمثيل كتبت لتقرأ لا ليلعبها الممثلون أمام النظارة، قالت بل أنا أجد القراءة تمنحني قوة لا أجدها حين اختلف إلى الملاعب فأنا اخلق الممثلين وأصورهم لنفسي وهم يذهبون ويجيئون ويجادلون، وأخلع عليهم من الصور الفنية ما يعجبني ويلائم طبيعتي، ومزاجي، وفهمي كما اقرأ. قال ولست أخفي عليك إني اكره أن أرى قصة تمثيلية قبل ان اقرأها، ولعلى اقرأ القصة التمثيلية فاعجب بها اعجابا، وافتن بها فتونا. ثم اشهدها في الملعب فيدركني شيء كثير من خيبة الأمل لأن الممثلين لم يؤدوها كما كنت أريد أن تؤدى، أو كما كنت أنتظر أن تؤدى. قالت وكذلك آيات الجمال الفني كلها ترتفع في النفوس حتى تبلغ المثل الأعلى أو تدنو منه فإذا اشتملتها الحياة الواقعة وأخرجها الإنسان إلى الوجود الفعلي نزلت عن مرتبتها لأن طبيعة الجمال الفني كلها ترتفع في النفوس حتى تبلغ المثل الأعلى أو تدنو منه فإذا اشتملتها الحياة الواقعة وأخرجها الإنسان إلى الوجود الفعلي نزلت عن مرتبتها لأن طبيعة الجمال الفني فيما يظهر لا تحب الحدود التي يفرضها الزمان والمكان.

قال في رفق مهلا فقد يخيل إلي إنا نصعد في السماء، ولو مضينا في هذا الحوار لبلغنا هذا السحاب الذي يوشك أن يفسد جمال هذه الطبيعة النضرة الباسمة. قالت ليس إلى إرضائك اليوم من سبيل، لقد كنت تراني منذ حين مقصرة مسرفة في التقصير، وأنت تراني الآن محلقة مسرفة في التحليق. قال أنا معجب بك على كل حال، ولكن ارفقي بي فقد أعجز عن أن أرتقي معك في الجو إلى حيث تريدين، عيشي مع أصدقائك من سكان النجوم إذا خلوت

ص: 11

إلى نفسك فإذا لقيتني، فاذكري قول باسكال واعلمي إني مهما أقوى فلن أستطيع إلا أن أكون إنسان يمشى على الأرض وينظر إلى السماء. قالت ما أبرعك في إفساد الحديث ها أنت ذا تعود بنا إلى عبثك الذي لا ينقضي، الست ترى أن خيراً منه أن ننظر فيما حولنا وان تتحدث نفوسنا إلى نفس هذه الربوة التي لقيتنا فأحسنت لقاءنا. وهيأت لنا ضيافة لم نكن نقدر أن نلقاها. قال لا أرى بذلك بأسا ولاسيما في يوم وداع فمن يدري لعلنا لا نلقاها بعد اليوم. قالت وما يمنعنا أن نعود إليها غدا وبعد غد فان الإجازات تمد، ورسالة برقية تستطيع أن تذهب إلى القاهرة مساء اليوم فتكفل لك الإذن بالبقاء هنا إلى آخر الصيف. قال وقد استأثرت بنفسه غبطة لا حد لها أو تأذنين؟

ص: 12

‌شاعر

للأستاذ احمد أمين

شاعرنا اليوم نشأ جاهليا، ونشأ في الطائف. والطائف مدينة في الجنوب الشرقي من مكة تبعد عنها خمسة وسبعين ميلا، اشتهرت بطيب هوائها وجودة مزارعها. وقد اعتاد المترفون من العرب أن يقضوا الربيع بجدة، والصيف بالطائف، والشتاء بمكة. قال النميري يصف أخت الحجاج بالنعمة:

تشتو بمكة نِعمَةً

ومصيفها بالطائف

أخصبت أرضها، وجرى الماء في وديانها، فكثرت مزارعها، وجادت فواكهها، من نخيل وأعناب، بها جبل يقال له (غزوان) كثرت كرومه، وكان عنبه العذب وزبيبه الحلو مضرب المثل جودة وكثرة، حتى ليروون أن سليمان بن عبد الملك لما حج رأى بيادر الزبيب فظنها حِرَاراً فقالوا ليست حراراً ولكنها بيادر الزبيب. وقد حسدهم العرب على ما هم فيه من نعمة، فسوَّروا بلدتهم وحصنوها من أعدائهم، فصارت ملجأ الهارب وملاذ الخائف، وضرب المثل بمناعتها حتى قال القائل:

منعنا أرضنا من كل حي

كما امتنعت بطائفها ثقيف

كان يسكن الطائف قبيلة ثقيف، وقد أكسبتهم أرضهم وثروتهم وطبيعة بلادهم وجوهم رقيا في الحياة من الناحية الاجتماعية والعقلية، فاقوا فيهما من حولهم من السكان، وشعروا بعظمتهم فأكثروا من الفخر بأنفسهم، وقال قائلهم:

وقد علمت قبائل جدمِ قَيسٍ

وليس ذوو الجهالة كالعليم

بأنّا نُصبح الأعداء قِدْماً

سِجالَ الموت بالكأس الوخيم

وأنّا نبتني شرف المعالي

ونُنعشُ عثرة المولى العديم

وإنّا لم نزل لجأ وكهفا

كذاك الكهل منا والفطيم

وقد أنجبت ثقيف شعراء مجيدين في الجاهلية والإسلام، كما أنجبت ساسة وقادة نبه ذكرهم، وعظم أمرهم، فاشتهر منها من شعراء الجاهلية الشاعر المتدين أمية بن أبي الصلت، وفي العصر الأموي الشاعر الشريف طُرَيح الثقفي، والشاعر الحكيم الأجرد الثقفي. وأشتهر من أمرائها وساستها وقادتها الأمير القوي الحجاج بن يوسف الثقفي، والقائد الشاب محمد ابن

ص: 13

القاسم الثقفي فاتح السند ولما يكتمل العشرين، والذي قال فيه القائل:

ساس الجيوش لسبع عشرة حجة

يا قرب ذلك سؤددا من مولد

كما أن ثروتهم وحضارتهم استتبعت شهرتهم بالفجور والربا حتى أن رسول الله لما صالحهم كان من شروط الصلح أن يسلموا وألا يزنوا ولا يَرْبوا. كذلك كانت كثرة العنب والزبيب في بلادهم سببا في شيوع الخمر بينهم وولوع أهلها بشربها. وقد كانت الخمر شائعة بين العرب في الجاهلية، ولكن بين خاصتهم لا بين عامتهم، إذ أن عامتهم قد عدموا القوت وحرموا ضرورات العيش أما المترفون فشربوا كثيرا وقالوا في شربها كثيرا. وقل أن نجد شاعرا جاهليا لم يتمدح بشربها وإتلاف ماله في سبيلها. وكانت الخمر تأتيهم من الشام ومن اليمن ومن الطائف، وكان الأعشى الشاعر يتجر

فيها، وكان له بقرية في اليمن يقال لها (أثافت) مِعْصَرة للخمر يعصر فيها ما يقدم له من أعناب. ونلاحظ من تاريخ العرب في الجاهلية وتراجم رجالها أن هناك طبقة من الشباب اعتادت أن تتلف مالها في الشراب، هم فئة من أولاد السراة نشأوا في ثروة وجاه، وألَّفت بينهم وحدة النزعة، يجتمعون في المواسم والأعياد والمناسبات فينحرون الجزوز ويهيأ لهم، ويشربون عليه وتغنيهم القيان أو الموالي من الفرس والروم والأحباش، ولكن هذه الطبقة لم تفقد مع شربها ولهوها شرفها وإبائها، فهي مع ذلك كله نبيلة كل النبل شريفة كل الشرف ثارت على كل شيء إلا قانون المروءة، وقانون المروءة يتلخص في الشجاعة والكرم. لا يعبئون بالحياة، يبذلونها في سخاء للإنجاد من أستنجد بهم، ونصرة الضعيف يستصرخهم ويلجأ إليهم، لا قيمة لحياتهم إذا مست كرامتهم أو كرامة قبيلتهم أو اعتدى أحد على جارهم أو حليفهم أو عبدهم، ولا قيمة للمال يوم يسألهم سائل أو يدعوهم لبذله داع، ولا بأس بالفقر يحل بهم وينزل بساحتهم، ولا ضرر إذا خسروا المال وكسبوا الشرف، وويل لزوجاتهم إذا لمنهم في الاستهتار بالحياة أو أتلاف المال، إذ ذاك يصبون عليهن نقمتهم ويملؤن الدنيا شعرا في لومهن وتأنيبهن. شاعرنا اليوم كان من هذه الطبقة، فتى غني، من ثقيف، من الطائف، شجاع، كريم، يكثر الشراب، ويتلف المال، ويحتفظ بالمروءة ويقول:

لا تسأل الناسَ عن مالي وكثرته

وسائل الناس عن حَزمي وعن خلقي

القوم أعلم أني من سَرَاتِهِم

إذا تطيش يد الرِّعديدَةِ الفرِق

ص: 14

قد اركبُ الهولَ مسدولاً عساكره

وأكتم السِّرَّ فيه ضربَة العنق

عف المطالب عما لست نائله

وأن ظُلمت شديد الحقِد والحنق

وقد أجود وما مالي بذي فنع

وقد أكرُّ وراء المجحَرِ الفَرِقِ

سيكثر المالُ يوماً بعد قلته

ويكتسي العود بعد اليبس بالورق

ظلت ثقيف على جاهليتها لا تذعن لدعوة الإسلام حتى أسلم من حولها ورأت نفسها بمعزل، فاضطرت إلى الإسلام في السنة التاسعة للهجرة، وسمع شاعرنا بالإسلام وتعاليمه فوقف حائرا، إن الإسلام يدعوا إلى المروءة وهو ذو مروءة، إن الإسلام يدعو إلى الصدق ومكارم الأخلاق وكل هذا حسن (فليسلم) ولكنه يأمر المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، ولا يمدوا أعينهم إلى غير نسائهم، كما ينهي عن الخمر ويعاقب على شربها، فكيف يسلم وقد ألف الغزل ولا حياة له بغير الخمر؟ وقف قليلا ولكنه أسلم مع قومه وفوَّض إلى الله أمره ولم نسمع عنه في حياة رسول الله وأبي بكر شيئا ولكنا نراه اصطدم مع عمر وهو الشديد في الحق لا تأخذه فيه هوادة، فعاد شاعرنا يتغزل ويشرب. يرى امرأة من الأنصار تسمى (الشَّمُوس) فيحبها ويحاول رؤيتها بكل حيلة فلا يستطيع، فيؤجر نفسه ويعمل في حائط يبنى بجانب منزلها ويطل عليها من كوة البستان ويقول:

ولقد نظرت إلى الشَّمُوس ودونها

حَرَجٌ من الرحمن غير قليل

ويشرب ويقول الشعر في الخمر:

إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت

وحال من دونها الإسلام والحرج

فقد أباكرها صِرفاً وأمزجها

ريًّا وأطرب أحيانا وأمتزج

فيحده عمر حد الشرب، فيفكر شاعرنا ويطيل التفكير: هل يترك الغزل والخمر؟ لقد كان ذلك قبل الحد أما بعده فلا. إن من العار أن يتحدث الناس أني تركت الخمر خوفا من العقوبة وأنا الأبي الشجاع الذي لا يعبأ بالحياة إذن فلأشرب وليحدني عمر. وفعلا شرب فحده، وشرب فحد، وبلغ ذلك سبع مرات أو ثمانيا، وهو لا يزال على رأيه، مصمم على تفكيره، ماض في غزله وشربه، حتى يئس عمر من علاجه وضاق به ذرعا، فقرر أن ينفيه في جزيرة كانت تنفي فيها العرب في الجاهلية خلعائها، وبعث معه حَرَسيّا يحافظ عليه حتى لا يهرب، وأوصاه ألا يأخذ سجينه سيفا معه، وقد عرف عمر كيف ينتقم، فلم

ص: 15

يألم شاعرنا من شيء ألمه من هذا الرأي. سيكون في جزيرة وحده لا غزل ولا شراب، ولكن ليس هذا ما آلم نفسه وأدمى قلبه، إنما آلمه أن يعيش عيشة الضعفاء المساكين والرجال في غزوات الحرب يقتُلون ويُقتلون وأن يعيش عيشة النساء في خدورهن وهو الفارس الكمي، لا، لا، الموت أهون من هذا. تظاهر شاعرنا بأنه يحمل غرارتين ملئتا دقيقا وعمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وجفنه في غرارة، ودفنهما في الدقيق حتى إذا جاوز هو والحرسي المدينة ولقيا من سفرهما هذا نصبا جلسا للغداء، فقام شاعرنا يوهم أنه يخرج دقيقاً فأخرج سيفه ووثب على الحرسي فخرج يعدو على بعيره راجعا إلى المدينة وظل صاحبنا وحده. الآن لا أعود إلى المدينة ووفيها عمر، ولا أطوف في البلاد ألهو فلست بعد اليوم لاهيا، ولكن إلى حيث يحيا الرجال والفرسان حياة النجدة والشهامة إلى مواقع الغزوات، إلى أشدها هولا، وأصعبها مراساً، إلى (القادسية) حيث المواقع الفاصلة بين سيادة العرب وسيادة الفرس. ولكن عمر الساهر على كل شيء في مملكته، لم يخف عليه أمر شاعرنا، فعرف أين توجه، فما، وصل إلى القادسية حتى سبقه كتاب عمر يأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه، ففعل ذلك وحبسه في قصره وقيده، فمشى يرسف في قيوده ويستعطف سعدا أن يطلقه فزجره، فذهب إلى سلمى زوج سعد وقال لها: هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء (فرس سعد) فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى تضعي رجلي في قيدي، فأبت فقام ثائرا حزينا، يرى القتال على الباب وهو يرسف في القيد، وانطلق لسانه بهذه الأبيات:

كفى حَزَنا أن تطعَنَ الخيل بالقَنَا

وأُترَكَ مشدوداًعلى وِثاقيا

إذا قمت عَنَّاني الحديد وغلَّقت

مغاليق من دوني تصِمُّ المناديا

وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة

فقد تركوني واحدا لا أخا ليا

هلم سلاحي لا أبالك أنني

أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا

ولله عهد لا أخيس بعهده

لئن فَرَجَت ألا أزور الحوانيا

سمعت سلمى هذا الشعر فرثت له ورأت الصدق في قوله فأطلقته، وأقتاد فرس سعد وخرج إلى مواطن القتال وإذا به أمام الناس يقف بين الصفين ويحمل على العدو حملات منكرة حتى عجب الناس من قتاله وأمره، ورأوا الفرس فرس سعد الطاعن لم يشهد الحرب معهم

ص: 16

قبل اليوم، حتى إذا انتصف الليل وتحاجز العسكران رجع صاحبنا إلى القصر وأعاد رجليه في القيد! فلما أصبح الصبح تحدث الناس به وأخبرت سلمى سعدا بما كان منه فأطلقه وعاهده ألا يحده أبدا إذا شرب. الآن ظهرت نفس شاعرنا في شرفها ونبلها وقال لسعد كنت آنف أن أتركها من أجل الحد، فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبدا. لقد كان مما أخذه عمر عليه قوله:

إذا مت فادفني إلى أصل كرمة

تروِّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني

أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

ويشاء قاص من الظرفاء فيروي أنه رأى قبره بنواحي أذربيجان أو جرجان وقد نبتت عليه ثلاث كروم قد طالت وأثمرت واعترشت، وعلى قبره مكتوب:

(هذا قبر أبي محجن الثقفي) أفاض الله عليه سجال رحمته فقد كان رجلاً وكان نبيلا.

أحمد أمين

ص: 17

‌عيد الوطن الاقتصادي

رأي ونصيحة للدكتور منصور فهمي

وجه أحد شباب المشروع إلى عميد كلية الآداب هذين السؤالين: 1 - ما رأيكم في عيد الوطن الاقتصادي كمظهر من مظاهر الشباب؟ 2 - هل لكم من نصيحة توجهونها إلى الشباب القائم بالمشروع؟ فأجاب الأستاذ عنهما بما يأتي: 1 - لاشك أني أقابل بالعطف والتشجيع كل جهد مخلص في سبيل النهضات الاقتصادية والدعاية اللائقة لها، لأننا نعتقد أن في تلك الجهود ما يعين على خدمة الأخلاق، وذلك أن كل مشروع يوسع مجال العمل قد يضيق حظائر البطالة وما يتسبب عنها من المفاسد والشرور، وطالما بين لنا التاريخ أثر الحياة الاقتصادية في نهضات الشعوب العقلية، وفي نظامها الخلقي، فالإنسان لا يطيب له التأمل والتفكير إلا إذا كان رزقه في يسر وسعة، ومن تضيق به موارد العيش قد يركب صعاب الأمور ويهون عليه إذا لم يكن من الذين تحصنت نفوسهم بالشدة في الخلق، أن يفرط في ما تدعو إليه الأخلاق الفاضلة، وإني إذن اعتمد على ما قدمت لأبارك للشباب جهده في الدعوة إلى خدمة الحياة الاقتصادية بشتى المظاهر الجديدة لشباب مثقف نشط في قدرته أن يحسن الاختيار لأساليب الدعاية البريئة الهادئة. 2_أما أول نصيحة أوجهها للشبان القائمين بالمشروع فهي ألا تأخذهم نشوة الحماسة إلى دعوة محمودة فيعتمدون كل الاعتماد على رأيهم ولوامع خيالاتهم دون ان يرجعوا لآراء المجربين الخبيرين ممن اشتغلوا بالأمور الاقتصادية، لأن مسائل الحياة الاقتصادية في الأمم متشعبة كثيرة الاتصال بشتى المسائل العمرانية، وقد لا يصيبها النجاح المرجو إذا هي لم تعالج في فطنة ودقة، وخبرة وكياسة، ومن أجل هذا أوصيهم بكل شدة أن يقتحموا هذه الأبواب ومعهم زادهم من نصائح كبار الاقتصاديين من مواطنيهم، وتوجيهاتهم لكي تغذي تلك الإرشادات نشاطهم، فيسير إلى حيث يثمر الثمرات الطيبة. وأما نصيحتي الثانية فهي أن تقوموا بعملكم المشروع بنفس زكية لا يداخلها عداء لأعمال غيركم، إنما يداخلها الإيمان بمشروعية عملكم وقيمته وطهارة سبله ونزاهة الوسائل التي تحققه. ويجب ألا ينسيكم العمل المبرور أعمالكم الدراسية لأنها الواجب الأول المباشر في المرحلة التي أنتم فيها، فإذا كان لديكم فضل من الوقت تروضون فيه أنفسكم على الأعمال الاجتماعية عن طيب خاطر وعن إخلاص وعلى

ص: 18

نحو ما نصحت لكم فإني آمل أن يوفق الله مسعاكم.

بطالة المتعلمين ورأينا في علاجها

للدكتور محمد حسين هيكل بك

لاشيء يعني به شباب مصر في هذه السنين عنايته بالشئون الاقتصادية. وما يزال مشروع القرش ماثلا في أذهان الناس، وما يزال شبان القرش مستعدين للهجوم إذا آن موعده في أول كل عام جديد. وها نحن نكتب هذه الكلمة لعيد الوطن الاقتصادي وأنت حيثما ذهبت لم تكد تسمع شيئا إلا في الاقتصاد والمشروعات الاقتصادية وما إليها، فما عسى يكون السبب في هذا؟ السبب فيما يخيل إلينا هو هذا الذي يسمونه عطلة المتعلمين، فالمدارس فيما يزعمون تخرج عددا أكبر بكثير مما تحتاج إليه وظائف الدولة، ومما تحتاج إليه الأعمال الحرة المعروفة إلى اليوم، فلابد من خلق أعمال حرة جديدة ليقتحم هذا الشباب المتعلم ميادينها ولتبرأ البلاد بذلك من مرض العطلة. وقد يكون هذا صحيحا ولكن هل ينجح مثل هذا العلاج فيوجد عملا لمن تخرجهم المدارس العليا والكليات والمدارس الفنية والخصوصية في كل عام ممن لا يجدون عملا في الحكومة أو في الوظائف الحرة المعروفة؟ وهل ينجح في إيجاد عمل للألوف الذين يحصلون على شهادة الدراسة الثانوية ولا يستطيعون إتمام دراساتهم العالية والفنية؟ نشك في هذا كثيرا. وعلة الشك أن هؤلاء المتعلمين يريدون عملا من طراز معين. يريدون عملا على مكتب من المكاتب ويأنفون العمل اليدوي. وهذا عمل على مكتب لا يتيسر للألوف وعشرات الألوف ممن يتخرجون، فلا طاقة لمشروعات الشباب بمواجهة رغباتهم وبإيجاد أسباب الكسب لهم. وعلاج هذه الحال في رأينا إنما يكون بفتح أبواب التعليم على مصاريعها جميعاً، للناس جميعا وجعل التعليم في متناول الكل، ينهل منه من شاء في حدود طاقته، يوم يصبح الكل متعلمين، ولا تكون طائفة المتعلمين محصورة لا يأنف الإنسان أن يباشر عملا يدوياً أو غير يدوي، ويومئذ يصبح كل عمل شريفاً، ويومئذ يمسك المتعلم بالفأس والمحراث، ولا يرى في ذلك ما يحط من شأنه، ويشتغل المتعلم في الصناعات المختلفة، في صناعة الجلود والأحذية، في النجارة والحدادة، في فلاحة البساتين، في التجارة بمختلف أنواعها، ولا يكون واحد من

ص: 19

هذه الأعمال أقل رفعة ومكانة وتشريفا لصاحبه من العمل على مكتب، ولا من منصب الوزارة أو أي منصب حكومي آخر. هذا في رأينا هو الحل العملي المنتج، فعلة بطالة المتعلمين وعطلهم: أنهم يرون أنفسهم طائفة خاصة ممتازة، يجب أن يكون لها عمل خاص ممتاز، فإذا لم يجد أفرادها هذا العمل فضلوا البطالة ولو تكففوا الناس بعد ذلك، فإذا زالت عنهم صفة الطائفة، بأن أصبح الناس جميعا متعلمين وجب على هؤلاء المتعلمين أن يزاولوا كل الأعمال فأصبح بذلك كل عمل شريفا كما قدمنا، وانفسح الميدان لكل من يريد أن يقتحمه. لا يقلل هذا من تقديرنا لمجهود الشبان في الوقت الحاضر. ولكنا نعتقده غير قادر على علاج المشكلة التي دفعت إلى هذا النشاط إلا بمقدار، وبهذا المقدار يستحق الشباب الحمد والشكر.

