الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 214
- بتاريخ: 09 - 08 - 1937
مصطفى لطفي المنفلوطي
بمناسبة ذكراه الثالثة عشرة
- 2 -
كان مولد المنفلوطي كمولد الرافعي في بيت كريم بالدين جليل بالفقه توارث أهله قضاء الشريعة ونقابة الصوفية قرابة مائتي سنة؛ ولكنه كان خِلْفةً لنبعتين مختلفتين: فأبوه عربي صريح النسب إلى عترة الحسين، وأمه تركية شابكة القرابة إلى أسرة الجوربه جي؛ ونهج المنفلوطي سبيل آبائه في الثقافة، فحفظ القرآن في المكتب، وتلقى العلم في الأزهر؛ لا أن للأدباء من أبناء الفقهاء نَبوةً في بعض الحالات على إرادة الوراثة والنشأة؛ فهم يصدفون في منتصف الطريق عن دروس الفقه والأصول والعقائد، إما لأن أذواقهم الأدبية الموهوبة لا تسيغ أساليب كتبها المعقدة، وإما لأن طباعهم المدنية الحرة لا تطيق الحياة الدينية المقيدة. فكان السيد مصطفى على الكره من ورع قلبه ورعاية أبيه لا يُلقي باله كثيراً لغير علوم اللسان وفنون الأدب؛ فهو يحفظ الأشعار، ويتصيد الشوارد، ويصوغ القريض، وينشئ الرسائل، وتسير له شهرة في الأزهريين بذكاء القريحة وروعة الأسلوب فيقربه الأستاذ الإمام ويرسم له الطريقة المثلى إلى الغاية من الأدب والحياة. ثم يستفيد المنفلوطي من قربه إلى الإمام صلته بسعد باشا، ومن زلفاه لدى هذين العظيمين نُفوقه لدى (المؤيد)؛ والإمام المجتهد محمد عبده، والسياسي الخطيب سعد باشا، والصحفي الكاتب علي يوسف، كانوا أقوى العناصر في تكوين المنفلوطي الأديب بعد استعداد فطرته وارشاد والده؛ وأولئك الثلاثة كانوا على ما بينهم من التفاوت في نواحي النبوغ أفهمَ رجال العصر الحديث لحقيقة الأدب وأشدهم حدبا على بؤس أهله.
كان المنفلوطي لا يعمل جادّاً لشهادة الأزهر، وإنما كان يعتمد في نيلها على جاه الإمام، كما كان يعتمد من هم على شاكلته من أبناء العلماء على وساطة والديهم؛ والإمام المفتي مفسر وحي الله، وشارح فن عبد القاهر، ومعيد الأدب إلى الأزهر، كان يقيس كفاية الطالب بمقياس سيبويه لا بمقياس أبي حنيفة. فلما قبضه الله إلى رحمته جزع المنفلوطي فيه على سنده وأمله، وارتد مقطوع الرجاء إلى بلده. ثم نعش الله عاثر أمله بعد فترة من الزمن فهب يبتغي في (المؤيد) الوسيلة إلى النباهة والنجح، وأوى من الوزير سعد باشا حامي النبوغ
إلى ركن منيع، فخلق له منصب التحرير في وزارة المعارف فضمن له به رغد العيش ووفرة الإنتاج حتى اختار الله له ما عنده
كان المنفلوطي أديباً موهوباً حظ الطبع في أدبه أكثر من حظ الصنعة؛ لأن الصنعة لا تخلق أدباً مبتكراً ولا أديباً ممتازاً ولا طريقة مستقلة؛ والنثر الفني كان على عهده لوناً حائلاً من أدب القاضي الفاضل، أو أثراً ماثلاً لفن ابن خلدون؛ يتمثل الأول قوياً في طبقة المويلحي وحفني ناصف، ويظهر الثاني ضعيفاً في طبقة قاسم أمين ولطفي السيد؛ ولا يستطيع ناقد أن يقول إن أسلوبه كان مضروباً على أحد القالبين؛ إنما كان أسلوب المنفلوطي في عصره كأسلوب ابن خلدون في عصره بديعاً أنشأه الطبع القوي على غير مثال؛ والفرق أن بلاغة (النظرات) مرجعها إلى القريحة، وبلاغة (المقدمة) مرجعها إلى العبقرية.
أَعلم أن المنفلوطي تأثر في القديم بابن المقفع وابن العميد، وفي الحديث بجبران ونعيمة، ولكن هذا التأثر دخل في فنه دخول الإلهام والإيحاء، لا دخول التقليد والاحتذاء؛ فله من الأولين إشراق الديباجة وقوة النسج، وله من الآخرين جدة الموضوع وطرافة الفكرة، ولكنك لا تتذكر وأنت تقرأه أحداً من أولئك جميعاً.
عالج المنفلوطي الأقصوصة أول الناس وبلغ في إجادتها شأواً لا ينتظر من نشأة كنشأته في جيل كجيله. وأذكر أننا كنا نقرأ (غرفة الأحزان) و (اليتيم) وأمثالهما فنطرب للقصة على سذاجتها أكثر مما نطرب للأسلوب على روعته. وسر الذيوع في أدب المنفلوطي ظهوره على فترة من الأدب اللباب، ومفاجأته الناس بهذا القصص الرائع الذي يصف الألم ويمثل العيوب، في أسلوب طلى وسياق مطرد ولفظ مختار. أما صفة الخلود فيه فمأتيةٌ من جهتين: ضعف الأداة وضيق الثقافة. فأما ضعف الأداة فلأن المنفلوطي لم يكن عالماً بلغته ولا بصيراً بأدبها، لذلك تجد في تعبيره الخطأ والفضول ووضع اللفظ في غير موضعه. وأما ضيق الثقافة فلأنه لم يتوفر على تحصيل علوم الشرق، ولم يتصل اتصالاً مباشراً بعلوم الغرب؛ لذلك تلمح في تفكيره السطحية والسذاجة والإحالة. فإذا قدر الله لأدب المنفلوطي أن يفقد سحره وخطره في أطوار المستقبل، فإن تاريخ الأدب الحديث سيقصر عليه فصلاً من فصوله يجعله في النثر بمنزلة البارودي في الشعر. وكفى بذلك عرفان
فضل وخلود ذكر. أما مسألة الأدب الباكي والأدب الضاحك، أو الأدب الضعيف والأدب القوي فمغالطة مريضة من النقد سنعرض لها في فرصة أخرى.
