الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 213
- بتاريخ: 02 - 08 - 1937
أسبوع التاج
كانت مصر كلها طوال الأسبوع الماضي، من صباح أحده إلى مساء سبته، في سكرة من الطرب النشوان، وفورة من الحماسة المضطرمة. والطرب والحماسة كلمتان مسكينتان لا تقعان من حقيقة الأمر في كثير ولا قليل. وكيف تدرك من هاتين الكلمتين وأشباههما تلك الحالة العجيبة التي قامت بسكان هذا البلد الوفي أبنائه ونزلائه لمقدم الفاروق، وتتويج الفاروق، ومواهب الفاروق، فجعلت كلامهم وأنغامهم وأحلامهم هتافاً لمجده لا يفتر، ودعاء لعهده لا ينقطع؟!
انفعلت قلوب الناس بما أجنته للمليك الشاب من الإعجاب والحب والأمل، فعبرت عن ضوء رجائها، وحرارة ولائها، بهذه الملايين من المصابيح الكهربائية، رصعت بها وجوه العمائر والمتاجر، وجعلت منها عقوداً منظمة على أطوارة الطرق، وأبراجاً متوجة في بُهَر الميادين، وأقواس نصر في مداخل الشوارع؛ وافتن فيها الصناع فرسموا بها أشكالا تعبر عن شتى العواطف، وخطوطاً تسفر عن خالص الأدعية؛ ثم راحوا يرقصون ويهزجون في إشراق باهر تشعه القلوب المتهللة، وتعكسه المدينة المتألقة. ولكن ماذا يصنع الكاتب وقد انبثق في حسه هذا النور، وانفتح في ذهنه هذا العالم، إذا أراد أن يمثله للخاطر البعيد، ويسجله في صحيفة الأبد؟ هل يملك إلا ريشة من المعدن لا تلين، وألفاظاً من اللغة لا تدل؟ وهل اللغة مهما اتسعت موادها إلا أبعاض من صوت النفوس، وأصداء لهتاف القلوب؟ ماذا يقول الكاتب أو الشاعر في ثلاثة ملايين من الناس تجردوا من هموم الحياة وأنانية الذات، واحتشدوا في مسالك القاهرة يسبحون في أمواج هذا النور المعبر، وقد انطوى كل منهم على عالم زاخر بالأماني والأخيلة والأحاسيس، ولا حديث لهم ولا نجوى إلا ملكهم الأعز، وطالعه الأسعد، وعهده الأغر، وخلقه الأكمل؛ هذا يذكر في فخر حادثاً من حوادث ديمقراطيته، وذاك يروي في إعجاب نادرة من نوادر عبقريته، وذلك يقص في زهو عملا من أعمال نبله؛ والألسنة كلها في كل مكان أشبه بلواقط الراديو ذوات المصدر الواحد تردد الحديث نفسه بصوته وطريقته؟
قد يحتشد الناس في أيام الزينة ومواكب النصر بدافع الإيحاء أو الإغراء أو الفضول فيقفون عند الظواهر والأشكال لا يحسون الروح ولا يلمسون الجوهر ولا يحفلون الغرض، ولكن مواكب التاج كانت أنساً خالصاً لكل فرد، وعرساً خاصاً بكل أسرة؛ ساهم فيه كل
بماله (نقوطاً)، وبقلبه إخلاصاً، وبسروره غبطة. وهذه هي العقدة النفسية التي تنحل أمامها قوى الكاتب قبل أن يجد لها وصفاً أو يحدد لها علة.
رأيت جلالة الفاروق في حفلات التتويج عن كثب، وفي ذهني صورة طبيعية للغلام الشابل الذي يهدف للثامنة عشرة من سنيه، فإذا رجل وقور الطلعة، رزين الحركة، ظاهر الأبهة، باهر الجلالة؛ نظرته نظرة روحه لا نظرة عينه، وعقله عقل جسمه لا عقل سنه: فأدركت حينئذ معنى قول الشاعر الفرنسي: (إن النفوس التي تولد على درج العرش لا تنتظر عبقريتها كرور السنين) وتعليل ذلك أن الطفل الملكي متى كان سليم الفطرة تستجيب غرائزه إلى وحي العمل الذي يُهيأ له؛ وعلمه يأنه يهيأ لوراثة الملك يحمله على اتخاذ سَمْته وسِمَتِه؛ ثم ينشأ في جو يساعده ما فيه من النظام والاحترام ومظاهر القدرة وتقاليد الأسرة على سمو المدارك ونضوج الرجولة؛ ولا ينفك يسمع في مجاري دمه النبيل أصوات أجداده الأمجاد تأمر وتنهي، وتشير وتوحي، وترسم وتدل؛ فإذا رفع إلى العرش واستوى عليه لم يجد في نفسه شيئاً جديداً ينكره، ولا في جوه مظهراً غريباً يستريبه؛ فيسير أمره على ما رسمته النشأة، وهيأته الطبيعة، لا تكلف ولا تعسف ولا تظاهر ولا تذبذب.
لذلك انتقل الفاروق من حال التلميذ إلى حال الملك في سهولة أدهشت الناس في مصر وفي غير مصر.
وليس لهذا الدهش موضع، فإن الرجل الذي يختل توازنه ويضطرب أمره، هو الذي يتحول بغتة من العجز إلى القدرة، ومن الخضوع إلى السلطة، ومن الصعلكة إلى المُلك، فيستر صغره بالكبر، وضعفه بالاستبداد، وفشله بالخديعة؛ ثم لا يطمئن إلى حاله، ولا يستقر في محله، فيتعلق بالظنون، ويستمسك بالدسائس، ويعتصم بالترفع؛ ولكن الفاروق العظيم ربيب المُلك وسليل محمد علي وإبراهيم وإسماعيل وفؤاد يرى نفسه طبيعياً في موضعه؛ وموضعه فوق الحكم وفوق الأحزاب وفوق المطامع، فلا يمكن أن يكون إلا كما تراه. ومخايل الفاروق ودلائل الحال تؤكد أنه سيكون في عهده السعيد المجيد موئل الدستور، وملاذ الحرية، وحارس الدين، وراعي الشعب، ومرشد الحكومة في الحيرة، ومرجع الأحزاب في الخلاف؛ أما ثقافة العقل والجسم والخلق فتلك رسالته التي وكل الله إليه أداءها بالتشجيع والتشريع والقدوة.
أحمد حسن الزيات
السرقات الأدبية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
سأقص على القراء حادثة أعذر من لا يصدقها ولا ألوم من يرتاب في صحتها، ولكنها مع ذلك حقيقة، وبعض الحقائق أغرب من تلفيقات الخيال. وذلك أني على أثر الثورة المصرية في سنة 1919 ذهبت إلى الإسكندرية لأقضي فيها أياماً أو لأتخذ فيها مقامي - حسب الأحوال - وكنت لا أزال سقيم الأعصاب جداً. وكنا في رمضان فأفطرنا واسترحنا ثم خرجنا لنحيي الليل بالسهر كما هي العادة وكنت منشرح الصدر، ولكني لم أكد أتجاوز عتبة البيت حتى وقفت وقلت لقريبي إني محموم، فأنا راجع، فجسني فلم يجد بي شيئاً فأصررت على أنها الحمى، فرقدت وكنت لا أكاد أطيق الصهد الذي أحسه. وزال عني ذلك بعد ساعة أو اثنتين غير أني لزمت الفراش وعادني طبيب الأسرة في اليوم التالي فقال: إن هذه حمى عصبية. فاستغربت ولكني عانيت من الأعصاب ما جعلني أصدق كل شيء، وبقيت أياماً في البيت زارني في خلالها صديقي الأستاذ العقاد وترك لي رواية روسية أتسلى بها، فأكببت عليها وقرأتها في ساعات أحسست بعدها أني صرت أقوى وأصح بدناً وأقدر على المكافحة والنضال في الحياة، وأنه صار في وسعي أن أستخف بما يحدث لي سقم الأعصاب من الوهم. وعدت إلى القاهرة، ومضى عام فطلب مني بعضهم أن أترجم له رواية؛ فقلت لنفسي إني مدين لهذه الرواية الروسية بشفائي بالروح الجديدة التي استولت علي، فيحسن أن أنقلها إلى العربية عسى أن تنفع غيري كما نفعتني. وقد كان. نقلت الرواية بسرعة، وكنت أذهب إلى المطبعة لتصحيح المسودات فيقول لي العامل أحياناً: إن الأصول نفدت، فأقعد في أي مكان وأفتح الرواية أروح أترجم وأرمي للعمال بالورقة بعد الورقة، وكأني أدون كلاماً حفظته من قبل. ولست أذكر هذا الأباهي به ولا أقول لكم إني رجل بارع، بل لسبب آخر سيأتي ذكره في موضعه. وفرغنا من الترجمة والطبع؛ ولم يعن الناشر بأن يبعث إلي بنسخة من الرواية ولم أعن أنا بأن أطلب أو أدخر نسخة؛ وقد نسيت أن أقول إني سميتها (ابن الطبيعة) وكان اسمها في الأصل (سَنين) وهو اسم بطلها. وليس هذا إعلاناً فقد نفدت من زمان طويل. كان هذا في سنة 1920. وفي سنة 1926 شرعت أكتب قصة (إبراهيم الكاتب) وانتهيت منها ولم أرض عنها فألقيتها في
درج حتى كانت سنة 1930 فخطر لي أن أنشرها، فدفعت بها إلى المطبعة، فاتفق بعد أن طبعنا نحو نصفها أن ضاعت بعض الأصول وكنت لطول العهد قد نسيت موضوعها وأسماء أشخاصها فحرت ماذا أصنع؛ ثم لم أر بداً من المضي في الطبع فسددت النقص ووجهت الرواية فيما بقي منها توجيهاً جديداً. ونشرت الرواية. وبعد شهور تلقيت نسخة من مجلة (الحديث) التي تصدر في حلب وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه إني سرقت فصلا من رواية ابن الطبيعة. فدهشت ولي العذر. واذكروا أني أنا مترجم ابن الطبيعة وناقلها إلى العربية، وأن أربعة آلاف نسخة نشرت منها في العالم العربي، وإني أكون أحمق الحمقى إذا سرقت من هذه الرواية على الخصوص. فبحثت عن ابن الطبيعة وراجعتها وإذا بالتهمة صحيحة لا شك في ذلك، بل هي أصح مما قال الناقد الفاضل. فقد اتضح لي أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي (إبراهيم الكاتب). أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب أن هذا كلامي. حرف العطف هنا هو حرفه هناك؛ أول السطر في إحدى الروايتين هو أوله في الرواية الأخرى. . . لا اختلاف على الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير مذكر أو مؤنث. . . الصفحات هنا هي بعينها هناك بلا أدنى فرق. ومن الذي يصدقني إذا قلت إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأن أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني حين أؤكد له أني لم أر رواية ابن الطبيعة مذ فرغت من ترجمتها، وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أو مواقفها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخرى؟ لهذا سكت ولم أقل شيئا وتركت الناقد وغيره يظنون ما يشاءون فما لي حيلة. ولكن الواقع مع ذلك هو أن صفحات أربعاً أو خمساً من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي - وأنا لا أدري - لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي. حدث ذلك على الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً. ومن شاء أن يصدق فليصدق، ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذاك. ولست أروي هذه الحادثة لأدفع عن نفسي فما يعنني هذا، وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان. وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر مائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط نعرفه ومن غير أن يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى. ويغيب عنه الشيء
ويحضر بغير إرادته وبلا جهد منه، ويعلق بذاكرته ما يعلق وهو غير دار أو مدرك لما يحدث، وتتزاوج الخوالج وتتوالد كما يتزواج الناس ويتوالدون وهو غير شاعر بشيء مما يجري في نفسه من التفاعل وأثره
ولست أحب أن أجعل من نفسي قاضيا يحكم على هذا بالسرقة وعلى ذاك بالانتحال إلى آخر هذا، وإنما أحب أن أعلل وأفسر الحالات أو الحركات النفسية التي تؤدي إلى ما يمكن أن يسمى سرقة أو اقتباساً أو التي تغري إنساناً بما فكر فيه غيره. ولا جديد في تعليلي أو تفسيري فأنه قائم على علم النفس، وإنما الجديد هو التوجيه أو التطبيق، ولا فضل في هذا ولا مزية له. ومن أجل ذلك أقصر هذا في الفصل على الأمثلة فإن المقام لا يتسع لها ولما يبدو لي من وجوه التعليل، وأرجو أن تتاح لي فرصة قريبة أشرح فيها مذهبي ورأيي في هذه الحالات
وقد عني العرب بتعقب شعرائهم، فكل شاعر ظهر له من ينخل كلامه ويغربله ويرد المعاني إلى أصحابها أي إلى الذين سبقوا إليها. والسبق في الزمن هو الذي يكسب السابق الحق في المعنى؛ وأنا أقول المعنى لأنه لم يكن ثم موضوع للقصائد غير الأغراض المألوفة مثل المدح والهجاء والفخر والغزل وما إلى ذلك. ولما كان البيت في الشعر العربي القديم هو الوحدة فقد صارت الأبيات المفردة هي مدار هذا الضرب من النقد؛ فهذا أخذ معنى البيت الفلاني من فلان، وذاك نظر إلى قول علان، إلى آخر هذا إن كان له آخر. ولهم في هذا الباب حكايات بعضها لاشك مختلق والبعض قد يكون صحيحا، وأعني بهذه الحكايات ما يراه المرء في كتب الأدب من أن بعض الشعراء المستهترين المستخفين بالدنيا وما فيها من مثل أبي نواس سمع شاعرا مغمورا ينشد قصيدة فأعجبه معنى بيت فيها فأخذه جهرة وقال: أيروى لك هذا المعنى وأنا حي؟. . ومثل ما يروون من أن المتنبي كان ينكر في حياته أنه قرأ شعر ابن الرومي، فلما قتل وجدوا بين أوراقه نسخة خطية بالطبع من ديوان ابن الرومي وعليها تعليقات بخط المتنبي. ولا فائدة من محاولة التمثيل لهذا النوع من السرقات فإن الكلام خليق أن يطول بلا جدوى ومن غير أن نجيء فيه بجديد وأكثر القراء يستطيعون أن يرجعوا إليه إذا شاءوا في كتب الأدب المتداولة. لهذا أوثر أن أسوق أمثلة مما في الآداب الغربية مما يدخل في باب السرقات فإن الأمر في هذه أمر
موضوع يقتبس، أو قصيدة برمتها تؤخذ من أولها إلى آخرها على طولها بالحرف الواحد. والقليلون يعنون بتعقب هذا فذكر أمثلة منه خليق أن يكون أمتع.
أشهر شعراء الإغريق هومر كما لا أحتاج أن أقول؛ وقد قرأت ترجمتين إنجليزيتين له وحطمت رأسي بهما وأعترف أنه لم يرقني منه إلا القليل، ولكن كنت أخشى أن أجاهر بهذا الرأي لئلا يقول عني إخواني إن ذوقي فاسد أو إن بي نقصاً في الاستعداد الأدبي؛ أما الآن فإني أستطيع أن أجهر بذلك وأن لا أخشى تهماً كهذه. على أني لا أذكر هومر الآن لأقول رأيي فيه بل لأروي قصتين صارتا الآن معروفتين: الأولى أن الأدب الإغريقي كان في العصور الوسطى مجهولاً أو مدفوناً وكان لا يعرفه إلا الرهبان الذين احتفظوا بنسخ منه ضنوا بها على النشر والإذاعة لأنه أدب وثني، وفيما عدا هؤلاء الرهبان لم يكن أحد يعرف شيئاً لا قليلا ولا كثيراً عن الأدب الإغريقي، فكان من سخرية الأقدار أن الرجل الذي رد إلى العالم هومر في القرن الرابع عشر كان سكيراً نصاباً وشريراً كبيراً، وأن الرجل الذي حمله على ترجمة هومر كان من أبرع كتاب النهضة، وأن الرجل الذي آلى على نفسه أن يعمل على نشر جمال الأدب الإغريقي في العالم كان لا يعرف حرفاً واحداً من اللغة الإغريقية. هؤلاء الثلاثة الذين جمعهم الحظ هم بيلاتس وبوكاكشيو وبترارك فأما أولهم فكان مغامراً يؤثر أن يستخفي لأسباب لعل البوليس أعرف بها؛ وكان قذراً كثير الشعر دميم الخلقة، ولكنه كان يعرف اللغة الإغريقية فجاء به بوكاكشيو وأنزله عنده ضيفاً فبقي ثلاث سنوات. أما بوكاكشيو فمعروف مشهور وهو عندي أنبغ نوابغ الإيطاليين ولكنه كان ساذجاً وكان لا يعرف قدر نفسه وكان عظيم التوقير لبترارك حتى لقد صار في آخر حياته يخجل لأنه كتب ما كتب باللغة الإيطالية العامية لا باللاتينية. وأما بترارك فقد اقتنع لسبب لا نعرفه بأن المخرج الوحيد من السوء الذي يراه في زمانه هو إحياء درس الأدب الإغريقي، ويظهر أنه كان هناك اعتقاد بأن هذا الأدب المقبور هو القادر وحده على حل المشاكل التي كانت تواجه العالم في ذلك الزمان، وهكذا عرف الناس هومر بعد أن قبره الزمن عدة قرون.
ومن المحقق أن هومر كان يعرف الأساطير المصرية وأنه استعان بها في قصيدته - الإلياذة والأوديسية - وأحسب أن كثيرون قرءوا البحوث التي نشرها الأستاذ عبد القادر
حمزة وأثبت فيها - استناداً إلى ما وقف عليه وكشف عنه العلماء بالآثار المصرية والتاريخ المصري القديم - أن هومر أخذ كل العقائد وكل القصص من المصريين. والمصريون كما لا يحتاج أن أقول - أسبق بآلاف السنين لا بمئاتها فقط، وهم الذين نشروا في العالم القديم العقائد التي لا تزال باقية إلى اليوم. وهم أول من فكر في الروح والآخرة والحساب والعقاب. وقد ذهبت مدنيتهم ولكن آثارها بقيت وهي على قلتها كافية للدلالة على حضارتهم. وقد نشر الأستاذ عبد القادر حمزة النصوص وأثبت منها أن هومر أخذ قصصه من مصر وأن كل ما فعله هو تغيير الأسماء وقلبها إغريقية. وأنا أزيد على ذلك أن هيرودوت يقول عن هومر كلمة لها مغزاها، ذلك أنه يصف عمله بأنه (تنظيم)، ويقول عنه في موضع آخر إنه وضع (إطاراً) للقصص، وفي موضع آخر أيضاً إنه (جمع). ومعنى هذا أنه كان معروفاً أن هومر لم يبتكر قصصه وإنما جمعها ورتبها ونظمها. ويظهر أنه كانت هناك روايات متعددة مختلفة وأن هومر شعر بالحيرة بينها ولم يدر أيها يؤثر: الرواية المصرية أم الروايات المشوهة التي شاعت في إسبارطة وأثينا وفي غيرهما؟ ولهذا اضطرب ولم يستقر على رأي في أيهما هو البطل - هكتور أو أخيل - ويرجح بعضهم أنه لحيرته بين الروايات المختلفة أعد نصين، واحداً ينشده على الجانب الأسيوي والآخر ينشده على الجانب الأوربي. على أن المهم أن هومر أخذ موضوعه كله بكل ما انطوى عليه من مصر، فلولا مصر لما كان هومر. وأحسب أن الدنيا ما كانت حينئذ تخسر شيئاً فقد أصبح هومر اسماً لا أكثر
وأدع التوافه مثل قول أكثر من ناقد واحد: إن الرومان مدينون بفكاهتهم للإغريق، وإنه ما نكتة في الأدب الروماني إلا وهي مأخوذة من نكت الإغريق أو لها ما يقابلها عندهم، ومثل قولهم إن (الأبولوجيا) أو الاعتذار الذي كتبه سنيكا لما أمره نيرون بالانتحار ليس سوى تقليد ضعيف للأبولوجيا التي كتبها أفلاطون عن سقراط بعد الحكم على سقراط بالموت، ومثل قولهم إن وصف درع (إينياس) في قصيدة فرجيل مأخوذ من وصف هومر لدرع أخيل، وقولهم أيضاً إن خير ما في إينيادة فرجيل منقول بالحرف من وأن القصيدة كلها في الحقيقة ليست أكثر من مقاطيع منقولة من شعراء سابقين مثل هومر وأبوللونيوس ورودياس ولوسيلياس ولوكريشلاس وأن مكروبيوس ضبط كل هذه السرقات، ومثل
قولهم إن الشاعر الإنجليزي (مارلو) - معاصر شكسبير - انتحل أبياتاً كثيرة ترجمها عن اليونانية في روايته (الدكتور فاوست). أدع كل هذا لأنه كما قلت من التوافه وأثب إلى ملتون الشاعر الإنجليزي المشهور، وأعترف أني لا أحبه وأني ما استطعت في حياتي أن أقرأ له قصيدة مرتين. وأشهر ما لملتون قصيدة (الفردوس المفقود) وأختها (الفردوس المستعاد) والأولى لا الثانية هي التي تقوم عليها شهرته. وهذه يقول النقاد إن من المعروف أنها عبارة عن جملة سرقات من ايسكلاس ودافيد وماسينياس وفوندل وغيرهم. ولكنه لم يكن معروفاً أن الفردوس المفقود كله - موضوعه ومواقفه وعباراته أيضاً - مترجمة ترجمة حرفية عن شاعر إيطالي مغمور غير معروف كان معاصراً لملتون. لم يكن هذا معروفاً حتى اهتدى إليه (نورمان دوجلاس) فقد اتفق له أن عثر على نسخة وحيدة من رواية (ادامو كانوتو) لمؤلفها (سرافينو ديللا سالاندرا) وهذه الرواية وضعت في سنة 1647.
