الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 210
- بتاريخ: 12 - 07 - 1937
مصطفى لطفي المنفلوطي
بمناسبة ذكراه الثالثة عشر
كان في مستهل هذا العصر نفر من الأيفاع الخلصاء ينتقلون بين حلق الأزهر كما تنتقل النحل بين قطع الروض، لا يتشممون غير الزهر، ولا يتذوقون إلا الرحيق؛ وكانوا كالفراش رقاق الجسوم خفاف الأجنحة يتهافتون على أضواء النوابغ المعاصرين أينما تشع؛ وكانت الومضات الروحية الأخيرة للبارودي واليازجي ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى كامل والشنقيطي قد التمعت إلتماعة الموت لتنطفئ كلها متعاقبة في العقد الأول من عقود هذا القرن، فهيأت الأنفس والأذواق إلى أدب جديد كنا نفتقده فلا نجده؛ وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وأمريكا قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنونا من القول وضروبا من الفن لا نعرفها في أدب العرب؛ ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها كما أجمنا أساليب المقامات من الألفاظ المسرودة والجمل الجوف والصناعة السمجة والمعاني الغثة
وحينئذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه (المؤيد) إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النغم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ وسجعات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة وركاكة الترجمة، فأقبلوا عليه إقبال الهيم على المورد الوحيد العذب.
وكان هذا النفر من الأيفاع المتأدبين يجلسون في أصائل أيامهم الغريرة أمام (الرواق العباسي) يتقارضون الأشعار، ويلهون بإغفال الناس، ويترقبون (مؤيد) الخميس ليقرءوا مقال المنفلوطي خماس وسداس وسباع، وطه مرهف أذنيه، ومحمود مسبل عينيه، وفلان مأخوذ بروعة الأسلوب فلا ينبس ولا يطرف. وكلهم يودون لو يعقدون أسبابهم بهذا المنفلوطي الذي اصطفاه الله لرسالة هذا الأدب البكر، وجعله الأمام المفتي تلميذه المختار؛ ولكن المنفلوطي كان في ذلك العهد الذي قرأناه فيه قد جاوز الثلاثين، فهو قليل الإلمام بالأزهر، لا يجلس إلى شيخ ولا يأوي إلى رواق؛ وكان قد هيأ نفسه ليكون كاتباً لا (عالماً) فلم يجعل همه لامتحان، ولم يشغل ذرعه بشهادة.
وبعد سنتين نشر مختار ما دبج من فصوله في المؤيد في كتاب عنونه بالنظرات، وكان قد
حكم على الشيخ عبد العزيز شاويش في مقاله: (طبقات الكتاب) حكماً شديداً ورطه فيه على ما أظن صلته بالمؤيد وبالمغفور له سعد باشا، والشيخ شاويش يومئذ محرر اللواء، بعد مصطفى باشا كامل، ولطه به اتصال، فحرضه على أن ينقد (النظرات) فنقدها ذلك النقد الغاضب الصاخب في ثلاثين مقالة ونيفا لم تدع سبيلاً إلى التعارف بيننا وبينه
ثم زاولت التعليم فكنت أستعيد قراءة المنفلوطي مقسما بين أقلام الطلبة. وفي سنة 1920 ترجمت (آلام فرتر) وكان صاحب العبرات يومئذ قد بلغ الغاية في الشهرة والأدب، فرغب في أن يراني؛ وكان لنا صديق مشترك فجمع بيننا في داره؛ ورأيت المنفلوطي لأول مرة فرأيت رجلا مجتمع الأشد، مربوع الخلق، ممتلئ البدن، غليظ الشارب، حسن السمت، لا تلحظ على وجهه المطهم المصقول مخايل الفنان ولا سهوم المفكر؛ ثم تحسبه وهو يحدثك حديثه المقتضب الخافض سريا من عامة السراة في الصعيد لاحظ له من بلاغة اللسان ولا رياضة القلم. ثم داخلته فتكشف لي عن ألمعية أصيلة تستتر عادة بين الحياء والحشمة؛ ووثق الود بيني وبينه توافق المزاج المنقبض والطبع الحي والوجود المنعزل، فدرسته على ضوء ما أعلم من نفسي فلم أجاوز الحق في تصويره وتقديره
كان المنفلوطي قطعة موسيقية في ظاهره وباطنه؛ فهو مؤتلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر، متسق الأسلوب، منسجم الزي، لا تلمح في قوله ولا في فعله شذوذ العبقرية ولا نشوز الفَدامة. كان صحيح الفهم في بطء، سليم الفكر في جهد، دقيق الحس في سكون، هيوب اللسان في تحفظ. وهذه الخلال تظهر صاحبها للناس في مظهر الغبي الجاهل، فهو لذلك كان يتقي المجالس ويتجنب الجدل، ويكره الخطابة؛ ومرجع ذلك فيه إلى احتشام التربية التقليدية في الأسرة، ونظام التعليم الصامت في الأزهر، وفرط الشعور المرهف بكرامة النفس. ولكنك إذا جلست إليه رأسا إلى رأس، تسرح في كلامه، وتباري لسانه وخاطره في النقد الصريح والرأي الناضج والحكم الموفق والتهكم البارع، فلا تشك في أن هذا الذي تحدثه هو المنفلوطي الذي تقرأه. ثم هو إلى ذلك رقيق القلب، عف الضمير، سليم الصدر، صحيح العقيدة، نفاح اليد، موزع العقل والفضل والهوى بين أسرته ووطنيته وإنسانيته.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
في التاريخ السياسي
ماذا في روسيا السوفيتية
الصراع بين البلشفية والرجعية
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يتساءل الناس عما يحدث في روسيا السوفيتية، وما هو سر هذه المحاكمات الدموية التي تتري منذ عام في موسكو، والتي يقبض فيها على أكابر الزعماء جماعات، ثم يعدمون بعد محاكمة مرتبة موجزة؟ ففي الصيف الماضي قبض على عدة من الزعماء وعلى رأسهم سينو فييف رئيس الدولة الشيوعية الأسبق، وحوكموا بتهمة التآمر على سلامة الدولة بتحريض ليون تروتسكي زعيم البلشفية المنفي، وأعدموا بعد محاكمة قصيرة؛ ثم عقدت خلال الأشهر الأخيرة عدة محاكمات مماثلة، حكم فيها بالموت أو السجن على عدة أخر من الزعماء البارزين مثل العلامة الفيلسوف بوخارين رئيس الدولة الشيوعية السابق، وكارل رادك أعظم كتاب البلشفية المعاصرين، وياجودا مدير البوليس السري وغيرهم؛ ومنذ أسابيع قلائل امتدت يد المطاردة إلى الجيش الأحمر وقبض على عدة من قادته وفي مقدمتهم المارشال توخاتشفسكي، وحوكموا بسرعة مدهشة بتهمة الاتصال بدولة أجنبية معادية لروسيا وإمدادها بمعلومات عن الجيش الأحمر وعن أسرار روسيا العسكرية، ثم اعدموا ليلة صدور الحكم؛ وأذاعت الأنباء على اثر ذلك أن بوادر التمرد ظهرت في بعض وحدات الجيش الأحمر، وأن الثورة نشبت بالفعل في بعض أنحاء روسيا، وأن طاغية الكرملين ستالين، يلجأ في إخماد التذمر أو الهياج إلى أروع الوسائل، وهكذا؛ فما هي عوامل هذا الاضطراب الذي يتخذه البعض نذيراً بانهيار النظام السوفيتي؟ وما هي الحقيقة وراء ذلك كله؟
إن الثورة البلشفية التي سحقت عرش القياصرة منذ سنة 1917، وبسطت على روسيا سيادة (الكتلة العاملة)، واتخذتها ميداناً للتجربة الشيوعية، لم تصل بعد إلى نهايتها؛ وما زالت روسيا السوفيتية تعيش منذ عشرين عاماً في ظل نظم ثورية تسير من طور إلى طور؛ وهذا الصراع الذي يضطرم اليوم بين ستالين وبين جماعة من خصومه، والذي تبدو
بوادره في تلك المحاكمات الدموية الرنانة، إنما هو نذير تطور جديد في الثورة البلشفية لم تكتمل عوامله بعد؛ ويلاحظ أن هذه الإجراءات الدموية التي يجد ستالين في اتخاذها إنما تقترن بصدور الدستور السوفيتي الجديد الذي تم وضعه في الصيف الماضي، ثم صدر في ديسمبر سنة 1936. بيد أنه يجب لكي نفهم عوامل هذا التطور الأخير، أن نرتد إلى الوراء، لنرى كيف نشأ الصراع بين ستالين وخصومه، وكيف أن هذا الصراع يرتبط أشد الارتباط بتطور التجربة الشيوعية في روسيا
كانت الثورة البلشفية تقوم عند بدايتها على دعائم ثلاثة: الشيوعية المطلقة، وسيادة الكتلة العاملة، وإضرام نار الثورة العالمية؛ وكان لنين رأس المذهب الجديد وزعيم الدولة الشيوعية الجديدة يستمد كل وحيه من تعاليم إمام المذهب وأستاذه الأكبر كارل ماركس؛ ولكن التجربة الشيوعية لم تلبث أن اصطدمت من الوجهة العملية بمصاعب اقتصادية واجتماعية خطيرة، ولم يلبث لنين نفسه أن أقتنع بوجوب الاعتدال في تطبيق التجربة والأخذ بسياسة اقتصادية جديدة تغفل فيها بعض المبادئ الشيوعية المتطرفة، وتدمج فيها بعض المبادئ الرأسمالية من (البورجوازية). وبدأ لنين بتطبيق هذه السياسة الجديدة منذ سنة 1921 ولكنه لم يلبث حتى توفي (يناير سنة 1924) وكانت وفاة لنين في الواقع فاتحة هذا الصراع الذي تجوز الثورة البلشفية أطواره من ذلك الحين؛ فقد تولى مقادير الأمور بعد لنين ثلاثة من خاصة أصدقاءه وأعوانه وهو سنوفييف وكامنيف وستالين؛ ولكن قطباً آخر من أقطاب البلشفية هو ليون تروتسكي مؤسس الجيش الأحمر (الجيش البلشفي) وأعظم رجل في الثورة بعد لنين كان يسهر على مصاير الثورة ويحاول أن يسير دفتها طبق آرائه، وبينما كان ستالين وزملاؤه يتوسعون شيئاً فشيئاً في تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة، وهي تنطوي بالأخص على الاعتراف بالملكية الصغيرة، ومهادنة الدول الرأسمالية والتعامل معها، ومراعاة الاعتبارات الزراعية والتجارية والصناعية في الإنتاج، كان تروتسكي يعمل لمعارضة هذه السياسة ويرى أنها خيانة للثورة والمبادئ الشيوعية الصحيحة، وكان تروتسكي يشدد بالأخص في وجوب إضرام نار الثورة العالمية ويرى أنها هي السبيل الوحيد لظفر الاشتراكية، هذا في حين أن ستالين وفريقه يرون الاقتصار على تطبيق التجربة الاشتراكية في روسيا وحدها ويرون نجاحها محققاً دون
الثورة العالمية؛ وكان تروتسكي بماضيه الثوري الحافل وصداقته المؤثلة للنين، وما له من فضل عظيم في نجاح الثورة البلشفية، ونفوذ قوي في الجيش الأحمر، عماد الثوريين المتطرفين ومعقد آمالهم، ولكنه لم يحسن استخدام هذا النفوذ وتوجيهه؛ ومن جهة أخرى فقد استطاع ستالين وفريقه أن يستغلوا الظروف الاقتصادية، وأن يعتمدوا في تنفيذ سياستهم على الرجال الإداريين؛ واستمر النضال بين الفريقين يشتد ويتفاقم، ولكن ستالين استطاع أن يقوي مركزه ونفوذه شيئاً فشيئاً داخل الحزب الشيوعي وخارجه، وأن يعمل على أضعاف خصومه وتسفيه معارضتهم وسياستهم، ولما شعر بأنه غدا هو الأقوى والأشد ساعداً ونفوذاً، رفع القناع فجأة، وأخذ يطارد تروتسكي وشيعته جهاراً؛ وكان يعتمد في المبدأ على مؤازرة عدة من أكابر الزعماء مثل سيونيف وكامنيف وتومسكي وريكوف وغيرهم، فلما شعر أنه يستطيع العمل دونهم أنقلب إلى مطاردتهم، فانضم هؤلاء إلى الفريق المعارض؛ ونزل ستالين وشيعته إلى ميدان النضال، واستطاع تباعا أن يقضي على خصومه وأن يخرجهم من حظيرة الحزب الشيوعي الذي هو كل شئ في حياة روسيا العامة، والذي يسيطر ستالين باعتباره سكرتيره العام على توجيهه واستخدام نفوذه وسلطانه؛ ثم خطا ستالين خطوة أخرى، فنفى تروتسكي وشرد الزعماء من أنصاره، وشتت شمل المعارضة كلها سنة (929) واستأثر عندئذ بكل نفوذ وسلطة وغدا سيد روسيا وزعيمها القوي، وأخذ يوجهها في الطريق الجديد الذي اختاره لها؛ فوضع مشروع السنوات الخمس لتنظيم الإنتاج الروسي، وهو المشروع الذي قلدته فيه ألمانيا وإيطاليا بعد، وعمل على التقرب من الدول الغربية، وكان من أثر هذه السياسة أن انضمت روسيا إلى عصبة الأمم، وتفاهمت مع فرنسا تفاهما انتهى بعقد الميثاق الروسي الفرنسي؛ وجد ستالين في تسليح روسيا ولا سيما منذ قيام الوطنية الاشتراكية (الهتلرية) في ألمانيا حتى غدت اليوم أقوى دول القارة في التسليحات البرية والجوية، وبذلك اجتنبت روسيا عزلتها السياسية القديمة، واتخذت مكانتها في السياسة الأوربية العامة إلى جانب الكتلة الديمقراطية، وأضحت عاملا حاسما في التوازن الأوربي.
على أن المعارضة القديمة التي لبث تروتسكي روحها وزعيمها لم تخمد ولم تسحق، فقد أستمر تروتسكي في منفاه في مختلف البلاد الأوربية يشهر بقلمه ولسانه حرباً عواناً على
ستالين وسياسته، ويذكي بنفوذه القديم روح النضال في أنصاره داخل روسيا؛ وهو الآن في منفاه النائي بالمكسيك، وبالرغم من محنته وشيخوخته ما يزال يشهر سهام الخصومة والنضال على عدوه؛ ويقول التروتسكيون إن ستالين قد سحق الثورة وبدد تراث لنين، وبسط على روسيا نوعاً من الاشتراكية الوطنية التي بسطها الهتلريون على ألمانيا، أو بعبارة أخرى بسط عليها نوعاً من الدكتاتورية البورجوازية (الرأسمالية)، وأرتكب بذلك أعظم خيانة لقضية الثورة البلشفية والثورة العالمية.
والواقع أن الدستور الجديد الذي صدق عليه مؤتمر السوفيت الأعلى في 5 ديسمبر الماضي يدلل بروحه ونصوصه على هذه الحقيقة التي يتخذها التروتسكيون محوراً للخصومة والنضال، وهو أن الثورة الشيوعية قد انتهت، وانتهت كذلك فكرة الثورة العالمية. ذلك أن الدستور السوفيتي الجديد يعترف صراحة بحق الملكية الفردية التي يعتبر إلغاؤها أساساً جوهرياً لمجتمع الشيوعي؛ ويشتمل الاعتراف بهذا الحق ملكية الإيرادات الناتجة عن العمل وملكية المساكن الشخصية والأثاث المنزلي وحاجات الحياة اليومية، ويشمل أيضاً حق الميراث؛ ويمنح حق الملكية بالأخص للطبقات الممتازة في الدولة كموظفين وأعضاء الحزب الشيوعي، والذين حصلوا على أوسمة من ذوي المواهب والخدمات الممتازة؛ ومن جهة أخرى فأن الدستور الجديد يعترف بأن الحزب الشيوعي هو مصدر السلطات، ويحمي الدكتاتورية التي يبسطها على روسيا في الوقت الحاضر، ويؤيد بذلك طغيان ستالين زعيمه وسكرتيره العام؛ ثم أن الدستور الجديد لا يعترف بحرية الصحافة والرأي والاجتماع كحق للأفراد، وإنما يقرر أن الدولة هي التي تكفلها وهي التي تمد الشعب بالنشرات والصحف والخطباء وغيرهم، وهي التي تسيطر بذلك على عقل الشعب وروحه، وتسيره حيث شاءت.
هذه هي أسس الدستور السوفيتي الجديد؛ فأي فرق بينها وبين الفاشتية الإيطالية، أو الاشتراكية الوطنية (الهتلرية) الألمانية؟ أنه الطغيان الحزبي المطلق؛ وإنه لفناء الحقوق والحريات العامة كلها في شخص الدولة، والدولة هي الحزب القابض على السلطان؛ ومعنى ذلك إن ستالين قد أضحى بقوة الدستور الجديد يشغل في روسيا نفس المركز الذي يشغله موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا؛ وهذا النظام الذي يتوجه الدستور السوفيتي
اليوم هو النظام الذي تعيش روسيا في ظله منذ استطاع ستالين أن يجمع في يده القوية كل مقاليد السلطة والحكم
وهذا هو محور النضال الذي يضطرم بين ستالين وخصومه؛ وهذا هو السر في تخوف الطاغية من كل حركة أو بادرة تدل على التذمر أو المقاومة؛ ومنذ عام يجد ستالين في مطاردة خصومه وكان يخشى منهم منافسة أو مقاومة؛ ولا تزال إجراءات القمع الدموية تجري اليوم في روسيا في جميع دوائر الحكومة والجيش، ولن تقف حتى يأمن ستالين كل معارضة وحتى يوقن أنه أخمد كل صوت وكل نزعة إلى المقاومة. ولكن هل ينجح الطاغية في هذه المهمة الفادحة؟ هذا ما نشك فيه؛ فروسيا البلشفية هي غير ألمانيا وإيطاليا، ولن يستطيع كائن أن يخمد في هذا المجتمع الروسي الذي عاش في ظل الثورة عناصر النضال والثورة؛ وقد تسفر الحوادث عما قريب عن نتائج وتطورات جديدة؛ بيد أنها لن تكون على ما نعتقد سوى طور جديد من أطوار الثورة البلشفية.
(* * *)
عين الرضى وعين السخط
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
هل صحيح ما يقول الشاعر أن عين الرضى عن كل عيب كليلة. . . لا أدري فقد صار كل شئ يحيرني، وما من أمر إلا أراني يبدو لي فيه رأيان أو مذهبان لطول ما عودت نفسي أن أنظر إلى (الجانب الآخر) فلو أني كنت قاضياً لظلت أحكامي تدور في نفسي ولا يجري بها لساني أو يخطها قلمي. وليس هذا من التردد، فأن من كان ضيق الصدر متنبه الأعصاب مثلي قلما يتردد. وما أكثر ما يؤثر الجزم والبت وإن كان في شك من الصواب كبير. ولكنما هذا من حب الموازنة والرغبة في إنصاف كل جانب من جوانب الرأي. وقد قلت لنفسي وأنا قاعد أتدبر قول هذا الشاعر القديم إن أعظم الرضى رضى المرء عن نفسه. أم ترى هذا ليس من الرضى. . لا أدري أيضاً. . وأخشى أن أظل لا أدري فلا أخرج بشيء أبداً. . . ولو أني أعطيت نفس إنسان غيري لما قبلت؛ ومع ذلك لا تخفى علي عيوبي ونقائصي من مادية وأدبية، ومن بدنية أو نفسية أو عقلية، فأنا أعلم أني. . . . ولكن هل من الضروري أن أفضح نفسي وأهجوها إلى الناس. . . ومن دلائل الرضى عن النفس على الرغم من الإحاطة بعيوبها، والفطنة إلى مواطن الضعف والنقص فيها أني أستخف بهذه العيوب ولا أبالي أن أذكرها، ولا أعبأ شيئاً إذا رأيت الناس يعرفونها كما أعرفها؛ وأني لأدرك بعقلي أنها نقائص ومذام ولكني أراني اتخذ أحياناً من المعالنة بها مفخرة ومحمدة، ولست أستخف بها في الحقيقة ولكنما أحاول تهوينها على نفسي حتى لا يكربني أمرها، ولأظل محتفظا بحبي لنفسي ورضاي عنها وغروري بها، وحب النفس من حب الحياة
وتذكرت وأنا أقلب هذا وأديره في رأسي مقالا أو فصلا لأديسون الكاتب الإنجليزي المعروف - أم ترى لا يقرأه أبناء الجيل الجديد - يتصور فيه أن الله جلت قدرته أذن للناس أن يخلعوا ويرموا ما لا يرضيهم من أجسامهم، فهذا رمى أنفه وذاك آخر ألقى أذنيه، وأخرج الثالث عينيه وقذف بهما، ونزع رابع ساقه وطرحها؛ وهكذا حتى صارت الأعضاء والجوارح المرمية المزهود فيها كوماً عالياً. وعاد الله فأذن لهم أن ينتقي كل واحد من هذا الكوم بديلاً مما زهد فيه ورماه فأقبلوا يقلبون ويبحثون وأخذ كل واحد ما أعجبه ووضعه
موضع العضو المنزوع، ثم نظروا بعد ذلك إلى أنفسهم فلم يعجبهم حالهم ولم يرضوا عن أنفسهم واستبشعوا ما أخذوا بديلاً مما نزلوا عنه فجأروا بالشكوى إلى الله تعالى وتوسلوا إليه أن يأذن في أن يسترد كل منهم أعضاءه الأصلية. فتقبل الله دعاءهم رحمة منهم بهم، فما أسرع ما خلعوا ما استعاروا واستعادوا ما كانوا يسخطون عليه ويتبرمون به!
وهذه القصة الخيالية تدل على أن المرء لا يسعه إلا أن يفطن إلى حقيقة نفسه، ولكن إدراكه لعيوبه لا يمنع الحب الإيثار. وأحسب أن من هنا ما يسمونه (مركب النقص) أي معالجة الإنسان مداراة عيب يثقل على نفسه الشعور به، ومحاولة تعويضه من ناحية أخرى، والمقارنة والامتحان هما باب المعرفة، ولا سبيل إلى هذا الذي يسمى (مركب النقص) إلا بعد المعاناة أي الامتحان والمقارنة ولو امتنعت أسباب المعاناة والمقارنة بينه وبين غيره لما شعر المرء بنقص في نفسه أو في بدنه، ولما أحس الحاجة إلى مداراة النقص وستر العيب بإلتماس الصحة أو القوة في ناحية أخرى.