احمد حَسن الزياتْ
أدب التمرد
للأستاذ عباس محمود العقاد
في ختام مقالنا عن أدب الموافقة قلنا (إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة: فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص، وكل ما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال)
فليس كل التمرد إذن خيراً من كل الموافقة؛ وليس كل التمرد ابتكاراً وخلقاً واستقلالاً بالرأي والفطرة. فكيف على هذا نميز بين التمرد النافع المحمود والتمرد الذي هو ضرب من الموافقة المعكوسة؟
والمحك الذي لا يخيب ولا يخطئ في التمييز بين كل أدب صحيح وكل أدب سقيم هو هذا: هو أن الأدب الصحيح لن يكون آلياً يجري على نمط الأشياء التي تصنعها الآلات والتي تعرف سلفاً كما يعرف كل مصنوع في قالب مصبوب.
والأدب الذي يوافق ولا يخالف (آلي) محض، لأن صاحبه ينزل عن مرتبة الإنسان إلى مرتبة الآلة التي تحذو حذو ما سبقها ولا تضيف إليه أو تمسه بتحسين وتنقيح.
وكذلك الأدب الذي يتمرد على كل شيء ولا يميز بين ما هو أهل للموافقة وما هو أهل للنسخ والمناقضة إنما يصنع كما تصنع الآلة ويغنيك عن صاحبه كل الغنى، لأنك تعرف رأيه قبل أن تسمعه، وتدرك أسلوبه قبل أن تراه.
وغاية ما بين هذا وذاك من فارق أن الموافق يؤتى له بشيء فيراه كما يراه السابقون ولا يحب أن يراه على خلاف ما نحلوه من لون ورسموه من شكل ونهجوه من طريق: يقال له هذا أبيض، فيقول نعم هذا أبيض؛ ويقال له هذا جميل، فيقول نعم هذا جميل.
أما المتمرد الكاذب أو المتمرد المصطنع فأنت تعلم ما يقول عن الأبيض قبل أن يلمحه بعينه، وما يقول عن الجميل قبل أن يتأمله بفكره ويروزه بحسه وبصره: فالأبيض عنده أسود، والجميل عنده قبيح، والنافع عنده ضار، والضار عنده نافع على غير قياس وفي غير تمييز وتمحيص. فإذا به ينزل عن مرتبة الإنسان وينقلب آلة معروفة الوزن والحساب على العكس والمناقضة؛ ومثل هذا لا يخلق جديداً ولا يحمل في عالم الأدب والفن أمانة،
ولا يبالي بشأنه إلا كما يبالي بشأن المريض لاستطلاع حالة من أحوال سقم النفوس والأذواق.
إن (الآلية) هي الوصف الوحيد الذي ما جاز قط ولن يجوز أبداً في نتاج أدب صحيح أو فن صحيح.
وإنما يجوز الخلاف فيما عدا ذلك من الأوصاف. أما وصف الآلية فالاتفاق على إنكاره بداهة من البداهات، إذ كان معدن الفن كله حرية السليقة والقدرة على الإبداع والإتيان بالجديد حتى في عرض المعنى القديم.
ونحن حين نقول الحرية لا نقصر الغرض منها على حرية الفنان في مواجهة العسف والإملاء والإيحاء من غيره، ولا نقصد منها أن الفنان يأبى ما يرسم له ويساق إليه على حكم القسر والاضطرار؛ ولكننا نقصد بها مقصداً قد يلوح في بادئ الرأي غريباً نابياً وهو هو المألوف المشهود فيما يمارسه وفيما قد مارسه كل صاحب فن وكل صاحب رسالة أدبية: نقصد بها (حرية الفن) حتى بين الفنان ونفسه، فليس له أن يعتسف ولا أن يدعو ملكته إلى غير ما ترضاه وتنساق أليه بمحض (الحرية) وعفو السليقة، وليس له هو أن يخط للحرية الفنية حدودها أو يشق لها طريقها، لأنها (حرية مطلقة) لا فرق عندها بين طغيان صاحبها وطغيان عدوها، ولا محاباة عندها في استجابة أمر تراد عليه.
ومن الأدباء الواقعيون والخياليون، ومنهم أنصار الماضي وأنصار المستقبل، ومنهم الماديون والروحيون، ومنهم المتفائلون والمتشائمون، إلا أنهم جميعاً في هذه الخصلة سواء؛ وهي الخصلة التي يتمردون بها على الآلية ويرتفعون بالإنسانية إلى ذروتها العليا؛ وما كانت للإنسانية علامة ترفعت بها عن درك الحيوان إلا التكليف؛ وما كان التكليف إلا الدرجة الأولى من سلم الحرية التي تأخذ بشيء وتدع ما عداه، والتي تختار بين الحميد والذميم والمطلوب والممنوع. أما الدرجات فوق ذلك فهي (الحرية الفنية) التي تنبعث من باطن الإنسان بغير آمر ولا زاجر، ولا تتوقف على التكليف والتخيير.
نعم ليس الواقعيون أو الماديون عنواناً آخر للموافقين أو المقلدين. فمن يصف الواقع ليس باللازم اللازب أن يخضع له ويرضاه، ومن ينكر المثل العليا ليس باللازم اللازب أن ينكر الحركة ويخلد إلى الجمود.
لقد كان المتنبي (واقعياً) إلى جانب العمل، وكان المعري واقعيا إلى جانب الزهد والقعود، وكلاهما مع هذا مثل بارز في التمرد والثورة على (الآلية) والتقليد؛ فأسلوب المتنبي جديد، وخبرته للناس جديدة، وثورته على الواقع معناها أنه من المتمردين وليس من الموافقين.