وأنا أنقل هنا ما يقوله (نورمان دوجلاس) قال:
سأسوق الآن بلا تمهيد ما يكفي لإثبات أن الفردوس المفقود ليس إلا نقلا وترجمة لهذه الرواية
محور قصيدة سالاندرا هو ما أصاب العالم من جراء العصيان الذي أغري به الإنسان الأول. وهذا هو محور موضوع ملتون
والأشخاص في رواية سالاندرا هم الله، وملائكته، والإنسان الأول والمرأة الأولى والحية وإبليس وزملاؤه. وكذلك في قصة ملتون
وفي فاتحة القصيدة أو التمهيد لها يذكر سلاندرا الموضوع ويتكلم عن الله وأعماله. وكذلك يفعل ملتون
ثم يصف سلاندرا مجلس الملائكة المتمردين وسقوطهم من السماء في منطقة جرداء نارية ويسوق أحاديثهم وكيف أنهم يحقدون على الإنسان ويتفقون على الاحتيال على إسقاطه ويقررون أن يجتمعوا في الهاوية حيث يتخذون التدابير الخليقة أن تجعل من الإنسان عدواً لله وفريسة لجندهم. وكذلك في ملتون
وسالاندرا يجسد الخطيئة والموت ويجعل الموت ثمرة الخطيئة. وكذلك يفعل ملتون
ويصف سالاندرا سبق العلم الإلهي بنتيجة الإغواء وسقوط الإنسان وتهيئته تعالى لأسباب الخلاص. وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا موقع الجنة والحياة السعيدة فيها. ويفعل ملتون مثله
ويشرح سالاندرا الإعجاز في خلق العالم والإنسان وفضائل الثمرة المحرمة. وكذلك ملتون
ويروي سالاندرا الحوار الذي دار بين حواء والحية ويصف الأكل من الشجرة المحرمة واليأس الذي استولى على أبوينا - آدم وحواء - وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا فرحة الموت بما ارتكبته حواء والسرور الذي عم الجحيم والحزن الذي انتاب آدم وخروج آدم وحواء من الجنة وحزنهما وندمهما. وكذلك يفعل ملتون
ويتوقع سالاندرا مجيء المخلص وهزيمة الخطيئة والموت ويتكلم عن عجائب الخلق ويصف قتل قابيل لأخيه هابيل ويذكر الخطيئات في الدنيا والحرب وأهوالها. وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا الحب الذي ينطوي عليه عيسى عليه السلام والعزاء الذي يشعر به آدم وحواء حين يبشرهما الملك بمجيء المسيح ثم خروجهما من جنتهما الأرضية. وكذلك يفعل ملتون
فالموضوع مأخوذ برمته كما أثبت ذلك نورمان دوجلاس. ويقول برتون راسكو: (إن هذا ليس كل شيء ويحيل القارئ على كتاب اسمه (أولد كالابريا) - كالابريا القديمة - ويؤكد أنه يؤخذ منه أن ملتون ترجم قصة سالاندرا حرفا بحرف وأن ما ليس مترجما عن سالاندرا مترجم عن غيره من الشعراء القدماء
والذي يجعل الأمر أغرب أن ملتون كان قد أعلن قبل ذلك عزمه على نظم قصة خالدة لا يسمح الناس بأن يدعوها تموت وتقبر، ويعني بها الفردوس المفقود، وبعد أن أعلن عزمه هذا بسط لسانه في كل الشعراء الإنجليز الذين تقدموه مثل شوسر وسبنسر وشكسبير ومارلو وجونسون ووصفهم بأنهم صناع آليون، وانتقد هومر وفرجيل وتاسو وعاب شعرهم. ويعلل نورمان دوجلاس اهتداء ملتون إلى قصة سالاندرا بأن ملتون لقيه في رحلته إلى إيطاليا، وأن سالاندرا يرجح أن يكون أعطاه نسخة من قصته عسى أن يعينه على ترجمتها إلى الإنجليزية. ويقول إن ملتون كان له أصدقاء يراسلونه من إيطاليا وإنه قابل جروتياس في باريس وجاليليو في فلورنسا، وإنه يحتمل أن يكون هذان قد أعطياه
نسخة من القصة لما نشرت بالإيطالية. والمحقق على كل حال أن قصيدة الفردوس المفقود نسخة طبق الأصل من قصيدة سالاندرا الإيطالي.
وأنتقل الآن إلى ما هو أحدث في أثناء الحرب العظمى. لم يكن لنا عمل بعد السعي وراء الرزق إلا القراءة والإطلاع واتقاء التعرض لمكاره الاعتقال والسجن وما عسى أن يكون وراءهما. وقد وقتني الكتب ذلك مرة وجاء القوم يفتشون بيتي وكان معهم ضابط إنجليزي، فلما دخل المكتبة وأجال عينه في الرفوف وما عليها من كتب الأدب حسن رأيه فيّ ومال إلى الرفق، فانتهى الأمر بخير. ولكن هذا استطرد فلنرجع إلى ما كنا فيه. والذي أريد أن أقوله هو أن صديقي الأستاذ العقاد أعارني يوماً قصة (تاييس) لأناتول فرانس فقرأتها بلهفة فقد استطاع المترجم الإنجليزي أن يحتفظ بقوة الأسلوب وتحدره وبراعة العبارة وسحرها. ومضت بضعة شهور ثم دفع إلي الأستاذ العقاد رواية (هايبيثيا) للكاتب الإنجليزي (تشارلز كنجزلزي) فقرأتها أيضاً، ثم سألني: ما رأيك؟ قلت: غريب. قال: إن الروايتين شيء واحد. قلت: صحيح
والواقع أن الروايتين شيء واحد وأن تاييس مأخوذة من هايبيثيا بلا أدنى شك. وفي وسع من شاء أن يقول إن أناتول فرانس ما كان يستطيع أن يكتب - أو ما كان يخطر له أن يكتب روايته لو لم يسبقه تشارلز كنجزلزي إلى الموضوع. ذلك أن تاييس في رواية أناتول فرانس هي هايبيثيا في رواية كنجزلزي، والعصر هو العصر والبلاد هي البلاد، وكل ما هنالك من الاختلاف هو أن أناتول فرانس أستاذ فنان، وأن تشارلز كنجزلزي أستاذ مؤرخ. وأنا مع ذلك أفضل رواية هايبيثيا وأراها أكبر وأعمق وأملأ للنفس وأمتع للعقل، فما لأناتول فرانس في تاييس غير براعة الأسلوب وحلاوة الفن، ولكن الصور في رواية هايبيثيا أتم وأصدق، والشخصيات أكثر ورسمها أقوى وأوفى والموضوع أحفل. وفي وسعي أن أقول بلا مبالغة إنها تعرض عليك عالماً تاماً لا ينقصه جانب واحد من الجوانب؛ وأما تاييس فليست سوى لمحة خاطفة من هذا العالم
وتشارلز كنجزلزي يرسم لك الحياة في تلك الفترة من تاريخ مصر بكل ما انطوت عليه ويريك الناس والأشياء والعادات والأخلاق والآراء والفلسفات الشائعة والفردية بدقة وأمانة، أما أناتول فرانس فيرسم لك بقلمه البارع خطوطاً سريعة تريك ما وقع في نفسه من ذلك
العصر، فهو أشبه بالمصورين الذين يجرون على طريقة الامبرشزنم أي الذين يصورون وقع المناظر في النفس لا المناظر كما هي في الحقيقة والواقع.
هذا بعض ما يسعني ألان أن أذكره وأمثال هذا كثير في الآداب الغربية، وليس له في الأدب العربي نظير، وأسباب ذلك كثيرة يطول فيها الكلام فلنرجئها إلى فرصة أخرى تتسع لوجوه التعليل المختلفة.
إبراهيم عبد القادر المازني
في التاريخ السياسي:
المأساة الفلسطينية ومشروع التقسيم البريطاني
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لما تسربت الأنباء الأولى عن مشروع اللجنة الملكية البريطانية في تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية، وقبل أن يذاع تقرير اللجنة أبدينا في (الرسالة) أن هذا الحل الجديد الذي ابتكرته السياسة البريطانية لتسوية المسألة الفلسطينية لم يكن حلاً موفقاً، وأنه لا يمكن أن يرضي أحداً من الفريقين المتنازعين
والآن وقد مضت أسابيع على ظهور تقرير اللجنة عن مشروع التقسيم، وعرفنا إلى أي حد ذهبت اللجنة الملكية في استنتاجاتها وفي توصياتها، وكيف استقبل العرب مقترحاتها بعاصفة من السخط والإنكار المطلق لا في فلسطين وحدها ولكن في جميع أنحاء الجزيرة العربية، وكيف اعتزمت فلسطين أن تستأنف النضال في سبيل حياتها وكيانها، وكيف تغدو اليوم وشيكة انفجار جديد لا تؤمن عواقبه، فأنه يصعب علينا أن نعتقد أن الحكومة البريطانية التي أقرت مقترحات اللجنة على عجل لم تعتده في مثل هذه المناسبات الخطيرة، ستغضي عن هذه العوامل الجيدة التي ظهرت في الميدان منذ ظهور التقرير، والتي لا يمكن أن تعاون على استتباب السلام المنشود في فلسطين
إن مشروع التقسيم الذي تقترحه اللجنة يمزق فلسطين شر ممزق بل هو يقضي القضاء الأخير على كيانها القومي ويخرجها من عداد الأمم والمجتمعات ذوات المميزات الخاصة ويحرمها من كل أمل في التقدم والنهوض؛ وإن نظرة واحدة إلى الحدود المقترحة لهذا التقسيم تكفي للحكم بأن فلسطين تمحى بمقتضاه من خريطة الوجود ولا يبقى منها برسم الدولة العربية الجديدة سوى صخور وبسائط صحرواية لم يتح للعمران طيلة القرون أن يذللها وأن يستثمرها؛ وماذا عسى أن يبقى من فلسطين العربية إذا اقتطعت منها كل سواحلها وثغورها وقواعدها المقدسة وكل بقاعها الخصبة؟ إن الدولة اليهودية التي يشير التقرير بإنشائها تشمل في الواقع كل قواعد فلسطين وثغورها التاريخية عدا ثغر يافا الذي يبقى وحده مخرجاً بحرياً للقسم الصحراوي الذي خصص للعرب؛ أما بقاع فلسطين المقدسة التي لبثت علماً عليها طوال القرون فقد تقرر أن تؤلف منها منطقة خاصة توضع تحت
أشراف عصبة الأمم أو بالحري تحت إشراف الانتداب البريطاني، وبذلك تجرد كل فلسطين من قواعدها التاريخية وكل ثرواتها ومواردها الاقتصادية في مصلحة الدولة اليهودية الجديدة؛ ومع ذلك فاللجنة الملكية تنوه في تقريرها بأهمية هذا التقسيم بالنسبة للعرب، وتقول لنا إنه (سيمكنهم من الحصول على استقلالهم الوطني والتعاون على قدم المساواة مع العرب في البلاد المجاورة، وذلك في كل ما يؤول إلى وحدة العرب ونجاحهم وسيخلصون نهائياً من خوف تسلط اليهود عليهم ووقوع الأماكن المقدسة بيد اليهود)
على أن هذه الألفاظ المعسولة لا تغير شيئاً من الحقيقة الهائلة وهي أن مشروع التقسيم يمحو فلسطين العربية من خريطة الوجود لينشئ على أنقاضها وتراثها التاريخي مملكة إسرائيل وليحقق بذلك حلم اليهودية القديم؛ نعم إن المساحة التي تضمها الدولة اليهودية الجديدة هي أقل مما تطمح إليه اليهودية، ولكنها تحتوي كما قدمنا على أطيب ما في فلسطين من قواعد وثغور، واليهودية تغدو في هذا الحيز الضيق أقوى وأشد إيماناً بالمستقبل؛ ثم هي مع ذلك بدء فقط؛ واليهودية تأسف بلا ريب أن تخرج بيت المقدس من قبضتها وهي مثوى تراثها الروحي وذكرياتها المقدسة، ولكنها تتعزى عن ذلك بخروجها من قبضة العرب أيضاً، وكونها وهي في يد إنكلترا أقرب إلى نفوذهم؛ ومن يدري فقد تسنح الفرصة فيما بعد لاستردادها بطريقة من الطرق، وبذلك يصبح ظفر اليهودية بإحياء مملكة إسرائيل القديمة كاملا شاملا
والخلاصة أن مشروع التقسيم هو قرعة الفناء للأمة الفلسطينية وهي حقيقة لم يتردد العرب لحظة في إدراكها، ومن ثم كان رفضهم للمشروع بهذا الإجماع السريع المؤثر الذي هو عنوان الخطر القومي، والذي تلوذ به الأمم المجاهدة في مواقف الحياة والموت؛ ولقد جاهدت فلسطين مذ نكبت بالانتداب والوطن القومي اليهودي في سبيل حريتها وعروبتها، ولم تقبل أن تكون ميداناً لهذه التجربة اليهودية الخطرة التي لم تكن تتوجها مع ذلك أية صبغة شرعية أكثر من وعد الحكومة البريطانية بمؤازراتها، فكيف ينتظر منها أن تقبل اليوم أن تقوم في قلبها وفي أطيب بقاعها مملكة يهودية تتمتع بصفة شرعية دولية، تنازعها البقاء وتنذرها بالفناء العاجل بما هيئ لها من أسباب التفوق السياسي والاقتصادي والاجتماعي
ومن حسن الطالع أن الأمة الفلسطينية لا تقف وحدها في هذا النضال الذي هو بالنسبة إليها معركة الحياة والموت، فإن شقيقاتها العربيات قد فزعت لفزعها وهبت من حولها تنصرها وتشد أزرها بالقول والعمل معا، فألقى رئيس الوزارة العراقية تصريحاته الرسمية المعروفة في إنكار مشروع التقسيم والحملة عليه بشدة، وفي التنويه بما تتعزمه العراق من مقاومته باعتباره خطراً لا على فلسطين وحدها ولكن على الأمة العربية بأسرها؛ ولم يقف رئيس الوزارة العراقية عند هذه التصريحات القوية الحازمة بل قدم احتجاجه بصفة رسمية إلى الحكومة البريطانية؛ وأيد الشعب العراقي موقف حكومته بتنظيم مظاهرات الاحتجاج في بغداد وغيرها؛ وحذت الحكومة السورية حذو الحكومة العراقية في إلقاء التصريحات الرسمية بمعارضة مشروع التقسيم، وفي توجيه الاحتجاج الرسمي إلى الجنة الانتداب بعصبة الأمم، وقام الشعب السوري بمظاهرات مماثلة لتأييد فلسطين في موقفها؛ وقامت مظاهرات مماثلة في الحجاز، وما تزال عواصم الجزيرة العربية كلها تضطرم بأمواج الاحتجاج والسخط على مشروع التقسيم والعطف على فلسطين وتأييدها في جهادها. كذلك لم تكن مصر بمعزل عن هذه الحركة وإن تكن الحكومة المصرية قد آثرت أن تعمل في صمت وهدوء؛ فقد أعرب رئيس الحكومة المصرية في بيانه الرسمي بمجلس الشيوخ عن اهتمام الحكومة المصرية بالقضية الفلسطينية وأشار إلى ما جرى من اتصاله بالحكومة البريطانية في شأنها أكثر من مرة، وإلى أنه عقب ظهور تقرير اللجنة الملكية قد بادر باستئناف هذا الاتصال والسعي بالمسائل الدبلوماسية إلى العمل على صيانة حقوق العرب ومصالحهم، مؤثراً ألا تكون هذه المساعي موضع المناقشة العلنية حرصاً على مصلحة فلسطين ذاتها؛ هذا إلى ما أبدته الهيئات السياسية والوطنية المصرية من احتجاج على مشروع التقسيم وتأييد قلبي لفلسطين.
والواقع أن قيام اليهودية في فلسطين في مثل هذا الحشد القوي المنظم، خطر داهم لا على فلسطين وحدها، ولكن على العالم العربي والإسلامي كله؛ ويزيد هذا الخطر ويذكيه أن تنتظم اليهودية على هذا النحو إلى دولة ذات شخصية مستقلة تجثم في قلب العالم العربي؛ وهذا الخطر متعدد النواحي، فمن الوجهتين السياسية والاقتصادية يخشى أن تكون هذه الدولة الجديدة التي لا يتأتى لها البناء إلا على ما تستطيع تقويضه من صروح الأمة
العربية، مصدر اضطراب دائم في هذا الجزء من الجزيرة العربية؛ وخطرها السياسي على كيان الأمة العربية ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ أما خطرها الاقتصادي فنحن نعرف كيف تعمل اليهودية بوسائلها القوية المعروفة أينما حلت على الاستئثار بجميع الثروات والمرافق؛ على أن هناك خطراً أشد وأفدح من قيام اليهودية في صميم المجتمع العربي والإسلامي على هذا النحو، هو الخطر المعنوي إذا صح التعبير؛ ذلك أن اليهودية كما يشهد تاريخها الفكري والفلسفي تضطرم دائماً بروح الثورة والانتفاض والهدم، وقد كان هذا الروح الثوري الهدام مبعث كثير من الحركات الثورية الهدامة الخفية والظاهرة التي قلبت أوضاع المجتمع، وبثت إليه كثيراً من عناصر الانحلال والفوضى؛ ويكفي أن نمثل لذلك بالشيوعية التي تعتبر اليوم أخطر عناصر الهدم، فهي من نفثات العقلية اليهودية؛ ومذ حلت الصهيونية في فلسطين ظهرت معها العناصر الشيوعية وأخذت تتسرب إلى مصر وسوريا والعراق؛ وهذه العناصر الثورية الهدامة التي تحملها اليهودية معها إلى فلسطين، تغدو إذا ما اشتد ساعد الدولة اليهودية الجديدة خطراً داهما على الأمم العربية التي تجثم في صميمها.
والأمم العربية تقدر كلها هذا الخطر، وكلها من وراء فلسطين في درئه ومقاومته؛ وقد أبدت فلسطين عزمها جلياً قاطعاً على استئناف النضال إذا لم تسمع شكايتها العادلة، وإذا أريد أن تفرض عليها سياسة التقطيع والتمزيق بالقوة القاهرة. على أننا من جهة أخرى نعتقد أن السياسة البريطانية الفطنة لم يفتها أن تقدر ما كان لمشروع التقسيم من سوء الواقع، ولم يفتها بالأخص أن تلاحظ موقف البلاد العربية والإسلامية الأخرى وما ينطوي عليه من دلائل لا تستطيع السياسة البريطانية أن تغفلها؛ ومع أن الحكومة البريطانية قد وافقت على تقرير اللجنة الملكية عن مشروع التقسيم فإن ذلك لا يعني أنها قد اتخذت خطتها النهائية إزاء المسألة الفلسطينية؛ كذلك لم يتخذ البرلمان البريطاني أي قرار في شأن المشروع بالرغم من المناقشات العديدة التي جرت حوله والتي لم تخل من بعض ميول معارضة للتقسيم؛ بل آثر أن يرجئ قراره حتى تنتهي لجنة الانتداب الدائمة لعصبة الأمم من بحث المشروع، وهو الآن أمامها قيد النظر.
والخلاصة أن السياسة البريطانية لا تزال بالنسبة للمسألة الفلسطينية في مفترق الطرق،
وهي إذا استطاعت أن تغفل اعتراضات العرب على مشروع التقسيم وإقامة الدولة اليهودية، فأنها لا تستطيع أن تغضي عن موقف الأمم العربية والإسلامية، وهي جميعاً تؤيد فلسطين في ظلامتها ومحنتها؛ وإنكلترا التي تربطها بالأمم العربية والإسلامية روابط صداقة متينة هي اليوم أشد حاجة منها في أي وقت آخر إلى تأييد هذه الأمم ومحالفتها؛ وموقع فلسطين والجزيرة العربية في طريق المواصلات الإمبراطورية أمر جوهري بالنسبة لمستقبل الدفاع عن الهند والإمبراطورية البريطانية؛ فهذه العوامل كلها مما يحملنا على الظن بأن المسألة الفلسطينية قد تجوز تطورات هامة أخرى قبل أن يستبين المصير النهائي الذي قدر لها؛ وللسياسة أعاجيب لا تفنى وكم سمعنا أيام اشتداد النضال بين مصر وإنكلترا، وعيد السياسة البريطانية بضم مصر إلى الإمبراطورية إذا لم تخلد إلى السكينة وتقبل المصير الذي يفرض عليها، ولكن مصر لم تن للوعيد حتى اضطرت سياسة القوة الغاشمة أن تختفي، وأن تترك المجال حراً لسياسة التفاهم والوفاق؛ وكل ما نرجوه في هذه الكلمة هو أن توفق الأمة الفلسطينية المجاهدة في دفاعها المؤثر عن كيانها، وأن يكلل جهادها بما يحقق أمانيها وطمأنينتها.
بمناسبة إشراق دولة الفاروق الجديدة
لمحات من شمس الأمس الغاربة
السلطان الغوري ومفاوضاته الدولية
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
تستقبل مصر اليوم عهدها الجديد المشرق بتولية مليكها المحبوب الذي يتربع فوق عرش القلوب ويحكم شعبه عن ولاء ثابت له في حنايا الصدور. وعهد الفاروق وإن كان جديداً ناضراً يستأنف عهود المجد السابقة ويسترجع آيات العلا الغاربة فقد كانت مصر أبدا واسطة عقد الدول وجوهرة تاج المدنية.
وإن لعهدنا الحاضر معنى خاصا في تاريخ البلاد، ونحن إذ نحتفل في هذين اليومين بتتويج مليكنا المحبوب فإنا نشهد يوما من أكبر أيام مصر وأعظمها دلالة وأحفلها ببواعث الفخر والاعتبار والسرور، وذلك لأن عهد الفاروق الجديد أول عهد يخفق فيه على مصر علم الاستقلال بعد فترة سلب الدهر منها علمها ونزع عنها تاجها. ونود هنا أن نتخطى القرون الماضية التي شهدت تلك المأساة فنطفر إلى آخر عهد كان فيها ذلك العلم عالياً مكرماً عزيزاً، لنذكر في نشوة السرور الحاضرة بعض ما كان لبلادنا من العز الغابر لنحس بالنشوتين معا نشوة الأمل الطالع ونشوة ذكرى المجد التالد.
