الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 211
- بتاريخ: 19 - 07 - 1937
الضعف في اللغة العربية
للأستاذ احمد أمين
أبنت في مقالي السابق أعراض الداء ووعدت القارئ أن أعرض في المقال التالي للعلاج
وقد قرأت في الصحف وصفا لعلاج قيل إن مكتب التفتيش في وزارة المعارف اقتراحه؛ وخلاصته زيادة الحصص للغة العربية، وتوسيع مكتبة التلميذ. وظن أن هذا علاج ليس كافياً ولا شافياً، وأنه لا يلاقي المرض في الصميم، وأنه لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فلو ضاعفنا الحصص والمعلم على حاله من النقص، والمنهج كما هو من الضعف، لم نصل إلى نتيجة ولم تتحسن حالة المرض
إنما العلاج الحقيقي في إصلاح المعلم وما إليه من منهج وامتحان وتفتيش، فالمعلم الآن تخرجه ثلاث معاهد: دار العلوم والأزهر وقسم اللغة العربية في كلية الآداب. وكلها معيبة بعيوب ابنتها في مقالي السابق، فلابد للإصلاح من توحيد تلك الجهود الموزعة والاقتصار على معهد واحد يسلح بكل أنواع الأسلحة الملائمة
وعندي أن اصلح معهد لذلك هو (دار العلوم)، فتاريخها القديم في التعليم، وسبقها الأزهر في هذا الباب، يجعلان المصلحة في بقائها؛ وكذلك صبغتها الدينية، وما بين اللغة العربية والدين من صلة وثيقة يجعلها اصلح من قسم اللغة في كلية الآداب، ولكنها في شكلها الحاضر غير صالحة، بل لابد لصلاحيتها من أمور:
(1)
فصلها عن وزارة المعارف وتبعيتها للجامعة أسوة لها بكل المدارس العليا التي كانت تابعة للوزارة كالمعلمين والهندسة والزراعة والتجارة. فالجامعة أوسع حرية واكثر استقلالا، والحرية والاستقلال اصلح للنحو العلمي والرقي العقلي
(2)
إعادة النظر فيها من جديد: في نظامها وبرامجها، فقد بليت واكل عليها الدهر وشرب، ولم تعد أساليبها التي كانت صالحة منذ عشرين عاماً صالحة الآن؛ على أن يشرف على وضع هذه النظم جماعة من خيرة رجال مصر ثقافة وعقلا وسعة تفكير وعلماً بمناهج التربية
(3)
أن تكون الدراسة فيها مقصورة على المواد العلمية، وبعد الانتهاء يدرس المتخرج سنة أو سنتين أساليب التربية في معهد التربية.
(4)
أن يعاد إنشاء تجهيزية دار العلوم لتغذي دار العلوم، على أن تكون مدرسة ثانوية تابعة للجامعة أيضا، ويعاد تنظيمها بخير مما كانت، فيتوسع فيها في الدراسة الدينية من قرآن وتفسير وحديث وما إلى ذلك، وتدرس فيها لغة أجنبية حتى يخرج الطالب منها مساوياً للطالب في المدارس الثانوية الأخرى ومتفوقاً في اللغة العربية والدين الإسلامي، وخريجو هذه المدرسة يغذون دار العلوم وقسم الفلسفة في كلية الآداب ونحو ذلك، ويكون في دار العلوم دروس في اللغة الأجنبية أيضاً تتمم ما درسه الطلبة في المدرسة الثانوية
(5)
تكون الدراسة في دار العلوم دراسة قاسية شديدة دقيقة، في الانتقال وفي الامتحان، فلا يسمح لضعيف ولا متوسط الكفاية أن يخرج من هذه المدرسة لأنها ستكون - على ما اعتقد - أفعل مدرسة في رقي الأمة وتكوين عقليتها والنهوض بحياتها.
هذا هو في نظري أهم علاج لضعف اللغة العربية، فالحصة من هذا المعلم الكفء خير من مائة حصة من معلم غير كفء؛ وقديماً قالوا:(ضربة المعلم بألف)
ويلي هذا في الإصلاح إصلاح برامج التعليم؛ فالحق - كما قلت - أنها برامج متأخرة توضع على عجل وتنفذ على عجل، والفرق بين برنامج قديم وبرنامج حديث فرق ضعيف لا يمس الأصول. واذكر أن وزارة المعارف كانت كلفت ثلاثة كنت أحدهم في وضع برامج اللغة العربية سنة 1928، فاجتهدنا في النحو أن ندمج أبواباً بعضها في بعض ونحذف أبواباً لا يترتب عليها عمل في كتابة صحيحة أو نطق صحيح، وحذفنا كل منهج البلاغة القديم ووضعنا مكانه منهجاً جديداً كل الجدة، ولم نضع منهجاً لأدب اللغة إلا في السنتين الأخيرتين من المدارس الثانوية، أما السنوات الثلاث الأولى فقصرناها على قراءة نصوص في الأدب نثراً ونظما وتذوقها ومعرفة موضع الجودة فيها وتكليف الطلبة حفظ الكثير منها واحتذاءها، ولكن - مع الأسف - أهمل هذا المنهج بل وضاع أيضاً.
فمناهج اللغة العربية وخاصة في المدارس الثانوية تحتاج إلى ثورة تقلبها رأساً على عقب تبسط فيها المصطلحات وتحذف منها الأبواب القيمة ويقتصر فيها على ما ينتج استقامة اللسان والقلم
ولو ألف في وزارة المعارف هيئة فنية (مراقبة) للبرامج ووضعها وطريقة تنفذيها لكانت افضل من كل المراقبات الأخرى لأن هذا هو العمل الأساسي للوزارة وما عداه تبع له.
وليس عمل برنامج اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية من الأمور السهلة، فهو يحتاج إلى دراسة المناهج السابقة من أول وضعها، ويحتاج إلى دراسة المناهج للغات الحية الأخرى في الأمم المختلفة للاستفادة منها والاتصال بتلاميذ المدارس في مراحلهم المختلفة لمعرفة مقدار عقليتهم وهكذا.
ثم الامتحان له كبير أثر في ضعف اللغة، لان التلاميذ عندنا اعتادوا أن يقرءوا للامتحان، ويتعلموا للامتحان، وبقدر صعوبة الامتحان والتشديد فيه تكون عناية الطلبة.
والامتحان في اللغة العربية معيب من وجهين: من وجهة ورقة الامتحان فأنها في اغلب شأنها نظرية لا عملية وتعتمد على الذاكرة والحفظ أكثر مما تعتمد على التفكير والعمل، واللغة أداة للتعبير، والغاية منها تقويم القلم واللسان فيجب أن يرمي الامتحان إلى هذه الغاية؛ أما أن تكون الأسئلة فيما هو التشبيه الضمني، وما هي الاستعارة المكنية، واثر الثقافة اليونانية في الثقافة العربية، فأسئلة لا يصح أن تكون في المرحلة الأولى ولا الثانية من التعليم، إنما تكون بعد أن يستكمل الطالب الجانب العملي
وكذلك من جهة التصحيح، فقد استولى على مصححي اللغة العربية نوع من العطف أشبه ما يكون بالعطف على المجرم فلا يعاقب؛ وبعطف إلام الجاهلة على أبنها فلا تؤدبه، وأخشى أن يكون هذا التقليد في تصحيح اللغة العربية موروثاً عن رجلين أحدهما المستر دنلوب وكان ينصح بالتساهل في اللغة العربية لأنه لم يكن يهمه أمر قوتها، وثانيهما المرحوم الشيخ حمزة فتح الله فقد طبع على الرحمة التي لا حد لها، وشاع عنه أن لكل مسالة وجهين، ثم انحدر هذا التقليد من السلف إلى الخلف
والمصححون يبنون تساهلهم على فكرتين باطلتين: أولاهما أن اللغة العربية هي اللغة الأصلية فلا يصح أن يرسب الطلبة فيها، وهذا خطأ، لان لغتنا الأصلية هي اللغة العامية لا اللغة العربية الفصحى وشتان ما بينهما، ولو كانت هي لغتنا الأصلية ما شكونا هذا الضعف؛ وثانيتهما غلبة الرحمة عليهم وقد أبنا ضررها.
وليس أدل على فساد الامتحان من حسن النتيجة المئوية مع ضعف الطلبة ضعفاً نضج منه جميعاً بالشكوى. أمن المعقول أن نلمس هذا الضعف ثم تكون نسبة النجاح فوق الثمانين في المائة؟
كل هذا جعل التلاميذ يهزؤون باللغة العربية ولا يعيرونها التفاتاً، ويحترمون اللغة الأجنبية والرياضة لان الاحترام عندهم تابع لنسبة النجاح، فكلما كانت النسبة قليلة كانت العناية بالعلم أقوى؛ وليس ينسى أحد منا العبارة التي تدور على ألسنة الطلبة وهي أنهم إذا سمعوا طالباً يجتهد في استذكار اللغة العربية قالوا: له (وهل يسقط أحد في العربي؟)
ثم لهم طريقة في التصحيح ليست صحيحة، فهم لا يقومون الورقة ككل، ولكن يجزئونها جزيئات صغيرة ثم يضعون درجة على كل جزيء فيحدث أن الطالب يأتي بأخطاء شنيعة تدل على الجهل التام ومع ذلك ينجح، حتى يخيل إليّ أن التلميذ إذا أعرب (في البيت) في حرف جر والبيت مفعول به منصوب لأعطوه 50 % على صحة إعرابه (في) وخطئه في إعرابه (البيت)
ومالي اذهب بعيداً وقد حدث في هذا العام أن كانت فتاة قريبة لي تمتحن في البكالوريا، فجاءت يوم امتحان اللغة العربية وقالت: لقد أعربت (كفى حزناً) كفى فعل أمر وحزناً مفعول به، أليس كذلك؟ فقلت: نعم ليس كذلك، وقالت: لقد قلت إن من خطباء العصر الأموي أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، أليس كذلك؟ فقلت أيضاً: نعم ليس كذلك، وأطلعتني على بقية الأجوبة فأيقنت برسوبها؛ ولو كان لي الأمر ما أنجحتها مهما أجادت بعد هاتين الغلطتين الفظيعتين، ولكني دهشت اشد الدهش لنجاحها!
أنا كفيل بأن سنة واحدة توضع فيها ورقة الامتحان عملية اكثر منها نظرية، ويشدد فيها في التصحيح شدة حازمة تساوي الشدة في تصحيح الرياضة واللغة الأجنبية، كافية في أن يوجه الطلبة عنايتهم الكبرى للغة العربية فيزول الضعف وتحسن النتيجة
ولا ننسى أن التفتيش بعد ذلك له أثره، فلو حدد الغرض منه لبانت قوته الحالية أو ضعفه، فليس المفتش جاسوساً يضبط الجريمة، ولا هو عدّاد يعد موضوعات الإنشاء والتمرينات، ولا غرضه الأول أن يقول إن كلمة كذا ليست في القاموس، كلا ولا غرضه الأول أن يكتب عن المدرس أنه جيد أو ممتاز أو ضعيف، إنما مهمته الأولى حسن توجيه المعلمين إلى تحقيق الغرض من دراسة اللغة العربية والوصول بالطلبة والمدرسين والكتب والمناهج إلى أرقى حد مستطاع، وبمقدار تحقيق هذا الغرض أو عدم تحقيقه يكون الحكم على قيمة التفتيش
إذا اصلح المعلم والمنهج والامتحان والتفتيش صلحت اللغة العربية في المدارس. وهذا هو العلاج الوحيد الصحيح، أما ماعداه فعلاج غير حاسم ولا ناجع
أحمد أمين
أدب الموافقة
للأستاذ عباس محمود العقاد
(أعتقد أن قيمة الكاتب موصولة صلة خفية بمقدار ما يستجيشه من روح الثورة. ولعليّ أقترب من صحة التعبير إذا قلت روح المقاومة. إذ لست من الحمق بحيث أتخيل أن كتاب الجناح الأيسر وحدهم هم أصحاب المزية الفنية)
(قلت محتجاً على صاحبي: إن أجمل الآثار الفنية ومنها الآثار التي يكتب لها الشيوع بعد ظهورها كثيراً ما كانت في بداية الأمر مقصورة في عرفان قدرها على فئة جد قليلة. وناولته كتاباً أتفق أن كان معي ساعتئذ قائلاً: إليك فاقرأ. إن بيتهوفن نفسه قد جرى عليه مثل ذلك)
ستدفعون الفنانين بينكم إلى الموافقة. ومن أبى من خيرتهم المنتقاة أن يبتذل فنه ألجأتموه إلى السكوت، فتعود الثقافة التي تزعمون خدمتها وإيضاحها والذود عنها وهي وصمة عار عليكم)
(مهما يكن من جمال العمل الفني في بلاد الجمهوريات الشيوعية الروسية فهو يعيب صاحبه إن لم يكن على النسق المرسوم. إن الجمال عندهم خلة من خلال الموسرين! ومهما يكن من عبقرية الفنان فهو مصدوف عنه عفواً أو قسراً إن يعمل على النسق المرسوم، فكل ما يطلب منهم الموافقة، وهو ضامن بعدها كل ما عدا ذلك)
(إذا أضطر العقل اضطراراً إلى الإذعان لكلمة الأمر فأقل ما هنالك أنه قادر على الإحساس بفقد الحرية. أما إذا سيس العقل من بداية الأمر سياسة توحي إليه أن يذعن قبل أن تأتيه كلمة الأمر فقد بلغ من فقده أن يفقد حتى الشعور بالاستعباد. وإني لأعرف من اجل هذا أن كثيراً من الفتيان الشيوعيين يستغربون ويمنعون في الإنكار إذا قيل لهم أنهم محرمون نعمة الحرية)
(إن خير الوسائل التي يبلغ بها الكاتب مزيته العالمية لهي مواهبه المتفردة كل التفرد. لأن المرء إنما يكون بشراً عريق الإنسانية بفرط ما فيه من الخصال الفردية، فما كان روسي أعرق روسية من مكسيكم جوركي، وما أصغت أسماع العالم إلى كاتب روسي أشد من إصغائها إليه)
تلك شذرات من الكتيب اللطيف الطريف الذي كتبه الأديب الفرنسي الكبير (أندريه جيد) بعد عودته من البلاد الروسية، متحريا فيه ما تعود أن يتحراه من الصدق والصراحة والاعتراف بالخطأ والأنفة والإصرار عليه ذهابا مع الغرور والكبرياء. وقد كان من نصراء الدولة الروسية الحديثة وأصحاب الرجاء العظيم في تجاربها ومساعيها، فلما شهد الحقيقة بعينيه لم يخادع نفسه ولم يغالط حسه، وعاد يأسى ويأسف في لهجة منزهة من الضغينة والتشهير، ولكنها تشف عن خيبة الرجاء في كثير من الأمور
فالثقافة هي مقياس الصلاح في كل نظام
أما مقياس الثقافة فهو الابتكار والحرية، أو هو (المزايا الشخصية) التي يعبر عنها الفنان والشاعر والكاتب كما قررنا ذلك واعدنا تقريره مرات، ولا نظنه اليوم في غنى عن التقرير
لا أمل في نظام حكومي أو نظام اجتماعي لا تقترن به ثقافة العلوم وثقافة الفنون
ولا أمل في ثقافة نعرف ما تنتجه قبل أن ينتج، ونستغني عما تصوغه قبل أن نطلع عليه، لأنه لن يعدو ما نعلم وما نظن من موضوع ومن غاية ومن قالب ومن تصوير وتفكير
وقد نسى (جيد) أن الكاتب الروسي في ظل الشيوعية مطالب بشيء غير (الموافقة) واصعب تحصيلا على طالبه من الموافقة! لأنه إذا وافق الروسيين الخاضعين للأمر والوحي والإلهام فمن الواجب أن لا يوافق القراء الغرباء الذين لا يخضعون لأمر ولا يصدرون عن وحي أو الهام. وويل للكاتب الروسي الذي يصاب باستحسان العالم لما يكتب ويبتلى بتقريظ النقاد في بلاد راس المال لما يمثله من شعور ويرمز إليه من آمال ويشابه به الآدميين الموسرين من عواطف وأحلام وأفكار
تلك إذن خيانة، تلك إذن مخالسة وخديعة، تلك إذن مؤامرة بين الكاتب وبين نظام راس المال، ويكفي أن يتشابه الإنسان الشيوعي والإنسان (البورجوازي) في بعض العواطف والأحلام لتثبت دلائل المؤامرة كل الثبوت، أو يثبت شذوذ الكاتب عن خلائق الشيوعيين، لأنه إنسان كسائر الناس!!
ومن أضاحيك القوم أن تصدر رواية لبعض أعلامهم بالإنجليزية والفرنسية والشيكية ولما تصدر بالروسية، ونعني بها رواية (نحن) لمؤلفها الكاتب الروسي النابغ (زمياتين) الذي
يدين بالثورة ولكنه يدين بآمال لبني الإنسان وراء آمال الشيوعيين. . . . فيقول الناقدون الحكوميون الحصفاء: وماذا عسى أن تكون تلك الآمال؟ أليس هذا دليلاً على أن الكاتب يخامره شعور كشعور الموسرين الذين فقدوا غنائمهم فهم أبداً في حنين إلى حال وراء هذا الحال؟!
وحقت اللعنة على زمياتين لأنه يحظى بالشهرة والمتابعة بين أناس من الآدميين البورجوازيين. فضاع الرجل في بلاده ولم يغن عنه إعجاب القراء في غيرها، ولم يؤذن له أن يكون إنسانا لأن الإنسانية تشمل الناس جميعاً. أما الشيوعية فلا ينبغي أن تشمل أحداً غير الشيوعيين!. .
ونحسب أن المقاييس كلها عرضة للضلال والحيرة والاشتباه. إلا مقياس الحرية الفنية فهو وحده حسب الباحث من قياس صحيح واف لمراتب الأمم وفضائل المجتمعات ومآثر الحكومات
فلا حرية - حق حرية - حيث تتقيد الثقافة الفنية، ولا استبعاد - حق الاستبعاد - حيث تنطلق الثقافة الفنية من قيودها
وبهذا المقياس الصادق المحكم ننفذ إلى الصميم من وراء الأغشية والظواهر ولا نقصر الحكم على الحرية التي تمثلها الشرائع ودساتير الحكومات
فرب أمة لا تشتمل قوانينها على خرف واحد يحرم الابتكار والحرية، بل تنص القوانين فيها على حرية الرأي وحرية الإبداع والتصوير، ثم يظهر (الأثر الفني) فيها فتضيق به الصدور وتشيح عنه الأبصار وتتلاحق الكوارث على رأس صاحبه، لأنه يقول ما لا يعجب الناس وإن لم يقل ما يخالف القوانين ويناقض الدساتير
تلك أمة من العبيد وإن قيل على الورق إنها أمة من الأحرار. وشر ما فيها إنها مستعبدة مقهورة بغير حراس وغير قيود وغير طغاة، ولو كان استعبادها من حراسها وقيودها وطغاتها لزال الاستعباد حين يزول جميع هؤلاء
ورب أمة تزدحم الأوراق فيها بتحريم هذا وعقوبة ذاك ولا تنقطع فيها مبدعات الجمال وآيات الفنون فترة من الفترات. فارجع إلى مقاييس القوانين كلها تقل لك إنها أمة مغلوبة مسلوبة، وارجع إلى مقياس الفن وحده يقل لك ما هو اصدق واعمق، وهو أن السعة سعة
النفوس والأذهان لا سعة الدساتير المسطورة على الأوراق؛ وإن نفساً تتسع للإبداع الحديث وترحب بالرأي الغريب وتستقبل النوازع النفسية والخوالج الفنية بغير حدود ولا أرصاد لهي حرة في غنى عن الإذن لها بالحرية، وهي وشيكة أن تنفض عن كواهلها كل ثقل يحول بينها وبين العمل الطليق
شر الآداب هو أدب الموافقة والمجاراة، لكننا نخطئ إذا حسبنا الحكومات الغاشمة علة هذا الأدب دون سائر العلل التي تفرضه على الكتاب والقراء
فالأدب التجاري أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم. لأن الذي يكتب للرواج يكتب ما يوافق الأذواق ويجاري الأهواء ولا يكتب ما ينبعث من سليقة حرة وقريحة شاعرة، والذنب في ذلك على الأخلاق لا على القوانين
والأدب الضعيف أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم، لأن النفس الضعيفة لن تهتدي إلى القوة ولو أخلى لها الحاكم طريقها. فهي توافق وتجاري عجزا عن الخلاف والانفراد، لا خوفاً من التفكير الطليق والقول الصريح
والأدب الجامد أدب موافقة ومجاراة، لأنه ينافر الحركة ويوافق السكون والركود
والأدب الذليل أدب موافقة ومجاراة، لأن الذليل لا يحسن غير التمليق والازدلاف، ولن يكون الملق إلا بالموافقة ولو كانت غير ماجورة، وبالمجاراة ولو كانت غير مشكورة
وما من عيب تعيله على أدب من الآداب إلا انتهى في قراره إلى أن يكون ضرباً من الموافقة ونقصاً في الحرية والإبداع، فالموافقة لا جديد فيها ولا حاجة إليها ولا دوام لها، وإنما تولع النفوس بالأدب لأنها متغيرة وليست براكدة، ولأنها متطلعة وليست بعمياء، وكيف يتفق التغير والمطابقة؟ وكيف يتمشى التطلع والاستقرار؟
إلا إننا نبادر فنقول إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة، فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص وكل مما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال
عباس محمود العقاد
منتسكيو آراؤه ومثله
للأستاذ إسماعيل مظهر
إن أسم منتسكيو لأسم عظيم. والأثر الذي خلفته أعماله ينزل من الخلود في داخل أوربا وفي خارجها منزلة تمهد لمن يريد أن يترجم له أن يتصل به منتحيا طرقاً شتى ومداخل متفرقة. ذلك بأن أعمال هذا الرجل العظيم قد تركت أثراً رئيسياً في جميع ما ظهر في عالم الفكر من النظريات السياسية، حتى أن كاتباً من اشهر كتاب هذا العصر قد ذهب في نقد نظرياته مذهباً قضى فيها بأنها أول ما مهد لظهور فكرة (العقد الاجتماعي) التي كونها (رُوسُو) ودافع عنها أبلغ دفاع. ولا شك في أنك تبهر بعبقرية هذا الإنسان الفذ إذا علمت أن نظرياته السياسية كانت العمدة في صوغ دستور الولايات المتحدة، ومن هنا كان اثر (منتسكيو) عظيماً في الترويج للفكرات والمبادئ التي قام عليها الدستور الإنجليزي، كما كانت باكورة الدراسات العميقة التي تناولت بدايات التكوين السياسي الذي نشأ في فرنسا خلال القرون الوسطى. فكان بمجموعه أعماله ودراساته وأفكاره من الرجال الذين عبَّدوا الطريق للثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر
لهذا يجدر بنا أن نمهد للكلام في الترجمة له بذكر شيء من الأطوار التي تقلبت فيها حياته السياسية. فقد كان (منتسكيو) رئيساً لمحكمة (بوردو) العليا، وهي أول هيئة تشريعية إقليمية كانت في فرنسا. وكان أعضاؤها يطمعون في أن يكون لهم مقاعد في محكمة باريس العليا. غير أن محكمة العاصمة الكبرى لم تذعن لهذا المطلب. لهذا ظلت النزعة (البرلمانية) جلية الأثر جد الجلاء في كل ما كتب (منتسكيو)، بالرغم مما كان يطنب فيه من الالمامات التاريخية المستفيضة وتعلقه في مجال البحث الاجتماعي بمعالجة مشكلات أوربا خاصة؛ والإنسانية عامة. فيجب أن نعي إذن ذلك الأثر المزدوج الذي أحدثته المحاكم العليا في تاريخ فرنسا. فإنها كانت حتى نهاية القرن السادس عشر الأداة الرئيسة التي اتخذتها الملوكية المركزية، ذريعة لمدِّ نفوذها، وتثبيت سلطانها، اتقاء لنفوذ النبلاء ومطامعهم من ناحية، ودرءاً لسلطان الكنيسة من ناحية أخرى. وكانت هذه الأداة مجدية في إضعاف نفوذ النبلاء الموروث، وهو نفوذ يتضمن فيما يتضمن سلطاناً واسعاً، مالياً وإدارياً
وكانت الخطة أن تقرر المحاكم العليا أن من حقها النظر في (الدعاوى الملكية) التي كان
كبراء أصحاب القطائع يرغبون في أن تنظر أمام محاكمهم الخاصة. وكذلك قررت تلك المحاكم على اختلافها، أن من حقها النظر في الدعاوى التي يقتضي النظر فيها انتقاصاً من سلطان الكنيسة، قضائياً ومالياً. ولا شك في أن القوة الباطشة التي حازتها الملوكية المركزية في فرنسا في القرن السابع عشر، كانت نتيجة لأشياء ثلاثة: الجيش، ومجلس البلاط، والمحاكم العليا
ولم تكن المحاكم العليا عند أول نشأتها في فرنسا، إلا جزءاً من مجلس البلاط. وكان من أثر هذه المحاكم كما يقول (هانوتو) أن احتفظت فرنسا بوحدتها، ولم تمزق ولايات متفرقة
وفي أخريات القرن السادس عشر حدث انقلاب، ساد محاكم فرنسا العليا، وظهر أثره واضحاً في روحها المعنوية وفي عملها. فإنها بدأت تستمسك بقوة بكل ما يدعي الملك من حقوق الدولة، لتقضي بذلك على ما بقي لكبار أصحاب القطائع ورؤساء الكنائس من الامتيازات. غير أنها، بجانب هذا، بدأت تظهر بمظهر الأداة المستقلة عن إرادة الملك أيضا. فكانت بطبيعة تكوينها وتاريخها، الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تعارض إرادة الملك آمنة رخية البال. ذلك بأن أعضاء هذه المحاكم كانوا يملكون بالوراثة حق الجلوس فيها. ولم يكن من الهين أن يسلب واحد منهم حقه فيها، حتى أن (رشيليو) في كتابه (العهد السياسي)، قد عبر بعمق عن الأخطار التي يجوز أن يواجهها العرش من نفوذ أعضاء المحاكم العليا، أو من مسلكهم الذي يسلكونه عند الضرورة. وعصر (الفروند) والسنوات الأخيرة من حكم الملك لويس الخامس عشر، وقد حققت كل ما جال في مخيلة (رشيليو) من المخاوف. ومجمل ما نرمي إليه من هذا كله أن نوضح أن (منتسكيو) كان يرى أنَّ الوظيفة الأولى للمحاكم العليا إنما هي في أن تصمد لقوة الملك وأن تحد من سلطانه: قال:
(إن هذه الهيئات - المحاكم العليا - من أبعد الأشياء تلاؤماً مع طبع الملوك. فإن أعضاؤها كثيراً ما ينغصون على الملك بسرد حقائق غير مرغوب في سماعها ولا يتصلون بالملك إلا لعرض الشكايات الحق. وأنت إذ ترى أن فئة البطانة الملكية تلقي في سمع الملك دائماً أن الشعب في رغد وسعادة في ظل الحكومة، إذا بتلك المحاكم تظهر ما في أقوال هؤلاء من كذب ونفاق، وتقرع مسامع العرش، حيناً بعد حين، بصدى تلك الأنات العميقة الجافية التي تتنفس عنها صدور أولئك الذين يمثلونهم)
كتب منتسكيو بضع عبارات بالغة منتهى الجودة والإبداع حلل فيها نفسيته، وصور بها أخلاقه ويحسن بنا أن ننقل بعض فقرات منها؛ وذلك أقوم سبيل تعرف به شيئاً من حقيقة منتسكيو:
يقول أنه وهب حساً عميقاً جعله يقدس معنى الصداقة، فلم يجازف بإن يخلع نعت الصديق على كل من أتصل بهم من الناس؛ ولذا يذكر، ولعله يذكر بحق، أنه لم يفقد طوال حياته غير صديق واحد.