أما المعري فهو على تشاؤمه وزهده قد دفع الحاضر المحيط به دفعة الجبار الذي يهدم بيديه وهو قائم في مكانه. وقل فيه ما شئت إلا أنه آلة وليس بإنسان في الصميم من الحرية الإنسانية؛ وقل في تمرده ما شئت إلا أنه تمرد آلي وليس بتمرد (حر) يمتاز به المعري بين سائر المتمردين؛ وإلا فمن هو المتمرد الذي يشبه المعري في تناول الأمور ونقد العيوب وصياغة النقد في منظومه ومنثوره؟؟ تلك علامة الأدب الصحيح أو الفن الصادق: علامته أن عشرين شاعراً ينكرون أموراً بعينها ثم يختلفون في نمط الإنكار اختلافا يحمل عنوان كل شاعر منهم ولا يخالط غيره من العناوين
من الواجب أن نثور على أدب الموافقة
وأوجب منه أن نثور على أدب (الثورة) الكاذبة، أدب التمرد البخاري أو الكهربائي الذي يحطم ذات اليمين وذات الشمال كما تحطم القاطرة بغير سائق.
وفي أوربا اليوم غاشية من هذا التمرد الزري يوشك أن تسري إلى أمم الشرق، لأنها أشبه الأمور معاً بكسل الكسالى وجموح الجامحين. فأما الكسلان فالتمرد الآلي مغنية عن التحصيل، ومغنية عن إجهاد الذهن ورياضة الذوق على التفريق والتمييز؛ وأما الجامح الأهوج فالتمرد الآلي في يديه كالسيف الذي يشهره المجنون وهو مغمض العينين أو مفتوحهما على حد سواء
وأظهر ما كان ظهور التمرد الآلي في عالم التصوير، لأنه الفن الذي يفاجئ العيون ولا يخفي الشذوذ فيه حتى يتسرب إلى الأفكار والأذواق. فالمصورون المجددون اليوم في أوربا اللاتينية يصورون لك ما شاءوا إلا ما تراه وتحسه وتتخيله وتفقه مغزاه. ومن المحقق أنك تبحث عن وجه الرجل المرسوم فلا تراه، وعن مشاهد الطبيعة المرسومة فلا تراها، وعن الرمز المتوقع أو الشبه المنتظر فلا تلمح أثراً لهذا ولا لذاك. . . وكل شكل جائز أن تلقاه في الصورة إلا الشكل الذي يجب أن تلقاه!! ولا تدري بعدها ما الذي على الإنسان أن يتعلمه ليسلك في عداد المصورين؟ هل يتعلم الرسم؟ هل يتعلم مزج الألوان؟
هل يتعلم التشريح؟ هل يتعلم التعبير؟ هل يتعلم مشابهة الملامح؟؟ كلا! لا ضرورة لذلك في صناعة التصوير إلى مذهب هؤلاء المجددين. فما من صورة حديثة فيها سمة من تلك السمات. ولعل تعلم الحلاقة أو تعلم الطبخ أو تعلم النسيج أقرب إلى إخراج صورة الإنسان على هذا المثال من تعلم الرسم والتشريح والألوان.
وإنما تبدو لنا حقيقة هذا التمرد إذا نظرنا نظرة واحدة إلى وجوه دعاته والمتظاهرين بفهمه واستحسانه. فجميعهم أمساخ مشوهون، أو ضعفاء مهملون، لا يقعون في موقع من الأنظار ولا الخواطر. ودأب هذه الزمرة من الناس أن تنكأ الأذواق والضمائر لتبلغ ممن يعافونها ويعرضون عنها مبلغاً من الانتباه والمبالاة، وتلك سريرة خفية في جماعة الخلعاء حيث كانوا وحيث تهيأ لهم الظهور بالتفحش في الأخلاق، أو التفحش في الأذواق، ومن كان منهم سويَّ الخلق معتدل التركيب في ظاهر الأمر فآفته لا محالة نقمة مطوية تلحقه بزمرة الأمساخ والمشوهين، ولولا ذلك لما جنح إلى إيذاء الشعور واللجاجة في إيذائه حتى يقال من حوله إنه ليس بحقير وإنه لا يترك بغير انتباه.
ذلك نموذج من وباء (التمرد الآلي) في الفنون الأوربية الحديثة، وهو تمرد أدنى إلى الغثاثة والعقم من كل جمود وكل موافقة.
عباس محمود العقاد
حلم بالمدرسة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
رأيت في المنام أني رددت تلميذاً. وقلما أذكر ما أراه في أحلامي لأني أنام كالقتيل من فرط الإعياء والنصب ثم لأن ذاكرتي خوانة. وأحسب أن من فضل الله علي أنه أعفاني من الشغلان بالأحلام وتأويلها. فما ينقصني من دواعي الاضطراب إلا هذا. وقد كنت في حياة أمي رحمها الله أصبح فأدخل عليها وأجلس إلى جانبها على حشيّة مطروحة فوق السجادة وأمامها الموقد وعليه وتحته أدوات القهوة كلها فتصب لي شيئاً في الفنجانة وتناولنيها فأسألها: (نمت نوماً مريحاً؟) فتقول: (لله الحمد) فأسألها مرة أخرى (أحلام لطيفة إن شاء الله؟) فتقص علي ما رأت وأنا مصغ وبي كالذهول من شدة استغرابي لدقة الوصف وإحاطته بالألوان والأصوات والاحساسات وما يدور في النفس من معان، وأراني أسأل نفسي وأنا أنصت:(أتراها تتخيل؟) ولكني أعرفها صادقة تتقي الله وتخشاه فلا يسعني إلا أن أتعجب لهذه القدرة التي حرمت مثلها.