كان قانصوه الغوري آخر السلاطين العظماء الذين حكموا مصر منذ انقرضت دولة الأيوبيين في مصر فتعاقبوا على حكمها نحو ثلاثة قرون كانت مصر فيها أقوى أمم الشرق والغرب وتبسط سلطانها على الشام والنوبة ويمتد نفوذها في البحر حتى قبرص وتدين لها بلاد الشرق قاطبة بالزعامة وتتقرب إليها دول الغرب قاطبة لابتغاء ما عندها من كنوز التجارة ولتخطب مودتها في السلم ولتتقي عدواتها في الحرب، وكانت مع كل ذلك قلب المدنية التي تكدست فيها آثار العلم والفن والصناعة التي بلغتها الإنسانية إلى ذلك الوقت
تولى قانصوه في مارس سنة 1501 وهو جركسي الأصل. نشأ في بيت الملك الأشرف قايتباي العظيم ومازال حتى صار أميراً من أمراء الجيش ووكلت إليه قيادة فرق الحدود المصرية في طرسوس وكليكية وملطية. فلما مات قايتباي اختاره الملك الناصر ابنه لرياسة
أمراء حلب وصار من كبار الأمراء الذين كان يقود كل منهم ألف فارس في الحرب، وكانوا لذلك يسمون (مقدمي الألوف)؛ وبلغ بعد ذلك إلى أكبر مراتب الدولة فأصبح دوادارا ثم وزيراً. وحدثت عقب ذلك أحداث جعلت الناس يتطلعون إليه ليجعلوه سلطاناً. ولم يرض بذلك في أول الأمر إذ كان يؤثر أن يكون أحد كبار الأمراء حتى لا يتعرض للمسئولية الجسيمة التي يتطلبها تبوء العرش. ولكن كبار الأمراء اضطروه إلى قبول التاج اضطراراً حتى قيل إنه بكى عندما عجز عن مقاومتهم ونزل مرتين عن الجواد الذي أركبوه إياه ليسروا به إلى القلعة ليحتفلوا بتوليته السلطنة بها
ولي الغوري عرش مصر ولقب بالملك الأشرف أبي النصر. وسار في القاهرة عقب ذلك في موكب حافل يحف به الأمراء وجنود الجيش المظفر، وكان يلبس الخلعة الرسمية التي كانت عادة السلاطين أن يلبسوها وهي الخلعة التي أهداها الخليفة العباسي إلى السلطان العظيم بيبارس من قبل منذ نيف وقرنين عندما انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة عقب تحطيم التتار بغداد وقضائهم على الحكم العباسي بها.
سار السلطان قانصوه في ذلك الموكب يلبس تلك الخلعة وهي عبارة عن جبة سوداء وعمامة سوداء وطوق من الذهب حول العنق وسيف بدوي متدل من حمائله، وحملت على رأسه المظلة الرسمية التي يعلوها رسم طير من الفضة المذهبة. وكان عمره عند ذلك نحو الستين وله لحية ضرب فيها البياض، وهو بدين أسمر اللون واسع العينين.
وكانت مصر في أيامه مركز حركة سياسية متصلة لا تنقطع لأن أحوال العالم في وقته كانت تؤذن بشر انقلاب عرفه التاريخ الحديث
كانت أسبانيا قد تمكنت من طرد العرب من غرناطة، ولم تكد مصر تفيق من تلك الهزة حتى سمعت بأن دولة أخرى مجاورة وهي البرتغال قد عرفت طريقاً إلى الشرق تسير فيه السفن من بلادها إلى الهند مباشرة عن طريق البحر حول رأس الرجاء، وكانت بلاد العالم كله تتطلع إلى مصر لتنظر ما هي فاعلة في هذين الحادثين وتترقب سير هؤلاء البحارة الذين هاجموا بحار الشرق ليروا أيستطيعون أن ينفذوا الحلم الذي تصوروه في محاولة القضاء على تجارة مصر. وكانت مدن أوربا المطلة على البحر الأبيض المتوسط كالبندقية تقف عند ذلك مشدوهة تنظر تارة إلى مصر وتارة إلى شبه جزيرة الأندلس، وهي تحاول
أن تحتفظ بمودة الأولى لتحتفظ بتجارتها معها وأن تحتفظ بمودة الثانية خشية على سمعتها بصفتها إحدى البلاد المسيحية الخاضعة للبابا والتي ما كان ينبغي لها أن تعادي المسيحيين في سبيل نصرة المسلمين.
وكانت حدود مصر الشمالية تضطرب كذلك بين قوتين ناشئتين إحداهما قوة الشاه إسماعيل الصفوي في بلاد العراق وإيران، والأخرى قوة النزلاء العثمانيين في بلاد الأناضول وأوربا، فقد كان محمد الفاتح أتم فتح القسطنطينية وجعل عاصمة دولته فيها محل الدولة البيزنطية العظمى. وكان الشاه إسماعيل الصفوي قد جمع أكثر العراق وإيران في دولة عظيمة تهدد الشرق كله بأن تكتسح بلاده وتبسط عليها مذهبها الديني الشيعي.
وكانت دولة الصفوي أشد دول الشرق خطرا على حدود مصر لأنها كانت تتبع طريق الدعاية والخفاء في الإغارة على البلاد التي تليها. وكانت لا تتورع عن أن تحالف المسيحيين لتساعدهم على القضاء على عظمة الدولة الإسلامية السنية الكبرى وهي مصر
فكانت القاهرة بطبيعة هذه الظروف مركزا لتيارات مختلفة بعضها مقبل من الشرق وبعضها من الغرب، لكل منها وجهة ولكل منها لون. وسننقل هنا بعض مناظر المفاوضات السياسية التي شهدتها أبهاء الحكم عند ذلك
كانت أسبانيا تدين لملك كبير وملكة عظيمة جمعا تاجي قشتالة وأرغونة في سبيل توحيد كلمة مسيحي الأندلس، وتمكنا بذلك من القضاء على آخر أثر من آثار الحكم الإسلامي الذي كان لا يزال يتحصن في غرناطة. وبلغت شكوى مسلمي الأندلس مسامع العالم الإسلامي ولاسيما دولة مصر ذات المجد التالد. وخشي عاهلا الأندلس أن يفتح ذلك عليهما باب الجهاد الصليبي القديم؛ وشاعت إشاعات سوداء عن عزم سلطان مصر أن ينتقم من رعاياه المسيحيين للثأر لمن وقعت عليهم مظالم أسبانيا من مسلمي المغرب.
فعوّل ملكا أسبانيا على أن يرسلا من قبلهما إلى مصر رسولا عظيم المقام في الدولة وهو (بطرس مارتير دانجير) وسار من غرناطة مارّا بفرنسا وإيطاليا وأبحر من البندقية في سبتمبر سنة 1501 وبلغ الإسكندرية في ديسمبر من ذلك العام
تردد السلطان الغوري في مقابلة ذلك السفير ولكنه سمح له بعد لأي بأن يمثل بين يديه، وكان ترجمان السلطان (تنجري بردى) من أصل أسباني فساعد على تخفيف ما كان عند
السلطان العظيم من الموجدة على سفير الملكين اللذين اشتهرا باضطهاد المسلمين وإذلالهم وإيقاع أشد صنوف الأذى بهم.
وقابل الرسول السلطان مرارا مقابلة علنية ثم سمح له بلقاء سري تم فيه إقناع السلطان بأن ما بلغه عن مظالم الحكم الأسباني إنما هو من أكاذيب يهود الأندلس، فإن السفير أقنع السلطان العظيم أن وقعة ملكي الأندلسي إنما كانت مسددة إلى اليهود، وأن هؤلاء قد هاجروا من تلك البلاد وجعلوا يشنون الغارة عليها ويرمون مليكها بالظلم والعسف كذبا لإيغار صدور المسلمين وملوكهم على دولة أسبانيا الناشئة. فلم يعد ذلك السفير من مصر إلا بعد أن كتبت له معاهدة صداقة وسلام حملها معه وغادر القاهرة فائزا في فبراير سنة 1502
وكانت دولة البرتقال في هذه السنوات قد أفلحت في تثبيت أقدامها على شواطئ آسيا وجعلت تناصب مصر العداء في بحار الهند فأثر هذا في تجارتها حتى خلت أسواق بيروت والإسكندرية من الأفاويه التي كانت دول أوربا تتهافت على شرائها من تجار البندقية الذين يشترونها من أسواق مصر والشام. فثارت مصر لما أصابها من خسارة في تجارتها وفي سفن أسطولها، وأخذت تستعد لمقابلة عدوان البرتقال بمثله وجهز السلطان في الوقت نفسه بعثات سياسية أرسلها للمفاوضة مع البابا والبندقية ومع أسبانيا والبرتقال، وكانت رسالاته تنطوي على رجاء المليك المتحضر للدول الأخرى أن ترعى حقوقه وأن تقلع عن معاداته حفظا للسلام كما كانت تنطوي على تهديد المسيحية بالإيقاع بما للمسيحيين في الشرق كله من مصالح ورعايا ومعاهد. وكان أول رسول له في هذه المفاوضات هو رئيس دير جبل صهيون واسمه (فرا ماورو دي سان برناردينو) ثم أرسل بعد ذلك ترجمان الخاص (تنجري بردى). ولكن هذه الرسائل لم تفض إلى نتيجة حاسمة، واضطر السلطان إلى أن يعلن أنه سيعمد إلى القوة والبطش للانتقام. وما كاد يعلن هذا العزم حتى بادرت دول أوربا فأرسلت إليه سفراءها للاعتذار له وإظهار صداقتها ومودتها وأنها غير راضية عن الدول التي تسعى للإضرار بمصر أو تعمل على الكيد للمسلمين، وكانت البندقية أولى الدول التي سارعت إلى إظهار المودة والصداقة لشدة الترابط بينها وبين مصر. غير أن الظروف أساءت إلى هذه الصداقة الوراثية بين البندقية ومصر وكادت تصل بها القطيعة إلى
القطيعة والعداوة، إذ اتفق أن ضبط في الشام في شهر مايو سنة 1511. رجلان أحدهما من جزيرة قبرص واسمه (نيقولان سوربيه) وكانا آتيين من الشرق من بلاد الشاه إسماعيل الصفوي يحملان خطابين موجهين من الشاه إلى حكومة البندقية معنونين إلى (توماسو كونتاريني) قنصل البندقية في دمشق و (بطرس زين) قنصلها بالإسكندرية. وكان السلطان العظيم قانصوه يرى في الشاه الصفوي عدوا خطيرا. فلما رأى هذه المراسلة بينه وبين البندقية زاد حنقه على تلك الصديقة ورأى أنها تخادعه وتتظاهر بمودته في حين أنها تراسل عدوه الأكبر، وأوشك الأمر أن يفضي إلى عداوة صريحة بينهما
فأمر السلطان بالقبض على القنصلين، وقادهما إلى القاهرة وسجنهما بها وعزم على أن يعامل رعايا البندقية معاملة رعايا الدول المعادية فيقبض عليهم ويصادر أملاكهم وأموالهم ويقطع علاقته بدولتهم إيذاناً بالعداوة الصريحة.
وكانت فرنسا والبندقية تتنافسان على النفوذ في الشرق، فلما رأت فرنسا هذا التوتر في علاقة مصر بالبندقية سارعت إلى إرسال سفير إلى السلطان ليوثق معه روابط المودة وكان هذا السفير اسمه (اندريه لرو)
ولما رأت البندقية أن فرنسا تسعى هذا السعي في تلك الأزمة لم ترض أن تترك الميدان لمنافستها خشية ما يعود عليها من الضرر لو تغيرت سياسة مصر نحوها، فبادرت بإرسال سفير كبير لمقاومة مسعى فرنسا وكان سفيرها هو (دومنيكو تريفيسان)
وهكذا شهدت القاهرة في سنة 1511 معركة سياسية دولية لم يكن فيها سفراء فرنسا والبندقية هم المتنافسين على صداقة سلطان مصر فحسب، بل كان إلى جانبهم سفراء آخرون بعضهم مسيحيون كسفراء (جورجيا) البعيدة، وبعضهم مسلمون كسفراء النزلاء العثمانيين وسفراء شاه إيران.
ولعله من المناسب هنا أن نصف استقبال سلطان مصر لسفير البندقية مستمدين تفاصيل ذلك من كاتب صحب ذلك السفير.
قال شاهد العيان يصف رحلة السفير ومن معه إلى مقرهما بالقاهرة ويصف لقاء السلطان لهم:
نزلنا ببولاق ثم سرنا إلى المنزل المعد لنا في بقعة من أحسن بقاع القاهرة. وكان المنزل
آية في الفخامة والرواء لا يستطاع أن يوجد مثله في بلد من البلدان. قيل إن نفقات بنائه بلغت مائة ألف دوقية. وكانت جدرانه مغطاة بالنقوش موشاة بالذهب وكانت أرضه مغطاة بالفسيفساء وأبوابه مطعمة بالأبنوس والعاج.
(وفي الغد أتت إلى السفير هدية من السلطان (وهنا وصف ما تحتوي عليه الصور) وفي يوم الاثنين ذهبنا إلى المقابلة الأولى لصاحب العرش وكان نظام المقابلة على النحو الآتي:
(جاء المهمندرا والترجمان إلى السفير في بيته ليصاحباه، وركب جواده ومن حوله معيته بعضهم يركب خيلا وبعضهم يركب بغالا. وسرنا في المدينة حتى بلغنا القلعة فنزل السفير ومن معه وصعدوا سلماً ثم دخلوا من باب يحرسه جماعة كبيرة من الجنود
ثم دخلوا من أربعة أبواب واحداً بعد الآخر. وكان عند آخر باب منها فرقة موسيقى تصدح بالأنغام. ثم مررنا بعد ذلك بثلاثة أبواب أخرى حتى دخلنا إلى فناء صغير تحيط به حوائط قد علقت عليها أنواع السلاح والدروع وإلى جوانبها نحو خمسين رجلا يعملون في صناعة السلاح المختلفة، وقد علمنا أن هؤلاء العمال إنما أعدوا قصداً لا طوعاً لصناعة السلاح والاستعداد للحرب فإنا ما كدنا نمر حتى ذهبوا جميعاً وتفرقوا.
(وأخيراً رأينا السلطان في فناء القلعة الفسيح جالساً على مسطبة علوها نحو خطوتين فوق الأرض تغطيها قطيفة خضراء وعلى رأسه قلنسوة كبيرة يعلوها قرنان عاليان يبلغ كل منهما نصف ذراع. وكان يلبس قفطاناً من القطن الأبيض فوقه جبة من قماش لونه أخضر قاتم. وكان يجلس مربعاً ساقيه كما يجلس الخياطون عندنا وعن يمينه سيفه ودرعه وكانا لا يفارقانه أبداً. وكان عن يمينه على مسافة قليلة نحو عشرين من الأمراء الملكيين الذين يقود كل منهم ألفاً في الحرب وقوفا، وكلهم يلبسون الأبيض وعلى رؤوسهم قلانس مثل قلنسوته، وكان سوى هؤلاء عدد كبير من المساعدين كلهم وقوف يملأون فضاء الفناء.
(وتقدم السفير حتى إذا ما وقعت عينه على السلطان رفع قبعته وانحنى إلى الأرض فلمسها بيديه ثم رفعهما إلى شفتيه وجبهته دلالة على مقدار احترامه للسلطان العظيم، ثم سار مع من معه نحو خمسة عشرة خطوة وحيا مرة أخرى، وكان عند ذلك قد صار على نحو عشرين خطوة من السلطان. وكانت هذه المسافة تغطيها الأبسطة ولم يكن من المباح السير فوقها، فحيا السفير تحيته الأخيرة وأخرج من صدره خطاب (الدوج) مكتوباً على ورق
بنفسجي وقد ختم بخاتم من الذهب ولف برباط تدلى منه دلايات من الذهب، وقبل السفير الخطاب ثم وضعه على رأسه وسلمه للمهنمندار فناوله للسلطان ففتحه ثم أرجعه فقرئ له، فلما انتهى من سماع ما فيه سأل السفير عن حال الدوج وصحته، ولما انتهى السفير من الجواب حياه وتراجع إلى الوراء خارجاً هو ومن معه.
وقد تعددت المقابلات بعد هذه المقابلة الأولى، كانت إحداها في بهو فسيح يقول فيه شاهد العيان:(وهذا البهو لا يمكن أن يقاس به بهو التشريفات الكبير في قصر الرياسة العظيمة في البندقية وذلك لعظمته وجماله ونفاسة نقوشه وأثاثه)
وكانت المقابلة الثالثة في ساحة الرميلة المجاورة للقلعة في حديقة خاصة بالسلطان في ذلك الميدان الفسيح.
وكانت المقابلة الرابعة في هذا الميدان نفسه ولكن في غير الحديقة وكانت السلطان هذه المرة جالساً على منصة إلى جانب سور القلعة وكان يلبس ملابس كالتي كانت عليه في المقابلة الأولى، وكذلك كانت هيئة الاستقبال كالهيئة السابقة. وتقدم السفير حتى صار على أربع خطوات من السلطان ثم وقف هو ومن معه وجعل يتكلم مع السلطان بصوت عال بواسطة ترجمانه، وجاء في أثناء الاجتماع السيد (بطرس زين) قنصل البندقية في دمشق وهو المتهم بخيانة السلطان وكان يلبس ثوباً من قطيفة قرمزية.
واستمرت المقابلة ثلاث ساعات كان السفير في أثنائها واقفاً يحمل قبعته في يديه وكان موضوع الحديث علاقة البندقية بدولة الصفوي، وكان السلطان يتكلم غاضباً في لهجة قاسية ولهذا كان السفير يبذل الجهد لكي يهدئ من غضبه، وكان كل همه أن يظهر براءة حكومة البندقية من كل سعي ضد مصر فنظر السلطان إلى السفير وصاح به قائلا: -
(أنا أعلم أن حكومة البندقية بريئة من السعي ضدي ولكن هذا الكلب (مشير إلى قنصل البندقية بدمشق) يعمل على خيانتي وقطع علاقتي بدولتك) وكان السلطان وهو يقول ذلك يضطرب أشد الاضطراب من الغضب فاستمر السفير في خطابه يحاول الدفاع عن دولته، فصاح به السلطان قائلا:(أيها السفير - هل تعلم كيف سارت الأمور؟ إذا كنت قد أتيت سفيرا للصدق فمرحبا بك، وأما إذا كنت قد حضرت لتدافع عن الخونة وعن أعدائي فلا مرحبا بك، فاترك بلادي وخذ معك مواطنيك من تجار بلادك) فعاد السفير يلاطف في
حديثه وقال: (إنني أجهل يا سيدي السلطان ما كان من هذا القنصل. ولكني أؤكد براءة دولتي وصفاء مودتها لكم. فإذا كان عندكم ما يدل على كذب قولي فأنا مستعد أن أرهن حياتي على صدق ما أقول. وأما إذا كان القنصل قد أضر بمولاي بجهله وغباوته، ولا أستطيع أن أسلم بأنه يقصد إلى ذلك قصدا، فإن حكومة بلادي كفيلة بعقابه على جرمه الشنيع؛ فأسلمه لي لأعود به إلى بلادي ليلقى بها جزاءه بعد تحقيق دقيق. وسيلقى من الجزاء ما يعلن للعالم كله صدق مودتنا لكم وتعلقنا بكم) ثم قام السفير ووضع بيده غلا حول عنق القنصل المتهم. ولما انتهت المقابلة عاد السفير راكباً واقتيد القنصل سائرا على قدميه حتى وصل إلى البيت الذي كان السفير نازلا فيه.
وفي هذه المقابلة تناول الحديث موضوع الجزية المفروضة على قبرص وكانت البندقية تدفع تلك الجزية كل سنة لمصر.
وتعددت المقابلات بعد ذلك وكانت مقابلات خاصة بلغ عددها سبعا، وفي المرة الأخيرة أستأذن السفير السلطان في السفر فأذن له وخلع عليه خلعة من القطيفة المحلاة بالفراء حول رقبتها.
وكان نجاح ذلك السفير في هذه المفاوضات عظيما فأنه استطاع أن يحصل لدولته على معاهدة صداقة صريحة جدد بها عهود المودة الأولى.
وهكذا بقيت مصر مركزا عظيما للتوازن السياسي والاقتصادي بين الدول يقصدها الجميع ويتقرب إليها الجميع إلى أن أراد الله أن تفجعها دولة شرقية في استقلالها وعظمتها - تلك الدولة التي كانت مدينة لمصر أكبر دين في نشأتها وتقدمها - وهي الدولة العثمانية التي لولا حماية مصر لها في نشأتها ووقفاتها الكريمة في الدفاع عن المدنية الإسلامية أمام هجمات تيمور لما كان لها في العالم وجود.
ولكن إذا كان القضاء قد قدر لها أن تفقد استقلالها عند ذلك فقد شاء كذلك أن يعود لها ذلك الاستقلال عزيزا مجيدا لنعيد إن شاء الله سيرة عظمتها ولتستأنف قصتها في القيام برسالة المدنية والسلام في العالم الجديد.
محمد فريد أبو حديد
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
في اللغة العربية:
من المشكلات العويصة التي تواجهها اللغة العربية في هذا العصر، مشكل قلما انتبه له المشتغلون باللغة، لأنه يتعلق بموضوع لا يمكن يوماً ما أن يكون ذا علاقة بشئون الحياة العامة تلك الشئون التي يوجه لها الناس عادة معظم اهتمامهم، ويصرفون فيها أكثر مجهودهم، ويوجهون نحوها أخص عنايتهم.
ذلك بأن الموضوع الذي سنتكلم فيه له علاقة بنواح علمية صرفة، قلما يحتاج إلى النظر فيها غير العلماء المختصين، وندر أن يحتاج إليها كاتب أديب، أو شاعر مستجدد أو مستقدم. هذا بالرغم من أن أفق الأدب قد اتسع مداه، وتصور الشعر قد تعالى إلى أسمات لم يفكر فيها الأقدمون.
أما المشكل فينحصر في وضع أسماء عربية لأفراد الحيوان والنبات تعين الأشخاص والطبقات المختلفة بما فيها من الفصائل والعشائر والمراتب والأجناس والأنواع. ولقد كثر الجدل حول هذا الموضوع ولم يستقر الرأي فيه على شيء يصح الأخذ به؛ فإن لكل رأي من الآراء رأياً يناقضه، ولكل أسلوب من الأساليب التي قيل بها أسلوباً ينابذه، والأمر فوضى لا ضوابط له ولا حدود، ينتحيها المترجم أو واضع الاصطلاح، حتى يأمن أن يخرج له ناقد برأي جديد يسفه ما ذهب إليه. وكل ما لا حدود له، لا علم فيه. فالعلم أول شيء حدود وضوابط، هي أشبه بالمنطق عند القدماء. ومنطق العلم من شأنه البيان والتعيين فإن ما هو مدخول بشك ليس من العلم الثابت في شيء. فما بالك بمسألة علمية، كالتي نحن بصددها، لم يتفق باحثان على قاعدة واحدة يمكن أن تتخذ أساساً للنظر فيه؟
ظلت العربية واقفة وعجلة الزمان من حولها تدور، وتسارع دورانها في خلال القرنين الفارطين، حتى بعدت الشقة بين الحياة الجديدة ومطلوبات العلوم والفنون، وبين اللغة العربية، حتى أن الفرق ليروع كل واقف على حقيقة الهوة التي تفصل بين العلوم والآداب، وبين قدرة اللغة العربية على تأدية مدلولات مصطلحاتها في كلمات أصيلة مضرية الأصل أو صحيحة الاشتقاق.