وأراني لا تخفى عليّ عيوب أبنائي وهم أحب إلى خلق الله إلي بعد نفسي كما لا أحتاج أن أقول فما أعدل بنفسي أحداً، وما أكثر ما سمعت أمي رحمها الله تقول إذا رأتني أشكو ألماً إنها تؤثر أن تكون هي المصابة، وأحياناً كنت أسمعها تدعو الله أن يتوفاها قبلي فأنكر هذا عليها في سري وأعجب كيف يمكن أن يتمنى إنسان أن يموت قبل غيره. هذا إحساس لا أستطيع أن أدعيه. ولو أني خيرت أن أموت قبل أولادي أو أن يموت أولادي قبلي لما رآني أحد أتردد أو أتحير، وربما أظهرت التردد نفاقاً وستراً للأنانية الصارخة، ولكن هذا لا يكون مني إلا نفاقاً وكذباً على الله والناس لا أكثر ولا أقل. وكثيراً ما سألت نفسي أترى الرجل غير المرأة؟ وأنا أؤمن بأن أمي كانت مخلصة صادقة السريرة، وقد كانت الدنيا كلها لا تعدل عندي قلامة ظفر من أصغر إصبع في رجلها. فهل تراها لو أن الأمر كان جداً لا تتردد في إيثاري على نفسها؟ من يدري؟ الرجل غير المرأة على التحقيق. . وشعور الأب غير شعور الأم، هي حملته تسعة أشهر على قلبها فهي تحس أنه قطعة منها بالمعنى الحرفي لا مجازاً، ومن أين يتأتى للرجل مثل هذا الشعور وهو لم يعان شيئاً ولا يدري أكثر من أن امرأته جاءته بغلام أو بنت قد لا يكون له رغبة فيه أو فيها. فأنا أستطيع أن أصدق هذا الإيثار من المرأة، ولكني لا أستطيع أن أصدق أن يكون الرجل مثلها إيثاراً
لأبنه على نفسه - على الأقل فيما يمس الحياة - إلا إذا كانت نسبة عناصر الأنوثة في نفسه كبيرة.
ويحضرني الآن بيت قلته من قصيدة نسيتها وأظنه كان ختام القصيدة وهو:
ألا ليتني في الأرض آخر أهلها
…
فاشهد هذا النحبَ يقضيه عالَمُ
وعيب البيت في نظري أن فيه مغالطة واضحة - على الأقل لي - ذلك أني لا أتمنى أن أكون آخر من يبقى في الدنيا لأرى كيف يفنى العالم، بل لأني لا أريد أن أترك الدنيا، فأن كان لا بد من تركها والخروج منها، فلتخرب قبلي أو فليكن موتي هو الإيذان بخرابها وإمحاء هذا العالم كله. ولم أستطع وأنا أنظم البيت أن أختزل كل هذا في شطر واحد فجاء البيت غير دقيق في التعبير عن حقيقة ما في نفسي
وقد أحببت مرات عديدة - لا عداد لها في الحقيقة فأني أبداً كما قال في الأستاذ العقاد:
(أنت في مصر دائم التمهيد
…
بين حب عفا وحب جديد)
والسبب في ذلك أن عمر الحب عندي لا يطول إلا ساعة أو ساعتين أو ليلة أو ليلتين - إلى أن أمل والسلام - وما من واحدة أحببتها إلا تمنيت على الله أن يهبني القدرة لأصلح بعض ما لا أرضى عنه فأملأ هذا الساق وأديرها، وأعالج الترهل الذي يبدو لي في الثديين مثلا أو الردفين، وأصلح الأنف، وأخفف النتوء الذي في أرنبته، وأرسم الحاجبين رسماً جديداً يكون أقرب إلى ذوقي ورأيي في التناسب، وأعالج نفسها أيضاً علاجي لبدنها وهكذا إلى آخره، فما بي حاجة إلى الإطالة، وليس هذا من الاعتراض على خلق الله سبحانه وتعالى. . حاشا وكلا. . وإنما هو من اشتهاء الكمال كما أتصوره، ولا كمال في الدنيا مع الأسف
وقد صدق الشاعر في الشطر الثاني من بيته كما لم صدق في شطره الأول فما من شك أن عين السخط تبدي المساوي. وثم عيون أخرى عديدة تبدي المساوي غير عين السخط، وفي وسعنا أن نتسامح مع الشاعر المسكين وأن نقول أنه يعني بين السخط عينا تبدي المساوي، وأنه لم يرد القصر ولا التخصيص
وأسأل نفسي وأنا أكتب هذا الفصل: (ماذا أخطر ببالك هذا البيت؟) والحقيقة أني لا أدري سوى أني أردت أن أكتب كلاما فحضرني هذا البيت، فما أكثر الكلام الفارغ وما أسرعه
إلى اللسان.
إبراهيم عبد القادر المازني
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
الثقافة التقليدية:
في مقالات بعنوان (التعليم والحالة الاجتماعية) نشرتها في الرسالة الغراء منذ حين، روجت لنظرية استخلصتها من تاريخ الأمم ودعوتها نظرية (الثقافة التقليدية). ومؤدى هذه النظرية أن لكل أمة من الأمم ثقافة مأثورة تنتقل على الزمن من أهل إلى أهل، وتتوارثها الأمم طبقة بعد طبقة، وأن الثقافة التقليدية الخاصة بكل أمة من الأمم أو سلالة من السلالات، لها من الأثر في الحالات الاجتماعية، ما للصفات الوراثية الحيوية من الأثر في الأفراد، وأن شباب الأمم من حيث القدرة على الرقي والاحتفاظ بالصورة من المدنية تلائم مقتضى البيئة والظروف القائمة من الدنيا الحافة بالأمم، إنما يرجع في الحقيقة إلى استمساك الأمة بثقافتها التقليدية واتخاذها أصلا ثابتاً يغرس فيه ما ينتحل من ثقافات الأمم الأخرى، فتتكيف هنالك المبادئ المنتحلة، تكيفاً ملائماً لطبيعة ما توارث الأمم من مأثور ثقافتها التقليدية. وبذلك تحتفظ الأمة بطابع خاص وتجري تطوراتها الاجتماعية والعقلية والنفسية على قاعدة ثابتة وأسلوب راسخ، فتأمن بذلك شر الفورات الفجائية والثورات المجتاحة والكوارث الاجتماعية المفنية، ويكون لها من مجموع ما حفظت من مأثور أسلافها ضابط يضبط نزوات الأفراد، ويهيئ المجموع بعقلية ذات طابع تقليدي تكون لها بمثابة الكَمَّاحة التي تصدها عن التورط في نواح غير مضبوطة المعايير، أو التعلق بأذيال فكرات ومبادئ مريضة المنطق، بعيدة عن حاجاتها الأولية التي تضمن لها الاتزان والتعقل في طريقها إلى أسمات جديدة من المدنية أو الرقي العقلي.
ولقد أردت بهذه النظرية أن تكون أساساً لسياسة التعليم في مصر، فنتخذ من الأصول التقليدية التي قامت عليها المدنيتان العظيمتان، مدنية الفراعنة في مصر، وأساسها الزراعة والقوة الحربية ومدنية العرب وأساسها الإسلام والأدب العربي، منارة نستشرف منها ما نحتاج من مبادئ عامة فنحور من برامجنا التعليمية وخططنا الثقافية بما يلائم طبيعة التقاليد المأثورة عنهما، ذلك بأن الثقافة التقليدية في نفسية الأمم وعقلياتها بمثابة الصفة الوراثية في الفرد، لا تنفك الأمم عن الأولى أو ينفك الفرد عن صفة تلقاها عن أسلافه
هذه النظرية على ما فيها من بساطة في الظاهر تحتاج في إثبات حقائقها إلى تأملات تاريخية عميقة، ينفذ الباحث من طريقها إلى أبعد غور من الأعماق التي ينزل إليها قارئ التاريخ العادي. فأن وراء الحوادث الظاهرة في صفحات التاريخ كانقراض الأمم المالكة، أو فتوح البلاد، أو اندحار الجيوش وانتصارها، أو قيام الحكومات المختلفة وسقوطها، أو تسلط الأفراد على الأمم وإطراح الأمم لسلطة الأفراد، حقائق أخرى تصدر عن صفات نفسية تختفي من وراء الحوادث الظاهرة، فتكون بمثابة القوة المحركة أو الطاقة في المادة، فهي خفية بأعيانها، ظاهرة بآثارها. وهذه القوة إنما تمكن وتستخفي طوعاً لظروف خاصة، وتظهر وتستقوي على غيرها طوعاً لظروف أخرى، وهذه الظروف التي تمكن معها القوى المحركة للجماعات أو تظهر، ينبغي أن تكون موضوع كل من يكب على التأملات في الثقافات التقليدية لدرس مالها من أثر في كون هذه القوى أو ظهورها، بحسب ما يحيط بالجماعات من ظروف تبعدها عن ثقافتها التقليدية أو تقربها منها
أما إذا أردنا أن نستوثق من حقيقة هذه النظرية، فعلينا أن نرجع إلى التاريخ، علينا أن نرجع إلى أقرب تاريخ منا، أي إلى تاريخ العرب. فأن الأمة العربية سادت الدنيا عندما استمسكت بعرى ثقافتها التقليدية، وفقدت الدنيا عندما انحرفت عن الاسترشاد بثقافتها المأثورة. وكذلك كان شأن روما وشأن اليونان قبل العرب. أما الدورات التي انتابت الأمم متراوحة بين الاستعلاء حيناً والتَّنكُّس حيناً آخر، فما هي إلا دورات تقرأ فيها صوراً من التطور ترجع في حقيقتها إلى استمساك الأمم بثقافتها التقليدية حيناً، وتفريطها في ذلك حيناً آخر
فعلينا إذن أن نرسم لمستقبلنا خطة نتخذ فيها ثقافتنا التقليدية نبراساً نستضئ به، وإلا فأنا سوف نظل نتخبط في الظلام فلا نستقر
حادثة:
قد تقرأ تاريخاً كاملا كتاريخ الإسكندر المقدوني وفتوحاته الكبيرة، وقد تستجلي في هذا التاريخ صوراً من شجاعة الرجل ومن إقدامه، وقد تجد في انتصار من انتصاراته سبباً للتأمل والعبرة؛ غير أن كل هذا لا يدلك على حقيقة الرجل قدر ما تدلك حادثة من الحوادث الصغيرة في حياته.
بعد أن هزم الإسكندر جيش فارس الهزيمة الأولى، تقدم بجيشه نحو (طرسوس)، وهي مدينة حصينة من مدن آسيا الصغرى، تعرف في التوراة باسم (طرشيش)، وجاء عيون الإسكندر يخبرونه بأن الجيش الفارسي قد عزم على أن ينهب المدينة ويحرقها إذ لم يبادر الإسكندر باحتلالها. فترك قائده الأكبر (قرمنيون) على رأس المشاة وتقدم الفرسان منحدراً من الجبال الهاوية بمقربة من البحر، إلى السهل الذي تستوي فيه طرسوس، وجد في السير، حتى يتسنى له أن ينقذ المدينة قبل أن يفعل بها الفرس، والسهل الذي تستوي فيه المدينة شديد الحر كثير الرطوبة، وقد افرغ الإسكندر على جسمه درعه الثقيل وعدة حربه، ممتطياً صهوة جواده الصَّوَّال (بُوقيفالوس)، فقطع أميالاً من الوهاد والوديان، حتى إذا أشرف على المدينة، كان قد بلغ منه العطش، فنزل على ساحل نهر (البَرَدَان) وخلع درعه وأستحم في النهر، والظاهر أن هذا النهر ينبع من الجبال ويستمد ماءه من ينابيع باردة، فماؤه مثلج بفطرته، ولقد أصاب المأمون مرض إثر استحمامه في نهر البَرَدان فمات، ولقد أوشك الإسكندر أن يموت، كما مات خليفة المسلمين من بعده؛ ولزم الإسكندر فراشه بعد أن دخل (طرسوس) وشاع أن حياته في خطر.
كان من الأطباء الذين يعنون به طبيب شيخ يدعى (فليب الأكرناني)؛ وكان من قبل طبيباً لأبيه ومن المتفانين في خدمة بيت مقدونيا المالك؛ وقد أقر جميع الأطباء بأن الإسكندر ميؤوس منه، إلا هذا الرجل، فأنه نصح الإسكندر أن يذعن إلى رأيه وأن يشرب جرعة سيعدها له بنفسه، ورضى الإسكندر بذلك على رغم عناده، وخرج الطبيب من حجرة الملك المريض ليعد جرعة الشفاء.
في اللحظة التي خرج فيها الطبيب إلى الحجرة، دخله رسول من قبل قائده (قرمينون) يحمل رقعة في يده، فقدمها إلى الإسكندر؛ وكانت تحذيراً للإسكندر من طبيبه (الأكرناني) فقد أتصل بسمع القائد أن الطبيب مالأ الفرس عليه وأنه تلقى منهم رشوة ليدس له السم في الدواء.
كان الإسكندر قد أتم قراءة الكتاب لما دخل عليه الطبيب حاملاً الجرعة التي أعدها، فتناول الإسكندر الجرعة بيده اليمنى وناوله الرقعة بيده اليسرى؛ وطفق الإسكندر يكرع الجرعة، والطبيب ينظر في الرقعة نظرات جامدة حيرى؛ ثم ناول الإسكندر الكأس الفارغ للطبيب،
وناول الطبيب الرقعة للأسكندر؛ ونظر كل من الرجلين في وجه الآخر برهة، ثم استلقى المريض على فراشه، وانصرف الطبيب إلى شأنه، من غير أن ينبس أحدهما ببنت شفة.
ألست تجد في هذا الحادث الصغير معنىً عظيماً يدلك على أن القلب الذي حمله الإسكندر كان جديراً بأن يفتح العالم ويدوخ الدنيا برمتها؟
حاجة اللغة العربية:
وقد تكون لغتنا العربية السمحاء في حاجة إلى كثير من وجوه الإصلاح. قد نقول بأن كتب النحو غامضة وأن قواعد الصرف مشتتة، وقد نقول إن أدب العربية لم يخدم بعد الخدمة الواجبة، بل نقول إن اختلاف مذاهب النحويين، وجمود الكثير من اللغويين أمر لا بد من النظر فيهما وإصلاح شأنهما بما يلائم حاجات أبناء العربية في هذا العصر، كل هذا وأكثر منه صحيح، والحاجة إليه ماسة؛ غير أن أحوج ما تحتاج إليه اللغة العربية المعجمات؛ وأول ما نتكلم في المعجمات القديمة
أما هذه فأما مطولة ترضي نزعة الباحث الذي تمكن من الأدب وربي فيه الذوق الأدبي، فأدمن البحث وطلب الاستقصاء؛ وإما مختصرةً اختصاراً مخلاً في كثير من نواحي الإرشاد اللغوي؛ وليس بين هذين وسط يسد طلبة الأديب العابر في رياض الأدب عبور المستفيد، فلا هو بالمستقصي ولا هو بالقانع بما بين يديه، وهؤلاء هم جمهرة الأدباء عندنا، بل وفي كل الأمم. ناهيك بأن معجماتنا القديمة قد تركت كل مادة علمية من المواد التي عرفها العرب ودرسوها من غير تعريف؛ فهذه دويبة، وذاك طوير؛ وهذا نبت يكون في العراق، وذلك عرق في الساعد أو الزند؛ وكذلك صفة الأمراض، أفي الإنسان كانت أم في الحيوان، فقد قرأت في صبح الأعشى من عيوب الخيل ما يزيد عن المائة عيب، كلها، كما اعتقد، تمت إلى أمراض؛ غير أنك قلما تقع على عبارة تشخص لك المرض أو أعراضه الصحيحة؛ فمعجماتنا ناقصة من هذه الوجهة نقصاً شائناً، ناهيك بأن في كتب الأدب والتاريخ والخطط والشعر والتراجم ألفاظاً لم تدخل المعجمات القديمة؛ ولا نقصد بذلك الألفاظ المولدة، بل نقصد بها ألفاظاً فصيحة صحيحة، فالمعجمات القديمة إذن لم تحط بكل ما في العربية من مادة لغوية؛ وهذا نقص نضيفه إلى ما عددنا قبل.
نتكلم بعد هذا في أنواع المعاجم التي نطالب الآن بوضعها لتتم حاجة اللغة؛ وأول ما نحتاج
إليه المعاجم التي تقابل فيها مفردات لغتنا، مفردات لغة أخرى؛ وليست الحاجة في هذا مقصورة على لغة أو لغتين فأن الواجب يحتم علينا أن ننظر إلى كل اللغات الحية، بل وبعض اللغات غير كثيرة الانتشار، لنضع لها معجمات تقابل مفرداتها مفردات من اللغة العربية، على غرار ما نرى في المعاجم الكثيرة عند الأمم التي أدركت ما للمعاجم من أثر في إحياء اللغات ونشر الثقافة والمعرفة.
تأتي بعد ذلك حاجتنا إلى المعاجم الخاصة بالعلوم والفنون؛ فلست تجد الآن معجماً واحداً يرضي حاجة المختصين في علم من العلوم أو فن من الفنون ويسعفهم بالكلمة الصحيحة والتعريف الكامل للمصطلحات التي تصادفهم أثناء بحوثهم؛ وهذا نقص معروف شائع، فلا حاجة إلى التوسع في شرح الحاجة إلى سد ثغرته؛ وإنما يتبقى لنا أن نتعرف أن أمامنا في هذا مجهود شاق طويل علينا أن نبذله وأن نضحي فيه بالجهد والمال والعين والعافية.
أما الطامة الكبرى والمصيبة العظمى فتشعر بها إذا قارنت بين الأسماء القديمة والحديثة الواردة في كتب التاريخ أو الجغرافية، فقد تقرأ الاسم الواحد الدال على ذوات بعينها مرسوماً بعدة أهجية مختلفة في كتب مختلفة أو في كتاب واحد؛ فقد يتفق أن يكون المؤلف قد اعتمد على كتب إنجليزية تارة وعلى كتب فرنسية تارة أخرى؛ فينتقل الاسم الواحد كما يلفظه ويرسمه الإنجليز مرة، وكما يلفظه ويرسمه الفرنسيون مرة أخرى؛ ولا تبلغ بلبلة الألسن في هذه الناحية من الفساد مبلغها في نقل الأسماء القديمة، وبخاصة إذا كانت أسماء عرفها العرب، فقد قرأت في كتب مختلفة الأعلام الآتية: مرجراط، مرجرات، مرغرات، مرغراط، مرج راهط، مرج راهد، مرجراه، وكلها للموقعة المعروفة في مرج راهط؛ وقرأت: رقطيس، راقتيس، راقطبس، راقوده، رقوته، وكلها للمستعمرة الإغريقية المعروفة راقوطيس في شمال الدلتا في تاريخنا القديم وهي راقودة عند العرب؛ وقد أذكر أن الفروق في رسم الأعلام قد بلغ من الاختلاف في أسماء أخرى مبلغاً لا يدركه أشد الواقفين على حقيقة الأسماء القديمة، ولا شبهة عندي أن مبتدئاً في درس التاريخ أو الجغرافية إذا وقع له مثل هذا في كتب مختلفة أو كتاب واحد لظن لأول وهلة أن اختلاف الرسم يدل على اختلاف الذات.
هذه الحال تحفزنا إلى الدعوة لوضع معاجم لأسماء الأعلام، فنحتاج إلى معاجم في أسماء
الأعلام القديمة؛ ومعاجم لأسماء الأعلام الحديثة، ومعاجم تضبط فيها أسماء الأعلام العربية، وإن من الأسماء العربية ما تقرأه على أوجه عديدة إذ لم يكن تام الضبط بالشكل الكامل.
لم أتناول في هذه الكلمة إلا بعض حاجة اللغة العربية إلى المراجع، فهل قدرنا كل ذلك؟ وهل اتخذنا العدة للعمل؟ وهل لهذا العمل ظهراء من بين أغنياء هذا البلد والقائمين على أمره؟ نرجو مؤملين أن تتوجه الجهود إلى هذا العمل إن كانت الرغبة فيه موجودة، ونرجو أن يتضافر الكتاب والباحثون على خلق الرغبة فيه إذا لم تكن موجودة.
إسماعيل مظهر
إلى الأستاذ أحمد أمين:
الضعف في اللغة العربية
للأستاذ محمد سعيد العريان
تناول الأستاذ الجليل أحمد أمين في العدد 208 من الرسالة موضوع الضعف في اللغة العربية، بعد ما تناوله عديد من الصحف والمجلات في هذه الأيام؛ وما كان لي أن أعني بمناقشة ما قال الكاتبون في هذا الموضوع والإدلاء برأيي فيه لولا اعتدادي بمكانة الأستاذ الكبير وما لآرائه من خطر وقيمة، فأنا لهذا أكتب أليه أستدرك أشياء وأنبه إلى أشياء لعل لها أثراً في توجيه البحث ينتهي إلى الغاية التي يريد ونريد.
وأحب قبل أن أمضي فيما أنا بسبيله أن أؤكد لأستاذي ما لا بد من توكيده: إنني فيما أكتب إليهبعيد عما يسميه النزاع الشخصي أو التعصب الطائفي، فإذا رأى في مقالي ما يجعلني إلى طائفة من القائمين على شئون اللغة العربية فليتبرع لي بحسن الظن، وأن رأى مني انحرافاً عن الصواب فلينسبني إلى الخطأ في الاجتهاد، لا إلى الهوى والتعصب
وبعد فماذا يعني الأستاذ بالضعف في اللغة العربية؟ أتراه يعني إن اللغة العربية في هذه الحقبة من تاريخها الأدبي سائرة إلى الضعف؟ أم هو يعني ضعفها على ألسنة تلاميذ المدارس وطلاب الجامعة وناشئة المتأدبين من كتاب هذا العهد؟
هذا سؤال أحسب الجواب عنه صريحا محدداً في مقال الأستاذ؛ فما من شك في أن اللغة العربية في هذا العهد خير منها منذ ستين عاماً وقبل ستين عاماً، وإن لم تبلغ بعد الهدف الذي ترمي إليه. وأما ضعفها في السنة طلاب المدارس وخريجي الجامعة وناشئة المتأدبين، فأمر لا شك فيه كذلك ولا يحتاج إلى برهان.
وإذا تحدد موضوع البحث على هذا الوجه فأن علينا مناقشة الأسباب التي يرجع إليها هذا الضعف في اللغة العربية. وأرى الأستاذ الجليل يرجعها إلى أمور ثلاثة تتفرع في النهاية إلى ست مسائل: هي طبيعة اللغة نفسها، والمعلم، وبرامج التعليم، والامتحانات، والتفتيش، والمكتبة العربية. وسأقصر حديثي الآن على بعض هذه المسائل دون سائرها؛ إذ هي عندي أجدر بالعناية وأحق بالنظر. وأولى هذه المسائل هو المعلم، وأراني أشارك الأستاذ في قوله: (إن معلم اللغة العربية في المدارس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب
وأخطر تبعة، وبمقدار قوته أو ضعفه تتكون - إلى حد كبير - عقلية الأمة. .) ولكني مع ذلك لا أشاطره الرأي بأن جزءاً كبيراً من ضعف اللغة يرجع إلى المعلمين. فما المعلمون في مدارسنا - وأنا واحد منهم - إلا أدوات عاملة بغير إرادة: ليس لهم حرية في العمل ولا خيرة في الطريقة، ولا فكرة في التنفيذ؛ وإنما يشرع لهم الشارع في وزارة المعارف وعليهم الطاعة العمياء والإرادة الخرساء. قد يكون عيباً في المعلم أن ينزل عن رأيه بهذا الهوان؛ ولكنه يريد أن يعيش، ومن ورائه المفتش، والمفتش الأول، والمراقب، والوزير؛ كل هؤلاء عليه عيون لواحظ، ليس عليهم أن يوجهوه أو يروا له الرأي الصالح بمقدار ما عليهم أن يحصلوا عليه مخالفاته لما أرادت الوزارة من الخطة والمنهج والنظام. .