ص: 20

‌نداء لسكرتيرة المتطوعات

أخواتي: أقسم الشباب أن يمضي جهاده بعزيمة قوية وهمة فتية يريد لمصر هناءً موفوراً، ورخاء سخياً، ويسراً عريضاً، فهلا ساهمت معهم بوطنيتك وأيدتهم بإخلاصك ووفائك؟ إن الشروع لا يطلب إليك أكثر من أن تؤمني بعقيدة الجهاد في سبيل مصر: ترتدين الرداء المصري الصميم، وتدعين للصانع والتاجر المصري في الوسط الذي تعيشين في أفقه، وتوزعين الدليل الوطني أيام العيد: وتحفين بالموكب في مهرجان مصر، التي نعيش من أجلها، ونجاهد في سبيلها. ولقد حرصت لجنة المتطوعات على أن تعمل بعيدة عن الأفق الذي يجاهد في حدوده إخواننا الشبان، رعاية لتقاليد البلاد، وصونا لسمعة المجاهدات وحرصا على صفاء الجو الذي نناضل في أفقه. . فهيا إلى العمل وليكن شعارنا الذي نفاخر به:(مصر للمصريين)

سعاد حسن

. . . بل مصر مصرية!

بقلم الآنسة مي

(مصر للمصريين). هذه الكلمة أقرأها لكم كاتبين، أيها الشبان، وأسمعها منكم محدثين. وإنها لكلمة جميلة خصيبة عادلة، لكن ما هو أجمل منها وأخصب وأعدل هو الغرض الذي ترمون إليه في حركتكم الوطنية الاقتصادية: جعل مصر مصرية! المعلوم عن مصر أنها بحكم موقعها الجغرافي بلد دولي حتما. فهي بمقتضى ذلك تفتح بابها لكل شعب، وترحب بكل حضارة، وتستسيغ كل صناعة، وكل ثقافة تجد في مغناها ضيافةً وانتشاراً. ولما كان لكل مقام مقال، فان مصر لم تعدم من ينعى عليها موقفها ذاك. والشعراء، الشعراء البررة القساة، كم استوحوا هذا الموضوع فنمَّقوا المراثي يعرضون فيها جيوش المصائب والمحن الضاربة في هذا البلد الأمين، ويشهدون العالمين (باللغة الفصحى!) على ما معناه أن:(مصر بنت طيبة، ولكنها مظلومة قضاء وقدراً)!. . . ولكم بكى الباكون من جراء وقع هذه البلاغات الشعريات (. . . جمع بلاغة شعرية!) وإن لم يبكوا بدموع تُمسح بالمناديل فلا أقل من زفرات ملتهبة تتسرَّب من القلوب المحروبة حيث الشفاه تردد قول الشاعر: (مصر

ص: 21

بنت طيبة، ولكنها مظلومة قضاء وقدراً!). . .

فتيان مصر، فتيان الحياة الجديدة في مصر! بحركة واحدة قمتم انتم قومة رجل واحد. قمتم لأنكم بحميتكم الأبية، وبشبابكم الحار، وبوفائكم البصير، أدركتم أن سلاسل القضاء والقدر كثيرا ما يحبكها المرء لنفسه، وأن البلاد كثيرا ما يهمل أبناؤها أمرها فيكونون لها ظالمين! أمصر ميدان لشتى الصناعات والثقافات والحضارات؟ إذن لتستفيدوا من كل أولئك. وما كان في نظر المتشائمين موضوع رثاء وحسرة ينقلب بين أيديكم موضوع جذل وأريحية وميدان خير عميم! تأخذون من كل قوم ما عندهم من ابتكار ونظام وتدبير، فتطبقونه على قومكم بمقدار ما يتناسب وحاجاتكم. وما انتم بذلك إلا مماشون سنن التاريخ.

فما من صناعة أو ثقافة أو حضارة إلا اقتبست شيئا مما سبقها أو استلهمت شيئا مما يحيط بها. ما هو الفرق بين مصر وبين غيرها من البلدان القوية؟ أول فرق ظاهر أن البلدان القوية تستهلك ما تنتج، وتدفق على غيرها من الأقطار ما يفيض عن حاجتها، في حين أن مصر تنتج قليلا وتستهلك كثيرا مما يقدمه لها المنتجون. وهذا هو النقص الذي قمتم تعالجون! أو تذكرون قول الاسكندر قبل أن يقدم على فتح الأمصار القريبة والبعيدة؟ قال:(أريد أن أرث عن أبي فيليب بلدا صغيرا فقيرا مرتبكا ليكون لي الفخر بان أجعله بلدا فسيحا غنيا تضرب الأمثال بقوانينه وأنظمته وعظمته) أنتم ورثتم عن آبائكم بلدا عظيما غنيا ما زال في حاجة إلى تنظيم في بعض نواحيه. ولتكونوا فخورين بهذا الوطن وخصائصه، ولتكونوا فخورين بحاجته اليكم، وبما لا يروقكم فيه. ولتكونوا فخورين لأنكم وجدتم في هذا العهد الذي تستطيعون أن تقوموا فيه بالخدم اللاَّحَّة! كذلك تسبرون غور مقدرتكم، ومبلغ تأثيركم، وتعرفون مقدار قيمتكم الأدبية أفرادا وجماعة!

عيدكم عيد الوطن، وعيد نشاط الوطن. صيحوا بأصواتكم الفتية بوجوب توزيع إنتاجه من كل نوع وكل صنف وكل فصيلة، اهتفوا في قومكم أن اجعلوا أثوابكم مصرية، وأثاثات منازلكم مصرية، وزينات حياتكم مصرية، لتهيئوا وسائل العمل والرفاهة لملايين الأيدي المصرية. ردِّدوا أن خذوا عن الآخرين، واقتبسوا، وحصّلوا، على أن تمصِّروا كل ما تحصلون وتقتبسون وتأخذون، فينقلب كل منكم اسكندراً خلاّقاً في بابه!

فتيان مصر، فتيان الوادي الأخضر! عيدكم رأس سنة جديدة، بل هو مطلع عهدٍ جديد! هو

ص: 22

مطلع العهد الذي تسعون فيه إلى تمصير حاجاتكم. فلا يكفي أن تكون مصر للمصريين، بل يجب أن تكون مصر مصرية!

ولكم الفضل، بلفت البلاد إلى هذا الشأن الخطير. إن لتربة بلادكم هذه خاصَّة سحرية في تحويل كل غريب عنها إلى جزء منها. فكم ذا تصبح هذه الخاصة فعالة إذا ما أنتم عالجتموها بما نراه منكم من ذكاء وإدراك وهمة وحماسة وحيوية! عيشوا تحقيقاً للرجاء الذي يجعل واديكم دائم الخضرة، ويجعل عَلَمَكم دائم الخضرة! ولتعش مصر مصرية!

ص: 23

‌كيف نحافظ على وجودنا الاقتصادي؟

للأستاذ محمد فريد وجدي

الثروة للأمم (والثروة الاجتماعية تطلق على النقود المسكوكة وكل ما تثمره الأرض وتنتجه اليد العاملة) كالدم الذي يجري في الجسم الحي. ويوزع على كل عضو بل وكل خلية فيه ما يقيم حياتها ويجعلها صالحة لأداء وظيفتها. والطرق التي تجول فيها هذه الثروة لإعطاء كل فرد نصيبه منها تشبه بالشرايين والأوردة من الجسم الحي. وإذا كان لا حياة لجسم بدون دم، فكذلك لا حياة لأمة بدون ثروة. وإذا كانت صحة ذلك الجسم تتطلب دما كافيا حاصلا على جميع مقوماته البيولوجية. فكذلك الثروة الاجتماعية يجب أن تكون كافية لحاجات المجتمع وحاصلة على العناصر التي تتطلبها حياة الاجتماع. وإذا كانت تستتبع قلة مقدار الدم في الجسم الحي وفساد تركيبه أدواء عضالة من الأنيميا والخلوروز وما يجران إليه من العلل المترتبة عليهما، فكذلك عدم كفاية الثروة الاجتماعية تولد لهيئة المجتمع أدواء من الضعف العام ومن الاضطراب في وظائفه يصبح المجتمع معها عرضة لكل ضروب المتالف فيجمد حيث هو، أو يختل توازنه، أو يعتل وجوده، ويصبح لا يغني عن نفسه شيئا. لهذا السبب قام إزاء أطباء الأجسام في كل أدوار الأمم أطباء للاجتماع تولوا تدبير الثروة العامة بضروب شتى من الوسائل. وأطباء الاجتماع اليوم اكثر تبعات مما كانوا عليه في سالف العصور بسبب تعقد المبادلات بين الأمم، ومزاحمة الأسواق بعضها لبعض، وتشابك الصلات المالية بعضها ببعض، أصبح علم الاقتصاد من أوسع العلوم اختصاصا واشدها تركبا. وها نحن أولاء نسمع جؤار الشعوب تحت كلاكل هذه الأزمة العالمية، ونشهد جهاد الاقتصاديين في علاجها بما لم يتفق مثله للبشر في أي عهد من عهودهم، فإذا كنا لا نعتبر بكل هذا فنتوفر على درس هذه الحالة فيما يختص بنا توفرا يناسب أحوالنا الحاضرة فإننا نجني على أنفسنا جناية نحاسب عليها حسابا عسيرا، ونذوق وبال امرنا منها جزاء موفورا. وأول ما يجب أن ندرسه من مسائلنا الخاصة هو أن نعرف هل ثروتنا العامة التي تثمرها أرضنا وأيدي عمالنا تكفينا الحاجة أم لا؟ وهل هذه الثروة تتوزع على جميع أفرادنا أم لا؟ وهل يتسرب منها شيء إلى الخارج، كان يجب أن يبقى لدينا أم لا؟ هذه المسائل الثلاث يجب أن تشغل كل فرد من أفراد مجتمعنا على السواء، ولا يجوز أن

ص: 24

تقتصر على الذين يشعرون بالحاجة المعيشية فقط، لأن الضعف والاعتلال اللذين يحيقان بمجتمعنا لا ينحصران في الطبقات المحرومة من الثروة ولكنهما يعمان الكافة، فيكون نصيب أصحاب الأموال أشد مما ينال صغار الناس منهما. أما ترى اليوم ماذا أصاب أصحاب رؤوس الأموال الطائلة من البؤس والإقلال بسبب الأزمة الحاضرة، حتى أن صاحب مئات الفدادين أصبح لا يجد ما يقوت به نفسه. وتعرضت أملاكه للبيوع الجبرية؟ ومنهم من تجرد من جميع ما كان عنده فأصبح معوزا لا يملك شروى نقير ولا يصلح لأي عمل! وما ظنك لو اشتدت وطأة هذه الأزمة أو امتد عهدها سنتين أخريين أو ثلاث سنين اخرى؟ دع مصر جانبا وانظر إلى أعلى الأمم كعبا في الثروة والمدنية، ألم تجد الأحوال فيها شرا مما نحن عليه. ألم توصد عشرات من المصارف أبوابها. ألم تسد منافذ الارتزاق في وجوه الملايين من أبنائها؟ ألم ينضب معين الثروة في خزائن حكوماتها فاضطرت لضرب الضرائب الفادحة على مموليها؟ ألم يتناول الضغط على نفقاتها مرتبات موظفيها فأسقطت نحو الثلث من مرتباتهم ولا تزال تهددهم بتخفيضات جديدة؟ هذه كلها عبر يجب أن نتأمل فيها، وأن نعمل على تلافيها. وإذا كان الأمر من الخطورة عند هذا الحد أفلا يكون أوجب الواجبات أن نحاول ألا يتسرب قرش واحد إلى خارج بلادنا إلا إذا كان في حاجة ماسة، ولضرورة قصوى؟ وهذا ما تفعله كل أمة وتتشدد فيه اليوم شعورا منها بان دولاب الأعمال مادام معطلا وحركة المبادلات بطيئة، وجب ان ينحصر مال الأمة في بلادها حتى لا ينضب معينه فيها فتصاب بأشد ضروب الإعسار ولا كرامة. وما دمنا قد شبهنا ثروة الأمة في مجموعها بدم الحياة للفرد الواحد، فقد ساغ لنا ان نشبه خروج تلك الثروة من بلادها دون أن تستعيض عنها من طريق المبادلات ما يعادلها، بداء النزيف الدموي. فالأمة التي لا تبالي في مثل هذه الأحوال بتسرب ثروتها إلى خارج ديارها، يكون مثلها كمثل فرد أصيب بالنزيف وحكم عليه فوق هذا ألا يستعيض عما يفقده بتناول المواد المعوضة. ولست أستطيع بعد هذا أن احدد تبعة من يتجرأ على تبديد ثروة البلاد خارجها بالتعويل على الواردات الأجنبية التي يجد في بلاده ما يقوم بحاجته منها، قد يكون ما يجده منها في بلاده اقل جودة، أولا يفي بمرامه من كل وجه، فهل يجوز أن يحمله ذلك على الانصراف عنه محولا جزءا من ثروة الأمة إلى ثروة أمة أخرى، في وقت هي أحوج ما

ص: 25

تكون إلى المعونة والمساعدة، وهل يرضى لنفسه أن يكون فتقا في شرايينها ينزف منه مقدار من دمها هي أحوج ما تكون إليه في ضعفها وقلة حيويتها؟

يخيل إلى أن وطنيا لا يرضى لنفسه أن يكون سببا في هذا الشر المستطير لو وقف على جلية هذا الأمر وأدرك خطورته على أمته وعلى نفسه أيضا. فليحرص كل منا على القيام بواجبه من التعويل على مصنوعات بلاده وترويجها بكل ما أوتيه من قوة، لأننا لا نستطيع أن نحافظ على كيان بلادنا في معمعان هذه الأزمة العالمية الطاحنة إلا بهذه الوسيلة، وهي طوع أرادتنا، ومن مقدورنا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، والسلام.

الصناعة عنوان الحضارة

للدكتور عبد الرحمن شهبندر

للأمم (معامل) تصنع فيها المصنوعات المعنوية من شرائع وسياسات وأخلاق وعادات كما تصنع فيها المصنوعات المادية من أنسجة وأحذية وألبسة وآلات، ولا تقل هذه دلالة عن تلك على مبلغ أصحاب (المعامل) من الارتقاء العقلي، بل ربما كانت المصنوعات المادية أدق في التعبير عن ذهنية الأمم من المصنوعات المعنوية لأنها محسوسة ملموسة تقبل الموازين، وأما تلك فهي أوضاع ومقاييسها معنوية مثلها.

ولكل عصر من العصور طابع خاص بالصناعة التي راجت فيهو فعصر الفروسية مثلا_وهو من أقرب العصور التي عرفناها امتاز بصنع اللجم والركب والسروج كما امتاز بصنع المحركات للسيارات والطيارات وآلات الزراعة، وقد أحب الفرسان الخيل والعدو على ظهورها وعقدوا بناصيتها الخير فتفننوا في الأدوات التي تلازم ركوبها وأما نحن فقد فتنا بالسرعة واستخراج أعظم محصول بأقل مجهود فبرعنا في عمل (الموتورات). نحن في الشرق من أسبق الأمم إلى عمل المصنوعات بالمعنيين المتقدمين، لكننا تراجعنا فيهما كليهما، فحلقات الدروس وما يجري فيها من بحث عن موضوعات عقيمة سخيفة بالية وهي لا تقاس بما كان عليه السلف في العصر العربي الذهبي، تدل على هذا التراجع كما تدل عليه المصنوعات الهزيلة الخالية من المتانة والذوق والمعروضة في الأسواق والحوانيت. وزيارة واحدة لمكتبة من المكاتب الكبرى فى دمشق أو بغداد أو القاهرة وتقليب صفحات

ص: 26

من بضعة كتب من الكتب المصفوفة على رفوفها هي مثل زيارة لمتحف من متاحفها وإلقاء نظرة على ما يعرض فيه من النفائس فيها المقنع الكافي على صحة ما قلنا.

وقد دخلنا الآن في دور النهضة ويلوح لي إننا سبقنا إلى مباشرة المصنوعات المعنوية ولكننا من حسن الحظ أخذنا أخيراً في مباشرة المصنوعات المادية أيضا كما تشهد المعامل والمصانع الحديثة المنصوبة في هذا القطر السعيد وما جاوره من الأقطار العربية الشقيقة. ولا اعرف حافزا دفع الأمم الأخذ بالصنائع مثل الحرب العامة. فقد كان من نتائج الحصار الذي عانته الشعوب في غضونها وانقطاع أسباب المواصلات بينها أن التجأ بعضها إلى مصنوعات تكاد تكون من عمل القرون الخالية، ولا أزال أذكر كيف أن انقطاع الثقاب والنفط (الكاز) عن سورية مثلا في سني الحرب العالمية عاد بالاهلين إلى استعمال القداحة وسراج زيت الزيتون، وكان هذا الحافز أشد ظهورا في الحاجات والأدوات يتوقف عليها تسيير دفة القتال كما هو ظاهر من إخفاق روسيا العزلاء في هجومها المتكرر على ألمانيا والنمسا وتركيا وخروجها من الحرب أخيرا على تلك الحالة المزرية منكسة الأعلام. لا جرم أن الأمم التي شعرت يومئذ بنقص مصنوعاتها وتعلقها على غيرها من الأمم وارتباطها بها اقتنعت بعد هذه الدروس الخطرة المملؤة بالكوارث أن لابد لها من الاستقلال الصناعي وهو لا يقل شأنا عن الاستقلال السياسي، بل لا يتم هذا بالمعنى الصحيح من غير ان يتحقق ذاك. لان الأمة التي تنتظر غيرها أن يعمل لها البنادق والمدافع للدفاع عن حوزتها هي أمة غير مستقلة في أهم شؤونها. وزاد الشعور بهذه الحاجة تلك الوطنية الاقتصادية الحديثة التي تحاول أن تصدر كل شيء وألا تستورد شيئا، وما هذه الحواجز الجمركية القائمة بين الشعوب إلا عنوان هذه الوطنية الصارمة، ويكون جزاء الأمة المتساهلة في هذا الباب إغراق أسواقها بمصنوعات غيرها واختناقها بمصنوعاتها، وعرفت إنكلترا من بين سائر الأمم بالميل في تجارتها إلى (الباب المفتوح) ولكن حوادث الزمن أرغمتها على إغلاقه كما علمت غيرها أن تكون متشددة، وما لم يقم التفاهم مقام التنازع، وهذا مستبعد في الأحوال الحاضرة، فان هذه الحواجز ستشتد وتقوى. إن نهضة مصر الصناعية هي مثل النهضة الصناعية في الأقطار العربية الشقيقة تدل على تغير جوهري في الذهنية العامة وشعور بالحاجة إلى الاستقلال والاعتماد على النفس، وهذا هو

ص: 27

ركن عظيم من أركان الانقلاب السياسي المنشود، لان الحاجة تفتق الذهن وهي أم الاختراع.

ص: 28

‌البعث

للأستاذ توفيق الحكيم

حوريس: انهض، انهض يا أوزيريس!

أنا ولدك حوريس. . .

جئت أعيد إليك الحياة،

جئت أجمع عظامك.

واربط عضلاتك،

وأصل أعضائك. . .

أنا حوريس الذي يكون أباه.

حوريس يعطيك عيونا لترى،

وآذانا لتسمع، وأقداما لتسير،

وأيادي لتعمل. . .

ها هي أعضاءك صحيحة،

وجسدك ينمو،

ودماؤك تدب في عروقك.

إن لك دائما قلبك الحقيقي،

قلبك الماضي!

الميت: إني حي، إني حي!

(كتاب الموتى)

وحوريس ليس إلا الشباب، يعيد الحياة إلى ماضيه الميت. نعم هو الشباب الذي يكون أباه الوطن. وقد أعطاه بالفعل عيونا يرى بها غابره العظيم في حريته، وحاضره الذليل في قيود الغرباء، وآذاناً يسمع بها ضحكات السخرية من أفواه الجبناء الذين جاءوا يستغلون رقاده ويستلبون خيراته. كما أعطاه أقداما يسير بها كي يثبت لهم أنه حي، وأيدياً يعمل بها على تشييد الصرح المهدوم. إن أعضاء الوطن صحيحة لم ينقص منها عضو. وهاهو ذا جسده يتحرك وينمو، والدم يجري في شرايينه. والشباب على رأسه يصيح: (إن لك دائما

ص: 29

قلبك الحقيقي. . قلبك الماضي!. .) ويخيل إلى أنى أسمع الوطن من كل جانب يلبى النداء ويجيب الشباب الأبناء: (إني حي، إني حي!)

إني دائما أومن بان مصر لا يمكن أن تموت. لأن مصر منذ الأزل ظلت تعمل وتكد آلاف السنين لهدف واحد: مكافحة الموت. ولقد فازت مصر ببغيتها. وكلما ظن الموت أنه انتصر. قام حوريس من أبنائها يصيح: (انهض، انهض أيها الوطن! إن لك قلبك الحقيقي دائما. . قلبك الماضي) وإذا الموت يتراجع أمام صوت داو من أعماق الوطن: (إني حي، إني حي!) لست أعجب الآن لصيحات الشباب ومشروعات الشباب، فهي صيحات حوريس يوقظ أباه. إنما عجبي لأدراك الشباب أن أقوى مظاهر اليقظة هي: النهضة الاقتصادية: هي الدماء السخية التي تجري في جسد مصر قانية قوية. مرحى للشباب! هذا الابن الحق. لقد فهم سر الحياة، كما فهمها حوريس. وبارك الله في عيد الوطن الاقتصادي، فهو اليوم الذي سيردد فيه الوطن، وهو ناهض على قدميه. . وهو ملوح بيديه، صوته الخالد:(إني حي، إني حي!)