وأذكر أنه لم يسؤني أني رجعت تلميذاً أجلس في الصف وأصغي إلى المعلم وأجعل بالي إليه. وقلت لنفسي وأنا ماض إلى المدرسة: إن الحياة مدرسة لا تنتهي. والمرء لا يكف عن التعلم لحظة واحدة إلا حين تنقطع أنفاسه ويخرج من الدنيا. وصحيح أن أكثر ما يتعلمه الإنسان في مدرسة الحياة يدفن معه فلا ينتفع به أحد - لا هو ولا سواه - ولو كان الذي أفاده في حياته يبقى بعده ويتخلف في الدنيا دونه لما كان المرء خليقاً أن يشعر بعبث التجارب وما استطاع أن يحصل في فسحة العمر طالت أم قصرت؛ إذ ما خير أن أتعلم وأن أحصل وأن أستخلص الحكمة والعبرة مما أجرب وأعاني إذا كان كل ذلك يطوي معي بل لا يعود له وجود؟ ولكن ما يبدو من قلة الجدوى في النهاية لا يمنع أننا نظل نتعلم ما دمنا أحياء. وإذا كان هذا هكذا فالأولى أن يكون المرء تلميذاً جهرة وصراحة فلا يذهب يدعي أنه فرغ من التعلم وحصل كل ما ينبغي له تحصيله. وهذا الذي أصنعه الآن من استئنافي عهد التلمذة هو الذي يقضي به الصدق - صدق النفس على الأقل.
ولا أذكر ما الذي ردني إلى المدرسة وكل ما أعرفه أني رأيتني أقصد إليها وأني كنت فرحاً بذلك، وكان معي شيء أحمله ولم ألتفت إليه إلا بعد أن صرت بين التلاميذ الآخرين
فقد وجدت (الفصل) غاصاً بهم، ولكني لا أذكر منهم إلا وجه الأستاذ محمود عزمي فقد كان يجلس إلى أقصى اليمين، وكان مكاني الذي قصدت إليه في أقصى الجنوب، وكانت وراءه نافذة مغلقة فوضعت ما أحمل على حافتها، وعرفت في هذه اللحظة فقط أن الذي أحمله هو قطع شتى من الحلوى والفطائر والسندوتش. وتذكرت وأنا أضع ذلك على حافة النافذة المحكمة العسكرية التي شهدت جلساتها أيام كنت أعمل في جريدة الأخبار. وكانت المحاكمة طويلة وكنت أوافي الجريدة بأنبائها مفصلة، وكانت الجلسات تعقد في الصباح وفي المساء أيضاً كل يوم. وكنت أتعب وأجوع وأظمأ، فكان المرحوم أمين بك الرافعي يبعث إليّ مع الخادم الذي يجيء ليأخذ مني الأوراق التي كتبتها بالسندوتش وما إليه و (بترموص) فيه عصير الليمون فكنت آكل وأشرب وأفرق
وكان الأستاذ الذي وجدته في (الفصل) شاباً وكنت أحس أني أعرفه. ولم أستغرب أن يكون شاباً، وحدثت نفسي إن هذا خير من أساتذتي القدماء الذين كانوا جميعاً من الشيوخ، ولا أعني الشيوخ ذوي العمائم بل من الشيوخ في السن، ولا استثني منهم إلا واحداً هو الأستاذ الشيخ احمد الإسكندري، أراني لا أزال أضن به أن أسلكه مع سواه ممن علموني في صغري. وقلت لنفسي وأنا واقف في مكاني - فما أذكر أني قعدت - عسى أن يسير بنا هذا الأستاذ الشاب في نهج مستقيم واتجاه سديد فقد أضلنا تعليمنا القديم وحيرنا وتركنا كالتائهين في الصحراء، وما كان لنا من أساتذتنا السابقين مرشد أو معين؛ وأحسبهم ما كانوا يعرفون إلا ما يعلموننا، فلهم العذر إذا كانوا قد عجزوا عن هدايتنا وإرشادنا والأخذ بأيدينا.
وكان الأستاذ يحمل خيزرانة - فما استطعت حتى في الحلم أن أتخلص من صور المدرسة القديمة، وكان أبرز ما فيها العصا - وابتسمت وأنا أنظر إلى الخيزرانة في يد المعلم ونظرت إلى الأستاذ عزمي فأدرك ما أريد وهز رأسه وابتسم ابتسامته المحببة وقال:(أيوه يا سيدي. . . لا يزال القديم على قدمه مع الأسف).
وقال الأستاذ شيئاً فهمت منه أنه يريد أن يلقي أحدنا كلمة استهلال - أي أن يفتتح الدرس، فأعربت عن استعدادي لإلقاء الكلمة المطلوبة، فقال الأستاذ عزمي:(من أول يوم يا مازني؟) فابتسمت له راضياً وتنحنحت استعداداً للكلام، وأذن لي الأستاذ فقلت كلاما لا أذكر منه مع الأسف ولا حرفاً واحداً، ولكني أذكر أني كنت وأنا أتكلم أحدث نفسي بأن
الأثرة كانت تفسد على التلاميذ حياة المدرسة المشتركة فكان أحدنا إذا اشترى شيئاً من الحلوى أو (المخلل) - فقد كنا نشتريه قبيل الغداء ونحمله معنا إلى موائد الطعام - أقول إن أحدنا كان إذا اشترى شيئاً يضن به على إخوانه ولا يسمح لهم بأن يشاركوه فيه، وكان ربما ذهب إلى ركن خفي وأخرج من جيبه بعض ما فيه وراح (يبلع) قبل أن يفاجئه أحد ويطلب منه قطعة. ولكنا كبرنا الآن وعرفنا أن الأثرة عيب وأن لذة المشاركة أحلى وأطيب. وإن جديراً بي في مستهل حياتي المدرسية الجديدة أن أستن سنة الإيثار أو على الأقل المشاركة، وأن أقلب جو المدرسة جو تعاون ومودة.
كان هذا يدور في نفسي وأنا ألقي كلمتي، فامتدت يدي إلى النافذة واستراحت أناملي عليها إلى أن أستطيع أن أهتدي وأنا أتكلم إلى مناسبة تسمح بأن أوزع الحلوى والسندوتش على الزملاء، ولكن المناسبة لم تعرض مع الأسف لسبب خارج عن إرادتي فقد استيقظت فانتسخ الحلم قبل أن يتم. وكان الذي أيقظني صوت دق عنيف على باب العمارة وصياح عال:(افتح يا محمود. . . أنت ميت؟. . .)