وأراني قد بينت للأستاذ موقف المعلم ومكانته في المدارس المصرية، مسوقاً إلى أن اعتب عليه أن ينال معلمي اللغة العربية ودار العلوم بما يشبه أن يكون مصدره فكرة قديمة مستقرة في موضعها من فكرة الكاتب الجليل لا تتصل بموضوع البحث من قريب أو بعيد! وإلا فأين هذا الموضوع من دعواه بأنه خريج دار العلوم أصبح لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو بحاجة إليه. . .؟
إننا هنا نتحدث عن ضعف اللغة العربية في المدارس لا ضعفها في الأدب العام الذي يغذي الشعب ويساير النهضة؛ ولو كان هذا هو الموضوع لاستطاع أن يجد البراهين في كل ما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء منذ نيف وستين عاماً، وكلها شاهدة بما لدار العلوم من أثر على اللغة في هذا القطر وفي الأقطار العربية عامة، وما أرى الأستاذ يستدرك فيعترف بأنه من خريجي دار العلوم أفذاذاً نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ينشده إلا مجاملة لطائفة من أصدقائه وزملائه في الجامعة، وما تغير هذه المجاملة شيئاً من وجه الرأي، وما تغير شيئاً من الحقيقة التي يلحظها كل من يقرأ مقالة الأستاذ الكبير، وهي أنه خرج من البحث في كفاية خريجي دار العلوم باعتبارهم معلمين، إلى البحث في كفايتهم باعتبارهم كتاباً وأدباء ومنشئين أثروا تأثيرهم في الأدب العام أو لم يؤثروا، وما هذا مصدر البحث ولا مورده. . .
وما أريد أن أطيل في هذا العتب، فأن هنا (النقطة الشائكة) التي كان هم الأستاذ أن يتحاشاها، وكان همي لولا (الواعية الباطنة) التي أقحمتها في غير موضعها من مقال
الأستاذ الجليل.
وأعود إلى ما كنا فيه فأقول إن الأستاذ لم يبلغ إلى الحقيقة في قوله: إن دار العلوم وغيرها لم تستطع أن تخرج المعلمين الأكفاء الذين نتطلبهم وتتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها ومحاربة الضعف الناشئ فيها. وكان وجه الرأي أن يقول: إن وزارة المعارف لم تترك للمعلمين حرية العمل وحرية الرأي في المناهج للأخذ بيد اللغة العربية والنهوض بها ومحاربة الضعف الناشئ فيها؛ وذلك بما قيدتهم من قيود لا تدع لهم الخيرة في أن يفكروا في الوسائل ولا في الغايات التي يجب أن يأخذوا بها الناشئة من طلاب اللغة العربية ليبلغوا بهم حيث يريدون.
ولمنهج التعليم أكبر الأثر بعد ذلك فيما آلت إليه حال اللغة العربية في المدارس المصرية، وعلى ألسنة الناشئين من المتأدبين؛ ولا أعني بهذا منهج اللغة العربية وحده؛ فهذا جزء من كل له أثره في الثقافة العامة التي توجه التلميذ وجهته، وتعده لأن يكون ما يكون في غده: رجلاً لأمته يحرص على قوميته وتراث أهله ومقومات وجوده، أو واحدا كبعض من نعرف من شبابنا، لا يعرف له قومية وليس فيه حفاظ على ما خلف الآباء، ويضيع فيما يضيع من تراث الأجيال لغة قومه ودين قومه. والدين واللغة في تاريخ هذه الأمة شيء واحد، يقوم كل منهما من الآخر مقام الأخر مقام الجزء ما يكمله، وهما معاً عماد القومية العربية المسلمة التي نريد أن نطبع عليها ناشئة الغد.
هذا نقد عام لبرامج التعليم في مدارسنا لا أحاول تفصيله، وحسبي في هذا السبيل أن أنبه أستاذي الجليل إلى نظرة الطلبة في صميم نفوسهم إلى أن اللغة العربية مادة ثانوية وإن وضعت في المناهج في أولها - ليس من عمل المعلم بقدر ما هو من تأثير المنهج الذي يفرض فيما يفرض على التلميذ في المدرسة الابتدائية برنامجاً طويلاً عميقاً في اللغة الإنجليزية قبل أن يستقيم لسانه في نطق جملة عربية واحدة. كما أن ضعف الثقافة في الجمهور فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربي والمعلومات العامة التي تتصل بذلك - ليس مسئولاً عنه معلمو اللغة العربية، لأن ذلك ليس داخلاً في برنامج ما يدرسون لتلاميذهم، وليسوا هم القائمين على تدريس التاريخ الإسلامي، ولا شيٍء مما يتصل به من المعلومات العامة في مرحلة من مراحل التعليم؛ وقد كان ذلك إليهم منذ سنين، وكانت حال
اللغة يومئذ خيراً منها في هذه الأيام.
وهنالك أمر ذو خطر يتصل بمنهج اللغة العربية ذاتها، ولا مناص من الالتفات إليه؛ ذلك هو ترتيب المنهج وتوزيعه على سني الدراسة المختلفة، ولا أعني هنا الكم والمقدار، إنما أعني الكيف والطريقة.
إن الأستاذ أحمد أمين قد قصر نقده للمناهج على المادة دون الموضوع؛ فراح يتهم قواعد النحو والبلاغة في مادتها وتقسيمها دون نظر إلى مؤداها وغايتها وموضوعها من مراحل التعليم.
إن الآفة والعلة والداء ليست في قواعد البلاغة ومصطلحات النحو وفصول الأدب؛ فما نحن بمسئولين بأن نجعل هذه المقاييس اللغوية تسلية وملهاة يتلهى بها التلميذ في وقت بطالته وفراغه كأنها قصة أو فكاهة، فما هذا موضعها من العلم ولا مكانها؛ ولكن العلة والآفة والداء أننا نعلم التلميذ قواعد اللغة قبل أن يعرف شيئاً من اللغة أو يقرأ منها قدراً صالحاً ليعينه على الفهم والمحاكاة؛ وإننا ندرس له البلاغة قبل أن نقدم له النماذج الكثيرة من الكلام البليغ التي تنبه فيه ملكة النقد قبل أن نعطيه قواعد النقد ومقاييس البيان الرفيع، وأننا نجرعه مصطلحات الأدب وفنونه قبل أن يتذوق الأدب نفسه. هنا العلة فلنلتمس لها الدواء قبل أن نفكر في حلاوته أو مرارته.
إن قواعد النحو، ومصطلحات الأدب، وفنون البلاغة، كفلسفة القصة من القصة: لا ينبغي التفكير فيها والمعاناة في استخراجها قبل الفراغ من القصة نفسها، والحكم على الشيء فرغ من تصوره، كما يقولون؛ فصوروا للطفل آداب لغته قبل أن يعطوه هذه المقاييس الصماء ليزن بها ما ليس في يده.
إن هذه المناهج بعيدة من الطبيعة بعد الغاية التي وصلنا إليها من الغاية التي إليها نقصد؛ وإنما ينبغي حين نريد تعليم اللغة العربية على منهاج صحيح أن نحاكي الطبيعة الخالقة في منهاجها الواضح؛ والطبيعة قد أملت علينا الطريقة التي يجب أن نأخذ بها كل ناشئ يتلقى لغة من اللغات، ففرضت عليه أن يمر في أطوار التعليم بثلاث مراحل: السماع والتلقين، ثم المحاكاة والتقليد، ثم الابتكار والإنشاء. فأن الطفل يولد وله صوت وسمع وليس له بيان، ثم يأخذ بمحاكاة الأصوات التي يسمعها؛ فإذا تكونت له أعضاء النطق أخذ يلقف الكلمات
مما يسمع من أهله فيرددها كما سمعها بلهجتها ونبرها، ثم يتدرج من ذلك إلى التعبير عن حاجته باللسان الذي يتحدث به من حوله؛ على أن قاموسه في ذلك لا يعدو كلمات قليلة على مقدار وعيه وحفظه وقدرته على التقليد؛ وكلما تقدمت به السن واتسعت الدائرة التي يضطرب فيها ويستمع إليها ويلقف منها زاد محصوله اللغوي؛ ثم لا يلبث أن يلم بكل معنى وبكل لفظ وبكل عبارة، فيتحدث كما يتحدث الناس، لا يعجزه ان يفهمهم ولا يعجزون، وحينئذ يتم تمامه اللغوي في اللغة التي يتحدث بها أهله.
هذه هي الطبيعة الملهمة وطريقتها في إعداد الطفل إلى تلقي اللغة والفهم عنها والإبانة بها. فأين طرائقنا من هذه الطريقة التي فرضتها الطبيعة على كل إنسان ناطق. . .؟
وعلى هذا المنهج الطبيعي نفسه تخرج الخالدون من أدباء هذه الأمة، فبلغوا ما بلغوا وخلفوا لنا هذا التراث الباقي على الزمن من الشعر والأدب. وطريقة الأخذ عن الرواة هي طريقة الطبيعة نفسها، وهي هي كانت كل ما يؤهل الأديب أو الشاعر إلى التبريز في الأدب والإجادة فيه. وما كان الأصمعي وأبو عبيدة والقالي وغيرهم ليعلموا تلاميذهم أول ما يعلمونهم - المحادثة والإنشاء والقواعد والتطبيق، إنما كانت دروسهم في حلقات الدرس والرواية هي هذه الأمالي الباقية من جيد الشعر والخطب والأمثال والقصص، أما النحو والصرف وقواعد البلاغة فكانت شيئاً من وراء ذلك لا ينظر إليه إلا عند الحاجة، وهي اليوم عندنا أول الطريق وأخره.
وأمامنا الأمثال في كل جيل وفي كل عصر من عصور العربية ترشدنا إلى الطريق التي يجب أن نسلكها في تعليم العربية، ولكننا نغمض عنها أعيننا ونضرب في البيداء، ومع ذلك ما ننفك نسأل أنفسنا:
(أين ومتى نبلغ الغاية؟)
وهل بلغ البارودي وحافظ وإضرابهما ذلك المبلغ من الشعر والأدب بالقواعد والتطبيق ومعالجة الإنشاء، أو بالاطلاع والرواية والحفظ من مأثور النظم والنثر؟
ينبغي أن نعلم العربية على الطريقة التي يتعلم بها الطفل أن يتكلم؛ فلتكن دروس العربية الأولى أن نتحدث إلى التلميذ ثم نسأله أن يتحدث، وأن نحمله على المطالعة ثم نطلب إليه أن يكتب، وأن نقدم له الغذاء من متن هذه اللغة ومن أساليبها في أقاصيص صغيرة مسلية
نقصها عليه بلسان عربي سلس الأداء واضح النبرات مفهوم المعنى، ثم نطلب إليه أن يعيد ما سمع بلغة كالتي تحدثنا بها إليه ولا تخرج عن قاموسه الذي نعرفه كلمة كلمة لأننا نحن الذين أمليناه عليه كلمة كلمة في هذه الأحاديث والقصص التي روينا له، ولا نفتأ كل يوم نزيد في معجمه اللغوي كلمات وأساليب فيما نتحدث به إليه؛ فإذا بلغنا به مبلغاً ما بهذه الوسيلة فلنفكر حينئذ في تلقينه قواعد اللغة وموازين الكلام الصحيح لا على أنها قواعد جديدة يجب أن يدرسها، ولكنها على أنها جزء غير مسموع من الكلام الذي سمع، ونطق غير ملفوظ من الكلام الذي تحدث به. وهنا نقطة يجب أن لا تغيب عن أحد من المشتغلين بالتعليم، هي أن هذا ليس واجب معلم اللغة العربية وحده، ولكنه واجب عام ينتظم المعلمين جميعا؛ وإلا كان عبثاً ما يحاوله معلم العربية، فما يعالج هو تقويمه من ألسنة التلاميذ بالقدوة والمثال تفسده الرطانة الأعجمية في لسان باقي المعلمين.
هذا هو الأمثل بأن يؤدينا إلى الهدف الذي نريده لو أخلص العاملون، فليجربه من شاء ثم يحدثني عن النتيجة؛ فأنا نفسي قد حاولت هذه الطريقة في بعض الفرق (على غفلة من المفتش وغفلة من المنهج. . .) فما ادعوا إليها إلا مقتنعا بها مؤمناً بنتيجتها.
والآن وقد وصلت إلى هذه النقطة من الموضوع، أراني مع الأستاذ أحمد أمين في الحديث عن المكتبة العربية؛ فلو أنني زعمت له ولنفسي إن عندنا المعلم الكفء الموهوب الذي لا يمل الحديث مع تلاميذه بلسان عربي مبين جذاب ليزودهم بالغذاء المريء والنموذج الصالح من متن اللغة وأساليبها، لما وسعني الزعم بأن عندنا الكتاب الذي يصلح أن يكون لهذا التلميذ أستاذاً في غيبة أستاذه؛ يعطيه ما يعطيه المعلم من متن اللغة وأساليبها في عرض جذاب يحبب إليه مطالعته والتزود منه ثم يحمله من بعد أن يحرص على المطالعة لتكميل ثقافته ويجعل لها وقتاً من وقته طوال حياته في زمن التخرج وبعد التخرج.
ولو أنني زعمت أن عندنا هذا الكتاب لكذبتني وزارة المعارف التي لا تعطي تلاميذ مدرستها الابتدائية إلا كتابا واحدا للمطالعة العربية ألفه مؤلفه في القرن الماضي. . . وما يزال حيث كان! على حين تعطي هذا التلميذ نفسه بضعة كتب للمطالعة الإنجليزية قد تبلغ ستة كتب أو سبعة في السنة الدراسية، ثمن الكتاب منها يبلغ ضعف كتاب المطالعة العربية، وهي دقة بالغة في تنفيذ سياسة الاقتصاد. . .!
على أن هنا حقيقة لا ينكرها أحد ولا يغفل عنها أحد، هي أن المطالعة عند كل المشغولين بالمطالعة - عادة لازمة أكثر مما هي وسيلة من وسائل العلم، فإذا لم يعود الطفل على أن يقرأ منذ حداثته فهيهات أن يمكن حمله على المطالعة المثمرة من بعد؛ وهنا سر انصراف شبابنا عن المطالعة والأدب إلى ذلك اللغو وتلك الدعاوى الفارغة التي تملأ أفواههم عن الأدب والتجديد.
ومن ثم يجب أن نبحث أول ما نبحث في نقص المكتبة العربية للأطفال، ثم من يليهم، ثم من يليهم، إلى أن نبلغ الطبقة التي نجد فيها من يقرأ أمثال الأغاني والأمالي وعيون الأخبار والطبري وغيرها من تراثنا الأدبي الذي لا نجد من يقبل عليه إلا القليل من قراء العربية.
وأنني أؤكد للأستاذ أحمد أمين أن المكتبة العربية لم تضعف هذا الضعف لعجز في المعلمين أو نقصٍ في كفاية القائمين على شئون اللغة العربية، ولكن وسائل التخذيل وقلة المكافأة. . . وقد عالجت طائفة غير قليلة من أدباء العربية هذا النقص في مكتبة الأطفال، وكان خليقاً أن يبلغوا بها مبلغاً تطمئن إليه، لولا قلة المكافأة وسوء التقدير، وأنا نفسي ما زال أعاني أزمة عنيفة بيني وبين نفسي من جراء محاولة من هذه المحاولات لا صلاح مكتبة الطفل، صرفتني عن العمل لغيرها وقطعتني عن الجو الأدبي الذي كنت أعيش فيه والذي كنت أهيئ نفسي لمنزلة في الغد هي أجدى علي وأنفع، وجعلتني غرضاً لسهام اللوم من أصدقائي الذين كانوا يحسنون الظن باستعدادي الأدبي، والأستاذ الزيات صاحب الرسالة أول هؤلاء اللائمين، مع إعجابه بما أقدم للطفل العربي من أدب سائغ. وهاأنذا ما أزال في المحاولة، ومازلت أطمع في أن أبلغ بالقصص المدرسية - أصدرها مع زميلين من زملائي - مبلغاً أقتنع فيه بأني قد أسديت يداً إلى المكتبة العربية واحسبني قد سمعت مرة من الأستاذ أحمد أمين ثناءً على عملنا كان خليقاً بأن يحملني على الثبات ومضاعفة الجهد في هذه المحاولة؛ ولكن عملاً كهذا يا سيدي لا يجزئ فيه أن أسمع كلمات الثناء وعبارات التشجيع وأنا أبذل فيه من أعصابي ومن مالي وعمري ولا مكافأة ولا تعويض. أفيحسب أستاذنا الجليل أن سعيد العريان ومعه مائة مثله من معلمي اللغة العربية في مدارس الحكومة يستطيعون أن يسدوا هذا النقص في المكتبة العربية ووزارة المعارف لا
تحاول أن تشعرهم من قريب أو بعيد بأن لهم عليها حقاً أكثر من: أحسنت وأجدت ولله أنت. . .!
أم تحسب أحداً يقدم على أن يبذل لمثل هذا العلم جنيها لعله أحوج إليه في بيته، وهو يعلم أن وزارة المعارف لا تكافئ الكتاب والمؤلفين إلا أن يكونوا مفتشين أو أشباه مفتشين؛ حتى لو أن معلماً صغيراً (مثلي. . .!) أنشأ عملاً خليقاً بأن من ينتفع به، أسرع إلى محاكاته واحد من هؤلاء فيكافأ على التقليد ويضيع العمل الجيد على منشئه بلا مكافأة ولا تعويض. . .؟ يا سيدي! والله ما كان في بالي أن أشكو، ولا أردت أن يكون الحديث عن نفسي، وليس من طبعي أن أقول: ليتني وليت الناس! ولا كان همي أن التمس المعاذير للمقصر والمجيد؛ ولكنك رغبت إلى كل ذي رأى أن يدلي برأيه، فهذا ما دفعني إلى ذاك، وأرجو ألا أكون على حيد الطريق فيما كتبت، أو أن أزيل حسن الظن من نفسك، ولعل لي عودة قريبة إلى الموضوع والسلام عليك.
(طنطا)
محمد سعيد العريان
في القديم والجديد
كلمة وكليمة
للرافعي فقيد اللغة والأدب
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
. . . إن الخلاف بين ما يسمونه القديم والجديد ليس بخلاف على جديد ولا قديم، ولكن على ضعف وقوة؛ فأن قوماً يكتبون وينظمون، ولكن لم تقسم الفصاحة والبلاغة على مقدار ما يطيقونه من ذلك، ولا يتسع الصحيح لآرائهم في اللغة والأدب؛ وقد أرادوا أن يسعوا كل ذلك من حيث ضاقوا، ويطاولوه من حيث تقاصروا، وينالوه من حيث عجزوا، فظنوا بالأمر ما يظن إنسان يمشي على الأرض ويعرف أنها تدور فيؤول ذلك بأنه هو مدير الأرض على محورها بحركة قدميه. . . نحن نقول: أسلوب ركيك، فيقولون: لا بل جديد!! ونقول: لغة سقيمة، فيقولون: بل عصرية!! ونقول: وجه من الخطأ، فيقولون: بل نوع من الصواب!!
. . . إننا لا نعرف قديماً محضاً ولا جديداً صرفاً، ولا نقيم وزن أحدهما إلا بوزن من الآخر إذا أردنا بهما سنة الحياة، وأنت لم تجد حياً منقطعاً مما وراءه؛ بل أنت ترى الطبيعة قيدت كل حي جديد إلى أصلين من القديم لا أصل واحد هما أبواه، فمنها يأتي، ومنها يستمد، وهما أبداً فيه وإن كان على حدة.
. . . المذهب القديم هو أن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها، وأن تكون هذه الأسفار القديمة التي لا تحويها لا تزال حية تنزل من كل زمن منزلة أمة من العرب الفصحاء، وأن يكون الدين العربي لا يزال هو هو كأنما نزل به الوحي أمس، لا يفتننا فيه علم، ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء لا منفعة فيهما معاً إلا بقيامهما معاً. . .
. . . سألت بعضهم ما هو الجديد الذي تحامون عنه؟ قال: هو ما يكتب به في الصحف. قلت: فأن فيما يكتب الضعيف والساقط المرذول ثم ما هو إلى الجزالة والفصاحة، ثم ما يلتحق بجيد الكلام، فأي هذه تريد؟ وأيها ليس قياساً من أصلها العربي المعروف؟ أفتجعلون
النقص مذهباً من كماله ثم لا تكتفون بخطأ واجد وتدعون أن الكمال في نفسه يجب أن يعد مذهباً من النقص؟ أم الجديد هو ما يكتب به في الصحف، تعني لأنك أنت تكتب الصحف. . .؟
التجديد في الأدب إنما يكون من طريقتين: فأما واحدة فإبداع الأديب الحي في آثار تفكيره بما يخلق من الصور الجديدة في اللغة والبيان، وأما الأخرى فإبداع الحي في آثار الميت بما يتناولها من مذاهب النقد المستحدثة، وأساليب الفن الجديدة. وفي الإبداع الأول إيجاد ما لم يوجد، وفي الثاني إتمام ما لم يتم، فلا جرم كانت فيهما معاً التجديد بكل معانيها، ولا تجديد إلا من ثمة، فلا جديد إلا مع القديم. . .
لم أقرأ إلى يوم الناس هذا في معنى هذا (الجديد) كلاماً يبلغ أن يصور منه برهان أو تؤلف منه قضية صحيحة، وكل أقاويلهم ترجع إلى ثلاثة أبواب: جديد، ومجدد، ولنجدد، فأما الأول فهو عندهم تقبيح القديم والزراية عليه والتنفير منه، وأما الثاني فهو العائب والشاتم والمتهزئ، وأما باب قولهم (ولنجدد) فهو لا يزال إلى الآن مقصوراً كل واحدٍ منهم للآخر:(ولنجدد). . .
. . . أنا والله لا أعرف أهؤلاء القوم يجدون أم يسخرون! ولكن الذي لا أجهله أن في بعض الناس أرواحاً وأمزجة انطبعت فيها صور الاجتماع الأوربي بما يحوي من فضائله ورذائله لأن هذه نتائج تلك ما منها لهم بد - فتريد هذه النفوس الرقيقة الجميلة!! أن تنسخ الرسم الإسلامي الشرقي وتقر كل ذلك الأوربي في مكانه. تلك هي نزعة التجديد. .!!