ص: 30

‌حركات الشباب

للأستاذ سلامة موسى

ربما كانت أولى حركات الشباب في هذا القرن حركة الفتيان الكشافة التي ذاعت بين جميع الأمم. وقد تناولت الصبيان إلى سن الشباب وملأت حياتهم صحة أجسامهم وخدمة لبلادهم وثقافة فيما يتصل بحياة الخلاء والتجوال. ثم ظهرت حركة أخرى بين الشباب هي الحركة الفاشية وقد اتخذت منذ بدايتها لونا سياسيا وطنيا. واستطاعت هذه الحركة، على الرغم من عيوب فيها، أن تقوم بالمعجزات في إيطاليا لرفعة الوطن. وظهرت منذ نحو ست سنوات حركة الفتيان الجوالة، وكان منشأها في ألمانيا حيث يخرج الفتى ومعه القليل من الملابس فيجول في أنحاء ألمانيا ويقضي الليل في مأوى ريفي صغير لا يكلفه نوما وفطور اكثر من خمسة قروش. وما يزال في هذا التجوال يزور المدن والقرى والجبال والسهول بضعة اشهر يرى فيها أنحاء ألمانيا فيعرف بلاده معرفة الخبير الذي عاين احسن ما فيها ويحبها لذلك اكثر ويزداد أمانة في خدمتها. وقد فشت عندنا نحن في السنوات الثلاث الماضية حركة أخرى بين الشباب انطبعت بطابع الحاجات الاقتصادية. فقد رأينا أننا مغبونون أمام الأجانب، في التجارة والصناعة، وأننا من الفاقة بحيث أصبح مزارعونا مثقلين بالديون، وان البلاد كلها تعيش بالزراعة وتكاد تجهل الصناعة. وكان شعورنا بالوطنية الاقتصادية ضعيفا، حتى أننا في إحدى السنوات القريبة الماضية اشترينا من الأطعمة ما بلغ ثمنه سبعة ملايين من الجنيهات، وهذا في بلاد زراعية كان عليها على الأقل أن تكفي نفسها طعاما إن لم تصدر ما يفيض منه إلى الخارج. لذلك ما كادت الصيحة إلى إيثار المصري على الأجنبي تعلن إلى الشباب حتى أخذها هؤلاء وجعلوا منها شعلة لن تنطفئ. فرأينا جمعية المصري للمصري ثم مشروع القرش ثم جمعية الاستقلال الاقتصادي ثم مشروع القرش ثم يوم عيد الوطن الاقتصادي. وهذا التنبيه العام إلى الصناعة والتجارة المصريتين يعزى الفضل فيه إلى شبابنا. هؤلاء الشباب الذين يجب على كل منهم أن يكون رقيبا على ثروة البلاد، يراقب نفسه أولا لا يأكل هو نفسه سوى الأطعمة المصرية، ولا يلبس سوى الأقمشة المصرية، ولا يؤثث بيته إلا بالأثاث المصري. وقد نحتاج إلى بعض البضائع الأجنبية ولكن يجب علينا عندئذ ألا نشتريها إلا من التاجر المصري، ثم بعد ذلك يراقب

ص: 31

غيره حتى يكون داعية للصناعة المصرية فينصح لأصدقائه ويطلب من زعمائه أن يتخذوا الملابس المصرية.

وعيد الوطن الاقتصادي هو يوم نخصه للدعاية. ولسنا نعتقد أن في البلاد خصما واحدا لهذه الدعاية التي يقوم بها شبابنا لكن يكسبونا كرامة اقتصادية ما أعظم حاجتنا إليها في هذه الأيام السود التي تباع ممتلكات الفلاح فيها بيع السماح بل بيع الجبر في سوق الدلالة.

بين الشرق والغرب

لسكرتير لجنة الدعاية

قرأت لزميل نقدا ممضا مريض الحجة ينصب على الجامعة في غير روية ولا أناة. فما التقيت به حتى أخذت في لومه والعتب عليه مستكثرا منه أن يطعن في معهد يظله ويحتويه. فبرم بموقفي من نقده، واستشاط حماسة وانطلق يقول: إن القلم الذي لا يستطيع أن ينجو بالحقيقة من ضيق العواطف، ويكفل لها ساحة رحبة النطاق، واسعة الأفق، لهو قلم كليل قصير الأجل لا ينتظر له خلود. . واليوم الذي ترى فيه الجامعة طلابها وقد ملأتهم الجرأة في سبيل الحق. وسكن في قلوبهم استقلال الرأي، لهو اليوم الذي يؤمن فيه الناس بأن الجامعة قد أدت رسالتها على اكمل وجه وأتم صورة. . وانطلق الزميل

في بسط فكرته تحت تأثير عاطفة قوية وميل جامح. .! فقلت له ان الجامعة موطن علمك ومعين ثقافتك. فمن حقها عليك ان تتولى الذود عنها إن حاق بها اعتداء أو أصابها ضر. فان قعدت عن حمايتها فلا أقل من أن تحجم عن الاشتراك في هدمها. وتتورع عن المساهمة في طعنها والحط من شأنها. ولو صح استقصاؤك لما فيها من سوءات لما جاز لك ان تعلنه على هذه الصورة القبيحة المزرية التي تخفيها تحت ستار حرية الفكر، واستقلال الرأي. . وما إلى ذلك من ألفاظ لها قداستها التي خفيت عنك حدودها. وتوارت عن بصيرتك معالمها. وقداسة الحقيقة يا صاحبي لم تطلب إليك استقصاء السوءات والتغافل عن الحسنات. ولكن الزميل كان في ثورة حماسه لا يملك إلا الإيمان بفكرته وتسفيه ما يذهب إليه خصومه، فطال بيننا الجدال على غير جدوى. وفي الأسبوع نفسه قدر لي أن أستمع إلى مؤرخ إنجليزي عالمي يحاضر في مواقف مرت بوطنه فيلتمس له

ص: 32

الأعذار في (حرق جان دارك) ونفي نابليون. .!! هذه هي الهوة التي تفصل بين منطق الكثيرين من علماء الغرب الأفذاذ. وذهنية أكثر الناشئين من شباب الشرق المغبون_هوة تعيش فيها آمال عرجاء. وتحيا في ظلامها مطامح جرباء، هناك قد (يخلقون المناسبات) ليملأها دفاعا عن وطنهم. وذودا عن حرمته. وإشادة بمفاخره. بل ربما لا (يتورع) العالم عن أن يتخذ العلم أداة يسخرها لخدمة مأربه القومي وقضاء شهوته الوطنية.!! وهنا يخلق بعض (شباننا) المناسبات ليتناولوا فيها أنفسهم ووطنهم ومعاهد علمهم بالطعن والتجريح.!! وهذا الفرق (فيما أرى) من أعظم العناصر التي تميز بين عظمة الغرب الفتية. . وحالة الشرق المريضة. لهذا ينبغي أن يطرب المصريون لهذه الثورة القومية الوديعة التي يقوم بها شباب عيد الوطن الاقتصادي. لأنها تعالج النقص الذي تنطوي عليه نفوسنا.

(ت. الطويل) كلية الآداب

ص: 33

‌نشيد

في عيد الوطن الاقتصادي

وطن دعانا فاستجبنا

وبكم بني مصر أهبنا

جد النزيل وقد لعبنا

وبكل ميدان غلبنا

وطغى الدخيل على الأصيل

آبائكم سادوا وشادوا

وعن الحمى درءوا وذادوا

زرعوا وفاتكم الحصاد!

وونت عن الثمر البلاد!!

وجنى المغلب والنزيل!

في الحق صيحات الشباب:

لا ننثني حتى تجاب

ولسوف نكتسح الصعاب

إن سد باب دق باب

ولدى سوانا المستحيل

جولوا بوادي النيل جولة

وامضوا لمصر أو المحله

فهناك للصناع دولة

وهناك تلتمس الأدلة

هناك مجدكم الأثيل

المال في يدكم أمانة

من مصر كدستم جمانة

أنسر إذ تبكي الكنانة

ونظل لا نولي إعانة

ونقر بالبلد الذليل؟؟

إنا دعائم الاقتصاد

ودعاة مصر إلى الجهاد،

ندعوا إلى العمل البلاد

ما دون غايتنا ارتداد

وإلى الأمام لنا السبيل!

الزقازيق. إبراهيم مأمون

ص: 34

‌نداء اللجنة التنفيذية

للأستاذ عبد الله فكري أباظة. رئيس اللجنة التنفيذية

بنى وطني!

عزم ثابت لا ونية فيه، وحزم نافذ لا رجعة فيه لرأي بعد إقراره. ذلك حال الشباب الذي أخذ على نفسه أن يحيي للوطن عيدا يقيم فيه مهرجانا، يخرج منه موكب، يجمع صناعاتنا المصرية لتستلهموا من رؤيتها العبر. فبلادنا اليوم في عسر شديد. . خرج بها اليأس عن أن يجد بنوها حتى من الدمع عزاء. . ولا من نضال الحياة جزاء. . إلا أن الله القدير جعل لكل عسر يسراً. ولكل ضيق سهلا، وخلق العزائم على قدر المصاعب. سينطلق في أيام العيد الثلاث حضرات المتطوعات والمتطوعين من أبناء مصر يحملون ما تيسر حمله من صناعة بلادهم، يدعون إليها ويفاخرون بها، فيدلونكم بذلك على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. . وسيوزعون عليكم دليلا إحصائيا يحوي أسماء المتاجر والمصانع الوطنية، يكون بين أيديكم هدى ومنارا، وقد أخذت صناعة مصر وتجارتها تحبو تبتغي النهوض بعد أن طال بها الرقاد لتستعيد سيرتها الأولى. أيها المصريون:

قد اجتمع لوطنكم من الخيرات ما تستحقون من أجله الغبطة والحسد. ولكن الأزمة تحيط بكم والضيق يكتنفكم والفافة تتمشى في بيوتكم، ولا يفوتكم أن الصناعة والتجارة في دورها الاول يهددها البلاء ويرقبها الفناء. إن لم تجد من العون والتعضيد ما يزيدها أملا على النهوض ويبعث إلى روحها القوة والرجاء.

إن يوم العيد بمثابة الناقوس يعلن المخلصين ببدء الجهاد الاقتصادي، ليقبلوا على صناعة البلاد ومنتجاتها، مستعذبين مستمرئين كل جهد وعناء. أيها المواطنون: إن مضمار الوطنية يوم العيد. ومن بعده سباق، فاصبروا في ميدان المصرية صبرا جميلا، واعملوا عملا حثيثا، فيوم العيد يراه القانطون بعيدا، ويراه المؤمنون المثابرون قريبا. .

ص: 35

‌رسالة المشروع دين المصرية

لسكرتير المشروع

حق أن يدعو عيد الوطن الاقتصادي إلى صناعة مصر وتجارتها، فليس أسمى من دعوة تحمل في طياتها كل ألوان الخير لبلد تتعاون عليه كل أساليب الشر، وحق أن ينشد هذا الغرض ويسعى إلى هذه الغاية بان ينظم لنا عيدا كل عام. وأن يصدر دليلا بأسماء متاجرنا ومصانعنا الوطنية القمينة بتشجيعنا، الجديرة بعطفنا وإيثارنا، وان يقيم مهرجانا صناعيا، تنصب فيه أسواق الصناعة المصرية، وتسعى فيه مواكب الدعاية للصناعة المصرية، ويفسح فيه للقومية المصرية. وحق ان يدعو الشباب المتطوع من جنود الفكرة الأمجاد إلى أن يبدءوا بأنفسهم في إعزاز صناعة بلدهم، فيلبسوا من قطن مصر الخالص لباسا هو رداء الشرف بعينه: بدلة رمادية وأقمشة صافية الزرقة، لا تقتضي اللابس أكثر من قروش معدودات تعلن عن متانة الصناعة المصرية ورخصها، وتفيض على صاحبها راحة في الضمير، وتسكب في قلبه هدوء الاطمئنان إلى أداء الواجب. حق كل هذا، ولكن أي أثر يكون من وراء هذا كله؟ أيقف الأمر عند تشجيع صناعتنا والدعوة إليها؟ رسالة عيد الوطن الاقتصادي اعمق أثرا، وأرحب أفقا، وأوسع مجالا، وما هذا إلا مظهر لما تسعى إليه، إنها تبغي أن تبشر في الناس بدين المصرية الكريمة، وتحملهم على الإيمان بها والاعتقاد فيها، تبغي أن يعيش المصري عزيزا في مصره، فخورا بها، هاتفا لها في كل لحظة وفي كل آن، ولو تضافر عليه باطل هذا الوجود كله يريد أن يسد الفم ويقطع على الصيحة سبيل الانطلاق. . إنها تبغي أن تمكن لمصر من عناصر السيادة والسلطان، بعد أن طال بها القعود على المذلة والسكون إلى الهوان. . . يريد عيد الوطن الاقتصادى، أيها الشبان، أن يتعجل اليوم المشرق السعيد الذي يجب أن تعيش فيه مصر للمصريين. .

علي عبد العظيم. كلية الحقوق

الدعوة إلى الصناعة المصرية

وسائلنا في سبيل ترويجها

للأستاذ جلال حسين وكيل اللجنة التنفيذية

ص: 36

ان اشد ما تشكو منه الصناعة المصرية في الوقت الحاضر روح الانصراف عنها البادية من جانب أبناء الوطن نفسه، وإذا كانت الصناعة المصرية تريد لنفسها حياة فإنما تطلبها من أبناء مصر أنفسهم فانهم أهلها وعدتها. والواقع ان الجيل الحاضر ورث عن الجيل الماضي روح الاستخفاف بصناعة مصر، فقد علق بالنفوس في القرن الأخير أننا أمة لا تجيد الصناعة، فتحولنا عن شرقيتنا ومصريتنا إلى تقليد الأوربيين، وتعاقبت السنوات ونحن عن مصلحة مصر للاقتصادية ساهون، وعن الإيمان بنجاحها الصناعي غافلون. ولقد قامت في مصر صناعات ونمت، ونشأت مصانع وتقدمت ثم أقيمت المعارض فثبت فعلا خطأ الفكرة القديمة وهي استحالة قيام الصناعة في مصر. وقد أيد الواقع الملموس أن في مصر صناعات، وأنه يمكن أن تنشأ صناعات أخرى وتزهو وتزدهر، ومع ذلك كله لا تزال الفكرة القديمة عالقة بالأذهان، ولا يزال الكثيرون منصرفين عن تعضيد منتجات البلاد، بل منهم من لا يزال يتشكك بوجود صناعات بمصر. ولو أن كل مصري ومصرية آمن بوجوب الإقبال على صناعات وطنه، ولو أنه أصر في كل مكان على طلب منتجات بلاده،

لكان هذا الطلب المستمر مدعاة لا حياء صناعات ميتة، وإقامة صناعات جديدة، وتقوية مصانع لا تزال بسبب الإهمال ضعيفة. ونحن إذ ندعو للصناعة المصرية لا ندعى أننا بلغنا فيها الكمال وإنما نشعر بأننا لا نزال في أول الطريق، وان المسير ليس سهلا، وإن المهمة شاقة، ولكن هذا كله هو الذي يدعو إلى مضاعفة الجهود. ولا سبيل للنجاح الصناعي إذا لم نقبل على الموجود بين أيدينا ونغضي عن عيوبه عاملين على إصلاحها حتى نصل إلى المجد الذي ننشده. فإذا كان هذا هو أشد ما تشكو منه الصناعات المصرية فأول واجبنا وما نسعى إليه محاربة هذه الفكرة السيئة بكل ما أوتينا من وسائل، وها نحن أولاء ننشر الدعوة (1) عن طريق الصحافة التي نذكر لها الفضل الأكبر في مؤازرتنا (2) عن طريق نشرات خاصة نوزعها في كل مكان (3) بواسطة الإذاعة اللاسلكية وقد وجدنا في محطات الإذاعة المصرية عضدا كبيرا. وكل ما ننشده أن نصل إلى أكبر عدد من أبناء مصر المتطوعين يتألف منهم جيش الوطن الاقتصادي. فنحن نبث الدعوة للتطوع في المشروع، ولا يكلف التطوع صاحبه شيئا ماديا قط. ولكننا نطلب إليه أن يعتنق هذه الفكرة

ص: 37

وأن يعطينا موثقا من الله أن يؤثر منتجات البلاد بالتفضيل ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهؤلاء المتطوعون هم الذين يدعون إلى الفكرة في كل مكان، وكلما زاد عدد لمتطوعين زدنا أيمانا برسوخ فكرتنا وثباتها، ومن اجل هذا نطالب كل من يفكر في مصلحة مصر أن يمد يده إلينا، وأن يبادر بالتطوع في المشروع ويد الله مع الجماعة. وقد سمعنا هنا وهناك سؤالا يتردد على شفاه الكثيرين: أين نجد تلك الصناعة المصرية؟ فأن المصانع المصرية لم تؤت إلى الآن من الوسائل ما يساعدها على الإعلان. لذلك استقر عزمنا على أن نصدر دليلا سنويا بأسماء المتاجر والمصانع القائمة في أرض مصر يكون هاديا ومرشدا وسيوزعه المتطوعون بأقل ما يمكن من ثمن حتى يكون في متناول كل يد. وقد سألنا أرباب الصناعات المصرية أن يسهلوا علينا مهمتنا فيتصلوا بنا حتى يأتي الدليل وافيا بالغرض الذي نرمي إليه. فإذا ما تجمعت تلك العناصر جميعا كان يوم العيد. وفي العيد يقام مهرجان عظيم يدعو للصناعة المصرية يشترك فيه من تساعده ظروفه من أصحاب المصانع، ويقوم جيش المتطوعين مرتدين رداء الشرف من القماش المصري بتوزيع الدليل في كل مكان. هذه وسائلنا نعلنها للبلاد مؤملين أن نسير فيها على بركة الله لخدمة هذا القطر وصناعته، راجين أن نشق السبيل لتمصير ثروة هذه البلاد حتى تصبح مصر للمصريين.

جلال حسين

ص: 38

‌مطالعات في التصوف

عوارف المعارف. معرفة النفس

وأنت إذا أردت ان تقف لمؤلف عوارف المعارف على رأي خاص في مسألة الروح وجدت أنه لا يستطيع أن يقطع برأي في ذلك إذ هو يرى نفسه إزاء أقوال متناقضة ومذاهب متضاربة لا يكاد الإنسان يأخذ بأحدها حتى يأتي الآخر فينسخ الأول ويزعزع رأيه فيه. ومن هنا كان مؤلفنا أميل ما يكون إلى الإمساك عن القطع برأي في هذه المعضلة. عرض المؤلف بعد ما قدمت لك لمسألة الروح الإنساني وغيره من أنواع الأرواح. وموجز قوله في هذا الصدد هو أن الروح الإنساني العلوي من عالم الأمر. والروح الحيواني البشري من عالم الخلق. وهذا الروح البشري هو محل الروح العلوي ومورده. وهو جسماني لطيف حامل لقوة الحس والحركة. وانه لينبعث من القلب الذي هو عبارة عن هذه المضغة اللحمية الموجودة في الجانب الأيسر من الجسد وينتشر في تجاويف العروق الضوارب، وهذا الروح موجود لدى سائر الحيوانات تفيض منه قوى الحواس، ولورود الروح الإنساني العلوي على هذا الروح الحيواني تجنس الروح الإنساني وباين أرواح الحيوانات الأخرى واكتسب صفة أخرى فصار نفسا محلا للنطق والإلهام. ومن هنا نلاحظ أن النفس الإنسانية تكونت من سكون الروح الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني، مثلها في هذا السكون كمثل سكون آدم إلى حواء بحيث نشأ بينهما التآلف والتعاشق.

ومسألة أخرى من تلك المسائل الفلسفية والنفسية حدثنا عنها المؤلف في هذا الباب، واعني بها مسألة العقل ومركزه وآراء الناس في هذا المركز. والناس يختلفون في مركز العقل كما يختلفون في غير العقل من الملكات الباطنية. فمن قائل بأن مركز العقل الدماغ. ومن قائل آخر بأنه القلب. ولعل اختلافهم هذا راجع إلى عدم استقرار العقل وبقائه على نسق واحد. فهو ينجذب إلى البار تارة وإلى العاق تارة أخرى. ورد في أخبار داود عليه السلام أنه سأل ابنه سليمان: أي موضع للعقل منك؟ قال: القلب لأنه قالب الروح. والروح قالب الحياة. وقال أبو سعيد القرشي: الروح روحان: روح الحياة، وروح الممات. فإذا اجتمعا عقل الجسم. وروح الممات هي التي إذا خرجت من الجسد صار الحي ميتا. وروح الحياة هي ما به مجاري الأنفاس وقوة الأكل والشرب وغيرهما. وقال بعضهم (الروح نسيم طيب

ص: 39

يكون به الحياة. والنفس ريح حلوة تكون منها الحركات المذمومة والشهوات). ويعمد المؤلف بعد هذا كله إلى الموازنة بين الروح والنفس بحيث يبين لنا من خلال بعض الأقوال، الأخلاق والصفات التي تصدر عن كل من الروح والنفس. فقد قيل أن النفس لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المذمومة. على حين أن الروح لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المحمودة. ومثل النفس والروح فيما يصدر عن الأولى من أخلاق وصفات مذمومة وما يصدر عن الثانية من أخلاق وصفات محمودة كمثل الحواس في أن العين للبصر والإذن للسمع. الخ. وترجع أخلاق النفس وصفاتها جميعا إلى أصلين، أحدهما الطيش والآخر الشره. وقد نشأ طيش النفس من جهلها ونشأ شرهها من حرصها. ومثل النفس في طيشها كمثل كرة مستديرة على مكان أملس لا تكاد تستقر أو تثبت ولكنها على العكس دائمة الاضطراب والحركة. ومثلها في شرهها كمثل الفراش الذي يساور المصباح فلا يقنع منه بالضوء اليسير ولكنه يلقي بنفسه عليه ليغمره ضوء هذا المصباح حيث يلقي حتفه. ومن الطيش نشأت العجلة وقلة الصبر. ومن الشره نشأ الحرص والطمع وهما هذان الخلقان اللذان ظهرا في آدم حين طمع في الخلود فحرص على أكل الشجرة. وأنت إذا أنعمت النظر فيما يذكر مؤلف عوارف المعارف عن الشره واتخاذه أصلا من الأصلين اللذين تصدر عنهما أخلاق النفس رأيت أن في كلامه تناقضا. وبعبارة أخرى دورا كما يقول المناطقة. فهو يقول أن شره النفس ناشئ من حرصها ثم يعود بعد هذا فيقول أن الحرص والطمع خلقانينشآن عن الشره. وإذن فالشره في بادئ الأمر نتيجة للحرص، ثم هو في آخره مبدأ له. وعلى هذا يكون الدور ظاهر. ومهما يكن من شئ فان النفس على كل حال مصدر للأخلاق المذمومة. فمن عرف أصولها وطبيعتها، وتبين أخلاقها وجبلتها، عرف أن لا قدرة له على كبح جماحها ومغالبة أهوائها وشهواتها إلا بالاستعانة في ذلك كله بباريها وفاطرها.