ولقد انحصر الخلاف بين الناظرين في هذا الموضوع في نقط ثلاث: الأولى القول بالتعريب؛ والثانية القول بالنحت؛ والثالثة القول بالاشتقاق. ولابد من الكلام في كل نقطة من هذه النقط لنظهر ما وراءها من مناحي القوة والضعف؛ حتى نخلص في النهاية برأي، آمل أن أكون قد وفقت فيه.
أما القول بالتعريب فرأي الذين يريدون اختصار الطريق وأخذ الأمر بنواصيه الظاهرة، دون خوافيه. ولاشك في أن العرب قد نزعوا هذه النزعة، وجنحوا هذا الجنوح. ويريد القائلون بالتعريب أن يتخذوا مما عمل العرب ركيزة يرتكزون عليها تعزيزاً لرأيهم فيه. غير أن هؤلاء لم يفطنوا إلى أشياء من أوجب الواجبات أن تكون دستور القول في مثل هذا الأمر. فالعربي أول شيء قد عرب وفي نفسه سليقة العرب وفي لسانه فصاحتهم وفي لغته بلاغتهم، وهذا أمر يتطلب منا الحكم في من منا يمكن أن يكون ذا سليقة عربية أو ذوق عربي يقارب ذوق الأقدمين أصحاب اللغة؟ هذا شيء. وهنالك شيء آخر فإن العربي لم ينزع إلى التعريب إلا مكرهاُ، بدليل القلة النادرة في ما ورد من الألفاظ المعربة مقيسة على الألفاظ العربية الأوزان الصحيحة الاشتقاق. وهذا يدل على أن قاعدة العرب كانت الاشتقاق على الصيغ التي كان يرى العربي أنها أصلح لأداء المراد. وهذا أمر له من الشأن ما لم يفطن له الأكثرون. ذلك بأني أعتقد أن العربي لم يزن ما اشتق من الأسماء خبط عشواء، وإنما راعى في اشتقاقها سليقة خاصة به. وبعد هذا وذاك ينبغي لنا أن نعرف أن التعريب ليس من السهولة بحيث يتصور الداعون إليه، بل إن من أسماء الحيوان والنبات أكثرية مطلقة يفضل المعرب أن يصوغ لها اسماً عربياً كائناً ما كان على أن يعربها فتكون غليظة غلظ الجبال، لندرة ما يوافق تركيب حروفها جرس تركيب الحروف العربية من حيث المخارج وتلاؤم ذلك في الألفاظ العربية.
على أن جملة هذا القول لا تغني عن التصريح بأننا في حاجة إلى التعريب، ولكن بقصد وقدر معلوم، على أن نتقيد في التعريب بقواعد، أخصها أن يكون المُعَرَّبُ على وزن عربي من الأوزان قياسية أو سماعية حتى يلائم جرسه جرس الكلمات العربية، وحتى لا يحس منه المتكلم بالعربية نفوراً أو يجد فيه تنافراً مع ما تلقى من صيغة نعته الكريمة.
ومع القول بأننا في حاجة إلى التعريب، ينبغي أن نلحظ أن لجوءنا إليه إنما تدعونا إليه
ضرورة قصوى يقف عندها جهدنا في البحث والاستقصاء وتقليب كافة الأساليب بكامل وجوهها.
ننتقل من هذا إلى الكلام في رأي يقول به المؤيدون لنظرية التعريب إطلاقا، وبلا قيد. هم يقولون إن أسماء الحيوان والنبات لغة علمية عالمية، لا ينبغي لنا أن نزايلها بوضع ألفاظ أو مصطلحات عربية تقصينا عن جو العلم. وفي هذا القول وجوه من الضعف ووجوه من القوة. ذلك بأن القائلين بهذا الرأي قد فطنوا إلى حقيقة وغابت عنهم حقائق كثيرة، لم يجعلوا لها وزنا في كفتي الميزان الذي اتخذوه وسيلة للحكم في موضوع من أدق الموضوعات التي تتصل بحياة اللغة العربية.
أما الحقيقة التي لم تغب عنهم، فقولهم بأن أسماء الحيوان والنبات لغة عالمية. وهذا ما ليس إلى نكرانه من سبيل. أما الذي غاب عنهم فحقيقة ذات علاقة شديدة بالحقيقة التي لم تغب عنهم. ذلك بأن أسماء الحيوان والنبات لغة عالمية في اللغات الأعجمية أي في اللغات (الاندوجرمانية)، وليس في اللغات السامية. ولا أظن أن هذا الفارق ضئيل بحيث لا يعتد به، بل على العكس من ذلك أعتقد أن ذلك الفارق من أكبر الفوارق التي تحفزنا إلى القول بأن أسماء الحيوان والنبات إن كانت عالمية في اللغات (الاندوجرمانية)، فلن تكون بالنسبة للغات السامية إلا أسماء غريبة لا تمت إليها بأي سبب من الأسباب.
أضف إلى ذلك أن جهادنا في سبيل اللغة العربية ينبغي أن يتجه متجهاً واحداً، هو أن تصبح هذه اللغة قادرة على الاستقلال بمصطلحاتها العلمية والفنية والأدبية؛ بمعنى أنها تصبح لغة العلم ولغة الأدب ولغة الفن في مدارسنا ومعاهدنا بحيث نستطيع أن نؤدي بها أغراض المعرفة من غير استعانة بلغة أخرى. ولنفرض مثلاً أننا أردنا أن ندخل طرفاً من علم الحيوان في كليات الأزهر فهل يمكن لنا أن ندخله من غير أن تكون اللغة العربية تامة القدرة على أداء المعاني والأسماء الضرورية لدرس هذا العلم الكبير في وسط لا علاقة له بغير اللغة العربية؟ وكيف تصبح اللغة العربية وافية بمطالب العلوم والفنون، ما لم تكن تامة الوسائل لأداء أغراض العلم لطلاب لا يعرفون غير العربية؟ وهل من الممكن بعد هذا أن ندرس هذا العلم ونحشو العبارات العربية الصريحة بألفاظ يونانية ولاتينية، لا ينطقها أهلها الأصليون في بعض الأحيان إلا بصعوبة؟ وليجرب معي بعض حضرات طلاب
الأزهر قراءة الجمل الآتية:
إن (الأورنثيرونكهوس بارادوكرس) حيوان ثديي بيوض يعيش في أوستراليا! والأنثربثكوس طروغلوديطس حيوان من البريمات يعيش في أفريقية! والأرخوبتريكس طائر منقرض!
على هذه الصفة تكون عبارات علم الحيوان في العربية، إذا أردنا أن نلزم التعريب الحرفي الذي يوافق اللغة العالمية في اللغات (الاندوجرمانية)(الهندية الجرمانية). ولعمري كيف يستطيع عربي لا صلة له باللاتينية واليونانية أن ينطق هذه الكلمات الأعجمية المنحوتة من مقاطع متباينة وأهجية متنافرة نطقاً صحيحاً كما تنطق في لغتها العالمية التي يتغنى بها فئة من ذوي الرأي لم يفطنوا إلى الصعاب التي تكتنف نظريتهم، بل إنهم لم يحاولوا أن يفطنوا لها
ننتقل الآن إلى رأي القائلين بالنحت، وهم لاشك أقل من القائلين بالتعريب. أما النحت فباب يلحقه اللغويون بفقه اللغة، ولكل من مشهوري اللغوين رأي فيه. فمن رأي السيوطي أن معرفته من اللوازم. وعرفه ابن فارس في كتابه (فقه اللغة) فقال: إن العرب تنحت من كلمتين كلمة واحدة، وهو جنس من الاختصار واستشهد بقول الخليل:
أقول لها ودمع العين جار
…
ألم يحزنك (حيعلة) المنادي
والحيعلة من قول (حَيِّ على). قال ابن فارس:
(وهذا مذهبنا في أن الأشياء الزائدة على ثلاث أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد (ضَبْطر) من (ضبط وضبر)؛ وفي قولهم (صَهصَلق)، إنه من (صهل وصلق)؛ وفي (الصَّلدَم) إنه من (الصلدِ والصَّدْم) وقد ذكر ابن فارس مذهبه هذا مفصلاً في كتابه مقاييس اللغة.
ومن كلام ياقوت في معجم الأدباء:
(سأل الشيخ أبو الفتح عثمان بن عيسى الملطي النحوي، الظَّهيرَ الفارسي عما وقع من ألفاظ العرب على مثال (شقحْطب) فقال: هذا يسمى من كلام العرب المنحوت، ومعناه أن الكلمة منحوتة من كلمتين، كما ينحت النجار خشبتين يجعلهما واحدة. فشقَحْطب منحوت من (شقَّد وحطب). فسأله الملطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال إليه، ليعوِّل في معرفتها
عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسماها كتاب (تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب) اهـ. وهذه الوريقات مفقودة على الأسف.
وحكى الفرَّاء عن بعض العرب (معي عشرة فأحْدهنَّ لي) أي صيرهن أحد عشر اهـ.
وقد ذهب اللغويون إزاء النحت مذاهب. فمنهم فئة لا تقول برأي ابن فارس. إذ لو صح رأيه إذن لأصبح النحت كثيراً في اللغة، وبذلك يمكن القياس عليه ويطَّرد في كثير من الأحوال ومنهم فئة تقول برأيه. ولاشك في أن قليلاً من التأمل يرجح قول ابن فارس في أن كل الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف أكثرها منحوت. وأقرب مثل على هذا كلمة (قُرْدُوح) أي القرد الكبير فهي بلا شك منحوتة من (قَرَّ) و (دَوْح) والقرود تقر في الدَّوْح، فسمى العرب واحدها قُرْدُوح، وما كان أكثر تسامحهم، مادام جرس الكلمة جارياً على الذوق العربي السليم.
وسواء أكان النحت أصلاً من أصول الوضع الصحيحة في اللغة أم كان غير ذلك، فإن الرأي غير متفق على اتخاذ النحت أساساً من الأسس التي يلجأ إليها في وضع الألفاظ الاصطلاحية الجديدة. ذلك بأن القول بأن اللغة العربية لغة اشتقاق، وليست لغة نحت، تجعل الذين يريدون التوسل بالنحت إلى وضع المصطلحات الحديثة يتريثون طويلاً. ولكنا بالرغم من هذا نعرض للأسئلة الآتية:
أولاً - أيعتبر النحت قياسياً أو سماعياً؟ وما حد القياس والسماع فيه باعتبار أقوال فقهاء اللغة؟
ثانياً - أيجوز أن نجري على النحت في وضع المصطلحات التي نعجز عن ترجمتها أو تعريبها تعريباً يفي بحاجات اللغة؟
ثالثاً - أيفسد النحت اللغة العربية إذا روعي فيه (1) أن يكون المنحوت على وزن عربي نطق به العرب (2) ألا يكون نابياً في الجرس عن سليقة اللغة (3) أن يؤدي حاجات اللغة من إفراد وتثنية ونسب وإعراب
رابعاً - أيجوز أن تنحت ألفاظ على غير وزن عربي عند الضرورة، أم تقتصر على أن يكون المنحوت على وزن عربي إطلاقاً
خامساً - هل كون اللغة العربية لغة اشتقاق في بنيتها، ينافي النحت مع مراعاة شروط
خاصة كالتي سبق أن ذكرناها؟
سادساً - إذا أضفنا إجازة النحت إلى الاشتقاق، أيكون هذا توسيعاً في اللغة وتيسيراً، أم تضييقاً وتعسيراً؟
وقبل أن نمضي في شرح ما نراه حلاً لهذا المشكل الكبير ينبغي لنا أن نلقي نظرة في التعريب والنحت، لنقول إنهما في أكثر الأحوال عسيرين كل العسر، شاقين كل مشقة جامدين كل جمود، وبخاصة إذا كثرت مقاطع الكلمات الأعجمية المراد تعريبها أو تعددت حروفها إلى ما فوق الخمسة، أو تكونت من أكثر من لفظ في أسماء الأنواع من النبات والحيوان. وكذلك في النحت فقد تجد أن حروف الكلمتين المراد نحت كلمة منهما قد تنافرت حتى ليتعذر نحت كلمة منهما توافق الجرس العربي.
على أننا بالرغم من كل هذا، وبالنظر إلى كثرة الأسماء التي نريد إيجاد مقابلات لها في العربية، وهي تعد بالملايين ينبغي توسيعاً لأقيسة اللغة وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون والآداب أن نعتبر التعريب والنحت أصلين من أصول الوضع في اللغة، على أن نحذر من التمادي فيهما كل الحذر، وألا نلجأ إليهما إلا عند الضرورة القصوى مادامت أوزان اللغة وصيغها تواتينا بحاجتنا من الأسماء التي نطلبها.
بقي علينا بعد ذلك أن نعرف هل تواتينا اللغة العربية بما نحتاج إليه من الأسماء؟ إن لي في هذا رأياً جديداً لعلي أوفق إلى تبيانه في الأسطر التالية.
جمدت اللغة العربية بتعنت اللغويين، كما جمدت الشريعة الإسلامية بتعنت أصحاب المذاهب. فإن القول بقياسية الصيغ وسماعيتها، بنسبة الكثرة والقلة، بالرغم من أنها صيغ سمعت من أعراب أُصَلَاء، قد أصاب اللغة بجمود لم يبلغ الشعور بقسوته بقدر ما بلغ في زماننا، ولم يأنس جيل من أبناء العربية بمقدار أثره في تقييد أساليبهم العلمية بقدر ما أنس جيلنا هذا. فإن أكثر الصيغ التي وردت منها أسماء النبات والحيوان صيغ سماعية، ومعنى أنها سماعية أنه ممنوع عليك أن تقيس عليها وأن تصوغ على غرارها أسماء جديدة تدل على حيوان أو نبات لم يذكره العرب، على قلة ما تستطيع أن تعين من أشخاص الحيوان والنبات التي ذكرها العرب لضعف التعاريف أو فقدانها كلية. فلم يبق أمام الواضعين للأسماء الجديدة إلا الصيغ القياسية، وهي قليلة مقيسة بالعدد الوافر الذي ورد في كلام
العرب من الصيغ التي اعتبرها اللغويون سماعية. وهذه القيود الثقيلة التي لا مبرر لها إلا مسألة إحصائية قيدت اللغة وقيدت الواضعين بقيود وصفدتهم بأغلال، هي السر الوحيد فيما يقال عن عجز اللغة العربية عن مجاراة اللغات الأخرى في الأسماء الدالة على الأشياء الحديثة، ذلك في حين أن إجازة الصوغ على تلك الصيغ التي قيل إنها سماعية يفتح على اللغة أبواباً واسعة تجعلها تفوق كل لغات الأرض في القدرة على الوضع اللغوي الأصيل الذي لا يخرج عما اتبعه العرب من الأصول التي جروا عليها في بناء لغتهم المجيدة.
ولا أريد أن أذهب هنا مذهب القائلين بأن كل ما قيس على كلام العرب، ويقصد بهم العرب الأصلاء إلى نهاية القرن الثالث الهجري، فهو من كلام العرب، وعلى رأسهم الإمام ابن جني، على ما أرى في رأيه من رجحان، بل أريد أن أتواضع قليلا فأقول إن الظرف العلمي يحفزنا إلى التسليم، على الأقل، بالقول بأن كل الأوزان التي صاغ منها العرب أسماء الحيوان والنبات قياسية، بصرف النظر عما ورد منها قلة وكثرة في كلام العرب. فأننا بذلك نوسع حقيقة من أقيسة اللغة، وتقل حاجتنا إلى التعريب والنحت، حتى لأكاد أومن بأن حاجتنا إليهما تنعدم تقريباً، وإني لأفضل اسماً مصوغاً على صيغة نطق بها العرب، مع مراعاة الشروط التي اتبعوها في الوضع والتي سأشرحها بعد، على اسم معرب أو منحوت مهما حسن جرسه في السمع. فإننا بذلك نحافظ على سلامة اللغة ونكون قد أمنا التطوح باللغة في مهاوي الفساد الذي سوف يؤدي إليه التمادي في التعريب بالجملة، إذا اتبعنا رأي بعض المتطرفين الذين لم يتذوقوا بعد للغة العرب طعما
على أن العربي لم يجر في وضع الأسماء على غير قاعدة، بل إنه اتبع قاعدة أوحى إليه بها طبيعة الظرف الذي أحاط به في مختلف البيئات التي عاش فيها، وساعدته سليقته على تطبيقها. فأنك إذا تأملت الأمر بعض الشيء، ألفيت أن العربي كان ينظر في الشيء فيلحظ فيه كثيراً من الصفات، فإذا غلبت في الشيء صفة صاغ له اسماً مستمداً من اللفظ الذي يدل على هذه الصفة والأمثال على ذلك كثيرة لا تحصى، ولا بأس من أن أورد هنا بعضاً منها.
الإسْليح: نبات؛ قال أبو حنيفة الدينوري: واحدته إسلحة طوال القصب، في لونه صفرة تأكله الإبل. وقيل هو عشبة تشبه الجرجير، وينبت في حقوف الرمل، والأولى أكثر (ابن
سيده). وقيل هو نبات سُهْلي ينبت ظاهراً، وله ورقة رقيقة لطيفة وسَنِفه محشوة حباً كحب الخشخاش. وهو نبات مطر الصيف يُسلِح الماشية (ابن خالويه واللسان) اهـ. فأخص صفة لحظها العربي في النبات أنه يسلح الماشية أي يسهل بطونها. فسماه الإسيلح
الرَّتَم والرَّتيمة: قال أبو حنيفة: الرتم والرتيمة نبات من دق الشجر كأنه من دقته شبه بالرتم، وهو الخيوط (اللسان) وقيل إنه شجر له زهر كالخيري وحب كالعدس (ابن سيده) والرتمة خيط يعقد في الإصبع للتذكير (ج) رتم كالرتيمة (ج) رتائم ورتام وأَرْتمة، والرَّتَم محركة نبات كأنه من دقته شبه بالرتم زهره كالخيري وبزره كالعدس (القاموس 4: 116)
السُّلْتُ: قال الليث شعير لا قشر له أجرد. زاد الجوهري: كأنه الحنطة. وعن أبي حنيفة: هو صنف من الشعير يتجرد من قشره كله. وعن اللسان: وينسلت حتى يكون كالبرِّ سواء
السُّمْنة: عن أبي حنيفة: دواء تُسمَّنُ به النساء
الشَّعارير: صغار القثاء، الواحدة شعرورة، سميت بذلك لما عليها من الزَّغب
الظُّفرَة: نبات حريف يشبه الظفر في طلوعه (التاج)
الظِلامُ؛ والظالم، قال الأصمعي: هو شجر له عساليج طوال وتنبسط حتى تجوز أصل الشجرة، فمنها سميت ظِلاماً
العَصب: شجرة تلتوي على الشجرة وتكون بينها، ولها ورق ضعيف؛ وفي اللسان شجرة العصبة نبات يلتوي على الشجر، وهو اللبلاب اهـ. والاسم تشبيه بعصابة الرأس لأنه يلتوي على غرارها
العَطفُ: نبات يلتوي على الشجر، لا ورق له ولا أقتان قال ابن بَرِّي: العطَفة: اللبلاب، سمي بذلك لتلويه على الشجر
العقِدُ: شجر ورقه يلحم الجراح (التاج)
فمن هذا يظهر لك أن العربي لم يجر في وضع الأسماء على غير قاعدته، وإنما كانت قاعدته أن يلحظ في الشيء صفة، فيرجع إلى لغته حتى يقع على الكلمة التي تؤدي معنى تلك الصفة ثم يصوغ منها الاسم على وزن يلذ في أذنه جرسه
على أن لنا في لغتنا العربية من الأصول ما يقابل كل الأصول التي نحت منها الفرنجة أسماء الحيوان والنبات يونانية كانت أم لاتينية. فإذا استعنا بالصيغ السماعية على ما بين
أيدينا من الصيغ القياسية، انفتح أمامنا الباب المغلق، وخرجنا إلى الرحاب الواسعة وحافظنا على سلامة اللغة أن يطيح بها التقريب السقيم، أو يتلاعب بها من ليس في مقدورهم تفهم أصولها وأساليبها
والسبيل المعقول هو أن نكب على جمع أسماء النبات والحيوان ثم نعرف من أية الصيغ وردت ونحصر هذه الصيغ حصراً كاملا بقدر الإمكان، ثم نجيز قياستها والصوغ عليها في أسماء الحيوان والنبات. فإننا بذلك لا نخرج عن القاعدة التي جرى عليها العرب مادمنا سنراعي شرط لحظ الصفة في المسمى على ما عمل أسلافنا طيب الله ثراهم، فإن تسمحهم في هذا الشأن، يضطرنا إلى القول مع الأئمة الذين قالوا من قبل (إن كلاماً قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب)
وإن لغتنا لواسعة وإن لنا في أقيستها وصيغها التي وردت على لسان العرب، ما يكفل لنا وضع الأسماء الجديدة التي يظن البعض أن وضعها من المستحيلات. وإني جرياً على القاعدة التي شرحتها هنا. لقمين بأن أضع أسماً لأي نبات أو حيوان لا اسم له في العربية، مصوغاً على ما ورد في كلام العرب
وقد جمعت حتى الآن من أسماء النبات أكثر من ألفي اسم، وسأضع في هذا الموضوع رسالة آمل أن تكون مبدأ عهد جديد في صوغ أسماء عربية للحيوان والنبات
إسماعيل مظهر
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 2 -
نسبه ومولده:
الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن: فأسرته من (طرابلس الشام)، ضم ثراها عظام أجداده، ويعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه؛ ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن؛ وهو في وطنيته (مسلم): لا يعرف له أرضاً من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: (وطني. . .) فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم؛ فأنت لم تكن تسمعه يقول: (الوطنية المصرية. . .) أو (الوطنية السورية. . .) أو (الوطنية العراقية. . .) إلا كما تسمع أحداً يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتاً من البلاد والمدائن. وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم، هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية؛ وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر ينتظمها جميعاً كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديداً من البلاد
وكثيراً ما كانت تثور الخصومات بين الرافعي وبعض الأدباء في مصر، فما يجدون مغمزاً ينالون به منه عند القراء إلا أن يتهموه في وطنيته، أعني مصريته؛ وكان الرافعي يستمع إلى ما يقولون عنه في ذلك مغيظاً حيناً وساخراً حيناً آخر، ثم يقول: أفتراهم يتهموني في مصريتي لأنني في زعمهم غير مصري وفي مصر مولدي وفي أرضها رفات أبي وأمي وجدي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟. . . وإلا فمن أبو فلان وفلان؟ ومن أين مقدمه؟ ومت استوطن هذا الوطن. . .؟
ورأس أسرة الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير المتوفى سنة 1230 هـ بطرابلس الشام، ويتصل نسبه بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين
رضي الله عنه، في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين، ما منهم إلا له تاريخ مشهود وجهاد مشكور ومسجد ومزار.