. . . لقد رأيت لأصحاب (المذهب الجديد) أصلاً في تاريخ الأدب العربي كانت جذوره ممن انتحلوا الإسلام وهم يدينون بغيره، وممن كانوا يدينون به وتزندقوا فيه، حتى قال الجاحظ في بعض رسائله يعني هؤلاء وأولئك:(فكل سخنة عين رأيناها في أحداثنا وأغبيائنا!! فمن قبلهم كان أولها) ورحم الله أبا عثمان، إن التاريخ ليعيد نفسه اليوم (بنسخة عين جديدة). . .
إنهم أرادوا (بالمذهب الجديد) أن يكتب الكاتب في العربية منصرفاً إلى المعنى والغرض تاركا اللغة وشأنها متعسفاً فيها آخذا ما يتفق كما لا يتفق، وما يجري على قلمه كما يجري، معتبرا ذلك اعتبار من يرى أن مخه بلا غلاف من عظام رأسه، وأن عظام رأسه كعظام
رجليه! وأن أصابع قدميه كأهداب عينيه!! وأن مطلق التركيب هو مطلق النظام والمناسبة!! وأن اللغة أداة ولا بأس بالأداة ما اتفق منها، ولا بأس أن يمزع الجراح مزعاً من جلد العليل بأسنانه أو بأظافره أو بنصل الفأس. . . ما دامت معقمة وما دام ذلك يعينه هو فعل المبضع لا يزيد المبضع عليه إلا الدقة. .
إن أرادوا بهذا وأشباهه ما يسمونه المذهب الأدبي الجديد قلنا: لا، ثم لا، ثم لا، ثلاث مرات. . .
أظن أن اللغة العربية لم ترتفع منزلتها عند هؤلاء الحمقى المجددين إلا إذا أصبحت لغة فرنسا أو إنجلترا. . . فيومئذ يكون الجاحظ جاحظاً بقوة الأسطول، وعبد الحميد بقوة الجيش، وابن المقفع بسلاح الطيران، إذ هم وأمثالهم أسلحة التاريخ التي يقاتل بها مجد الأمة ليغلب وينتصر، وهذا بعينه هو من دليلنا على أن هؤلاء الخمسة أو الستة المجددين هم خمسة أو ستة مجانين في أمراض العقل الاجتماعي. . .
(أختارها وأخرجها)
محمد فهمي عبد اللطيف
التقاء النجف بالأزهر
رأي العلامة الشهرستاني
للأستاذ عبد المنعم خلاف
العلامة الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني رجل من رجالات العراق الذي يشار إليهم، ويعتمد على رأيهم في شئون الدين والدولة، تولى وزارة المعارف العراقية لأول عهد البلاد بالاحتلال الإنجليزي، فكانت له فيها مواقف جريئة مع مستشارها الإنجليزي لا يزال الناس يتحدثون بها ويثنون عليها. وكان العامل الأول على نشر التعليم بين المسلمين بعد أن كانوا يعزفون عنه نظراً للصبغة الاحتلالية التي كانت تسيطر عليه. وهو فوق ذلك صاحب قلم بارع في سرد حقائق الإسلام وجلاء مآثره، يشهد بذلك كتبه العديدة وخصوصاً كتابه (المعارف العالية) الذي نحى فيه منحى عصرياً حميداً يحبب إلى الشباب قراءته، وهو محاضر طلق اللسان لين الصوت وقور المظهر، وديع النفس تشعر أن فيضاً من سمو الروح وجلال الخلق يغمرك وأنت في مجلسه. وهو من كبار مجتهدي إخواننا الشيعة، وإن كان لسمو خلقه وغزارة علمه وأتساع أفقه لا يختص بفريق دون فريق. وكان على رأس الرعيل الأول من علماء الإصلاح في النجف الأشرف أهاب بعلمائه وطلابه سنة 1328هـ في مجلته (العلم) أن يرموا بأبصارهم إلى ما وراء أسوار معاهدهم الدينية من شئون الحياة والعلوم العصرية، كما أهاب الأستاذ الأمام محمد عبده برجال الأزهر. وقد صار له الآن تلاميذ ومريدون يتولون نشر دعوته وتعميم طريقته.
وقد كان من حسن حظي أن أتيحت لي فرصة زيارته فملأت بصري بصورته الجليلة. وشيخوخته الوقور التي ذكرتني بالصور الذهنية لعلماء بغداد الأولين، بعد أن ملأت سمعي بذكره العاطر وثناء الناس عموماً عليه. فصدق العيان الخبر.
وكان لا بد أن يتطرق الحديث إلى شئون المسلمين والآمال في المستقبل الذي تحفز التاريخ ليكتب فيه صفحة جديدة للنهضة الدينية والدنيوية في ديارهم.
وهو يرى أن الوحدة الإسلامية المنشودة التي يمهد لها المخلصون من رجال الإسلام، ويدعون إليها لا يمكن أن تتم إلا بالتقاء النجف بالأزهر بتبادل الزيارات بين العلماء والبعثات بين الطلاب، وإطلاع رجال كل من المعهدين على الأنظمة في الآخر
وهذا رأي لا ريب سديد وقريب التحقيق يجب أن يلتفت إليه العاملون لجمع الشمل وتحقيق الوحدة. أنقله إلى مسامع حضرة الفضيلة الأستاذ الأكبر المصلح الشيخ المراغي الذي تركزت فيه آمال النهضة الإسلامية، وسار الأزهر في عهده خطوات موفقة إلى الغاية التي ينشدها الناس من رجال الدين.
والواقع أن الخلاف بين الشيعة وأهل السنة الذي يجسمه العوام والإغفال، وينفخ فيه أعداء الطائفتين جميعاً من وراء ستار، لا يمكن أن يزول إلا إذا رأى العوام رجال الدين من الفريقين يتآخون ويتبادلون الزيارات ويتعلم كل منهم على الآخر في أخوة وصفاء، فالعوام هم الذين يعظمون الصغائر ويكبرونها، أما العلماء من الفريقين فهم أفقه وأعقل من أن يجدوا مواضع الخلاف القليلة محلا لجفاء وهوة تفصل بين أهل التوحيد.
ولقد وجدت هذه الرغبة في التوحيد متجلية عند علماء الشيعة في مواقف عدة، فالسيد محمد حسين آل كاشف الغطاء يدعو إليها في المؤتمر الإسلامي بالقدس، وها هو ذا العلامة الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني رجل الإصلاح، يرسم الطريق ويضع الخطة لها ويعد بمواصلة العمل في سبيلها على رغم شيخوخته، والأستاذ حسين مروة يدعو إليها منذ شهرين في الرسالة. . . . كل هذا يبشر باقتراب الموعد ومواتاة الظروف، ولم يبق إلا أول العمل فهيا.
عبد المنعم الخلاف
شخصيات مجهولة في الأدب العربي
إبراهيم بن سهل الأشبيلي
بقلم محمد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي
كثيراً ما رأيت من بعض الأدباء جهلاً شائناً بذلك الشاعر المطبوع إبراهيم بن سهل؛ فخدمة للأدب، وإحياء لذكره، أتقدم بهذه الكلمة الموجزة إلى صحيفة العلم و (رسالة) الأدب، راجياً أن أتبعها أخرى إن سمحت لي الظروف وكان في صفحات الرسالة متسع
نسبه، ميلاده، وفاته
هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بعيش بن سهل الاشبيلي، نسبة إلى إشبيلية مدينة من أعظم المدن الأندلسية. ولد سنة ستمائة وتسع عشرة هجرية، ومات غريقاً في البحر وهو أبن أربعين، سنة ستمائة وتسع وخمسين هجرية كما ذكره أبو الحسن الخزرجي
قال صاحب نفح الطيب: غرق وهو أبن أربعين سنة في البحر. وقيل وقد جاوز الأربعين. ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدار إلى وطنه. وذكر مالك بن المرحل في غرقه قصة طويلة، خلاصتها أنه كان من كتاب أبي علي بن خلاص صاحب سبتة فأرسله مع أبنه المستنصر ملك تونس فغرقا في البحر لشدة هيجانه. ولما بلغ المستنصر غرق ابن سهل قال: عاد الدر إلى وطنه.
إسلامه
كان يهودياً وأسلم، وقد أختلف العلماء والمؤرخون في صحة إسلامه، فمن قائلا إن إسلامه كان ظاهراً وباطناً، ومن قائل أنه في الظاهر فقط. ولا بأس أن أنقل هنا بعض أقوال الفريقين. قال محمد صغير الأفراني المراكشي: كان يهودياً ثم من الله عليه بالدخول في الملة المحمدية وحسن إسلامه. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة بارعة، قال أبو حيان وقفت عليها، وهي من أبدع ما نظم في معناها. وقال العزفي: كان يتظاهر بالإسلام ولا يخلو من قدح أو اتهام. وقال ابن مرزوق: صحح لنا من أدركنا من مشائخنا أنه مات على الإسلام. وقال صاحب نفح الطيب: اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس فسألوه - لما أخذت منه الراح عن إسلامه - هل هو في الظاهر والباطن أم لا؟ فأجابهم: للناس ما
ظهر ولله ما استتر. وقال ابن سعيد القيسي في كتابه القدح المعلى: كتبت إلى ابن سهل أستدعيه إلى أنس بثلاث أبيات فأجابني سراعاً بأبيات آخرها
سآلفها إلف العتيق كتابه
…
ولأشتهي ورداً سواها لدى الخمر
فلما وصل أظهرت استحسان سرعة جوابه غير أني أنكرت عليه منزع بيته الأخير فقال: أليس في الجنة نهر خمر؟ فقلت: بلى فقال: حسبي لا أبغي به بدلا. فقلت: بحرمة ما بيننا إلا ما أصدقتني هل أنت على دين أسلافك، أم على دين المسلمين، وأزلت عني شك الناس فيك. قال: للناس ما ظهر ولله ما استتر. وقال في عنوان الدراية: سمعت شيخنا أبا الحسن الأندلسي يقول: شيئان لا يصحان: إسلام ابن سهل وتوبة الزمخشري من الاعتزال. وقد أستدل الأفراني المراكشي على حسن إسلامه بقوله:
تسليت عن موسى بحب محمد
…
ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي
وما عن قلى قد كان ذاك وإنما
…
شريعة موسى عطلت بمحمد
جاعلاً أنه قصد بموسى الكليم عليه السلام، وبمحمد نبينا عليه الصلاة والسلام، وعندي أنه لا دليل في هذين البيتين (رغم اعتقادي حسن إسلامه)، وأن موسى المذكور غلام كان يعشقه، وذكر أسم محمد تورية، وقد جاء ذكر موسى هذا في شعره كثيراً، من ذلك قوله:
كساني موسى من سقام جفوله
…
رداء وأسقاني من الحب أكؤسا
وقوله:
ليس ثاري على موسى وحرمته
…
بواجب وهو في حل إذا وجبا
وقوله:
أشاعوا أنني عبد لموسى
…
نعم صدقوا عليّ بما أشاعوا
وفي بيتيه الآتيين فصل القول أنه معشوقه لا الكليم عليه السلام:
موسى تنبأ بالجمال وإنما
…
هاروت لا هارون من أنصاره
إن قلت فيه هو الكليم فخده
…
يهديك معجزة الخليل بناره
شهادات العلماء فيه
قال ابن القاضي في كتابه درة الجمال: كان ابن سهل ممن أنتحل صناعة القريض فافتن بها وتصرف، وعنى بعالم الأدب فوعى وصرف، إلى أن بلغ الغاية في الشعر فصار فيه
أوحد، لا ينعت ولا يحد. وقال أبو حسن الخزرجي في كتابه إعلام الزمن: إبراهيم بن سهل كان شاعر زمانه أسلم بعد يهوديته ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة بديعة. وقال مالك ابن المرحل: كان معنا ابن سهل وحسن إسلامه، ولازم صلاة الجماعة، ونظر في الأدب فنبغ في الشعر. وقال الأفراني: وإن من تتبع مقطعاته علم أن له خبرة واسعة بفن العربية كقوله:
أموسى أيا كلي وبعضي حقيقة
…
وليس مجازا قولي الكل والبعضا
خفضت مقامي إذا جزمت وسائلي
…
فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا
وفي هذين البيتين تنكيت على أبي القاسم الزجاج إذ قال في جملة: (وإنما قلنا بدل الكل والبعض مجازا) وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظمه، فقال: لأنه أجتمع فيه ذلان: ذل العشق وذل اليهود.
عفافه
وقد كان فيما يظهر من كلامه عف الإزار، وبيته المشهور من أعظم الأدلة على ذلك وهو:
وأبى عفافي أن أقبل تغره
…
والقلب مطوي على جمراته
وقوله:
بتنا نشعشع والعفاف نديمنا=خمرين من غزلي ومن كلماته
وقد ذهب ابن القاضي في شرحه لأبيات الذهبي لما تعرض لابن سهل إلى أن هذا من صناعته لا طبيعته، ولعمري إن هذا منه توريك وتحامل؛ وإلا فأي مانع من أن يكون العفاف فيه سجية؟
شعره:
وله ديوان شعر مشهور، وقفت عليه وهو في غاية الجودة، ولا بأس أن أثبت هنا من شعره ما يرخص الدرر، ويكون في هذه الأسطر بمثابة الغرر من ذلك قوله:
مضى الوصل إلا أمنية تبعث الأسا
…
أداري بها همي إذا الليل عسعسا
أتاني حديث الوصل زوراً على النوى
…
أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا
ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا
…
أصبت الأماني خذ قلوباً وأنفسا
وقوله:
قالوا سيسلبك العذار سفاهة
…
وحصاد عمري في نبات عذاره
إن لم أمت قبل العذار فعندما
…
يبدو أيسلم عاشق بفراره
مثل الغريق نجا فوافى ساحلا
…
قاذا الأسود روابض بجواره
إن العذار صحيفة تتلو لنا
…
ما كان صان الحسن من إسراره
وقوله:
يا حسنه والحسن بعض صفاته
…
والحسن مقصور على حركاته
صافحته والليل يذكي تحتنا
…
نارين من نفسي ومن وجناته
أوثقته في ساعدي لأنه
…
ظبي خشيت عليه من نفراته
والقلب يرغب أن يصير ساعدا
…
ليفوز بالآمال من ضماته
وقوله:
نظر جرى قلبي على آثاره
…
خلع العذار فلالعاً لعثاره
يا وجد شانك والزمان وخلني
…
ما المرء مأخوذ نزلة - جاره
دنف يغيب عن الطبيب مكانه
…
لولا ذبال شب من أفكاره
للدمع خد فوق صفرة خده
…
فتراه مثل النقش في ديناره
وقوله:
ردوا على طرفي النوم الذي سلبا
…
وخبروني بقلبي أية ذهبا
علمت لما رضيت الحب منزلة
…
أن المنام على عيني قد غضبا
فقلت وا حربا الصمت أجدر بي
…
قد يغضب الحسن إن ناديت وا حربا
وقوله:
يقولون لو قبلته لأشتفي الجوى
…
أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا
ولو غفل الواشي لقبلت نعله
…
أنزهته أن أذكر النحر والثغرا
ومن لي بوعدٍ منه أشكو بخلفه
…
ومن لي بوعد منه أشكو به الغدرا
وما آنا ممن تحمل الريح شوقه
…
أغار حفاظاً أن أبوح له سرا
وقد أبدع في فنون البيان وأتى في شعره منها بالعجب العجاب. فمن أحسن توجيهه قوله:
لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي
…
فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد
فبالله برد ما بقلبي من الجوى
…
بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد
وله موشح كبير، أبدع فيه وأجاد، تبارى العلماء في شرحه وإظهار معانيه ودرره، برهن فيه على سعة باعه في العربية والصناعة الشعرية، أوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حما
…
قلب صب حله عن مكنس
فهو في جر خفض مثلما
…
لعبت ريح الصبا بالقبس
ولعلي في فرصة أخرى أتمكن من شرح بعض أبياته وإبراز مكنوناته والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
موت صديق
للكاتب الفرنسي
من كتابه (رحلة حول غرفتي)
ترجمة الأستاذ خليل هنداوي
سعيد ذلك الذي يجد صديقاً يلائمه منه قلبه وروحه. صديق يجمعه به حدة وذوق، وألفة وعاطفة، وجامعة معرفة. صديق لا يقلقه طمع ولا تسيره مصلحة. صديق يؤثر ظل شجرة على ترف مدينة. سعيد من يملك صديقاً!
كان لي صديق أحتضره الموت مني في عنفوان صباه، ومطلع عمله في العهد الذي أصبحت صداقته حاجة لقلبي شديدة. كنا نتآزر معاً على أعمال الحرب، ولم يكن لنا إلا غليون واحد نتناوبه وكأس واحدة نشرب بها، وسقف خيمة واحدة يظللنا. في الظروف التعسة كان لنا ذلك السقف حيث كنا نحيا معاً وطناً جديداً. رأيته ينجو من كل مهالك الحرب ويسلم من أهوالها كأنما الموت كان يدخر أحدنا للأخر، وكأنما نفذت نباله التي صوبها إليه دون أن تصيبه. ولكن هذا لم يكن إلا ليجعل فقده - عندي - أكثر ترويعاً. ولقد كان في قعقعة السلاح والذهول الذي يملك النفس من جراء الأخطار ما يحول دون بلوغ آلام نزعه إلى عاطفتي وإحساسي. وموته قد يكون نفعاً لوطنه وشؤماً على أعدائه. لو كان ذلك لكان أسفي عليه قليلاً، ولكني فقدته في وسط المسرات ورأيته يحتضر بين ذراعي في حين كانت تقوى صحته وتتوثق روابط مودتنا في أيام الراحة والسكون.
آه إنني لن أتعزى عن فقده، وإن ذكراه لا تبرح قلبي ولا تحيا إلا في طواياه. وإنها لن تكون في اللذين كانوا يحيطون به أو اللذين حلوا محله، هذه الفكرة تجعل وقع فقده أنأى على النفس وآلم للقلب. وهذه الطبيعة التي تتراءى لنا خلية لا تبالي حظ الناس تضع رداء ربيعها الزاهي وتتزين بأبهى حلل جمالها حول المقبرة التي يستريح جثمانه فيها. فالأشجار مورقة متشابكة الأغصان، تشدو العصافير تحت ظلالها، وللذباب الربعي أغاريد على أزهارها. كل شيء يتنفس فرحاً وحياة في مساكن الموتى، وفي المساء، حين يلمع القمر في السماء، وأنا أتأمل هذا المثوى الكئيب أسمع الصرصور يوالي بطرب إنشاد (أغنيته)
التي لا يسأم ترديدها، متوارياً بين الأعشاب التي تحجب اللحد الذي يثوي فيه صاحبي، إن فساد الكائنات هذا الفساد الذي لا يحس به، وكل نكبات الإنسان ومصائبها لا يعد شيئاً في الوجود الكلي، إن موت إنسان يحس به، يحتضر بين أصحابه اليائسين، وموت فراشة أهلكتها نسيم الصبح البارد في فجوة زهرة، هما حادثان متماثلان عند الطبيعة. فما الإنسان إلا خيال أو ظل أو ضباب يذوب في الفضاء.
خليل هنداوي
الشعر على اللسان النبوي
للسيد جلال الحنفي
الذي لا زلنا نسمعه ونقرأه بحيث بات من البديهيات التي لا يتجادل فيها، وأصبح من غير المحمود الخروج عليه: أن الشعر لم يكن يلتئم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. ويقال إن النبي أنشد قول طرفة المشهور على هذا الشكل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار
فقيل له: ليس البيت كذلك يا رسول الله، وإنما هو هكذا:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
فرجع صلى الله عليه وسلم منشداً للبيت كما أنشده من قبل، ولم يتمكن من إنشاده بلفظه.
وإني لأعجب منتهى العجب كيف يسوغ لأحد أن يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا العّي الذي ينقص أي امرئ إذا نسب إليه، وناهيك بالنبي وهو أفصح من نطق بالضاد، وصاحب الكلم الجوامع.
ولا أريد هنا أن أدلي بالنصوص التي يعلم منها أن النبي رغب في الشعر وحث عليه وافتخر ببعض رجاله، ودرج على ذلك بقية من أصحابه، وإنما أعرض هنا طائفة من المواطن التي تقيم الحجة على ما يسند إلى الرسول غير صحيح؛ وأنه أنشد بضعة أبيات في أحوال متعددة من دون أن يخرجها عن سننها.
فلقد أنشد صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق من شعر عبد الله بن رواحة:
هذا الحِمال لا جمال خيبْر
…
هذا أبرُ ربَّنا وأظهر
ولكن ابن شهاب الزهري قال تعليقاً على هذا تخلصاً من الحجة التي تقع على القاعدة الموضوعة في هذا الأمر، قال:
(ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت)
والحقيقة أيضاً خلاف هذا إذ أنه صلى الله عليه وسلم أنشد في حفر الخندق أيضاً لابن رواحة على ما رواه البخاري، ومسلم والمؤرخون:
والله لولا الله ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنة أبينا
وأنشد رسول الله يوم الخندق أيضاً:
بسم الإله وبه هدينا
…
ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبذا رباً وحب دينا
وأنشد عليه الصلاة والسلام لأمية:
رجل وثور تحت رجل يمينه
…
والنسر للأخرى وليث مرصد
وأنشد فيما أنشد:
أتيناكم أتيناكم
…
فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأح
…
مر ما حلت نواديكم
ولولا الحبة السمرا
…
ء لم تسمن عذاريكم
وكان صلوات الله عليه كثيراً ما ينشد لعنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
…
حتى أنال به كريم المأكل
وينشد للبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل
وإني لأخجل في تحقيق مثل هذا الأمر والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما عقلوه فيه من العجز عن النطق بالبيت على وزنه من حيث لا حكمة هنالك، ولولا أن تكون المسألة ضاربة إطنابها بين المعتقدات لما أسلكت قلمي في سبيل نقدها.
(بغداد)
جلال الحنفي
خطيب جامع عطاء
بعض أسباب الضعف في اللغة العربية
للأستاذ عويس القرني
كتب الأستاذ الكبير أحمد أمين في أسباب الضعف في اللغة العربية، ودعا الباحثين أن يدلوا بآرائهم في ذلك ليتبين الأمر على وجهه ونصل إلى علاج ناجع لترقيتها.
وحرص الأستاذ المصلح على ترقية اللغة العربية هو الذي دعاه إلى فتح باب البحث، ولذلك نتقبل نقده قبولاً حسناً؛ والأمر يهم مدرسي اللغة العربية، إذ أن حديث الأستاذ يمسهم في خاصة أمرهم ويرميهم بالتقصير والقصور، فهم يدفعون عن أنفسهم ذلك بأدلة الواقع المحسوس.
ولا يدعونا للدفاع عن أنفسنا عاطفة حزبية، أو رغبة طائفية، فذلك ما لا نرضاه ونميل إليه، وإنما يدفعنا إلى ذلك الرغبة في إظهار الحقيقة.