فأخرجت الساعة من تحت الوسادة ونظرت إليها فإذا هي الثالثة صباحاً، فقلت: والله إن محموداً لمعذور! وهل كان عليه أن يظل واقفاً بالباب ينتظر مقدم صاحبنا إلى الفجر؟ وفتح الباب ودخل الرجل - فقد كان رجلا كما لا أحتاج أن أقول - يزمجر ويبرطم وبدأ الفصل الثاني من رواية إزعاج خلق الله في سكون الليل فقد شرع يدق باب شقته ويصيح وينادي، وبقي على هذا الحال ربع ساعة لا تنقص دقيقة، وكان الذي يثير ثائرته ويهيجه إلى ما به أن من في بيته - لا أدري من - لا يريدون أن يفتحوا له الباب، وكانوا يقولون له:(اذهب فنم حيث كنت) فيرج الباب ويهزه ويهدد بكسره ويدعو البواب المسكين أن يساعده على تحطيمه كأنما يمكن أن يعينه البواب على فعل كهذا. . . وأخيراً فتح الباب ووسعني أن أضحك قليلا وأن أستأنف النوم - لا الأحلام مع الأسف. . . وتذكرت حكاية الرجل الذي رأي في منامه أن واحداً يعرض عليه تسعة وتسعين جنيهاً وهو يأبى إلا أن تكون مائة؛ واشتد الحوار واللجاج بينهما فاستيقظ الرجل فنظر في يديه فألفاهما خاليتين فارغتين كفؤاد أم موسى، فندم وأغمض عينيه ومد كفه وقال (طيب رضينا. . . هات بقى)
كذلك أنا والله. . . كنت أود أن أعود إلى حلمي لأرى ما يكون مني ومن إخواني. وكان
الذي يعنيني على الخصوص أن أعرف كيف يكون سلوكنا في المدرسة وهل نعود إلى (الشقاوة) القديمة التي اشتهرنا بها؟. وهل (نحوي) على المدرسة كما كنا نفعل في صبانا؟. وهل يمكن مثلا أن ننثر الحبر الأزرق على ثيابه البيضاء حين يمر بنا؟. ونضع سن الريشة بين (الدرج) وغطائه ونذهب نخرج منها أصواتاً قد لا تكون موسيقية ولكنها كافية لإزعاج المعلم وبلبلة خواطره وتحييره الخ الخ
والأحلام - على ما يقال - تؤول بضدها، فإذا كان هذا صحيحاً فهل معنى هذا أني سأرتد معلماً؟. . أعوذ بالله. . ولا قدر الله. . لقد نجوت من هذا فلن يردني إليه شيء كائناً ما كان. وذكرت لهذه المناسبة حادثاً مضحكا - أو لا أدري ماذا يفعل - ذلك أني كنت محرراً في جريدة الأخبار. وكانت الأحكام العسكرية مرفوعة في ذلك الوقت ولكن الرقابة التحفظية على الصحف كانت قد ألغيت، وكان صديق لي يبعث إليّ بمقالات عن وزارة المعارف ويضع في ذيلها اسماً مستعاراً مثل (مطلع) أو نحو ذلك فقد نسيت. وكانت هذه المقالات تقض مضجع الوزير يومئذٍ. وكنت أخشى أن نفاجأ بهجوم على الجريدة فتؤخذ الأصول ويعرف الكاتب فكنت أنقلها بخطي وأحرق الأصل؛ ويظهر أن أحدهم اتصل بعمال المطبعة الذين لا يعرفون أن في الأمر سراً لأنهم يرون المقالات بخطي. فاقتنعت الوزارة أني أنا الكاتب ولم تستغرب ذلك لأني كنت من موظفيها ومن رجال التعليم بها. وفي إحدى الليالي كنت عائداً إلى البيت - وكان يومئذ في صحراء الإمام - فصار كل من يلقاني هناك يقول لي: إن الشيخ (يريدون شيخ الإمام وهو قربي) يطلبك فسألت عنه، فلم أجده، فذهبت إلى بيتي ونمت، وفي الصباح بعث إلي الشيخ خادمه فلحقت به فقال:(اركب) فركبت. وكانت له مركبة يجرها جواد أصيل وسألته: (إلى أين إن شاء الله؟) قال (إلى وزارة المعارف) فدهشت وسألته: (وماذا أصنع في وزارة المعارف؟) قال: (تتسلم عملك) فصحت من فرط الدهشة: (عملي؟. . . ماذا تعني؟) قال: (جاءني وزير المعارف أمس وأنت تعرف أنه صديقي وقال لي إنه علم أن المازني قربي وأنه يعتمد علي في إقناعك بقبول العودة إلى وظيفة كوظيفة أقرانك في الوزارة) فأدركت أن الوزير غلط وظن أني أنا كاتب المقالات التي أقامت القيامة وقلت: (إن المسألة فيها غلط. . لست كاتب المقالات) قال: (زي بعضة) قلت: (هذه رشوة لا أستحقها مع الأسف) قال: (يا أخي لا تكن مجنونا)
قلت: (مجنون. . عاقل. . كيف أستطيع أن أدخل وزارة المعارف وأنا أكتب كل يوم بإمضائي ضد الوزارة كلها؟. بأي وجه ألقى الناس؟. كل ذمة لها ثمن. . لا تحسب أن أحداً أرفع من أن يرشى. . ولكن من سوء الحظ أن هذه الرشوة تعرض في الوقت الذي لا يسعني فيه أن أقنع ضميري بقبولها. . وقد قلت لك إني لست الكاتب كما توهمت الوزارة فأرحها وأعفها من تكلف هذه الرشوة.)
وانتهى الأمر على هذا الوجه. إني ليخيل لي أحيانا أني كنت مغفلا ولكن من يدري؟. . وسواء أكنت أم لم أكن فما اعرفني ندمت قط على شيء مضى وفات. . ولماذا أعني النفس بالماضي ولا خير في ذلك؟ والحاضر حسبي مشغلة. والحمد لله على ما وفق وأعان.