ولا يتحقق العبد بالإنسانية، إلا إذا دبر في نفسه دواعي الحيوانية وذلك بالعلم والعدل وبمراعاة طرفي الإفراط والتفريط، فبهذا تقوى إنسانيته وتنقى نفسيته ويدرك من نفسه صفات الأخلاق المذمومة بحيث ينتهي إلى كمال إنسانيته.

تعال ولنمض الآن إلى أوصاف النفس. فقد ذكر مؤلفنا أن الله وصف النفس في كتابه

ص: 40

العزيز بأوصاف ثلاث: فوصفها بأنها مطمئنة فقال: (يا أيها النفس المطمئنة) وبأنها لوامة فقال: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة). وأخيرا بأنها أمارة بالسوء فقال: (إن النفس لأمارة بالسوء) وهذه النفس التي وصفت بأوصاف متباينة واحدة. فإذا امتلأ القلب سكينة ألبس النفس ثوب الطمأنينة لأن السكينة تزيد في الأيمان. وفي هذه الطمأنينة يرقى القلب إلى محل الروح لما منح من حظ اليقين. وحين يتجه القلب إلى محل الروح تتجه النفس إلى محل القلب. وهي في هذا تصيب من الطمأنينة حظا. وإذن فأنت ترى أن النفس والروح يتطاردان بحيث يملك القلب دواعي النفس تارة، ودواعي الروح تارة أخرى، كما ترى أيضا أن الملكات الباطنية عند الصوفية هي الروح والقلب والنفس. وانهم ليضيفون إليها ملكة رابعة اختلفوا في شأنها كما اختلفوا في غيرها. هذه الملكة هي (السر) ويذكر مؤلف عوارف المعارف شيئا عن هذا الاختلاف في أمر السر فيقول إن من الصوفية من جعله بعد القلب وقبل الروح. ومنهم من جعله بعد الروح وأعلى منها وألطف. ولقد

قالوا إن السر محل المشاهدة، والروح محل المحبة، والقلب محل المعرفة. ولابد من أن نلاحظ أن السر لم يرد ذكره في القرآن وإنما ورد ذكر الروح والنفس والقلب والفؤاد والعقل. ويرى مؤلف عوارف المعارف انه لما لم يذكر هذا السر في القرآن، ولما أختلف الصوفية فيه هذا الاختلاف فهو لاوجود له وجودا مستقلا في ذاته بحيث يكون ملكة خاصة كالروح أو النفس. وإنما هو وصف زائد تكتسبه الروح حينا، والقلب حينا آخر عندما يتطلع كل منهما إلى مواطن القرب. إذن فليس السر شيئا آخر غير الروح، مكتسبة وصفا زائدا على أوصافها، أو غير قلب مكتسب وصفا زائدا على أوصافه. ولابد من أن نذكر شيئا عن العقل. فهو كما يقول مؤلفنا - لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. ولقد شرف الله العقل في حديث قدسي خاطبه فيه بقوله:(. . وعزتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، وسلطاني وجبروتي. ما خلقت خلقا أحب إلى منك ولا أكرم علي منك. بك اعرف وبك احمد وبك أطاع وبك أغنى وبك آخذ وإياك أعاتب ولك الثواب وعليك العقاب. وما أكرمتك بشيء أفضل من الصبر.) واختلف الناس في ماهية العقل. ففريق يرى انه من العلوم. فمن خلا من جميع العلوم لا يوصف بالعقل. وليس العقل كل العلوم إذ أن الخالي من أغلبها متصف بالعقل. وليس العقل من

ص: 41

العلوم النظرية.

فمن شرط ابتداء النظر تقدم كمال العقل. وإذن فهو من العلوم الضرورية وليس جميعها. فصاحب الحواس المختلطة عاقل على الرغم من أنه فقد بعض مدارك العلوم الضرورية. وفريق آخر يذهب إلى أن العقل صفة يتهيأ بها درك العلوم كما قال المحاسبي انه غريزة يتهيأ بها درك هذه العلوم. ويقول بعضهم أن العقل عقلان: عقل للهداية مسكنه القلب وهو للمؤمنين الموقنين. وعقل مركزه الدماغ: يدير الأول أمر الآخرة ويدير الثاني أمر الدنيا. ولكنه على كل حال عقل واحد. تلك خلاصة هذا الباب الخصب من كتاب عوارف المعارف ولست أشك في أنك توافقني على ما امتاز به من البحث الدقيق والفكر العميق والجمع بين التصوف وما وراء الطبيعة وعلم النفس جمعا يظهرك على ما بين هذه العلوم من صلة وثيقة تكفي لأن تبين لك ما للتصوف من مكانة فلسفية وقيمة نفسية بين العلوم التي أنتجها الفكر الإسلامي.

محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب

ص: 42

‌نداء إلى أدباء العرب

الاحتفال بمرور ألف عام على وفاة شاعر العربية الأكبر أبي

الطيب احمد المتنبي

قتل أبو الطيب المتنبي في رمضان سنة 354 للهجرة وفي رمضان سنة 1354 أي بعد سنتين وشهرين يمر ألف عام على وفاة شاعرنا العظيم. إن مرور عشرة قرون على وفاة أديب كبير لحادث ذو شان في تاريخ الأدب. وإني أناشد الأدباء في البلدان العربية أن يفكروا في إقامة مهرجان عظيم تشترك فيه وفود تمثل الأقطار العربية الشقيقة احتفالا بذكرى شاعرنا الخالد. وإني أرجو أن يترك أمر تأليف لجنة الاحتفال للمجمع العلمي العربي في دمشق أو للمجمع العربي الذي أنشأه جلالة فؤاد الاول ملك مصر أو لهيئة جديدة تمثل فيها جميع الأقطار العربية.

بيروت

فلسفة ليبنتز

1646_

1716

للأستاذ زكي نجيب محمود

1.

نظرية ذرات القوة 2. التآلف الأزلي 3. نظرية المعرفة 4. الله والعالم

التآلف الأزلي

ولكن إذا كانت هذه الذرات القوية التي يتألف منها الكون بأسره عبارة عن عوالم صغيرة مستقلة، لا يؤثر بعضها في بعض، فماذا عسى أن تكون الرابطة بينها؟ وبماذا نعلل هذا النظام الدقيق الذي يشتمل الوجود؟ يجيب ليبنتز على ذلك بأنه قانون التآلف الأزلي. فقد ركبت تلك الذرات بادئ ذي بدء بحيث تسير الواحدة موازية للأخرى. وعلى الرغم من تفرقها وانفصالها، فهي تعمل جميعا في توافق دقيق، حتى لتبدو كأن بعضها يعتمد على بعض. أليست تسير طوع إرادة إلهية عليا؟ إذن فهي تسير في نظام واتساق لا تناقض

ص: 43

فيهما ولا اضطراب. يقول ليبنتز إن هذا التوفيق بين استقلال الذرات واتساقها في نظام واحد أشبه شيء بجوقة من رجال الموسيقى. كل يقوم بدوره مستقلا، وقد أجلسوا بحيث لا يرى بعضهم بعضا بل ولا يسمعه، ومع ذلك فهم يسيرون في تناغم مستقيم، ما دام كل منهم يعزف وفق المذكرة الموسيقية، فإذا ما سمعهم مستمع في وقت واحد، لحظ في عزفهم تآلفا عجيبا) وبهذه النظرية نفسها قد عالج ليبنتز العلاقة بين العقل والمادة، أي بين الروح والجسد، فالروح يتبع قوانينه الخاصة والجسد كذلك يتبع ماله من قوانين دون أن يؤثر واحد في سير الآخر، فهما يتلاقيان في تناسق بلغ من الدقة حدا بعيدا يستحيل معه الخطأ، فكل خلجة عقلية يجاوبها وضع من الجسد كما لو كانت العلاقة بينهما علاقة العلة بالمعلول. ولا يمكن تعليل هذا الاتفاق المستمر بين العقل والجسم إلا بإحدى ثلاث، يسوق لها ليبنتز تشبيهه المشهور: فهما كساعتين تسيران معا في دقة تامة، ولا يكون ذلك إلا 1) أن يكون للساعتين آلة

واحدة تديرهما معا في آن واحد (2) أو يكون ثمة شخص يعادل بينهما من آن إلى آن بحيث يوفق بين زمنيهما، (3) أو قد تكون الساعتان صنعتا في دقة تامة يستحيل معها الخطأ.

فأما الغرض الأول فمردود لأن العقل والجسم لا يؤثر فيهما مؤثر بعينه في وقت واحد، وأما الغرض الثاني فمردود كذلك لأنه يفرض تدخلا مستمرا في علاقة العقل والجسم، وأما ثالث الفروض فهو ما يراه ليبنتز جديرا بعظمة الخالق وكامل قدرته، أي أن كل شطر يسير في طريقه الخاصة، فلا يكون بين الشطرين اختلال أو اضطراب، وهذا التآلف موجود منذ الأزل، وهو ما يسميه بنظرية التآلف الأزلي. ولكن إذا كانت كل ذرة مغلقة في حدودها الخاصة، لا تستطيع أن تطل على العالم الخارجي كما يستحيل أن ينفذ إلى داخلها شيء من العالم الخارجي، فكيف نعلل إدراكنا لله، بل إدراكنا لكل ما يحيط بنا من أشياء؟ أليس الإدراك ضربا من ضروب الاتصال أو هو كل الاتصال؟ كيف يستطيع كائن أن يصل إلى معرفة الله والعالم إذا لم يكن في مقدوره أن يحطم حدود فرديته؟ هذا تناقض ولا ريب، وأغلب الظن أن ليبنتز قد لحظه عند حديثه عن علاقة الإنسان بالله جل وعلا فأنقذ الموقف بأن زعم أن الروح الإنساني لا يقف عند حد تصوير الكون وتمثيله في شخصه،

ص: 44

كما هي الحال مع سائر الكائنات، ولكن له فوق ذلك مقدرة على إدراك الله وتقليده، ثم معرفة أجزاء العالم عن طريقه، لأنه يعتقد أن الله جل شأنه هو الذرة السامية الكاملة وهي أساس الذرات جميعا، منها تنبثق، كما ترسل الشمس ضوءها، فإذا ما أرادت ذرة أن تتصل بأخرى، كان لزاما عليها أن تتصل أولا بذلك الأساس أو قل (السنترال) لأنه بمثابة المركز الذي تتفرع عنه الطرق جميعا.

نظرية المعرفة:

من أين جاءت إلى الإنسان هذه المعلومات التي تملأ شعاب ذهنه؟ أما (لوك) فرأيه في ذلك معروف. وهو أن كل معلوماتنا إنما جاءت عن طريق الحواس فأثرت في صفحة الذهن التي برزت إلى هذا العالم نقية بيضاء لا تشوبها شائبة، وأما (ديكارت) فيزعم أن الطفل يولد مزودا ببعض الآراء الفطرية التي لا يمكن أن يحصلها بالتجربة، طرفان متناقضان من الرأي، كتب لهما أن ينتهيا إلى ليبنتز الذي لا يعجز عن جمع المتناقضات في وحدة متسعة! ألم يوفق بين مذهبي الفردية والكونية، وأخرج منهما فلسفة الذرات القوية؟ وهاهو ذا كما عهدناه يوفق بين لوك وديكارت في نظرية تحصيل المعرفة! فهو من ناحية ينكر على لوك رأيه في انعدام الآراء الفطرية. ويرى هو أن للعقل أساسا من المعلومات يستحيل أن يحصل بدونه شيئا، فيولد وهو يحمل بين طياته معرفة كامنة بالقوة ولا تصل إلى درجة الشعور إلا إذا أيقظتها التجارب التي تنفذ إليها عن طريق الحواس، فليس من شك في أن الطفل يولد مزودا بميل إلى استطلاع الحقيقة قبل أن يصادف من حياته تجربة ما، ويكفي أن يكون لديه تلك القوة العقلية وحدها ليجوز لنا القول بأن له معرفة فطرية، وإذن فيجب أن نكمل نظرية لوك التي يلخصها في هذه العبارة:(ليس ثمة في العقل من أثر إلا ما تبعثه الحواس) بأن نضيف إليها هذا التعديل: (اللهم إلا العقل نفسه)!! كذلك ينقض ليبنتز رآى ديكارت في الآراء الفطرية، فلا يذهب معه في أن المعرفة التي تولد مع الطفل تكون عند الولادة محددة واضحة، إنما يعتقد ليبنتز إن تلك المعرفة تكون بادئ الأمر سابحة في اللاشعور، وتظل غامضة مهوشة حتى تدركها التجربة فتوقظها من مكامنها وتزيل ما يغشاها من غموض بما تنشره على معالمها من ضوء، فحياة العقل عبارة عن تقدم مطرد مستمر من إدراك مهوش مضطرب إلى إدراك دقيق محدود. شأنه في ذلك شأن كل ذرة في

ص: 45

الكون، حياتها انتقال من الغموض إلى الوضوح في الإدراك. من ذلك نرى أنه وافق ديكارت على وجود الآراء الفطرية، بل لم يرضه أن يقف عند الحد الذي وقف عنده ديكارت. من أن بعض الآراء فقط تولد مع الطفل وبعضها الآخر تحصله الحواس فادعى هو أنها جميعا تولد فطرية ولا يستحدث منها في الحياة شيء كما وافق لوك على أن التجارب التي تنفذ إلى العقل عن طريق الحواس لها كل الأثر في تكوين المعرفة، والفرق بينهما إن ليبنتز لا يرى هذه المعرفة قد استحدثت بل انتقلت من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، أو قل انتقلت من حالة الخمود إلى اليقظة والنشاط، وهكذا استطاع ليبنتز أن يقرب وجهتي النظر إلى حد الاندماج.

الله والعالم:

كان ليبنتز مؤمنا شديد الإيمان، يصدر عن عقيدة سليمة ودين قويم، فهو يرى لزاما عليه أن يرد بالحجة ما تنطلق به بعض الألسنة من اتهام بالشر والنقص، وأن يثبت للناس أن هذه الدنيا التي نعيش فيها هي أكمل ما يستطاع خلقه من الدنى. أليس الله جل شأنه علة وجود الأشياء جميعا؟ إذن فلابد أن يكون قويا إلى أبعد حدود القوة، كاملا إلى أقصى مراتب الكمال، حكيما إلى أعمق أغوار الحكمة، خيرا إلى أوسع آماد الخير. صور لنفسك هذه الحكمة المطلقة قد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم، ثم حدثني كيف يكون؟ أليس من الطبيعي المحقق أن يجيء على أحسن ما تجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه. لأن الله تعالى يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع ما له من كمال، ولا يسع ذلك المنطق الكامل إلا أن ينتج عالما أقرب ما يكون إلى الكمال (لأنه إذا أخرج عالما دون ما يستطاع إخراجه، كان في عمله ما يمكن تهذيبه وإصلاحه). هذا الإيمان العميق لم يصادف من فولتير إلا سخرية مرة! فيرد على ليبنتز بقوله إن تجربته في الحياة علمته أن هذا العالم، على نقيض ما وصف، أسوأ ما يمكن خلقه من العوالم. ولو كان فيه ذرة من كمال لأمحى من وجهه هذا البؤس الذي يزهق ألوف الألوف من النفوس الكسيرة، وقد هاج هذا القول من فولتير شابا مؤمنا إلى درجة الحماسة فتصدى له وهاجمه في الصحف هجوما عنيفا، فلم يكن من الساخر العظيم إلا أن رد عليه في رفق هادئ بقوله: (يسرني أن أعلم أنك أصدرت رسالة تهاجمني فيها، فقد أوليتني بذلك شرفا عظيما، ولكن ألا تستطيع يا سيدي

ص: 46

أن تحدثني عما يدفع آلاف البشر لجذ حلوقهم في هذا العالم الذي تصفونه بأنه خير ما يستطاع خلقه، وإني لك من الشاكرين). كذلك تصدى هجل لنقد ليبنتز في رأيه هذا عن العالم، واحتج بأنه قد تركه قضية بغير دليل. فلنسلم معه جدلا بأن هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه، أفيكون هذا دليلا على خيرها وصلاحها؟ إذا أنت أرسلت خادمك إلى السوق ليبتاع لك شيئا! فجاءك به الخادم سيئا كريها ثم أقنعك أنه خير ما يباع في السوق، أفتحكم على هذا الشيء بالجودة لأنه كذلك؟ كلا ولا ريب فلا يمنع سوءه وشره ألا يكون هناك أحسن منه، كذلك قل في العالم، قل ما شئت من خير ما يمكن وجوده، ولكن هذا لا يبرئه من النقص والشر. وكأنما ليبنتز قد لحظ هذا الضعف فيما يقول فاعترف أن في العالم شرا كثيرا، ولكنه لا يرى ذلك مناقضا لنظريته، بل يتخذ هذا الشر نفسه دليلا على صحتها. فلولا ما تحوى الحياة من بؤس وألم. لما كانت الدنيا خير ما يستطاع خلقه، لأنهما كثيرا ما يكونان سبيلا إلى الخير وسببا في وجوده!! (المرارة القليلة كثيرا ما تكون ألذ مذاقا من السكر الحلو!). ثم يسير ليبنتز بعد ذلك في البحث عن أصل الشر في العالم، فيقرر أن علة وجوده هي هذا الجانب المادي. فقد ذكرنا فيما سبق أن لكل ذرة في الوجود جانيا فعالا، وإلى جواره جانب سلبي منفعل، هو الجانب المادي منها، وبقدر ما ترجح كفة الجانب الفعال كانت الذرة أدنى إلى الكمال، ولذلك ترى كل ذرة لا تفتأ تسعى جهدها لكي تتغلب على جانبها المادي السلبي الذي يقعد بها عن السمو في سبيل الكمال. والإنسان (ككل شيء آخر) لا يدخر وسعا في هذا الجهاد العنيف الشاق. وهذا الجهاد نفسه (الذي لامناص منه بحكم طبيعة التكوين الذري) هو أصل الشر وسبب البلاء فالشر إذن نقص نشأ عن محاولة التخلص من قيود المادة، فكأنه لم يوجد إلا ليكون سلما للصعود نحو الكمال الأسمى. وعلى هذا الاعتبار يكون الشر وسيلة للخير!!

أضف إلى ذلك أن وجود الشر إلى جانب الخير، مما يعمل على جمال الحياة، التي كانت تقل عما هي الآن كمالا وجمالا لو أنها لا تحوي إلا خيرا محضا. ومن ذا الذي يتمنى حياة لا ألم فيها، تجيء على صورة واحدة لا اختلاف فيها!؟ ثم يذكر ليبنتز أن الخير هو الجانب الإيجابي من الحياة، والشر هو الجانب السلبي منها، ولما كان الله تعالى لم يخلق، بداهة، إلا الجانب الإيجابي، فلا يمكن أن يعد سببا في وجود الناحية السلبية. ولا يمكن أن

ص: 47

يكون الله خالقا لما نرى في الحياة من شرور وآلام.

ص: 48

‌درس الجيولوجيا

بقلم حسين شوقي

هي أيضا ذكرى من ذكريات الصبا والدراسة، وقعت حوادثها ببرشلونه. عندما دخلت المدرسة الإسبانية، وحضرت درس الجيولوجيا للمرة الأولى، رأيت المدرس قبل البدء في الدرس، يقترح رحلة جبلية في يوم الأحد المقبل ولكني لحظت في استغراب ودهشة أن الطلبة يتهربون منها، لذلك أخذ المدرس يختار لهذه الرحلة من يختار دون رضا ولا موافقة، فقلت للطالب الذي يجلس عن يميني، وهو فتى إسباني من الجنوب (الأندلس)، تدل سمرة جلده على أصله العربي، لماذا يرفضون وإنما يذهبون إلى النزهة وتسلق الجبال الشاهقة؟. فأجابني في ابتسامة خبيثة: أتريد أن تذهب أنت؟ فأجبته على الفور: أجل! ولم لا؟ فرفع زميلي إصبعه مستأذنا في الكلام، فلما سمح له المدرس به أطلعه على رغبتي، فنظر إلى المدرس نظرة الرضا والارتياح وقال: حسن! حسن جدا! ثم سألني في لطف عن اسمي لأني كنت طالبا جديدا فأثبته في القائمة، ثم استفهم عن جنسيتي التي استغربها لأنني الشرقي الوحيد في المدرسة. وعندما عرف الطلبة إني أريد المشاركة في رحلة يوم الأحد عن رضا وطواعية، أخذوا يتغامزون وينظر بعضهم إلى بعض، فاضطربت لذلك ولم أعرف سبب هذا التغامز وا أسفاه الا أخيرا.