والأستاذ الفاضل عودنا في بحوثه وتأليفه الإنصاف ووزن الأحكام بميزان الصدق والحق.
ودار العلوم التي رماها بالتقصير والتخلف لم تتوان منذ أنشئت عن أداء مهمتها، ولم تدخر وسعاً في تقويم الألسنة وتثقيف العقول في جميع مراحل التعليم.
وأية نظرة إلى منهاج المدرسة تدل دلالة بينة على مقدار صلاحية أبناء الدار في عملهم؛ فهم يدرسون اللغة العربية أدبها وقواعدها وفقهها، كما يدرسون القران الكريم، والفقه وأصوله، والفلسفة، والمنطق، والتاريخ، والجغرافيا وغيرها يدرسون تلك العلوم بتوسع على أساتذة أكفاء.
وأبناء الدار منبثون في طول البلاد وعرضها، يعلمون النشء ويقومون أخلاقهم، ويبثون في نفوسهم الوطنية الصادقة ويعودونهم البحث ويشوقونهم إلى الإطلاع.
والعلوم التي يدرسونها في مدرستهم يراها الأستاذ في حديثه الماضي ضرورية لمعلمي اللغة العربية، وهذه المواد لا تتوافر دراستها إلا في ذلك المعهد الجليل.
ودار العلوم لا تدعي الكمال، وهي دائبة في طلب الإصلاح وتعديل منهاجها كلما رأت ضرورة إلى ذلك.
يقول الأستاذ إن خريجي دار العلوم لا يفهمون الأدب القديم ولا الحديث، وهذا حكم لم تصح حيثياته التي تبرره، ومن السهل على كل إنسان أن يرمي الناس بالضعف أو الجهل،
ويظل حكمه موقوفاً إلى أن تتبين دلالاته.
لا يضير مدرسي اللغة العربية قلة التأليف، فإن طبيعة عملهم تثقيف العقول، وتعويدها البحث والتفكير المستقيم، وعقد الصلة بين النشء وبين الحياة، وهم لم يقصروا في واجبهم، والنهضة الفكرية كما يشهد الأستاذ لهم فيها أكبر نصيب.
وعملنا كعمل غيرنا من أصحاب الفنون، فكما لا ينقص من قدر الأطباء والمهندسين والقضاة ألا يؤلفوا في فنونهم التي حذقوها، فكذلك شان المعلمين.
ونجاح الإنسان في حياته منوط بإتقان عمله، وأداء رسالته
والآن أظهر بعض أسباب الضعف في اللغة العربية، مما لم يذكره الأستاذ في حديثه السابق.
اللغة العامية:
معلم اللغة العربية يبذل مجهوداً كبيراً في تعليمها وتلقينها لأبنائه، ولو كان يسمع التلميذ من بيئاته لغة عربية، ويتحدث بلغة عربية لظهر مجهود المدرس وترقت حال التلاميذ، ولم نشعر بهذا الضعف، والذي يبنيه الأستاذ في الفصل يهدم خارجه في البيت وفي الشارع؛ بل أن بعض مدرسي العلوم الأخرى يتحدثون مع تلاميذهم بلغة عامية، ويقبلون منهم الإجابة بها متى أدت إلى المطلوب، وينشأ من ذلك ما تراه من استهانة التلاميذ بلغتهم الأصلية، ولا يتعودون التجويد ولا العناية متى ما كان دون ذلك يقبل منهم
وما حيلة أساتذة اللغة العربية وحدهم، وهم يبنون وغيرهم يهدم؟ فعلة العلل - على ما أرى - طغيان اللغة العامية على الفصحى في كل مكان، حتى في المدرسة نفسها.
والعلاج أن نعني باللغة العربية جميعاً في محادثاتنا وكتاباتنا حتى نصل بها إلى حالة مرضية، ونقوي أنفسنا بذلك.
وقد لحظت وزارة المعارف وجوب التحدث باللغة العربية، فحتمت على مدرسيها جميعاً التحدث باللغة العربية الفصحى، ولكن الواقع غير ما يجب.
الطريقة
ومن أسباب الضعف التي عرفتها منذ اشتغلت بالتدريس، طريقة التدريس بها. فأمام
المدرس منهاج مطول من القواعد وأبواب متعددة، والمنهاج يتطلب منه الشرح بطريقة خاصة ويطلب من المدرس تقسيم المنهاج على شهور السنة، وإلقاء كل درس في ميعاده. وإذا خرج المدرس عن الطريقة المطلوبة إلى طريقة يراها مفيدة إلى التلميذ، فقد يرى رؤساؤه أنه أتى أمراً آدا والطريقة التي نسير عليها الآن يرى التلاميذ فيها عناية بالقواعد فيتوفرون عليها لعلمهم إنها وسيلة النجاح، وطريقة الحصول على درجات عالية، ولا يصرفون في تلك العناية إلى التطبيق العملي، وإلى لباب الأدب، والآثار الفنية التي تكون التذوق، وتثمر العقل وتزيد الثروة، فتجود لغتهم، ويقوى تعبيرهم عما في نفوسهم. والعناية بالقواعد تخرج التلاميذ عن الغاية السامية من العلم، إلى اعتباره وسيلة للنجاح، ولذا يهملون بانتهائه وينسون باجتيازه والذي أراه أن تغير الطريقة الحالية في جميع سني الدراسة إلى طريقة عملية تطبيقية، وذلك إما بعرض نماذج أدبية مختلفة، وإلقاء أسئلة منوعة في الدرس تحوي أجوبتها الصحيحة القواعد المطلوبة، وإما بوصف محسوس أو شرح حادثة، ثم يوجه نظر التلاميذ إلى القاعدة، بعد أمثلة كثيرة، فالقاعدة تدرس كشيء ثانوي لا أولي.
وهذه الطريقة نافعة قد جربتها فثبتت لي فائدتها، وكل عبئها يقع على المدرس في تحضيرها وإعدادها إعداداً صالحاً، وهي تقرب من الطريقة الطبعية.
القواميس العربية
ومن أسباب الضعف في اللغة العربية فقرها من القواميس الحديثة المصورة التي تحدد المعنى في الذهن تحديداً بيناً.
وأمامنا الآن قواميس قديمة نأخذ منها معاني المفردات مع تقدم الزمن، واختلاف العصور.
ويشاهد الباحث حاجة ملحة إلى مظان البحث فلا يجد، على حين نشاهد في اللغات الأخرى ثروة عظيمة لمن يريد البحث والإطلاع. فعلى من تقع مسؤولية ذلك؟ أعلى مدرس اللغة العربية أم على العلماء؟ أم على الجامعة؟
الحق إننا شاعرون بالنقص، ولكن لا حيلة لنا في الكمال إلا بقدر.
عويس القرني
هل التقليد هو النظرية السائدة في التعليم والتشريع
بمصر الحديثة؟
للدكتور محمد البهي قرقر
في مصر يلاحظ الإنسان العادي إذا ما تتبع الصحف اليومية فحسب تغييراً متتالياً في برامج التعليم وتعديلا من وقت لآخر في قوانين البلاد المدنية.
تؤلف وزارة المعارف لجاناً لتهذيب مناهج التعليم، يكاد يكون ذلك في آخر وفي أول كل سنة دراسية، وتكلف وزارة الحقانية في فترات قصيرة متتالية بعض رجالها المسئولين على شكل هيئات استشارية - تغير بعض مواد القانون الجنائي أو المدني مثلا. كل ذلك تتسابق الصحف في الإعلان عنه، وهو أيضاً حقيقة واقعة تتكرر كلما حدث تغيير أو بعض التغيير في هيئة الحكومة المركزية.
قد يمر الإنسان العادي بمثل هذه الأخبار دون أن يوقف بها وقفة تفكير، بل ربما يعدها مثلا النشاط الحكومي، ولكن الباحث الاجتماعي الذي يربط الحوادث بأسبابها، أو الباحث النفسي الذي يفتش للظواهر النفسية عن مصادرها، لا يدع هذه الظاهرة، ظاهرة التعديل المتكرر، تمر إلا ويستخلص منها نتائجها، ولكن لا في صورة نهائية يقينية - فذلك ما لا يعمد إليه الباحث المتروي - وإنما يضعها في صيغة استفهامية مرددة، وأول ما يخطر بفكره: هل لهذا التغيير والتحوير من سبب؟ هل ذلك السبب أساسي؟ أي له علاقة بالأساس الذي بني عليه التعليم وأرتبط به التشريع، أم هو عرض إضافي؟
وأساس التعليم والتقنين يختلف طبعاً باختلاف أحوال كل أمة، ويتكيف بالظواهر الاجتماعية والأوضاع الجغرافية لكل شعب: فالجنس والدين واللغة والعادات من المقومات الأولية في تكييف التعليم والتشريع. فالجنس - وأقصد به الجنس التاريخي الذي يتكون بمرور الزمن وتنشأ عنه وحدة جنسية - له صفات وغرائز نفسية ربما تباين كل التباين صفات وغرائز جنس آخر، فالجنس الشمالي مثلا عرف بالبطء في الفهم والتروي في التفكير، بينما الجنس الجنوبي - وخاصة سكان البحر الأبيض المتوسط - حاد الذكاء كثير الأخطاء في استنتاجاته العقلية. والدين له دخل كبير إلى حد ما في تكوين العادات الخلقية، الفردية والاجتماعية منها، في كل شعب، بل في وسط شعب واحد، فقد يرى الإنسان في
الشعب مظاهر خلقية متباينة ترجع في اختلافها إلى اختلاف معتقدات الشعب نفسها. وكل لغة - بسبب تميزها بوسائل التعبير التي تنم عن طرق في التفكير لكل أمة خاصة - تعتبر عاملاً مهماً في تلوين التعليم والتشريع لا يقل عن عوامل العادات والوضع الجغرافي والحالة الاقتصادية للأمة.
فالتعليم الطبيعي إذن يسير على وفق غرائز الشعب وصفاته النفسية، لا بد أن يلاحظ فيه دين الدولة ولغتها وعاداتها. وسواء اعتبرت هذه كلها أو بعضها في نظر أمة أخرى أو أفراد منها - بناء على صورة نفسية مخصوصة ملقنة مثلا - ساذجة فطرية أو راقية، فالمبدأ الأساسي هو ربط التعليم بها ربطاً وثيقاً؛ وهذا الربط عينه هو ما يسمى عند علماء النفس والتربية بنظرية التعليم الوطني.
كذلك التشريع. فالجنائي والمدني منه يرتكزان على نفسية الشعب التي تتمثل في أفراده وعلى أخلاق الشعب وعوائده التي للدين فيها أثر كبير. فالمشترك الحديث لا يفرض عقوبة على جرم مثلاً إلا إذا وثق أن من وراء ذلك الردع والتهذيب، والردع والتهذيب كلاهما مرتبط بمعرفة نفسية المجرم وبظروف الإجرام، والمرآة الوحيدة التي تنعكس عليها نفسية المجرم وتتشخص فيها هي تحليل نفسية الشعب الموروثة والمكتسبة، والمقياس الذي يوضح ظروف الجريمة هي عادات الشعب وقانونه الخلقي، وليست المبالغة في العقوبة وحدها كافية في الردع والتهذيب كما يظن بعض المشترعين. وتشريع العائلة أساسه أيضاً دائماً عادات العائلة نفسها والعرف الشعبي الذي يحيط بها ومعتقدها الديني الثابت فيها ومنهجها الخلقي الذي تسيطر عليه. فإذا كان التشريع على هذه الأسس كان أيضاً تشريعاً وطنياً والتعليم والتشريع إذا كانا وطنيين كانت الغاية منهما محققة وثابتة وهي رفع المستوى التهذيبي للشعب من ناحيتين يلتقيان عند نقطة واحدة؛ إلا أن إحداهما وهي ناحية التعليم، ذات أثر داخلي، والأخرى وهي ناحية التشريع؛ أثرها من الخارج.
وكل حركة سياسية وطنية ترمي - إذا كانت سائرة في طريقها الصحيح - أولاً وقبل كل شيء إلى جعل التعليم والتشريع وطنيين، ولكن لا معنى صبغهما بالصبغة الحزبية وإلا كانت الغاية منهما خدمة شخصية بحتة.
على ضوء هذا التعريف الوجيز يمكن للإنسان أن يتبين أسباب التعديل والتغيير في مناهج
التعليم وفي حركة التشريع بمصر الحديثة.
قسمت مدارس الحكومة إلى درجات معينة: إلزامي وابتدائي وثانوي وجامعي. ووضع لكل نوع من هذه المدارس منهاج خاص، وربما - بل هو الواقع - لا يكون الخطوة الضرورية للنوع الذي يليه من التعليم. ثم لوحظ أنه لا بد أن يكون في المنهاج الخاص لكل نوع وحدة عامة قد تتنافى مع الحالة الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي تكتنف كل مدرسة والتي تؤثر إلى حد ما في محيط تعليمها.
ففي التعليم الإلزامي مثلاً يوجد برنامج واحد شامل لمواد التعليم لكل مدارس القطر الإلزامية، بينما المناطق الجغرافية المختلفة وأحوال البلاد الاجتماعية المتباينة لم تنل أية عناية فيه. وهنا يمكن للباحث الاجتماعي أن يدعي أن هذا المنهاج ليس وطنياً؛ إن هو إلا منهاج عبر سفينة التقليد من حيز إلى آخر، من شعب إلى غيره، ولكنه لا يقطع بأجنبيته إلا إذا تحقق من نتائجه، ونتائج التعليم مهما أختلف في أسلوبه يجب أن تكون التهذيب، وبلا ريب لم يكن التهذيب في يوم من أيام حياة التعليم الإلزامي نتيجة له، وإن كان مقصداً له مرسوماً، بل كانت نتائجه، وستكون كلما طال أجله على هذا النحو، إيجاد مشاكل اجتماعية تزداد تعقيداً على ممر الأيام. وليس أصرح في بيان هذه النتيجة من كلمة النائب المحترم الأستاذ عزيز أباظة عند مناقشته ميزانية وزارة المعارف في مسألة التعليم الإلزامي. فهو يقول:(إن الوسيلة المتبعة في التعليم الإلزامي بمصر قد تكون متفقة مع الأحوال الفنية - وطبعاً هو يعني أنها قد تكون طبق النظريات المقلدة - ولكنه يعتقد أن هذا التعليم في وضعه الحاضر لا يفيد البلاد شيئاً) لأنه لم يقم على أسس البلاد الوطنية.
كذلك إذا جاوزنا التعليم الابتدائي والثانوي، وناقشنا التعليم الجامعي، وخاصة ما يدعى منه زعامة التعليم الأدبي والثقافة العربية، رأينا ما يسمى (بالتجديد) الذي صار نغمة تسمع في كل جدل ومناقشة، ليس ما يجري فيه من التعديل إلا تعديلاً وتغييراً لا يعدو أن يكون سببه التقليد أيضاً أو هو التقليد نفسه. فمثلاً إنشاء سنة توجيهية، كمقدمة لدراسة الأدب العربي، يدرس فيها آداب اللغتين اليونانية واللاتينية، مع شدة ما بينهما من ناحية وبين الأدب العربي من ناحية أخرى من تباعد وانفكاك، محض تقليد للجامعات الأوربية، فهذه تحتم دراسة اللغة اللآتينية، لأنها مرجع النقل في العلم الغربي وأصل لمصطلحاته الفنية لليوم.
كذلك تحتم هذه الجامعات على طلب التخصص في الفلسفة الإغريقية دراسة اللغة اليونانية القديمة للعلة نفسها بخصوص هذا الموضوع من الفلسفة عامة، ولكن أمصطلحات فن دراسة الأدب العربي مشتقة كذلك من اللغة اللاتينية أو اليونانية مثلا؟ أم ذلك هو التقليد (والتجديد)؟
كذلك يجد الباحث الاجتماعي نظرية التقليد هي أساس محور التعديل والتغيير في التشريع المصري. فعند قراءتي: (يوميات نائب الأرياف) للأستاذ توفيق الحكيم في مجلة (الرواية) أستوقف نظري حكاية حادثة قضائية هي نفسها تعد من الحوادث اليومية العادية، ولكنها تعطي للباحث صورة واضحة عن هذا التقليد:(سيقت امرأة ريفية إلى الوقوف أمام محكمة جزئية للحكم عليها، لأن جريمتها أنها غسلت ملابس في ترعة عمومية، فلم يجد القاضي بداً من تغريمها، لأنه أمام نص قانوني) هذا النص القانوني أقتبس من النص الفرنسي الذي هو نتيجة لازمة لمخالفة نظام قائم في فرنسا. هذا النظام القائم هو أن البلديات هناك شيدت أولاً أحواضاً عامة للفقراء للغسل والاستحمام تسهيلا لهم من جهة، ومنعاً لانتشار الجراثيم في مياه عمومية من جهة أخرى، ثم شرعت بعد ذلك هذا النص وهو تشريع طبيعي. فتعديل القانون المصري وإدخال هذا النص الفرنسي فيه دون أن يكون بريف مصر منشئات مثل هذه، تعديل لم يراع فيه إلا التقليد من ناحيته السلبية، ولم يلاحظ بأي حال أسلوب المعيشة في قرى مصر وحالتها الاجتماعية وعوائد أهلها.
وليست أمثال هذه الحوادث القضائية هي التي تظهر فقط أن أساس تعديل القوانين في مصر هو التقليد، بل ما زال بعض كبار رجال القانون المصري المسئولين يباهي ويفتخر بأن التشريع المصري الحديث أصبح يضاهي أحدث القوانين لدى الأمم الراقية. ولكن الأمم الراقية نفسها إذا افتخرت بقوانينها فإنما تفتخر لأنها وفق حضارتها وثقافتها، وفق حالة شعوبها الاجتماعية والاقتصادية؛ وبالعكس تسخر من الشعوب الأخرى التي تحاول تقليدها في تشريعها لذات التقليد وحب الانتساب إلى الرقى والمدنية في شكلها الظاهري. فكثير من الشعوب الغربية يعيب تركيا الحديثة في اقتباسها القانون السويسري مثلاً في أحوال العائلة، والقانون الفرنسي في المسائل المدنية والتجارية - مع إن العائلة التركية لا تجتمع مع العائلة السويسرية إلا في النسبة البشرية؛ أما التربية، أما الغرائز النفسية، أما العادات
المتناقلة فشتان ما بينها من اختلاف -. التقنين عند تلك الأمم الراقية ليس عملية هينة يقوم بها القانون وحده، وإنما ساعده الأيمن في ذلك العالم النفسي الذي يبحث في تكييف صفات الشعب النفسية، والعالم الاجتماعي الذي يربط ظواهر الأمة الاجتماعية بأسبابها ويقارن بينها وبين ظواهر أمة أخرى، والعالم الاقتصادي الذي يبحث أسباب ضعف أو ارتفاع ميزان الأمة التجاري وحالة معيشتها.
فالتعليم والتشريع إذا في مصر الحديثة كما يراه أي باحث اجتماعي نفسي أساسه التقليد أو على الأقل هو الجزء الأعظم المكون لهذا الأساس، أما العوامل الوطنية المحلية فنصيبها في ذلك ضئيل. وما يسمى بالحركة الوطنية لا يتجاوز للآن أن يكون حركة صورية فحسب لم تنفذ بعد إلى الباب بل ربما يقال عنها أيضاً إنها تقليدية.
تعليم وطني، تشريع وطني وحركة وطنية في مصر - لم تزل كلها بعد ألفاظاً معانيها غير محدودة، وخيالات لم تقابلها إلى الآن حقائق راهنة. نعم هنالك المواد الأولية لبناء حركة تعليمية تشريعية وطنية، هنالك عادات للأمة، هنالك مقاييس خلقي - وليكن فيها بعض نواحي النقص أو الضعف أو الانحطاط فمعالجة ذلك موكولة إلى المصلح الاجتماعي - ثم هنالك دين ولغة تتمثل فيهما ثقافة الأمة الموروثة كما تتمثل في أبي الهول وأهرام مصر مدنيتها القديمة؛ هناك أيضاً البناء الذي ينقصه فقط الإتمام والتوسيع، هنالك الأزهر الذي رجع بنظره الآن إلى ألف عام مضت - وهو لم يتقوض ولن يتقوض - كمصدر لهذه الثقافة الوطنية، كمصدر لهذا التشريع الوطني. ذلك هو فخر مصر، فجامعة اكسفورد اللاهوتية، جامعة اكسفورد التي هي معقل الثقافة الإنكليزية القديمة الموروثة جيلاً عن جيل، معقل لتقاليد لم تزل وستبقى فخر الشعب الإنكليزي مادام اعتزازه بالمحافظة على التقاليد.
حركة وطنية ما هي إلا حركة رجعية، وليست تقليدية، حركتها تنظر إلى تراث الماضي لتبني عليه مجد المستقبل لا لتقوضه وتستبدل به غيره؛ فالتبديل معناه إنشاء خلق جديد على رغم الطبيعة وسنة الكون، وتلك محاولة شاقة لم تخطر ولن تخطر ببال مصلح اجتماعي عاقل، لأنها محاولة عبث وخيال لن يتحقق. تقليد وحركة وطنية شيئان لا يجتمعان في نظر عالم اجتماعي نفسي، لا يجتمعان في نظر زعيم وطني، وإن كانا قد
يجتمعان في نظر روائي خيالي لم يلمس الحقائق بعد؛ قد يجتمعان في نظر من شغف (بالتجديد) والانتساب إلى البحث لا لأنه يحب الجديد ويميل إلى البحث، بل لأنه قد لا يدري ما هو التجديد وما هو البحث. في المقال التالي سأعالج العلل النفسية لهذا التقليد.
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا
على هامش رحلتي إلى الحجاز
في تكية الدراويش
للدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست
خاتمة
وتقع في جانب الجبل مغارة عميقة هائلة ليست كلها من عمل الطبيعة، بل أنهم اجتهدوا في توسيعها شيئاً فشيئاً، فهذه المغارة هي في الواقع مقبرة الدراويش يتوسطها مقام الشيخ الكبير أبو عبد الله المغاوري الذي يرجع الفضل إليه في تأسيس تكية القاهرة، يحف به مئات من قبور الأخوان الدراويش، وهي متناثرة هنا وهناك في جوف المغارة. وأسر الى صديقي بأن هؤلاء الأخوان إنما تحرروا من قيودهم الزمنية وانطلقوا إلى العالم الأخر ليظفروا بلمحات يكشف لهم فيها الغيب، ويروا ما لا تراه العيون. بيد أنني لم أفكر كما فكرت الساعة في أن الرجال في أية لحظة من لحظات حياتهم هم أموات بالنسبة لتلك اللحظة، فليس الوقت هو الذي يمضي سراعاً، ولكننا نحن الذين نبتعد عن الزمن الصامت الثابت.