وكان خجولاً، حتى أن الخجل كان مصيبته الخلقية الكبرى؛ قال:
(يخيل إليّ أن الخجل يغشّي على كل أعضائي الجسمانية، فيربط لساني، ويظلم افكاري، ويقضي على كل ما عندي من قدرة على التعبير. ومن العجيب أني أقل تعرضاً لنوبات الخجل في حضرة ذوي الألباب مني في حضرة الحمقى والمغمورين)
فلا عجب إذن إذا رأينا (منتسكيو) يمقت كل المقت ذلك الجو الخانق الذي كان يأنسه في البطانات الملكية؛ قال:
(لم أجهد نفسي في أن أسعد وأربى من طريق البطانة. وإنما أمَّلت دائماً أن أثري من عملي في ضياعي، وأن أتلقى الخير من يد الآلهة لا من يد البشر).
وليس لنا بعد هذا أن نعجب من أن (منتسكيو) كان لا يرى سبيلا للفرار من متاعب الحياة إلا بالنزوع إلى أسمى ما تتجه إليه الأنفس الأبيَّة، المتطلعة إلى المثل العليا، والغايات السامية؛ قال: -
(كان الإكباب على الدرس والتحصيل الدواء الواحد الذي استطعت أن أنجو به من كثير من مرارات الحياة. ولم آنس في الحياة من حرج، لا تكفي ساعة واحدة اقضيها في القراءة، لكي تذهب بكل آثاره من نفسي)
وكان عريض الأمل، شامل النظر، كلي المرامي، أنساني النزعة، فإن الثورة الفرنسية، وهو من اكبر الممهدين لها، لم تلبث أن استقوت عليها بعد قليل الروح القومية، فأسلمت نابليون قيادها، وألقت بين يديه بروحها؛ تلك الروح التي كانت أكبر الأسباب في انتصاراته؛ غير أن سيل الفكر الجارف الذي تقدم شبوب الثورة، كان من غير شك، ذا صبغة إنسانية. ومن كلمات منتسكيو ننقلها هنا يتضح لك الاتجاه الحقيقي للفكر الفرنسي
قبيل الثورة العظمى؛ قال:
(إذا وضح لي أن شيئاً من الأشياء لي فيه نفع، ولكنه مضر بأسرتي، فإني أنفيه من عقلي، واطرده من مخيلتي. وإذا وقعت على شيء نافع لاسرتي، ولكنه مضر بوطني، فإني اجتهد في أن أنساه. أما إذا سقطت على شيء مفيد لوطني، ولكنه مضر بأوربا، أو بالسلالة البشرية، فاقل ما اعتبر أن نيله جريمة كبرى.)
وكان لمنتسكيو نظرات فلسفية عميقة في حقيقة الخلق الإنساني، طبقها واتخذها في الحياة إماماً. وكان ككل الفلاسفة العمليين الذين درجوا من قبله يعتقد أن اللذة والألم دستور السلوك الإنساني. ولكنها اللذة التي لا تطفر فتصير شهوة، والألم الذي يحتمل بصبر وشجاعة في سبيل تحقيق المثاليات؛ وقال:
(إن دورة عقلي قد هيئت، لحسن الحظ، بحيث تجعلني شديد الحساسية فأتأثر بالأشياء ابتغاء الاستمتاع بها. ولكن لم تبلغ حساسيتي بالأشياء حداً يجعلني أتألم من فواتها)
من هنا نستطيع أن نؤلف صورة تدلنا على شيء من حقيقة (منتسكيو)، وهذا كافٍ للتعريف به. ولهذا ننتقل إلى الكلام في مبادئه ونظرياته السياسية، فإنها أخص ما يعلق بالذهن كلما ذكر أسم (منتسكيو)
إذا شرعت تقرأ كتاب منتسكيو (روح القوانين)، وضحت لك صورتان جليتان: الأولى، رجوعه في التدليل على نظرياته إلى التاريخ؛ والثانية: نزعته إلى أحكام الآخرة بين النظرية السياسية، والعلوم الطبيعية. وللصورتين أهميتهما القصوى في التعريف بمنتسكيو ودرس مذاهبه. ناهيك بأنهما بداية ذلك التطور الفكري الكبير الذي تناول منازع هذا الرجل العظيم منذ نشأته مُفكِّراً، حتى تمام تكوينه كقوة عظيمة، أثرت ولا تزال تؤثر، في مناحي الفكر والعمل الإنساني
كان (منتسكيو) مفرط العناية بقراءة التاريخ. ولن تبالغ إذا قلت أنه كان بالتاريخ أشد هياماً من (روسو). ذلك إلى أنه أوسع من (فولتير) نظراً، واشمل إحاطة، وانزع إلى معالجة المشكلات الاجتماعية. ومع كل هذا فإن معرفته بالتاريخ مقيسة على مفهومه الحديث، كانت ضيقة محدودة. وكان من المحتوم أن يكون علمه بالتاريخ ضيق الحدود؛ إذا وعينا أن التاريخ الحديث خلق جديد من مخلوقات القرن الثامن عشر
كانت معرفة (منتسكيو) بحوادث التاريخ تامة، بالغة منتهى الضبط والإحاطة. ولقد حوى كتابه (عظمة الرومان وانحطاطهم) أسمى صور البلاغة، وجمال الأسلوب. بل إنك لا تقول شططا إذا قضيت بأن اكثر النظريات التحليلية التي بثها فيه (منتسكيو) عند الكلام في أربعة القرون التي أظلت نشوء النصرانية، سبقاً وتعقيباً، كانت عادلة متزنة، لا هي إلى الإفراط ولا هي إلى التفريط، ولقد كتبت الفصول الأولى من هذا الكتاب في عصر لم يكن سلطان النقد قد تناول فيه التاريخ بعد؛ فإنه كتبها قبل ظهور كتاب (تييوهر) الذي يعد الفتح الأول للنقد في مجال التاريخ. وكانت آراؤه في القيصرية الرومانية الغربية وسبب انحلالها نفس الآراء التي ذاعت في سبب انحلال القيصرية البوزنطية. وتلك وجهة من النظر التاريخي ذاعت في القرن الثامن عشر؛ ومن حسن الحظ أن البحوث التي ظهرت في خلال نصف القرن الماضي، قد طهَّرت منها عقول المؤرخين، تطهيراً كاملاً
وكان (منتسكيو)، إلى هذا، محيطاً بتاريخ رومية أوسع إحاطة، فاهماً جوهره أقوم فهم، ملماً بعناصره أمتن إلمام. ولكن معرفته بتاريخ اليونان كانت بغير شك أقل من معرفته بتاريخ رومية. وكتاباته في تاريخ العصور الوسطى؟، لا تخرج عن كتابات مُلِمٍّ بالآثار البدائية (الأرخيولوجيا) لا بالتاريخ
أما معرفته بتاريخ فرنسا فكانت شاملة، وبخاصة تاريخها في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ ولا شبهة في أنه كان محيطاً بتاريخ العصر الذي عاش فيه. وكان شديد العناية بدرس تاريخ إنجلترا، مشغوفاً بمسائله ومشكلاته. ولكن نظرته فيه كانت شاذة بالرغم من طرافتها
ولم يهمل (منتسكيو) التاريخ العام، الذي يعتبر تاريخ رومية وفرنسا وإنجلترا، أجزاء منه ونتفاً؛ بل زوده بعناية الدرس والتحصيل. فإن تاريخ مصر وبابل والهند والصين واليابان وشعوب خط الاستواء، وشعوب الجمد الشمالي، كانت ماثلة له حية في مخيلته. ولكن لم يكن الزمان قد زود المشتغلين بالتاريخ بعد بمادة يستخرجون بها من ماضي الشعوب صوراً واضحة جلية
يظهرنا هذا على أن عنايته بالتاريخ كانت كبيرة ولكن من الخطأ أن نتصور أن فلسفته السياسية كانت مستمدة من معرفته بالتاريخ، أو مستندة إليها؛ فإنك إذا مضيت تماثل بين ما
كتب أرسطوطاليس أو لادويرابس، وبين ما كتب (منتسكيو) وقعت على الفارق العظيم، والصدع النائي الذي يفصل (منتسكيو) في العصور التي تقدمته، والعصور التي تلته، وجملة الفارق بين الأساليب التي اتبعها القدماء والأساليب التي انتحاها المحدثون. فإن (منتسكيو) كان يتخذ من التاريخ مضربا للأمثال والمثلات، ليؤيد وجهة نظره، ولكنه لم يستمد من التاريخ بالذات تلك الآراء التي قامت عليها نظرياته السياسية، وليس عندنا من دليل على هذا أقوم من الدليل الذي ترجع فيه إلى الفصل الثامن من كتابه (روح القوانين) إذ يقول:
(كما أن الديمقراطيات تفسد وتنهار باعتداء الأمم على المحاكم العليا - البرلمان - والحكام والقضاة، واستلاب حقوقهم وخصائصهم، كذلك تسقط الملوكيات، أو هي تأخذ في الانحلال إذا مضت تسلب النقابات والجمعيات والمدن امتيازاتها الطبيعية والحالة الأولى مظهر لاستبداد الجماعات، والثانية مظهر لاستبداد الفرد.)
(إن السبب الذي اسقط أسرتي (تسن) و (سووي) كما يقول مؤلف صيني، إنما يرجع إلى أن أمراء الأسرتين لم يكتفوا من الحكم بالأشراف الأعلى على شؤون الدولة، كما كان شأن الأمراء في الأسر اللواتي سبقت في الحكم، وكما هو طبيعي أن يكون في ملوكيات رشيدة؛ بل حاولوا أن يتحكموا ويحكموا في كل شأن من الشئون بأنفسهم، وبغير واسطة. وكلمات هذا المؤلف الصيني، تعبر عن الأسباب التي يعود إليها سقوط الملوكيات في كل الأزمان.)
(إنما تسقط الملوكيات بأن تقوم في نفس الملك شهوة أن يظهر جبروته وسلطانه، فيحرِّف النظم المقررة ويفسدها، بدل أن يحافظ عليها ويرعاها. ومثل ذلك أن يغتصب الحقوق والامتيازات التي تقوم عليها بعض النظم من يد فئة، ويهبها باختياره، ولمجرد إشباع شهوته، لفئة أخرى، وان يحكم خياله وتصوراته في شؤون الدولة؛ دون عقله ونهاه.)
(تنهار ملوكية عندما يقدم ملك يحاول أن يحصر كل شيء في ذاته. فيركز الحكومة في عاصمته، ويركز العاصمة في بطانته وحاشيته، ويركز البطانة في ذاته؛ وفوق كل هذا يكون سقوط الملوكية سريعاً مروعِّاً، عندما يسيء الملك فهم سلطته ومركزه، وحب شعبه له، وعندما يغيب عن فهمه أنه يجب أن يشعر دائما بأنه في أمن وسلام، قدر ما يشعر المستبد القاهر أنه دائماً في خطر) أهـ
فهل من شك في أن (منتسكيو)، وهو رئيس محكمة (بوردو) العليا إنما يعبر بهذا عما قام في ذهنه عن ملوكية لويس الرابع عشر وخلفه، وأنه ذلك المؤلف الصيني، الذي يخيل إلينا أنه لم يوجد إلا في مخيلة مؤلف (روح القوانين) لم يقحم في هذا الموقف إلا ليكون مادة لضرب المثل، وإظهار المثلة؟ ليس هذا ببعيد. ذلك بأن (منتسكيو) يعرف تمام المعرفة، كما ذكر في غير الموطن الذي نقلنا عنه هذا القول، أن الملوكيات كثيراً ما فسدت وانحلت متأثرة بأسباب تختلف كل الاختلاف عن الأسباب التي ذكرها.
كذلك لا يستطيع المؤرخ أن يعزو كبير قيمة لنزعة هذا العبقري إلى الاستعانة بالعلوم الطبيعية. فإن قوله بأثر البيئة الطبيعية كان أمراً له في البحوث الاجتماعية والسياسية، إلى جانب الجدة والحداثة، خطره العلمي. غير أن هذا البحث مجلُواً في الصورة التي لابسته في ما كتب (منتسكيو)، وفي الصورة المحرفة التي ظهر بها في بحوث (روسو) لن يجد فيه المفكر الحديث مقنعاً، أو يقع فيه على حقيقة تنقع الغلة. فلقد عالج تطبيق العلوم الطبيعية على الاجتماعيات من وجهة هي على غرابتها وبعدها عن مناحي الفكر الحديث، تثير عند المحدثين اللذين يعرفون مرامي العلم العملي ومنازعه. كثيراً من الاستخفاف بها، والسخرية منها. ومثلنا على ذلك ما عالج به حالات إنجلترا الاجتماعية من الآراء التي بثها في فصلين من (روح القوانين) فإن آراؤه التي بثها في ذينك الفصلين، تحمل على القول بأن (منتسكيو) كان فيها إلى الهزل والمجانة. اقرب منه إلى الجد. ويزيدني بهذا الأمر ثقة أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يتعففوا عن النزعة إلى المجون، بجانب ما كان فيهم من حب النفع العلمي، والاستقامة في التفكير. وعندي أن (منتسكيو) لم يرم بما كتب في الفصلين السالفين إلا إلى الاستخفاف بقرائه الإنجليز. وما قولك في رجل يبدأ البيان عن حالات الإنجليز الاجتماعية بالكلام في تأثير طقس بلادهم، فيعزو إليه نزعة الإنجليز إلى الانتحار! ثم يحاول أن يعلل الصورة التي تلابس ميولهم القومية، فيقول أنها ترجع إلى صف الاستعداد الطبيعي على ترشح العصارة العصبية. وهذا قول لا يكفي أن يكون سبباً في تعليل ميول الإنجليز القومية لا غير، بل يكفي للقول بأن الشعب الإنجليزي مقضي عليه بالفناء جميعاً.
وهو يحاول في فصل تال أن يفسر تأثير ذلك الأمر على شكل الحكومة الإنجليزية فيقول
أن سلالة لها استعدادها في التأثر بالاستثارات المختلفة وقلة ثباتها على شيء، لن تصبر على حكومة تلقي مقاليدها في يد فرد واحد، فلا لقوم خارجة على سلطان الحكومة وعلى سلطانه، وإنه من الطبيعي أن تحلم أمة غرس فيها طقس البقعة التي تسكنها من كرة الأرض خليقة القلق والجزع، بحيث لا تحتمل البقاء على حالة بعينها، أو الصبر على شيء بذاته، بقوانين مستخلصة من التجارب، فيكون من الصعب نبذها والنزوع إلى غيرها. ويخلص (منتسكيو) من هذا إلى رأي أعجب من كل آرائه الآخر، مؤداه أن الدستور الإنجليزي، إنما هو جني الضباب الذي يحط على بلادهم. أضف إلى ذلك أنه يعزو دين الإنجليز إلى السبب عينه، في موضع آخر من ذلك الكتاب.