وفي يوم الأحد كنت في المكان المعين للمقابلة، قبل الموعد بزمان طويل، لأني كنت مشتاقا إلى هذه الرحلة الجبلية مع رفاقي الطلبة على الرغم مما يحيط بها من الأسرار. ثم حضر المدرس وتبعه الطلبة واحدا بعد آخر. . وكنا جميعا عشرة، فركبنا الترام فخرج بنا في أقل من ساعة إلى ظاهر المدينة. . وكنا أثناء سير الترام وفي غفلة من الأستاذ، نخرج ألسنتنا للمارين، فيمطروننا وابلا من اللعنات والشتائم. ثم أخذنا نتسلق الجبال وبعد جهد جاهد بلغنا أعلى القمة في تلك المنطقة المعروفة بسانتا كروث (الصليب المقدس) وقد قام فيها صليب كبير من الخشب، بركة لعابري السبيل. عند ذلك شاهدنا منظرا للمدينة يملك الطرف ويصبى المشاعر، والبحر الأبيض يموج في جلبابه الأزرق الفضفاض، والجو يعبق برائحة عطرية كأنها تسربت من الفردوس. أما السحاب فكان قريبا منا إلى حد أنني كنت أخشى أن جنيا يبدو منه فجأة فيختطف أحدنا على سبيل المزاح! وإذا كان سروري عظيما

ص: 49

بجمال الطبيعة في تلك الساعة، فان فرحي كان أعظم بالفراش الأصفر الكبير الذي شاهدته يتنقل في الخضرة والحشائش من غصن إلى غصن، وكأنه في حسنه زهور (البانسيه)، لأني كنت كرفاقي مولعا باقتناء الفراش وحفظه بالمنزل في علب خاصة غطاؤها من زجاج. ولكن ظهر أني كنت واهما حين ظننتني سأصطاد ما أشاء من هذا الفراش، لأني حضرت إلى درس جيولوجيا في هذا المكان لا إلى اللهو والتسلية! وكان ذلك سبب ضحك الطلبة في الفصل حينما تقدمت من ذات نفسي للاشتراك في تلك الرحلة! إذ أمرنا المدرس بالتقاط ما يصادفنا في الطريق من الحجارة الغريبة وعرضه عليه. . وكان إذا راقه حجر أخرج منظاره ففحصه في شغف كأنه (الحجر القيم). . ثم أمرنا بحفظه معنا. . لهذا أحضر رفاقي أكياسا من الجلد. أما أنا فكنت أضع الحجر في جيبي لأني لم أحضر كيسا، ولما بلغت المدينة كانت جيوبي ممزقة شر تمزيق! وكان أستاذنا إذا أطلعناه على حجر أخذ يشرح لنا أصله شرحا طويلا ويذكر ما كان بالحجر من معادن كالحديد والفحم والخشب المحجر. أما نحن فكنا نوافق على كلامه من غير سؤال ولا مناقشة لعله ينتهي بسرعة من شرحه الممل! ولما رجعنا في المساء إلى برشلونة، كنا نمشي متطرحين من الإعياء، وفي درس الجيولوجيا التالي حينما أخذ المدرس يجمع أعضاء الرحلة المقبلة كعادته قبل السير في الدرس، خاطبني قائلا: شوقي بطبيعة الحال يصاحبنا في هذه الرحلة؟ فقمت على الفور من مقعدي وأجبته في انفعال: شوقي مريض لا يذهب! فامتعض وتأثر ولكنه أراد أن يصرف النظر عن هذا الرد الجاف ليستر على الأقل خجله، ولكن الطلبة ضحكوا ضحكا عاليا من إجابتي، فاشتد حينئذ غضبه علي وعاقبني بالحبس ساعة!

من طرائف الشعر

طاقة الزهر

طرفة أخرى في الوصف للعالم الشاعر الأستاذ أحمد الزين

أهدت إلى النفس ريا نشرها العبق

والطيب في الزهر يوحي طيب الخلق

رقت رسائلها للكون فاتخذت

من النسيم بريدا شاع في الأفق

وما رأيت بريدا خف محمله

مثل النسيم حكى المعنى بلا ورق

ص: 50

أنباؤه كحديث الحب عاطرة

أو ذكريات شباب ناعم أنق

ظلت تنسقها كف منعمة

تكاد تحسبها من ذلك النسق

تداعب الزهر في رفق أناملها

كالنوم داعب جفن الساهر الأرق

كلاهما بالهوى يرنو لصاحبه

فاعجب لمختلف بالحب متفق

تحنو عليه فتنسيه منابته

في الروض يندى بمنهل الحيا الغدق

كلاهما زهر في كف صاحبه

فانعم بزهرين ملثوم ومنتسق

هذا يعيد بريا نفحه رمقا

وذاك بالوجد لا يبقي على رمق

هذا على الصدر يسبى العين منظره

وذاك في القلب يذكى لاعج الحرق

كم صور الزهر من معنى يجيش به

قلب الشجى ويعيى فطنة اللبق

وكم له في الهوى نعمى تقلدها

صرعى الغرام مكان الطوق في العنق

وكم يحمله العشاق لوعتهم

صونا لمكنونها عن طائش نزق

كم حملوه إلى أحبابهم قبلا

يا طيب مصطبح منها ومغتبق

واستودعوه حديثا من صبابتهم

فصان سر الهوى عن سمع مسترق

وكم روى دمعة عن عين والهة

وكم حوى زفرة عن قلب محترق

وكم على صفحات الزهر من كتب

في الشوق يعيا بها ذو المنطق الذلق

كم زهرة وصلت في الحب منقطعا

وجددت في حبال الود من خلق

وللأزاهير لطف في سفارتها

كم ألَّفَتْ في هواها كل مفترق

ص: 51

‌ذكرى العام

الحول يا أماه بعدك حالا

والقلب في تحنانه ما زالا

والنفس في أسف عليك وحسرة

تطوى بها الأيام والأحوالا

والفكر نهب للتذكر كلما

بعث الشجون وأطلق البلبالا

والود لم أر فيه بعد فراقنا

صفوا كودك سائغا سلسالا

وجذ عليك مساور لم يمحه

نظمي المدامع فيك والأقوالا

لا كان يوم قد طوى لك طيه

صرف الحمام عن الحياة زيالا

لله أية نعمة ولى بها

عني وأي كريم ذخر غالا

ما كان غير صميم ودك من هوى

أخشى عليه الموت إن هو صالا

فرحلت عن دار الفناء حثيثة

وامتد عمر من اجتويت وطالا

ونفضت كفك من ضئيل حطامها

وطرحت ذاك الهم والأشغالا

تجري مقادير وأحوال وما

تعنيك في تردادها مثقالا

عبرت مواقيت الصلاة فلم تجد

سعيا لها صبحا ولا آصالا

ولكم نهضت لها الدجى قوامة

تبغين رضوان الإله تعالى

ومضى الصيام فلم تحي وجهه

سمحا ولم تستقبليه هلالا

ولكم سعيت له وكنت حفية

بأبي الشهور مهابة وجلالا

وغفوت عن حالي فلم يكرثك أن

أمسيت أبدل بعد حال حالا

أوعل للأرواح بعد فراقها

قربى وإن شط المدى ووصالا

فتغبني الروح الطهور وتنثني

تضفي علي حنانها هطالا

وتظل ترعاني كسالف عهدها

أشقيت بالا أم حسنت مآلا

مني إليها ما حييت تحية

تترى إلى يوم اللقا وتوالى

فخري أبو السعود

ص: 52

(جاردن ستي) والريف

// لمن مقاصير خلف الجسر ضاحكة

يشرقن في العين إشراق الضحى الحالي

تلهو الهناءة نشوى في مسارحها

ويمرح الأنس فيها هادئ البال

ألقى النعيم العصا في ظل سرحتها

وراح يرسل فيها ذيل مختال

ملاعب لبني الدينار ناضرة

خضراء تنضح آمالا لآمال

فلو رآهن كسرى الفرس لاقتحمت

عيناه إيوانه في عصره الخالي

تحبو لدات الدرارى فوق عاتقها

وتطلع الشمس من عرينها العالي

زهراء رفت رياحين الحياة بها

بيضاء دون سناها ومضة الآل

ترنو عيون الأماني في مشارفها

ويبسم العيش في بشر وإقبال

إن كانت الخلد تحكيها فوا لهفي

قد قصرت عن منال الخلد أعمالي

يا أخضر العيش ما للريف تهجره

كأن قلبك عن أنصافه سال؟!

تركته تستبد الحادثات به

ويستطيل الأسى في عوده الحالي

كم بالقرى من قلوب سلن من شجن

قد أوغل اليأس فيها أي إيغال

كم بالقرى من جفون غاض مجمعها

من طول ما نزفت من دمعها الغالي

مشى نذير الضنى في سندس خضل

وشوهت صفحتيها أزمة المال

فما الصباح إذا يبدو بمتسق

ولا الغدير إذا تلقى بسيال

ولا الهزار صدوح في خمائلها

يشدو لدى الماء في خفض وإرسال

ضاف من البؤس رواها فأترعها

فغير القوم من حال إلى حال

لا تشهد العين من أبنائها أحدا

إلا خدين هموم ثوبه بال

يمضي النهار وحر الشمس يلفحه

رطب الجبين دءوبا غير مكسال

وحوله مثل أفراخ القطا زغبا

باتوا إلى الفجر في سهد وإعوال

الله يعلم لم أكفر بحكمته

لكنها خطرات هجن بلبالي

هذا يهاب الصبا تدمى أنامله

وذاك يعسف في فقر وإذلال

علي شرف الدين

ص: 53

‌الصدى الساحر

للأستاذ محمود الخفيف

في سكون العشاء سرت وحيدا

أملأ الصدر من نسيم المساء

أرقب البدر في السماء فريدا

ضاحك الوجه مستفيض الرواء

زار سمعي مع النسيم غناء

يصرف السمع عن أرق الأغاني

عاصف تارة وطورا رخاء

يتلاشى رنينه في ثوان

كروان سمعته يتغنى

رائق الصوت ساحر النغمات

نائح صادح طروب معنى

أين من سحره دقيق الصفات؟

نازع هابط بعيد قريب

مطلق النفس في جمال الوجود

عبقري كأنه مستجيب

لصدى السحر من جلال الخلود

ليت شعري أصارخ أم طروب

فسر القول يا خفي المعاني

آدمي؟ فتعتريك خطوب

وتعاني من الضنى ما أعاني؟

أترى أنت ساخر مستهين

بحياة يسود فيها الفساد؟

يملأ الرض من بنيها أنين

وخصام وفتنة وعناد

يا رقيق الغناء صوتك عذب

جل في الحسن عن غناء الطيور

بارع اللحن رائق مستحب

يبعث السحر في قرار الشعور

أيها الساحر المحلق رفقا

بفؤادي فقد ملكت فؤادي

لست أدري أطائر أنت حقا

أم وسيط من السماء ينادي

نازعتنى بشاشة وقطوب

مذ ترنمت يا بديع الخيال

من رآني يظن أني طروب

وفؤادي من الجوى غير خال

مذ ترنمت عاودتني شجوني

وذكرت القديم من أحلامي

قد تفردت بالهناءة دوني

وبرى الشوق والهيام عظامي

أنت لا تعرف الجفاء وقلبي

شفه الهجر والجفا والعناء

أنت لا تعرف الشقاء وحسبي

من شقاء الحياة هذا الجفاء

أنت يا ابن السماء حر طليق

لم تجرع لدى الحياة هوانا

ص: 54

أنت بالبشر والهناء خليق

كيف تبكي أأنت تخشى الزمانا؟

أيها الصادح المغرد زدني

من أغانيك واتخذني خليلا

ليتني كنت طائرا فأغني

وأصوغ القريض لحنا جميلا!

ص: 55

‌وخز الضمير

هي ذكرى كلما مرت على

خاطري أنشق عن دمع غزير

إيه يا ذكرى ابعدي عني، اعزبي

اخمدي بين ضلوعي، لا تثوري

حال عيش كان قبلا سكرا

بك يا ذكرى إلى عيش مرير

آه كم أزفر كيما أشتفي

منك، لكن ليس يشفيني زفيري

أترى تمحو إلهي عثرة

تركتني في عذاب وسعير؟

يا خليليَّ دعاني والبكا

لا أرى آلم من وخز الضمير

محمد برهام

ص: 56

‌العلوم

تطور العقل

للأستاذ السر أرثر طمس ترجمة بشير الياس اللوس

تبدأ حياة الكائن البشري كحجيرة مجهرية تعرف بالبويضة الملقحة، وهي بالرغم من صغرها المتناهي تضم تراث العصر السحيقة التي مر عليها أسلاف الجنس البشري من قبل. أن طيلة الأشهر التسعة التي يقضيها الجنين في رحم أمه متصلاً بها اتصالاً بايولوجيا وثيقاً، ما هي الأدوار سبات عميق، وليس هناك من يستطيع أن يبسطرأيا مثبتاً فيما يخص بعقل الجنين غير المولود، وحتى بعد الولادة مباشرة، وكل ما يمكن قولة أن نمو العقل يسير ببط كبير. ليس في البويضة الملقحة، أو الجنين الاول، جهاز عصبي قط، ولكنه ينمو تدريجياً من أوائل بسيطة، ولما كانت العقلية لا يمكن أن تستمد من الخارج، ترتب علينا أن نستنتج أن قوتها الكامنة متقمصة في الفرد منذ القديم، وكذلك الفعاليات الخاصة التي نستخدمها في حياتنا المعنوية كالشعور والتفكير والإرادة لابد إنهاء كائنه في تضاعيف الجرثومة بصورة كامنة. وما يقال عن الفرد يصدق على الجنس أيضا - أي أن هناك تطور تدريجيا في تلك الناحية من فعالية المخلوقات الحية التي نسميها (العقل). فلا نستطيع إذن أن نضع إصبعنا في نقطة معينة ونقول:((لم يكن ثمة عقل قبل هذا الدور)) لان جميع الحقائق الماثلة أمامنا تحملنا على استنتاج بأنه حيثما تكون الحياة لابد من وجود درجة خاصة من العقل. وهذا يصدق حتى في النباتات التي يضح أن لا عقل لها. ويكون استنتاجنا اكثر دقة إذا عبرنا عنه بأسلوب آخر، كأننا نقول أن الفعالية التي نسميها (حياة) يلازمها دائماً، وإلى درجة ما، وجهة باطنية أو عقلية.

الأفعال الانعكاسية: نعثر في الحيوانات المتعددة الحجرات

كشقائق البحر - على بداية الأفعال الانعكاسية التي تؤلف

القسم الأعظم في تصرف الحيوانات الواطئة أي قد تكون

للحيوان أثناء النمو أجهزة معينة من الحجرات عصبية

ص: 57

وحجرات عضلية تسهل إصدار أجوبة ملائمة وصحيحة على

المؤثرات الخارجية. فدودة الأرض التي قد أخرجت نصف

جسمها من الوكر تكون حذرة ومتيقظة بأخف وطأة قدم

فتقلص نفسها وتنسل إلى وكرها قبل أن يقول أحدنا (هذا عمل

انعكاسي). إن الطريقة التطورية - إذا جاز لنا إطلاق هذا

التعبير - أهلت الحيوانات للإجابة على المؤثرات بسرعة

كلية، وكلما صعدنا في سلم المملكة الحيوانية وجدنا الأعمال

الانعكاسية اكثر تعقيدا واحكم ارتباط مع بعضها حتى أن

حدوث عمل ما قد يستعدى حدوث أعمال أخرى. وهكذا نجد

سلسلة مستحكمة الحلقات بين الأفعال الانعكاسية أن تصرف

النبات المعروف ب ' - عندما ينطبق على حشرة

لافتراسها يشبه الفعل الانعكاسي في الحيوانات، على انه ليس

للنباتات جهاز عصبي خاص.

الأفعال الاتجاهية وهناك أفعال انعكاسية أخرى أرقى من تلك

تسمى (الأفعال الاتجاهية) وهي حركات أو أعمال يقوم بها

الحيوان حرصاً على تنظيم بدنه الكلي وأحداث التوازن

الفيسيولوجي بالنسبة إلى الجذب والضغط والتيارات والرطوبة

ص: 58

والحرارة والضوء والكهرباء فعندما تمر الفراشة بالقرب من

مصباح تستضيء العين القريبة من مصدر النور اكثر من

الاخرى فينتج عن ذلك اختلال فيسيولوجي يؤثر في الحجرات

العصبية والعضلية، وبالنتيجة تنظم الفراشة طيرانها بصورة

تلقائية كما تكون تلك العينين متأثرتين بنفس الشدة من النور،

وعملها هذا تحوم حول المصباح، وربما ادى ذلك إلى القضاء

على حياتها. إن هذه الأفعال الاتجاهية تلعب دوراً هاماً في

السلوك.

السلوك الغريزي وارتقت الحيوانات خطوة أخرى فكان لها

سلوك غريزي وصل إلى درجة مدهشة في الكمال في النمل

والنحل والزنابير. ويعرف عن هذا السلوك انه يتوقف على

مؤهلات فطرية، فلا يحتاج فلا يحتاج إلى تعلم وهو مستقل

عن التمرين والاختبار ولو انهما يهذبانه. يشترك في هذا

السلوك جميع أفراد النوع من الجنس الواحد على السواء

(لان الغرائز المختصة بالذكور قد تختلف عن الغرائز

المختصة في الاناث). وهذه الافعال تستهدف حياة الفرد

وتضمناستمرار النسل، ولو أن بعضاً منها يحدث مرة واحدة

ص: 59

طيلة حياة الفرد. فالفراشة الأنثى إبرة آدم تبرز من الشرنقة

عند الطلع المحمول على الأسدية وتجيله بشكل حبة كروية

صغيرة تحزنها تحت ذقنها. ثم تطير إلى زهرة يوكا اقدم عهداً

من الأولى، وتلقي بيضها في بعض البويضات التي في

مبيض الزهرة، ولكن قبل أن تصنع ذلك عليها أن تضع كرة

الطلع على جسم المدقة ومن ثم تنفتح كرة الطلع وترسل منها

أنابيب تتجة نحو المبيض فتنزل نواة الطلع بواسطة أحد

الأنابيب تتجه نحو المبيض فتنزل نواة الطلع بواسطة أحد

الأنابيب إلى البويضات وتلقحها؛ وبهذه الطريقة تتكون بذور

نبات اليوكالا تختلف عن أترابها في شيء، إلا أن بعض هذه

البذور يكون مأوى لبيوض فراشة اليوكا التي حالما تفقس

تسير في حياتنا على نفس الخط الذي سارت عليه أسلافها

تماماً من غير تلقين أو تعلم، وفي ذلك دليل على أن هذه

الحيوانات تضمن استمرار نسلها بسلسلة من الأفعال المنضمة.

وهي جزء من تراثها الغريزي. أما من وجهة النظر

الفيسيولوجية فالسلوك الغريزي هو سلسلة من أفعال انعكاسية

مركبة، ولكن في بعض الأحوال على الأقل علينا أن نعتقد أن

ص: 60

السلوك يخالطه شيء من الحذر والاجتهاد، ويجب أن يلاحظ

انه كما أن النمل والنحل والزنابير تظهر في اغلب الحالات

سلوكا غريزياً بحتاً، وتسير أحيانا على خطة التجربة والخطأ

أو الابتكار التجريبي. وكذلك بين الطيور والثديات قد يحل

السلوك الغريزي أحياناً محل السلوك المدرك ولعلة لا يوجد

سلوك غريزي بدون شيء من الذكاء، ولا سلوك مدرك بدون

عنصر غريزي. إن الفكرة القديمة القائلة أن السلوك الغريزي

كان في الأصل سلوكا مدركا وان الغريزة نشأت عن الإدراك:

لهي فكرة مخطئة لأنها تقوم على فرض غير مثبت، وهي

تشير إلى القول بان اكتسابات الفرد تنتقل إلى النسل. وأغلب

الظن أن الغريزة وال >كاء سارا على طريقتين مختلفين في

حبلة التطور.

الذكاء الحيواني: وتقدم الحيوان في سلم التطور خطوة أخرى

فكان له سلوك ينم عن الذكاء والإدراك، ولم يعد في استطاعته

أن تستفيد من الاختبار فحسب، بل من التعلم بالتلقين أيضا. إن

هذه الأفعال المنطوية على ذكاء تتنوع بتنوع الأفراد، وهي

قابلة للتحوير والتعديل بطرق فلما يصح تطبيقها على الغرائز

ص: 61

التي لا يمكن لأي كائن حي أن يستغني عنها بدون أن ترتبك

غلية الحياة وتتعقد عليه مشاكلها. فضلاً عن. ذلك فان السلوك

الغريزي المدرك غير مقيد بظروف خاصة كما هو شأن

السلوك الغريزي، وهناك ادله قاطعة على أن السلوك المدرك

ناتج عن علم بقيمة العلاقات الكائنة بين الأشياء. يبدو إننا لم

نعثر على دليل واضح يؤكد لنا أن الفعالية الذهنية التي نسميها

محاكمة عقلية كائنة في الحيوانات التي هي تحت مستوى

الإنسان. والواقع إننا لا نستطيع دائماً، أن نعتبر سلوك الإنسان

عقلياً، بل يجب أن نقول أن في وسعه إظهار تلك القابلية متى

شاء وحينما يتسنى له ذلك. لا شك أن تطور الحيوانات كان

يلازمه دائماً تعقيد في الأعمال، وبراعة في السلوك حتى

أصبحت تلك المخلوقات اكثر حرية واعظم سطوة في مجال

الطبيعة، وأمست مؤهلاتها النفسية - كالتفكير والتعلم

والشعور والإدارة - أكثر فأكثر أهمية.

(الموصل) بشير الياس اللوس.