وإذا ما أراد الزائر أن يهبط إلى جوف المغارة فعليه أن يخلع نعليه أولا ويودعهما في صندوق خشبي مستطيل الحجم بجوار الباب، كما يتحتم عليه أن يدفع بعض ما تيسر في صندوق النذور. ولقد رأيت أن المترددين لزيارة هذه القبور نفر يسير من سكان القاهرة الفقراء، وأخصهم النساء اللواتي يلتمسن شيئاً من العزاء والسلوى في وقوفهن أمام الأضرحة والقبور.
خلعت وزميلي نعلينا وتأهبنا للتوغل في داخل المغارة التي كانت شمس الصباح تنفذ من فوهتها. وبعد أن دفعنا بضعة قروش لحارس المقبرة وهو من الدراويش الأشداء، دلفنا إلى مقصورة الشيخ الكبير مؤسس الطريقة؛ وكان في خارج المقبرة عدد من العجائز يرفعن أيديهن إلى السماء ويبتهلن إلى الله بالدعوات الصالحات، وقد علمت أن في وسع الموسرات منهن أن يدخلن إلى المقصورة ويمسسن الضريح بأيديهن للتبرك - ولكن هذا
نادر - أما بقيتهن فمن الفقراء اللواتي لا يملكن قوت يومهن، وهن يكتفين بالوقوف بباب المقصورة وأمامهن أحد الدراويش حاملا في يده مقرعة ليفسح الطريق للزائرين.
إن زيارة الأضرحة في مصر لا تزال من العادات المتفشية بين جميع الطبقات؛ وعلى الرغم من محاربة العلماء لها، فليس من السهل القضاء على الخرافات الكثيرة المتأصلة في نفوس العوام، لأنهم يعتقدون أن بعض الأولياء تحل بركتهم بالمرضى فيبرؤون. ولقد قضى الوهابيون على هذه البدع والنقائض كلها فحرموا زيارة الأضرحة والتبرك بالأولياء، واستطاعوا أن يعيدوا إلى بلادهم الشرائع الإسلامية خالية من كل شائبة. وهم يقولون إن قوة الإنسان في حد ذاتها محدودة، وليس في وسع أي مخلوق أن يشارك الله في قدرته؛ ويعتقدون أن وجود هذه الأضرحة يعيد إلى الذاكرة عبادة الأوثان التي قضى عليها الإسلام وحاربها بكل قوة.
ووقع نظرنا على ضريح الشيخ المغاوري يتوسط المقصورة في مساحة لا تقل عن تسع ياردات، وفي طرف الضريح رأس من الحجر ملفوف عليه قماش أخضر مطرز. وكذلك رأينا شمعتين كبيرتين الحجم موضوعتين بجوار الشاهد، حتى خيل إلينا أنهما حارسان. ولا يجب أن يفهم من هذا إن هاتين الشمعتين موضوعتان لغرض الإضاءة، كلا بل هما للزينة والتأنق، لأننا شاهدنا مصباحاً متدلياً من السقف ينشر ضوءه الشاحب المخيف على وجوه الزائرين.
جلست مع صديقي حسونه على المقعد الحجري المعاقب لضريح الشيخ، نرقب عن كثب هذا المشهد المؤلم، مشهد عشرات النسوة وهن يتمرغن في الخارج على الحجارة ويرسلن أصواتاً مخيفة مزعجة كالنباح، وأومأت إلى صديقي أنه يستطيع أن يستخلص موضوع رواية يوضح فيها بجلاء حالة المرأة المصرية، ثم يعرج على وصف حالة العامل المصري والفلاح المصري ويحلل نفسية كل منهما. فالفلاح في مصر لا يزال يكد ويشقى، ويلاقي من صنوف الهوان ومرارة العيش، كما كان يعانيه زميله أيام بناء الأهرامات دون تغيير أو تبديل في أسلوب الحياة، وما برحت الخرافات والبدع الدينية ظاهرة الأثر رغم تقدم الحضارة وانتشار العمران، وما زالت مسيطرة على نفوس هؤلاء العوام.
أجل! إنه لولا وجودي في القاهرة لما فكر صديقي حسونه في أن يقصد إلى تلك الخرائب
والأضرحة، ولكني أغريته بزيارتها حتى يتمكن من أن يجمع المواد التي يتألف منها كتاب أو رواية تضم معتقدات العوام وحالتهم الفطرية.
ولا أبالغ إذا قلت إن هذه وهذا الضريح الذي يتوسطها وتلك الأضواء الخافتة المستحيية، وهذا الشيخ الذي تفد النساء لزيارته خاشعات مسترسلات في توسلاتهن الحارة. كل هذه مشاهدة كان لها تأثير خاص على مشاعري. أما حارس الضريح الذي لا يأذن لأحد بالدخول إلا إذا ناوله الجعل المخصص للزيارة فأنه قادنا إلى أقصى المغارة حيث ألفينا نحو ثماني نساء يطفن بالضريح ويلمسن الكسوة بأيديهن تبركا. ولقد حدث أن شاهدت واحدة منهن وهي واقفة كالصنم، شاخصة ببصرها نحو المصباح الذي يرسل ضوءاً خافتاً لونه أحمر، شاهدتها جامدة كالتمثال أكثر من دقائق معدودة، لا تبدي حراكا ولا يهتز لها جفن، وراعني أن ألفيت برقعها الأسود ملقى وراء ظهرها، وكان وجهها شاحباً شحوب الموتى، ولكن صديقي علل ذلك بأن الشمس قلما تسطع على هذه الوجوه، لأنهن يعشن محجبات في داخل دورهن وإذا ما خرجن أحكمن وضع البراقع السميكة التي تحجب على وجوههن ضوء الشمس فيكتسب الجلد لون الصفرة، وكانت هناك عجوز شمطاء تلقي بجسمها على جدار الضريح كأنما الشخص المدفون أحد أحفادها، وثالثة نحيلة طويلة، ترتدي السواد وتلطم صدرها بكلتا يديها، ثم لا تلبث أن ترفعهما إلى السماء وتتوسل بصوت مرتفع. ورأيت الدموع تنحدر من عينيها وقد ارتسمت على وجهها آيات الرعب والفزع، ثم سمعنا بعد ذلك صوتاً يخرج من صدرها، وبعد برهة أخذت تولول وتمزق ثيابها. وكانت هذه الصرخة نذيراً لبقية النسوة اللواتي حافظن حتى هذه اللحظة على الصمت، فأنهن أسرعن إلى تقليد حركاتها والارتماء ثم التمرغ على الثرى والتدحرج حتى يصلن إلى المحراب، وهناك تخور قواهن. أما صديقي فقد راعه هذا المشهد المؤلم الذي يصور حالة خاصة من حالات الأمراض النفسية، فأمسك بذراعي وطلب إلي أن نغادر هذا المكان سريعاً، بيد أنه نسي أن هذه المناظر الهستيرية هزتني هزة عنيفة بحيث كدت أرتمي بدوري على الأرض، لولا أنني قاومت هذه الرغبة وأقصيتها عن ذهني. ما هذا البكاء، وذلك العويل، وشق الثياب؟ لقد تمالكت رشدي ورحت أحدق في وجوهن لأحاول أن أستخلص منها قصة كل واحدة، وإليك نتيجة استنتاجي:
تربى الفتاة المسلمة على الطاعة والخضوع والانقياد، لا على الحرية والصراحة في الرأي والتفكير، فالطاعة والانقياد هما الدعامة الأولى للتربية في مصر، وهذا هو السبيل للحياة المقبلة. فللوالد الحق في أن يجبر أبنته على الزواج من الشخص الذي يختاره لها ويفرضه سيداً عليها، وليس عليها سوى الامتثال لمشيئته، كما أن للزوج سلطة ضربها إذا عصيت له أمراً. وإذا أرادت المرأة أن تثأر لنفسها فليس أمامها سوى طريق واحد، هو طريق المؤامرات السرية والدسائس. والعادة أن جميع الأزواج لا ينظرون إلى زوجاتهن إلا نظرة الازدراء والتحقير، بل إن البعض منهن يعتبرن من سقط المتاع. وهذا هو السبب الذي يدعو الكثيرات منهن إلى أن يقصدن إلى تلك الأضرحة ليتوسلن إلى أصحابها ويستنجدن بكراماتهم من هول تلك الفضائع ولا يخفى ما للعواطف المكبوتة من الأثر السيئ في النفوس، وهؤلاء اللائى يدفن رغباتهن في صدورهن إنما يتعرضن لأفظع الآلام الهستيرية، فيعمدن إلى إقامة حفلات الزار والتوسل بزيارة الأضرحة للبرء مما يصيبهن من الأمراض العصبية.
- إنني لا أزال وأنا أكتب هذه السطور أتذكر صورة هذا الرجل الذي دخل علينا ونحن بضريح الشيخ المغاوري ثم أتخذ موقفه بين الشمعتين وما كاد يرى صياح النسوة حتى راح يهز رأسه عنيفاً بطريقة منتظمة، ثم ينادي بأعلى صوته: الله، الله. . . وبعد برهة كان يلتوي على الأرض التواء الحية الرقطاء وتتقلص عضلات وجهه، ويرسل صراخا كالنباح قائلاً: الله أكبر! الله أكبر! حتى خيل إلينا أن صخرة المقبرة أوشكت أن تلتقط منه لفظ الجلالة. وكدت أفقد رشدي من هول الموقف، وأحسست كأن حشرجة الموت تنشب مخالبها في حلقي، فأردت أن أستنجد بكل قواي غير أني لم أستطع إلى ذلك سبيلا؛ فجاهدت قدر طاقاتي حتى لا أسقط على مقعدي، ولكن بلا جدوى أيضاً لأنني شعرت كأن بي مسا من الجن، وأن كابوساً قد جثم فوق صدري، وأن العرق البارد يتحلب من وجهي. وأخيراً هدأت نفسي فغادرت المكان وهتفت بصديقي أدعوه إلى الصلاة. ولكنه أجابني بعدم قدرته على أدائها وهو لا يزال يرجف فزعا. فتركته ومضيت إلى القبلة، حيث عادت إلي طمأنينتي الأولى. وبعد الصلاة رحت أفتش عن صديقي فإذا به يقف بجوار المحراب باهت اللون، ينتظرني بفروغ صبر لنغادر هذا المكان الذي يرمقه بعيون مفتحة رعباً.
وتأوه صديقي ونحن نغادر باب المغارة، ثم أفضى إلي بأنه من الصعب أن يشعر بأقل ميل نحو الشرق، حيث الأضرحة والعقائد القديمة البالية والعادات المرذولة، ولكن أمه - تلك السيدة الوقور الطيبة الأخلاق - طالما شكت إلى إيمانه المزعزع واتجاهه نحو الغرب، وكانت تصلي من أجله عسى الله أن يرشده إلى الطريق السوي ويغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وانطلقنا إلى حديقة المغارة وما كدنا نستقبل الهواء الطلق حتى وقع نظرنا على طائفة من السائحات الأمريكيات وهن يصغين باهتمام إلى شروح بعض التراجمة والإدلاء، فهتفت بصديقي قائلا:
- هذا هو الغرب الذي تتعشقه
(تمت)
عبد الكريم جرمانوس
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 12 -
النفس - خلودها - التناسخ
رأيت فيما أسلفنا من مستحدثات عهد التطور تلك النظرية الفلسفية العميقة التي تقرر أن الوجود المادي باطل، ولكنه مشتمل في داخله على جوهر سام هو وحدة الحقيقة في كل موجود، ورأيت كذلك أن هذه النظرية لم تقتصر على كائن في الوجود دون كائن، فهي قد تناولت الآلهة والأناس والحيوان والنبات، غير أن أهم ما يعني الباحث في هذا الجوهر الحق المختبئ وراء الأستار المادية إنما هو النفس.
وقد عني خاصة اليهود بها عناية شديدة منذ أقدم عهودهم بالتفكير، فقرروا أنها هي الجوهر الحق في الإنسان؛ ولذلك أطلق عليها أسم الإنسان لأنهم اعتبروا الجسم بدونها باطلاً لا يستحق أن يدل على الإنسان كما تدل عليه النفس. ولا شك أن الباحث حين يتأمل هذه النظرية للوهلة الأولى يلمح فيها عناصر نظرية (أفلاطون) في النفس والمادة حيث يقرر أن النفس هي وحدها النور الخالد والحق الأسمى في الإنسان، أما الجسمان المادي فأنه خيال باطل لا تطلق عليه كلمة (حقيقة) إلا تجوزاً، لحلول النفس فيه ولصوغه على نماذج المثل التي أبنا أن عناصرها مصرية.
ويرى فلاسفة الهند أن النفس جاهلة بالفعل عالمة بالقوة، وأن الجهل والعلم صفتان متعاقبتان عليها باختلاف الظروف والأحوال. ولا جرم أن الهنود قد سبقوا (أرسطو) بعدة قرون إلى نظرية جهل النفس بالفعل وعلمها بالقوة وفوزها بالعلم الفعلي عن طريق الكسب والتجربة، تلك النظرية التي يبسطها أرسطو بسطاً واضحاً حين يرد على أفلاطون القائل بأن النفس كانت عالمة بالفعل قبل أن تحل الأجسام المادية ثم نسيت تلك المعارف بعد حلولها في المادة الكثيفة، وهي الآن لا تتعلم شيئاً جديداً، وإنما نتذكر ما كانت قد تعلمته في
الماضي ثم نسيته.
والنفس عند الهدوء خالدة لا يعتورها الفناء، لأنها هي كل ما في الإنسان من حقيقة كما أسلفنا، ولهذا فهم لا يعتبرون الموت أكثر من تغيير ثياب النفس ومآويها، إذ إنها هي لا تتعرض بالموت لأي شئ إلا انتقالها من مأوى إلى مأوى بما يسمونه التناسخ أو التقمص. وقد أفاضت الكتب الهندية دينية وفلسفية في هذه العقيدة أو النظرية إفاضة جعلتها كأنها وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهاك شيئاً مما نقله لنا البيروني خاصاً بعقيدة خلود النفس وتقمصها:
قال (باسديو) لـ (أرجن) يحرضه على القتال وهما بين الصفين: (إن كنت بالقضاء السابق مؤمناً فأعلم أنهم ليسوا ولا نحن معاً بموتى ولا ذاهبين ذهاباً لا رجوع معه، فأن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود. وقال له: كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، لكنها تنتقل عن بدنها إذا عتق نحو آخر ليس كذلك كما يستدل البدن واللباس إذا خلق. فما غمك لنفس لا تبيد، ولو كانت بائدة فأحرى ألا تغتم لمفقود لا يوجد ولا يعود. فان كنت تلمح البدن دونها وتجزع لفساده فكل مولود ميت، وكل ميت عائد، وليس لك من كلا الأمرين شيء، إنما هما إلى الله الذي منه جميع الأمور وإليه تصير). ولما قال له (أرجن) في خلال كلامه: (كيف حاربت براهم في كذا وهو متقدم للعالم سابق البشر، وأنت الآن فيما بيننا منهم معلوم الميلاد والسن؟). أجابه قال: (أما قدم العهد فقد عمني وإياك معه، فكم مرة حيينا حقباً قد عرفت أوقاتها وخفيت عليك، وكلما رمت المجيء للإصلاح لبست بدناً، إذ لا وجه للكون مع الناس إلا بالتأنس). وحكى عن ملك أنسيت أسمه أنه رسم لقومه أن يحرقوا جثته بعد موته في موضع لم يدفن فيه ميت قط، وأنهم طلبوا موضعاً لذلك فأعياهم حتى وجدوا صخرة من ماء البحر ناتئة فظنوا أنهم ظفروا بالبغية. فقال لهم باسديو: إن هذا الملك قد أحرق على هذه الصخرة مرات كثيرة فافعلوا ما تريدون فانه إنما قصد إعلامكم وقد قضيت حاجاته)
وقال باسيديو: فمن يؤمل الخلاص ويجتهد في رفض الدنيا ثم لا يطاوعه قلبه على المبتغى
أنه يثاب على عمله في مجامع المثابين، ولا ينال ما أراد من أجل نقصانه، ولكنه يعود إلى الدنيا فيؤهل لقالب من جنس مخصوص بالزهادة ويوفقه إلى الإلهام القدسي في القالب الآخر بالتدرج إلى ما كان أراده في القالب الأول، ويأخذ قلبه في مطاوعته ولا يزال يتصفى في القوالب إلى أن ينال الخلاص على توالي التوالد)
وقال في كتاب (سانك): أما من أستحق الاعتلاء والثواب فانه يصير كأحد الملائكة مخالطاً للمجامع الروحانية غير محجوب عن التصرف في السموات والكون مع أهلها أو كأحد أجناس الروحانيين الثمانية. وأما من أستحق السفول بالأوزار والآثام، فانه يصير حيواناً أو نباتاً أو يتردد إلى أن يستحق ثواباً فينجو من الشدة أو يعقل ذاته فيخلى مركبه ويتخلص.
قال صاحب كتاب (باتنجل): إفراد الفكرة في وحدانية الله يشغل المرء بالشعور بشيء غير ما اشتغل به، ومن أراد الله أراد الخير لكافة الخلق من غير استثناء واحد بسبب، ومن اشتغل بنفسه عما سواها لم يصنع لها نفساً مجذوباً ولا مرسلاً. ومن بلغ هذه الغاية غلبت قوته النفسية على قوته البدنية. فمنح ألا فتدار على ثمانية أشياء بحصولها يقع الاستغناء، فمحال أن يستغني أحد عما يعجزه واحد. تلك الثمانية هي: التمكن من تلطيف البدن حتى يخفى عن الأعين؛ والثاني التمكن من تخفيفه حتى يستوي عنده وطء الشوك والوحل والتراب؛ والثالث التمكن من تعظيمه حتى يراه في صورة هائلة عجيبة؛ والرابع التمكن من الإرادات؛ والخامس التمكن من علم ما يروم؛ والسادس التمكن من الترؤس على أية فرقة طلب؛ والسابع خضوع المرؤوسين وطاعتهم؛ والثامن انطواء المسافات بينه وبين المقاصد الشاسعة.
تقاليد البراهمة
كتب كثير من العلماء الفرنجة المحدثين المشتغلين بتاريخ الفلسفة حول تقاليد البراهمة وطقوسهم الدينية، فهممت بأن ألخص لك هنا ترجمة ما كتبوه من هذه التقاليد على نحو ما فعلت في الطقوس المصرية، ولكني وجدت ما كتبه أولئك العلماء ليس إلا هيكلاً عظمياً إلى جانب ما نقله أبو الريحان البيروني عن هذه التقاليد، فلم يسعني إلا العدول عن الناقص إلى الكامل أو القريب من الكمال. وكنت أحب أن ألخص هذا النص في عبارات من عندي لكي لا أكثر من النقل عن الغير، ولكن ضرورة الاصطلاحات الفنية من جهة وخلو كلام
البيروني من الحشو في هذه النقطة من جهة أخرى قد ألجأني إلى الآتيان بالنص لتحقيق الفائدة المرجوة. وهاك ما قاله البيروني عن هذه التقاليد:
عمر (البرهمن) بعد مضي سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام: فأول القسم الأول هو السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيه وتعريفه الواجبات عليه وتوصيته بالتزامها واعتناقها ما دام حياً ثم يشدون وسطه بزنار ويقلدونه زوجا من (جنجوي) وهو خيط مفتول من تسع قوى، وفرد ثالث معمول من ثوب يأخذه من عاتقه الأيسر إلى جانبه الأيمن ويعطي قضيباً يمسكه وخاتم حشيشة يسمى (دربهى) يتختم به في البنصر اليمنى، ويسمى هذا الخاتم (ببتر) والغرض فيه التيمن والبركة في عطاياه من تلك اليد، والتشديد فيه دون التشديد في أمر (جنجوي) فأن جنجوي مما لا يفارقه البتة، فأن وضعه حتى أكل أو قضى حاجته خالياً عنه، كان بذلك مذنباً لا يمحصه عنه غير الكفارة بصوم أو صدقة. وقد دخل في القسم الأول إلى السنة الخامسة والعشرين من سنيه، ووجدت ذلك في (بشن بران) إلى السنة الثامنة والأربعين. والذي يجب عليه فيها هو أن يتزهد ويجعل الأرض وطاءه ويقبل على تعلم (بيذ) وتفسيره وعلم الكلام والشريعة من أستاذ يخدمه أناء ليله ونهاره، ويغتسل كل يوم ثلاث مرات، ويقيم قربان النار في طرفي النهار، ويسجد لأستاذه بعد القربان، ويصوم يوماً ويفطر يوماً مع الامتناع عن اللحم أصلاً، ويكون مقامه في دار الأستاذ ويخرج منها للسؤال والكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي أستاذه، ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه ويحمل إلى النهار حطبها من شجرتي:(بلاس) و (دوب) لعمل القربان؛ فالنار عندهم معظمة وبالأنوار مقترنة، وكذلك عند سائر الأمم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليه ولم يثنهم عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر وحمير أو صور.
وأما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة والعشرين إلى الخمسين، وفي (بشن براين) بدل هذه الخمسين سبعون، وفيه يأذن له الأستاذ في التأهل فيتزوج ويقيم (الكذخداهية)، ويقصد النسل، على ألا يطأ امرأته في الشهر أكثر من مرة عقب تطهر المرأة من الحيض، ولا يجوز له أن يتزوج بامرأة قد جاوز سنها اثنتي عشرة سنة، ويكون معاشه إما من تعليم (البراهمة وكشتر) وما يصل إليه منه فعلى وجه الإكرام لا على وجه الأجرة، وإما من
هدية تهدى إليه بسبب ما يعمل لغيره من قرابين النار، وإما بسؤال من الملوك والكبار من غير إلحاح منه في الطلب أو كراهة من المعطى فلا يزال يكون في دور هؤلاء (برهمن) يقيم فيها أمور الدين وأعمال الخير، ويلقب:(برهت)، وإما من شيء يجتنيه من الشجر أو يلتقطه من الأرض، يجوز أن يضرب يده في التجارة بالثياب وبالفوفل، وإن لم يتولها واتجر له (بيش) كان أفضل، لأن التجارة في الأصل محظورة بسبب ما يداخلها من الغش والكذب، وإنما رخص فيها للضرورة، إذ لا بد منها، وليس يلزم البرهمن للملوك ما يلزم غيره لهم من الضرائب والوظائف. فأما التتابع بالدواب والبقر والأصباغ والانتفاع بالربا فأنه محرم عليه، وصبغ النيل من بين الأصباغ نجس، وإذا مس جسده وجب عليه الاغتسال ولا يزال يقلس ويقرأ على النار ما هو مرسوم لها.
وأما القسم الثالث، فهو من ألسنة الخمسين إلى الخامسة والسبعين، وفي (بشن) بدل الخمسة والسبعين تسعون، وفي هذا القسم يتزهد ويخرج من الكذخداهية ويسلمها والزوجة إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الأصحار، ويستمر خارج العمران على السيرة التي سارها في القسم الأول، ولا يستكن بسقف ولا يلبس إلا ما يواري سوءته من لحاء الشجر، ولا ينام إلا على الأرض بغير وطاء، ولا يتغذى إلا بالثمار وبالنبات وأصوله، ويطول الشعر ولا يتدهن.