إسماعيل مظهر
من ذكريات الحملة الفرنسية
رستم مملوك الإمبراطور
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يرقد نابوليون في مثواه الخالد في مؤخرة صرح الانفاليد بباريس، في تابوت من المرمر القاتم. تظلله قبة فخمة رائعة، وقد ركزت حوله عدة من الأعلام التي ظفر بها الإمبراطور في الوقائع الشهيرة التي خاضها وكان النصر حليفه فيها مثل مارنجو، وفاجرام، وايلو، واوسترلتز، ويينا، والاهرام، وغيرها؛ وقد استوقفنا يوم أتيحت لنا زيارة قبر الإمبراطور منظر ذينك العلمين الممزقين اللذين كتب أمامهما موقعة الاهرام، فلم نستطيع أن نميز لهما لوناً أو علامة خاصة أو أن نقرأ فيهما شيئاً
كانت الحملة المصرية من أعظم الحوادث التي تركت في ذهن نابوليون أثراً خالداً؛ ومع إنها اختتمت بالفشل من الوجهتين العسكرية والسياسية فإنها تركت من الوجهة المعنوية أعمق الآثار؛ ولم يكن نابليون حين مقدمه إلى مصر فاتحاً يبحث وراء طالعه فقط، ولكنه كان يتصور أنه يستطيع أن يعيد حلم الاسكندر، فيبدل آلام والحضارات؛ ومن ثم فقد حشد في جيشه المطابع والأدوات العلمية إلى جانب المدافع، والعلماء المبرزين في كل فن إلى جانب الضباط والقادة؛ ولم يكن ظفر نابوليون بفتح مصر والبقاء فيها مدى حين، ليضارع تلك الجهود البديعة التي اضطلع بها علماء الحملة الفرنسية لدراسة مصر وحضارتها، وتلك النتائج العلمية الباهرة التي وفقوا إليها، ودونوها فيما بعد في كتاب (وصف مصر) أعظم وأقوى موسوعة ظهرت عن مصر، في العصر الحديث
ولما عاد نابوليون من مصر إلى فرنسا حينما تعقدت الحوادث وتجهمت، (أكتوبر سنة 1799)، لم يكن لديه أمل في استبقاء مصر طويلا، ولكنه أراد أن يغادرها جنده في افضل الظروف والشروط؛ وهذا ما وقع بعد قليل، فقد انتهت الحوادث بجلاء الفرنسيين عن مصر في أواخر سنة 1801؛ ولكن نابوليون لم يقطع صلته بمصر، ولم ينقطع اهتمامه بشئونها؛ فقد عني بعد ذلك بتأليف لجنة من العلماء الذين رافقوا الحملة إلى مصر مثل برتوليه ومونج وفورييه، لتضع موسوعة شاملة عن مصر، وظهر أول مجلد من هذه الموسوعة، أو كتاب وصف مصر الذي أشرنا إليه في سنة 1809، واستمر صدورها بعد
ذلك أجزاء متعاقبة إلى سنة 1826، وكانت من أعظم ثمار الحملة العلمية
ولبث نابوليون وثيق الصلة بمصر وذكرياتها عن طريق آخر؛ ذلك هو حرسه الخاص الذي ألفه من بعض المماليك والأقباط والترك والسود الذين اصطحبهم معه من مصر؛ وكانت هذه الفرقة المختارة التي يرتدي أفرادها الثياب الشرقية الزاهية ويركبون الخيول المطهمة تصحب القنصل الأول، ثم الامبراطور، في غدواته وروحاته، إلى التويلري ومالميزون؛ وكان منظرها الفخم المروع معاً، يثير طلعة الباريسيين ودهشتهم، فيحتشدوا لرؤية أولئك الفرسان الشرقيين، أولي الشوارب المفتولة، والعمائم الملونة، والثياب الفضفاضة، كلما مر ركب نابوليون
وكان عميد هذه الكوكبة المختارة جندي مملوك يدعى رستم. ولرستم مع نابوليون قصة طريفة نرويها في هذا الفصل. كان رستم أحد أولئك المماليك الذين يصعب تعقب أصولهم أو حياتهم الأولى، ألقى به القدر إلى القاهرة بعد أن بيع مراراً ولقي خطوبا، وقدم إلى بونابارت في القاهرة حينما طلب أن يؤتى له ببعض الإدلاء الوطنيين. وكان رستم يومئذ فتى في عنفوانه وسيم المحيا، فراق نابوليون منظره، وسأله حسبما يقرر لنا رستم بعد ذلك في مذكراته، هل يجيد الركوب والطعان، فأجاب رستم بالإيجاب. وسأله نابوليون عن اسمه، فأجاب أن اسمه الأخير يحيى، ولكن اسمه الحقيقي الذي سمي به في بلاد الكرج مسقط رأسه هو رستم؛ فامره نابوليون أن يتسمى بهذا الاسم، ثم وهبه سيفاً دمشقياً رصعت قبضته ببعض الجواهر، ومسدسين زينا بالذهب، وألحقه بخدمته
ولم تمض أيام قلائل حتى اضطر نابوليون إلى مغادرة مصر مسرعاً إلى فرنسا، فلم ينسى أن يصطحب معه مملوكه الجديد رستم على ظهر السفينة (مويرون) التي أقلته إلى فرنسا مع بعض علماء الحملة من أصدقائه؛ وكان رستم يختص بخدمة سيده الجديد، ويقضي المساء على مقربة من الحلقة التي تتألف كل ليلة في مؤخرة (مويرون) من نابوليون والعالمين برتوليه ومونج يتحدثون في الشئون العامة أو يلعبون الورق؛ وكان نابوليون كثيراً ما يقول لمملوكه أنه سيجد في باريس كثيراً من المال والنساء الحسان، فيطرب رستم، وتضطرم مخيلته بالأحلام اللذيذة، ويتذكر ماضيه التعس الحافل بصنوف البؤس والمخاطرة، وما اسبغ الحظ عليه من رعاية ذلك السيد العظيم الذي سيقوده إلى مستقبل
حافل بصنوف السعادة والنعيم
ووصلت (مويرون) إلى المياه الفرنسية بعد رحلة خطرة دامت نحو خمسين يوماً؛ ولما وصل رستم في ركب سيده إلى باريس، رأى منظراً رائعاً لم يتصوره من قبل، وسحرته عظمة العاصمة الفرنسية، التي لم تكن القاهرة أعظم مدينة شاهدها في الشرق إلى جانبها شيئاً مذكوراً؛ ولم تمض أشهر حتى ظفر نابوليون بإلغاء الحكومة الإدارية المؤقتة (الديركتوار)، وصدر دستور القنصلية (ديسمبر سنة 1799)، وانتخب نابوليون قنصلاً أولا، وانتخب معه صديقاه كامباسير ولبرون كقنصلين ثان وثالث؛ وهنا جاء دور رستم في الظهور إلى جانب سيده في المواكب العظيمة، وكان نابوليون يتوق دائماً إلى أن يحيط نفسه بتلك المظاهر الشرقية الساحرة، فكان رستم يتقدم عربة القنصل الأول دائماً، وهو على ظهر فرس بديع، وقد ارتدى صديرية من القطيفة الزاهية فوق ثوب واسع، ووضع على رأسه عمامة بيضاء أنيقة؛ وكان منظره الشائق الساحر معاً اجمل ما في ركب القنصل حين يغدو وحين يروح
وجاء دور الإمبراطورية وتألق نجم رستم سراعا، وشهد الحفلة الدينية الكبرى التي توج فيها الإمبراطور بالرغم من معارضة رجال الخاصة، واعد له بهذه المناسبة ثوبان فاخران وضع رسمهما (إيسابي) مصور الإمبراطور، وظهر رستم في كنيسة (الانفاليد) وعليه صدرية من الكشمير الفاخر المطرز بالذهب وعمامة رائعة الحسن، وذاعت شهرته حتى اصبح من طرائف باريس التي يعني برؤيتها كل زائر للعاصمة، وطبعت صورته ووزعت بالألوف في جميع أنحاء فرنسا؛ وأغدق الإمبراطور على مملوكه العطاء والصلة ورتب له عدة رواتب حسنة حتى غدا من أهل اليسار والنعم؛ وكان الإمبراطور يثق به ثقة لأحد لها، فلم يكن من أقطاب حرسه الخارجي فقط، ولكنه كان حارسه الأمين في حياته الداخلية أيضاً؛ فكان ينام عند عتبة غرفة الإمبراطور في البهو الملاصق، وكان هو الذي يحمل العشاء إلى الإمبراطور والإمبراطورة حينما يكونان في الفراش؛ وكان ملحوظا بالرعاية من جميع أعضاء الأسرة الملكية والحاشية، حتى أن الملكة هورتنس ابنة الإمبراطورة جوزفين، وزوجة الجنرال مورات، عنيت بتصويره، وكانت تغنى له المقطوعات الساحرة حتى لا ينام أثناء التصوير
وتاقت نفس رستم إلى الزواج، وهام بحب آنسة تدعى دوفيل وهي ابنة أحد منادي الإمبراطور، وكانت رائعة الحسن في التاسعة عشرة من عمرها؛ ولما طلب رستم يدها قامت في سبيله بعض صعاب شكلية لأنه لم يكن كالفتاة كاثوليكي المذهب، ورفض الأسقف الموافقة على هذا الزواج فتدخل الإمبراطور وقضى على هذه الصعاب، وتم زواج رستم بالآنسة دوفيل في سنة 1806؛ ورزق رستم منها غلاما سمي (أشيل)، فطرب الإمبراطور لمولده وأغدق العطاء لمملوكه
وظل رستم متمتعاً برعاية الإمبراطور، يمرح في ظلال النعماء والنفوذ، حتى وقعت الكارثة، وهزم نابوليون في حرب التحرير واضطره الحلفاء الظافرون إلى التنازل عن العرش والسفر إلى جزيرة (إلبا)؛ وهنا سئل رستم كما سئل المخلصون من حاشية الإمبراطور، عما إذا كان يرغب في مرافقة الإمبراطور إلى المنفى، فتردد رستم في اللحاق به، وهرول إلى زوجه في باريس مغادراً ذلك القصر الذي أنفق فيه أعواما طوالا متمتعاً برعاية أعظم رجل في فرنسا، وفي أوربا بأسرها؛ ودلل بذلك على أثرته، ووضاعة نفسه؛ بيد أنه ندم على فعلته بعد، حينما رأى بداية العهد الجديد تميل إلى اضطهاد كل من كانت له صلة وثيقة بالعاهل المنفي؛ وكانت فرقة المماليك التي ينتمي إليها رستم قد انحلت مع مرور الزمن غادرها معظم رجالها ومات عدد منهم، وبقي رستم بعد ذلك ابرز أعضائها القدماء، ورأى رستم نفسه ينزل من علياء نفوذه بسرعة، ويجرد من سيفه وعمامته، وينظر إليه بعين الشك من الحكومة الجديدة. ألم يكن رسم اخلص حرس الإمبراطور وأقربهم إليه وأشدهم وطأة على أعدائه؟ وأحيط رستم برقابة صارمة، ونقل عيون الحكومة الجديدة عنه أغرب الأخبار، وقيل أنه يدبر مؤامرة لقلب الحكومة الملكية؛ والواقع أن رستم كان أبعد الناس عن هذه الريب، ولم يكن يود إلا أن يعيش في سلام بعيداً عن ذلك الماضي الذي يريبه ويزعجه
ولما عاد الإمبراطور من منفاه في إلبا توجس رستم شرا، وهرول إلى سيده القديم يلتمس الصفح والإعادة؛ فأبى الإمبراطور رؤيته، ورده باحتقار. وكان رستم يقيم عندئذ منزويا في بعض ضواحي باريس. فلم يكن أحب إلى نفسه من أن يستأنف حياة الانزواء والهدوء؛ ولم يمض غير قليل حتى وقعت الكارثة الحاسمة وهزم نابليون في واترلو وحمل إلى منفاه في
سنت هيلانه؛ ولم يهتز رستم لهذه الحوادث، وقنع من الحياة بالهدوء والسكينة؛ وعاد إلى سكنى باريس بعد أن نسيته الحكومة الجديدة، ولم تحاول إقلاق راحته، بيد أنه لم يكن يتمتع بعد برخائه القديم بعد أن أنقصت رواتبه، وكثر عياله، فنراه في سنة 1824 يسافر إلى لندن إجابة لدعوة أحد أصحاب المسارح، وهنالك يعرض نفسه في ثيابه الشرقية القديمة ويكسب بذلك بعض المال
وقضى رستم في لندن نحو عام، ثم عاد إلى باريس، وانتقل بأسرته إلى بلدة دوردان على مقربة من باريس ليعيش فيها؛ وهنالك لم تفارقه صفة (مملوك الإمبراطور)؛ وكانت هذه الصفة تثير من حوله الفضول وتسبغ عليه مهابة خاصة؛ بيد أنه لم يكن يتمتع يومئذ بشيء من مظاهره الشرقية القديمة؛ وكان يحب الصيد، ويغشى مجتمعات المدينة، ويتصل بكثير من أهلها بأواصر الصداقة المتينة؛ وكان كثيراً ما يقص ذكرياته عن الإمبراطور ويفاخر بما لديه من آثار الإمبراطور مما أفاضه عليه من أيام عزه؛ وكان بعض الساخطين عليه يرمونه بالخيانة، ويقولون عنه أنه خائن لبلاده خائن لولي نعمته، بيد أن رستم لم يكن ليعبأ بهذه المطاعن، وكان يحتفظ دائماً بسكينته وهدوء نفسه
وتوفي رستم سنة 1845، في الرابعة والستون من عمره ودفن بمقبرة دوردان وكتب على قبره ما يأتي (هنا يثوي رستم رضا، مملوك الإمبراطور نابليون سابقاً؛ ومولده بتفليس من أعمال الكرج)؛ وكانت وفاته خاتمة لآخر الذكريات الحية في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر
محمد عبد الله عنان
وحي الثلاثين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
على مقطع من مقاطع الزمن الذي يبنيني، أقف مستدبراً مواكب الحياة الحاضرة، لأستعرض هذه العقود الثلاثة التي كونت جسمي ذرة ذرة، وملأت رئتي شهقة وأفرغتها زفرة، وسلسلت عقلي فكرة فكرة!
وأريد في وقفتي هذه أن يكون في روحي غيبوبة وامتداد، وفي ذاكرتي صحو واجتماع، وفي قلبي حنين واهتياج، وفي عقلي سكون وإدراك، وفي جسمي صحة ووقود، وفي قلمي حساسية وبيان. . . فإن الصور التي ارصدها مخبوءة في ركام من أيامي البالية التي لبستها أمام الشمس والقمر فطبعاها بالخاتمين (الأبيض والأسود) ثم نضوتها ومعها بسمة أو دمعة أو فكرة أو ذكرى، أو قطعة من قلبي أو هزة من جسمي في غرارة الطفولة أو ضحوة الصبا أو فوعة الشباب الذي يوشك أن يمضي به ما أشاب الصغير أفنى الكبير من كرّ الغداة ومرّ العشى. .!
أمسى! يا وادي الظلال الساكنة من حياتنا العاملة الناصبة. أنا الآن في حركة أدبار وارتداد إليك، في ساعة ليس لي فيها حاضر راهن يشغلني، ولا أمل غائب يغازلني، واقف فيك على أطلالي! ابحث فيها عن صور عيني ولها فيك ظلال، وأنغام أذني، ومنها بك أصداء. . بل أني لأبحث عن سري وميراثي من عهد آدم حادراً في الأصلاب متنقلا في الأحقاب في عالم غيبي ومشهدي!
فمن لي بما يروي لي ما بين مبتداي ويومي هذا. .؟ إنها شقة بعيدة احسب أنها تعي تهاويل الخيال المسعد!
وقد قالت (الفسلجة): إني صورة تتجدد فيها خلايا جسمي كل سبع سنين. . . فلست أنا الجسم الأول ولا الثاني ولا الثالث ولا الرابع. . . وليس في بقية منها، فإذا بحثت عن أجزائي التي ماتت وأبعاضي التي غيبت، فلن أجدها إلا في ذلك الجسم العظيم الذي أنا خلية منه: الأرض. ويالها من تيهٍ لمن يبحث!
إذاً يا روحي، أنت (المكان) الذي يمكن أن ابحث فيه عني: سراً كامناً في عالم الغيب، ثم نواةً فعقدةً فَلبّاً فثمرةً مدركة. فافسحي لي من شأنك العظيم واحرقي بخوراً يعد لي جواً
أعيش فيه ساعة الذكرى!
ودخلت قدس الروح المعطر، ومعي ذلك (الصندوق العجيب) جمجمتي! أتحسس الشعاع الأول الهادي إلى مفتاح حياتي، فلم أرَ ولكني سمعت نجوى تقول:
(حينما طلبت شعلة الحياة حطباً جديداً قبل ثلاثين سنة، دفع بك وأنت (لاشيء) في غيبوبة الأزل على حبل نسل تناهي إليك من أبيك عن أبيه عن. . . آدم في صف كبير مع لداتك الذين أتى دورهم في الاحتراق. . . فانعقدت البذرة وتخلقت وركبت الذات ووضعت الذرة الصغيرة التي فيها كل ميراث آدم، واتصلت بها الشرارة الخفيفة المجهولة فدار قلبك الصغير فأضاف بنبضه صوتاً إلى ضوضاء الحياة. . وبحركته دفعاً إلى موكبها. . وبحرارته جمرةً في شعلتها. . . فاختلج آدم فَمَن والاه على السلسلة التي بينك وبينه، فرحاً بالامتداد والخلود. . واستبقت الملائكة والشياطين إلى احتلال الأمكنة فيك استعداداً للمعركة المقبلة. . . وعششت في قلبك الغربان والخفافيش السود، والحمامات البيض شأنها على كل غصن. . . وطارت عليك الذرات الجامدة التائهة لتكون لبناتٍ حيةً في البناء الجديد.
ثم فصلت عن المستودع التي التقى فيه أزلك وأبدك، وخرجت في موكب الربيع في أبريل سنة 1907 مع أوراقه وأزهاره وأغصانه وأفراخه. . كتلةً لحمية عمياء بكماء صماء. . فأسرع جو الأرض إلى رئتيك المختلجتين في ارتباك وسرعة لتلحقا حركة الحياة بالإحياء، وفتحت الأضواء أجفانك، وكل شعاع يريد أن يكون بشير النور ورسالة الشمس أم الحياة إلى (عدستك) الجديدة.
وكان أول صوت اقتحم أذنيك من ضجة الحياة، صوت الآلام. . آلام تكاليف الحياة وحمل أمانتها الفادحة التي عرضت (على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). . . صوت أمك. .
وبكيت من ازدحام هذه العوامل على جسمك الرقيق الغريب بينها فأذاقوا فاك لذته فسكت. . . وكان هذا أول درس عرفته من منطق أهل الأرض مع المزعجين.!
ثم عاشت هذه الكتلة طفيلية في حياة كحياة النبات، وفي فراغ كفراغ النائم ومضت الدنيا تدور كل يوم حول (صندوقها العجيب) فتدخل إليه على شعاع أو صوت أو طعم أو لمس لتثبت وجودها فيه أو لتخلق فيه خلقاً آخر على الأصح (والأكوان عداد العقول) كما يقول
الرافعي العظيم.
وتفاعلت أشياء الدنيا مع أشياء القلب فأخذ الشخص الكامِن يبدو ويمتد فكل ذرة تلد وكل معنى يتركب من هذه الأبجدية وظهرت بعض النسب بين الأشياء، واشرأبت الأشياء إلى براهين وجودها. .
فقلت لصوت النجوى: أكانت الدنيا عدما قبلي؟!
فأجاب: قالت بعض الفلسفات: الدنيا فكرة!
قلت: لا! بدون برهان. . .
قال الصوت: أنت وأخوك قد خرجتما من مستقر واحد بجسمين مختلفين قد تقمصتك روح وتقمصته أخرى. أفرأيت لو خالف بينك وبينه فكنت إياه وكان إياك؛ أفلا كان العالم غير ما هو الآن عندك وعنده وعند الناس؟
فتأملت ولم أعط الجواب للآن.!
ثم أنقطع الصوت وابتدأت أرى في الجمجمة خيوط ضوء على حواء وآدم في شخصي ألام والاب، واسمع منها أهازيج الجنة وأصوات ولدانها في أصوات لداتي وأترابي بملاعب الطفولة، وأرى قطعة من سماء القاهرة والشمس فيها والقمر، فوق المكان الذي تيقظت فيه من الغيبوبة والذهول: حارة الروم. . . سقاها الحيا، فوقفت أبحث عن الطفل الصغير وضعفه وجهله وبراءته وفراغه وثيابه وحلواه وحيوانه وصورته التي كان يتعجب منها كثيراً. . . فوجدتها أشياء لا تزال تضحك كما كانت. . . وأنا أبكي بعلمي وأنوء بقوتي، وانفجر بامتلائي وأجن بيقظتي. .
ففتحت لها قلبي فكادت تنكره وتختنق بما فيه.
وقلت يا حمراء هل رجعة!
…
قلت وهل يرجع ما فاتا!
ثم جاء العهد الذي رأيت فيه الدنيا في شخص المعلم لها عصا تلوح لي بها إلى الحق والواجب، والنفس والغير، وتشير بها إلى الأمام. . . إلى الغاية. . . إلى الرجولة، ثم تصلصل بالقيود حين يصلصل الجرس. . .
فصحوت لأعلام الطريق واستيقظت لصحبة ذلك الشخص الغامض المبهم الذي أبتدأ يضايقني بندائه، ويشغلني بأشيائه. . . أنا! فتمنيت وتخليت وتشبهت وجاء الأمل والعمل،
وأسلمني الزمان إلى عهد الشباب بنداءاته وهزاته، وأقبلت الدنيا بإعراسها واحتوائها ومباهجها ومفاتنها تتحبب وتغازل وتغنى للثمرة الناضجة. . واستيقظت الشياطين والملائكة للمعركة التي رسمت خططها واحتلت لها الأمكنة في قلب الجنين، وحامت الحمامات والفراشات البيض، والأغربة والخفافيش السود، فتغيرت نبضات القلب وسمعت منه أصوات لا عهد لها ولا تاريخ. . وقال الجسد: هاأنذا. . . وقالت النفس: وها أنذي. . . وقالت الحياة: دونكما. . .
ووقفت أنا. . . أرى المعركة وأتفرس في القتلى والمصروعين بدهشة وأسف ولذة وعجب إلى يومي هذا، وهكذا يدور الصراع والقبر الموعد. . .
وارتسمت البشرية بعلومها وآدابها كلماتٍ على ذلك العرض الأبيض الذي في رأسي: فألف وياء، وواحد وألف، وأرض وبحر وسماء، ومادة وقوة، ومثلث ودائرة، وزنوج أفريقية وبيض أوروبا، وبوذا وفينوس، والجمل وزبلن، والسلحفاة والطيارة والراديو، والقبر والقصر، والحق والواجب. . وقيل وقالوا. . . ولست أدري بعد ذلك: أهو قبض على ريح.؟. أو إمساك على ماء؟! أو سراب على سبسب؟!
أيها الدهر الذي صحبته ولبسته ذرة صغيرة إلى أن صرت كوناً فيه قلب وعقل! هاأنذا كواقف في صحراء تلتقي بها على مدى بصره آفاق السماء، إذا تلفت وراءه وجد إبهاماً وغموضاً وإذا تطلع أمامه وجد إبهاماً وغموضاً. . .
وددت لو أني كنت الرجل الأول لأشهد نشأة الإنسان والرجل الأخير لأشهد فناء الإنسان. . . الإنسان الواحد الهائل الذي يتمثل في هذه الأشخاص التي تمتلئ بها الأرض وتفرغ منها كل لحظة. . . الإنسان الذي وقع عليه كل الضوء وكل الظلام. . . وددت هذا لأعرف! ولكن ليس لي متقدم عن زماني هذا ولا متأخر.
يا لبنات الجسد. . . يا قلبي الذي لم أره ولن أراه. . يا أعضائي وأجزائي التي تجمعت لأكون. . .
يا ناصيتي وقدمي، وأهابي وفؤادي وظاهري وباطني. . .!
أما سئمتن الألفة تحت هذا الرباط الضاغط، فترون الفكاك والانطلاق؟
إني اشعر أن حملتكن إصراً، وأرهقتكن من أمري عسراً، وآذيتكن من جوار روحي: بيت
النار!
إني يقظ للصحبة وفيٌّ للرفقة في هذه الرحلة، لا أبخل عليكن بالنظرة الراثية!
أيتها الأيام المقبلة التي فيها الأعباء الكبيرة والصحو من الرؤى والأحلام، وبلوغ القمة ثم الانحدار إلى الحفرة التي فيها الدوام والقرار. .
أعيذ حرارة قلبي من يدك الباردة. .، وما وراء قلبي فهو لسطوة قوانينك، وصرامة نواميسك. فهذا شعري فاصبغيه بلون الكفن. . . وجلدي فسجلي فعلك بتجعيده، وقدماي فافتلي قيدهما، وأوصالي فافصمي عراها، وإن شئت فاغلقي عيني وأحوجي سمعي إلى ترجمان، واجعليني كجذع هصرت غصبونه وذهبت حلاه وفنونه. .
أما قلبي فدعيه لي بأوتاره وأشواقه، صوتاً أخيراً وصاحباً محدثاً أعيش معه يوم يدبر الناس وتزيغ الحواس؛ حتى تطلبني الأرض جسداً تأكله!
عبد المنعم خلاف
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
لما جاءني نعي الرافعي بعد ظهر الاثنين 14 مايو سنة 1937 غشيتني غشية من الهم والألم سلبتني الفكر والإرادة وضبط النفس فلم أكد أصدق فيما بيني وبين نفسي أن (صادق الرافعي) الذي تنعاه لي (البلاغ) الساعة هو الرجل الذي أعرف ويعرف الناس؛ ودار رأسي دورة جمعت لي الماضي كله بزمانه ومكانه في لحظة فكر، وتتابعت الصور أمام عيني تنقل إليّ خيال هذا الماضي بألوانه وإشكاله ومجالسه وسمره وأحاديثه، من أول يوم لقيت فيه الرافعي من خريف سنة 1932 إلى آخر يوم جلست إليه في قهوة (بول نور) منذ شهرين فحدثته وحدثني ثم انصرفت وانصرف وفي نفسي منه شيء وفي نفسه مني. . .
وعدت إلى النعي أقرأه وفي النفس حسرة والتياع، فما زادتني قرأته شياً من العلم إلا أن مصطفى صادق الرافعي قد مات!
حينئذ أحسست كأن شيئاً ينصب انصباباً في نفسي، وأن صوتاً من الغيب يتناولني من جهاتي الأربعة يهتف بي، وأن حياة من وراء الحياة تكتنفني الساعة لتملي عليّ شيئاً أو تتحدث إليّ بشيء. ونفذت إلى أعماق السر حين شعرت كأن عينين تطلان علي من وراء هذا العالم المنظور لتأمراني أمرا، هام عينا الرجل الذي أحببته حباً فوق الحب، وأخلصت له وأخلص لي إخلاصاً ليس منه إخلاص الناس، ثم نزع الشيطان بيني وبينه ففارقته وفي نفسي إليه نزوع وفي نفسه إليّ، ثم لم القه من بعد إلا مرسوماً في ورقة مجللة بالسواد. . . وانحدرت من عيني دمعتان!
وانطلق بي الترام إلى غير وجهة معروفة، والدنيا في نفسي غير الدنيا، والناس من حولي غير الناس؛ فلما صار بي الترام في ميدان (العتبة) رأيت جماعة من الشبان والصبيان يسيرون في موكبهم وموسيقاهم هاتفين بنشيد الرافعي:
حماة الحمى يا حماة الحمى
…
هلموا هلموا لمجد الزمن
لقد صرخت في العروق الدما
…
نموت نموت ويحيا الوطن
فكأنما كانت أصوات هؤلاء الشبان، في تلك الساعة، هاتفة بهذا النشيد، لتنبهني إلى أن الرافعي الذي وقع في نفسي منذ قليل أنه مات، هو حي لم يمت؛ وأن هذه النقلة من حياة إلى حياة، خليقة بأن تكون لمثل الرافعي هي الميلاد الثاني. وثابت إلى نفسي فاستشعرت برد الراحة وهدوء الإيمان
وانتهيت إلى (نادي دار العلوم) فما جلست قليلا حتى أقبل صديقي الأستاذ محمود شاكر وفي عينيه دموع وفي شفتيه اختلاج فمد إليّ يداً يصافحني وهو يقول: (الرافعي مات. . .) وأطرق وأطرقت، وانسرب الفكر في مساربه، فما عرفت إلا منذ الساعة أي واجب عليّ لهذا الراحل العزيز.