وأول وافد إلى مصر من هذه الأسرة هو المرحوم الشيخ محمد الطاهر الرافعي، قدمها في سنة 1243هـ (قريب من سنة 1827م) ليتولى قضاء الحنفية في مصر بأمر من السلطان؛ وأحسب أن مقدمه كان أول التاريخ لمذهب الإمام أبي حنيفة في القضاء الشرعي بمصر. ولم يعقب الشيخ محمد الطاهر غير فتاة وغلام، انتهى بموتهما نسبه فليس في مصر أحد من ولده؛ ولكنه كان كرائد الطريق لهذه الأسرة، فتوافد أخوته وأبناء عمومته إلى مصر يتولون القضاء ويعلمون مذهب أبي حنيفة حتى آل الأمر من بعد أن اجتمع منهم في وقت ما أربعون قاضياً في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء والفتوى أن تكون مقصورة على آل الرافعي؛ وقد تنبه اللورد كرومر إلى هذه الملاحظة فأثبتها في بعض تقاريره إلى وزارة الخارجية الإنجليزية.
وقد تخرج في درس الشيخ محمد الطاهر وأخيه الشيخ عبد القادر الرافعي أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب في مصر. ومن تلاميذهما الأدنين المرحومان الشيخ محمد البحراوي الكبير والشيخ محمد بخيت مفتي الدولة السابق
ولما توفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، كان شيخ الحنفية في مصر يومئذ هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي، فدعاه الخديو عباس إلى تولي وظيفة الإفتاء، وكان رجلاً زاهداً ورعاً فيه تحرج وخشية، فلم يجد في نفسه هوى إلى قبول هذا المنصب، تحرجاً من فتنة الحكم وغلبة الهوى في شأن يتصل بحقوق العباد وفيه الفصل في الخصومات بين الناس. . . فلما بلغته دعوة الخديو ذهب إلى لقائه وفي نفسه همّ، وهو يدعو الله ألا يئول إليه هذا الأمر ضناً بدينه ومروءته. . . وتمت مراسيم التولية، وتلقى الأمر من صاحب العرش بقبول وظيفة (مفتي الدولة) ثم نزل إلى عربته فركبها عائداً إلى داره وهو يتمتم ويدعو؛ فلما بلغ نزل الحوذي ليفتح له العربة ويساعده على النزول، فإذا هو قد فارق الحياة قبل أن يجلس مجلس الحكم مرة واحدة ليقضي في شئون العباد. . . واستجاب الله دعاءه. . .!
وأبو الأستاذ الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرزاق الرافعي، كان رئيساً للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وهو واحد من أحد عشر أخاً اشتغلوا كلهم بالقضاء من والد المرحوم
الشيخ سعيد الرافعي. وكان آخر أمر الشيخ عبد الرزاق رئيساً لمحكمة طنطا الشرعية؛ وفي طنطا كانت إقامته إلى آخر أيامه، وفيها مات ودُفن، وفيها أقام مصطفى صادق وأخوته من بعد أبيهم في بيته، فاتخذوا طنطا وطناً ومقاماً، لا يعرفون لهم وطناً غيرها ولا يبغون عنها حولا. ولقد حاولت وزارة الحقانية أكثر من مرة أن تنقل مصطفى إلى غير طنطا فكان يسعى سعيه لإلغاء هذا النقل، حتى لا يفارق البلد الذي فيه وفاة أبيه وأمه، وفيه مسجد السيد البدوي. . .
وكان الشيخ عبد الرزاق رجلاً ورعاً له صلابة في الدين وشدة في الحق، ما برح يذكرهما له مع الإعجاب معاصروه من شيوخ طنطا.
حدثني نسيب قال: (كنت غلاماً حدثا، وكان الشيخ عبد الرزاق الرافعي من جيراننا وأحبابنا الإجلاء، وكان يتخذ مجلس العصر أحياناً في متجر جاره وصديقه المرحوم الحاج حسن بدوي الفطاطري، في شارع درب الأثر، ودرب الأثر يومئذ هو شارع المدينة وفيه أكبر أسواقها التجارية؛ ففي عصر يوم من رمضان، كان الشيخ عبد الرزاق يجلس مجلسه من متجر صديقه، فمر به رجل ينفث الدخان من فمه وبين إصبعيه دخينة، فما هو إلا أن رآه الشيخ عبد الرزاق، حتى اندفع إليه، فانقض عليه، فأمسك بثيابه، فدعا الشرطي أن يسوقه إلى القسم لينال الحد على إفطاره في رمضان في شارع عام. وما أجدى رجاء الرجل ولا شفاعة الشفعاء؛ فسيق الرجل إلى القسم في (زفة) من الصبيان، ليتولى الشيخ حده بنفسه على إفطاره. وما كان القانون يأمر بذلك ولا يجيزه، ولكن الشرطة ما كانوا ليخالفوا أمر قاضي المدينة، وما كانوا يعرفون له عندهم إلا الطاعة والاحترام)
وحوادث الشيخ عبد الرزاق من مثل ذلك كثيرة يعرفها كثير!
واسم (الرافعي) معروف في تاريخ الفقه الإسلامي منذ قرون وأحسب أن هناك صلة ما بين أسرة الرافعي في طرابلس الشام وبين الإمام الرافعي المشهور صاحب الشافعي؛ وقد سألت المرحوم الأستاذ الرافعي مرة عن هذه الصلة، فقال: لا أدري، ولكني سمعت من بعض أهلي أن أول من عُرف منا بهذا الاسم شيخ من آبائي كان من أهل الفقه وله حظ من الاجتهاد والنظر في مسائله، فلقبه أهل عصره بالرافعي تشبيهاً له بالإمام الكبير الشيخ محمود الرافعي صاحب الرأي المشهور عند الشافعية، والله أعلم.
والأستاذ الرافعي حنفي المذهب كسائر أسرته، ولكنه درس مذهب الشافعي وكان يعتد به ويأخذ برأيه في كثير من مسائل العلم.
وأم الرافعي كأبيه سورية الأصل، وكان أبوها الشيخ الطوخي تاجراً تسير قوافله بالتجارة بين مصر والشام، وأصله من حلب، وأحسب أن أسرة الطوخي ما تزال معروفة هناك، على أنه كان اتخذ مصر وطناً له قبل أن يصل نسبه بأسرة الرافعي. وكانت إقامته في (بهتيم) من قرى مديرية القليوبية، وكان له فيها ضيعة، وفيها ولد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في يناير من سنة 1880م، إذ آثرت أمه أن تكون ولادتها في بيت أبيه.
وكانت أم الرافعي تحبه وتؤثره، وكان يطيعها ويبرها، وقد ظل إلى أيامه الأخيرة إذا ذكرها تغرغرت عيناه كأنه فقدها بالأمس، وكان دائماً يحب أن يسند إليها الفضل فيما آل إليه أمره؛ وقد توفيت في أسيوط ودفنت بها، ثم نقلت إلى مدافن الأسرة بطنطا، وقد شيعها الرافعي على عنقه إلى مقرها!
علمه وثقافته:
لأسرة الرافعي ثقافة أُسميها كما يسميها الأستاذ إسماعيل مظهر (ثقافة تقليدية)، فلا ينشأ الناشئ منهم حتى يتناولوه بألوان من التهذيب تطبعه من لدن نشأته على الطاعة واحترام الكبير وتقديس الدين، وتجعل منه خلفاً لسلف يسير على نهجه ويتأثر خطاه. والقرآن والدين هما المادة الأولى في هذه المدرسة العريقة التي تسير هذه الأسرة على منهاجها منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
وعلى هذه النشأة نشأ المرحوم مصطفى صادق، فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين وحفظ شيئاً من القرآن، ووعى كثيراً من أخبار السلف، فلم يدخل المدارس المدنية إلا بعد ما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين. فقضى سنة في مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نقل أبوه قاضياً إلى محكمة المنصورة فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية، فنال منها الشهادة الابتدائية وسنه يومئذ سبع عشرة سنة أو دون ذلك بقليل؛ ومن زملائه في المدرسة الابتدائية الأستاذ الجليل منصور فهمي بك، ونيازي باشا وأحسبه قال لي: إن منهم كذلك الشارع القانوني الكبير عبد الحميد بدوي باشا
ومن أساتذته في المدرسة الابتدائية شيخنا العلامة الأستاذ مهدي خليل المفتش بوزارة
المعارف، وكان يدرس له العربية؛ وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلاً:(يا مصطفى، لا أحسب أحداً غيري وغير الله يقرأ خطك!) وقد ظل خط الأستاذ الرافعي رديئاً إلى آخر أيامه، ولكن قراء خطه قد زادوا اثنين: هما سعيد العريان والعمال في مطبعة الرسالة. . .
وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء المرحوم الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه: فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم، وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة. وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالساً إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للأستاذ الرافعي حديث محدثه مكتوباً في ورقة، وبينما نحن كذلك والحديث يتشعب شعبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين، إذ نهض الرافعي واقفاً، فانتبهت، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة. . . وإذا الرافعي يطأطأ له وينحني يهم أن يقبل يده؛ ثم عاد إلى مجلسه فمال عليّ يقول في همس:(هذا أستاذي مهدي خليل. . .) وفي صوته رنة هي أقرب إلى صوت طفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يُسرّ إليه. . . ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت بما فيه من طبيعة المح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يعن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم
وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية - وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية - أصابه مرض مشف أثبته في فراشه أشهراً - وأحسبه كان التيفويد - فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثراً كان حبسة في صوته ووقراً في أذنيه من بعد.
وأحس الرافعي آثار هذا الداء يوقر أذنيه، فأهمه ذلك هما كبيراً، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئاً، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عاما بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأن متحدثاً يتحدث وهو منطلق يعدو. . . حتى فقدت إحدى أذنيه السمع، ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه، وانقطع عن دنيا
الناس.
وامتد الداء إلى صدره فعقدة عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معاً، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة. . .
وكانت بوادر هذه العلة التي أصابت أذنيه هي السبب الذي قطعه عن التعليم في المدارس بعد الشهادة الابتدائية، لينقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه، وكان هو فيها المعلم والتلميذ
وحظ الرافعي من الشهادات العلمية حظ أبيه، فإن الشيخ عبد الرزاق الرافعي على علمه وفضله ومكانته، وعلى أنه كان رئيساً للمحكمة الشرعية في كثير من الأقاليم - لم تكن معه شهادة (العالمية) حتى جاء إلى طنطا. ولأمر ما نشب خلاف علمي بينه وبين بعض علماء طنطا حفزه وهو شيخ كبير إلى طلب الشهادة، فتقدم إلى امتحانها ونالها، لغير غرض يسعى إليه إلا أن يستكمل براهينه في جدال بعض العلماء. . .
وكان لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتاً من نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فأكب عليها مصطفى إكباب النهم على الطعام الذي يشتهيه؛ فما مضى إلا قليل حتى استوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد. وكان له من علته سبب يباعد بينه وبين الناس فما يجد لذة ولا راحة في مجالسة أحد، وكان ضجيج الحياة بعيداً عن أذنيه، وكان يحس في نفسه نقصا في ناحية يجهد جهده ليداريه بمحاولة الكمال في ناحية، وكان يعجزه أن يسمع فراح يلتمس أسباب القدرة على أن يتحدث، وكان مشتاقاً إلى السمع ليعرف ماذا في دنيا الناس فمضى يلتمس المعرفة في قراءة أخبار الناس، وفاتته لذة السامع حين يسمع فذهب ينشد أسباب العلم والمعرفة ليجد لذة المتحدث حين يتحدث، وقال لنفسه: إذا كان الناس يعجزهم أن يسمعوني فليسمعوا مني. . . وبذلك اجتمعت للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت علته خيراً عليه وبركة. وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى النحيل الضاوي الجسد الذي هيأته القدرة بأسبابها والعجز بوسائله ليكون أديب العربية في غد. . .!
كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه، هي دنياه التي يعيش فيها، ناسُها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحابته وخلانه، وعلماؤها رواته، وأدباؤها سُمَّاره؛ فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمة عن العلماء والرواة فماً لفم، فنشأ ذلك نشأة السلف. يرى رأيهم، ويفكر معهم، ويتحدث بلغتهم، وتستخفه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومناهم
وإذا كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغشيان المجالس يتحدث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم - فإن حظه من العامية المصرية كان قليلا، وكان عليه أن يسألني أحياناً أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مثل مما يسمع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحياناً ويقول:(فلتكن أنت لي قاموس العامية. . .)
وإذا كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما - فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وأخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكن مصطفى كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمة على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا قريب.
ولم تُجْدِ على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلا أو أقل من القليل، فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعاً قوياً، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، ولو أنك كنت تسمعه أحياناً يأسف على هجرها ويمني نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ؛ وهيهات أن يجد الرافعي فراغا من وقته.
هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل هذا على الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.
وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله ثم لا يلبث أن يتناول كتاباً مما بين يديه ويقول لمحدثه: (تعال نقرأ. . .) وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي
ويستمع الضيف، فلا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة. . .
وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب. وكان في أول عهده بالوظيفة كاتبا بمحكمة طلخا، فكان يسافر إلى طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب (ملازم) من كتاب أي كتاب ليقرأها في الطريق. وفي القطار بين طنطا وطلخا (وبالعكس) استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي، وكان لم يبلغ العشرين بعد. . . .
(لها بقية)
(طنطا)
محمد سعيد العريان
إبراهيم باشا
موقعة نصيبين
- 2 -
واستقبل حافظ باشا الأمير ألاي والبكباشي الذي كان يصحبه أحسن استقبال، وأتحفهم بالهدايا وأخبرهم أنه سيرسل رده في اليوم التالي. وكانت الروح السارية في هذا الرد من أوله إلى آخره هي أن الخضوع لا يكون بالأقوال بل بالأفعال. ثم انتقل حافظ باشا من هذا المبدأ إلى قوله إنه لا يعترف بأن التهم التي يوجهها إليه إبراهيم قائمة على أساس صحيح؛ وحاول أن يثبت أن الجنود المصرية لا الجنود الشاهانية هي المعتدية، وجاء في ختام هذا الخطاب ما يأتي:
(لقد أعطيت لنفسي الحرية في كتابة هذه الرسالة الودية، لتكون دليلا على حسن نيتي؛ وقد أرسلتها مع الأمير الاي حاذق بك وبصحبته الأمير الاي أحمد بك من ضباط الجيش الشاهاني المظفر. وعندما تصلكم هذه الرسالة إن شاء الله سيتوقف العمل بما فيها على حكمتكم السامية).
وبينما كانا القائدان يتبادلان الرسائل على هذا النحو، كان رسول يستحث الخطى إلى إبراهيم، يحمل إليه رسالة من أبيه مؤرخة 9 يونية سنة 1839 يقول فيها:
(تسلمت رسالتك التي تقول فيها إن العدو يواصل زحفه وإنه احتل الآن ستين قرية وراء عينتاب، وانه وزع السلاح على الأهالي وحرض العصاة على مهاجمة عَكّار وسلب أموال حاكمها وقتله. وقد قلت بعد ذلك إنه ليس من الحكمة أن يسمح للأتراك بالسير على هذه الخطة، وطلبت إليّ أن أخبرك بما تفعل.
(إن اعتداء العدو علينا قد تجاوز كل حد معقول، وإذا ما صبرنا عليه بعد ذلك عز علينا أن نقفه، لأنه يبذر بذور الفتن ذات اليمين وذات الشمال؛ وكلما صبرنا عليه رغبة منا في عدم معارضة رغبات الدول الكبرى، زاد عدونا إيغالا في بلادنا وزادت الأمور حرجا. وتلك حال ترغمنا على العمل؛ فعلينا أن نرد هجومه بهجوم مثله. ولما كان العدو هو المعتدي فإن الدول لن تلقي التبعة علينا.
(فنصيحتي إليك أن تبادر عند وصول رسالتي إلى يديك بالهجوم على جنود العدو الذين
دخلوا في أرضنا، وأن لا تكتفي بإخراجهم منها، بل عليك أن تزحف على جيش العدو الأكبر وتقاتله)
ووصلت هذه الأوامر إلى إبراهيم في غسق الليل؛ فأراد أن يهاجم العدو عند مطلع فجر اليوم التالي. ورأى سليمان باشا (الكولونيل سيف ساعد إبراهيم الأيمن، الذي طالما أشرنا إليه في هذا الكتاب) غير هذا الرأي، وأصر على أن وجود الضباط البروسيين في جيش حافظ باشا يحمله على الظن بأن مواقع العدو قوية محصنة؛ وطلب الضابط الفرنسي أن يستكشفا بنفسهما تلك المواقع قبل الهجوم عليه. ولما كان من شيمة إبراهيم أن ينصاع دائماً إلى حكم العقل، فقد قبل هذا الرأي عن رضى وطيب خاطر.
وفي صباح اليوم التالي اضطلع القائدان نفسهما بتلك المهمة الخطيرة، مهمة استطلاع مواقع الجيش التركي. ومازالا يقتربان من خط النار حتى أصاب الرصاص حصان أحد جنودهما فقتله وكانت نتيجة هذا الاستطلاع أن عرفا أن نصيبين التي اعتصم بها حافظ باشا أمنع من عقاب الجو، وأن ليس في مقدورهما أن يستوليا عليها عنوة، لأن فون ملتكه وفون ملباخ نصبا معسكر الأتراك عند سفح التل الذي يجري عنده نهر كرزين
وجعلا هذا النهر حائلا بين المصريين والجيش التركي. ولذلك اضطر المصريون أن ينسحبوا من مواقعهم ويهاجموا العدو من جهة أخرى. وأيقن إبراهيم وسليمان باشا أن الفضل في اختيار هذا الموقع المنيع الذي اتخذه الجيش التركي لنفسه يرجع إلى مهارة الضباط البروسيين وخبرتهم الفنية، ولكنهما قدرا أن الألمان لن يستطيعوا أن يتنبئوا بالحركة الجريئة التي سوف يقدمان عليها
والحق أنهما لم يخطئا التقدير، لكنهما حين أقدما على ما أقدما عليه عرضا أنفسهما لأشد الأخطار رغم أنهما بنيا خطتهما على نفسية البروسيين وعقلية الأتراك. وقد وصف تلك الخطة إيميه فنترنييه صاحب سيرة سليمان باشا بقوله:
(وكانت فكرة سليمان وميضاً من العبقرية إذا أفلحت وأوهاما من عقل مخبول إذا أخفقت. ولكنه كان مؤمناً بصوابها، واستطاع أن يبث هذا الإيمان في الجيش كله لا فرق بين قائده الأعلى وأصغر جندي فيه).
وكانت الخطة التي نفذت بإشراف إبراهيم وعلى مسئوليته هي أن يترك الجيش المصري
المعسكر الذي كان يحتله وقتئذ، ويسير مخترقا قرية مزار، وأن يتم ذلك بين طلوع الفجر وغسق الليل؛ ثم يلتف حول جبل بيازار ويعود بعدئذ فيتجه نحو العدو مولياً شطر الجنوب في اتجاه قرية كرد قلعة، وكانت الفكرة التي بنيت عليها هذه الحركة كلها هي: أولا أن فون ملتكه عندما يرى أن الجيش المصري قد رفع معسكره لا يشك مطلقاً في أن قواد هذا الجيش لن يفعلوا ما كانوا ينوون أن يفعلوه، وهو تعريض جناحهم للخطر، وأنه سيمكنهم بذلك من أن ينفذوا الشطر الأول من خطتهم قبل أن يدرك حقيقتها. وثانياً أن فون ملتكه إذا ما أدرك حقيقة الموقف وأراد الانسحاب إلى مواقع خير من مواقعه الأولى ليهاجم منها المصريين قبل أن يصلوا إلى أماكن آمنة، لن يتمكن من التغلب على كبرياء القائد التركي، بل إن هذا القائد سيتغلب على المنطق الألماني الضعيف.
ويقال إنه لما فرض حافظ باشا رأيه على الضباط الألمان غضبوا أشد الغضب ورفعوا إليه استقالتهم، فلما فعلوا ذلك قال لهم السر عسكر:(إن الجندي لا يستقيل قبيل الموقعة). وكان هذا الالتجاء إلى المبادئ الخلقية العسكرية كافياً لحل المشكلة، فلم ينسحب فون ملتكه بل أفرغ وسعه في معالجة هذه الحال الطارئة، فعدل خططه ونقل مدافعه التي أصبحت عديمة الفائدة لأن المصريين أبوا أن يقدموا أجسامهم طعاماً لنيرانها، ووضعها حيث يمكنه الاستفادة منها. وأيقن أن الموقعة الحاسمة ستبدأ عند مطلع فجر اليوم التالي، وكان يخشى أن تكون نتيجتها وبالاً على الجيش العثماني، لأن إبراهيم خرج على القوانين الحربية، فأبى أن يتبع البديهيات الأولى في فن الحروب، وخرق مبادئها الأولية. ولشد ما تألم ذلك العالم الخبير بفنون الحرب حين رأى أن عدوه قد أبى أن يعمل ما يجب عليه أن يعمله. ولاشك في أنه كان يعتقد أن أمثال ماكماهون وبازين ممن يتمسكون بالقواعد والأصول، خير من رجال كإبراهيم أو سليمان باشا يضعون قواعدهم لأنفسهم.
وما أسفر صبح اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيه حتى بدأت المعركة بهجوم المصريين. وكان جل اعتماد الأتراك على فرسانهم لأنهم ظنوا أن طبيعة الأرض تحتم عليهم اتباع هذه الخطة الحربية. وقد يكونون مصيبين في ظنهم لأننا لا ندعي لأنفسنا تلك الخبرة بالفنون العسكرية التي تمكننا من أن نبدي رأيا في هذا الموضوع. وكل الذي يعنينا هنا هو أن مشاة المصريين صدوا هجوم الفرسان العثمانيين، فولى هؤلاء الفرسان الأدبار
لا يلوي أخرهم على أولهم. وعندئذ وقع الاضطراب في صفوف الجيش العثماني كله فتضعضعت أركانه ولم تأت الساعة التاسعة حتى كان إبراهيم سيد الميدان غير المنازع.