وأما القسم الرابع فهو إلى أخر العمر يلبس فيه لباساً أحمر ويأخذ بيده قضيباً ويقبل على الفكرة وتجريد القلب من الصداقات والعداوات، ورفض الشهوة والحرص والغضب، ولا يصاحب أحداً البتة، فان قصد موضعاً ذا فضل طلباً للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، وفي بلد أكثر من خمسة أيام، وإن دفع أحد إليه شيئاً لم يترك منه للغد بقية، ولم يكن غير الدؤوب على شرائط الطريق المؤدي إلى الخلاص والوصول إلى (موكش) الذي لا رجوع فيه إلى الدنيا.
وأما ما يلزمه في جميع عمره بالعموم فهو من أعمال البر وإعطاء الصدقة وأخذها، فأن ما يعطي البراهمة راجع إلى الآباء ودوام القراءة وعمل القرابين والقيام على نار يوقدها ويقرب لها ويخدمها ويحفظها من الانطفاء ليحرق بها بعد موته، واسمها (هوم)، والاغتسال كل يوم ثلاث مرات في سند الطلوع وهو الفجر، وفي سند الغروب وهو الشفق، وفي
نصف النهار بينهما، أما بالغداة فمن أجل نوم الليل واسترخاء المنافذ فيه فيكون طهراً من كائن النجاسة واستعداداً للصلاة، والصلاة هي تسبيح وتمجيد وسجدة برسمهم على الإبهامين من الراحتين الملتصقتين نحو الشمس فإنها القبلة أينما كانت خلا الجنوب، فليس يعمل شيء من أعمال الخير نحو هذه الجهة، ولا يتقدم إليها إلا في كل شيء رديء. وأما وقت زوال الشمس عن نصف النهار فانه مرشح لاكتساب الأجر، فيجب أن يكون فيه ظاهراً، والمساء وقت العشاء والصلاة، ويجوز أن يفعلهما من غير اغتسال، فليس أمر الاغتسال الثالث مثل الأول والثاني في التأكد، وإنما الاغتسال الواجب عليه في الليل وفي أوقات الكسوفات بسبب إقامة شرائطها وقرابينها. وتغذي البرهمن في جميع عمره في اليوم مرتين عند الظهيرة والعتمة، فإذا أراد الطعام أبتدأ بإقرار الصدقة منه لنفر أو نفرين وخاصة للبراهمة المتوحشين الذين يجيئون وقت العصر للسؤال، فأن التغافل عن إطعامهم إثم عظيم، ثم للبهائم والطير وللنار ويسبح على الباقي ويأكله، وما فضل منه فيضعه خارج الدار ولا يقرب منه إذ لا يحل له، وإنما هو لمن سنح واتفق من محتاج إليه، سواء أكان إنساناً أو طائراً أو كلباً أو غيره، ويجب أن تكون آنية مائه على حدة وإلا كسرت، وكذلك آلات طعامه. وقد رأيت من البراهمة من جواز مؤاكلة أقاربه في قصعة واحدة وأنكر ذلك سائرهم.
(يتبع)
محمد غلاب
من صور الشارع:
العدالة
للأستاذ أمجد الطرابلسي
اللّيلُ داجٍ وأعاصيرُهُ
…
مجنونةٌ تضحتُ منه الرّعودْ
والبرقُ في آفاقِهِ لاهِبٌ
…
كشعْلَةِ الغيظِ بصدْرِ الحسودْ
والمطرُ الدَّفّاقُ في لحِنهِ
…
مسترسِلٌ يُبَدئَهُ أو يٌعيد
يصافحُ النهرَ فتعلو لهُ
…
نَغمةُ نايٍ وأرانينُ عود
والشارعُ الجَهْمُ مصابيحُهُ
…
كأعينِ الذؤبانِ فوق النجود
قَفْرٌ منَ الناسِ، فلا سيّدٌ
…
يخطرُ مختالاً ولا من مَسود
إلا عرابيدُ هُنا أو هنا
…
كأنما أَرْجُلُهُم في القيود
يبغونَ مَنْجى من مُلِثِّ الحيا
…
لولا خُمارٌ مُسْتَبِدٌّ عنيد
ونام. . . إلا مرقصاً فاجراً
…
يقظانَ لا يعرفُ معنى الهجود
نهارُهُ الليلُ، وسُمارُهُ
…
كُثْرٌ إذا أغفى الغبيُّ البليد
تمزّقُ الدجيةَ أنوارُهُ
…
كأنها أنوار عُرسٍ وعيد
وتطربُ الشارعَ أنغامُهُ
…
رَنّانَةً صَخّابةً من بعيد
دخلته. . . يا حسنَه منظراً!
…
راحٌ ورَوْحٌ ولحونٌ وغيد
من كلِّ خَوْدٍ خلِقَتْ فتنةً
…
لحظا وقدّاً ونهوداً وجيد
وأهوجٍ في عنفوانِ الصِّبا
…
صريع كأسٍ ومُعنى خدود
والناسُ في رقصٍ وفي نَشْوَةٍ
…
حولَ دُمى الحسنِ قيامٌ قُعود
ما منهُمُ إِلا فَتى عابثٌ
…
ما فيهمُ إلا الضَّحوكُ السّعيد
كأنّهمْ في فَرَحٍ دائمٍ
…
مُذ نزلوا الأرضَ وعيشٍ رغيد
يا شاكياً أوصابَ هذي الدُّنا
…
لا زلتَ إلفاً للضّنى والجمود
أتدَّعي البؤسَ وتشكو الورى
…
ورهنُ كفيكَ المنى والسُّعود
أليس فوقَ الأرضِ غيرُ الأسى
…
أما تَرى عيناك غيرَ اللحود
هذي الأغاريدُ وهذا الهوى
…
وذلك الحسنُ وتلك القُدود
وهذه الأقداحُ فَوّارةً
…
والدلُّ والسِّحر وخفقُ النُهود
أليسَ فيها ما يَبُلُّ الصَّدى
…
ويفْرِجُ القلبَ المعنى العميد
عدتُ إلى الشارع نَضْرَ المنى
…
والكونُ في عَينَّي خلقٌ جديد
تقولُ لي النفسُ وقد أُنْسِيَتْ
…
ما أَلِفَتْهُ من شَقاءٍ تليد:
أليسَ حقّاً صفو هذي الدُّنا؟
…
أليسَ لي من خيرِها ما أريد؟
وسرتُ نشوانَ حليفَ الرٍّضى
…
يغْمُرُ جَفنيَّ جمالُ الوجود
فرحان. . . لولا منظر لاحَ لي
…
أماتَ في قلبي الحبورَ الوليدْ
طفلٌ على وجهِ الثرى نائمٌ
…
كأنهُ الجيفةُ فوقَ الصَّعيد
تحسبُهُ في بؤسهِ كوكباً
…
تحت نُثاراتٍ من السٌّحْبِ سودْ
تدفعُ عنه البردَ أَسمالهُ
…
لو تَدْفَع الأقدارَ كفُّ العبيد!
وجاَءه الشُرْطيُّ مستأسداً
…
يحرِمُهُ هذا الرقادَ الشّرودْ
أليسَ في مَنظَرِهِ غُصَّةٌ
…
لسادةِ الأرضِ عبيدِ النقود؟
أما على الدولة غَسْلُ الثرى
…
من الفُضالاتِ وما لا يفيدْ؟!
أيقظهُ من نومهِ هاتفاً
…
بلهجة الآمر ربِّ البنود
(هَيّا إلى دارِكَ. . . . هَياّ أفِقْ!
…
في الدارِ لا فوقَ الرَّصيفِ الهجود!)
الدّار! ما الدار؟ وما شأنُها؟
…
ما الأهلُ؟ ما آباؤهُ؟ ما الجدود؟
وهل ينامُ الناسُ في دورهم
…
أم مثلهُ فوق الصّفا والجليد؟
وهل له بين الصّروح العُلى
…
قصرٌ مشيدٌ، أو مَقرُّ وطيد؟
يا ناسُ. . . دُلوه على مقبرٍ
…
وَهْوَ بهِ راضٍ شكورٌ سعيد!!
يا نعمةَ الدنيا ويا عدلها!
…
ماذا جنى هذا البريءُ الشهيد؟
أماله مُتسَعٌ ناعمٌ
…
وسْطَ المقاصيرِ وفوقَ المهود؟
ضاقَ الثرى عنه وأترابهُ
…
بين الرياحين وفوق الوُرود
أليسَ حُلْما صفو هذي الدنا
…
وفوقها هذا الشقي الشريد!؟
يا طفلُ عِشْ فوق الثرى جائعاً
…
وقضِّ أيامَك كلْباً طريد!
ليَهِنكَ الفقرُ وويلاتهُ
…
فالفقرُ نُبْلٌ وسموٌّ وَجود!
إن جعتَ فالمجدُ طعامٌ. . وإِن
…
ظِمئتَ فالنبلُ شراب برود!
لا تحسدِ الناسَ على حظِّهم
…
فالأم الناسِ شقيُّ حسود!
ولا تكن لصا ولا مُجْرِماً
…
فإِن عقباكَ العذابَ المبيدْ!
ولا تَدَعْ للغيظِ من مَسْرَب
…
إلى حناياكَ ولا للحقود!
وأربع على الذلِّ ولا تأبه
…
واسجُدْ لمن يطلبُ منك السجودْ
فغاصبُ الأموالِ حرٌّ بها
…
يبخلُ إن شاَء أو يجودْ!
مالكَ والدنيا ولذاتها
…
ألم تقدَّرْ لكَ دارُ الخلودْ.!؟
إيهِ خروفَ الذبحِ متْ يائساً
…
فالكونُ للعِقبان أو للأسود!
أو فاتخذ بين الورى مخلباً
…
كمخلب الليثِ وناباً حديد
ثم أنتزع حقك مستنسراً
…
ولا تدعهُ لُعْبةٌ للقُرود!. . .
(دمشق)
أمجد الطرابلسي
عناد.
.!!
خطبت إليه عروس الخيال
…
أزف إليها المنى الساميه
أزف إليها أغاني السماء
…
وأمهرها مهجتي الغالية
وأجعل حبي لها هكيلا
…
تكون صلاتي به ناميه
غلائلها من ضياء النجوم
…
وأزرارها القبلة الواريه
منازلها حيث شاء النعيم
…
وأبوابها في يدي الحانيه
وأحلامها طول أيامها
…
كما تحلم الزهرة الراويه
تطوف عليها طواف السلام
…
وترقص رقصاتها العاريه
أفيء إليها بشوقي الوفير
…
فتلقى به نعمة العافيه
نظل كطيرين في روضة
…
أليفين في عيشه راضيه
نطير كروحين في جنة
…
نعانق أحلامنا الظاميه
نقبل خد الصباح المنير
…
ونرقص للنسمة الساريه
وأنت تبارك أشواقنا
…
وتبني لنا العش في الداليه
فندعو بكل أهازيجنا
…
لمنشئ جنتنا الدانيه
وننشد أنغامك السامعات
…
ونشكر آلاءك الضافيه
حنانك لا أنت قارون في
…
خزائنه الأنهر الجاريه
ولا أنت (فوردٌ) ولا شبهه
…
ولا أنا ذو راحة خاليه
فهذا وذاك رهين الفناء
…
وكل سيقضي بلا باقيه
يعدد آلامه ذو الغنى
…
كعد دنانيره الفانيه
ولكن قلباً كبير الغرام
…
يعيش الحياة. . . الثانيه
(الكرك)
حسني فريد
رسالة الفن
ميكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور أحمد موسى
خاتمة
أما المرحلة الثانية التي تنحصر بين سنة 1505، 1535 فهي تبدأ عندما رحل إلى روما وأقام فيها، حيث أتم أبرز عمل في حياته، ألا وهو تصوير السقف السكستيني بالفاتيكان على الجص (الفرسكو)، فظل من مايو سنة 1508 إلى خريف سنة 1512 منكباً على العمل لا يعاونه مساعد ولا ينصرف إلى غيره؛ الأمر الذي عاد عليه بشيء من حدة الأعصاب يؤوله غير عارفيه بكراهيته للناس.
وهذا السقف مقبب يتوسطه حقل يكاد يكون مسطحاً، وجنوبه مقببة أيضاً ولكن بشكل سيمتريكي متناظر، يتخلل هذه الجوانب نوافذ على هيئة أهلة.
ولا بد أن تؤدي بنا الرغبة في تفهم إنتاج ميكيلانجلو تفهماً صحيحاً إلى تقسيم تصويره هذا السقف إلى أربع شعب: إحداهما تتناول المصورات الدينية التي صورها في وسط السقف في تسعة حقول عدا صور الجوانب التي منها أربع كبيرة والأخرى صغيرة؛ محاطة كلها بإطارات وجامات من الشبهان (البرونز)؛ والأخرى تمثل مناظر تاريخية للعهد القديم كخلق الدنيا، وخلق آدم وحواء، ونوح والطوفان، والخالق يبدي إرادته، وتناولت غيرها خلق النور من الظلام، وخلق الشمس والقمر والنبات، وخلق الحيوان، وخلق آدم. وفي هذه القطعة عبر عن نهاية النهايات أبدع تعبير يمكن أن يتصوره ويخرجه فنان، وخلق حواء والخطيئة والطرد من الجنة، وفي هذا أجاد في تمثيل قوة الإرادة عند حواء، والطوفان.
وله صور على الجوانب المقببة لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، ولكني أقتصر على ذكر أهمها من الصور التاريخية، التي من أروعها صور الأنبياء والكاهنات وهي تقع بين
فتحات النوافذ، وقد أجاد تصويرها وكلها ترمي إلى نشر رسالة الخلاص والتبشير بانتهاء الجاهلية واليهودية. وأستطيع أن أقرر أن هذه المناظر أجمل وأعظم ما أبدعه فنان على مر القرون، فهي الكعبة التي يحج إليها كل فنان حيث يقف ناظراً مستلهماً، فيذهب به خياله إلى التسبيح بذكر العلي القدير الذي جعل من بين خلقه من استطاع الوصول بالفن إلى هذا الكمال. يقف المشاهد أمام هذا الخلق الرائع والجمال السامي والنبل العظيم كما لو كان في حلم هنئ فيشعر دون إرادة منه بعبيق العبادة يحيط به، ونقاوة القلب وصفاء الضمير يغمر كيانه، ويحس أنه قد تجرد من حاجات النفس المادية، ثم لا يلبث أن يرجع ببصره مطأطئ الرأس أمام العظمة الإلهية التي تمثلت خير تمثيل في إبداع العبقري الملهم
ولا بأس من أن نعرج قليلاً على ذكر بعض هذه المصورات التي أرى أن أهم ما يجب تعريفه للقارئ منها هو: صورة جرمياس وقد غطت وجهه تجاعيد الهم والتفكير والكرب، وصورة يونس والحوت. وصورة كاهنة عجوز ساحرة.
كما أن له صوراً قصد بها التحلية ولم يسمها وهي تشمل رجالاً وأطفالاً، وقد عرت جسوم الأولين، ويستوقف المتأمل في هذه الصور جمال التفاصيل وقوة الإخراج، والإبداع في إبراز الحركات الجسمانية كاملة قوية مما يجعلها تنبض بالحياة وتتحدث عن عظمة الفن.
ومن هذا نرى أن السقف السكستيني هو أعظم إنتاج وصل إليه ميكيلانجلو، ليس في هذه المرحلة الثانية فقط؛ بل في حياته كلها، لأنها مثلت القدرة الفائقة في الخلق الفني الأسمى والتفوق الرائع في التعبير عن المثل الأعلى، كما تعرفنا بعينيه المحيطتين اللتين نظر بهما إلى الحياة فتغلغل إلى كنهها.
وسافر بعد هذا إلى فلورنسا وهناك لا نعرف له إلا صورة واحدة أسماها (ليدا والبجعة) وهي مصورة بطريقة تمبرا (راجع المقال السابق) أتمها سنة 1530، وللأسف توجد في أسوأ حال بالناشيونال جاليري بلندن.
وكان أهم عمل له في المرحلة الثالثة صورته (ليوم القيامة) وهي هائلة عملها بالفرسكو على حائط الهيكل السكيتيني من سنة 1535 إلى سنة 1541، وتشمل السيد المسيح كقاضي العالم وإلى جواره مريم وحوله القديسون وبالقرب منه صورتان رسمت كل منهما في نصف دائرة ممثلة مجموعات من الملائكة.
أما في الوسط فيوجد سبعة ملائكة رفع الأتقياء إلى النعيم وعلى اليسار الإلقاء بالمغضوب عليهم في الجحيم، وهنا نرى عبقرية ميكيلانجلو قد بدت في أقوى مظاهرها.
وتحت هذه المناظر صورة أخرى تمثل البعث وغيره من المناظر الدينية، كلها عظيمة الإنشاء قوية الإخراج، وفيها يتمثل العنف والسيطرة الكاملة على التصوير الجسماني في أروع مظاهره وأبدع حركاته، وقد تحقق بإخراجها على يد ميكيلانجلو حلم الفنانين والمثل الأعلى لمؤرخي الفن الذين يعتبرون خلقه وإبداعه أسمى مقياس يمكن الوصول إليه؛ ولا سيما أنه قد تحرر في كثير من هذه المناظر من قيود الكنيسة وتعاليمها، طامحاً نحو السمو والكمال الفني المنشود، فخرج عمله شعراً منثوراً من الناحية المعنوية، وتصويراً عظيماً من الناحية الفنية.
والناظر إلى هذه الصور يرى عليها شيئاً من اللون الدخاني قد غلبه على كل ألوانها مرور مئات السنين وكثرة إشعال البخور داخل الكنيسة.
أما آخر أعماله التصويرية فهو مجموعة المصورات المسماة (باولينا) وهي أيضاً بالفاتيكان بروما. وأهمها صورتان عظيمتان كبيرتان، الأولى لظهور المسيح، والثانية لصلب بطرس (1545 - 1550) وهما لا تقلان روعة عما سبقهما، ولو أن طريقة الإخراج كانت على كل شيء يسير من التكلف، أما الثانية فقد ظهرت واضحة جلية في الكيفية التي سار عليها في تصوير الأجسام الهائلة التي بدا عليها العنف والحركة.
ومهما حاولنا الوصف فأن مشاهدة هذه المناظر مما لا بد منه لمن يريد الوقوف على مدى القوى البشرية الموهوبة من الخالق ومدى ما يمكن الوصول إليه من عمل فني رائع، إن قدر لنا أن نفهمه استطعنا أن نستمتع بناحية من أسمى وأروع نواحي الاستمتاع الإنساني.
وله أيضاً في هذه المرحلة صورتان تخطيطيتان لمعشوقته فيتوريا كولونا، ويتجلى فيهما تأثره بالدين، كما نلاحظ من عنايته الفائقة ما كان لهذه المعشوقة من قدر في نفسه وأثر عليها، أما صورته لمريم والمسيح مأخوذا من الصلب، وصورته للمسيح مصلوباً فان أصولهما مجهولة للآن.
وتكاد تكون جامعة أكسفورد هي الفريدة التي حصلت على مجموعة جيدة من تصويره الخطي، ويعقب ذلك جاليري بوناروتي في أوفيسين والمتحف البريطاني ومتحف اللوفر.
تلك صفحة مبسطة لحياة رجل خالد أعتبره الفن إماماً والتاريخ مقياساً، فمحاولة الإحاطة به هنا متعذره؛ لأن إبداعه الفني وتحليل آثاره العظيمة لا يحيط بها إلا ضخم المجلدات.
أحمد موسى
البريد الأدبي
شيخ الأزهر وقت مقدم النابلسي
ذكرت ضمن مقالي المنشور بالرسالة (عدد 208) عن رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي في مصر في أواخر القرن السابع عشر واقعة وردت على لسان الرحالة أكثر من مرة، وهي أن شيخ الأزهر وقت مقدمه إلى القاهرة في أوائل سنة 1105هـ (1693م) كان (الشيخ منصور المنوفي الأزهري الشافعي الضرير)؛ فعلق الأستاذ عبد المتعال الصعيدي على هذه الواقعة (الرسالة رقم 209) بكلمة أبدى فيها ارتيابه في صحتها، وذكر نقلاً عن الخطط التوفيقية أن شيخ الأزهر وقت مقدم النابلسي لم يكن سوى الشيخ محمد النشرتي المالكي، وأنه تولى مشيخته من سنة 1101هـ إلى سنة 1120هـ.
وقد رجع الأستاذ الصعيدي بنفسه إلى رحلة النابلسي (الحقيقة والمجاز)، فألفى ما نقلته عنه صحيحاً، وأنه أشار إلى الشيخ منصور المنوفي ووصفه أكثر من مرة بأنه شيخ الأزهر ولكنه مع ذلك يصر على ارتيابه في صحة هذا الوصف.
ولم اكن أقصد حين كتبت مقالي عن رحلة النابلسي أن أحقق من كان شيخ الأزهر في ذلك الحين، فهذه مسألة لم تكن ذات شأن في موضوعي، وإنما قصدت قبل كل شيء أن أستخلص من هذه الرحلة الصورة التي يقدمها لنا الرحالة عن مصر ومجتمعها في ذلك الحين؛ على أني مع كل ما نقله الأستاذ الصعيدي عن المصادر المتأخرة (مثل الجبرتي والخطط التوفيقية) لا زلت أميل إلى الأخذ بقول النابلسي من أن الشيخ منصور الأزهري كان شيخاً للأزهر حسبما يقدمه لنا، أولاً لأن هذا القول هو قول معاصر وشاهد عيان عرف الشيخ وحادثه بنفسه، ولست أعتقد أنه يسبغ عليه هذه الصفة عفواً، وثانياً لأن الشيخ النابلسي يقدم إلينا بياناً صحيحاً عن أكابر الحكام والمشايخ في مصر وقت مقدمه، ومن الصعب أن نعتقد أنه يخطئ في تعرف شيخ الأزهر وهو من الشخصيات البارزة التي يهمه أن يتصل بها أما كون الشيخ النابلسي يسبغ هذه الصفة على شيخ آخر وكون المصادر المتأخرة تذكر أن شيخ الأزهر في ذلك الحين هو الشيخ النشرتي فقد يمكن تفسيره بأن الشيخ المنوفي لم يمكث في المشيخة سوى اشهر وربما أسابيع قلائل، وعلى ذلك فقد أغفل المتأخرون ذكره في ثبت مشايخ الأزهر.
وعلى أي حال فأنه مما يصعب على المؤرخ إغفال قول معاصر وعلامة ثقة كالشيخ النابلسي.