ص: 62

‌الزمن

أتينا في كلمة سابقة على تطور رأي العلماء بشان القضاء وكيف أن الجزء المعين منه لا يمكن أن يكون له قدر ثابت. ذلك لأننا نقيس الفضاء بحجوم الأجسام المادية التي تشغله، وحجوم تلك الأجسام تتغير بتغير حركتها. فالصندوق الذي حجمه متر مكعب وهو على سطح الأرض لو انطلق في الفضاء بسرعة أكبر من سرعة الأرض نقص حجمه عن متر. ولو تخلف عن الأرض وسار بسرعة اقل من سرعتها زاد حجمه عن متر. ويمكن أن يكون له أي حجم نشاء إذا نحن جعلناه يتحرك بالسرعة اللازمة. فالقول بأن حجم هذا الصندوق متر مكعب هو قول ناقص، ويجب أن نتممه بعبارة وهو على سطح الأرض. والآن نلخص تطوراً آخر بشأن الزمن يشبه من وجوه كثيرة هذا التطور بشأن الفضاء. ذلك لان الزمن أيضا لم يعد له قياس مطلق ثابت ولا سياق معين اللهم إلا في المكان الواحد، فعبارة ساعة من الزمن لا معنى لها إلا إذا قلنا بالنسبة لكوكب كذا كما إن عبارة ماض وحاضر ومستقبل لا يمكن إطلاقها إلا في نفس المكان. وقد انبنى هذا التطور على الحقيقة الآتية: من المعلوم أن الضوء يستغرق زمناً في انتقاله من مكان إلى مكان، فالشعاع الذي ينطلق من الشمس يصل إلينا على الأرض بعد ثماني دقائق من انطلاقه. ومن الأجرام السماوية ما يستغرق ضوءه في الوصول إلينا ساعة أو ساعات، أو يوماً أو أياماً، أو سنة أو سنين أو آلاف السنين أو الملايين السنين بحسب البعد بيننا وبينه. ومن المعلوم أن الإنسان لا يرى الشيء إلا إذا استقبل بعدسة عينة أشعة ضوئية منبعثة من ذلك الشيء تتركز على شبكة العين بهيئة صورة لذلك المرئي تحس بها أعصاب الأبصار، وعلى ذلك فالحادثة التي تقع على الشمس الآن لا نراها نحن إلا بعد ثماني دقائق، وكلما بعد االكوكب أبطأت أخباره في الوصول إلينا. هذه الحقيقة تبدو بسيطة ولكنها تولد مشكلات خطيرة نلخص بعضها فيما يلي:(أولاً) تصور أنك انتقلت فجأة إلى الكوكب يبتعد عن الأرض مسافة يقطعها الضوء في 14 سنة، وانك تستطيع هناك أن ترى ما يجرى في القطر المصري بالتفصيل، فما الذي تراه؟ أنك ترى من جديد حوادث الحركة الوطنية واضطرابات سنة 1919. ثم تمر عليكالحوادث سنة بعد سنة ولا تستطيع رؤية ما هو جار الآن إلا في سنة 1947. فأنت استطعت إذن أن تعيش الآن فيما هو بالنسبة لنا ماض، وذلك لمجرد انتقالك إلى مكان آخر من الكون كما إننا نعيش الآن فيما هو بالنسبة لك

ص: 63

مستقبل للأنه لن يمر بك إلا بعد 14 سنة. (ثانيا) تصور انك بعد انتقالك إلى ذلك الكوكب وإشرافك من هناك على الحركة الوطنية المصرية، فضلت العودة إلى الأرض على جناح السرعة. وقطعت المسافة من هناك إلى هنا في ساعة واحدة (على فرض إمكان ذلك) فما الذي يبدو لك؟ انك ترى حوادث هذه ال 1سنة تمر عليك بسرعة وتنقضي كلها في ساعة. معنى ذلك ال 14 سنة في حساباً قد صارت في حسابك ساعة، وذلك لمجرد تغير حدث في اتجاه حركتك وفي مقدار سرعتك. (ثالثا) تصور انك وأنت على هذا الكوكب فضلت زيادة الابتعاد عن الأرض ومن عليها وركبت شعاعاً ضوئياً يطير بك إلى الناحية الاخرى من الكون، فماذا ترى أثناء رحلتك؟ انك ترى على الأرض شيئاً عجباً: ترى كل شيء عليها قد وقف عن الحركة فجأة وثبت على حالة واحدة، كأنما قد أصاب كل ما عليها ومن عليها شلل تام. لذلك لأنه لم يعد يصل إليك منه ضوء جديد، وصارت تستقبل دائماً موجة واحدة فقط من لحظاتنا. فأنت والحالة هذه تعيش باستمرار فيما نسميه نحن لحظة واحدة. (رابعاً) تصور أن ابتعادك هذا كان بسرعة اكبر من سرعة الضوء، فما الذي تشاهده؟ انك ترى في هذه المرة اعجب العجب. ترى الحوادث الأرضية وقد بدأت يتلو بعضها بعضاً ولكن على غير النظام الذي مرت به علينا، وعلى عكس ذلك النظام. ترى أولا حوادث سنة 1919 ثم حوادث سنة 1918 ثم حوادث سنة 1917 وهكذا ذلك بأنك لا تستقبل الضوء منا بالنظام الذي انبعث به بل تلحق بالتدريج بما مضى منه موجة بعد موجة. وبذلك يستطيع أن تقلب نظام الزمن رأساً على عقب فترى حاضرة قبل ماضية وماضية قبل غابره. (خامساً) تصور أننا هنا على سطح الأرض نرقب كوكباً يبتعد عنا بسرعة كبيرة بحيث تبدأ الحادثة هناك، وفي أثناء وقوعها يكون الكوكب قد ابتعد عنا مسافة أخرى علاوة على بعده الأصلي، وتصور أن حادثة ما تستغرق ساعة من الزمان قد ابتدأت هناك ورأينا بدايتها. ففي الوقت الذي تتم فيه تلك الحادثة يكون الكوكب قد قطع مسافة جديدة يضطر الضوء لقطعها ثانية في زمن معين. وعلى ذلك فان الضوء الذي بدلنا على هذه الحادثة لا يتم توارده علينا في ساعة بل في اكثر من ساعة من هذه الحادثة من حسابنا يزيد على ساعة. معنى ذلك أن حوادث ذلك الكوكب تبدو لك كشريط سينمائي بطيء كما أن لحوادث على الأرض تبدو لسكان ذلك الكوكب كشريط سينمائي بطيء.

ص: 64

القصص

آلة الزمان بقلم الأستاذ محمد فريد أبو حديد

سأقص حديثاً عجيباً. من شاء يصدقه فأني اشكر مع تقديري انه إما يصدقني لاعتقادي أنني لا اكذب، وإما إذا شاء أحد أن يكذبني فله ان يفعل وهو معذور. فان الناس لا يصدقون مايرونه بأعينهم، ولا سبيل إلى ان أريهم ما رأيت، وقد آثرت أن إذكر في حديثي هذا كل الأسماء على حقيقتها حتى إذا عرف أحد بعض هذه الأسماء ساعده ذلك على تصديقي، إذ ليسمن الممكن أن تبلغ بي الجرأة على الحق أن أذكر أسماء الناس علنا في صحيفة سيارة وأنا اكذب في قولي: أصبت في وقت من الأوقات بضعف في الأعصاب من الجهد المتواصل والهم المضي، فوصف لي بعض الأطباء أنواعاً من الرياضة. ولكن ابى الله ان يمكنني من ذلك العلاج. فقد زهدت في رياضة الصيد إذ رأيت فيها قسوة ومثله ووحشية، ثم زهدت في السباحة لأنني لم أجد مكاناً منعزلا ملائماً انزل إلى البحر فيه في أثناء الصيف، لان جسمي ليس بالجميل، وثياب الشواطئ كما لا يخفي على أحد مهلهلة تصف الأجسام على حقيقتها، ثم مارست ما سوى ذلك من أنواع الرياضة حينا فأصبحت بضعف في رجلي فلم استطع متابعة هذا السعي، لان الرياضي لا يليق به أن يظلع. ولكني جعلت ابحث عن تسلية ملائمة فوقفت إلى اختراع اختراعه الإنجليزي بارع وهو المؤلف المشهور (هـ. ج. ولز). وكان لاختراعه هذا رجة كبرى في الأوساط العلمية، ولكن هذا المخترع يحترف الأدب فأصابته محنة الأدباء فلم يقبل أحد على شراء اختراعه. فغضب حتى حطم النموذج الذي اخترعه وأبى أن يعلنه إلى الناس. غير انه لما بلغة ما أنا فيه من الحيرة بعث إلي بوصف اختراعه، وطلب إلي أن استفيد به ماشئت، ولكنه حرم على اطلع أحد عليه الا بإذنه فلا يطمع أحد في أن يسألني عن سر ذلك الاختراع. ومن شاء فليرسل إلى ذلك العالم وليسأله أن يبيع له الاطلاع على النموذج الذي صنعته أنا لنفسي، وذلك الاختراع بالاختصار هو آله دقيقة الصنع تحتاج إلى مهارة فائقة في الإدارة والاستعمال، كما تحتاج إلى مواهب خاصة فيمن يريد أن يستعملها. واخمد الله إذ كنت ممن منح هذه المواهب الخاصة، وهي مصنوعة من معدن لا يزال عجيب الخواص مجهول الكنه، ومن

ص: 65

خواصه التي عرفت إلى اليوم انه شفاف ولا تبصر لاه الأعين في ضوء النهار إلا إذا وضع منظار من نفس المعدن على الأعين. ولهذا يسهل على الإنسان أن يترك الآلة المصنوعة منه في أي مكان بغير حارس ولا يخاف عليهااللصوص أو من عبث المارة. ولا حاجة بي إلى إطالة في وصف هذه الآلة، ويكفيني أن أذكر اسمها وقد يكون بعض القراء قد سمع به من قبل وهي (آلة الزمان)، واسم هذه الآلة يدل عليها وعلى الغرض منها. ومن أراد التوسع في فهم أغراضها ونظرياتها وطرق أدارتها فعلية ان يستأذن صاحب اختراعها كما أسلفت في أول هذا الحديث. هذه الآلة بالاختصار عبارة عن حجرة صغيرة لها جدران شفافة من المعدن الذي وصفته، وفيها مقعد واحد لا يسمع إلا رجلا واحداً وفي داخلها أمام المقعد مفاتيح كثيرة يتحرك بعضها إلى أعلى وبعضها إلى أسفل وبعضها إلى اليمين والبعض إلى اليسار وهكذا في جميع الأنحاء التي يتصورها الذهن، وفي وسطها عجلة كبيرة تدور إذا قبض عليها الإنسان بيده وضغط عليها قليلاً. فإذا أمال يده نحو اليمين دارت يميناً، وإذا أمالها نحو اليسار دارت يساراً. وهذه العجلة هي أم الآلات في تلك الحجرة. فإذا بالحجرة كلها تدور دوراناً شديداً، ثم إذا بالجالس على الكرسي يعتريه دوار شديد ويفقد الحس حينا من الزمن ثم يصحو فينظر إلى ما حوله فيرى مناظر غير المناظر التي كانت حوله قبل ان يدير العجلة. لا بل انه يرى مناظر ما كان يحلم بوجودها قبل أن يضع يده على تلك العجلة. والذي يحدث باختصار عند ضغط العجلة إن الإنسان إذا مال بيده نحو اليمين دارت الآلة، وتحرك لسان على لوحة أمام الجالس فهبط إلى اسفل، وعلى تلك اللوحة أرقام كثيرة، وعند ذلك ينتقل هذا الشخص الجالس في الآلة بطريقة عجيبة يطول شرحها - ولا اسمح لنفسي أن أذكرها بغير إذن - فإذا ذلك الجالس ينتقل على السنين نحو الماضي فيذهب إلى العصور الماضية ويرى نفسه يمر على السنوات الغابرة عاماً فعاماً. وكلما انتقل من عام إلى عام قبله تحرك اللسان على اللوحة مشيراً إلى رقم السنة. وأما إذا كان ميل الضغط نحو اليسار فان اللسان يتحرك على اللوحة إلى أعلى، فإذا بالجالس في تلك الآلة ينتقل على السنين نحو المستقبل

فيذهب إلى العصور المقبلة ويرى نفسه في غمار الحياة في الأجيال الآتية. ويتحرك اللسان على اللوحة مشيراً إلى رقم السنوات المقبلة. حسبي الآن ما ذكرت من وصف الآلة فاني

ص: 66

أخشى من بعض أساتذة الجامعة في كلية العلوم أن يفطن إذا أطلت الوصف فيعرف سر هذه الآلة من ثنايا قولي بوساطة بعض طرقهم العلمية الماكرةمن الارثماطيقي والماتيماطيقي والفيزنيقي. او غير ذلك من العلوم التي لا علم لي بها. فانهم لو فعلوا ذلك لأوقعوني في ورطة، إذا أكون قد خدعت عن سر لا املكه ولا يحمل بي التصرف فيه. وقد كنت إذا شعرت بالسام يدب إلى نفسي انهض إلى هذا إليه فاجلس فيها وأدير العجلة الوسطى نحو اليمين فأذهب في العصور الماضية لأني شديد الحنين إليها لأنني لست ممن يرتاحون إلى الوقت الحاضر، ولا يرون في الحال المائلة حولنا شيئاً ترتاح إليه النفس أو يطمئن إليه القلوب فالناس فيه: شيوخهم فيهم وهن، وكهولهم فيهم حرص، وشبانهم فيهم طراوة ورخاوة. ولا فائدة في أن أعيد إلى القارئ مناظر تلك العصور الماضية فهي مائلة مصورة في كتب التاريخ إذا كانت غير مائلة مع الأهواء. وكنت أجد ما أحببت من السرور بالتجول في تلك العصور، إذ كنت اشبع كبريائي بما أراه من مجد الآباء والأجداد، وكنت إذا رأيت منظراً يؤلمني في عصر من العصور أسرعت بإدارة العجلة التي أمامي فانتقل مسرعاً حتى ابصر مناظر مجيدة في عصر آخر فأوقف العجلة وانزل من الآلة وأجول في أنحاء ذلك العصر حتى امتلئ سروراً، ثم ارجع وأدير العجلة فأعود إلى عصري ومنزلي خوف أن يقلق أهلي إذا أطلت عنهم غيبتي. وقد وقعت عيني مرة في أثناءعودتي إلى عصري على منظر استرعى انتباهي فأوقفت العجلة مسرعا ثم نزلت من الآلة لأشاهده. فقد رأيت رجلا من عامة أهل الريف واقفاً في وسط ساحة قريبة من (ميدان الأوبرا) وقد اخذ بتلا بية رجل على رأسه قبعة قذرة وهو ضخم الجسم ولكن وجهة بشع المنظر، وله عينان كأنهما عينا ذئب مفترس، وله أظافر طويلة ليست كأظافر بني الإنسان بل هي قريبة إلى أظافر النسور مقصوصة طويلة مدببة، وقد وقف حول الرجلين جماعة من أمم مختلفة، ولكن أكثرهم من أولاد مصر القاهرة ممن يسهل اجتماعهم حول أية ضجة تثور في طريق من الطرق، وهم لا يقصدون بذلك إلا إشباع رغبة الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم وأنا ممتلئ مثلهم رغبة في الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم غلا إنني لم اكن عند ذلك مستعدا للدعابة ولا للثرثرة. وبعد هنيهة علمت ان ذلك المبرنط دائن لذلك الريفي وانه قد استولى على كل ماله في الريف حتى ألجأت إلى أن يهرب إلى القاهرة لاجئا إلى

ص: 67

أزقتها وجدران مبانيها متخذاً الأولى مغدي ومراحا والثانية مأوى. وقد استجدت ذلك الفلاح يوماً رغيفاً فأكل ربعه ودس الباقي في جيب ثوبه المهلل جاعلاً إياه ذخرا يلجأ إليه إذا عضه الجوع في ليلة لم يجد فيها من يطعمه لقمة. فكان جيبه بارزاً إلى أمام يخيل إلى من يراه إنه قد خبأ فيه شيء ذا قيمة وقد أراد سوء حظه أن يلقاه دائنه المبرنط وهو على تلك الحال فأسرع إليه الشك في إنه يخفي في جيبه دجاجة لها بيض ذهبي، وزاد الشك في قلبه وغلى دمه عندما تذكر أنه لا يزال له على ذلك الريفي مقدار من المال. فقال في نفسه (يا للعدالة أأكون دائناً لذلك الريفي ولا أستطيع أن أحصل على ديني منه؟ وهاهو ذا يسير طليقاً وفي جيبه دجاجة تبيض الذهب؟) وما هو إلا أن قال ذلك في نفسه حتى اندفع إليه وأمسك بتلابيبه. وما هو إلا أن فعل ذلك حتى أجتمع من رأيت حولهما من الناس ينظرون ويتكلمون ويمزحون وقد أراد ذلك المبرنط أن ينزع عنه ثوبه المهلهل ليرى ما تحته فأبى الرجل الريفي خجلاً من أن يرى الناس جسمه المشعر عارياً، فتشبث بالثوب وعلا النزاع بين الرجلين حتى بدأ النظارة يتدخلون بينهما ووقفت أنظر ما يؤول إليه أمر هذا النزاع، فما هي إلا برهة حتى رأيت الجميع يتألبون على الريفي حتى نزعوا عنه ثوبه، يبحثون عن الدجاجة ذات البيض الدجاجة. فلما تم لهم ذلك

المسعى لم يجدوا إلا رغيفاً مقطوع الربع مهشم الباقي. فلما راى الرجل المبرنط ذلك لم يرض أن يرجع عن هجومه ذلك خائباً، فأصر على أن يأخذ الثوب المهلهل ويترك الرجل عارياً، ثم فكر في أخذ الرغيف ولكن نفسه عافته، وظن أنه لم يجد له شارياً فتركه وقال:(عليك أن تشكرني أيها المماطل لأني تركت لك ذلك الرغيف تأكله وتملأ به بطنك وتنام في حين أنا لا أتقاضى منك ديني. يا للعدالة!). إلى هذا فهز كثير من الحضور رؤوسهم علامة الإعجاب والموافقة ولم يتكلم واحد منهم بكلمة. ولكني كنت حديث العهد برحلة في عصر ماض من عصور مجد بلادي وكان قلبي ممتلئا كبراً واعتدادً بنفسي. فأنفت أن أترك مواطني في هذا البلاء. فتقدمت نحوه وقد غلبني الغضب على الصمت وقلت للريفي بصوت عال: (هل لك أيها المسكين أن تشترك معي في استرداد ثوبك بالقوة؟) فنظر الرجل إلي نظرة ذات مغزى ثم نظر إلبى منت حولنا وسكت فنظرت حيث رأيته ينظر فإذا بالنظارة يمزحون ويضحكون ويقلبون الثوب وهو مع الرجل المبرنط ويهنئونه

ص: 68

بحصوله على شيء من دينه، وكان أعلاهم صوتاً رجال مبرنطون مثله يبلغون العشرة عداً فعلمت من نظرة الرجل إنه يرى نفسه عاجزاً ولو مساعدتي على استرداد ثوبي ورأيت دمعة تسقط من عينيه وجثى على ركبتيه حياء من تعريض جسمه الضخم المشعر للأنظار، وكان فوق ثيابه معطف قديم كنت أحتاطه بلبسه في رحلات فخلعته صامتاً وطرحته فوق منكبيه فكساه إلى ملئت ركبتيه، فنظر إلي صامتاً نظرة كدت أبكي من وقعيها عندما لاقت نظري وتركته مسرعاً وعدت إلى اللآله فأسرعت بها عائداً إلى العصور الماضية أطلب التسلية في مناظرها. حتى إذا ما سرى عندي ما بي من الشجن أدرت العجلة وعدت مسرعاً إلى عصري ودخلت منزلي وكان أهلي قد قلقوا بطول غيبتي، ومنذ ذلك اليوم عاودتني كآبة كانت تظهر في حديثي وتدل عليها ملامح وجهي حتى لقد لاحظها بعض أصدقائي وكان فيهم جماعة من الشبان أولي الهمة فجعلوا يسألونني عن علة ما بي فذكرت لهم قصتي في ذلك اليوم الذي رأيت فيه ما رأيت من المبرنط والريفي. وذكرت لهم في قصتي حديث الالة التي أتجول بها في العصور الماضية طالباً التسلية من هموم الوقت الحاضر. فقال لي أحدهم وأسمه توفيق:(ولكن العجيب أنك لم تفكر يوما في أن ندبر تلك العجلة نحو اليسار) ولم أنتبه قبل الساعة إلى أن عجلة الآلة يمكن أن تدار إلى اليسار فسيكون التجول في عصور المستقبل بدل أن يكون في عصور الماضي. فقلت له وبي شيء من الارتباك (أنني لم أفطن إلى ذلك إلا ألان) فأجابني ذلك الصديق الشاب (أنني أعتقد أن السلوة لا تكون أبدا في العودة إلى الماضي. فان الغنى إذا أفتقر لا يسليه عن فقره أنه كان يوما ما واسع النعمة رافلاً في الغنى بل إن ذلك أدعى إلى أسفه وأسخن لعينه. ولكن الذي يسلي الفقير أن يتطلع إلى المستقبل ليرى أنه سيكون بعد ألمه في راحة وبعد إملاقه في غنى. وكذلك الحال في السجين، فأنه لا يهدأ قلبه من ذكرى ماضي حريته، بل قلبه يهدأ وألمه يضمحل إذا فكر في قرب يوم الانطلاق) والحق أنني لم أتعلم من أحد مثل هذه الحكمة الصادرة من شاب غير مجرب. وقد شعرت بالخجل إذ رأيت أحد أبنائي في السن يعلمني حكمة غربت عن فكري، ولكني أحمد الله على أني في هذه الأمور أنزل عند الحق ولا تأخذني العزة بالإثم. فقلت له (إني شاكر لك تنبهي إلى هذا يا صديقي وسوف أقص عليك نبأ ما أرى) وما هي إلا ساعة حتى كنت جالساً على المقعد في تلك الآلة

ص: 69

المحبوبة ووضعت يدي على عجلتها وأدرتها ضاغطاً نحو اليسار. فرأيت اللسان يتحرك هذه المرة إلى أعلى وقد أشار إلى أرقام أعلى من رقم 1933. وقد عراني عند دوران الالة دوار شديد لم أشعر بمثله عند تجوالي في العصور الماضية فلم أفق من الدوار حتى كان اللسان قد بلغ رقم (2000) عند ذلك أوقفت حركة العجلة ونزلت من الالة وتركتها علىجانب الطريق الذي وجدت نفسي فيه، ولم أخش أن

أتركها حيث هي وأسير إذ أني كنت على يقين من أنها في مأمن من الرقة لأني كنت كل الثقة من أنه ليس في الناس جميعاً من يملك منظاراً من معدن الآلة فيستطيع أن يرها إلا أنا والمخترع الأصلي للآلة وقد سبق لي ذكر أسمه. سرت بعد ذلك في طريق عجيبة لم تقع عيني على مثلها، فهي فسيحة لا يقل عرض أضيقها عن مائة متر. ويحف بها من جانبيها أبنية شاهقة هي أشبه بما نسمع في عصرنا الحالي في أمريكا وهو ما يسمونه (ناطحات السحاب) وكانت حركة الانتقال في تلك الطرق الفسيحة سريعة عنيفة حتى كنت أخطو الخطوة وأنا خائف أترقب، وكانت السيارات من كل نوع ومن صنوف لم أرى مثلها من قبل في عصري الذي أعيش فيه وما كان أشد عجبي عند ما رفعت رأسي إلى قمة هذه الأبنية فوجدت فوقها حركة عظيمة من طيور عظيمة تعدو وأخرى تهبط، ولكني عجبت أن تكون الطيور في مثل هذا الحجم وهي على البعد العظيم الذي بيني وبين قمم هذه الأبنية، وهمت أن أسال بعض المارين عن ذلك، ثم رأيت منطاداً طائراً يشبه ذلك المنطاد الذي آتى به (اكنر) إلى مصر في العام المنصرم في عصرنا هذا، ففكرت في نفسي قائلا: ألاتكون تلك الطيور طائرات ميكانيكية. ولم يطل بي أمد الحدس والتخمين فقد رأيت طائراً من تلك الطيور يهوي من العلو الشاهق إلى أسفل فإذا به يستوي على جانب الطريق وإذا به آدمي قد وضع على ظهره آلة ذات جناحين قد ربطها ربطاً محكماً في كتفيه وأعلى صدره. فما هبط على الأرض حتى حل الأربطة وعالج الآلة حتى أسترت على عجلتين كانتا خفيفتين ثم أدار لولباً في جانب الآلة فإذا بها تعدوا على نمط (الموتوسيكل) في عصرنا الحالي. وعند ذلك فقط عرفت كنه هذه الأسراب الطائرة فوق أعلى الأبنية. ومضيت في سيري وأنا اكثر علماً بأنني في عصر جديد وعهد غير ما عرفت في بلادي. وجعلت وأنا سائر أتلفت حولي تلفت المذهول الدهش كأنني بعض أهل الريف نزل