لقد عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجباً، ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأى؛ وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه الأمة العربية المسلمة، فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها ومقومات قوميتها. على حين كانت تعيش هي في ضلال التقليد وأوهام التجديد. ورضى هو مقامه منها غريباً معتزلا عن الناس لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من كتب وينشر في الصحف، أو من خلال ما يكتب عنه خصومه الاكثرون، وهو ماض على سنته، سائر على نهجه، لا يبالي أن يكون منزله بين الناس في موضع الرضا أو موضع السخط والغضب، ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال؛ وما كان رحمه الله يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية، لا ينال منهما نائل إلا انبرى له، ولا يتقحم عليهما مقتحم إلا وقف في وجهه؛ كأن ذلك (فرض عين) عليه وهو على المسلمين (فرض كفاية)؛ وأحسبه قال لي مرة وقد كتب إليه صديق يلفته إلى مقال نشرته صحيفة من الصحف لكاتب من الكتاب تناول فيه آية من القرآن بسوء التأويل:(يا سعيد، من تراه يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟) وكان هذا من اعتداده بنفسه، ولكنه كان مذهبه وإليه غايته، وكأن القدرة التي هيأته وأنشأته بأسبابها لهذا الزمان قد فرضت عليه وحده سداد هذا الثغر؛
وكان إلى ذلك لا ينفك باحثاً مدققاً في بطون الكتب حيناً وفي أعماق نفسه المؤمنة حيناً آخر، ليستجلي غامضة من غوامض هذا الدين أو يكشف عن سر من أسراره فينشر منه على الناس؛ وأحسبه بذلك قد أجدَّ على الإسلام معاني لم تكن تخطر على قلب واحد من علماء السلف، وأراه بذلك كان يمثل (تطور الفكرة الإسلامية) في هذا العصر، فإذا كانت الأمة العربية المسلمة قد فقدت الرافعي فما فقدت فيه الكاتب، ولا الشاعر ولا الأديب؛ ولكنها فقدت الرجل الذي كان ولن يكون لها مثله في الدفاع عن دينها ولغتها، وفي النظر إلى أعماق هذا الدين يزاوج بينه وبين حقائق العلم وحقائق النفس المستجدة في هذا العصر، ولقد يكون في العربية كتاب وشعراء وأدباء لهم الصيت النابه، والذكر الرائع، والصوت المسموع؛ ولكن أين منهم الرجل الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي: لا يترخص في دينه، ولا يتهاون في لغته، ولا يتسامح لقائل أن يقول في هذا الدين أو في هذه اللغة حتى يرده من هدف إلى هدف أو يرض عليه الصمت. . .
وبعد فماذا يعرف الناس عن الرافعي وماذا أعرف؟ هل يعرف الناس إلا ديوان الرافعي، وكتب الرافعي، ومقالات الرافعي؟ ولكن الرفعي الذي يجب أن يعرفه أدباء العربية ليس هناك. فماذا يكتب عنه الكاتبون غداً إذا أرادوا أن يكتبوا هذا الفصل الذي تم تأليفه في تاريخ العربية، وماذا يقول الراثون عنه في حفلة التأبين؟
لقد عشت مع الرافعي عمراً من عمري في كتبه ومقالاته فما عرفته العرفان الحق؛ وعشت معه بعد ذلك في مجلسه وفي خاصته، وخلطته بنفسي وخلطني بنفسه؛ فما أبعد الفرق بين الصورتين اللتين كانتا له في نفسي من قبل ومن بعد؛ أفتراني بهذا أستطيع أن أقول عن الرافعي شيئاً أؤدي به بعض ما على من الدين للعربية وللفقيد العزيز؟ مالي أتهيب هذا المجال فلا أقدم حتى أحجم؟ إنني لأحس عبئاً ثقيلاً على عاتقي، لا طاقة لي بأن أحمله، وليس على أحد غيري أن يقوم به. ولقد طلب إليّ الأستاذ الزيات منذ عامين أن اكتب شيئاً عن الرافعي يعرفه إلى قراء (الرسالة) فما احسبني لقيت في ذلك من الجهد إلا بمقدار ما استحضرت الفكر وتناولت القلم؛ على أن الرافعي كان يومئذ حياً، وكنت أحذر أن يغضب أو ينالني منه عتب؛ فكيف بي اليوم والرافعي بعيد في العالم الثاني، والكلمة اليوم للتاريخ، ووسائل العلم مني قريبة؛ ورسائل الأستاذ الزيات تتري تستنجزني الوعد وتقتضيني الحق
الذي عليّ للأدب والعربية، وصوت الفقيد العزيز يهتف بي حيثما توجهت:(إن لي عليك حقاً وإن للأدب عليك. . .!)
ولكني ما أكاد أمسك القلم حتى يكتنفني الشعور بالعجز فأكاد أوقن أنه لا أحد يستطيع أن يكتب عن الرافعي إلا الرافعي نفسه، ولكن الرافعي قد مات. . .
أيها الحبيب العزيز الذي ما أزال من كثرة ذكراه كأنني منه على ميعاد معذرة إليك!
وهاأنذا أحاول أن اكتب عن الرافعي؛ فلا ينتظر أحد مني أن أتكلم عن الرافعي الشاعر، أو الرافعي الكاتب، أو الرافعي الأديب، أو الرافعي الفيلسوف؛ فما يتسع لي الوقت، وما يرضيني عن نفسي ولا يقنعني بالوفاء أن أكتب عن هذه الحيوات الكثيرة التي اجتمعت في حياة إنسان؛ فلينهض لذاك غيري؛ ولكني سأكتب عن الرافعي الرجل الذي عاشرته زمناً، ونعمت بصحبته، وخلطته بنفسي، وتحدث قلبه إلى قلبي، وتكاشفت روحه وروحي؛ سأكتب عن الرافعي الرجل الذي عاش على هذه الأرض سبعاً وخمسين سنة ثم طواه الموت؛ سأحول أن أجمع شتات حياة تفرقت أخباراً وأقاصيص ونوادر على لسان معاصريه أو غابت سراً في صدور أهله وخاصته؛ أما الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الفيلسوف فسيجد الباحثون مما أقول عنه مادة لما يقولون فيه، ولعليّ أن أوفق في البلوغ إلى ما قصدت. وإنني لأتهم نفسي من كثرة ما أحب الرافعي أن أتحيف الأدب لو بدا لي أن أقول: هذا رأي. ولكني سأقول: هذا ما رأيت. فمن كانت له عين بصيرة تنفذ إلى ما وراء المرئيات وتربط الأسباب بالمسببات فسيبلغ جهده ويرى رأيه
ولقد كان الرافعي منذ شهرين إنسانا حياً بعواطفه وأمياله وحبه وبغضه وشهواته النفسية، ولكنه اليوم فصل من تاريخ العربية بألوانه وفنونه؛ فلا عليّ اليوم أن قلت كل ما أعرف عنه خيراً وشراً؛ فإنما أكتب للتاريخ، والتاريخ لا يحابي ولا يحتسب، وستمر بي في تاريخ الرافعي حوادث وأسماء سأصفها وأعرِّف عنها بقدر ما، كما سمعتها أو عرفت عنها؛ فأيُّما كاتبٍ أو أديب أو رجل أو امرأة أو ذي شأن أحس فيما أكتب شيئاً ناله بما يوجب المدح أو المذمة فلا يشكر ولا يتعتب؛ فإن التاريخ بعد أن يقع لا يمكن محوه بممحاة تلميذ. . . وما فات من تاريخ الإنسان فهو جزء أنفصل من حياة صاحبه، وإنما له ما هو آت، وما أحب أن يقول لي أحد صدقت أو كذبت؛ فما هذا الذي أكتب رأيا أراه، ولكنه رؤية رأيتها أو
رواية رويتها فأثبتها مسندة إلى راويها وعليه تبعتها
إن التاريخ الأدبي للرافعي يبدأ من سنة 1900 وتاريخ ميلاده قبل ذلك بعشرين سنة؛ وأنا ما بدأت صلتي بالرافعي إلا سنة 1932 فما كان من هذا التاريخ فسأرويه من غيب صدري أو مذكراتي وعليّ تبعته، وما كان من قبل فقد سمعت به من أهله وأصدقائه الأدنين وخلطائه منذ صباه، أو كان مما قصه عليّ أو عرفت عنه من أوراقه الخاصة ورسائله إلى صحبه ورسائل صحبه إليه. فهذه مصادر علمي أقدمها بين يدي هذا الحديث ليعرف قارئه أين مكانه من الصدق ومنزلته من الحق. على أن للذاكرة خئون، وما يمر على فكر الإنسان من مختلف الحوادث وصروف الأيام ينسيه أو يلهيه أو يخلط في معلوماته شيئاً بشيء؛ فمن كان يعرف شيئاً من تاريخ الرافعي ورأى أني تصرفت فيه بنقص أو زيادة أو تغيير أو تبديل فليراجعني الرأي وليرشدني إلى الصواب، على أن أكون عنده بمنزلة من حسن الظن وأن يكون عند نفسه؛ وألا فليرحني وليرح نفسه فما بي حاجة إليه ولا به حاجة. ورجائي هذا إلى أصدقاء الرافعي وخاصته وخلطائه؛ أما الذين يروون عن السماع فليعلموا أن الحديث المتداول يزيد وينقص، فما أرويه هو أقرب إلى الحق مما يكونون سمعوه
الرافعي في يومه الأخير
في الساعة الثانية بعد الظهر الأحد 13 مايو سنة 1937 نهض الرافعي من مكتبه بمحكمة طنطا الكلية الأهلية منطلقاً إلى داره في رفقة صديقه الأديب أمين حافظ شرف، وتحت إبطه عديد من الكتب والصحف والمجلات، تعود ألا يسير إلا معه مثلها، وفي يمناه عصاه يهزها أمام ووراء؛ وما افترقا حتى تواعدا على اللقاء مساءً في مكان ما، ليذهبا معاً إلى (متنزه البلدية) فيشاهدا فرقة راقصة هبطت إلى المدينة منذ قريب، وتغدى الرافعي وصلى الظهر ونام، ثم نهض في الساعة الخامسة فصلى العصر وجلس يداعب أولاده - وجلوسه مع أولاده يداعبهم ويمزح معهم ويتبسط لهم جزء من عمله اليومي - ثم ذهب إلى عيادة الدكتور محمد الرافعي حيث لقي هناك أخاه الدكتور نبوي وصهره الأستاذ مغازي البرقوقي، فجلس الرافعي يمزح ويضحك ويتندر أكثر مما عرف عنه من المزاح والضحك والتندر في يوم من الأيام؛ ثم صلى المغرب والعشاء في العيادة، ودعا أخاه ليصحبه إلى
مأتم جار من العامة ليعزيا أهله؛ والمعروف عن الرافعي أنه كان يكره حضور المأتم وتقديم التعازي كراهة ظاهرة؛ وقلما كنت تشاهده في مأتم إلا في النادر، حتى أنه لما توفيت زوج ابنه الأستاذ سامي الرافعي لم يجلس في المأتم إلا لحظات، ثم أنفرد في خلوته يستوحي الحادثة مقاله المعروف:(عروس تزف إلى قبرها!) وجاء المعزون يلتمسون الأستاذ الرافعي فلم يجدوا إلا ولده وصهره. أفكان الرافعي بحضور هذا المأتم في يومه الأخير يريد أن يصل نسباً أو يعقد آصرة بالعالم الثاني؟ أو كان ميعاداً إلى لقاء قريب. . .!
ثم ذهب الرافعي بعد التعزية إلى موعد صديقه ماشياً، وقطعا الطريق إلى المتنزه على الاقدام؛ فتفرجا، وشاهدا ما شاهدا في الحفلة الراقصة، وأخذ الرافعي ما اخذ من وحي الراقصات لفنه ومادته الأدبية، واخذ صديقه ما اخذ؛ أفكان بهذه الحفلة يريد أن يصل ما أنقطع من قصة (الجمال البائس) و (القلب المسكين) و (في اللهب ولا تحترق). . .؟
وفي منتصف الساعة الثانية عشرة كان الرافعي في طريقه إلى بيته بعد ما ودع صديقه في منتصف الطريق؛ فلما بلغ الدار خلع ثيابه، وتناول عشاء خفيفاً من الخبز والبطارخ، والبطارخ طعام الرافعي الذي يحبه ويؤثره على كل طعام في المساء، لأن له عملاً أدبياً معه. . .!
واستيقظ مع الفجر على عادته كل يوم، فتوضأ وصلى، وجلس في مصلاه يدعو الله ويتلو قران الفجر. وأحس بعد لحظة حراقا في معدته فتناول دواءه وعاد إلى مصلاه، وصحا ولده الدكتور فشكا إليه ما يجد في معدته، وما كان إلا شيئاً مما يعتاده ويعتاد الناس كثيراً من حموضة في المعدة، فأعطاه الدكتور شيئاً من دواء وأشار عليه أن ينام، ولبس الدكتور ثيابه، ومضى ليدرك القطار الأول إلى القاهرة، ومضت ساعة؛ ثم نهض الرافعي من فراشه لا يحس ألماً ولا يشكو هما وما به علة، فأخذ طريقه إلى الحمام؛ فلما كان في البهو سمع أهل بيته سقطة عنيفة أحدثت صوتاً شديداً؛ فهبوا مذعورين ليجدوا عميد الدار جسداً بلا روح.
قال الدكتور محمد: (ولما وجدت البرقية تنتظرني في محطة القاهرة وليس فيها سبب ما يدعونني إليه، تحيرت حيرة شديدة؛ بلى أيقنت أن شيئاً قد حدث، وأن كارثة وقعت؛ ولكن لم يخطر في بالي أنه أبي. لقد تركته منذ ساعتين سليما معافى قوي القلب أقوى ما يكون
قلب رجل في سنه. . . كل المفاجآت المروعة قد خطرت في بالي إلا هذا الخاطر، ولكن. . . ولكن الذي مات كان أبي. . .!)
يا صديقي، لك العزاء ولنا؛ أحسبت أن الرافعي سيموت في فراشه وهو قد نذر أن يموت في الجهاد وفي يده الراية ينافح بها الشرك ويدعو إلى الله ويواصل حملة التطهير. . .؟
طبت نفسا يا مصطفى، ولكم كنت تخشى الهرم والمرض والزمانة ولزوم الفراش وثقل الأيام التي تعد من الحياة وما هي من الحياة، فأي كرامة نلت؟ وأي مجاز جزت؟ وهل رأيت الطريق بين الحياتين إلا ما كنت تريد؟ وهل كانت إلا خفقة نفس نقلتك من ملأ إلى ملأ أرحب وأوسع في كنف الخلد وفي ظلال الجنة يرحمك الله يا صديقي ويرحمنا!
(لها بقية)
(طنطا)
محمد سعيد العريان
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 13 -
البوذية
لما كانت البوذية ثانية الديانتين الجوهريتين في بلاد الهند، فقد كان من الطبيعي - وقد بدأنا بالبراهمة - أن نثني بها محاولين إيضاح غوامضها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولكن ينبغي لنا قبل الدخول في تفاصيل هذا المذهب أن نلم بشيء مما حواه لنا التاريخ الغامض عن حياة المنشئ العظيم لهذه الديانة الخطيرة التي لعبت في تاريخ الإنسانية دوراً من أهم الأدوار. وإليك هذا الموجز المضطرب من حياة هذا الزعيم الديني الكبير
ولد (جوتا ما سيرهارتها) في (كابيلا فاستو) على حدود (نيبال) حوالي سنة 560 قبل المسيح من أسرة نبيلة، إذ كان والده رئيس قبيلة (ساكيا). ولما شب زهد في نعمة والده وأخذ هذا الزهد يزداد شيئاً ًفشيئا حتى إذا بلغ من نفسه منتهاه ألقى بالحلل الفاخرة جانباً واستبدلها بثياب خشنة مرقعة ثم هجر منزل أسرته إلى الغابات والأحراش لا يلوي على شيء من مظاهر النعمة التي كانت تحدق به إحداق السوار بالمعصم، لأنه آمن بأن مصدر جميع هذه الآلام التي تكتظ بها الحياة البشرية إنما هو الهوى المنبعث من الشهوات الجسمانية، وأن المخلص الوحيد من هذا السجن المطبق إنما هو في التلاشي المادي، وهذا التلاشي لا يتحقق إلا بالزهادة والتخلي عن جميع ملاذ الحياة وشهواتها. وقد أيقن كذلك بأن اللذائذ المادية ستار من الظلام يحجب عن النفس كل معرفة حقة، فالوسيلة الوحيدة إذاً، للتخلص من الألم ولتحقيق المعرفة هي الزهادة في المادة من جميع نواحيها.
لم تكد هذه العقيدة تستولي على نفسه حتى بدأ في تحقيقها، فانسلخ عن كل مظاهر الترف وأنسحب عن المدينة إلى إحدى الغابات الموحشة، فآوى فيها إلى شجرة كبيرة اتخذ ظلالها الوارفة مقامه، ثم أخذ يحاسب نفسه على ما قدمه من خير وشر حيناً، ويتأمل في أسرار
الكون وخفايا الوجود حيناً آخر، واستمر على ذلك زمناً طويلا لا يزاول من أساليب الحياة إلا هذا الأسلوب المماثل الذي لا فرق بين أمسه ويومه وغده. . . وأخيراً شعر ذات ليلة وهو سابح في بحار الفكر والتأمل أن المعرفة قد انقذفت إلى قلبه دفعة واحدة، وأن أداء واجبه منذ اليوم لم يعد يتحقق بالنسك والتأمل فحسب كما كان قبل ليلة المعرفة، وإنما اصبح يتناول إلى جانب ذلك شيئاً آخر، وهو التبشير بمذهبه في كل مكان، ومحاولة غرسه في كل قلب، فهب لساعته يصدع بديانته الجديدة جهراً وفي غير مبالاة، وسرعان ما تجمع حوله عدد من الشباب والشيوخ يتشربون تعاليمه تشرب الأرض اليابسة للمياه، ثم جعل عدد هؤلاء التلاميذ يزيد شيئاً فشيئاً وأخذت هذه الديانة تعم ويتسع نظامها حتى بلغ عدد معتنقيها نحو أربعمائة وسبعين مليونا من الأنفس في الشرق الأقصى
كان بدء بوذا في الصدع برسالته على رأس العام السادس والثلاثين من عمره، فظل جهاده في نشرها زهاء أربع وأربعين سنة لم ينضب أثناءها لنقاشه نبع، ولم يخفت لتبشيره بدينه صوت، ولكن لم يثبت عنه أثناء هذا الزمن الطويل الذي قضاه في نشر رسالته أنه غضب مرة واحدة مع مناقشه، بل كانت الرحمة والعطف يفيضان من أساليبه في مختلف الظروف ومتباين الأحوال لا فرق بين أن يكون مناقشه من تلاميذه المحبين أو من خصومه الحاقدين.
وأخيراً توفى هذا الحكيم حوالي سنة 480 قبل المسيح عن ثمانين عاما قضاها بين الزهد والتقشف والدعوة لديانته الجديدة، وكان موته بين جمع من تلاميذه الأصفياء - مثال البساطة البعيدة عن جميع مظاهر الجلال التي تحوط عادة آخر ساعات عظماء الرجال
شخصية بوذا بين الشك واليقين
سأل الملك (ميلاندا) أحد ملوك الهند الأقدمين الحكيم (ناجازينا) وهو أحد أتباع البوذية قائلا: (أيها الحكيم المحترم هل رأيت بوذا؟) فأجاب الحكيم: (كلا يا صاحب الجلالة). س: (وهل أساتذتك رأوه؟). ج - (ولا أساتذتي يا صاحب الجلالة) قال الملك: (إذاً، يا ناجازينا، فليس هناك بوذا ما دام لم يقم على وجوده برهان قوي). فلما سمع الحكيم (ناجازينا) هذا الاعتراض الذي وجهه الملك إلى إلهه، وكان حقا لا يملك على وجوده برهانا مباشرا، شرع يدلل عليه بآثاره الكونية فقال: (إذا غاب بوذا عن الأنظار، فهنالك آثاره التي أنشأها،
ومصنوعاته التي خلقها فهي أقوى الأدلة على وجوده، هنالك هذا العالم البديع الذي خلقه وهناك هذا العدد العظيم الذي أرسى سفنه بحكمته وقدرته على شاطئ النجاة بعد أن أنقذها من خضم الألم. وإذا كان من يرى مدينة منسقة بديعة التكوين والتنظيم لا يستطيع إلا أن يعلن إعجابه بمنشئها وأن يرفع الصوت قائلا: ما أحكم هذا المهندس الماهر الذي شيد هذه المدينة وأتقن تنظيمها! فالأمر يجب أن يكون بالنسبة إلى مدينة الكون العام التي أنشأها بوذا واحكم تنسيقها.