محمد عبد الله عنان
بحوث طبية هامة لطبيب مصري
رفع الدكتور أنيس أنس بك الطبيب الباتولوجي الأول بمعامل وزارة الصحة إلى صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا نتيجة بحث علمي قام به أخيراً وتناول فيه موضوعين:
الأول خاص بسبب تضخم الطحال في القطر المصري ووادي النيل بوجه عام؛ وقد سبق لباحثين كثيرين أن بحثوا في هذا الموضوع منذ أربعين سنة فلم يصلوا إلى نتيجة حاسمة، وتضاربت الآراء العلمية حول سبب (تضخم الطحال) فقال بعضهم: إن سببه (ميكروب) مجهول، وقال آخرون: إنه نوع من الفطريات. إلخ. غير أن الدكتور أنس بك اهتدى إلى أن السبب الحقيقي لهذا التضخم هو بويضة البلهارسيا (المرض المتوطن في مصر ووادي النيل). وقد اعتمدت الجمعية الملكية البريطانية لطب المناطق الحارة والصحة العامة هذا البحث في جلستها المنعقدة بتاريخ 25 أبريل سنة 1937 ونشرته بمجلتها.
أما البحث الآخر فقد أقترن بقيام الدكتور أنس بك بعدة إحصاءات لعمليات الزائدة الدودية فاهتدى إلى أن معظمها أو ما يقرب 60 % منها راجع إلى التهاب حاد ناشئ عن الإصابة بالبلهارسيا أيضاً وخاصة في المديريات الشمالية، وقد بين أنس بك أنه لا ضرورة لأجراء العملية لهؤلاء المصابين بل يكتفي بعلاج سببها وهو مرض البلهارسيا. ثم أوضح في بحثه كيفية الوصول إلى التمييز بين التهاب الزائدة الدودية الصديدي الذي ينتهي غالباً بالتهاب البريتون والوفاة، وبين التهاب الزائدة الدودية الناشئ عن إصابة البلهارسيا. فكان هذا أول بحث من نوعه في عالم الطب. وقد قامت الجمعية الدولية للجراحة في مؤتمرها العاشر ببحث هذه النتائج فاعتمدت ما انتهى إليه الدكتور أنس بك ونشرته على نفقتها باعتباره استكشافاً جديداً لم يسبق المؤلف المصري إليه أحد.
في الأكاديمية الفرنسية:
احتفلت الأكاديمية الفرنسية أخيراً باستقبال عضو جديد فيها هو الكاتب القصصي
والصحفي الكبير إدمون جالو وقد انتخب للكرسي الذي خلا بوفاة الشاعر والقصصي والنقادة الأشهر بول بورجيه الذي توفي منذ بضعة أشهر، وكان بورجيه يشغل هذا الكرسي منذ أكثر من أربعين عاماً؛ وقد أفتتح إدمون جالو عهده في الأكاديمية كالمعتاد بإلقاء حديث طويل عن سلفه وعن حياته الأدبية ومميزاته ومواهبه؛ وكان أهم ما في حديثه أن بورجيه قد تأثر في حياته بحادثين عظيمين طبعا حياته كلها بطابع خاص؛ أولهما وفاة والدته وهو طفل وزواج والده من سيدة أخرى، وثانيهما أنه رأى حكومة الكومون في باريس (سنة 1871) وقد اثر الحادث الأول في نفسيته أعظم تأثير، واستطاع أن يدرس خلاله تلك العاطفة التي كثيراً ما ينوه بها في قصصه وهي:(الغيرة)
وإدمون جالو من كتاب الجنوب في فرنسا، وهو مرسيلي الأصل، وله عدة روايات وقصص ممتعة، وهو صحفي يكتب في كبريات الصحف الفرنسية فصولا أدبية مختلفة.
وطن قومي للنور
أختار النور (الغجر) في بولونيا لهم ملكاً جديداً، ومنهم في بولونيا بضعة عشر ألفاً مفرقين في سائر أنحائها؛ وقد صرح الملك الجديد بأنه سيعمل على حل مسألة الوطن القومي للنور وسيزور السنيور موسوليني لأجل هذه الغاية، وربما استطاع النور أن يجدوا لهم وطناً قومياً في الحبشة يلم شعثهم ويجمع صفوفهم؛ وهذه مسألة قديمة تبحثها بعض الجمعيات السياسية في إنكلترا وألمانيا منذ نحو قرن، بيد أنها لم تعمل لها شيئاً لحلها. على أن النور استطاعوا خلال القرن الأخير أن يحصلوا على حقوق المواطنين في معظم البلاد الأوربية مثل النمسا والمجر ورومانيا. وقد أخذ الكثيرون منهم يهجرون حياة البدو، ويستقرون على قواعد الحضارة الحديثة، واندمج الكثير منهم في المجتمع الحديث ونسوا لغتهم وعاداتهم القديمة؛ وقد حصل النور في بلاد البلقان على حقوقهم السياسية بمقتضى معاهدة برلين في سنة 1878؛ وفي سنة 1906 عقدوا أول مؤتمر من النور في صوفيا وطولب فيه بمنح الحقوق السياسية لنور تركيا؛ وخطب يومئذ رئيس النور رمضان عليف، وحثهم على المطالبة بالحقوق السياسية.
والآن يرى النور أن يقوموا بحركة جديدة لإنشاء وطن قومي خاص بهم على مثل ما فعل اليهود في فلسطين. ومن المستحيل أن يعرف عدد النور، بيد أنهم يبلغون في أوربا وما
حولها نحو ثلاثة ملايين.
متحف للآلات الموسيقية
افتتح متحف في نيوبرت من أعمال نيرمبرج (ألمانيا) يحتوي على مجموعة فريدة من الآلات الموسيقية هي أتم مجموعة من نوعها، وتضم هذه المجموعة نماذج من الآلات الموسيقية في القرون الخمسة الأخيرة، وكلها في حالة جيدة من الحفظ ويمكن العزف عليها، وهي بذلك تقدم إلى الموسيقيين ومؤرخي الموسيقى مادة بديعة للدرس والتأمل، وبواسطتها يمكن استعراض التطورات المختلفة في تركيب البيانو الذي اصبح أداة العصر وكيف أصبح على ما هو عليه الآن، ومن النماذج المعروضة بهذا المتحف معزف (اكلافسان) صنع في سنة 1703 ذو ثلاث أنغام وكان ملكا لآل مديتشي سادة فلورنس، وبيانو صنع سنة 1740 في أوبرزنتوفن من أعمال بلغاريا، وبيانو آخر كان ملكا لأمير الموسيقى موتسارت من صنع كيرنباخ بمايانس، ونماذج أخرى لآلات مختلفة ترجع إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر.
موسم الفن والموسيقى في سالزبورج
يقام موسم الفن والموسيقى في مدينة سالزبورج (النمسا) هذا العام بين 24 يوليه و31 أغسطس، وقد غدا هذا الموسم حادثاً فنياً عالمياً يجلب إلى سالزبورج في كل عام آلاف الزائرين من مختلف الأقطار، ويشرف على إحياء هذا الموسم كالعادة أقطاب الفن العالميون نمسويون وغيرهم، مثل أرتورو توسكانيني، وبونوفالتر، وماكس رينهارت، وهانس كنبرتسسبوش، ومعروف أن سالزبورج هي موطن موتسارت، ولهذا تحظى أوبراته بعناية خاصة، وسيمثل منها هذا الفصل (دون جوان)(والمزمار المسحور)، (وليل فيجارد)، وتمثل أوبرات خالدة أخرى مثل (الأساتذة المغنون) لفاجنر، و (فيدليو) لفان بتهوفن، و (فالستاف) لفيردي؛ وأوبرات أخرى لريخارد شتراوس؛ كذلك تقام حفلات موسيقية عظيمة من مقطوعات موتسارت وشوبرت، وبيتهوفن وفبير وهايدن وغيرهم، ومنها حفلات كنسية تقام في كاتدرائية سالزبورج، وإلى جانب هذه الحفلات التمثيلية الرائعة التي تقام في مسرح البلدية الكبير تقام طائفة أخرى من الحفلات الباهرة في مسرح
موتسارت من أول يوليه إلى أول سبتمبر، وتموج مدينة سالزبورج أثناء هذا الموسم الفني العظيم بالزائرين من مختلف أنحاء الأرض، ويبلغ الإقبال على هذه الحفلات حدا لا يتصور، بحيث يستحيل على الراغبين أن يفوزوا بتذكارهم إذا لم تحجز قبلها بأسابيع.
ذكرى أبى العلاء في الرابطة العربية
رأى مجلس إدارة الرابطة العربية وقد حان موعد العيد الألفي لفيلسوف العرب وحكيمها وشاعرها (أبي العلاء) أن يوجه إلى العالم العربي نداءه ورجاءه أن يعاونه في المهرجان الأدبي الكبير الذي سيقيمه تخليداً لهذه الذكرى وإشادة بأدب هذا الشاعر الذي يعد مفخرة العالم قاطبة والشرق خاصة.
وإن الرجل الذي تدعو الرابطة إلى الاحتفال بذكراه الألفية ليس بأقل مكانة من أدباء العالم الذين قادوا الذهن الإنساني وأناروا دياجير الحياة بما وهبوا من حكمة، فهو في مقدمتهم بل مجليهم الأوحد، فان قامت الشعوب الغربية بتخليد ذكرى هؤلاء الفلاسفة في مواسم حافلة يحج إليها الناس من كل فج ليتلقوا منها الوحي والإلهام الأدبي، فالأحرى بالشرق العربي أن يخلد ذكرى فيلسوفه العظيم.
وإن الروح الطيبة التي أملت الاحتفالات الفخمة بتخليد ذكرى المتنبي لتجعل الأمل قوياً والرجاء كبيراً في أن يلقى هذا النداء كل إقبال وتشجيع.
هذا وستصدر الرابطة قريباً بياناً جامعاً بأسماء حضرات أعضاء اللجنة التحضيرية وموعد إقامة المهرجان ونظامه ومدته
سكرتير الرابطة
كامل زيتون
تأبين الرافعي
نشرت الرابطة العربية بياناً في الصحف اليومية والأسبوعية بأسماء حضرات أعضاء لجنة الاحتفال بتأبين فقيد العروبة والإسلام المرحوم السيد مصطفى صادق الرافعي، وبالموضوعات النثرية التي سيتناولها الأدباء في رثائه، وحددت موعداً لإقامة الحفلة في شهر أكتوبر المقبل، فتحركت لذلك عواطف أعيان الأدب وأمراء البيان وقادة الفكر في
العالم العربي وأرسل إليها بعض حضراتهم ما جادت بهم قرائحهم الوقادة إشادة بأدب الفقيد الكبير وتقديرا لآرائه وبحوثه.
ولما كانت الرابطة معتزمة إصدار كتاب جامع لتاريخ حياة الفقيد، وبعض آثاره، وما يقال في رثائه شعراً ونثراً تخليداً لذكراه واعترافاً بمجهوده الجبار في خدمة العروبة والإسلام، وليكون نموذجاً حياً للأدب الخصب والثقافة العالية فهي تأمل في كتاب الشرق العربي وأدبائه، وأئمة البيان فيه وشعرائه، أن يبادروا بإرسال ما توحيه إليهم ضمائرهم المؤمنة بفلسفة الفقيد الكريم، والمقدرة لأدبه الحي الحديث والقديم، في أقرب وقت بعنوان سكرتير الرابطة بحدائق القبة شارع الملك رقم 112 حتى يكون لدى الرابطة متسع لإصدار هذا الكتاب يوم حفلة التأبين.
سكرتير اللجنة
كامل زيتون
القصص
عزلة
للكاتب القصصي الفرنسي جي دي موباسان
ترجمة الأستاذ خليل هنداوي
وكان ذلك عقب غداء فشا على أثره طرب قوي، قال لي صديق قديم:
- هل لك بأن تجوز ممشى (الشانزليزيه) سعياً على الأقدام؟
انطلقنا بخطوات وئيدة، تظللنا أشجار في مطلع الإيراق، وقد هيمن السكون على تلك البقعة، ما عدا تمتمة مبهمة دائمة تصاعد من قلب (باريس)، ولقد تهب نغمات باردة تضرب وجوهنا، ومن فوقنا قناديل من نجوم تبسط على أديم السماء الأسود أزراراً ذهبية!
قال رفيقي:
- لست أدري لماذا أرى الليل - هنا - أجمل منه في مكان آخر؟
يخيل إلي أن أفكاري تتمدد في أرجائه، وأن في روحي هذه المسارب من النور الدافق التي تطمعني - خلال برهة واحدة - بأن اطلع على السر الإلهي للأشياء، ولكن سرعان ما توصد النافذة، فينتهي بإغلاقها كل شيء.
وكنا بين الذهلة والذهلة نلمح على الأرصفة شبحين متلاصقين يزلقان في الليل أو نمر بمقعد منعزل استوى عليه كائنان لا يراهما الرائي إلا نقطة سوداء. همس في أذني رفيقي: - إنهما لا يبعثان في فؤادي سأماً - ولكن إشفاقاً كبيراً، ومن كل أسرار الحياة لا يلوح لي إلا سر واحد يشغلني، وإن كل عناء في الحياة مصدره أننا نحيا دائماً منعزلين! وكل ما نبذل من جهودنا لا نريد به إلا الفرار من هذه العزلة. إن هؤلاء العشاق المنطرحين على المقاعد في الجو الطلق يفتشون مثلنا عما يخفف مضض انعزالهم - وما ذلك إلا عمر لحظة - ثم يظلون منعزلين ونحن أيضاً.
إنهم يحسون هذه العزلة، أقل أو أكثر منا، وهذا كل شيء. منذ حين أقاسي العذاب لأنني أدركت واكتشفت العزلة المروعة التي أحيا فيها، وعلمت أن لا شيء يستطيع أن يقضي عليها مهما جربنا، ومهما عملنا، ومهما ذهبت إليه خفقات أفئدتنا، ونجاوى شفاهنا، وضمات أذرعنا، فنحن دائماً نظل منعزلين.
إنني قدتك هذا المساء إلى هذه النزهة، فراراً من لجوئي إلى بيتي، لأنني أتألم كثيراً من العزلة التي تهيمن على المنزل، وما عسى يجديني هذا؟ إنني أكلمك وأنت تسمعني، ونحن وحدنا جنباً إلى جنب، ولكننا منعزلان. . . .
يقول الكتاب المقدس: سعداء هم مساكين الأرواح، إن عندهم وهم السعادة، إنهم لا يشعرون بشقائنا المنعزل، ولا يبهتون مثلي في الحياة، لا يعرفون من اللمس إلا لمس المرافق، ولا يعلمون من الفرح إلا قناعتهم الأنانية بالفهم وبالنظر، وبالتنبؤ وبالتألم دون نهاية من إدراك عزلتنا الأبدية.
إنك لتراني مجنوناً! أليس كذلك؟
إنني بعد ما أحسست عزلة كياني، خيل إلي أنني أهوى يوماً فيوماً في مهوى مظلم لم يقع طرفي على حافة له، ولم أدرك له نهاية، وربما كان بلا غاية. فأفلت إليه وحدي دون رفيق معي ولا حولي، ولا سالكٍ طريقي المظلمة. هذا المهوى هو الحياة، وخلال ذلك كنت أسمع صخباً عالياً وصيحات وأصواتا فكنت أدنو من هذا الصخب المضطرب متسللا، ولكني لم أعلم علم الحق من أين مأتاه، وما ألفيت إنساناً، وما عثرت على يد أخرى ترتفع في هذا الظلام المسدل علي.
هنالك رجال مثلنا أحسوا هذا الألم الممض وتنبئوا به، منهم (موسى) الصائح:
(من جاء؛ ومن دعاني؟ لا أحد!
أنا وحدي! وهذه الساعة التي تدق
يا للعزلة! يا للشقاء!)
ولكن العزلة - عنده - ما كانت إلا شكاً طارقاً، ولم تكن حقيقة ثابتة كما هي عندي. أنه كان شاعراً، يؤنس الحياة بأخيلته وأحلامه. إنه لم يكن وحده أبداً. ولكني أراني وحدي وهنالك (غوستاف فلوبير) أحد كبار أبناء الشقاء في هذا الوجود، لأنه كان أحد عباقرته، كتب إلى صديقة له هذه العبارة اليائسة (نحن كلنا في صحراء؛ لا يفهم أحداً منا أحداً) بلى! لا يفهم أحد منا أحداً، فمهما فكروا، ومهما قالوا وجربوا فالأرض هل تعلم ما يجري على مسارح هذه الكواكب المنتشرة كذرة نارية في هذا الفضاء نرى منها على البعد صفاء بعضها، والأكثر عدداً منها ضائع في اللانهاية، وقد يؤلف القريب منها كلا واحدا كما هو
الحال في ذرات الجسد.
وهكذا الإنسان لا يدري ما يجول في صدر رفيقه الإنسان وإن واحدنا لأكثر بعداً عن الآخر من هذه الكواكب السابحة، وأكثر اعتزالاً لأن الفكر لا يسبر غوره.
هل تعلم شيئاً أبعث على الهول من هذا التماس الخاطف في الأكوان الذي لا نستطيع إدراكه. إننا نحب بعضنا بعضا كأننا مقيدون مبسوطة أذرعنا دون أن نقدر على ضم. على أن حاجة ضرورية للاتحاد تؤلفنا، ولكن جهودنا لا تزال ضائعة، وثقتنا غير مجدية، وعناقنا ضعيف، وحناننا باطلاً، فإذا أردنا اتحاداً لم تعمل مطامعنا إلا على إقصاء واحدنا عن الثاني.
إنني ما شعرت أنني (واحد) إلا حين استسلم لصديقي وافتح قلبي له. إذ أفهم ذلك الحاجز القائم بيني وبينه. هو هنالك، ذلك الإنسان، أرى عينيه تسطعان حولي ولكن نفسه - وراءها - لا أدركها. هو يسمعني، ولكن فيم يفكر؟ أجل! فيم يفكر؟ إنك لا تفهم هذا القلق، إنه ربما يقليني، أو يحقرني، أو يسخر مني، إنه يفكر فيما أقول، يناقشني، يحكم علي، يراني أبله أو أحمق. وأنى لي أن أدرك ما يفكر فيه؟ وأنى لي أن أفهم هل يحبني كما أحبه؟ وما يجول في هذه الجمجمة المستديرة!؟ وأي سر هذا الفكر المجهول في كائن: الفكر المتواري الحر الذي لا نقدر على معرفته ولا قيادته، ولا الاستيلاء عليه، أو الظفر به؟
أنا، أردت بكل نفسي أن أسلم نفسي كما هي وأفتح أبواب نفسي جميعها. ولكني لم أقدر على هذا الإسلام كله، لأنني أصون في أعماق نفسي (مكان ذاتي الخفية) حيث لا يظهر أحد ولا يقدر أحد أن يكتشفه أو يدخله، لأنه لا أحد يشبهني، ولأنه لا أحد يفهم أحداً!
أفهمتني أنت الآن؟ كلا! إنك لتحكم علي بالجنون، إنك تتأمل في، وتحترز مني! وتسأل نفسك:(ماذا به هذا المساء؟ ولكنك إذا قدر لك يوماً أن تدرك موضع الألم في فعد إلي لتقول لي: (قد فهمتك!) وحينذاك تجعلني سعيداً - ولو عمر لحظة -
هن النساء اللواتي جعلنني أحسن تقبل وحدتي، آه كم تذوقت من الألم في سبيلهن! لأنهن منحني، أكثر من الرجال، التوهم بأنني لست وحيداً!
عندما يحب الإنسان يحس أن عالمه قد اتسع، وأن سعادة - فوق السعادة الإنسانية - تغمره. هل تعلم سبب ذلك؟ وهل تعلم مصدر هذه السعادة؟ يعود مصدره إلى أن الإنسان
أعتقد بأنه ليس وحيدا. وأن العزلة أو الابتعاد عن الكيان الإنساني قد انتهى سلطانه، ويا للوهم!
المرأة هي اشد قلقاً منا بهذه الحاجة الملحة للحب الثابتة التي تأكل قلبنا المنعزل، وهي الأكذوبة الكبرى من الحلم إنك لتعرف هذه السويعات الجميلة التي نقضيها مع هذا الكائن التي طالت غدائر شعره، وراقت ملامحه أو فتكت لحاظه، فأي هذيان يملك علينا أرواحنا؟ وأي وهم يغمرنا؟
أنا وهي لم نكن إلا واحداً في هذه الساعة، ولكن هذه الساعة لن تحين، وبعد أسابيع انتظار وأمل وفرح خادع، أجد نفسي فجأة أكثر انعزالاً ووحدة من أي عهد مضى! فبعد كل قبلة وبعد كل عناق أجد العزلة تتسع آمادها، ويا لها من عزلة مروعة مؤلمة!
يقول الشاعر (سوللي برودوم)
ليس العطف والحنان إلا هيماناً مقلقاً
كلها تجاريب باطلة يقوم بها الحب التاعس مجربا (الاتحاد المحال) بين (الأرواح والأجساد)
وثم وداعاً، فقد انتهى كل شيء، على أن هنالك جهدا في معرفة المرأة التي كانت كل شيء لنا، وفي لحظة من الحياة، وما عرفنا ولن نعرف الفكرة الباطنة والسطحية من دون ريب! وفي الساعات ذاتها حيث يخيل إلينا أن الأكوان أصبحت في عهد اتحاد سري وامتزاج كامل للرغاب، تنزل إلى أعماق نفسها، وكلمة قد تكون تبدي خطأنا، وتطلعنا - كأنها البرق الوامض في الليل - على الهاوية التي تفصل بينها وبيننا!
وهنالك ما هو خير وأحسن في الوجود؛ أن تقضي أمسية مع امرأة تحبها دون أن تتكلم، سعيداً كل السعادة، مغتبطاً بمجرد قيامها إزاءك. حاذر أن تطلب أكثر من هذا، لأن امتزاج كائنين مستحيل.
أما أنا الآن فقد غلقت أبواب نفسي، لا أقول لأحد عما أعتقد، ولا أظهر ما أفكر، أنظر إلى الأشياء، وأنا عالم ما تحمله إلى العزلة المروعة - دون أن أعلن عنها، وما عسى تهمني الأفكار والمشاحنات والمسرات والاعتقادات؟ لا أستطيع أن أقاسم أحداً فكرة، نفسي تتنصل من كل شيء، وفكرتي الباطنة تظل خافية على الناس، وعندي جملة عامة لكي أجيب بها
على الأسئلة التي تلقي علي كل نهار. وعندي ابتسامة تقول:
نعم! حين لا أكلف نفسي مشقة الكلام
لبثنا في مشينا حتى عرجنا في سيرنا على قوس النصر، ثم هبطنا ساحة (. . . .) وكان يعرض فكرته متهملاً وقد أضاعت ذاكرتي الشيء الكثير مما عرضه.
وقفت فجأة باسطاً يده نحو المسلة العالية المنتصبة الشامخ رأسها في النجوم المفنية القصية عن موطنها الحاملة تاريخ وطنها المنقوش بإشارات غريبة، وقد هتف صاحبي:
- إننا كلنا مثل هذه الأرض!
ثم غادرني دون أن ينبس بكلمة
أهو مجنون أم عاقل؟ لست ادري: ولكن يخيل إلي طوراً أنه على بينة من أمره، وطوراً أنه فقد عقله.
خليل هنداوي