ص: 70

عاصمة كبرى لاول مرة في حياته، فقلت في نفسي إنني أخشى أن أنا بعدت عن موضعي ألا أستطيع العودة إليه فليست هذه المدينة القاهرة التي ولدت فيها وعشت فيها طوال السنين، بل لقد غيرها مر الدهر أي تغيير حتى صارت غير ملائمة لحواسي وأعصابي، وعولت على أن أعود إلى الآلة التي حملتني إلى ذلك العصر المجهول فأحرك عجلتها وأعود من حيث أتيت. بينا أنا أفكر في عصر غير ناظر إلى ما حولي إذا أسرع إلى شاب فاختطفني اختطافاً ودفعني إلى جانب. وما هي إلا ثانية بعد ذلك حتى رأيت طائراً من تلك الطيور الآدمية قد نزل في الموضع الذي كنت واقفاً فيه ولو لم يدفعني ذلك الشاب لكان الطائر قد هوى على وحطم رأسي. فلما أفقت من ذعري خاطبني الشاب بلهجةاللوم قائلاً:((أما ترى علامة انفتاح الطريق امامك؟)) فنظرت إلى حيث أشار بيده فوجدت إشارة حمراء وسهما مشيراً إلى أعلى فعلمت إن ذلك المكان موضع لرسو من أراد النزول من الطائرين إلى الأرض وان الناس قد اعتادوا إطاعة تلك الإشارات الحمراء وتحاشي تلك المواضيع. فاعتذرت إلى الشاب وشكرته ثم دنوت منه فسألته قائلاً: (أرجو أن تدلني على مكان محطة المترو هنا. فنظر إلى الشاب وتبسم ضاحكاً ثم قال: (لقد عرفت منذ رايتك انك لست من أهل القاهرة) فغضبت لهذا لاني لا اعتز بشيء اعتزازي باني من أبناء القاهرة الصميمين، وقلت له:(إنني منهم ومنزلي في مصر الجديدة في شارع. . .) وما كدت اكمل هذا القول حتى ضحك وقال (مصر الجديدة! حقاً إنك رجل لطيف. تعال معي إلى هذا المجلس فإنني متعب وقد سرتني دعابتك. فمن أي الأرياف جئت؟). قال هذا وسار بي نحو مقعد عام على جانب الحديقة التي في وسط الطريق. وقد أعجبني من الشاب شهامته وخفة روحة فكظمت غضبي من إصراره على إنني ريفي، وذهبت معه وأنا مسرورة لأنني ووجدت رجلاً من أهل العصر الذي دخلت فيه أكلمه واعرف منه أسرار حياة الناس في أيامه. فلما استقر بنا الجلوس قال

باسماً: (إنت إذن من مصر الجديدة؟) فقلت له متحدياً: (نعم! أنا من هناك). قال: (انيس سمعت بهذا الاسم في التاريخ في أثناء دراستي في الجامعة، ولكن مصر الجديدة اليوم اسمها حي الشركة القديمة.) فقلت - (حي الشركة القديمة؟ ولكن ما معنى هذا؟) فقال إنني كنت ادرس التاريخ الاقتصادي في جامعة حوش عيسى وهناك. . . . . .). فلم أتمالك

ص: 71

نفسي أن ضحكت هذه المرة متهكما إذ رأيت فرصة للانتقام. وقلت: (جامعة حوش عيسى؟ يالك من مداعب ماهر! ألا تعرف إنني عشت في إقليم البحيرة ورأيت حوش عيسى؟ جامعة حوش عيسى!) ثم اندفعت اضحك. فقال الشاب متعجباً من ضحكي: (لست ادري لماذا تضحك؟ نعم جامعة حوش عيسى. ألا تعجبك مدينة تعدادها اليوم فوق نصف مليون من الأنفس؟ وهل تسخر من مدينة هي مركز شركات صناعة القطن والحرير والصابون وعجلات السيارات وأجنحة الطيارات؟). فقلت له ضاحكاً: (ما أمهرك في الفكاهة يا أخي! لعلهم قد كشفوا هناك منجماً للفحم.). فقال الشاب: (منجماً للفحم؟ ولماذا؟ إن هناك اكبر مؤسسات استخدام أشعة الشمس. فهل من حاجة مع هذه المؤسسات إلى منجم للفحم؟) فأرجعت شفتي إلى نصابيهما من الجد وعلمت أن قول الشاب لا ينم عن هزل أو فكاهة. فقلت له معتذراً إذ كنت اجهل ذلك، ولكني أرجو أن تخبرني أي شعب له فضل إنشاء هذا المصانع؟). فنظر إلى متعجباً وقال:(الست مصريا؟ فقلت له مرتبكاً: (نعم أنا مصري. وكدت أخون نفسي فافصح له عن سرب حالي وحقيقة أمري ثم تدرعت بالحزم وقلت له: (ولكن أرجو العفو فقد غبت عن مصر مدة طويلة. فالحقيقة إنني انتقلت منها طفلاً ولم اعد إليها إلا اليوم، وكنت احب أن اعرف الموضع الذي كنت أعيش فيه وأنا طفل فسألتك عن محطة المترو لأذهب به إلى مصر الجديدة لذلك الغرض. فقال الشاب: (اعلم إن مصر اليوم لا يسمح فيها لشركة أجنبية ان تقوم بعمل. فهذا محرم في قانونها، ومنذ عشرات من السنين قد أفلست شركة مصر الجديدة لأنها ضاربت في بعض المشروعات الأجنبية، ومنذ أفلست استولت الدولة على مكانها وأطلقت عليه اسم حي الشركة القديمة، وهي حي متوسط بين حي (الملكة نازلي الذي نحن فيه الآن وحي ميدان الطيران الضغر الذي في الطريق المؤدي إلى مدينة السويس، ويمكنك الوصول إليه عن طريق تحت الأرض رقم 105 عن طريق السيارات رقم 50 شمال، وكنت اسمع قول الشاب وأنا في دهشة عظيمة من التغير الذي اعترى البلاد وأردت أن اعلفم علم تلك الشركات التي ذكرها الشاب في عرض حديثة عن مدينة حوش عيسى فقلت له: (ولكنك لم تقل لي لمن تلك الشركات التي تملك مصانع حوش عيسى) فقال الشاب: (هي مثل الشركات التي تملك مصانع بليسون الإسماعيلية وبور فؤاد: ومثل شركات مصانع السيارات والطيارات في أسوان. وشركات

ص: 72

استخراج الراديوم والألمنيوم وسائر المعادن في سواحل البحر الأحمر، ومشركات مصانع الفواكه والمربيات في وادي عربة الواقع في الصحراء في شرق مديريتي بني سويف والمنيا. فكلها شركات مصرية) فلم أتمالك أن اهتززت هزة قوية عندما ذكر الفتى ذلك ورفعت رأسي مباهياً كأنما هذه الشركات قائمة في عصري الحالي وكدت افخر قائلاً أنا من بني مصر هؤلاء. ولكني ذكرت أن فخر ذلك ليس لي فاني من أهل جيل لم يحن لهم أن يفاخروا بمثل هذا. ورأيت الفتى يستعد للقيام فسألته وأنا آسف لفراقه:(إلى أين؟) ولقد وددت أن أبقى معه حتى اعرف كل ما في حياة مصر في عصره من التجديد البديع، ولكنه أجاب إجابة حاسمة:(اعتذر لك لاني ذاهب لسماع خطاب رئيس شركة قناة السويس في البرلمان في موضوع هام خاص برسوم البحارة في تلك القناة) فسألته: (وكيف يكون رئيس تلك الشركة عضواً في البرلمان؟) فنظر ألي متأففاً من غبائي وقال: (ولكن لم تعجب لذلك؟ أليس مصرياً؟) فخجلت إذ عرفت إنني دائماً أنسى واخلط بين عصري وذلك العصر الجديد الذي نزلت به. ومد الفتى يده إلى

مسلماً وقال: (لعلنا نلتقي بعد!) فسلمت عليه باسماً وشكرته ولكنني لم املك نفسي أن سألته سؤالاً كان يحول بنفسي طول المدة التي جلست فيها معه فقلت: (ولكن ماذا فعل الإنجليز. ألا يزالون على عهدهم) فرفع الشاب رأسه عالياً وشمخ بأنفه وقال لي غاضباً: (حسبك أيها الرجل. ما ظننت انك تبلغ بي إلى هده الإهانة.) فقلت معتذراً: (أية اهانة؟ انني لم اقصد شيئاً من ذلك) فقال وهو يسير: (انك تذكرني بعصر مضى منذ بعيد. قضى على بلادي أن تخضع له حيناً من الدهر أيام كان أهلها فيهم رخاوة وضعف، ولكن ماذا يدخل الإنجليز اليوم في أمورنا ولهم من أمورهم في بلادهم ما يملأ دائرة اهتمامهم؟) قال هذا وسار مسرعاً وتركني وحدي لا املك رأسي ما بها من الدوار. فوضعت منظاري على يميني وجعلت بنظري حتى رأيت الآلة حيث تركتها وأسرعت إليها فأدرتها وعدت إلى عصري ورأيت المناظر التي أعدتها منذ عشت، وعدت إلى منزلي فقضيت ليلة مسهدة بين آمال وهموم. وقد زارني أصدقائي في اليوم التالي فقال لي توفيق:(لعلك رأيت في العصور الآتية ما يذهب عنك الم الحاضر) فقلت: (لن تراني بعد اليوم مقطب الجبين. سوف أسعى بقدر طاقتي لعلي أكون موفور النصيب من بناءس ذلك المجد المقدور. ثم حكيت له قصة

ص: 73

ما رأيت وقلت له: (ليحمل كل منا أمانته إلى أبناء الجيل الذي بعده. فهذا مجد محتوم. هذا أمل محقق ان شاء الله)

ص: 74

‌هاكم قبعة أخرى

تأليف لويجي براندللوا

وترجمة الدكتور محمد عوض محمد.

(ولد لويجي بيراندللو في 28 يونيو سنة 1867، في إحدى القرى بجزيرة صقلية ودرس في روما وفي ألمانيا، ثم عاد إلى روما واحترف أولا مهنة التدريس، وانصرف في جهوده الأدبية أولاً إلى الشعر، ثم إلى التأليف القصصي: ثم المسرحي وقد سلك في بادئ الأمر مسلك جيوفاني فرجا الروائي الصقلي الشهير. فكان يتخذ من قصصه وسيلة لوصف أهل صقلية ومعيشتهم وطباعهم: لكنه ما لبث أن ظهر أسلوبه الخاص. في رواية الشيوخ والشاب وفي قصة المرحوم ماتيا باسكال. واكبر ما يعاب على بيراندللو تغلب العقل على العاطفة في مؤلفاته ونظره إلى الأشياء على غير حقيقتها. وإغراقه في التحليل وتشاؤمه. ولكن براعته ومقدرته كانت موضع إعجاب شديد في جميع أوروبا. وقد ترجمت قصصه وتأليفه المسرحية إلى 15 لغة. ومثلت قطعته المسرحية باللغة الإيطالية في إنكلترا وفرنسا وسويسرة وفي ألمانيا فقوبلت بحماس شديد. وكان المؤلف نفسه يشرف على إخراجها.) بعد أن قضى دييجو برونو ساعات طوالاً يتمشى، بلا قصد ولا مأرب، على ضفاف نهر التيبر، في ذلك الحي الهادئ المسمى براتي دي كابتللي في مسيرة جدران الثكنات، ومبتعداً قدر جهده على ضوء المصابيح، أحس فجأة أن التعب قد نال منع فتوقف هنيهة تحت ظل شجرة، ثم صعد البرابي المطلة على النهر. . وهناك جاس موليا وجهه تلقاء النهر، ومدلياً رجليه من فوق السور. ومن تحته الماء يتدافع في جريانه بصوت مبهم غامض، وقد انعكست على صفحته القاتمة أضواء مرتعدة مضطربة أرسلتها مصابيح الضفة المقابلة وشمل السكون المكان، فلم يكن ينبعث من المنازل المقابلة صوت، ومن وراء تلك المنازل، على

بعد شاسع كان يبدو شبح مدينة روما. وفي السماء قطار يتدافع من السحب الصغيرة، ذات اللون الرمادي الشاحب. وكإنما كانت تهرول مسرعة، لكي تلبي دعوة داع قد أهاب بها من المشرق إلى اجتماع غامض عجيب، وقد اشرف القمر من فوقها كأنه يستعرضها وهي تمر سراعاً بين يديه. جلس الفتى من غير حراك، وقد ولى وجهه شطر السماء، محدقاً في تلك

ص: 75

السحب. التي استطاعت بجريانها السريع أن تكسب الليلة المقمرة نشالها وحركة. لا شك أن هذا أحد الناس. قد وقف ليرقب مثله منظر الليل ولكي يتأمل في تلك السحائب وهي تمضي سراعاً، وإلى القمر في السماء إذ يستعرضها، وإلى تلك المياه المظلمة القاتمة، وما انعكس عليها من شعاع مرتعد مضطرب. ثم تنهد تنهد الحزين، فان إحساسه وجود رجل آخر ضايقه، وافسد عليه تلك اللذة الحزينة التي يبعثها شعوره بالوحدة، ومن حسن الطالع انه كان يجلس في الظلام، فعسى القادم ألا يراه، والتفت لكي يستوثق من الأمر. وجعل يحدق في هذا الغريب. يا عجباً! ما خطب هذا الرجل وقد وقف جامداً فريداً وحيداً؟ ثم ما هذا الشيء الذي بيده كأنه حقيبة صغيرة؟ لا ليست هذه حقيبة. بل قبعة. . . وبعد فماذا عساه أن يفعل؟ رباه! انه يصعد السور. . أتراه يريد أن يرتكب. . ويلاه. . ما هذا؟ وتراجع دييجو بغريزته إلى الوراء، مغمضاً عينيه، حابساً نفسه، وماداً يده إلى الأمام كأنما يدفع شراً، وهو يتوقع سماع صوت ذلك السقوط المروع في الماء الذي تحته. حادث انتحار. . . يا عجباً. . كيف يجوز مثل ذلك؟ ثم فتح عينيه، وجعل يحدق في الماء تحديقاً شديداً وهو يحاول أن يخترق ببصره أعماقه السوداء. فلم تقع عيناه على شيء. . . الصمت شامل والهدوء باسط جناحيه. . لا صياح ولا نداه ولا صوت. فيا عجباً! ألم يره أحد، ولم يسمع صوته إنسان؟ هنالك تحت لجج النهر رجل يغرق، ولعله الآن يكافح في يأس وفي جهد. . . كل هذا يجري وهو جالس في مكانه مرتعداً عاجزاً خائراً!. . . أما يحمل به أن يبادر فيطلب النجدة! أو يصيح بأعلى صوته ولكن هيهات. . لم يعد يجدي الصياح والاستنجاد! لقد رضي أن يبقى مختبئاً في مكانه المظلم، تاركاً ذلك المسكين يغرق!. . جمد في مكانه كالصخرة الصماء، حابساً نفسه، سائلاً نفسه من آن إلى آن: أحقا قضي الأمر. . قضي الأمر؟ وبعد حين جعل ينظر فيما حوله. . لعل الأمر كله حلم رآه! إن كل شيء باق كما هو لم يتغير: المدينة راقدة تحرسها المصابيح، وسط سكون عميق كما كانت من قبل، والأضواء ترتعد على صفحة الماء القاتمة بأشعة ثعبانية ملتوية. . لم يتغير في هذا المنظر كله سوى شيء واحد: فلقد كان على عمود مصباح من المصابيح قبعة الرجل بقيت هناك حيث تركها، وكان المصباح يرسل عليها شعاعاً شاحباً مشؤوماً. . وكانإليه أن تلك القبعة تؤنبه وتتهمه. . فأخذ يرتعد فرقاً. ثم نزل مسرعاً من فوق البرابي،

ص: 76

وجعل يعدو ومنزله مستتراً بظلام الليل. (دييجو! دييجو! ما خطبك؟)(لا شيء يا أم! وما عساه أن يكون خطبي؟)(لست ادري أيها العزيز. . . غير أني. . . حسبتك. . . لقد جئت متأخراً الليلة فهل أهيئ لك حجرتك الآن؟) فالتفت الفتى إلى أمه مغضباً، وقال: يا عجباً لك! انك! تسألينني هذا السؤال كل ليلة من ليالي عمري!) وكان هذا الرد كأنه سوط يستحثها، فاندفعت العجوز الصغيرة الجسم نحو الحجرة وهي تجر إحدى رجليها. اتبعها الفتى نظرات قد امتزج فيها الغيظ والكمد ورآها وهي تختفي آخر الدهليز، فتنفس الصعداء إشفاقا عليها، ثم لم يلبث أن عاود الضجر والكمد. وقد بقي ينتظرها - دون أن يعرف للانتظار سبباً، ولا ماذا عساه أن ينتظره - في هذه الحجرة المظلمة، ذات السقف القذر والجدران الممزقة الورق، التي اتخذتها الأم لصناعة الثياب حجرة صغيرة كئيبة قد غصت برخيص الأثاث، وبعدد الحياكة المختلفة: آلة للخياطة، مقص مستطيل، تماثيل سخيفة ذات صدور ضخمة، شريط مقاس، قطعة من الطباشير، أكداس من صور الأزياء ذات الابتسامة الكالحة. . . وكلها أشياء قد ألف دييجو رؤيتها فلم تعد تستلفت نظره. لقد عاد إلى منزله، يحمل

في رأسه صورة كأنها منظر شاهدة في مسرح، صورة تلك السماء العجيبة، تغشاها السحائب الصغيرة الخفيفة. ومنظر النهر القاتم، قد انعكست في صفحته أضواء المصابيح والمنازل العالية على الضفة المقابلة، وذلك الشبح البعيد لمدينة روما، وذلك الجسر الممدود. . ثم تلك الأقنعة! كانت أمامه صور كل تلك الأشياء الجامدة، حاضرة لكنها غائبة. وكذلك هو. . لقد كان حاضراً غائباً. جلس في مكانه المظلم يرقب الرجل وهو يغرق. . فكأنه لم يكن هناك، وكأنه كان غائباً، فلم يحرك ساكناً، ولم يفتح فمه، ولم يستنجد. والآن قد رجع إلى داره وقد ملكته الحيرة، واستولى عليه الذهول، كأنما كان ما سمعه ورآه لم يكن سوى حلم نائم. . لم يلبث أن رآى قطة كبيرة، ذات فروة رمادية ناعمة. وثبت فوق المائدة، وجعلت تنظر إليه بعينين خضراوين خاليتين من كل معنى، هذه قطة الدار، اتخذوها لصيد الجرذان. غير أنها منذ أيام انتزعت من الجدار قفصاً به عصفور جميل. . ثم لم تزل تحتال دائبة، تدفعها القسوة والنهم، حتى استطاعت أن تخرج العصفور من بين القضبان. ثم التهمته. وقد حزنت أمه لهذا حزناً شديداً. . بل انه هو أيضا قد آلمه أن يفترس ذلك

ص: 77

العصفور المسكين على هذه الصورة، أما القطة، فهل تأثرت أو أحست ندماً على ما ارتكبت؟ كلا! بل ها هي ذي جالسة في سكون وطمأنينة، كأن لم تقترف ذنباً ولئن رفعها بعنف على المائدة فإنها لن تعرف لهذا الاضطهاد سبباً. عجباً ألا يستطيع هو أن يكون مثلها؟ إلا يمكنه أن يقترف الإثم كما فعلت هذه الهرة، ثم ينسى كل شيء بعد ارتكاب الجريمة بلحظة؟ إن الآفة الكبرى التي تستحقه وتعنيه هي انه يتذكر. . يتذكر أبدا ويعلم أن الناس سيذكرون أبدا. لكنه يخيل إليه انه في هذه الليلة يرى الأمور في ضوء جديد. . مثلاً: نظرته إلى أمه. . . انه لم ينظر إليها الليلة كأنها أم. . . بل امرأة عجوز كأمثالها من النساء. . . ذات جسم ضخم وانف غليظ قد اعوج قليلاً أحد جانبيه. ولها شامة كبيرة في قاعدة منخرها الأيسر، وخداها الشاحبان تغشاهما خطوط زرقاء من الأوردة الدقيقة. وقد تدلى كل خد في ترهل وضعف. . . وقد جعلت تنظر إليه بعينين متعبتين خائرتين. وحين حدق في وجهها أطرقت بعينها، وقد ملأها الخجل والعار. . . ولكن مم تخجل الأم؟ لقد كان يعرف جد المعرفة سر هذه الخجل، وهذا الشعور بالعار. وأخيراً ضحك ضحكة الساخر. وقال ((عمتي مساءً أماه!)) وانطلق إلى حجرته، واغلق بابها.