وأقبل إبراهيم على خيمة حافظ باشا. وقد وصفها فنترنييه وصفاً لا نعتقد أنه كان جاداً فيه؛ لأنه قال: (إنها كانت واسعة الأرجاء كأنها قصر مشيد، مزخرفة كأنها حجرة استقبال لأحد الأباطرة العظام، يبهر الرائي جلالها وعظمتها) يبدو على هذا القول كثير من المبالغة، ولكن الذي لاشك فيه أنه كان في هذه الخيمة المزخرفة أريكة من الأرائك التركية المطعمة بالصدف، البعيدة عن الذوق والجمال الفني بعدها عن النفع، ثمنها عظيم ولكن الجالس عليها في عناء. وقد ترك بعضهم على هذه الأريكة أوسمة حافظ باشا ورسائله.
فلما دخل إبراهيم هذا المسكن المؤقت المترف، الذي لا نشك في أن فون ملتكه كان يعده مخالفاً للسطرين الثالث والرابع من الفقرة التاسعة من القسم الرابع عشر من المادة الثانية عشرة بعد المائتين من القواعد الخاصة بنظام الجيوش في الميدان، كان يكسوه العثير ويتصبب من جبينه العرق. ولما رأى هذه الأبهة الكاذبة تبسم ابتسامة ملؤها السخرية والازدراء، ومشى من فوره إلى الأريكة غير حافل بالأوسمة التي لم تكن لها قيمة في نظره، لأنه أكبر من أن يهتم بهذه الصغائر. ولكن الوثائق المتروكة وما قد يكون فيها من أمور ذات بال استرعت نظره، فوقف يفحصها وإذا به يجد فيها فرمانا يعين حافظ باشا والياً على مصر بدل والده فأمر أن يعنى بفحص الأوراق الباقية عساه أن يجد فيها من المعلومات ما له قيمة حربية. وبعد أن وكل هذه الأمور إلى من يعنى بها، أرسل الفرسان المصريين لمطاردة الأتراك الفارين، وأعد العدة لمواصلة الزحف على مرعش وملطية وديار بكر
ويقول لنا القنصل اليوناني العام في تقريره المرسل إلى أثينا إن إبراهيم كتب إلى محمد علي من خيمة حافظ باشا نفسه ينبئه بهزيمة الأتراك، وأن الموقعة لم تدم أكثر من ساعتين، وأن البشير وصل بهذا النبأ السار إلى القاهرة في اليوم الثالث من شهر يوليه؛ ومنها أرسل بالبرق إلى الإسكندرية حيث كان الباشا مقيما في ذلك الوقت وجاء في تقرير قنصلي آخر أن مدافع الجيش لم تطلق أكثر من ساعة ونصف ساعة، وأن الأتراك زلزلت أقدامهم فجأة، فطارت قلوبهم وولوا مدبرين، وأنهم خسروا خمسة آلاف قتيل ونحو سبعة آلاف أو ثمانية
آلاف أسير، أما عدد الجرحى فلم يرد له ذكر في هذا التقرير
ولم يعش السلطان محمود حتى يعرف نتيجة مغامرته العظيمة ضد أعظم أتباعه وأشدهم بطشاً، بل وافته المنية بعد يومين من واقعة نصيبين، وقبل أن يصل نبأ هذه الطامة التي حلت بالجيش التركي إلى الآستانة. ويقول الفيكونت بنسنبي في موته:(لاشك في أن العلة كانت قد نشرت جناحيها عليه منذ شهور، وأنه لم يحس بوطأتها فظل يعمل كل ما من شأنه أن يعجل يوم حمامه)
وماذا كانت علة السلطان يا ترى؟ لقد اختلف الأطباء في تشخيص مرضه، فأما الطبيب الإنجليزي الدكتور ملجن الذي عرض عليه فقال إن محموداً قضى نحبه بسبب اضطراب في المخ ناتج من إدمان المسكرات، وقال الدكتور نونر الذي كان يعالجه إنه مات بذات الصدر، ووافق الحكيم باشي التركي كبير أطباء القصر على رأي الطبيب البريطاني
(يتبع)
محمد بدران
مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره
لباحث عربي كبير
تتمة ما نشر في العدد الماضي
الأماكن المقدسة
لم تكتف اللجنة الملكية بحرمان العرب من قسم فلسطين الطيب، مورد حياتهم، بل سلخت القدس وبيت لحم ومنطقة واسعة توصلهما بالبحر عن البلاد العربية، ووضعته مع غيره تحت انتداب بريطاني دائم، بحجة أن المحافظة على هاتين المدينتين (أمانة مقدسة في عنق المدنية)، كأن العرب لا يعرفون المدنية وكأنهم لا يدركون مقدار ما لهذين المكانين من قداسة
إن العرب هم أكثر الشعوب تقديساً للقدس وبيت لحم، والإنكليز يعرفون ذلك، غير أنهم اتخذوا مبدأ (المحافظة على قداسة القدس وبيت لحم) وسيلة لسلخهما عن البلاد العربية، وتسهيلا لتحقيق المآرب اليهودية في هذا الجزء من البلاد المقدسة
مهدت اللجنة الملكية في تقريرها السيطرة اليهودية على هذا القسم من فلسطين، فهي توحي بأن تكون لغته الرسمية الإنكليزية لتزول مع الزمن منه الثقافة العربية والروح القومية. ومهدت السبيل لأن تكون أكثرية موظفي الحكومة في هذه المنطقة من اليهود. إذ هي تقول (صفحة 138) بأنه لو لم يكن هناك الانتداب الحالي على فلسطين، لاعتبرت الحكومة اليهود والعرب جماعة واحدة، ولانتخبت من بينهم الموظفين حسب كفايتهم لا حسب جنسيتهم، كما هي الحال الآن، ولكان أكثرية هؤلاء الموظفين من اليهود لأنهم أكثرية كفاية وأكثر مقدرة. وتقول اللجنة بعد ذلك بأن الانتداب الجديد (صفحة 382) لن يجعل ثمة مجال للبحث في حفظ التوازن بين ادعاءات العرب إزاء اليهود أو بالعكس، لأن الحكومة ستنظر إلى جميع السكان نظرة واحدة. ومعنى هذا أنها سوف لا تراعي النسبة بين الموظفين، بل ستأخذ الأقدر والأفيد لها. والموظفون اليهود أقدر بكثير من الموظفين العرب في نظر لجنة اللورد بيل
ومتى أصبحت اللغة الرسمية الإنكليزية، ومتى أصبح الموظفون من الإنكليز واليهود،
صعب جداً على العرب العيش في هذه المنطقة من بلادهم واضطروا إلى النزوح عنها، فتصبح الأكثرية الساحقة فيها من اليهود. وحتى لو فرضنا أن عرب هذه المنطقة سيظلون فيها، فإن اليهود سينسلون إليها وسيصبحون فيها أكثرية. وعندها يطلبون إجراء استفتاء سائلين سكان هذه المنطقة فيما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى (المملكة اليهودية) أو إلى (المملكة العربية). وتكون النتيجة الانضمام إلى (المملكة اليهودية)، ووضع اليهود أيديهم على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، وإقامة هيكل سليمان مكان الصخرة الشريفة. . . وستجد الحكومة البريطانية عذرا لذلك تبرر به عملها قائلة بأنها تحب العدل ولا ترغب في حكم جماعة رغم مشيئتهم!. . .
ثم إن القدس مدينة كبير، يعيش أهلها على الوظائف والموظفين العديدين الذين فيها، وعلى التجارة مع القرى. فمشروع التقسيم يحرم أهل القدس من الوظائف ويقلل عدد موظفي المدينة، ويقطع القرى التي تتعامل مع القدس عنها. وسحل حينئذ أزمة اقتصادية شديدة يقاسي سكان المدينة العرب آلامها. . .
تقول اللجنة الملكية إنه (يجب أن يلقى على عاتق الدولة المنتدبة أيضا عبء المحافظة على الأوقاف الدينية وعلى الأبنية والمقامات والأماكن الواقعة في أراضي كل من الدولتين العربية واليهودية والمقدسة لدى العرب واليهود). وهي في هذا القول تريد إيهام الرأي العام بأن في المملكة العربية مقدسات يهودية! والحقيقة أن ليس لهم في القسم المنوي إبقاؤه عربياً شيء من هذا القبيل. أما العرب فلهم في مشروع (المملكة اليهودية) جوامع وكنائس وأوقاف وأبنية ومقامات وأماكن مقدسة عديدة، تتعهد الحكومة البريطانية بالمحافظة عليها! لقد رأينا قيمة تعهدات الحكومة البريطانية ومدى ما يمكن الاعتماد عليها. . .
ثم ما الفائدة للعرب من بقاء جوامع وكنائس ومقامات مقدسة في قسم من بلادهم يرغمون على الرحيل عنه؟ إن العرب يقدسون الجوامع والكنائس مادام فيها مصلون، أما إن قدر للشعب العربي أن يرحل عن وطنه (وهذا لن يكون) فخير له أن تنسف الجوامع والكنائس، وأن تمحى آثاره المقدسة، من أن تبقى أثراً يذكر الأجيال بأنه كان في هذه البلاد شعب عربي لم يعرف كيف يحتفظ بها. . .
دولة يهودية
إن لمشروع تقسيم فلسطين فائدة واحدة، ذكرها اللورد بيل في تقريره، وهي تحقيق أحلام اليهود من تأسيس مملكة لهم في الأرض المقدسة.
لقد منح تصريح بلفور اليهود وطناً قومياً في فلسطين، يعطيهم الحق في القدوم إلى الأراضي المقدسة وسكناها دون أن يغير ذلك كيان العرب وحقوقهم. غير أن هذا التصريح لم يحقق آمال اليهود؛ على أنهم قبلوه ليكون وسيلة لتحقيق تلك الآمال. وجاء اللورد بيل وأوصى بإلغاء الانتداب القائم على تصريح بلفور، وإعطاء اليهود مملكة في أطيب قسم من فلسطين، مستقلة تمام الاستقلال، ولها ما لأكبر الدول من سيادة ومكانة. ومثل هذه الدولة لا تحقق آمال اليهود كلها، بل هي إلى إحياء الصهيونية، بعد أن كادت تفشل، ووسيلة لإيصال اليهود إلى غايتهم الرئيسية، وهي: إنشاء دولة يهودية ممتدة من النيل حتى الفرات، واستعمار الشرق الأدنى، لاسيما الشرق العربي، استعماراً اقتصادياً.
إن تأسيس مملكة يهودية في فلسطين أو في قسم منها، مهما كانت رقعته، خطر عظيم على الشرق العربي أجمع. لأن منح اليهود مملكة معناه تقوية نفوذهم في جميع أنحاء العالم، وسيطرتهم على الدوائر السياسية الدولية، سيطرة تجعل لدولتهم، مهما كانت صغيرة، أهمية دولية لا تقل عن أهمية عن كبار دول العالم. ويتلو ذلك تزلف الدول لهذه الدولة القوية، فتأخذ في عقد محالفات معها، تضمن للدولة اليهودية حرية العمل في الشرق الأدنى لاسيما في بلاد العرب منه.
وفي أثناء ذلك تكون (الحكومة اليهودية) آخذة في حشد اليهود في (القسم اليهودي) من فلسطين. وقد صرح رجالاتهم من الآن، بأنه سيبلغ عدد اليهود في هذا القسم عما قريب خمسة ملايين، جلهم من الشبان والشابات الصالحين للعمل. لهذا ستكون قوة التجنيد عندهم معادلة، إن لم تكن أقوى، لقوة تجنيد بلاد عادية يبلغ سكانها خمسة عشر مليوناً. وستدرب الحكومة اليهودية هذا العدد الكبير من الرجال والشبان والنساء على الأعمال الحربية. وسيكون لديها جيش قوي مجهز بأحدث عدد الحرب. وزيادة على الجيش المحلي فإن للدولة اليهودية جيوشاً احتياطية منتشرة في جميع أنحاء العالم. لأن كل يهودي خارج فلسطين سيعتبر نفسه جنديا في جيش (الدولة اليهودية) وسيلبي النداء مهما كان بعده عن الأراضي المقدسة. وليس في العالم قوة تحول بين ملايين اليهود وبين الانضمام إلى جيشهم
في فلسطين. . . وإن حوادث أسبانيا الحالية خير برهان على ذلك.
وقسم المملكة اليهودية من فلسطين لا يتسع طبيعية لأكثر من مليون. فمتى وجد ثلاثة ملايين إن لم تقل خمسة أو أكثر، اضطروا بحكم الطبيعة إلى التوسع، ولا توسع لهم إلا في البلاد العربية. أما استيلاؤهم على بقية فلسطين وشرق الأردن فسهل متى كان لهم مملكة، لعوامل اقتصادية عرضناها فيما تقدم. ومتى استولوا على (المملكة العربية) المنوي خلقها زاد عددهم في فلسطين، حينئذ يوجهون وجههم شطر سوريا ولبنان. وعند ذلك، مهما كانت شجاعة العرب، ومهما كان صبرهم على القتال، لا يكون في مقدور جيش القطر السوري الشقيق، حتى وإن عاضده بقية البلاد العربية، الوقوف أمام جيش (المملكة اليهودية) العديد والمجهز أحسن تجهيز حربي حديث. . . ومتى زال استقلال سوريا، هدد العراق، ومصيره أن يجزأ بين الطامعين فيه، ويدخل قسم منه في المملكة اليهودية. أما مصر فستجابه خصما عنيداً يكون عونا لأعدائها عليها. . .
ولنفرض أن لا خوف على استقلال سوريا والعراق ومصر السياسي من (الدولة اليهودية)، فإن هذه البلاد سوف لا تنجو ولن تنجو من استعمار اليهود الاقتصادي لها. فوجود دولة يهودية في فلسطين أو في قسم منها معناه زوال كل ما لمصر من أمل في زعامة البلاد العربية ثقافياً واقتصادياً، إذ ستكون الدولة اليهودية حائلا بينها وبين هذه البلاد، وسوف لا تنجو هي من استعمار اليهود الاقتصادي. ومعناه أيضاً زوال كل ما للعراق من أمل في تقوية الرابطة بين البلاد العربية، وتوحيدها، ومن وصوله إلى البحر الأبيض المتوسط. أما سوريا، بما فيها لبنان، فإن لم يزل استقلالها زوالا نهائياً، فستكون تحت نفوذ الدولة اليهودية سياسياً واقتصادياً. . .
إن وجود (مملكة يهودية) في فلسطين أو في قسم منها، ضربة قاضية لآمال العرب (بما فيهم مصر)، وسبب لفقدان السلام والهدوء من الشرق العربي. لهذا يجب على كل عربي أن لا يرضى أبدا بتقسيم فلسطين، ولا يمكن الحكومة منه. ويجب على جميع البلاد العربية أن تتساند وتحول دون تأسيس مملكة يهودية في قسم من فلسطين، فتحول بذلك دون وقوع الأخطار العديدة التي ذكرنا بعضها.
اقتصادي
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 15 -
كتاب البوذية
جمع تلاميذ بوذا الأولون حكمه وعظاته وتعاليمه ومناهج حياته العملية وضموا إليها قصصاً عجيبة وأساطير شيقة عن التجسد والتناسخ، وأخرى حوت كثيراً من معجزات بوذا وخوارقه للعادة وغير ذلك، فبلغت هذه المجموعة نحو عشرين مجلداً أطلق عليها كتاب (السلال الثلاث) ولكنها لم تكن مصونة صيانة (الفيدا) ولا صيانة (البيرانات) أو أي كتاب آخر من كتب البراهمة التي أقامت حولها القداسة سياجا من المناعة حفظها من التبديل. ولهذا مازج كتاب البوذية كثير من الخلط والعبث والانتحال حتى دس على بوذا ما لم يدر له بخلد أو يخطر له على بال.
تطور البوذية
لم تظل البوذية طويلا على هذه البساطة التي رأيناها، إذ لم تلبث أن تحولت إلى ديانة معقدة، فيها كثير من الظلمة والخفاء و (الماوراء) الطبيعيات، فبوذا قد تحول إلى إله خفي ذي أسرار عجيبة، منها أن الإله تجسد في بوذا، لينقذ البشرية بأن يحمل عنها عبء خطاياها القديمة، ويحول بينها وبين ارتكاب أخرى جديدة، لا بواسطة نشر نور المعرفة بين الناس كما كانت الحال في العهد الأول، بل بطريقة فيها من الأسرار العويصة ما يجعل الفرق بين العهدين بعيداً والخلف شاسعاً. وليس هذا فحسب، بل إن بوذا قد أصبح بعد هذا التطور رمزاً للإله المنقذ الذي جعل يجيء إلى هذا العالم الأرضي من حين إلى آخر، متقمصاً جسد أحد بني الإنسان، لينقذ البشرية في شخصه الذي يسمى في كل مرة:(بوذا) ويجري عليه ما لا يجري على أفراد بني الإنسان جميعاً من أكل وشرب وزواج وإنسال
وغير ذلك من خصائص الأناسي. وقد كان بوذا الذي نحن بصدد مذهبه الآن هو الرابع من هؤلاء الأشخاص الذين تقمص الإله أجسادهم.
الفلسفة البوذية
لما تطورت البوذية على النحو الذي رأيناه آنفاً وخاضت فيما وراء الطبيعة، كان من المحتم أن يكون لها فلسفة، لاسيما وأن عناصر هذه الفلسفة موجودة في التعاليم الأساسية لهذه الديانة حيث قرر بوذا كما أسلفنا أن النجاة لا تتحقق إلا بعاملين متلازمين الزهادة والمعرفة، وأن من شأن الأولى أن توجد ديانة متصوفة، ومن شأن الثانية أن توجد فلسفة معقدة، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذا أعلنت البوذية أن الإنسان لا يكون حكيما إلا إذا تمت له المعرفة، وهي لا تتم إلا إذا مر أمامه سلسلة مشاكل الكون المتماسكة الحلقات وأخذ في حل حلقاتها واحدة بعد واحدة. وعندها أن سلسلة المشاكل الكونية يجب أن يبدأ في حلها على النحو الآتي:
حيث إن الحياة مزيج من الألم والشيخوخة والموت، فأول الأسئلة التي ترد على الذهن هي: س: لم كان الموت؟. ج: لأننا ولدنا، ومن ولد يجب أن يموت. س: ولم ولدنا؟. ج: لأننا موجودون، والولادة والموت نوعان من الوجود، فالموت يقودنا إلى الحياة، والحياة تقودنا إلى الموت. س: ولم كان هذا الوجود؟ ج: لأننا خاضعون لارتباطات وثيقة بكل ما يغذي وجودنا، ولاسيما بالقوى الثلاث: المادية والنفسية والأخلاقية. س: ولم كان هذا الارتباط بالأشياء الخارجية أو الميل إليها أو الاتصال بها؟ ج: لأننا بالرغم من آلامنا الكثيرة نحس بظمأ إلى الحياة وشغف بها. س: ولم كان هذا الظمأ؟. ج: لأننا - وقد منحنا الإحساس - ننعطف بغريزتنا إلى البحث عن الإحساس اللذيذ، وهو يوجد في استمرار الحياة. س: ولم كان هذا الإحساس؟ ج: لأنه يوجد تماس بين أعضائنا وبين الأشياء الخارجية. س: ولم كان هذا التماس؟ ج: لأن لنا حواس ستاً تتجاوب مع ستة أنواع من الأشياء أو مع ست حقائق موضوعية وبالأحرى مع ستة اختصاصات. س: ولم كان الاختصاص؟ ج: لأن كل مشخص يتألف من كائنين: المادة والمدرك. ومعنى هذا أنه اسم وصورة في آن واحد. س: ومم جاءت الاسمية والصورية؟. ج: جاءت من أنه توجد معرفة، ووجود المعرفة يستلزم وجود كائن معنوي جدير بأن يعرف كما يستلزم وجود
عملية المعرفة. س: ومم جاءت المعرفة؟ ج: جاءت من أن طبيعتنا مكونة من استعدادات شتى، وأن سلوكنا الحاضر وليد نتائج معارف سابقة. س: ومم جاءت هذه الاستعدادات؟. ج: جاءت من الجهل الطبيعي فينا، لأننا لو كنا نملك المعرفة الحقة لما سقطنا في السطحية التي تطبقها استعداداتنا تطبيقاً عملياً في كل لحظة.
السكون عند البوذية
كل شيء حركة دائمة، وليس هناك في الحقيقة كائنات موجودة، وإنما كل ما في الكون لا يزيد على أنه حالات لهذه الحركة الأبدية يمتاز بعضها عن بعض بفروق ناشئة من سنن طبيعية لا يؤلف بينها عنصر جوهري شامل، وإنما هي موجودة من نفسها وبفعلها تتكون حوادث الوجود. فإذا اتخذنا الإنسان مثلا كنموذج لبعض الظواهر الناشئة من السنن الكونية وجدناه مؤلفاً من خمسة عناصر: المادة والإحساس والإدراك والنمو والوجدان.
وترى الفلسفة البوذية أنه لا ثبات لأي واحد من العناصر على حالة واحدة، وتتخذ من هذا برهانها على أنه لا يوجد في الكون جوهر يؤلف بين الحوادث الكونية المشاهدة، إذ لو كان هذا الجوهر موجوداً لما كان كل ذلك التعقد الذي يرافق هذه الظواهر دائماً، ولشاهدنا فوق ذلك أثره الخاص، مع أن الواقع أنه لا يشاهد لغير الظواهر الطبيعية أي أثر، فمثلا الشهوة والجهل المجتمعان أبداً ينتجان أحداثاً، والأحداث تنتج انفعالات ينشأ عنها إدراك الكائن لأنَّيِته. وهذه الانفعالات وذلك الإدراك للأنية ينتجان الوجود الشخصي، وهذا الوجود الشخصي ينتج الحواس، والحواس تنتج التماس مع الأشياء، والتماس ينتج الإحساس، والإحساس ينتج الرغبات، والرغبات تنتج تشرب المشتهيات. وهذا التشرب ينتج الصيرورة، والصيرورة تنتج التوالد، والتوالد ينتج الألم والشيخوخة والموت، والموت ينتج الحياة بوساطة التناسخ، وهكذا تتكون دائرة الحركة المتداخل أولها في آخرها تداخلا محكما.