إبراهيم عبد القادر المازني
كان لمصر أسطول
فهل يعيد التاريخ نفسه؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مصر بين الدول التي دعتها الحكومة البريطانية إلى الاشتراك في حفلة العرض البحري الكبرى التي أقيمت لمناسبة تتويج جلالة الملك جورج السادس، ولكن مصر اعتذرت عن إجابة هذه الدعوة لأنها لا تملك من الوحدات البحرية اللائقة ما يصلح لاشتراكها في مثل هذا الحفل الدولي العظيم
وبالأمس احتفلت مصر بتتويج جلالة مليكها الفاروق احتفالا رائعاً يذكرنا جلاله وروعته بمجد عصورنا الذاهبة وعظمتها، وروعة أيامها ومناسباتها المشهودة؛ واشترك الجيش المصري الباسل بوحداته البرية والجوية في هذه المناسبة السعيدة اشتراكا يذكرنا بماضيه العسكري الباهر، ويبعث إلى الأمل في أن يغدو سراعا كما كان في الماضي درع البلاد وحصنها الحصين
ولكنا لم نسمع للأسف صوت الأسطول المصري، ولم نشهد أثره في تلك المناسبات العظيمة لأن مصر لا أسطول لها
هذه الحقيقة المؤلمة يجب أن تلفت أنظار مصر المستقلة إلى مركزها الدقيق بين دول البحر الأبيض المتوسط، وإلى ما يمكن أن تواجهه في المستقبل من الأخطار من هذه الناحية خصوصاً في هذا العصر الفياض بالتطورات والاحتمالات السريعة، وفي هذه المياه التي تنذر من آن لآخر أن تضطرم بكدر الخصومات والمنافسات التي تتفاقم عواملها يوماً بعد يوم
فمصر بلد بحري بلا ريب تمتد شواطئه إلى مسافات بعيدة على طول البحرين التاريخيين العظيمين: بحر الروم أو البحر الأبيض المتوسط، وبحر القلزم أو البحر الأحمر؛ وقد لعب هذان البحران العظيمان منذ فجر التاريخ في تاريخ مصر وفي مصايرها أدواراً خطيرة؛ وسوف يلعب كلاهما بلا ريب دوره الخطير في مستقبلها
وقد شعرت مصر دائماً بمركزها البحري الخطير في هذين البحرين، فكان لها منذ أقدم العصور أساطيل حربية تجوس خلال هذه المياه وتذود عن شواطئها، وأساطيل تجارية
تحمل تجارتها إلى أقصى ثغور العالم القديم
وكما أن لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البرية التي بلغت أحياناً قاصية الأناضول شمالاً، وأقاصي السودان والحبشة جنوباً، فكذلك لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البحرية، بل إن تاريخ مصر البحري يبدو أحياناً في ألوان من العظمة تضارع سيرة أعظم أساطيل هذه المياه في العصور الوسطى؛ فقد كان الأسطول المصري طوال هذه العصور يملك ناصية شرق البحر الأبيض، ويناهض أسطول الدولة البيزنطية، وأسطول البنادقة أعظم أساطيل العصر، وكانت له في تلك المياه جولات وفتوحات عظيمة حتى أواخر القرن الخامس عشر
ومنذ القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي) نرى مصر تعنى بأسطولها عناية فائقة، وتنشئ دور الصناعة أو المصانع البحرية العظيمة لتغذي أسطولها باستمرار بمختلف الوحدات البحرية؛ وكانت دور الصناعة بمصر والإسكندرية ودمياط أيام الفاطميين تخرج أعظم الوحدات البحرية المعروفة في ذلك العصر. وبلغ الأسطول المصري في أوائل عهد الدولة الفاطمية نحو ستمائة قطعة ترابط في الإسكندرية ودمياط وعسقلان وفي البحر الأحمر. وكان للأسطول وشئونه ديوان خاص يعرف بديوان الجهاد أو ديوان العمائر؛ واشتبكت مصر أيام الفاطميين مع الدولة البيزنطية في عدة معارك بحرية شهيرة. وفي أيام الدولة الأيوبية لعب الأسطول في المعارك الصليبية دوراً خطيراً؛ وكانت الحراقات أو قاذفات النار المصرية عاملا حاسما في هزيمة لويس التاسع ورده عن مصر. ومع أن الأسطول لم يحظ أيام دول السلاطين بمثل العناية التي حظي بها أيام الفاطميين، فإنه لبث منذ القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن الخامس عشر عاملاً هاماً في التوازن الدولي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي أوائل القرن الخامس عشر افتتح الأسطول المصري جزيرة قبرص في عهد الملك الأشراف بارسباي (سنة 1425 م)، وغزا رودس أكثر من مرة؛ وكان يشتمل يومئذ على نحو ستين قطعة، وكان معظم بحارته من المتطوعين الذين يهرعون إليه كلما دعا داعي الجهاد. وما زالت مصر أيام السلاطين تحتفظ بأسطولها حتى الفتح العثماني، بل نرى السلطان الغوري آخر أولئك السلاطين يجدد الأسطول المصري ويعده لمحاربة البرتغاليين للمحافظة على طريق الهند القديم الذي كانت
مصر حارسته وكانت تعلق عليه أهمية تجارية خاصة. وفي سنة 1508 م أعني قبيل الفتح العثماني بأعوام قلائل نرى الأسطول المصري بقيادة أمير البحر حسين يهزم الأسطول البرتغالي في البحر الأحمر بقيادة الأميرال لورنسو الميدا، ثم يشتبك بعد ذلك في معارك بحرية شديدة مع أسطولي برتغالي آخر بقيادة أمير البحر الشهير البوكركي على مقربة من باب المندب
والظاهر أن مصر لبثت بعد الفتح العثماني مدى حين تحتفظ بأسطولها، أو على الأقل بسمعتها البحرية، فنرى التواريخ النصرانية تنوه بشجاعة البحارة الإسكندريين في موقعة لبانتو البحرية الشهيرة التي نشبت بين الأسطول العثماني بقيادة علي باشا، والأساطيل النصرانية المتحدة بقيادة الدون خوان سنة 1571 م، واشتركت فيها إلى جانب الترك وحدة بحرية مصرية، تنوه التواريخ النصرانية بشجاعتها وبراعتها