جلست الأم إلى مائدة الحياكة، لكي تتم خياطة ثوب، ستحضر صاحبته في طلبه في الصباح. لكنها لم تجلس لتتم عملها فحسب، بل لكي تفكر قليلاً. . . ماذا عساه قد جرى لفتاها الليلة؟ طالت غيبته ولم يرجع إلا متأخراً. وكانت تغشاه رعدة. ووجهه شاحب كأنه خرقة بيضاء. . . وليس الشراب سبب هذا الاضطراب. إنها لم تنشق من فمه رائحة الخمر وليس دييجو من الشاربين. ومع ذلك، فليس من شك في انه قد ألم به اليوم حادث. أتراه قد التقى من جديد بأولئك الرفقاء الأشرار. الذين كانت صحبتهم وبالاً عليها ودماراً. ذلك ما كانت تخشاه:: نهضت من كرسيها، ومشت على أطراف قدميها حتى وصلت إلى باب حجرته. وأنصتت، فلم تسمع صوتاً لعله إذن قد آوى إلى فراشه وقد غشيه النعاس. . عادت إلى حجرتها. وأخذت تجد في إتمام عملها. كانت من آن لآن تنزع المنظار عن عينيها وتمسحه. لقد كانت من قبل وليس لها مورد رزق سوى ما كانت تمنحه من معاش كإحدى الأرامل. وكانت تجد في هذا كفايتها. أما الآن وقد فقد دييجو منصبه وأضحى بلا عمل. فقد اضطرت إلى السعي والاكتساب. وفوق هذا قد خطرت لها فكرة: وهي أنها

ص: 78

تستطيع بفضل جدها واقتصادها أن تجمع من المال ما يكفي لإرسال دييجو إلى أمريكا. إذ لا بد للفتى من فرصة كي ينشد حظه من جديد. أما ها هنا في إيطاليا فقد سدت في وجهه السبل، وهذه البطالة التي اكره عليها إكراهاً توشك أن تأكل روحه وتقضي عليها. أمريكا إذن.

إن أمريكا هي وحدها المكان الصالح له، فلا بد من إرساله إلى أمريكا ولو كان في هذا موتها وفناؤها. لا بد أن يفتح لولدها باب الحظ. . . ولدها هي. . . ذلك الفتى الكريم. . لله ما أطيبه! وما أجمله، بل وما أقدره وما أذكاه! ألم يكن من قبل قادراً على الكتابة والتحرير. حتى لقد نشرت له الصحف بعض ما كتب؟ ثم ما جرمه الذي اجترم، وما ذنبه الذي اقترف؟ لم يكن الأمر سوى ضرب من عبث الشباب، والذنب فيه راجع إلى لأولئك الرفقاء الأشرار، وإلى ذلك الروسي أو البولندي، أيا كان وأيا كانت جنسيته. . ذلك الأجنبي القذر، ذلك السكير المهين، الذي جاء إلى روما لكي يسوق أبناء الأسر الشريفة المبجلة إلى الدمار والعار، فوا أسفاه على أولئك الفتيان البله، كيف ضاع رشادهم، وضلوا عن طريق الصواب، إذ دعاهم ذلك الأجنبي الكثير المال إلى منزله، فطاشت أحلامهم ما بين كؤوس الخمر والنساء وضروب اللهو. . ويصل ذلك الروسي المقامر على أن يأتي بالورق ويلح عليهم أن يلاعبوه، اجل كان يلح عليهم إلحاحا. ولئن كان قد خسر نقوده. فذلك جزاؤه على إصراره وعناده. لكنه بعد هذا يذهب ويا للعار! فيتهم أصدقاؤه بالغش والتزوير. ثم يسعى في مقاضاتهم لكي يجلب إليهم الدمار مدى الدهر. . سمعت الأم صوتاً كأنه صوت بكاء مكتوم ينبعث من حجرة ابنها، فنادته:(دييجو!) فلم يرد جواباً. أنصتت مرة أخرى، وألصقت إذنها بالباب، انه مستيقظ، فما عساه يصنع الآن. انحنت ونظرت من ثقب المفتاح. . رحماك اللهم! انه يقرأ. . عاد إلى مطالعة تلك الصحف الكريهة التي اشتملت على تفاصيل المحاكمة، فلماذا. . لماذا يريد أن يعود إلى قراءتها. . وفي هذه الساعة من الليل؟ ونادته بصوت عال:(دييجو!) ثم فتحت الباب فالتفت أليها، وهو يثب فزعاً. وقال:(ما الخطب يا أم، ما بالك لم تأوي إلى فراشك!) قالت: (وأنت، ما بالك لم ترقد في فراشك بعد؟) فتكلف الابتسام وجعل يمد ذراعيه. (أنا؟ إني أتسلى قليلاً) فقالت العجوز وهي تعصر يديها عصراً: (دييجو! دييجو! احرق هذه الأوراق! استحلفك أن تحرقها. . لماذا تريد أن

ص: 79

تؤذي نفسك؟ ماذا يجديك هذا كله؟ انس ذلك الحادث تماماً!) فنظر إليها وهو يضحك. (شيء بديع!. . كأني إذا نسيت ذلك الحادث فقد ينساه الناس جميعاً! ما أبدع هذا! وما أسهلها وسيلة! ننسى الحادث كلنا في لمحة الطرف! ثم نتساءل هل حدث شيء؟ لا. . . لا. . . لا شيء مطلقاً. . . السجن! كلا لم يكن هنالك سجن. بل كان ما في الأمر أني سافرت. . . في إجازة خارج القطر. . . إجازة بديعة دامت ثلاث سنين) ثم قال مغيراً لهجته: (يا أماه! هذا عبث لا طائل تحته. فلنتكلم في موضوع آخر. ألا ترين أني قد قضى على القضاء المبرم؟ ألا ترين كيف تنظرين - حتى أنت - إلى؟)(لا يا دييجو. . . لا. . . انك على خطأ وكل ما هنالك أيها العزيز إني كنت انظر. . . اجل كنت انظر. . . إلى ثيابك. . . فقد باتت رثة. لا بد لك الآن من بذلة جديدة.) فنظر إلى ثيابه نظرة فحص وتحقيق. ثم ضحك وقال: (إذاً أنت تظنين أن هذا هو السر في تحديق الناس بي كلما رأوني! لست أنكر أن ثيابي قد امتدت إليها يد البلى قليلاً، ولكن هذا القدر القليل ليس بشيء ذي خطر وأنا شديد الحرص عليها. البسها في عناية، وامسحها واكويها. والحقيقة أن مظهري حين البسها لا بأس به مطلقاً. فهو مظهر الرجل الفاضل، الذي يستطيع أن يتخذ مكانه في العالم على غير استحياء ولا خجل. . . فدعى هذا الكلام! فليس ورتءه من طائل!. . أماه ألا ترين انه قد قضى على القضاء الأخير) ثم أشار إلى الأوراق التي بين يديه: (أن البلاء كل البلاء، هنا، في هذه الأوراق وحقيقة الأمر أننا اطلعنا الجماهير على لعبة ورواية مدهشة. فهل تحسبين انهم ينسونها بكل هذه السرعة؟ لا أظنهم جاحدين بهذا القدر. . . ويا لها من رواية تلك التي أريناهم. . . رواية تتمثل فيها الأرواح عارية دنيئة ملوثة، وهي تحاول أن تختفي عن الأنظار، يوم كان كل منا يجذب رداء المحامي الذي يدافع عنه لكي يستر به عاره، اجل كانت رواية مدهشة رائعة. أتتذكرين كيف ارعد الناس ضاحكين في

ساحة القضاء حينما سمعوا ما فعلناه بذلك الروسي يوم أن ألبسناه الزي الروماني القديم وألبسناه الخفين، على ما له من انف افطس ووجه منقط، ورأس مستدير، ومنظار ذهبي، ثم جعلنا ندفع ذلك الخنزير السمين دفعاً، ونضرب رأسه بخفيه وكلما أوسعناه ضرباً ازداد طرباً. لأنه قد اخذ من السكر) (دييجو! استحلفك!)(اجل كان سكراناً، ونحن الذين أسكرناه.)(لا. لا. لم تكن أنت الذي فعل هذا، بل الآخرون. . .) (وأنا أيضا. . . أتعلمين

ص: 80

يا أماه أن هذا كان كله من سبيل المزاج. لقد كنا نعبث به ونمزح. ثم تناولنا الورق لنلعب، وكان من السهل أن نربح. والرجل قد ذهبت بعقله الخمر.) (دييجو! استحلفك!)(قلت لك إننا كنا نمزح، هذا وحقك يا أماه، هو الصدق الذي لا مرية فيه، ولكني حين ذكرت هذا في دار القضاء ضج الناس بالضحك، اجل حتى القاضي. . بل لقد كان هو أشدهم ضحكاً. . ضحك الجميع من قولي هذا. . الجميع. . حتى رجال الشرطة. ومع ذلك فقد كان هذا هو الحق. فلقد كنا نرتكب الغش، ونحن لا ندري. أو إذا كنا ندري فما كنا نرى أنفسنا إلا مازحين وهل كانت سوى أموال رجل قذر معتوه، وكانت تنصب من جيبه انصباباً، كما انصبت من جيوبنا فيما بعد. حيث كنا نبذرها تبذيراً في بلاهة وجنون، حتى لم يبقى لدين منها درهم واحد.) ثم التفت إلى خزانة الكتب واخرج منها كتاباً. (هذا كل ما بقي لي من تلك الأموال. فقد مررت يوماً ببائع كتب واشتريت منه هذا الكتاب.) ثم التقى بالكتاب على المائدةفإذا هو ترجمة فرنسية لكتاب جون رسكن المعروف (تاج من أغصان الزيتون). وجعل يحدق في السفر مطبقاً حاجبيه. عجباً كيف خطر له في تلك الأيام أن يشتري هذا الكتاب؟ لقد اعتزم إلا يعود إلى المطالعة، وإلا يخط حرفاً أبدا. وما دعي إلى الذهاب لذلك الروسي سوى عزمه على أن يخمد جذوته، وان يقتل في نفسه حلماً كان يملؤها: حلما بأنه سيغدو يوماً كاتباً ومؤلفاً. ذلك كان حلم شبابه. ولكن الفقر الأليم الذي نزل بأسرته جعل تحقيق هذا الحلم أمرا محالاً. ولهذا صح عزمه على أن يقتله قتلاً. وقفت العجوز تتأمل هي أيضاً ذلك الكتاب الغريب، وبعد لحظة قالت في شيء من التردد:(أترى يا دييجو. . . لو انك عاودت الكتابة) فنظر إليها نظرة كريهة كئيبة، انقلبت لها سحنته وشاهت صورته. لكنها عادت إلى الكلام وقالت:(ماذا يضرك أن تحاول؟ ماذا يدعوك إلى اليأس، وأنت بعد فتى لم تتجاوز السادسة والعشرين ومن يدري لعل لك في الحياة حظاً جديداً ننسى به ما قد مضى. .) فقاطعها، وهو يخاطبها في سخرية وتهكم:(نعم حظ جديد ما اكثر الحظوظ الجديدة اجل ولعمرك لقد أصبت الليلة حظاً جديداً. فلقد شاهدت بعيني رأسي رجلاً يلقي بنفسه في النهر. وجلست في مكاني أراقبه دون أن أحرك ساكناً.)(ماذا تقول يا دييجو؟ أأنت شهدت حادث انتحار الليلة؟) (اجل أنا شاهدت رجلاً ألقى بقبعته على البرابي. ثم صعد وألقى بنفسه في النهر في هدوء وسكون وجلست أنا في موضعي، منصتاً لصوت

ص: 81

سقوطه في الماء، وكنت على بضع خطوات منه، جالساً في ظل شجرة، وكان كل ما فعلته أن جلست في مكاني وتركته يغرق. اجل ذلك كل ما فعلت ثم استولي على الذعر فجأة، حين أبصرت قبعته التي تركها خلفه. فلذت بالفرار) (أنت تعلم يا عزيزي انك لا تعرف السباحة. فاني لك أن تقوم بمساعدته وإنقاذه؟) كان في وسعي أن أصيح واستنجد. أو على الأقل أحاول إنقاذه. فقد كان إلى جانبي درجات من الحجر نازلة إلى النهر، لم يكن بيني وبينها غير مترين. أتعلمين إني رأيت هذه الدرجات. اجل رأيتها في وضوح ومجلاء. . ولكني تجاهلت رؤيتها. ثم لم تك إلا لحظة حتى قضي الأمر وغاب عن الإبصار) (ألم يكن بالمكان أحد سواك؟)(كلا لم يكن بالمكان غيري) (لا بأس عليك يا دييجو وماذا عساك أن تصنع وحدك. فلا تبتئس انك متعب منهوك القوى. ولقد هذا كل ما هنا لك ولقد أخذت ترتعد لسهول ما رأيته الليلة. والآن فلتذهب

إلى فراشك ونم لكي تنسى كل شيء) وتناولت يده في شيء من التردد وجعلت تمسحها بكفها. وأجابها على كلامها بهزة رأسه. وقال لها وهو يبتسم (عمتي مساءً يا أماه!)

(نم هانئأً يا بني!) لقد اثر في نفسها انه سمح لها بان تمسك يده وتمر عليها بكفها مراراً. وجعلت تمسح عينها من خلف مناظرها. ثم أطفأت المصابيح وذهبت إلى فراشها وهي تفكر في تلك اللحظة التي سمح لها فيها أن تلاطفه تلك الملاطفة. لم تمض ساعة حتى كان دييجو برنر في مجلسه الأول على البرابي، في ظل تلك الشجرة. وقد جلس كما كان يجلس من قبل ناظراً إلى النهر، ومدلياً رجليه. وكانت السحائب لم تزل تغشى السماء في لونها الرمادي الشاحب وكأن لم يتغير شيء مطلقاً. . بل لقد تغير شيء واحد: فان القبعة قد اختفت. واكبر الظن أن أحد رجال الشرطة قد رآها في تجواله فأخذها. نزل دييجو فجأة عن البرابي ومشى نحو الجسر. ثم انتزع قبعته عن رأسه. ووضعها في نفس المكان حيث كانت قبعة ذلك الرجل الغريب. ثم تبسم وقال: (وهاكم قبعة أخرى!) وكأنه ما فعل هذا لا ليمزح؛ كأنما أراد أن يمازح رجال الشرطة. وعاد إلى مكانه في ظل الشجرة. وجلس برهة يتأمل القبعة، معجباً بمنظرها وكأنه لم يكن له وجود. . ثم اندفع فجأة يضحك ضحكاً عالياً وحشياً. لقد بدت له القبعة كأنها فأر، وكإنما هو قطة ترقبها. . وجعل يتدلى من البرابي شيئاً فشيئاً. . ملقياً بنفسه إلى النهر على مهل. وقد امسك الحاجز الحجري بقبضتيه. فأحس

ص: 82

بقلبه يثب وشعر رأسه يقف، ثم أحس بقبضتيه. . وقد أخذتا في الارتخاء. وانفرجت أصابعه؛ فهوى من النهر. . إلى الفناء. .؟

ص: 83

‌الكتب

جان دارك

في سبيل الوطن

تأليف الأستاذ غانم محمد

هذا كتاب ألفه الأستاذ غانم محمد فاخرج به للناس درة من اثمن ما تحوي لجة التاريخ من درر، ونشر صفحة من اسطع ما طوى الدهر من صفحات. وهو بهذا الكتاب قد أذاع في الناس مثلاً أعلى للتضحية والفداء، ونموذجاً ساميا للوطنية المشتعلة الصادقة ممثلة في جان دارك، التي ارتفعت إلى مستوى القديسين وأولياء الله الصالحين. وما قولك في فتاة ريفية ساذجة لم تتجاوز من عمرها ثماني عشرة سنة قضتها في العمل المنزلي ورعي الغنم، تتصدى لإنقاذ الوطن من الاستعمار الإنجليزي الذي انشب أظافره في الأعناق ولم تكن لتزحزحه جحافل الجيوش. وكأنما أرادت عناية الله تبعث بهل لتخليص وطنها، فبينما هي جالسة في يوم من أيام الصيف في ظل دوحة ترعى غنمها. إذا بأوراق الشجر تهتز والأطيار تطلق أغاريدها عالية في الفضاء، فانتبهت جان من إطراقها ورفعت رأسها نحو الشجرة وأغصانها التي اهتزت فجأة. فشعرت برعدة تمشى في جسمها طولاً وعرضاً، ورأت السماء تنشق عن نور ساطع ينبعث من بينه هاتف يناديها ويردد اسمها ويقول لها في وضوح:(جان! جان! لا تخافي، كوني ابنة طيبة، فسوف تذهبين لنجدة ملك فرنسا) فتقدمت جان في ذهول نحو الصوت، فرأت أن التي تخاطبها هي القديسة كاترين وان التي بجوارها هي القديسة مرغريت، فانتفضت جان وتولد فيها شعور غامض من طرب وذعر، واعتزمت من فورها إنجاز ما تطلبه السماء، فالتمست حاكم

المنطقة تطلب إليه أن يرسلها إلى مليكها لكي تعينه بإذن الله فسخر منها هذا الحاكم ما وسعته السخرية، ولكنها أخذت تطلب وتلح في الطلب لآن أصواتها السماوية أمرتها بذلك وليس لها عن طاعتها مجيد، وما هي إلا أن أرسلها لحاكم في حرس عسكري إلى حيث ولي العهد - وقد مكر به الإنجليز وأقصوه على العرش بحجة عدم شرعيته لضم فرنسا إلى إنجلترا - فلم تكد تظفر جان بالمثول بين يدي الدوفين (ولي العهد) حتى أعلنت رسالتها التي تلقتها من القديسين الاظهار، والتي لم تزل الأصوات المقدسة تأمرها بها كل

ص: 84

يوم وتلح عليها في النهوض بأعبائها، وهي أن ترفع حصار الإنجليز وتتوج ولي العهد ملكاً على فرنسا. فتشكك الملك في أمرها بادئ الأمر، وأرسلها إلى جماعة من العلماء، أخذت تناقشها وتحاورها ثلاثة أسابيع كاملة. ثم أصدرت الحكم الآتي (لقد تحققنا وبهذا نعلن، أن جان دارك المعروفة باسم العذراء مؤمنة صادقة الإيمان وكاثوليكية سليمة العقيدة، ولا شيء في شخصها أو لفظها يخالف الدين، وواجب الملك أن يتقبل ما تعرضه عليه من المساعدة، لأنه إذا رفض معونتها حرم نفسه معونة الله). فلم يسع الملك بعدئذ إلا أن يعين جان دارك قائداً عاماً للجيش الفرنسي!! جمعت جان فلول الجيش الهزيم، ونفخت فيه روحاً جديداً يشتعل جرأة وحماسة، وأخذت - وهي الفتاة الصغيرة الساذجة - تقود الجند من نصر إلى نصر، حتى أجلت الإنجليز، وردتهم أذلاء بعد عزة، ومهدت الطريق لتتويج ولي العهد شارل السابع ملكاً على فرنسا. وقد بذلت في هذه السبيل مجهود الجبابرة، وتعرضت لأخطر المواقف، حتى إنها في أثناء الهجوم على حصن (لي توريل) جرحت جرحاً بليغاً بين كفها ورقبتها، وسال منها دم غزير فوقعت على الأرض تبكي بكاءً مراً، وانتهز الإنجليز فرصة إصابتها وتجمعوا حولها قاصدين تمزيقها إرباً إربا، ولكن الفرنسيين قاوموهم وصمدوا لهم، ويقول مارك توين:(دار القتال حولها على أيهم يستولي عليها - وفي الواقع على فرنسا - لان جان في أثناء تلك الدقائق القليلة، كانت هي فرنسا للطرفين، فمن استولى عليها فقد استولى على فرنسا إلى الأبد، وكانت تلك الدقائق العشر هي أهم الدقائق التي دقتها الساعة في تاريخ فرنسا كله في الماضي وفي المستقبل. . .) أنجزت جان دارك رسالتها التي أمرتها بها أصواتها المقدسة، وهي تتويج الملك، وكان لها أن تعود إلى قريتها، ولكن نفسها الكبيرة لم تهدأ، وأصرت على أن تجاهد حتى تظهر أرض الوطن من كل إنجليزي! وبينما هي في جهادها على رأس شرذمة من أنصارها، تمكن منها أحد الأعداء. وكان فرنسياً موالياً للإنجليز، فجذبها من فوق جوادها وألقي بها على الأرض، وبذلك وقع ذلك الملاك الطاهر في الأسر، فسيقت جان إلى السجن، وما هي إلا أن اشتراها الإنجليز من أسرها بالمال، اشتروها بعشرة آلاف من الجنيهات، لينتقموا منها شر انتقام. وبعد أن قضت في سجنها مدة تجلجل في أصفاده، حيث شدت بسلسلة غليظة من الحديد إلى كتلة خشبية، يحرسها خمسة من الجند الأشداء، لا ينون عن توجيه الألفاظ القاسية

ص: 85

والعبارات المخجلة، وهي أمامهم مطروحة ترسف في أغلالها، قدمت بعد ذلك إلى المحاكمة بتهمة السحر والشعوذة والكفر، واستولت المحكمة على مقاعدها - وكانت مؤلفة من ستين عضواً ونيفاً، كلهم من فطاحل العلماء - فاخذ هؤلاء الدهاة يقدحون أذهانهم في نصب الشباك لتلك الفتاة الطاهرة، وهي تصمد لهم، وتفحمهم، ولكن عبثاً حاولت، فلا بد من اتهامها. وبعد مؤامرات وتدبير حكم عليها بالإعدام حرقاً لأنها ضالة كافرة!! صعدت جان منصة الإعدام بخطى ثابتة، وشد الجلاد وثاقها ثم أشعل النار في الوقود المعد حولها، واخذ الدخان يتصاعد، ولما لفحتها السنة السعير صرخت من أعماقها قائلة:(لست ضالة ولا كافرة! وان ما تلقيته من الوحي كان من عند الله) ولما بدأت النار ترعى جسدها أخذت تصيح: (عيسى! عيسى! مريم! مريم!) وصارت تردد هذه الألفاظ حتى تدلى رأسها وفاض روحها. هذه قصة جان دارك مبتورة مدهوشه، وقد وفق الأستاذ غانم محمد في إبرازها وتصويرها توفيقاً بلغ حد الكمال. فليس هذا الكتاب واحد من الكتب، يتلى ثم يطوى وكأنه لم يكن، كلا! إنما هو فيض من الشعور القوي النبيل سيغمرك ويحتويك حين قراءته، وسيطبعك بطابع هيهات أن يزول أثره ما بقيت على الدهر إنساناً. اشهد أنني قضيت في هذا الكتاب ساعات كانت من أمتع ما جادت به الأيام، فاقل ما نتوجه به إلى الأستاذ المؤلف هو تهنئة تنبعث من الصميم.

1

ص: 86