النفس عند البوذية
تنكر البوذية النفس كما تنكر كل ما وراء الطبيعة، ولكن آخر حلقة من هذه السلسلة المنطقية التي أسلفناها وهي حلقة التناسخ لا تلبث أن تخلق مشكلة عويصة وهي: إذا كان
عنصر حياة مذهبكم هو التناسخ، فما هو ذلك الكائن الذي يتناسخ؟ فإن قلتم: إنه الجسم فلا يمكن أن يتناسخ جسم في جسم، لأنه يلزم عليه أن يتضخم هذا الكائن إلى ما لانهاية، أو أن يهذب منه شيء ويحل محله شيء آخر، فيترتب على ذلك تشويش في النظام لا حد له، إذ يعاقب البريء على جريمة الآثم، ويثاب المجرم على براءة البريء، وهذا لا يقبله عقل؛ وإن قلتم: إن ما يتناسخ هو شيء غير الجسد، قلنا لكم: ما المانع من أن يكون هو النفس؟ غير أن البوذية تنفلت من هذا الجواب كما شأنها كلما أحرجت بأسئلة ما وراء الطبيعة وتقول: إن هذا السؤال غير مفيد، لأن جوابه غير محدود مادامت عناصر الشخص بعد موته ليست عينه تماماً وليست غيره تماماً، وإنما هي مزيج من العينية والغيرية معاً
مصير البوذية
حينما نشأت البوذية كانت البراهمية قد خَلِقَتْ بعض الشيء، فاستطاعت تلك الديانة الناشئة أن تهزمها وتحصرها في أمكنة معينة من بلاد الهند، ولكن البراهمية لم تلبث أن استردت قوتها وحملت على البوذية حملة عنيفة أجلتها بها عن أكثر البلاد الهندية، حتى إذا فتح الإسلام الهند أجهز على البقية الباقية منها، ولكن هذه الديانة حينما أجلتها البراهمية في القرون الأولى للميلاد المسيحي لم تكن قد انعدمت من الوجود، وإنما كانت قد تفرقت شمالاً وجنوباً إلى الصين واليابان وجاوة وسومطرة، وظلت هاك حيث التقت بالإسلام فصدمها خصوصاً في جاوة وسومطرة صدمة قاسية لم تقو بعدها على المناهضة والغلاب فتخلت له عن الميدان معترفة بأن البقاء للأصلح، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
ولكن ليس معنى هذا أن البوذية قد انمحت من سجل الكون، كلا فهي لا تزال تحتل قلوب الملايين من بني البشر وإن كانت قد تبدلت تماماً وخضعت لأهواء الشعوب التي اعتنقتها وانهزمت أمام عاداتها وتقاليدها انهزاماً جعلها أثراً بعد عين. فبعض الشعوب مثلا أدخل فيها عبادة النساء، والبعض الآخر أدخل عبادة الفيلة محتجاً بأن بوذا قد تقمص أجسادها مرات متعددة، والبعض الثالث جعل من شعائرها أن يباح للكهنة والقديسين كل موبقة مهما بلغت فداحة ما فيها من عهر ومجون مادام هذا الكاهن يدعي أنه لا يحس أثناء هذا الفجور بسرور إلى غير ذلك مما لم يخطر لبوذا ولا لتلاميذه ولا لأنصاره الأولين ببال
(يتبع)
محمد غلاب
أدب المنفلوطي
بقلم السيد جورج سلستي
كتبت على أثر الحملة الطائشة التي قام بها بعض الأدباء على
المنفلوطي وأدبه بمناسبة ذكراه الثالثة عشرة
أحق ما يقولون من أن صاحب (النظرات)(ليس بالكاتب ولا الأديب)، وأنه صنم من أصنام الأدب (يجب علينا تحطيمه وطرحه)، وأنه خلو حتى (من ناحيةٍ واحدة خليقة بالتحليل ووجهٍ واحدٍ جدير بالدرس)؟!
أتكون نفثاته الشائقة نفاية (لا قيمة لها ولا وزن)، وكتاباته الممتعة (مزيفة جوفاء)، وأدبه الرائع (سقيماً هزيلاً)؟!
أيبلغ العقوق في هذا الجيل حدَّه الأقصى فيتهجم الأبناء على آبائهم والتلاميذ على أساتذتهم ولا يعترفون لهم حتى بالتثقيف ولا يقرون لهم بفضل ولا شبه فضل؟!
أكلما طلع كاتب جديد كان القدح أو كلماته، والنقد الجارح أول نفثاته، وكان الهدم نصيب نابغة من نوابغ الأدب العالي وقطب من أقطاب الفن الرفيع؟!
أحتم على الأديب الناشئ أن يتخذ النقد المرّ وسيلةً لبلوغ ما يصبو إليه من مكانة، والتهكم اللاذع سبيلا إلى ما يطمح إليه من مقام، كأن لا نهج إلا هذا النهج، وكأن الإنتاج ليس من مزايا التفوق والنبوغ؟!
إننا نكبر الجرأة - والجرأة من مزايا الأديب - ولكن عندما تكون محدودة، مكبوتة النزوات، مكبوحة الأهواء؛ لأن الجرأة المطلقة تهوّر وجنون.
وإننا نجلّ النقد - والنقد عماد الأدب الصحيح - ولكن عندما يكون نزيها لا تحامل فيه ولا طعن.
نود أن يكون الناقد فذّا في أدبه فذاً في رجولته لأننا نربأ به أن يكون طفيلياً يعيش على فتات سواه، لا، بل نربأ بكل من يمت إلى الأدب بصلة أو سبب أن يبني مجده على تقويض زعامة غيره وهدم بنيان سواه.
ليس المنفلوطي بالأديب الكامل، فالأديب الكامل لم يخلقه الله بعد؛ ولا هو سيد الكتاب ولا
إمام المنشئين ولا أمير الشعراء ولكنه من سادة الكتاب ومن أئمة المنشئين ومن الشعراء المجيدين، فعلام الإنكار؟!
وليس المنفلوطي من الروائيين الأفذاذ الأعجمية ولا القصاصين النوابغ ولكنه من خيرة من نقلوا الرواية الأعجمية إلى لغة الضاد وممن كتبوا في القصة فبلغوا فيها شأواً؛ فعلام التضليل؟!
إن في أدب المنفلوطي مآخذ، ما في ذلك ريب، ولكن ما ضعف أقله لا ينبذ جله. وعلى الناقد الحصيف ألا يجسم الأخطاء ويتعامى عن مواضع السموّ والجمال.
يقولون إن المنفلوطي لم يكن يهمه من الإنشاء غير الأسلوب وفي هذا القول غلوٌّ كثير.
فهو على افتتانه بالمظهر كان يولي (الجوهر) اهتمامه وعنايته؛ إلا أن روعة أسلوبه طغت على سواها فظهر أدبه أقرب إلى السطحية منه إلى العمق.
والتقعر لم يكن من شأنه فقد كان يلقي بآرائه في سلاسة ووضوح في ألفاظ جزلة ناعمة، فأتت ديباجته وضاءة مشرقة تغمرها العذوبة ويفيض عليها السحر. أيكون ساحر البيان سقيم الأدب هزيله، وتكون السلاسة جُرْماً والعذوبة إثماً؟!
ويقولون إن الجيد في لغة جيدٌ في كل لغة، وإن المنفلوطي إذا نُقِلَ إلى لغة أعجمية تعرِّى من بهرجه وظهر ما في أدبه من ضعف.
وهذا قول فيه نظر. فليس لقطعة من الأدب الإنكليزي جلالها ذاته لدى نقلها إلى الفرنسية مثلا، ذلك لأن لكل لغة سحرها الخاص في الأداء والتعبير لاسيما في الشعر والأدب.
وإنك عبثاً تستطيع بالغاً ما بلغت من قدرة أن تنقل شكسبير بسحره وفتنته إلى لغة أخرى؛ وما ذلك إلا لأنه كان - وهو المتضلع من لغته البصير بدقائقها وأسرارها - على عنايته بالفكرة شديد العناية بالأسلوب. ذلك الذي يفقد جل روعته بالنقل.
لندع شكسبير ولنتخذ أحد الكتاب المعاصرين مثالا. وليكن بول فاليري هذا المثل.
فهذه (مقبرته البحرية) تكاد تكون أحجية، وهي بالفرنسية معجزة في السبك، وما أحسب أن أحداً يأنس في نفسه القدرة على نقلها إلى لغة أخرى ويظل محتفظاً بقوتها وروعتها الأصيلتين، وليجرب نفسه من يشك في القول أو من يرتاب في صحته.
فتلاؤم الألفاظ في كل لغة له جرسه الخاص ووقعه الخاص، ولن يكون له مثل وقعه مثل
جرسه في النقل والترجمة.
ويقولون إن المنفلوطي لم يصوّر إلا ناحية واحدة من نواحي الحياة هي البؤس، وإنه لم يوفق حتى في هذه الناحية.
وهذا قول مردود، فقد اشتهر المنفلوطي بمقالاته أكثر منه برواياته، وهذه (نظراته) في أجزائها الثلاثة طافحة بكل طريف؛ وقد عالج فيها جميعاً من فنون الأدب وشؤون الحياة الشيء الكثير
وهب أنه لم يكتب في الاجتماعيات ولا في الشعر ولا في النقد الأدبي، وأنه وقف قلمه السيال على المأساة دون الملهاة، وعلى تصوير البؤس دون السعادة، فهل يلام الحزين إن لم يفتر ثغره بالبسمات؟ وهل تلحي الكئيب إذا لم تعرف مقلتاه إلا الدموع وإذا لم تفض نفسه إلا بما تشعر به، ويجيش به صدره المجهود؟!
ثم من ذا الذي كتب في البؤس فبلغ مدى المنفلوطي فيه؛ ومن هو الكاتب العربي الذي حرك بنفثات قلمه مكامن الأشواق وهز مختلف الأحاسيس وتلاعب بالعواطف وأجرى الشؤون من العيون كما حركها وأثارها وأجراها مصطفى لطفي المنفلوطي؟!
ويقولون إن التكلف احتل كتاباته كلها وإن قلمه كان يجري بما لم تكن تشعر به نفسه. وفي هذا القول ما فيه من هراء
فلقد قال فيه عارفوه والذين لازموه في حياته إنه لم يكتب إلا عن فيض شعوره وحسه، وإن كتاباته صور حقيقية لنفسه، وإن أدبه وكرم خلقه وما تحلى به شخصه من مزايا وصفات إنما هي رسائله وكتبه لا تنقص ولا تزيد؛ أما أسلوبه فخال من التكلف وتكاد كلماته الطيعة تسيل رقة وعذوبة
والمنفلوطي إلى هذا كله شاعر مجيد وله قصائد رائعة لا تعيبها إلا قلتها. وهو في شعره شأنه في نثره متخير اللفظ متين السبك، لطيف المعاني بارع الوصف، وله في الوجديات غرر وفي الحكم آيات
. . . . وبعد فحسب المنفلوطي فضلا على الأدب العربي أنه انتقل به في مستهل النهضة من الجفاف إلى الإيراق والإيناع، وإنه حبب جمهور المتأدبين في الإنشاء الرفيع وأساغ له الاستمتاع بالسلاسة وتذوق العذوبة فيه. وحسبه فخراً أنه نسيج وحده في عصره لم يجاره
في فححر بيانه منشئ في جيله
ومن كان لذ في الأدب خدمات مصطفى وفضل مصطفى، فلن يضير مجده تهجم المتهجمين ولن ينال من مكانته تشدق المتشدقين
على أنه يؤلمنا والله ألا توزن الأقوال وألا تقدر الرجال
(بيروت)
جورج سلستي
رسالة الشعر
مختارات من أدب الرافعي
(انقطع الرافعي عن التعلم في المدارس بعد حصوله على الشهادة الابتدائية لعلة أصابته في أذنيه، فكان لذلك أثر شديد في نفسه، وكان بذلك يرى نفسه وهو في العشرين كأنما ودع الشباب؛ فهو كثير الالتفات إلى الماضي والحنين إليه؛ وما كان له ماض بعد إلا المدرسة التي هجرها برغمه من جراء العلة التي نالته. فاستمع إليه في القطعتين التاليتين يتحدث عن المدرسة وعهد الدراسة كما يتحدث الشيخ الهم عن ماضيه البعيد. والقطعتان من أول ما قال الرافعي من الشعر وهو ابن عشرين سنة). أما القطعة الثالثة فقد ألقاها في الحفلة السنوية لجمعية الاتحاد والإحسان السورية المصرية بطنطا في 22 أبريل سنة 1921
محمد سعيد العريان
(1)
زمن الدراسة
زمن كالربيع حلّ وزالا
…
ليت أيامه خُلقن طوالا!
يحسب الطفلُ أنه زمن الهمِّ
…
وما الهمُّ يعرف الأطفالا
يا بَني الدرسِ، مَن تمنَّى الليالي
…
كلياليكمُ تمنَّى المحالا
ليلةٌ بعد ليلةٍ بعد أخرى
…
وليالي الهنا تمرُّ عِجالا
قد خَبَرْناَ الأنامَ في كل حالٍ
…
فإذا الطفلُ أحسنُ الناسِ حالا
وهو إن جدَّ لم يزل في صعودٍ
…
وكذا البدرُ كان قبلُ هلالا
غير أن الكسولَ في كل يوم
…
يجد اليومَ كلَّه أهوالاً
ويرى الكُتْبَ والدفاتر والأقْ
…
لامَ وأوراق درسِه أحمالا
وإذا ما مشى إلى قاعة الدرْ
…
سِ ذراعاً يظنُّه أميالا!
من يقم في الأمور بالِجْدِّ يَهنْأْ
…
والشقا للذين قاموا كسالى
وزمانُ الدروس أضيق من أَن
…
يجدَ الخاملون فيه مجالا
أيها الطفلُ لا تضيِّع زماناً
…
لستَ تَلْقَي كمثله أمثالا
ربما نلتَ ما يفوتُ، وهَيها
…
تَ إذا فاتَكَ الصِّبَى أن تنالا!
(2) بعد المدرسة
ما لأيام ذا الصِّبَى تتفانَى؟
…
وقديماً عهدتُها تتوانَى
ذهبتْ بالصِّبى، سلام عليها
…
من فؤادٍ بحبِّها ملآنا
كل ذي حالة سُيمْنَى بأخرى
…
ويلاقي بعد الزمان زمانا
والفتى مَن إذا تغيَّر حالٌ
…
لم يقف في وجوهه حيرانا
هذه ساعة الحصاد، فمن كا
…
نَ تَعَنَّى أراحَه ما عانَى
والذي يزرع التهاونَ في الأشْ
…
ياءِ لا يجتنيه إلا هوانا
ليس يُجدي الإِنسانَ أن يأمل النَّا
…
سُ فلاناً من قومه وفلانا
فاسْعَ في الأرض، إن عِقبان هذا الْ
…
جوِّ لا يرتضين فيه مكانا
واحذر الناسَ، إِنما يأمن النا
…
سَ صَبيٌّ يظنُّهم صبيانا
واركب الْجِدّ في الأمور ولا تَجْ
…
بُنْ إذا فات بعضُها أحيانا
إن هذا الوجود كالحربِ: لا يُكْ
…
رَمُ في الحرب من يكون جبانا
(سنة 1901)
مصطفى صادق الرافعي
(3) مصر والشام
يا نسمة النيل مُرِّي بالسلام إلى
…
نسيم وادي الهوى في أرض لبنان
إلى النسيم الذي رَفَّت نضارتهُ
…
كدمعة الفجر رفَّتْ فوق ريحانِ
إلى النسيم الذي يَنْدَى على كَبِدي
…
نَدَى السرورِ على آفاق أحزانِ
إلى النسيم الذي من طول أُلْفَنِهِ
…
للزهر أحْياء بروح الزهر أغصاني
بالله يا نسمات النيل طِرْنَ إلى
…
ذاكَ النسيم بأشواقي وتحناني
قلبي يرفُّ رفيفَ الطير بينكما
…
كأنَّما أنتما فيهِ جَناحانِ
لَمِصر في حَقِّها الأدنى عليَّ هوىً
…
وللشام هوىً في حقِّها الداني
لستُ الكريمَ بدارِي إنْ رعيتُ لها
…
عهداً ولم أَرْعَ فيهِ عهدَ جيراني
يا مصرُ أرضُكِ مهدُ العقل كان بها
…
والشام منبت أرواحٍ وأديانِ
نُبّوة العقلِ في مصرٍ، وجارتُها
…
نُبُوَّة الروحِ فيها مُنْذُ أَزمانِ
كلتاهما تركتْ فيِ الدهرِ معجزةً
…
إيمانُ عقلي فيها عقل إيماني
معنَى من الحسن أعياني تفهُّمُهُ
…
لكنهُ هو معنى الخالدِ الفاني
الشام من مصرَ، لكن قد تجاورتا
…
لِتُصبحا للمعالي شِبْهَ ميزانِ
أَلم ترَ الدهرَ وزَّاناً بمجدهما
…
مُلكاً بملكٍ وتيجاناً بتيجانِ
الشام من مصرَ لكن قد تباينتا
…
لأَنَّ حسنَهما فيِ الأرض حُسْنَانِ
لونانِ فيِ واحدٍ كالغصن تنظرهُ
…
لوناً وبالوردِ غصنُ الوردِ لونانِ
والشرق وَجهٌ من الدنيا تُطلُّ بهِ
…
ومصر والشامُ في ذا الوجهِ عينانِ
يا مصرَ يا سوريا المجدُ (دائرةٌ)
…
وأنتما في محيط المجد (قُطران)
كلا كما مُشْبِهٌ في الحسن صاحبَهُ
…
أأَنتما واحدٌ أَمْ أنتما اثنانِ
أرى الممالكَ أخواناً مُعَلَّلَةً
…
لكنَّما مصرُ والشامُ الشقيقانِ
لو تُسأَلُ الأرضُ: أين ابناك؟ لَالتفتتْ
…
إليهما ثم قالتْ: هاهما ذانِ
رحلة ما تنقضي
للأستاذ فخري أبو السعود
ما طول لبثي في ديار قرار
…
والنفس تائقة إلى الأخطار؟
إني سئمت لطول لبثيَ موطني
…
ورغبت عن خدني وعفتُ جواري
ومللت نفسي إِذ غدت وكأنها
…
دثر من الأطلال والآثار
قد آدَها طولُ القعود ولم تزل
…
وثابة العزمات والأوطار
لأجددنَّ برحلة عزماتِها
…
وأُصَدِّعَنْ عنها قيودَ إسار
أَأُقيم في أرض وفكريَ ما وَنى
…
في الكون عن دأب وعن تسيار؟
تالله أهدأُ أو تُسابِقَ خطوتي
…
خطواتِهِ في شاسع الأقطار
في رحلة في الأرض تعقب رحلة
…
لم أدر غايتها وأين قراري
أَحتثُّ خطوي في مَسارحَ لم تُجَبْ
…
بالكهرباء ولم تُجَزْ ببخار
متمليّاً أنى تَرَامَتْ بي النوى
…
من فتنة الأَرياف والأَمصار
أَلْقَي شروقَ الشمس يوماً من ذرى
…
طود ويوماً من عباب بحار
وتظل دائبةً وأمعنُ دائباً
…
حتى أودع قرصها المتواري
وأسيرُ من رمل لِوَادٍ معشب
…
غَشَّتْ حصاه سواقطُ الأزهار
نَفْسي هنالك صاحبي أكرِمْ به
…
من صاحب من صفوة الأخيار
أَنْسَى على سَنَنِ الطريق بلابلي
…
ويخف ما بالنفس من أوقار
وأرى الحياة مع المسير جميلةً
…
والمكثُ حلفُ الهم والأكدار
ويقولُ مَن هذا الغريبُ معاشرٌ
…
أنا فيهمُ سرُّ من الأسرار
أَغشَى ديارهمُ وأطوي أفقْهم
…
وأَمر فيهم كالخيال الساري
وهُمُ حيالي دائبون بمسرح
…
للعيش ذي وِرْدٍ وذي إصدار
فكأنهم دوني شخوصُ رواية
…
عُرضتْ مَشاهِدها على النُّظَّار
يا ليت عمري رحلة ما تنقضي
…
موصولة الأسفار بالأسفار
لا أصطفي وطناً ولا آوي إلى
…
دار فهذا الكون طراً داري
لا دَارَ إلاَّ حيث أغْفى في حمى
…
جبلٍ مُنيف أو معَين جار
أروي فؤادي من مباهج عالم
…
هو مسرح الألباب والأبصار
وأبيع في الأسفار عمراً واحداً
…
أَشْرِي به ألفاً من الأعمار
فخري أبو السعود
رسالة الفن
رفائيل
الفنان أبداً
للدكتور أحمد موسى
- 2 -
أما في الغرفة الثانية (1512 - 1514) فقد صور مناظر دينية ومناظر قصصية، تناول في الأولى العلاقة بين الكنيسة والخالق، وتحرير الكنيسة الفاتيكانية من أعدائها بواسطة البابا يوليوس الثاني. وفي الثانية مثل طرد هيليودورس من معبد أورشليم بفارس هبط من السماء. ولعل من أجمل تصاويره (الفرسكو) تلك التي مثلت صد اتيلاس عن روما سنة 452 بقوة ليو الأول، وإدماج ذلك في محاربة الفرنسيين وطردهم من إيطاليا بعد مذبحة نوفارا سنة 1513. أما القطعة التي مثلت تحرير بتري من السجن بواسطة الملاك فهي أيضاً لا تقل روعة عن سابقاتها.
وتبين صور السقف أربعة مناظر للعهد القديم (بحالة سيئة الآن)، الأول يهوا وموسى، والثاني فداء إسحاق. والثالث ظهور يهوا لنوح، والرابع حلم يعقوب.
وفي الغرفة الثالثة (1514 - 1517) سجل عصر البابوين ليو الثالث والرابع.
أما القطعة التي مثلت مأساة احتراق بورجو بالحي الفايتكاني ومحاولة البابا ليو التاسع إخمادها، وسيره في التصوير على الخط الإغريقي الرائع الذي مثل حرق ترويا فإنها من أعظم ما أنتجه رفائيل.