وفي الحق أن نظرة واحدة إلى ما عليه الكون من نظام وانسجام تكفي لترسيخ الإيمان اليقيني بوجود بوذا،. فلم يكد الملك يسمع من الحكيم هذا البرهان حتى أعلن أنه مقتنع بوجود بوذا اقتناعه بوجود جده الأعلى مؤسس أسرته المالكة الذي لم يره كذلك، وصرح بأن المشاهدة ليست كل شيء، وأعلن أن كثيراً مما لا تعترف به المشاهدة له وجود واقعي يقيني
ويعلق الأستاذ (أولترامار) في كتابه (تاريخ وحدة الوجود الهندية على هذا بقوله: (أما النقد الحديث، فلا يجد في هذا البرهان ما وجده ذلك الملك الطيب القلب من الرضى والاطمئنان فهو إذ يوافق على أن مؤسس البوذية وجد تاريخياً لا يستطيع أن يؤمن بأن هذا المؤسس كان في الواقع على النحو الذي صورته عليه الأسطورة الهندية، وفوق ذلك فتاريخ الديانات يعترف في صراحة أمام النقد الحديث بأن براهين هذا الحكيم كانت مبنية على أسس ضعيفة واهية لا تستطيع الثبات في ميدان الجدل المنطقي وأن قيمة هذه البراهين تزيد ضآلة بقدر ما يكشف التاريخ أن أهم مصادرها هو الأساطير الشعبية المفعمة بالخرافات والأباطيل)
ويؤكد الأستاذ (أولترامار) أن استخلاص العناصر الصحيحة من وسط ذلك المحيط الهائل المليء بالأساطير الخيالية في ترجمة بوذا وصفاته وتعاليمه من الصعوبة بموضع، وهو لهذا يحيل القارئ إلى مؤلفات ثلاثة رجال من كبار العلماء الذين وصلوا إلى نتائج بحوث قيمة في هذا الموضوع، ليستأنس بآرائهم وهم:(كيرن) و (سينار) و (أولدنبيرج). فأما أول هؤلاء العلماء وهو الأستاذ (كيرن) فهو ينكر إنكاراً تاماً القيمة التاريخية لهذه الأساطير ويصرح بأنه لا أثر للحقيقة في كل ما نقل لنا عن (بوذا) وبأن هذه السيرة البوذية لم تكن
إلا رموزاً للمثل العليا في نظر الشعب
وأما الأستاذ (سينار) فهو لا يرى في السيرة البوذية اكثر من أنها أسطورة قديمة رصعت بأبهى ما وعاه الشعب من أخلاق عدة أبطال طواهم الزمن فنسيت أسماؤهم وعلقت بالأذهان آثار بطولتهم
وأما الأستاذ (أولدنبيرج) فهو أقل قسوة على بوذا من زميليه، إذ يعترف بأن طائفة من الحقائق الحائرة منبثة في وسط هذا البحر من الأساطير وأنه ليتيسر للباحث الدقيق أن يستخلص من بين الفرث والدم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. أما بوذا على حالته التي هو عليها الآن في الأسطورة قبل تمييز الخيال من الحقيقة فهو لا يبعد عن كونه شخصية رمزية
ويميل الأستاذ (أولترامار) إلى هذا الرأي الأخير. إذ يعتقد أن الباحث العميق يمكنه أن يصل - عن طريق الموازنة الدقيقة بين كل المصادر - إلى حقائق يقينية عن شخصية بوذا وديانته وتعاليمه وأنه هو شخصياً قد وصل إلى كثير من هذه الحقائق، وأن إحدى هذه الحقائق التي وصل إليها هي أن بوذا قد وجد حقاً، وأنه كان شخصية غير عادية لها من الميزات ما لم يفرز بها سواها في العصر الذي كانت تعيش فيه، وأن هذا الرجل - بصرف النظر عما أحكمت حوله الأساطير من سياج التألية - كان قوي الإرادة إلى حد بعيد، ولكن هذه القوة وجهت كلها إلى النضال الداخلي، فبينا كان ظاهره يدل على الوداعة ولين الجانب وخفض الجناح كانت نفسه تحوي في داخلها عراكا قويا ضد الشهوات والرغبات ولم يسمح لهذا النضال أن يتجاوز نفسه إلى الخارج إلا في ناحية واحدة وهي ناحية إقناع سائليه ومناقشيه ولكن هذا الإقناع كان دائما ممزوجا بروح السلام العام الذي يتخلل كل نواحي مذهبه
وعنده أنه كما أن الأرض تحمل ما يلقى فوق ظهرها من خبائث الأشياء دون ضجر وتتقبلها قبولها للطيبات، كذلك يجب على البوذي أن يحتمل باسما احتقار الناس وإهاناتهم وأن يتقبلها بنفس الروح التي يتقبل بها الإجلال والتشريف. وكما أن الماء يتخلص عن التراب، ليروي الظمآن، كذلك يجب على البوذي أن يشعر أعداءه بنفس الخيرية التي يشعر بها أصدقاءه
وأهم ما يلفت النظر في شخصية بوذا هو أن وثوقه بنفسه وإيمانه بمبدئه، وعقيدته في نجاح رسالته لم تكن ممكنة التشبيه بأي شيء آخر، وهو لهذا يقول: (إن من المحتم أن هناك طريقاً للخلاص، وأن من المستحيل ألا توجد هذه الطريق، وسأعرف كيف ابحث عنها، وساجد حتما تلك الوسيلة التي توصل إلى الخلاص من كل وجود.
كان بوذا يجمع حوله الشباب، ليلقي عليهم تعاليمه المأثورة التي كانت تنال من نفوسهم منالا بعيد الغور، ولكن الأسطورة التي كانت كأنها إطار حول حياته زعمت أن موجة من الأيمان كانت تخرج من عيني بوذا بمجرد نظره إلى تلاميذه فتسلك سبيلها إلى قلوبهم وتحتلها احتلالا قوياً قبل أن تنبس شفتاه بأية كلمة من تعاليمه.
يتبع
محمد غلاب
حديث في سفر
للأستاذ محمود السيد
لقد كان التطلع إلى الأحداث الجارية منذ يوم الهدنة التي أعقبت الحرب الكبرى في البلاد الشرقية المجاورة لنا، ديدني، والسفر إليها غايتي، ومعرفة بواعث النهضات الرائعة التي نهضها أهلها، مقصدي. وكنت أحاول البدء بتركية التي أحسن لغتها وألمُّ بعض الإلمام بأدبها القوي في حيويته الرقيق بجماله، فلم أوفق. على أني قد وفقت في العام الثاني والثلاثين والتسعمائة والآلف، لزيادة بلاد الجارة الصديقة إيران، وكنت يومئذ تعباً جداً من لغوب الحياة الراكدة، سائماً أيامها المتوالية المتكررة عندنا في غير ما انبعاث صحيح، ولا انقلاب من العهد القديم إلى عهد الدنيا الحديث؛ نازعاً إليّ اغتراب أنسى فيه، إلى حين من الزمن، الآم المتطلعين من أبناء الشعب الصابر النبيل، إلى حياة هنيئة حرة في مجد جديد يرام كالمجد القديم؛ وقد أسمع وأرى ما يذكر ويفيد
غادرت بغداد شاخصاً إلى طهران مساء اليوم السابع عشر من شهر ايار، مستقلا قطار خانقين. وفي فجر اليوم التالي بلغت هذه البلدة الصغيرة التي يتكلم قطينها شتى اللغى، لأنها بلدة الحدود ونافذة العراق المطلة على إيران. وقد فكرت فيها والأسف يحز في قلبي كائنة المغول الأولى، إذ جاءوها في محرم الحرام من العام الثالث والأربعين والستمائة للهجرة، نازلين إليها من همذان ففتحوها ثم قربوا من يعقوبا؛ وكانت بغداد سكرى في غفلة عن الزمن القلب الحوّل والأقدار الغادرة. ولم يفعل خليفتها ووزيره وصحبهما سوى التهيؤ - التهيؤ فقط - للدفاع بأجناد من الخلائق فقدت المثل العليا، فخارت عزائمها ووهت بعد مرّة، إذ أوهنها تخنيث الترف، وتبلبل العقائد، وانحطاط الخلق، واضمحلال روح الاستقلال، ثم أرتد المغول عنها متحفزين لهجمة ثانية قاضية. وكذلك فعلوا، فقد عادوا مرة أخرى في العام الخامس والخمسين بعد الستمائة للهجرة يقودهم هلاكو. . .
لم أقم في خانقين التي كانت طريق البلاء الأكبر النازل على العراق بعد ازدهار الحضارة العربية الإسلامية فيه، إلا ساعتين. واكتريت لي سيارة رافقني فيها إلى كرمانشاهان تاجر أيراني ذو سجاحةٍ وظرفٍ. ثم جاء بعده عقيب السري منها مسافر عراقي من مشايخ العلم، تراءت لي في محياه دلائل الحماسة في الدين، وفي سلوكه دلائل الحماسة في القومية. فهو
عربي من أهل النجف، يدرك روح العصر بعض الإدراك، على ميل شديد فيه إلى الماضي، وحنين إلى دولة العرب في أيامهم الذهبية التي خلت من قبل. وكان سميراً من الطراز الأول، ورجلا يصلح، لو أدرك روح العصر كل الإدراك، لأن يكون قريباً من الكمال الإنساني المجرد من الصفات التي يخلعها على الإنسان في المجتمع نضال المتعصبين في الملل واعتراك النحل وتصادمها. وهو - كما كان يقول - من العاملين لآخرتهم كأنه موشكٌ أن يموت غدا، ومن العاملين لدنياهم كأنه يريد أن يعيش أبداً. وقد حداني الحديث ذو الشجون إلى أن أساله: من السعيد في الدنيا أيها الشيخ الفقيه؟
فأجابني وهو يعبس بمسبحته السوداء: ومن ذا الذي تعني؟ آلسعيد من أهل السياسة؟ آلسعيد من أهل الحرب والطعان؟ آلسعيد من التجار؟ آلسعيد من المحترفين خدمة الحكومة بأعمال الدولة؟ آلسعيد من ذوي الحرف والصناعات؟. . الخ
فحيرني تَسْآله هذا، وأعجبت بمنطقه، فقلت وقد أدركت بعض قصده: من السعيد من الطبقة التي ينتمي إليها أنت يا شيخي؟
قال: أحسنت. لقد حددت التعريف فأنصفت. . السعيد منا نحن رجال العلم القديم والدين من صح فيه قولُ عمر بن عبد العزيز الوراق لأبي بكر بن حزم: (إن الطالبين الذين أنجحوا والتجار الذين ربحوا هم الذين اشتروا الباقي الذي يدوم بالفاني المذموم، فاغتبطوا ببيعهم، وحمدوا عاقبة أمرهم. . . فالسعيد الموفق من أكل من عاجله قصداً، وقدم ليوم فقره ذخراً، وخرج من الدنيا محموداً. . .)
قلت: يا شيخي هذه فلسفة صوفية قد تنافي - إذا كنت مقتصراً عليها - ما زَعَمتَ لي إذ قلت في بعض حديثك أنك من العاملين للآخرة ومن العاملين للدنيا فأهملت الدنيا هنا؟ أليست هي على رأيك: (الأمر الفاني المذموم).
قال: إذن لابد من إيضاح. . أن أمرها لفان ومذموم لأمثالي إذا ما اقتصرنا في الحياة عليه. وهذا التشديد في ذمها صمام أمننا، لأننا صرنا إلى حال لا تسر المؤمن المحض؛ وإذا كان هذا العصر عصر الاختصاص، فإننا قد بعدنا - إلا الأقل الأندر منا - عن اختصاصنا وهو العمل بروح الدين ورحنا نتطلع إلى مطامع الدنيا، وحطامها، فنسينا النصيحة والدين هي، واقبلنا على كل ما فيه زهو وغرور. . .
قلت: هذا صوت صارخ في البرية، فهل للشيخ أن ينصحني؟
قال: لا تعجل، فإن لكلامي بقية قليلة. وفي القليل بلغة
فأصغيت إليه، فمضى يقول: فأما العمل للدنيا بالنسبة إليّ، فإني احرث الأرض وازرع في بستان ورثته من آبائي أرضاً قاحلة، وأتعفف عما في أيدي الناس، ولا أمد عيني إلى مال؛ وبمنتوج بستاني وعمل يدي احفظ على كرامتي، واشتري ورقي وحبري وكتابي وثوبي وطعام عيالي، وارفع رأسي موفور العزة في عشيرتي وأهل بلدي؛ فهل من تقصير لدي بعد هذا في أمر الدنيا؟
قلت: كلا. لقد أوفيت يا شيخي.
قال: وأنصحك يا صاحبي - ولعلك في غنى عن النصح - أن تكون ذا دين، فأني لأشم في رائحة كتبك هذه التي تحمل بين يديك في رحلتك، التي لا اعرف منها الغاية والمدى، شيئاً أراه فوق التجدد الذي أنشده - مع من ينشده - لكم معشر الشباب فقد يصح لكم التجدد على طريقة معتدلة لا تمس الدين، ولا تذهب بالقومية مذاهب الفناء والدمار؛ ولكن غير هذا لا يصح.
قلت: يا شيخي! الآن كنت تنادي بالاختصاص، فقد فهمت أنك من حماة الدين الذي لن تمسه بسوء أن شاء الله، وأن كنت أقرا كتباً تجادل فيه، فلكي استطلع طلع المجادلين واعرف مقالاتهم.
قال مقاطعاً:
للرد عليهم ولا شك.
فقلت مستمراً في قولي: ولكني أراك في قولتك الأخيرة متطرقاً إلى القومية، فهل لي أن افهم رأيك الواحد في النحلتين.
قال: بلي؛ فأنا قومي بعد كوني مسلماً. وإذا ادعيت مع المدعين أن للعرب الفضل الأكبر في هذه الحضارة العتيدة، فلن أخطئ الهدف من الصواب. وأنت تعلم أن أجدادنا نشروا ثقافتهم في آسية وأشاعوا علومهم في أوربة صعداً من الأندلس وأسسوا في بلادهم المدارس، وسافروا إلى أقاصي البلاد في سبيل العلم، بعد أن نقلوا إلى اللغة العربية كثيراً من الكتب العلمية، ونقحوها وهذبوها أصولاً وفروعاً، وأضافوا إلى بعضها، فاصبح زمام
الحركة العلمية العالمية في أيديهم دهرا.
وكان سلطانهم ممتداً من ساحل المحيط الاطلنطيكي إلى تخوم الصين، وكانوا هم أهل الصنائع والفنون
وكانوا أهل الشرائع العادلة، وأولي نظام في سياسة الملك قويم، وآداب خالدة رائعة وفلسفات
قلت: معلوم
قال: اجل، فهذا شيئاً مفصل في كتب التاريخ؛ فما الذي يمنعني الآن من أن افخر بهم، وبماضيهم المجيد الزاهر، لكي ابعث في نفوس بني جلدتي - أبنائهم - الصُبُوَّ إلى السير على آثارهم مع أداء الواجب الحق لما يتطلبه العصر الحديث منها من أعمال مهما كان نوعها، ترفع لامتنا رايتها خفاقة بين رايات الأمم الحية القوية المنيعة الجانب، الرافلة في حلل المدنية، المتمتعة بمتع المجد والاستقلال. وكذلك كان أجدادنا العرب أولئك في أزمانهم السعيدة، وأيامهم الخالدة الذكر، في سفر الحياة. وإنهم كانوا مع شيوع الفلسفة لديهم مسلمين حق إسلام، يشعرون برابطة العروبة غالباً، وإن كانت القومية على الطراز الغربي الجديد غير معروفة لديهم. . . فاكرر لك مرة ثانية: أنا قومي بعد كوني مسلماً؛ وليس عندي - لنفسي - رأي غير هذا. . .
إلى هذه النقطة من الحديث بلغ الشيخ. فانتهينا إلى مرحلة من الطريق، وجبت فيها علينا الراحة. وكنا في ضاحية قرية كائنة على جرف واد يشرف عليه جبل سامق، نبتت في سفوحه الجنات والحدائق الغلب؛ فأردت أن اكتفي من الرجل بما سمعت فالتفت إلى السائق أساله (الشاي) له؛ فقال مبتسماً وهو ينزل من السيارة: لعلك ترى في كلامي اقتضاباً مخلا، فإني وأن كنت شيخاً، لا اعرفني إلا من أقل الطلبة علماً فإن ألفيت في منطقي وفي رأيي ما لا تراه وافياً فسامحني فيه، فهذا حديث عجلان. . .
(نزيل القاهرة)
محمود. أ. السيد
الخطابة في عهد علي بن أبي طالب
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
ارتقت الخطابة في عهد علي بن أبي طالب ارتقاء واضحاً وصارت سلاحاً قوياً يلجأ إليه الخليفة وخصمه؛ يثيران بها الأنصار، ويحفزان النفوس إلى الغارة والحروب؛ ولقد خلف لنا هذا العصر قدراً كبيراً من الخطب، لم يؤثر مثله طول عهد الخلفاء الراشدين؛ وليس ذلك بعجيب؛ فإن المسلمين لم يقفوا موقفاً يحتاج إلى كثرة الخطابة، كهذا الموقف الذي وقفوه أيام علي ومعاوية.
لم يقف المسلمون قبل اليوم يحارب بعضهم بعضاً، وإنما كانوا يجتمعون لحرب المشركين، ونشر لواء الدين، تملأ قلوبهم الروح المعنوية، والأيمان القوي المتين، وتحدوهم العقيدة أن لهم إحدى الحسنيين؛ فكان لهم من أنفسهم وازع أي وازع؛ قلبهم يدفعهم، وعقيدتهم تقودهم؛ فلم يكونوا يوم خرجوا لمحاربة الفرس والروم في حاجة إلى إطالة القول والإطناب في الخطابة لأن الدين الجديد وعقيدتهم في وجوب نشره كان يحفزهم إلى الجهاد، ويملأ قلوبهم ثقة بالنصر معتقدين أن الله يمدهم بروح من عنده، وأن المجاهد منهم تنتظره جنات وعيون، أو نعيم الدنيا وما يغنمه من العدو، وما يناله من الفيء.
أما اليوم فهم مدعوون لحرب قوم لا يشركون بالله، ولا ينكرون محمداً، بل هم على دينهم وعقيدتهم، ومن جنسهم وملتهم ولذلك كان الموقف الجديد في حاجة إلى خطيب يبرر حرب المسلم أخاه المسلم وقتل العربي بني قومه العرب، واحتاج قادة الفريقين وزعمائهم إلى الخطابة يقوون بها الروح المعنوية، ويخلقون في نفوسهم الأيمان بأنهم يحاربون من اجل الحق والدين الذي آمنوا به، وبأن جهادهم ليس إلا لتمكين الاسلام، وتنفيذ أحكامه، وكان المتحاربون في حاجة إلى هذه الروح حتى تشتد سواعدهم على قتل إخوانهم وذوي قرباهم، وكان الزعماء يلجئون إلى الخطابة كثيراً، حتى لا تفتر هذه الروح وتضعف؛ وكثرة تكرار القول تدخل في النفوس توهم صدقه وصحته، وذلك هو السر في فكرة ما ورثناه من خطب هذا العصر كثرة لم نعهدها في خطب الخلفاء حينما كانوا يحضون المسلمين على حرب المشركين.
- 2 -
ولكن الذي بين يدينا من خطب علي وصحبه، أكثر من ما ورد لمعاوية وأركان حربه، ويمكن أن نرجع ذلك إلى أن كثيراً من آثار معاوية وأنصاره، قد امتدت إليه يد النسيان والضياع، بعد سقوط دولتهم، وتشتت شمل معاونيها، فإن الدولة الأموية بعد سقوطها لم يحاول أنصارها يوماً رفع رؤوسهم ولا محاولة رجوعها، ففقد بفقدانها الكثير من آثار خلفاءها؛ أما العلويوين فمع أنهم كانوا يحاربون ويقتلون، ويلاقون من الحياة الشدة والعناء، كان لهم في كل مكان الأنصار والمروجون لدعوتهم والساعون إلى إقامة خلافتهم، وقد نجحوا في كثير من الأحيان فكان من الضروري لهم أن يحفظوا كلام إمامهم، وأن يتناقلوا أحاديثه وخطبه.
ويمكن أن نرجعه إلى أن كثيراً من الخطب التي نسبت إلى علي وضعت بعد عصره وضعاً، وأضيفت إليه من غير أن يكون قد قالها، ولا نريد الآن أن نمحص هذه الخطب، وأن نبين ما وضع منها وما لم يوضع، ولكن نقرر أن كثيراً من هذه الخطب الصق به إلصاقاً؛ فكان سبب ما نراه من كثرة كلام علي كثرة يقل أمامها ما قاله معاوية؛ هذا إلى أنه مما لاشك فيه أن علياً كان أبين من معاوية قولا وافصح منه لساناً.
ويمكن أن يكون السبب قلة حاجة معاوية إلى الخطابة بالنسبة إلى علي، فلقد كانت الروح المعنوية في نفوس أهل الشام أقوى وأشد منها في نفوس أهل العراق، لأن معاوية قد ألقى في روعهم أنهم إنما يقتصون لخليفة قتل مظلوماً، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً؛ ومن أولى بالدفاع عن حق عثمان من معاوية؟ وكان مكر معاوية ودهاؤه حين يقول: إننا لا نريد منهم سوى قتلة عثمان، فليدفعوهم إلينا ونحن نبايع صاحبهم - يحرك الشاميين إلى الأخذ بثأر عثمان، فلا حاجة إلى كثرة الخطابة وتكرير القول، هذا إلى أن أهل الشام كانوا أطوع لمعاوية من أهل العراق لعلي. فمعاوية وأبوه وأخوه من قوادهم يوم حارب المسلمون في الشام، وإلى أن الشاميين كانوا في موقف المدافعين عن بلادهم، الذائدين عن حياضهم وعن آبائهم ونسائهم، وهذا مما يقوي في نفوسهم روح الجهاد ويدفعهم إلى الحرب والقتال.
وهناك سبب آخر هام دعا إلى كثرة خطابة علي وصحبه، فلقد كان الخلاف يمشي إلى قلوب أنصاره، وكان المخالفون يبينون رأيهم بالخطابة فكان من الضروري أن يقف بينهم
خطباء يدعونهم إلى الألفة واجتماع الشمل؛ هذا إلى أن أصحاب علي قد خذلوا خليفتهم، وتقاعسوا عن نصرته، فاضطر إلى أن يرقى ذرا المنابر. وأن يرسل فيهم الصيحة تلو الصيحة يحرضهم على مناجزة أعدائه. وللإمام وأنصاره خطب كثيرة في هذا الغرض.
على أن معاوية كان يلجأ إلى الخطابة الصامتة: فما كان عليه إلا أن يعلق على المنبر أصابع زوج عثمان التي قطعت في الدفاع عنه، وقميص عثمان، فيغنيه هذا عن تدبيج القول وإطالة الحديث؛ إذ يجد من حوله ينادون: هيا إلى الأخذ بالثأر، هيا إلى الحرب والقتال؛ وقد يكون السبب مزيجاً من ذلك كله.
- 3 -
لم يكن لعلي بد من أن يخلق في أنصاره الروح المعنوية، وأن يبرر لهم موقفهم من حرب قومهم وإخوانهم، وأن يملأ قلوبهم بالحماسة والبسالة، ويوغر صدورهم ضد عدوه معاوية ومن معه، فأحياناً يلجأ إلى العاطفة الدينية يثيرها فيظهر عداءه في مظهر المارقين عن الدين، والهادمين لأسسه ومبادئه، هذا الدين الذي كان أجل ما يعتزون به ويحاربون في سبيله، فيقول علي في خطبة:(وأيم الله ما وتر قوم قط لشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم، وأن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم؛ ليميتوا السنة، ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة؛ فطيبوا عباد الله أنفساً بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله، والله عنده جنات النعيم؛ وأن الفرار من الزحف فيه السلب للعز، ومغلبة على الفيء، وذل المحيا والممات، وعاب الدنيا والآخرة، وسخط الله وأليم عقابه)
وهذه الفكرة قد تكررت في اكثر خطب علي لتتأكد في نفس أصحابه؛ ولتصبح عقيدة إلى جانب عقيدتهم، تدفعهم إلى حرب قومهم وبني ملتهم.
وأحيانا يثير فيهم الأنانية، فيبين لهم سوء المغبة إذا أنتصر معاوية عليهم، ويحدثهم عما سوف ينالهم على يده من الذل والهوان، فيقول:(أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي، لتجدنهم أرباب سوء، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم. . . وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب، لا تأخذون لله حقاً، ولا تمنعون له حرمة، وكأني أنظر إليهم، يحرمونكم ويحجبونكم، ويدنون الناس دونكم). واحسب أن المرء حين يغرس في نفسه أنه إنما يدافع
عن كيانه، ليحفظ على نفسه حياتها وسعادتها وأمنها - يدافع عن حياضه ببسالة وقوة وهو ما يرمي إليه علي بخطابته.
وتارة يلجأ إلى ماضي أعداءه؛ فيذكرهم به، ويتحدث عما كان لهم ولآبائهم من قبلهم من خصومة للإسلام، وسعي إلى تحطيم أساسه، ثم يأخذ في بيان ما له من مآثر ومزايا، تجعل الموازنة بينه وبين معاوية ضربا من العبث؛ قال علي:(. . . لم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية، الذي لم يجعل الله له عز وجل سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق بن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين - عدواً، هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين؛ فلا غرو إلا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم صلى الله عليه وسلم، الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً) وبيان مآثر علي ومزاياه، ونقائص معاوية والطعن في أغراضه ومقاصده، أهم ما يدور عليه خطب العلويين حين يدعون قومهم إلى الحرب والقتال.
أما معاوية بن أبي سفيان فقد لجأ أيضاً إلى الناحية الدينية يثيرها في نفوس قومه ويحفزهم بها إلى الجهاد والقتال؛ ينثر أمامهم حجته الوحيدة التي دفعته إلى الخلاف وشق عصا الطاعة وهي قتل عثمان، وادعاءه أن علياً آوى قتلته ولم يأخذ بثأره، ولذلك كان هو ومن معه قوماً نكثوا البيعة، وسفكوا الدم الحرام في البلد الحرام.