بل ما لنا نرجع بعيداً، وقد كان لمصر في أوائل القرن الماضي أسطول ضخم، وكانت من الدول البحرية التي يحسب حسابها في شرقي البحر الأبيض المتوسط؛ ففي عهد محمد علي استعادت مصر صفتها القديمة كدولة بحرية، وأستأنف الأسطول حياته في هذه المياه بعد أن قطعت زهاء ثلاثة قرون. ومع أن الأسطول المصري لم يبلغ عندئذ قوته القديمة، فإنه لم يلبث أن غدا عاملا يحسب حسابه. واهتم محمد علي بإنشاء الأسطول منذ بداية حكمه، فأنشأ أسطولاً صغيراً في البحر الأحمر ثم قرنه بإنشاء أسطول كبير في البحر الأبيض المتوسط، وأنشأ بالإسكندرية دار صناعة عظيمة لصنع الوحدات البحرية. ومع أن الأسطول المصري قد نكب في موقعة نافارين الشهيرة في المياه اليونانية سنة 1827، فإن عبقرية محمد علي أبت ألا أن تنشئ لمصر أسطولاً آخر أعظم وأضخم، فلم تمض أعوام قلائل حتى كان لمصر أسطول ضخم قوامه ست وثلاثون قطعة من مختلف الوحدات، بها ألف وثمانمائة مدفع؛ وبلغ رجاله نحو ثمانية عشر ألف مقاتل، وذلك في سنة 1843 أعني لأقل من قرن مضى. وكانت معظم هذه الوحدات البحرية من صنع دار الصناعة المصرية الشهيرة، وقليل منها اشترى من الخارج وأنك لتدهش حقاً إذا علمت أن الميزانية المصرية لم تزد إيراداتها في ذلك الحين على ثلاثة ملايين جنيه، وكانت هذه الملايين الثلاثة كافية للأنفاق على الجيش والأسطول، ومختلف المرافق والمشاريع الإصلاحية العديدة التي
اضطلع بها مصلح مصر العظيم
هذا ولسنا نتحدث هنا عن أسطول مصر التجاري، وكيف كان طوال العصور الوسطى يأخذ بأعظم قسط في المواصلات البحرية بين مصر وثغور البحر الأبيض المتوسط، شرقه وغربه وشماله، وكيف كان إلى جانب أساطيل البنادقة والجنوبيين يأخذ بقسط وافر في تجارة الهند في تلك العصور
عرضنا هذه الخلاصة التاريخية ليرى القارئ كيف كانت مصر في عصور استقلالها دولة بحرية عظيمة، وكيف كان الأسطول المصري في تلك العصور عاملا من عوامل التوازن والاستقرار في شرقي البحر الأبيض المتوسط
والآن وقد استأنفت مصر حياتها الحرة المستقلة بعد فترة من المحن قلت فيها إرادتها وحرياتها؛ الآن وقد عادت تحمل على كاهلها أعباء الاستقلال وتكاليفه، وتعد أسباب الدفاع عن هذا الاستقلال، وتعيد تنظيم جيشها الباسل ليتبوأ مكانته التاريخية القديمة بين الجيوش الحديثة، فانه يلوح لنا أن حديث الأسطول المصري مما يناسب المقام والظروف.
وإذا كان من حسن الطالع أن تكون مصر صديقة وحليفة لبريطانيا العظمى أعظم الدول البحرية؛ وإذا كانت مصر تستطيع إلى حين أن تعتمد على معاونة حليفتها العظيمة في رد اعتداء المعتدين عليها وخصوصاً من البحر؛ وإذا كانت بريطانيا العظمى ترى من مصلحتها الحيوية أن تعاون بأقصى ما تستطيع في سلامة مصر من كل اعتداء خارجي، فإن ذلك كله لا يمنع مصر من أن تفكر في المستقبل وأن تتطلع إلى اليوم الذي تستطيع فيه أن تنظم لنفسها نوعاً من الدفاع البحري إلى جانب الدفاع البري والدفاع الجوي.
ونقول نوعاً من الدفاع البحري لأننا لا نطمع أن تغدو مصر دولة بحرية في المستقبل القريب؛ وإنما نطمع في أن يكون لمصر في الفرصة الملائمة قوة بحرية دفاعية تؤيد سيادتها في المياه المصرية وتقوم بقسطها من الدفاع عن الطوارئ والمفاجآت، وتكون نواة لأسطول مصر المستقبل. ذلك أن مصر باعتبارها دولة بحرية من دول البحر الأبيض لا نستطيع أن نقصى عن هذه الحقيقة إلى الأبد، ولا مندوحة لها من أن تساير تطور الحوادث والظروف
ولمصر أسوة بدول أخرى من دول البحر الأبيض ليست أكبر منها ولا أعظم موارد، مثل
اليونان وتركيا؛ فكتاهما تملك قوة بحرية متواضعة، ولكنها في نفس الوقت تكفي لأغراض الدفاع المحلية، وكلتاهما تعتبر من الدول البحرية في هذه المياه
إن عصرنا الحاضر عصر التسليحات والأهبات الدفاعية؛ والبحر الأبيض التوسط ليس مكفول السكينة، بل يخشى أن يكون في المستقبل القريب مسرحاً لمنافسات وخصومات ربما أصاب مصر رشاشها؛ ومن بواعث الأسف أن تكون حقوق الأمم اليوم عرضة للإنكار والانتقاص من جانب بعض الأمم التي تعتد بقوتها؛ ففي مثل هذه الفترات المضطربة من الحياة الدولية التي يسود فيها قانون القوة، ترتجف الأمم الضعيفة إشفاقاً على مصايرها، وتستمد من بعض المحالفات القوية ما تعتمد عليه لدرء الخطر، ولكن ذلك لا يعفيها من واجب الأهبة والاستعداد قدر استطاعتها؛ وإذا كانت مصر لظروف خاصة قد تخلفت في هذا المضمار عن غيرها من الأمم، فان عليها أن تستكمل اليوم ما فاتها بالأمس، لكي تستطيع مسايرة الحوادث والظروف، ولكي تثبت قبل كل شيء أنها تحرص على استقلالها الذي نالته بعد طول كفاح
وهذه هي تكاليف الاستقلال الفادحة؛ فان استقلال الأمم لا تكفله الحقوق الدولية إذا لم تدعمه أهبة الدفاع؛ ومصر اليوم تبدأ في هذا الميدان حياة جديدة، وتعنى بتنظيم دفاعها يحفزها إلى هذا الواجب المقدس تاريخ جيشها المجيد؛ ولكن مصر أيضا دولة بحرية، وقد كان لها أسطول مجيد كما كان لها جيش مجيد. فلتذكر إذن تاريخ هذا الأسطول الذي بسطنا خلاصته في هذا الفصل؛ وإذا كانت ظروفها الحاضرة لا تفسح لها مجالا للعمل السريع في هذا الميدان، فان المستقبل القريب قد يمهد لها سبيل التفكير، وقد يمدها أيضا بالوسائل والموارد التي تعاونها على تحقيق هذا المشروع الحيوي الجليل.