وفي الغرفة الرابعة ترى من أبرز فيها المذبحة الهائلة بين قسطنطين الأكبر وماكنتيوس، والتي لم يتم تلوينها إلا بعد وفاة رفائيل بواسطة تلميذه رومانو
وله من الأعمال العظيمة غير ما ذكرنا زخرفة وتحلية بعض الأماكن والمسالك المقببة بالفاتيكان، وقد قام بهذه المهمة الفنية تلبية لطلب البابا ليو العاشر؛ فعمل بالدور الأرضي
وبالدور الأعلى كثيراً من المناظر الدينية وبخاصة تلك التي تنتمي إلى العهد القديم، صور منها على السقف اثنتين وخمسين قطعة مساحة كل واحدة 13 4 أمتار كلها بالفرسكو، كما رسم كثيراً من النقوش والزخارف العربية وغيرها ووصل في ذلك إلى غاية الإتقان مع وضوح اتساع خياله وروعته. ولم يقم بالعمل جميعه بمفرده، كما كان الحال عند ميكيلانجلو، بل استعان بتلامذته في التنفيذ بعد وضعه التصميم بنفسه. ومن بين هؤلاء التلاميذ من هو جدير بالذكر حقاً أمثال رومانو، وبين، وبيرينودل باجا، وكالدارا
وله كرتونات مصورة بالماء (1515 - 1516)، جعلها لتغطية الأجزاء السفلى لحوائط الفاتيكان في أيام الأعياد الرسمية، هي أشبه بتلك التي تراها في القصور إلى منتصف القرن التاسع عشر وكلها تشمل مناظر دينية من أهمها عودة بولس، وتحرير بولس من سجنه، وبطرس يستلم مفاتيح السماء من يسوع، وشفاء الأعرج، وموت أنانياس، ومعاقبة كليماس بالعمى، وبولس وبرنابا في ليسترا، وبولس يعظ في أثنيا؛ والسبع الأخيرة من هذه القطع الكرتونية موجودة بمتحف ساوث كنسنجتين بلندن
وله قطع جمعها للنسيج وعرضت في الفاتيكان لأول مرة في 26 ديسمبر سنة 1519 بالكابيلا سكستينا لمناسبة (يوم استفان) وهذه كلها جمعت منذ حوالي مائة وعشرين سنة (1814) في مكان خاص بالفاتيكان. ولهذه القطع أمثلة موجودة بمتحف برلين ودرست منذ سنة 1723
وإذا كنا لم نذكر للآن سوى الأعمال التي كلفه البابوات القيام بها، فإنه قام بغيرها للأفراد أمثال أوجستينو شيجي وهو أحد رجال المال الذي طلب إليه تحلية كنيستين في روما ففي الأولى المسماة (القديسة ماريا ديللا باسا) صور رفائيل سنة 1514 الكاهنات الأربع في أروع ما يمكن إخراجه من جمال الخلقة وحسن التكوين والروعة الإنسانية. أما الثانية المسماة (القديسة ديلل بوبولو) فإنه علاوة على وضعه تصميم الصحن، وضع الرسوم التخطيطية التي رسمت بعدئذ على باطن القبة. وهذه الرسوم تمثل خلق السبعة الكواكب التي أخرجها الفنان الويسيو ديللا باسا بالفسيفساء سنة 1516.
وفي هذه السنة نفسها صور على حائط الردهة الصغرى بفيلا فارنيزينا صورة (انتصار جاليتيا) ووضع تصميم الرسوم التي أخرجها تلميذاه رامونو وبيني والتي مثلت مناظر
عشق (آمور وبسيشه) لسقف الردهة الكبرى.
ومهما يكن من شيء فإن خيال هذا الفنان العظيم وقدرته على الخلق الرائع الذي يذهب بالمتأمل إلى ملكوت السمو ويحرك لسانه بالتسبيح بقدرة الله، كل هذا لم يتمثل على أشده إلا في تصوير العذراء التي أفنى روحه وتفاني بكليته في إخراج صورها على أقصى ما يمكن لعقل إنساني أن يتصوره من الجمال.
هذا بيان أساسه المنطق والمقياس الصادق. ولا أثر للمبالغة فيه ولا إلحاح رغبة في تجليته على صورة تستأثر بإعجاب القارئ، فقد يحوم مثل هذا الكلام حول فنان آخر، أما رفائيل فيكاد نطاق القول يضيق عن تناول حقيقته ووصفه.
وفي هذا المجال العظيم صور رفائيل. وأظهر نهاية مقدرته ونبوغه. وقد لجأ بعض المصورين إلى تصوير المادونا ودسّ ما صوره بين مخلفاته، ولكنا - خصوصاً في الوقت الحاضر - بعد تقدم علم التصوير الفوتوغرافي، لإثبات الصور الحقيقية من المقلدة لاسيما بعد إمكان الكشف عن طبقات اللون على سطح اللوحات واتجاه الفرشاة، لا نقع فيما وقع فيه بعض مؤرخي القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
وقد اجمع مؤرخو الفن على أنه لم يوجد ولن يوجد فنان بعد رفائيل يستطيع أن يخرج ماريا والطفل بهذه العظمة والقوة والجمال الذي أخرجهما به، أما حنان الأم ومحبتها لطفلها وكمال الانسجام الإنشائي في وضعهما فهذه صفات تلتصق بما صوره رفائيل.
أما الطهارة التي تجلت والعفة التي تمثلت في وجه العذراء. فهذه عسيرة على غيره من رجال الفن مهما كبر اسمهم.
أحمد موسى
البريد الأدبي
تراثنا الفني في ظل الإشراف الأجنبي
من الحوادث المدهشة المؤلمة معا ما كشفته التحريات الأخيرة من ضياع عشرات آلاف من التحف الفنية النفيسة من المتحف المصري، ما بين تماثيل وصور وحلي فرعونية وغيرها، وقد اكتشفت هذه الفضيحة المؤسية على أثر حادث التمثال الفرعوني الذي اختفى من المتحف وظهر أخيراً في متحف بافالو بأمريكا، ثم رده المتحف الأمريكي بعد أن وقف على الحقيقة، وكان تصرفه مثلا للأمانة العلمية المؤثرة، وقد كنا نعتقد أن خسارة مصر الفنية تقف عند مجموعات التحف الفرعونية النفيسة التي تحتفظ بها متاحف العواصم الأوربية والأمريكية والتي تسربت من مصر خلال الخمسين عاماً الأخيرة ومعظمها بطرق غير مشروعة، على يد البعثات الأجنبية التي تستتر بصفاتها العلمية والأثرية؛ ولكن ظهر مع شديد الأسف أن البقية الباقية التي استطعنا أن نحتفظ بها من عبث أولئك العابثين، وأن نودعها في متحفنا القومي، لم تسلم أيضاً من الاختلاس والاعتداء، بل ظهر أن هذا الاختلاس يصل اليوم إلى آلاف مؤلفة من التحف التي أدمجت وقيدت في سجلات المتحف ولا وجود لها اليوم؛ ونحن لا نعتقد أن هذا الاختلاس المؤلم قد وقع في يوم أو في شهر أو أشهر بل وقع بالتوالي خلال أعوام طويلة ولم تفطن إليه السلطات ذات الشأن. ذلك أن تراثنا الفني كان مع الأسف خلال العصر الأخير تحت الإشراف الأجنبي، ومنذ أكثر من خمسين عاماً يتولى بعض العلماء الأجانب، وهم جميعاً فرنسيون إدارة المتحف المصري؛ وما حدث من تسرب تحفنا ونفائسنا الفنية وقع في عهد هذه الإدارة الأجنبية؛ وكان صوت المصري وصوت السلطات المصرية خافتاً في الماضي، فلم يرتفع كما يرتفع اليوم بالاحتجاج على هذه الفضائح المزرية؛ وكان إذا أتيح له الاحتجاج يقنع بالترضية اللفظية. أما اليوم فإن مصر لا تستطيع صبراً على هذا الاعتداء الشائن على تراثها الفني، ولابد من أن تقوم السلطات المصرية بكل ما تستطيع لتعقب الآثار الضائعة، ولابد لها قبل كل شيء أن تعتبر بهذا الدرس، وأن تعمل على رفع الإشراف الأجنبي نهائياً عن المتحف المصري، كما وقفت من قبل إلى رفعه عن دار الكتب المصرية بعد عهد طويل من الإشراف الأجنبي تسربت في ظله معظم التحف الخطية من القطر المصري إلى ألمانيا التي كان يستأثر
علماؤها بإدارة دار الكتب المصرية
لسنا ننكر ما أفادته مصر في العصر الأخير من معاونة العلماء
الأجانب، ولكن التعاون العلمي الصحيح يجب أن ينزه عن أن يتخذ
أداة للاستيلاء على تراثنا الفني والعلمي بوسائل ظهر في أحيان كثيرة
أنها لا تتفق مع مبادئ الأخلاق الرفيعة، ولا تتفق بالأخص مع الثقة
الكريمة التي كانت مصر تمنحها فيما مضى للعلماء الأجانب
مستقبل المهن العقلية
تساءل كاتب في إحدى الصحف الفرنسية الكبرى عن مستقبل المهن العقلية وأبدى تخوفه من أن يصير التفكير والمهن العقلية إلى مصير سيئ؛ وإذ كان التفكير قوام الحضارات الرفيعة فإنه يخشى أن تصاب الحضارة البشرية في ركن من أعظم أركانها إذا لم تفطن الأمم المختلفة إلى ما أصاب التفكير والمهن العقلية من ضروب الركود والغبن؛ ويقول هذا الباحث إن الفنون والمهن العقلية قد تضاءلت آفاقها وميادينها في العصر الأخير وانحط معيارها المادي إلى أدنى الحدود، هذا في حين أن الحرف اليدوية والمادية قد ازدهرت وارتفع معيارها المادي؛ وقد كان الفرق منذ ثلاثين سنة شاسعاً بين المهن العقلية؛ والحرف اليدوية من حيث التقدير المادي؛ أما اليوم فقد تضاءل هذا الفرق بل ربما تفوقت الحرف اليدوية في بعض الأحيان على المهن العقلية؛ ولنضرب لذلك مثلا، ففي إدارة شركة من الشركات أو تحرير صحيفة من الصحف ترى الموظفين الذين يتولون أعمالاً ومهناً عقلية كالتحرير والإدارة، يتقاضون أجوراً لا تكاد تزيد على الأجور التي يتناولها بعض رؤساء العمل مثلا، وأحياناً يتفوق هؤلاء في أجورهم على المحررين ويتناول العامل الفني مثلا في مصنع من المصانع أجراً يفوق ما يتناوله الطبيب أو المحامي العادي من مهنته؛ هذا مع أن الحالة قبل الحرب الكبرى كانت تختلف عن هذه الحالة كل الاختلاف ويرجع ذلك إلى تنظيم الحركة الصناعية والعملية منذ الحرب الكبرى، وتنظيم النقابات والاعتصابات لرفع الأجور والمنح، وتحسين أحوال العمال بوجه عام. أما أصحاب المهن العقلية فلم يفكروا ولم تسمح لهم ظروفهم بخوض مثل هذا الكفاح. بيد أن من الخطر على الحضارة
أن يترك أصحاب المهن العقلية دون عون، وأن يدفعوا بفعل الظروف الاقتصادية إلى مصاير سيئة تحملهم على التفكير في تحقيق العيش من طرق أخرى. ومن مصالح الأمم والحضارة أن تدعم الحركة الفكرية والمهن العقلية، وأن تيسر لأربابها سبيل العيش المريح، هذا وإلا فإنه يخشى أن يخمد النبوغ وينطفئ وتتحول الحضارة إلى ركام من الماديات المبتذلة.
مؤتمر فني للتربية:
يعقد بمدينة كوبنهاجن عاصمة الدانماركة بين أول أغسطس والعاشر منه مؤتمر للتربية على مبادئ مونتيسوري المشهورة برياسة الدكتورة ماريا منتيسوري صاحبة هذه الطريقة؛ وهذا هو المؤتمر السادس من نوعه، وسيشهده مندبون عن دول كثيرة وعن طائفة عديدة من معاهد التربية العالمية؛ وستلقي الدكتورة منتيسوري محاضرات في الموضوعات الآتية (1) لماذا يمكن أن تؤثر التربية في سلام العالم (2) ماذا يجب أن تزود به التربية لكي تعاون على تحقيق السلام (3) ماذا يجب أن تسلح التربية به لمقاومة أخطار العصر (4) ضرورة التفاهم العالمي لإعداد الإنسانية إعدادا خلقيا (5) التربية كوسيلة لرفع مستوى الإنسان والمجتمع. وسيلقي أعلام آخرون من رجال التربية مباحث أخرى، وتبحث أساليب منتيسوري للتربية بحثاً علمياً وفنياً، ويقام في نفس الوقت معرض دولي لمطبوعات هذه الطريقة وأشغال مدارسها.
وقد اشتهرت أساليب منتيسوري للتربية في العصر الأخير، وهي تنسب إلى الدكتورة منتيسوري التي كانت أول امرأة حصلت على درجة الطب من جامعة رومة؛ وتولت إدارة معهد الأطفال الشواذ في سنة 1898، وحصلت بطريقتها الخاصة على نتائج طيبة في رفع المستوى العقلي لهؤلاء الأطفال. وفي سنة 1907 طبقت الدكتورة منتيسوري طريقتها على الأطفال العاديين وأسفرت عن آثار حسنة وذاعت في عدة معاهد في رومه وميلانو وبعض عواصم القارة. وتقوم هذه الطريقة بالأخص على ما يأتي:(1) تدريب الحواس والمنطق (2) السيطرة على أطراف الجسم وحركاته (3) تعليم القراءة والكتابة والحساب
وتتبع الآن كثير من رياض الأطفال في أوربا وأمريكا طريقة منتيسوري
تأييد تصويب
استدرك قارئ فاضل هو (ش) في عدد الرسالة الماضي على عبارة وردت في مقالي المنشور في الرسالة (عدد 210) تحت عنوان (من ذكريات الحملة الفرنسية) عن الملكة هورتنس بوهارنيه ابنة الإمبراطورة جوزفين من زوجها الأول الكونت دي بوهارنيه، إذ ورد به أنها كانت زوجاً للجنرال مورات؛ والواقع أن ذلك سهو يؤسف له؛ وقد كانت الملكة هورتنس في الحقيقة زوجاً لأخي نابليون، لويس بونابرت ملك هولنده كما ذكر (ش) في ملاحظته؛ أما زوج الجنرال مورات فقد كانت الأميرة ماري كارولين أخت نابيلون؛ وكانت حياة الملكة هورتنس من بعد سقوط الإمبراطور في سنة 1815 حتى وفاتها في سنة 1837 مؤسية مؤثرة؛ وتولى أصغر أولادها لويس نابليون عرش فرنسا فيما بعد باسم نابليون الثالث
هذا وإني لأشكر لحضرة القارئ غيرته واستدراكه
(م. ع. ع)
الملكة هورتنس:
في التصويب الذي نشر في عدد الرسالة الأخير وردت الجملة (فولدت من نابليون الخ) والصواب (فولدت منه) بالهاء والهاء تعود على لويس بونابرت أخي نابليون ووالد لويس نابليون الذي صار يعرف باسم نابليون الثالث
(ش)
الكتب
قلب غانية وقصص أخرى
تأليف الأستاذ محمود تميور
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
للقصة اليوم في الأدب العالمي خطر كبير، ومكانة معتبرة، فهي في الأمة مظهر رقيها الأدبي، وتقدمها الفكري، وهي وسيلة للكاتب يضمنها ما يريد من إبداء فكرة ناضجة، أو شرح ظاهرة اجتماعية، أو تحليل شخصية غريبة، أو توضيح عاطفة نبيلة، حتى قضايا التاريخ، ومسائل العلم، ومشاكل السياسة، كلها قد أصبحت تؤدي بالقصص، وتروي بالحكاية. ولعل من المعلوم أن القصة بمعناها الفني الدقيق لون جديد في الأدب العربي كان في طليعة المضطلعين بأعبائه المرحوم محمد تيمور الكاتب المسرحي مؤلف (الهاوية) و (العصفور في القفص) و (عبد الستار أفندي) وغيرها من القصص التي نسج بردها بأسلوب نازل، وأخرجها في لغة عامية مهلهلة، بحجة أنها أقرب إلى عقل الشعب، وأنفذ إلى قلبه، فكان في صنيعه هذا إرضاء للفن بالموضوع والفكرة وخذلان في الأداء واللغة. فلما استأثرت به المنية - عليه رضوان الله - قام من بعده سيد آخر هو الأستاذ محمود تيمور، فحاول أن يكون نبوغه جماع ما كان لأخيه من الروح الفنية، وما كان في نفس والده من النعرة العربية، فصار يكتب القصة بأسلوب مبين ابتعد فيه عن الجفوة والخشونة، وارتفع به عن السقط والابتذال، وكأني به قد ألفى نفسه وحيداً في الميدان، واستشعر عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، فأخذ يسد الفراغ بكلتا يديه، وراح يعمل في نشاط وتوثب، مرهفاً العقل والحس، حتى أخرج للناس وللفن جملة طيبة من القصص الممتع، نشر جلها في الصحف وطبع منها نحو ثماني مجموعات آخرها هذه المجموعة التي بين أيدينا (قلب غانية وقصص أخرى) وهي موضع النظر، ومدار الحديث. . .
ثماني قصص أو قل ثمان قطع فنية هي التي تشتمل عليها هذه المجموعة مقدمة بكلمة المؤلف عن حافظ القصصي في يوم ذكراه. وقصص الكتاب تختلف طولا وقصراً، فأطولها (قلب غانية) التي وقعت في صدر الكتاب، وأقصرها قصة (أم) التي جاءت في ختامه، ثم
هي أيضاً تختلف في جوها وبيئتها، وتتباين بأبطالها وشخصياتها، ففي قصة (حنين) يدلف بك تيمور إلى صميم الريف العظيم، فيستطيع أن ينقلك إلى (شمسه المحرقة وظلاله الوارفة، وهوائه الساخن، ونسميه اللطيف، وغدرانه الوديعة، وسواقيه الناعسة) حتى ليسمعك (خوار بهائمه، وأغاني فلاحيه) ويريك (البهائم متراصة أمام معالفها ورؤوسها محنية على العلف تأكل في شره فلا تسمع منها غير جرش وقضم وأنفاس ترددها بين الحين والحين)، وفي (قلب غانية) يقودك إلى (حي غير مشهور) إذ وراء جدرانه حب قائم، وغرام يضطرم، فيطلعك على طراز من الناس تجري بهم الحياة وهم بطئان، وتتغير الدنيا في تقاليدها وألوانها وهم لا يريمون مكانهم، إذ الحياة (لا تستحق عندهم أكثر من حشو البطون، والنوم ملء العيون وما لهم من الفراغ بعد ذلك فهم يقضونه (في اطمئنان وتبلد) بين النارجيلة والثرثرة حول سلوك الناس؛ وفي قصة (سراب) و (حورية البحر) و (السجينة) يأخذ تيمور بيدك إلى منابت الأرستقراطية، فإذا أنت في أسر من أفرادها الباشا والبك ومن أهون متاعها السيارة والمسرة، ولها الأمر والنهي، وفيها الخدم والحشم، والظئر والمربية، (حياة كلها رخاء وبهجة تسير وفق الهوى) وكل شيء فيها ميسور (المال والمرأة والأخوان) أما في قصة (قبلة) فتيمور يهبط بك إلى طبقة نازلة فإذا أنت في (حارة قديمة ضيقة عابثة خالية من المصابيح لا تكاد الشمس تغرب عنها حتى تستولي عليها وحشة كئيبة) وهناك ترى (الدخاخني والمكوجي وبائع الفول) وتتعرف على السايس والعربجي والزبال إلى آخر ما هناك من الأشخاص والمعالم.
فتيمور من غير شك قصص شعبي لا يختص منه بطبقة من الطبقات، ولا يقصر أدبه على طائفة دون طائفة، ولكنه يضرب في كل ناحية ويجري في كل حلبة، وإن من المدهش حقا أن نرى ذلك الأديب النابه موفقاً في كل قصصه، صادقا في كل ما يصف، فكأنه نشأ في كل هذه الطبقات وخالطها ولمس أحاسيس أهلها واستشف ما يجول في خواطرهم وما يدور بنفوسهم فهو من الجميع وللجميع، يستوعب شؤونهم ويتحفز لها بقوة واحدة هي قوة الملكة المصورة، والنظرة الشاملة، فكأنه - وهو يصف - مصور لا كاتب، وكأن ما يصفه مبسوط أمامه فهو ينقله على وضعه الطبيعي، ومن ثم كان أدب تيمور هو الصورة الصادقة للحياة المصرية في أدق نواحيها، فهو للسائح في بلادنا دليل مرشد، وهو للمؤرخ القادم
مصدر ناطق، وهو للاجتماعي الباحث مادة نافعة
وهناك ظاهرة في أدب تيمور يعيبها عليه بعض النقاد، وهي خروجه على حدود الحشمة والوقار والأخذ بما يسمونه الأدب المكشوف، وإنك لتجد شيئاً من هذا في قصة السجينة، وقلب غانية، وسراب؛ وتيمور يدافع عن نفسه بأن (الأدب ليس له عنده غير اسم واحد هو الأدب بمعناه الواسع، وليس له إلا هدف واحد هو الفن). وأنا لا أريد أن أفيض القول في الأدب المكشوف والأدب المستور فإن القول في ذلك يطول، ولكني أريد أن أقول: إن من الخطل أن نتخذ الدين والأخلاق ميزاناً من موازين النقد فنطمس شعر النواسي مثلا لما فيه من العهر والفحش، وإنما الواجب أن تصور الحياة بالأدب، وأن نقدر الفن للفن، وأن نفرق بين الأديب والواعظ، والظاهر أن القدماء كانوا أسمح منا نفوساً في ذلك، فقد عاب بعض النقاد شعر ابن حجاج بما تضمنه من فحش المعاني، فقال ابن سنان الخفاجي يرد عليه:(وليس الأمر عندي على ذلك لأن صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل، ويطلب في كل واحد منها صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حد واحد. . .) فإن كان في قصص تيمور بعض النواحي المكشوفة فإن في الناس من يقبلها كما أن في الناس من ينكرها، وهي على كل حال ليست بعيب في يحصى على الرجل. . .
وأما بعد فهل استطاع تيمور أن ينجو من سنان هذا القلم؟ لقد حاولت أن أتلمس ما عليه فلم أقع إلا على هفوات طفيفة كأن يقول: (وكان كساب أفندي يرتدي زعبوطا!!) وأنا ما رأيت أفندياً يرتدي زعبوطا إلا في قصة تيمور
ثم هناك هفوات في اللغة والنحو قد يكون من السهل أن يتداركها الأستاذ في طبعة ثانية، وأنا لست ممن يتساهلون في الخطأ اللغوي والنحوي، لأن الكاتب الذي لا يراعي أشراط الكتابة هو فنان ناقص!! وإني لأشهد أن تيموراً قد ارتقى أسلوبه عن ذي قبل، وهو كل يوم في تقدم مطرد، وإني لأرجو له تقدماً أوفى وأتم.
محمد فهمي عبد اللطيف