وهناك شيء آخر يستطيع أن يستغله معاوية في إثارة حفيظة قومه: ذلك أن علياً وصحبه قوم اقبلوا من بلادهم، واعتدوا على حرمة الشاميين وحرمة ديارهم، فليس أمامهم أن أرادوا الحياة خالية من العار إلا أن يقاتلوا ويذبوا عن نسائهم وأبنائهم، قال معاوية يحرض قومه على القتال:(. . . انظروا يا أهل الشام، إنكم غدا تلقون أهل العراق؛ فكونوا على إحدى ثلاث خصال: إما أن تكونوا طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم؛ فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا بيضتكم، وإما أن تكونوا قوماً تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم؛ وإما أن تكونوا قوماً تذبون عن نسائكم وأبناءكم، فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل واسألوا الله لنا ولكم النصر. . .)
وأيضاً كان يلجأ معاوية وصحبه في تقوية الروح المعنوية إلى الحديث عن ضعف جيش
العراق وتفرق كلمته وأدبار امره، ولا ريب أن مثل ذلك الحديث يشجع قومه ويغريهم بالثبات، حتى يتم الانتصار؛ قام عمرو بن العاص يحرض أهل الشام، على القتال فقال:(إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم أن أهل البصرة مخالفون لعلي، قد وترهم وقتلهم وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة منهم من قد قتل خليفتكم؛ فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تطلّوه)
أما العلويوين فإنهم لم يستغلوا هذه الناحية أيما استغلال، مما يدل على أن جيش معاوية لم يدع لهم هذه الفرصة، بل كان جيشاً متحداً متماسكا، ولكنهم استغلوا ناحية أخرى؛ هي أن معاوية ليس معه من له قدم سابقة في الإسلام، أما هم فمعهم جلة الصحابة والأنصار والبدريين؛ قال الاشتر النخعي يحث العلويين على الحرب:(. . . إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري، سوى من حولكم من أصحاب محمد، اكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب!. . .) وهذا هو الحق فلقد كان اكثر الصحابة منضمين تحت راية علي، ولكن ذلك لم يستطع الوقوف أمام دهاء معاوية وعمرو بن العاص؛ فقد استطاعا بفضل ما أوتياه من الحصافة والمكر أن يظهرا بقلتهما على كثرة علي ومن تبعه من صحابة وأنصار
- 4 -
لم يكن التحريض على القتال هو كل أغراض الخطباء في ذلك العهد؛ بل كان من أغراضهم أيضاً الصلح بين المتقاتلين؛ فلقد سعت الرسل بين الفريقين تريد حقن الدماء، وكانت الخطابة عماد أحاديثهم، وإن لم يوفق الخطباء إلى أداء مهمتهم؛ فلقد كانوا مهددين أكثر منهم سياسيين دهاة، يستلون السخائم من الصدور واستمع إلى حبيب بن مسلمة رسول معاوية إلى علي يقول:(. . . أما بعد فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفة مهديا يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله؛ فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه، وقتلتموه رضي الله عنه، فادفع إلينا قتلة عثمان؛ إن زعمت أنك لم تقتله، نقتلهم به ثم اعتزل أمر الناس فيكون شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من اجمع عليهم رأيهم) ولذا قال له علي: (وما أنت (لا أم لك) والعذل؟!). ويقول عدي ابن حاتم رسول علي إلى معاوية:
(أما بعد فأنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا؛ فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية؛ لا يصيبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل). فلما انتهى قال معاوية: كأنك جئت متهدداً، لم تأت مصلحاً.
والحق أن الخطابة التي كان يقوم بها سفراء الزعيمين لم تكن لتدل إلا على أنهما يرغبان في أن يستخلصا حقهما بالسيف؛ أما السفارة فلكيلا يكون ثمة مدعاة للوم أحدهما إذا اضطر إلى امتشاق الحسام
وكان من أغراضهما أيضاً نصح الصحب، وإرشاد المقاتلين إلى ما يجب أن يفعلوه في الحرب كما يفعل القائد قبل الهجوم، يوصي جنده ويمنحهم نصائحه: قال علي يرشد مقاتلته: (معاشر المسلمين، استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجد فإنه أنبى للسيوف عن الهام، واكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلّها، والحظوا الخزر، واطعنوا الشرر ونافحوا بالظّبأ، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله. . .)
ومن أغراض الخطباء لذلك العهد الدفاع عن الرأي، ومقارعة الحجة بالحجة، وتفنيد براهين الخصم، واظهر مثال لذلك الخطب التي قالها علي والخوارج؛ فهي خطب مليئة كلها بالحجج والبراهين من جانب الخوارج ومن جانب الإمام
- 5 -
كانت أساليب الخطابة لذلك العهد رصينة في جملتها، سهلة الألفاظ إلا في القليل، لها مميزات الخطابة القوية، تعتمد على الألفاظ الضخمة، وعلى الجمل القصيرة يقل فيها السجع إلا إذا جاء عرضاً غير مقصود، فالخطبة ترسل إرسالا، لا تكلف فيه ولا تنميق، ومع ذلك تكون قوية الأسر، متينة السبك، ولا غرو فلقد كان القائلون مقاويل العرب وأبلغهم وكان المقام يتطلب لساناً بليغا يحرضهم ويدعوهم
ولقد كثر الاقتباس من القرآن، وكان علي وصحبه أكثر غراما بالاقتباس يدخلون الآية والآيات في معرض خطبهم
هناك ملاحظة تبدو في خطب علي وتظهر ظهوراً واضحاً إذا أنت وازنت بين خطبه التي قالها في أول النزاع وآخره،؛ فانك تجد خطبه التي قالها بعد التحكيم، والتي يستفز فيها القوم إلى حرب معاوية، ضخمة في ألفاظها، قوية في أسلوبها، متينة فخمة، أمتن وأقوى من تلك الخطب التي قالها في أول النزاع، وكانت خطبه تشتد وتقوى، كلما ضعف أمله في نصرة قومه، وزاد تواكلهم وتخاذلهم، وحسبك أن ترجع إلى خطبته التي قالها لرؤساء أنصاره ووجوههم بعد أن رجع من حرب الخوارج؛ أو إلى خطبته بعد أن أغار النعمان بن بشير على عين التمر، أو عندما أغار الضحاك بن قيس على الحيرة، أو حينما أغار سفيان بن الغامدي على الأنبار، واستمع إلى السيل المتدفق من فم علي حين يقول:. . . ألا وأني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وعلاناً، وقلت لكم أغزوهم من قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا، فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان؛ هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان بن حسان البكري ورجالاً منهم كثيراً ونساء، وأزال خيلكم عن مسالحها، والذي نفسي بيده، لقد بلغني أن كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، وما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما، بل كان به عندي جديرا
يا عجباً كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الاحزان، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضا، تُرمَون ولا تَرمُون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون، إذا قلت لكم إغزوهم في الشتاء، قلتم هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم: إغزوهم في الصيف، قلتم: هذه حمارة القيظ، أنظرنا ينصرم الحر عنا؛ فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال! ويا طغام الأحلام!! ويا عقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم، ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سدما! قاتلكم الله لقد ملاءتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نُغَب التهمام أنفاسا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان. . . .
وتعليل هذه الظاهرة سهل يسير، هو ذا التخاذل الذي بدا من القوم بعد التحكيم، فلقد سئموا القتال وملوه، وركنت نفوسهم إلى الهدوء والدعة، واستسلموا إلى الراحة، ووجدت الفرقة سبيلها إلى قلوبهم، فكان الإمام في أشد الحاجة إلى ما يبعث الحياة فيهم، ويعيد الحماسة إليهم، فلا غرو، كان يلجأ إلى الخطابة فيجعلها قوية الأسر، مليئة بالألفاظ الضخمة التي تثير النفس، وتبعث النخوة، مفعمة بالتحذير والانذار، علها تحيي الميت أو تبعث الروح في الجماد
نستطيع أن نقول: إن الخطب في عهد علي تؤرخ لنا الحالة السياسية، وتسجل أهم ما كان في فترة خلافة علي، وفضلا عن ذلك نستطيع إذا أنت تتبعت الخطب، أن تلمس الحوادث التي قيلت فيها لمسا، وهي تكشف لك صراحة نفسية الإمام علي، وتبين الأدوار التي مرت فيها آماله: من النهوض والتفاؤل في أول الأمر؛ إلى اليأس والقنوط في آخره، كما أنها تكشف أيضا نفسية قومه، وتضعها أمامك في صورة واضحة، وإن المؤرخ ليجد في هذه الخطب معينا لا ينضب، يساعده على فهم نفسيات المتقاتلين ليدرك النتائج التي وصلت إليها الحرب، وكيف كانت طبيعية لا بد من حدوثها
أحمد أحمد بدوي
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
138 -
صلاة. . .!
في (معجم الأدباء): قال حسان بن علوان البيستي: كنت أنا وجماعة من بني عمي في مسجد بيست ننتظر الصلاة فدخل أعرابي وتوجه إلى القبلة، وكبر ثم قال:(قل هو الله احد، قاعد على الرصد مثل الأسد، لا يفوته أحد، الله اكبر!) وركع وسجد، ثم قام فقال مثل مقالته الأولى وسلم. فقلت يا أخا العرب! الذي قرأته ليس بقرآن، وهذه صلاة لا يقبلها الله. فقال: حتى يكون سفلة مثلك، أني آتي إلى بيته واقصده وأتضرع إليه ويردني خائباً، ولا يقبل لي صلاة! (لا) إن شاء الله (لا) إن شاء الله، ثم قام وخرج
139 -
مسيلمة وأشعب
قال الثعالبي: قد تظرف من قال في كذب مسيلمة وطمع أشعب:
وتقول لي قولاً أظنك صادقاً
…
فأجيء من طمع إليك واذهب
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس
…
قالوا: مسيلمة، وهذا أشعب!!
140 -
إنما هو بركة من السماء
في (تاريخ ابن عساكر) عن أنس قال: كان أبو طلحة يأكل البَرَد وهو صائم، ويقول: ليس بطعام ولا شراب. قيل له: أتأكل وأنت صائم؟!
فقال: إن ذا ليس بطعام ولا شراب، وإنما هو بركة من السماء نطهر بها بطوننا
141 -
رد الله عليك غربتك
كان الصاحب بن عباد يقول: لم أسمع جواباً أظرفَ وأوقعَ وأبلغَ من جواب عبادة فإنه قاله لرجل: من أين أقبلت؟
قال: من لعنة الله
فقال: رد الله عليك غربتك
142 -
وعد الله ووعيده
عند أبي عمرو بن العلاء. . .
في (عيون الأخبار): اجتمع أبو عمرو بن العلاء وعمرو ابن عبيد فقال عمرو: أنّ الله وعد وعداً، وأوعد إيعاداً، وإنه منجز وعدَه ووعيدَه، فقال أبو عمرو: أنت أعجم. لا أقول: أنك أعجم اللسان، ولكنك أعجم القلب. أما تعلم، ويحك! أن العرب تعد إنجاز الوعد مكرمة، وترْكَ إيقاع الوعيد مكرمة ثم أنشده:
وإني - وإن أوعدتُه أو وعدتُه
…
لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي
143 -
عاد الدر إلى وطنه
سئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل فقال اجتمع فيه ذلان: ذل العشق، وذل اليهودية.
ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدر إلى وطنه
144 -
أدب الخواص
قال الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب الخواص:
كنت أحادث الوزير أبا الفضل جعفرا وأجاريه شعر المتنبي فيظهر من تفصيله زيادة تُنبه على ما في نفسه خوفاً أن يُرى بصورة من ثَناه الغضبُ الخاص عن قول الصدق في الحكم العام وذلك لأجل الهجاء الذي عرض له به
145 -
أطعموا آذاننا
كان مروان بن أبي حفصة إذا تغدى عند إسحق الموصلي يقول له: أطعموا آذاننا، رحمكم الله!
146 -
روائح الجنة في الشباب
في (أغاني) أبى الفرج: قال:
محمد بن هاشم الخزاعي: تذاكروا يوماً شعر أبى العتاهية بحضرة الجاحظ إلى أن ذكر أرجوزته التي سماها (ذات الأمثال) فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله:
يا للشباب المرح التصابي
…
روائح الجنة في الشباب!
فقال الجاحظ للمنشد: قِفْ، ثم قال: انظروا إلى قوله:
روائح الجنة في الشباب
فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة.
147 -
إن العرب لا تستخذي
احب الأصمعي أن يستثبت في كلمة (استخذيت) أهي مهموزة أم غير مهموزة قال: فقلت لأعرابي: أتقول: استخذأت أم استخذيت؟ فقال: لا أقولهما
قلت: ولِمَ؟
قال: لان العرب لا تستخذي
148 -
أسهل الموت وأصعبه
الصابي:
إذا لم يكن للمرء رد من الردى
…
فأسهلهُ ما جاَء والعيشُ أنكدُ
وأصعبه ما جاءه وهو رائع
…
تُطيف به اللذات والحظُّ مسعدُ
149 -
فزع الأغنياء، شهوة الفقراء
سئل (سيافيدس) عن الموت فكتب: نومٌ لا انتباهَ معه، راحة المرضى، انفصالُ الاتصال، نقصُ البنية، رجوعٌ إلى العنصر، فزعُ الأغنياء، شهوةُ الفقراء، سفرُ النفس، فقدان الوجود
150 -
الفراق
قيل لبعض الصوفية: لِمَ تصفرّ الشمس عند الغروب؟
قال: خوفاً من الفراق وبه ألم!
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
العلماء
وكنت نائماً فإذا نعجة تتقدم فتقضم اللباب المعقود إكليلا على رأسي، فكانت تعمل أنيابها فيه وتقول: لم يعد زارا من العلماء
وذهبت بعد ذلك مزدرية متفاخرة. ذلك ما أخبرنيه أحد الأولاد
أحب أن استلقي على الأرض حيث يلعب الأطفال تحت الجدار المتهدم وقد نبت في شقوقه العوسج والشقائق الحمراء. فإنني لم أزل عالماً في عيون الصغار وفي عيون العوسج والشقائق الحمراء. لأنها طاهرة حتى في أذيتها
أنا لم أعد عالماً في نظر النعاج. تبارك حظي فهذا ما قضى به عليّ. والحقيقة هي أنني هجرت مسكن العلماء فخرجت منه جاذبا بابه بعنف ورائي.
لقد جلست روحي الجائعة طويلا إلى الخوان، وما أنا كالعلماء متطبع على المعرفة كمن اتخذ كسر القشور مهنة له، فأنا عاشق الحرية والسير في الهواء الطلق على الأرض الباردة كما أفضل أن أتوسد جلود الثيران على افتراش أمجاد العلماء وألقابهم.
إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع عليَّ أنفاسي فلا يسعني إلا الاندفاع إلى رحب الفضاء هاربا من الغرف المكسوة بالغبار.
ولكن هؤلاء العلماء يتفيأون الظلال فلا يقتحمون السير على المسالك التي تلهبها حرارة الشمس، بل يكتفون بالاستكشاف كالمتفرجين يفتحون أشداقهم وينظرون إلى المارة في الشارع. هكذا يفتح العلماء أشداقهم وينتظرون اتقاد شرارة الفكر في أدمغة المفكرين. وإذا ما لمستهم بيدك تطاير الغبار ما حولهم كأنهم أكياس من الحنطة، ولكن أحداً لا يظن أن هذا الغبار المتطاير منهم هو دقيق السنابل الصفراء التي ينشج بها الصيف في زهوه.
إذا ما تظاهر العلماء بالحكمة، فإن حقائقهم وأحكامهم تهزني برعشة البرداء إذ تنتشر منها روائح المستنقعات، ولكم أسمعتني حكمتهم نقيق الضفادع.
إن لهؤلاء العلماء مهارتهم ولأناملهم لباقتها، فليس من نسبة بين صراحتي وتعقيدهم، فأناملهم لا تني تغزل وتحيك ناسجة للعقل ما يستره. فهم كالساعات إذا ما أحكم ربط رقاصها دلت بضبط على سير الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة. إنهم يعملون كحجر الرحى فيطحنون كل ما تلقى إليهم من حبوب، وكل منهم يراقب حركة أنامل الآخرين، وجميعهم يتلهون بالنكايات ويترصدون من يتعارج بعلومه، فهم أشبه بالعناكب في تلصصهم. ولكم رأيتهم يستقطرون سمومهم بكل حذر ساترين أيديهم بقفازات من زجاج ولهم مهارة خاصة بلعب النرد المزور. ولكم انحنوا فوقه والعرق يتصبب من وجوههم
لا صلة بيني وبين هؤلاء الناس فإن فضائلهم تبعد عن فضائلي بأكثر مما تبعد عنها أكاذيبهم ونردهم المزور
وما وجدت مرة بينهم إلا وكنت فوقهم، ولذلك ابغضني هؤلاء العلماء. لأنهم لا يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رؤوسهم، ولذلك وضعوا الأخشاب فوق رؤوسهم وأهالوا فوقها التراب والأقذار ليخنقوا وقع أقدامي، ولم يزل حتى اليوم أكثرهم علماً اقلهم إدراكا لأقوالي
لقد نصبوا بيني وبينهم حائلا كل ما في الإنسان من ضعف وضلال، وهم يدعون هذا الحصن لمسكنهم السقف المستعار.
ولكنني بالرغم من كل هذا لا أزال أمشي فوق رؤوسهم وأنا أنشر أفكاري. ولو أنني مشيت على عيوبي فلن أزال ماشيا فوق جباههم، ذلك لأنه لا مساواة بين البشر، وهذا ما يهتف به العدل، فما أريده أنا لا حق لهم بأن يتناولوه بإرادتهم.
هكذا تكلم زارا. . .
رسالة الشعر
دمشق
للدكتور عبد الوهاب عزام
يا أخي صاحب الرسالة: هذه أبيات نظمتها في إحدى زياراتي لمشق العظيمة وطويتها. ثم رأيت أن موضوعها يشفع لما فيها من قصور فأرسلتها إليك لترى رأيك في طيها أو نشرها
هذى دمشق فخل القلب يمتار
…
طالت على القلب أشواق وأسفار
كم ماطلتك بها الأيام أُمنيَة
…
لها على الدهر إعلان وإسرار
حطّ الرحال فهذا جهرةً بَردى
…
وذي دمشق هناك الأهل والدار
لا تٌعجلني فما الأيام مُسعدة
…
لا تخدعني فصرف الدهر غدار
دعني أؤلف آمالا مشتّتة
…
وأَسمع القلب. ملء القلب أسرار
دعني أزود قلبي ملء مُنيته
…
ففي فؤاديَ أسفار وأخطار
وردت جلّق ملتاعاً ومغتبطاً
…
تطفي بنفسي آمال وأفكار
دمشق مجتمع الأعصار قد زخرت
…
فيها كما أندفقت في البحر أنهار
خطّت أمامي سراعاً فوق رقعتها
…
من الوقائع أسطار فأسطار
فكل رجل على التاريخ سائرة
…
وكل طرف إلى التاريخ نظّار
وللأذان دوي فوق أربعها
…
وللأذان ببطن الأرض إسرار
يذيع قبر بلال في مآذنها
…
صوتاً له من وراء الغيب تسيار
كالنبع شق الصفا والترب فازدهرت
…
منه الخمائل، وهو الدهر ثرار
ذهبت للمسجد المعمور أسأله
…
وقد تدل على الأعيان آثار
رأيت فيه خلال القوم ماثلة
…
وللبناء من البانين أقدار
علوت في قمة التاريخ مأذنة
…
لها من الحق وتاريخ أحجار
تطوف حولي خطوب الدهر في صخب
…
وتزحم العين دولات وأقطار
أرى الوليد على ملك لسطوته
…
ذل الزمان، وفيه المجد خطّار
دانت لهيبته الأهوال واجتمعت
…
في همّة العُرب أقطار وأعصار
كأن ما بين سيحون وقرطبة
…
على الخريطة أفنار وأشبار
أحييت دمشق رميم الشعر في خلدي
…
لا غرو قد تبعث الأشعار أشعار
وقفت فيها أُسيم الطرف في فتن
…
من الجمال لديها الطرف يحتار
كلا فؤادي وطرفي فوق بهجتها
…
بين الحضيض وبين السفح طيار
تندى القلوب وتجوى من نضارتها
…
ورب أخضر منه تقدح النار
واها لقلبي إن يبد الجمال له
…
سطراً تبدت من الآلام أسفار
خاض المطامع، طماح المنى عرم
…
عليّ الشدائد والسراء ثوار.
وقاسيون على الجنات مطَّلع
…
بين الرياض وبين الشهب نظَّار
عاري المناكب بالشجراء متزر
…
ثبت الجنان على الأحداث، جبار
نسرٌ يرى اللوح منه هامة عطلا
…
لكنه ذنبَ الطاووس جرَّار
والصالحية حيا الله ساكنها
…
وحَيَّ في سعدها دار وديار
شجا فؤادي دروس في تدارسها
…
والدهر بالناس دولات وأدوار
يا دار هذا زمان السعد فابتسمي
…
لافاتَكِ السعد بعد اليوم يا دار:
وقفت بالغوطة الخضراء أنشُدها
…
قلباً أضلّته أفياء وأشجار
هفا كما أنطلق العصفور من قفص
…
دعته في الروض أطيار وأزهار
قالت: رأيت دمشقاً في مفاتنها
…
فكيف ينجو فؤاد فيك شعّار؟
فسل دمشق هناك الروض مزدهر
…
والجو مبتسم والحسن سحّار
قالت دمشق: وما عندي به خبر
…
سائِل بدُمَّر لا يخدعك إنكار
يا دمَّر الخير قلبي فيك مرتهن
…
لا تجحديه فما يجديك إصرار؛
ردي فؤادي ففي دهري له عِدة
…
وفي فؤادي لأرض العرب أوطار
فقد وردتك يوماً في حمى نفر
…
من الغطاريف فيهم يأمن الجار
كأنما كل حرٍ في عزيمته
…
نجم يضيء علي الأهوال سيار
وكان مجلسُنا أيْكاً على بردى
…
تردد الحسن فيه فهو محتار
نزجي الأحاديث من شكوى ومن ألم
…
ومن أمانٍ ذوت فيهن أعمار
نبني على أسُس التاريخ آتِيَنا
…
وللمعالي من التاريخ أسوار
وننشد المجد تدعوه عزائمُنا
…
والمجد مُصغِ إذا ناداه أحرار
إما أرى المجد قد أضفى أشعته
…
وأشرقت فيه دولات وأمصار
أبصرت في الظلمات الشمسَ طالعة
…
لمّا تراءى لنجم الصبح إسفار
مختارات من أدب الرافعي
بَايْ يَا بَابَا!
(في سنة 1904 تزوج المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وفي سنة 1905 ولدت له (وهيبة)، فلما صارت بنت سنتين جلس إليها يوماً يناغيها ويداعبها، وحب الرافعي لأولاده شيء أكثر من محبة الآباء، فمال عليها يقبلها، فآلمها، فقالت له الطفلة، وقال لها، فكانت هذه القصة في هذه القصيدة)
محمد سعيد العريان
طفلتي في العمرِ مَرَّتْ
…
من سِنيها اثْنَتَيْنِ
ليستا فيما غَدَتْ تَعْ
…
قِلُ إلا ضحكتينِ
جئتُها يوماً فالْقَيْ
…
تُ عليها قُبْلَتَيْنِ
وأمالتْ عُنُقاً آ
…
لَمْتُهُ من غَمْزَتينِ
فَمَضَتْ غَضْبَى وقالت:
…
(بَايْ يَا بَابَا بَايْ يَا بَابَا)
إعتاباً يا ابنْتَي أَمْ
…
ذاكِ من غيظِ الحبيبهْ؟
بدأتْ دنياكِ مُنْذُ الْ
…
يومِ والدنيا عجيبهْ. . .!
وغريب منك أن تدْ
…
ري معانيها الغريبه. . .
نجمةٌ أبْعَدُ ما تُلْ
…
قَى إذا لاحتْ قريبه
مِثلُها حُبُّك للبا
…
با ومعنى (بَايْ يا بابا)
نَغْمَةٌ كالبلبل أسْتَعْ
…
لَى علَى الورد فَغَنَّى
أتمنَّى أن تُعيدي
…
مِثلَها إذْ أتمنى
قد غدا يُذْهبُ في الدُّنْ
…
يَا الْعَنَا لفظُك عنَّا
وأرى الشعرَ فنوناً
…
صرتِ لي منهنّ فنَّا
حكمةٌ ما مِثلُها الْحِكْ
…
مةُ عندي (باي يا بابا)
لو أتتْني كلُّ بُشْرَى
…
مِلَْء أنحاءِ البلادِ
أو أتاني السعدُ يوماً
…
هاتفاً بأسمِى يُنادي
أو سَعَى المديحِ والتَّمْ
…
جِيدِ لي كلُّ العبادِ
أو شَدَا في كلِّ ارضٍ
…
بقريضي كلُّ شادَ
لم يكن أحْلَى بسمعي
…
كُلُّ ذا من (باي يا بابا)
سنة 1907
مصطفى صادق الرافعي
بين الجد والمجون
فجيعة في ساعة
وساعةٍ كالسِّوارِ حوْلَ يدِي
…
ضاعت فأوْهى ضَياعُها جَلَدِي
مازال يطْوي الزمانَ عقرَبُها
…
حتى طواها الزمانُ للأبدِ
ضيَّعها نجليَ الصغيرُ وكم
…
حمَّلني من خَسارةٍ ولدِي
قالوا: فداءٌ لَهُ فقلتُ لهم:
…
كلاهما فلذتان من كَبِدي
قالوا: التمس غيرَها. فقلتُ لهم:
…
وهَلْ معي ما يُقيمُ أَوَدِي؟
مَنْ مُسعِدي إنْ أكُن على سفرٍ؟
…
ومَنْ يفي لِيَ بالوعد إِنْ أَعِدِ؟
إِلْتَبَسَت أَيَّامي عَلَيَّ فَلَا
…
أَفْرقُ ما بين السبتِ والأحدِ
واختلَّ وقتيَ فإِنْ وعَدْتُكَ أَنْ
…
أَزُورَك اليومَ جئتُ بعدَ غَدِ
كم رُمْتَ عَدَّ الساعاتِ مُهتدياً
…
بالشمس لكنْ غَلِطْتُ في العددِ
روَّضْتُ نفسيَ على السُّؤَالِ وما
…
حَمَلت ذلَّ السؤالَ من أَحَدِ
جَهْلُ الفتى بالزمانِ أهونُ مِنْ
…
سُؤَالِ غَيْرِ المَهْيِمِنِ الصَّمَدِ
أمست يدي بعدها مُعَطَّلَةً
…
منظرُها في العيونِ كالرَّمَدِ
فَمَنْ لِعَيْنِي بحُسْنِ طَلْعَتَها؟
…
ومَنْ لأُذُني بصوتِها الغَرِدِ؟
كم آنَسَتْ وحشتي بِدَقَّتها
…
فالآنَ أصبَحْتُ شِبْهَ مُنْفرِدِ
لاغَرْوَ إِنْ أَقْضِ حَقَّ عِشْرَتِها
…
عِشْرَتُها ليَ طويلَةُ الأمَدِ
قد لازَمَتْ مِعْصَمِيَ سنين إلى
…
أَنْ أَصبحت قِطْعَةً من الجسدِ
ناطقةً بالصواب أن سُئِلَتْ
…
إِنْ قُلْتَ كَمْ لَمْ تَنْقُصْ وَلم تزِدِ
على الصراطِ السّوِيِّ سائرةٌ
…
إنْ حادت الشمسُ عنْهُ لم تَحِدِ
أَرْنو إليها إذا مَشَيْتُ وإنْ
…
جَلَسْتً في مجلسٍ كَشَفْتُ يَدِي
ألم تُشَاهِدْ ذا نعمةٍ حَدَثَتْ
…
إذا مَشَى في ثيابهِ الْجُدُدِ؟
صَبَرْت صَبْرَ الكرامِ آمُلُ أَنْ
…
تَعُود لي ثانياً فَلَمْ تَعُدِ
فلُذْتُ بالأولياءِ عَلَّ لهم
…
سِرّاً وإن كنتُ غير مُعْتقِدِ
مَنْ ليَ بالعرَّافينَ أسألُهم
…
عنها وبالنفَّاثات في العًقدِ
أسأتُ بالأصدقاءِ كًلِّهِمِ
…
ظَنِّي ففتَّشْتُهُمْ فلم أجِدِ
شَتَّان بينَي وبينَ لاقِطِها
…
بات قرِيراً وبتُّ في كَمَدِ
ليت الذي طُوِّقت بها يَدُهُ
…
في جيدِهِ حَبْلٌ شُدَّ مِنْ مَسَدِ
محمود غنيم
القصص
قصة الحب والحياة
جرازييلاَّ
كان لامرتين في الثامنة عشرة من عمره عندما لمسه الحب بأنامله الناعمة، وطاف به الشعر في آفاق الوحي والإلهام. وكانت (جرازييلا) الفتاة الأولى التي أسمعته نغمات الغرام، وأسكرت روحه بتلك الخمرة العلوية التي تسكبها الآلهة في أرواح الشعراء والمفكرين
فجرازييلا هي التي غرست في فؤاد (لامرتين) زهرة الشوق والحنين. وهي التي جعلته ينطق بأرق ما في الحياة من صبابة وتذكار، وألم ودموع!
لقد أحب دانتي بياتريس فكتب عنها الصحائف والأوراق وعشق جميل بثينة فصعد لأجلها التأوهات والزفرات. . . ولكن لامرتين في حبه لجرازييلا أرانا شيئاً خفيا لم تقع على مثله العيون
فالذي يقرأ ما كتبه لامرتين عن جرازييلا يعانق تمثال الحب ويتفهم معاني الحياة. . . لأن هناك أقوالاً إذا لم تبلل العيون بالدموع فهي تفعم النفوس بغمائم الحزن والكابة، ومرارة الشوق والتذكار
إن لامرتين عرف أن يسعع تلك الفتاة الساذجة البريئة تغاريد الحياة المعنوية وحفيف أجنحة الهوى. . . وأن يجعلها ترى من وراء ضباب أحلامها شجرة الحب المتعالية في الفضاء، ونهر الغرام الجاري بين الأرض والسماء
والذي يصغي إلى غمغمة تلك التعابير الشعرية الحنونة التي سالت على براعة لامرتين، ترفعه العاطفة إلى جنة سحرية فيرى مواكب الأرواح هائمة في رحاب النعيم، وغواني الشعر راقصة على أنات الرباب في ضوء القمر!!
شغف (لامرتين) بالطبيعة منذ صباه وغذى شعوره وإحساسه برقة الحب والغرام، وعناصر الحسن والجمال. . . فجاءت كتاباته صورة حية للمثل الأعلى الذي ينشده أصحاب التأمل وأبناء الخيال
ثم أحب التجول والاغتراب ليتغلغل في صدر الطبيعة وليجني في حناياها تلك الزهرة
القدسية الخالبة التي تملأ القلب عبيراً والنفس نشوة وكمالاً. . . فارتحل إلى إيطاليا بلاد الشمس المشرقة والماء المترقرق، والذكريات الزاخرة بالحياة والحرارة
وجاب أنحاءها فتعرف إلى آثار التاريخ الروماني القديم الذي لم يمح الدهر سطراً واحداً من ذكرياته
وفي (روما) المدينة الخالدة استطاع الشاعر أن يدرس عصر النهضة درساً وافياً دقيقاً فكان يذهب في الصباح إلى نهر (التيبر) المنساب فوق رفات الدهور والأجيال، فيجلس على ضفافه ويتطلع من ثنايا مائه إلى آماله وأمانيه التي يخبئها المستقبل. وعندما يخيم الظلام يعود إلى مخدعه فينام راضياً مطمئناً
وهنا تشوق لامرتين إلى سماء (نابولي) الزرقاء ليشاهد فيها قبر (فرجيل) الذي كان يجد لذة في ترديد أشعاره فذهب إليها. وفي هذه الأثناء التقى الشاعر بأحد أصدقائه القدماء فعاش معه عيشة ألفة ودعة
نابولي عند الإيطاليين جنة سحرية فاتنة سكنتها أرواح الشعراء والأنبياء. . . هي غابة ابتدعتها عبقرية الله لتبقى مكمناً للفن والفكر والموسيقى، ومأوى لكل من يريد أن يرسم أفكاره التواقة إلى المثل الأعلى، وأحلامه الشاردة وراء أشباح الموت والحياة!!
تأثر (لامرتين) لهذه المناظر وشعر بجاذب عاطفي فلهب يدفعه إلى تفهم أسرارها. فإن مشاهد الصيادين يتفيأون في ظلال مراكبهم الصغيرة. . . والعاشقين يتشاكون الهوى تحت ألوية الدجى. . . والشمس المودعة تلقي نظرتها الحزينة على قمم الجبال. إن جميع هذه المناظر كانت تحرك إحساسه فينظمه شعراً لطيفاً عذباً كما تنظم القيثارة أنغامها وتنهداتها!
وبعد أن مرت بالصديقين أيام قليلة أحب لامرتين تلك الحياة الشعرية التي يحياها الصيادون في مراكبهم تحت السماء الصافية، وفوق متون الأمواج، فتمنى كثيراً لو أتيح له أن يحيا تلك الحياة.
وشاءت الأقدار أن تحقق أمنية الشاعر، وأن يلتقي بفتاة طاهرة تلمع في صدرها محاسن الحب والعاطفة، فقاده حسن الطالع إلى التعرف بصياد شيخ في السبعين من عمره كان ينتصب دائماً قرب زورقه انتصاب الطيف بين الموت والحياة!!
هنا اكتمل الحلم وتحقق الأمل!!
كان ذلك في ليلة من ليالي الصيف القمراء. . . بدا البحر فيها صافيا كمرآة العذراء في ساعة عرسها. . . أما السماء فقد تكللت بتاج من الأنوار لتضيء العيون وتهدي القلوب. . وفي وسط هذه التأثرات مرت بالشاعر العبقري أحلام موردة تركت في نفسه أثراً لا يمحوه الدهر
ثم تلت هذه الليلة ليال جميلة في زورق ذلك الصياد الشيخ!!
مات الصيف فأسرعت ربة الحقل بالرحيل لتستريح في وادي الذكرى. ثم جاء الخريف فتناثرت أوراق الأشجار واعتصب جبين الأفق بغيمة من تلك الغيوم السوداء المنذرة بخمود جمرة الأفراح. . . وفي ليلةٍ باردة أتفق الصديقان مع الصياد على سياحة في عرض البحر فركب الثلاثة الزورق وساروا يداعبون الموج بمجاديفهم الخشبية كأنهم في حلمٍ من الأحلام المزهزة. ولم تكد تمضي على ذلك ساعة حتى ثارت الأمواج منبئة بالكارثة الرهيبة. ثم أطفأت النجوم مصابيحها فاشتد حلك الظلام اشتداداً مخيفاً هو المصيبة العظمى. إلا أن الشيخ المسكين لم يستسلم إلى الهلكة فصاح بهم أن يغالبوا المنية حتى تلوي من أمامهم خاسرة مضعضعة.
وظلوا عالقين بين أشداق الموت ساعتين كاملتين حتى قذفتهم الأمواج الصاخبة إلى جزيرة تدعى (إبسكيا) كان بيت الصياد مبنياً فيها. . . وفي ذلك البيت الحقير كان يعيش الشيخ مع زوجه العجوز وحفيدته الحسناء غرازيلاّ.
لم تكن (غرازيلا) كسائر الفتيات. ولم تصنع مثلهن من طين وماء. . . لأن الله حباها بجمال رائع فتان. . . فعيناها سرقتا سوادهما من ظلام الليل، وجيدها التالع استعاد سحره من عرف الزهور البيضاء، أما قوامه الخالب فقد سكبته الطبيعة من ضياء الفجر لتبهر به عقل كل من يراها ويتأمل في معاني حسنها وجمالها
نشأت بين الصديقين والعائلة القروية ألفة لم تلبث أن تحولت إلى محبة سماوية، فاصبح الفريقان لا يحتملان ألم الفراق، وقد كونت هذا التقارب عاطفة غريبة بين الفتاة والشاعر، فإنها أحبته عندما ألقت عليه أول نظرة. وبعد أن درس (لامرتين) أخلاق العائلة وتبين مشاربها وأفكارها شعر بجاذب روحي مجهول يحبب إليه كل فرد من أفرادها.
وأحب أن يقرأ لهم في إحدى الليالي رواية (بول وفرجيني) ففعل. وفيما هو يقص عليهم
تلك الفاجعة المؤلمة التي صورها كاتب فرنسا الكبير (برنادين دي سان بيير) أحس بدمعة حرى تتسايل على يده، فنظر فإذا غرازيلا تبكي جاثية عند قدميه، وإذا الشيخ وزوجه مطرقان كأن داهية دهياء حلت في تلك الساعة!
فكانت هذه الكآبة دليلا على رقة عواطفهم.
في إحدى الليالي تسلم رفيق الشاعر كتاباً من أمه تسأله أن يأتي إلى فرنسا لحضور زفاف شقيقته فرافقه لامرتين إلى نابولي، ثم ودعه وعاد إلى الفندق ليصرف فيه ليلته. غير أن لامرتين لم يكن يحس بالرابطة التي توثقه بصديقه إلا بعد أن فارقه. وعندما أقبل الصباح كان يقاسي آلام الشوق على سريره
وعلمت (غرازيلا) بمرض لامرتين فأسرعت إلى (نابولي) مع أخيها الصغير. ولم تكد تدخل عليه وتشاهد نحوله واصفراره حتى تفجرت بالدموع وجداً ولوعة. وبعد أن جلست قرب فراشه نزعت من جيدها أيقونة مقدسة وعلقتها فوق رأسه لتقيه من الموت، ثم خرجت متأثرة باكية تضرع إلى الله إلا يفجعها فيه!!
مضى على هذا الحادث أسبوع كامل شفي في أثنائه لامرتين من آلامه فعاد إلى منزل الشيخ. ولم يكد يطأ عتبة ذلك المنزل حتى أقبل أصحابه يعربون له عن تعلقهم ومحبتهم وإعزازهم. وكان في زيارتهم فتى في العشرين من عمره مشوه البنية، ولكنه طيب الأخلاق شأن أمثاله القرويين الذين لم تفسد المدنية عواطفهم. . . وسأل الشاعر عن أمره فقيل إنه ابن خال لغرازيلا، وإنه سوف يكون زوجها عندما تسمح الظروف. هنا شعر بمرارة خرساء تمزق فؤاده!
مالت الشمس نحو المغيب تاركة قبلة جرى على وهاد تلك الجزيرة الهادئة، وبمغيبها غمرت روح الشاعر سكينة عميقة ممزوجة بالأسى الساحق. . . وما أن صمم على ترك هذه الأسرة لتنعم بأحلامها وتأملاتها حتى وقفت غرازيلا والعجوز في سبيله قائلتين إنهما لا تسمحان له بمغادرة المنزل مادامت العائلة تعتبره فرداً منها. وظلتا تتوسلان إليه حتى رضى أخيراً.
وتسلل الحزن إلى روح الشاعر فأوى إلى حجرته ليذرف فيها دموعه. وكان عندما تهدأ ثورة عاطفته يلجأ إلى مذكراته فيبثها حنينه وشكواه!!
مرت على هذه الحادثة ثلاثة أشهر فعاد إلى الشاعر انبساطه الماضي لأنه استعاض عن صديقه المخلص بغرازيلا الحبيبة التي كان يقضي معها أيامه ولياليه على شواطئ تلك الجزيرة الشعرية الساحرة. وهنا شاءت الحياة أن تضرم لوعة الشاعر. . . ففي ذات ليلة عاد إلى المنزل فلحظ انقباضاً مرتسما على وجهي العجوزين أما غرازيلا فكانت عيناها مملوءتين بالدموع
تساءل الشاعر عن سبب انقباضهم وحيرتهم فقال الصياد: إن خال غرازيلا جاء طالباً يدها إلى ابنه، ولما كان في هذا العقد سعادة للفتاة فقد أجابه الشيخ بالارتياح، أما غرازيلا فلم تنطق بغير دموعها السحاحة
عند ذاك أحس لامرتين بتعلقه بغرازيلا، فأهمه كثيراً أن تخرج من ذلك المنزل، وأن لا يراها فيما بعد صادحة بين جنباته وزواياه، ثم دخل مخدعه يائساً وانطرح كالمحموم لشدة تأثره. . . وعبثاً حاول الرقاد.
وكانت تلك الليلة باردة جداً، والبرق شديد اللمعان في الفضاء، والريح تئن كثكلى ترثي وحيدها، والسيول تتساقط بروعة فتلقي الرعب في القلوب. . كان باب الحجرة يضطرب كلما هبت العاصفة. وقد خيل إلى الشاعر أنه يسمع أنيناً جارحاً؛ وأن فماً يردد أسمه بلوعة وأسى!
وكما تبرز الدمعة من العين الباكية ثم تتلألأ على الوجه، برز الفجر من أحشاء تلك الليلة المخيفة، فأنار سفوح الجزيرة وأغوارها بضوئه الضعيف. في تلك الساعة استيقظ لامرتين من رقاده. ولم يكد يسمع صراخ العجوزين والأخوين الصغيرين حتى سُمِّرَ في مكانه. . . ذلك لأن غرازيلا فرت إلى مكان مجهول. وهاج الحزن في صدر الشيخ جميع الآمه فدنا من لامرتين وبيده ورقة مبللة كانت ملقاة على فراش غرازيلا ورجا إلى الشاعر أن يقرأها له فإذا هي تحتوي على هذه الكلمات المتقطعة:
(لقد احتملت كثيراً حتى أصبحت لا أقوى على الاحتمال أقبلكم قبلة الوداع. . . سامحوني. . . أفضل أن أكون راهبة متجردة من أحلامها وأمانيها على أن أعيش عيشة الذل مع الرجل الذي لم تهبني السماء إياه. . . ردوا الخاتم إلى ابن خالي. . . سأصلي لألفونس ولأخوي الحبيبين. . .)
ولم يصل لامرتين إلى النهاية حتى ارتعشت يده وهوت الورقة إلى الأرض. وعندما انحنى ليلتقطها رأى عند عتبة الباب زهرة حمراء كانت تحملها غرازيلا دائماً، ووجد بجانبها تلك الأيقونة التي تركتها فوق رأسه يوم كان مريضاً. هنا علم أن الصوت الذي كان يناجيه في عتمة الليل هو صوت غرازيلا. . . فمضى شاكياً!
قضى الأمر وفرت غرازيلا لتدخل إلى الدير، ولكن فرارها راش سهماً ماضياً في قلب لامرتين. فخرج منتحباً بين الأودية والوهاد.
وعندما مالت الشمس نحو المغيب اهتدى إليها في أحد الأكواخ. وما أن رآها حتى جثا بجانبها ووضع يديها بين يديه ثم أدناها من فمه ليدفئهما بحرارة أنفاسه. وبصوت متقطع خاطبها قائلا: لماذا اختبأت هنا؟
فاعترفت غرازيلا له أنهم أرادوا أن يجمعوها بغير الرجل الذي اختارته روحها. . ثم قالت أنها لم تهب قلبها لغيره في العالم
وأحنى لامرتين رأسه ليشكو لها ما يكابده من يأس وحرقة فقاطعته قائلة:
(لقد صرفت ليلة أمس باكية عند باب مخدعك وعندما خرجت قلت في نفسي إني لن أراك أبداً لأني سأصير راهبة تنقطع إلى عبادة الله على ضوء الشموع، وفي ظلال انفرادها الطويل الملول. . ولكني قرعت باب الدير فوجدته موصداً وهكذا رجعت إلى هذا المأوى لأقضي فيه ليلتي. ثم أشعلت المصباح أمام صورة العذراء وخاطبتها قائلة: أيتها القديسة إني أهب حياتي بما فيها من صبوة وإغراء لخالقي. وإذا جاء غداً ذلك الحبيب فقولي له غني أحببته بكل ميولي وعواطفي، وإني هجرت العالم لأجله. . قولي إني ضحيت بأعز شيء لدي، هاهو ذا شعري الذي كان يحبه فإني أقصه. خذيه أيتها العذراء وأبقيه معك ليظل آمناً بين يديك.
وهنا نزعت منديلها من رأسها فبدت كغصن عرى من أوراقه!!
اختبأ الليل بين خرائب الأبدية ثم بزغ الفجر معلناً قدوم الشمس، فقدم الصياد مع عائلته ليتفقدوا غرازيلا. وعندما شاهدوا تلك الكآبة التي ارتسمت على محياها الناضر ركعوا قربها ملتاعين ونار الحزن تأكل أفئدتهم
عاد الجميع صامتين إلى الجزيرة. وبعد أن صعدوا صلواتهم لتختمر في الفضاء الوسيع
ارتموا على مضاجعهم تحفزهم هيبة الأسى. وتظللهم أجنحة اليأس والانفعال
وسارت الأيام في طريقها. . . ففي ذات ليلة من ليالي الربيع الجميلة كان الشاعر نائماً في حجرته فسمع قرعاً قوياً على الباب ففتحه فإذا صديقه القديم يدخل عليه قائلاً:
(أتيت لأصطحبك حالاً إلى فرنسا لأن والدتك تريد أن تراك قبل موتها. فإذا لم تذهب تركت في قلبها غصة أليمة ترافقها إلى الأبدية)
أثرت هذه الكلمات في قلب (لامرتين) فعاوده دفعة واحدة تذكار الماضي الذي قضاه في حضن أمه. ولما لم يحتمل جسده المكدود قوة الصدمة وقع مغمى عليه. وعندما ثاب إليه روعه وعد صديقه بالرحيل.
ثم دخل حجرته ورتب ثيابه، وبعد أن أخذ ورقة وأفرغ عليها جميع ما تضمره روحه العظيمة، أقسم لغرازيلا أنه سيعود إليها عندما تبرأ والدته العزيزة من مرضها، وأراد أن يودع غرازيالا قبل رحيله فمنعه صديقه. غير أن الفتاة استيقظت حينذاك فهبت مذعورة. وعندما علمت حقيقة الأمر وقعت فاقدة الرشد
تسرب داء الغرام إلى قلب (غرازيالا) فاصفرت زهرة حياتها اصفرار الوردة عندما يمسها الخريف بيده القاسية، أما لامرتين فكان يهتف باسمها في الحلم واليقظة!
ولم تشأ غرازيالا أن تفارق الحياة دون أن تبثه أسرار فؤادها ولاعج غرامها فأرسلت إليه هذه الرسالة:
حبيبي الفونس
يقول لي الطبيب إني سأترك الحياة بعد حين، فلذلك أريد أن أودعك الوداع الأخير! آه يا الفونس، حبذا لو كنت قريبا مني الآن، إذا لبقيت حية. . ولكن هي إرادة الله أيها الحبيب
إن جسدي سيضمه التراب ويبلى سريعا أما روحي فستظل مرفرفة فوق رأسك إلى الأبد. إني أترك لك - كتذكار - لما بيننا من عهود - شعري الذي كنت تحبه وتداعبه بأناملك الجميلة فاحفظه لأن رؤيته تعيد إليك ذكرى تلك الليالي التي صرفناها معاً في هذه الجزيرة الحبيبة التي تحن مثلي إليك
(غرازيالاّ)
منذ ذلك اليوم انطبعت على محيا (لامرتين) كآبة خرساء وقطنت عينيه اللطيفتين أشباح
اليأس والحنين. وكان كلما شاهد جنازة فتاة يخونه الصبر والتجلد فيرتمي على الأرض باكياً منتحباً! أما روحه فقد اتشحت بوشاح الحزن والكآبة حتى تفصدت بهذه القصة الرائعة المؤثرة التي فتحت لمؤلفها الشاعر العبقري مغالق الخلود
(البرازيل)
يوسف البعيني
البريد الأدبي
الشيخ منصور المنوفي لم يكن شيخا للأزهر
ذكرت في العدد (209) من مجلة الرسالة الغراء ارتيابي فيما نقله الأستاذ محمد عبد الله عنان عن رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي من أن الشيخ منصوراً المنوفي الضرير كان شيخاً للجامع الأزهر وقت قدومه في رحلته إلى مصر. وبنيت هذه الارتياب على أمرين: أولهما اضطراب ما ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في ذلك، وثانيهما مخالفته لما جاء في الكتب التي عنيت بذكر شيوخ الأزهر وترتيب ولايتهم له. من تاريخ الجبرتي والخطط التوفيقية وكنز الجوهر في تاريخ الأزهر، وقد خرجت من ذلك بترجيح هذه المصادر على هذا المصدر المضطرب.
ولكن هذا الترجيح الذي ذهبت إليه وهو المتعين عندي في هذه المسالة لم يرض به الأستاذ محمد عبد الله عنان لوجهين: أولهما أن القول بأن الشيخ منصوراً المنوف كان شيخاً للأزهر في ذلك الوقت قول معاصر وشاهد عيان عرف الشيخ وحادثه بنفسه، ولا يصح أن يسبغ عليه هذه الصفة عفواً، وثانيهما أن الشيخ النابلسي يقدم إلينا بياناً صحيحاً عن أكابر الحكام والمشايخ في مصر وقت مقدمه، ومن الصعب أن نعتقد أنه يخطئ في تعرف شيخ الأزهر، وهو من الشخصيات البارزة التي يهمه أن يتصل بها، وقد رأى في التوفيق بين هذا المصدر وتلك المصادر السابقة أنه من الممكن أن الشيخ المنوفي لم يمكث في ذلك سوى أشهر أو أسابيع قليلة، وأن يكون هذا هو السبب في إغفال تلك المصادر له في ثبت مشايخ الأزهر
ولا شك أن من يرجع إلى ما نقلته في ذلك من رحلة الشيخ النابلسي يرى أنه ذكر أنه قابل في صباح يوم الأحد 28 من شهر ربيع الثاني الشيخ منصوراً المنوفي شيخ الجامع الأزهر، ثم ذكر أنه قابل في اليوم الثاني (يوم الاثنين 29 من شهر ربيع الثاني) الشيخ أحمد المرحومي شيخ الأزهر، فإما أن يكون للأزهر في ذلك الوقت شيخان وهو غير مقبول، وإما أن الشيخ منصور المنوفي قد عزل في اليوم الأول وولى الشيخ أحمد المرحومي مكانه في اليوم الثاني وهو غير مقبول أيضاً. لأنه لو حدث مثل هذا في ذينك اليومين لأشار إليه الشيخ النابلسي في رحلته.
على أن الشيخ النابلسي يعود بعد هذا فيذكر أنه قابل الشيخ الأول في يوم 10 من جمادي الثاني. وقابل الشيخ الثاني في يوم 25 من جمادي الثاني. وهو في ذلك أيضاً يصف كلا منهما بما وصفه به في الأول من أنه شيخ الجامع الازهر، والظاهر من هذا أنه يجري فيه على وصف ثابت لهما في هذه المدة التي كانت بين المقابلتين، فلو أخذنا كلامه في ذلك على حقيقته لاجتمع للأزهر في ذلك الوقت شيخان معاً، وهو ما لم تجر العادة به في الجامع الأزهر، ولا في التقاليد الإسلامية.
ولاشك أنه لا يمكن الأخذ بقول الشيخ النابلسي في ذلك مع هذا الاضطراب الذي نجده فيه، ولعل كلا من ذينك الشيخين كان شيخ رواق من أروقة الازهر، فالتبس من أجل هذا على الشيخ النابلسي ذلك الأمر، وما هو إلا بشر يصيب ويخطئ والعصمة لله وحده.
عبد المتعال الصعيدي
تعديل جديد في عقوبات جرائم النشر
يصعب على الذهن الحر أن يسيغ أي حجر على حرية الرأي أو أي اتجاه إلى التشديد في المؤاخذة على زلات القلم؛ وقد كانت النصوص الخاصة بجرائم النشر في مصر موضع تعديلات كثيرة في الأعوام الأخيرة بسبب التطورات السياسية والدستورية المختلفة التي وقعت في هذه الفترة؛ وأخيراً رأت السلطات المختصة أن تجري تعديلا جديداً في هذه النصوص، وأن تشدد العقوبة في بعض المواطن قمعاً لنوع سيئ من القذف هو التهجم على الأعراض والكرامات الشخصية؛ وقد كان القانون يعاقب بالحبس أو الغرامة على أمثال هذه الكتابات القاذفة، وكان اتجاه القضاء في الغالب إلى التخفيف والاكتفاء بعقوبة الغرامة، فنشاً عن ذلك أن ذاع هذا الأسلوب المستهجن من الكتابة في الآونة الأخيرة ذيوعاً مثيراً، فرأى الشارع في التعديل الجديد وجوب الحكم بالحبس على من يدينه القضاء في أمثال هذه الكتابات
والذي يهم الكاتب أن يسجل من الناحية الأدبية هو أن حرية القلم والرأي لا يمكن أن تتأثر بتشديد النصوص الجنائية في مثل هذه المواطن، فالقلم يجب أن يتحلى إلى جانب الحرية الرأي بخلة الأدب والتعفف عن مس الكرامات والأعراض الشخصي؛ وما يبعث على
الأسف هو أن يضطر الشارع إلى الالتجاء إلى النصوص في تحقيق هذا المثل الذي يجب أن يحققه القلم لنفسه دون إرغام؛ وقد كان خيراً لو استطاع الكتاب أنفسهم أن يضعوا لأنفسهم دستورهم الخاص. وأن تحدد حدود الجدل والنقد بسائر صنوفه بحدود متينة من النزاهة والعفة والترفع عن لغو القول؛ والقانون الإنكليزي يعاقب السب والقذف الشخصيين بعقوبات شديدة رادعة، ولكن يندر أن تتورط صحيفة إنكليزية في مثل هذا الجرم؛ والصحافة الإنكليزية تضرب أرفع الأمثال لأدب الحوار والجدل وعفة النقد والمناقشة؛ فماذا يضيرنا أن نهتدي نحن في كتاباتنا بهذه المبادئ السامية؟
وثيقة دبلوماسية فرعونية
أضحت مواثيق الاعتداء من أهم عناصر السياسة الدولية الحاضرة؛ ولكن هنالك ما يدل على أن هذه المواثيق التي استحدثتها السياسة الدولية بعد الحرب، ليست من ابتكار الدبلوماسية الحديثة وحدها، ففي تراث المصريين القدماء ما يدل على أنهم عرفوا مواثيق الاعتداء قبل آلاف الأعوام؛ وهنالك وثيقة مدهشة من هذا النوع عثر عليها الأستاذ دنكان العلامة الأثري الأمريكي ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف عام، وتعتبر بحق أقدم وثيقة دبلوماسية وصلت إلينا
وهذه الوثيقة عبارة عن نقش على صفحة فضية يحتوي على نصوص ميثاق بعدم الاعتداء عقد بين الملك رمسيس الثاني وبين ملك الحيثيين خيثاسار، وذلك في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ومن الغريب أن هذه النصوص لا تبعد كثيراً عما تستعمله الدبلوماسية في عصرنا عدا بضع فروق وصيغ يسيرة؛ فعنوان الوثيقة مثلاً هو:(ميثاق سلام وأخوة دائمة)، ويلي ذلك نصوص الميثاق وهي مدمجة في ثماني عشرة مادة هذه أهمها:(يتعهد الحيثيون والمصريون كل قبل الآخران أن يلجئوا في تسوية جميع الخلافات التي تنشأ بين الدولتين إلى الوسائل السلمية وألا يلجئوا في تسويتها إلى القوة والعنف). فأي فرق بين هذا النص وبين النصوص المماثلة في مواثيق عدم الاعتداء المعاصرة؟ أما ضمان التنفيذ في هذا الميثاق القديم. فقد رجع فيه إلى ما يتفق وروح العصر الذي وضع فيه؛ ومن ثم فقد نص فيه على ما يأتي: (إذا ارتكب أحد الفريقين المتعاقدين ما يخالف هذا الميثاق الأبدي، فقد حلت عليه لعنة جميع الآلهة المصرية والآلهة الحيثية).
ولم يقل لنا التاريخ القديم كم دام مفعول هذا الميثاق بين الفريقين المتعاقدين؛ ولكن الأستاذ دنكان يؤكد لنا أنه قد دام بلا ريب اكثر مما دام مفعول ميثاق تحريم الحرب الأمريكي بين الدول، أو ميثاق لوكارنو بين ألمانيا والحلفاء السابقين
وإن هذا الاكتشاف لأقدم وثيقة دبلوماسية يضيف آية جديدة إلى تراث الفراعنة. وما يزال هذا التراث كل يوم يتكشف عن عجائب وحقائق جديدة تدلل على ما وصلت إليه الحضارة الفرعونية في النضج وروعة الابتكار
قرآن. . .!
يتلو القراء في النقلة (138) في هذا لجزء من (الرسالة) قرآن ذاك الأعرابي الجلف أو القرآن الأعرابي أو تلك الأفكوهة ضاحكين. وإني أضيف في هذا الموطن أن هناك قرآناً إلحادياً مجوسياً دسه الداس بل الدساس في سورة (النجم): (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى - تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتضى - ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذن قسمة ضيزى) وهناك قرآن فارسي شعوبي بثه راويه الخبيث المتحذلق الغبي في القرن الثاني أو الثالث مرفوعاً معنعنا وحشره في سورة (العصر): (والعصر إن الإنسان لفي خسر - وإنه فيه آخر الدهر - إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وهناك غير ذلك، وعند الطيالسي والترمذي ما عندهما. وأنى يكون ما كذبوا؟ كيف وهناك ثلاثة وأربعون كاتباً من كتاب الوحي، وقد جمع القرآن قبل أن أظلمت بفقد رسول الله هذه الدنيا، وقد كتبت النسخ غير المعدودة، الكثير في زمن النبي (صلوات الله عليه) وصاحبيه وقد ملأت المصاحف في وقت الفاروق بلاد الإسلام كلها جمعاء (وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن وما بين ذلك - فلم يكن أقل) كما قال ابن حزم وما مصحف عثمان إلا المصحف النبوي البكري العمري، مازاد وما نقص. وقد عرف ذو النورين ألحان العرب - ولسان الكتاب المضري - والعربية لغات، والعرب أمم، وقد انتشروا في الأرض، ورأى الاحتفاظ بإملاء القرآن، فكتبت تلك المصاحف المسماة بالعثمانية. وأعجب العجب وأكذب الكذب هذه الرواية:(لما فُرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها) وقد حار أبو بكر السجستاني صاحب (كتاب
المصاحف) في هذا الكلام - وقد رواه - فقال: (هذا عندي يعني بلغتها وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعاً لما استجاز أن يبعث إلى قوم يقرءونه) ثم سطر السجستاني بعد قليل: (. . عن الزبير أبي خالد قال: قلت لأبان ابن عثمان: كيف صارت (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) ما بين يديها وما خلفها رفع وهي نصب؛ قال من قبل الكتاب الخ) فهل كان الزبير أبو خالد يعرف هذا الاصطلاح المولد في فن النحو أعني الرفع والنصب؛ وهل كان نحو أو شيء منه في أيام أحد من الصحابة أو بعدهم بمدة طويلة؟ وهل هذا لحن أو خطأ وقد بينه سيبويه في كتابه وأوضحه علم العربية؟ وكيف لم يستفد السجستاني وأمثاله من (الكتاب) وقد جاءوا من بعد صاحبه وقرءوا علم الخليل وأماليه فيه؟ وهل بنى العلماء (علم العربية) إلا على قرآن العربية؟ وكيف اجترأ السجستاني أن يروي عن سعيد بن جبير أن مثل (فأصدق وأكن من الصالحين) لحن وهو في القرآن وهو في كلام العرب وشعرهم؟
دعني فاذهب جانباً
…
يوماً وأكفف جانباً
وقد كشف الخليل (قاعدته) أيما كشف، وبيانه في (الكتاب).
إني لأقول هازئاً: الحق أن في الكتاب لحناً - كما افترى المفترون على عثمان وكما قولوه - لكن العرب ما أقامته بألسنتها ولن تقيمه أبداً، وما أقتدر في هذا الدهر على إقامته وإصلاحه إلا أمثال رجال التضليل (أي مبشري البروتستانت) وهاشم العربي (بل الأعجمي) في (تذييله) على (مقالة في الإسلام) معلمين الخليل وسيبويه والكسائي والفراء ما جهلوه، وهاذين العرب الصرحاء الأقحاح إلى الذي لم يعرفوه. وهو الحياء فإذا فارق المرء فارتقب كل عجيبة.
وبعد فإن كان كتاب كل أمة أو ملة في تبديل وتحريف وفيه زيادة ونقصان؛ وفيه الخطأ والخطل، وكان كاتبه غير صاحبه ف (ذلك الكتاب لا ريب فيه)(إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون)
النشاشيبي
الكتب
تاريخ بئر السبع وقبائلها
تأليف عارف العارف قائمقام بئر السبع
تعد منطقة بئر السبع أكبر مديرية في أرض فلسطين لأنها تشتمل على نصف مساحة أراضيها، وهي بلاد شاسعة الجوانب بعيدة الأطراف، وليس لها حدود طبيعية تفصلها عن شبه جزيرة طور سينا وبلاد شرق الأردن
وتقع هذه الناحية على طريق القوافل العربية، مثل قبائل سبأ ومعين وحضرموت وثمود التي كانت تأتي إلى أسواق كنعان وإسرائيل وأرام بعرض البضائع المختلفة، كما كانت طريق الجيوش البابلية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية الزاحفة لفتح الديار المصرية، وكما كانت طريق الجيوش المصرية المتوغلة منذ زمن بعيد في الديار الشامية والعراقية الشمالية.
يفتتح المؤلف كتابه (تاريخ بئر السبع وقبائلها) بذكر الروايات التي وردت في الكتب القديمة عن بئر السبع وعن الشأن الخطير الذي كان لتلك الأرجاء في عهد بني إسرائيل الأول أي من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس ق. م. أي من عهد وفاة موسى إلى زمن بختنصر ملك بابل.
وقد أعتمد المؤلف في هذا البحث على ما ورد في أسفار الكتاب المقدس وحده مع أننا نعتقد أنه لو راجع أيضاً الروايات القليلة المبعثرة في كتب المشنا والتلمود وذلك أمر سهل عليه لأنه يتقن العبرية - لوقف فيهما على أخبار مهمة عن بني إسرائيل والعرب في تلك المنطقة من جنوب فلسطين.
ونلاحظ أيضاً أنه كان حريا بالمؤلف أن يذكر أسم هذه المنطقة في الآداب العبرية القديمة، فقد سميت في التوراة باسم نجب أي الجنوب، وعرفت في الطور الثاني من حياة بني إسرائيل بفلسطين أي بعد رجوعهم من بابل باسم الداروم، أي الجنوب أيضاً وعرفها العرب المسلمون بهذا الاسم أيضاً في عصر البعثة الإسلامية وزمن الخلفاء الراشدين، فقد ورد في سيرة ابن هشام أن أسامة بن زيد بن حارثة أرسل على رأس جيش صغير إلى الشام وأمر بأن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين
ولب موضوع الكتاب قد تضمنه البابان الثالث والرابع، لأن المؤلف يبحث فيهما عن الأحاديث والأخبار المتعلقة برجال القبائل في بئر السبع، ويتكلم عن الحروب التي وقعت بينهم وبين القبائل القريبة منهم والنائية عنهم وقد أبان المؤلف في هذين البابين عن مقدرة فائقة على تنظيم المعلومات الغزيرة التي جمعها في مثابرة ودأب من أفراد القبائل الضاربة هناك، ففتح لنا بذلك عالماً عظيم الشأن كنا نجهله مع قربنا منه واتصالنا به، وإذا كان المستشرقون قد جاءوا إلينا بأخبار عن حياة القبائل في بئر السبع فإن كل ما ذكره منها لا يكاد يذكر بالنسبة إلى ذلك الفيض الدافق من المعلومات التي قدمها عارف بك العارف، وذلك يرجع إلى أنه من أهل البلاد وحاكم على البدو
ويجد القارئ في هذين البابين كثيراً عما ورد في المصادر العربية عن أيام العرب في الجأهلية، كما يجد فيهما صورة مصغرة لحياة بني إسرائيل الفطرية في عصر القضاة قبل أن يأخذوا نصيبهم من الحضارة في أرض كنعان.
ونود أن نلاحظ أن كثيراً مما ذكره رجال البدو لمؤلفنا بعيد عن الحقيقة التاريخية وليس إلا محض خيال لأنهم لم يدونوا شيئاً ولم يكتبوا حوادثهم ولا قيدوا أنسابهم وإنما هي روايات ينسجها خيالهم وفقاً لمصلحتهم وتبعاً لأطماعهم
فما يقولونه من أن أغلبهم أو أن جميعهم وعلى بكرة أبيهم إنما نزحوا إلى هذه الديار من الجزيرة العربية ليس إلا نظرية ساذجة لا يقبلها عقل الباحث السليم، فإن مما لا شك فيه أن عدداً (عظيما) من هذه البطون ليس إلا سلالة تلك القبائل التي عمرت تلك الديار منذ أزمان بعيدة طويلة فبينهم بلا شك بقية تلك القبائل التي كانت في هذه المنطقة قبل الفتح الإسرائيلي مثل العمالقة والمدنينين والادوميين، ثم منهم بقية البطون الإسرائيلية مثل بني شمعون ودان ويهوذا، وكذلك لا ننسى وجود أرهاط من الأنباط في هذه النواحي القريبة من شبه جزيرة طور سينا، ولا ننسى كذلك أن هناك أفخاذاً من قبائل يمنية قديمة وصلت من أقصى بلدان الجزيرة إلى هذه الأماكن منذ زمن قديم
ولا شك أن العرب أخذوا يتسربون إلى هذه المناطق قبل الإسلام بعدة قرون واستوطنوا بعض أماكنها كما استوطنوا النواحي الأخرى من صحراء سوريا وتخوم بلاد العراق والشام.
وقد ذكر المؤلف، وحق له أن يذكر، أن هناك بعض قبائل تَمُتُّ بصلة إلى الإفرنج الصليبيين.
ونحن نعتقد أن البحث الدقيق في اللهجات المختلفة يساعد الباحث على كشف الغطاء عن هذه المشكلة الجنسية العويصة التي تبلبلت فيها الأجناس البشرية، وقد نرى في بعض الألفاظ المستعملة هناك بقية باقية من الاستعمال العبري القديم مثل كلمة نقابة عند البدو في هذه الأنحاء فهي تدل على المعابر والمسالك المنيعة في الجبال لأنها وردت في مخطوط عبري يرجع إلى القرن السابع. ق. م
وقد أحسن المؤلف بذكره نماذج من شعر أعراب القبائل ولكن فاته أن يأتي بمثل ذلك من رطانتهم العربية، ولو أنه فعل لقدم خدمة جليلة للبحث العلمي اللغوي حيث كان يمكن أن نقف على لهجاتهم وأن ندرسها دراسة علمية ونقارن بينها وبين اللهجات العربية الأخرى ونتبين ما فيها من الألفاظ الغريبة التي جاءتها بلا شك من اللغات السامية الأخرى.
ولا نستطيع أن نكف أنفسنا عن التساؤل: لماذا صقل المؤلف الأحاديث التي سمعها من الأعراب صقلا عربياً صحيحاً وفصيحاً؟ ولماذا لم يتركها في لغتها البدوية الطبيعية والفطرية؟. . .
لذلك نلح على المؤلف ونشتد في الإلحاح أن لا ينسى حين يقبل على طبع كتابه الطبعة الثانية أن يضيف إليه جملة أحاديث وأقاصيص لكثير من رجالات الأعراب من نواح مختلفة بلهجاتهم الطبيعية ورطانتهم الفطرية دون أن يتعرض لها بشيء من الزيادة أو الحذف.
ثم يأتي بعد ذلك الباب الخامس الذي يشتمل على تاريخ بئر السبع على ممر الأحقاب من أقدم الأزمنة التاريخية إلى يومنا الحالي
وثمة أمر آخر له خطره، وهو أن المؤلف الذي يتقن العربية والعبرية لم يقع في ذلك الخطأ الفاحش الذي وقع فيه غيره من المؤلفين الشرقيين الذين يجهلون اللغات السامية، وهو أنهم لا يضبطون كتابة أسماء الأماكن وأسماء الأعلام كتابة صحيحة كما ينطق بها أهل الشرق بل يكتبونها كما هي مدونة عند الغربيين الذين لا يستطيعون نطق الأسماء الشرقية نطقاً صحيحاً دقيقاً
أما مؤلفنا فكان في أغلب هذه الأحوال محسناً لكتابة هذه الألفاظ بضبطها الصحيح.
ولنا في هذا النوع بعض ملاحظات على مؤلفنا منها أنه لم يكن يجوز لعالم مثله أن يستعمل أسم البتراء دون أن يشير إلى اسمها الحقيقي القديم الذي منه اشتقت كلمة بتراء المحرفة، فالمؤلف يعرف أن البتراء التي تعرف اليوم بوادي موسى كانت عاصمة لبني أدوم قديماً ثم للأنباط في العصور المتأخرة، وقد عرفت باسم سلع ومعناه: الصخرة، ثم جاء اليونان وترجموا هذه الكلمة إلى اليونانية وأطلقوا على هذا المكان اسم بترا أي الصخرة أو الحجر
وكان عالمنا المرحوم احمد زكي باشا كلما قرأ لبعض الكتاب كلمة بتراء بدلاً من سلع هاج وماج لأنه يعرف أن العرب أنفسهم كانوا يستعملون في القديم كلمة سلع لا كلمة البتراء، وقد أشار إلى ذلك في جملة مقالات نشرت بجريدة الأهرام قبل وفاته بزمن قليل
وفي الباب السادس يبحث في حالة بئر السبع في وقتنا الحاضر، ومع أنه موجز فإنه شامل كامل لأن المؤلف من الأفراد المعدودين الذين خبروا البلاد خبرة وافية.
ولا ننسى أن نشير إلى تلك الخريطة المفصلة لفضاء بئر السبع فهي بلا شك أول خريطة علمية دقيقة مبينة لمواطن القبائل العربية ومعينة لأسماء الأمكنة في تلك البيداء الشاسعة الأطراف.
إسرائيل ولفنسون
(أبو ذؤيب)
أستاذ اللغات السامية بدار العلوم