محمد عبد الله عنان
عالم!
للأستاذ علي الطنطاوي
(مهداة إلى روح المرحوم أستاذنا الرافعي)
حدثني بعض مشايخي عمَّن رأى بعينيه وسمع بأذنه. قال:
وقعت الصيحة في (حيَّ الميدان) أجل أحياء دمشق وأكبرها، صبيحة يوم من أيام سنة 1831، بأن إبراهيم باشا، قادم لزيارة عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي في مسجده. وإبراهيم باشا من قد علمت في بطشه وجبروته، ومن يده إلى السيف أسرع من لسانه إلى القول وعينه إلى النظر. . . ومن كان جبار سورية وفاتحها وسيدها؛ فطار الفزع بألباب الميدانيين، وهم فرسان دمشق وحماتها، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، ماذا يصنعون؟ إنهم يعلمون أن الشيخ لا يقيم وزناً لأحد من أبناء الدنيا، فلا يبجل سلطاناً لسلطانه، ولا يوقر غنياً لغناه، ولا يقيس الناس بما على جسومهم من ثياب، ولا بما في صناديقهم من مال، ولا بما يبتزون من أموال الدولة، ولكن يقيسهم بما في نفوسهم من فضائل، وما في قلوبهم من إيمان، وما في رؤوسهم من علم؛ وإذا نظر الناس من خارج فرأوا الطبْل سميناً عظيما، نظر من داخل فرآه خالياً حقيراً. . .
وكانوا يخشون أن يسوء ذلك من شأنه الباشا، ويودّون لو رجوا الباشا، ولكن كيف يصلون إليه وهو في قصره، حوله الحجاب والأعوان، والجند بالسلاح، ومن حوله الموت ألواناً وأشكالاً، يحمي حماه، ويحرس أبوابه. . . ويتمنون لو رَجَوا الشيخ، ولكنّ الشيخ أعزّ من مائة ملك جبار، تحميه هيبته، ويحرسه تقواه وتحف به الملائكة واضعة له أجنحتها. . .
ولم يكونوا يخافون أن ينال الشيخ بسوء؛ فهذا شيء تُحيله عقولهم لما استقر فيها من إجلال الشيخ وإكباره. ولا تراه أبصارهم، ولكنهم كانوا يخشون الشيخ على الباشا، ويخشون الباشا على نفوسهم.
ومضوا يقيمون معالم الزينة، ويبنون أقواس النصر ويرفعون الرايات على طريق البطل الفاتح. ويقطفون أزهى أزهار الغوطة لينثروها عليه. . . فما كان الأصيل حتى تم كل شيء. وأقبل الباشا في الموكب الفخم، والجند والسلاح والدَّبدَبَة. . . حتى انتهى إلى باب المسجد وكان باباً صغيراً. فاعترض الباشا كأنه يقول له: ارجع أو أرجع دنياك، إنك تدخل
بيت الله بشراً خاضعاً، أما أن تكون تزوير إله. . . بألف عبد، وألف ثوب فلا! إنه لا يجتمع ميراث النبوة التي جاءت بالتوحيد والمساواة، ببقايا الجاهلية التي قامت على الشرك والتمييز بين الناس إلا محي أحدهما. . . فانظر هل محا باطل حقاً؟
قال الراوي: وتردد الباشا هنيهة يفكر. ثم أبعد أعوانه وترجل ودخل المسجد منفرداً، وكان الشيخ جالساً على حصير وقد وضعت فوقه حشية، وكان مادّاً رجله فسمعته يقول:
. . . والمرء إذا خاف الله، وصدق في مخافته. خافه كل شيء، لأنه لا يرى كبيراً إلا صغره عنده أن الله أكبر. . . الله أكبر. إن لهذه سراً إلهياً، ولكن المسلمين استعجموا فهم لا يرددون منها إلا حروفها فارغة من المعنى، وما فرض الله على المسلم أن يقولها كل يوم (85) مرة أقل ما يقولهاويسمعها من المنارة ثلاثين مرة. . . إلا ليعلم أنه لا كبير في الدنيا وأن من كان مع الله لم يبال شيئاً: لا الملك ولا المرض ولا الوحش، فلو أن المسلم عرف معنى هذه الكلمة وهو يقولها ما عرف الذل ولا الجبن ولا الكسل.
قال رجل من طرف الحلقة:
فإن قتله الملك يا سيدي الشيخ، أو أماته المرض؟
فقال الشيخ: سبحان الله! وهل يهاب المسلم القتل؟ أو يبغض الموت؟ إن الموت شديد لأنه انقطاع اللذات، وخسران الدنيا، ولكنه لا يكون بهذا المعنى إلا عند الكافر الذي يعيش في الدنيا، ويستمتع بملاذها؛ أما من كان يتهيأ فيها للعيشة الخالدة ويقيم فيها كالمستعد للسفر، ويرقب ساعته كما يرقب المسافر ساعة القطار، ويراه حين يمضي ليلقى ربه، كالآيب إلى وطنه حين يذهب ليلقى أهله وصحبه. . . من كان هذا شأنه لا يرى في الموت موتاً، وإنما يرى فيه ولادة جديدة، وابتداء حياة، وقد جاء في الحديث: إن أفضل الشهداء رجل يقول كلمة حق عند إمام جائر فيقتله بها. . .
وكان الباشا قد وقف على الحلقة متنفّجاً، مصعراً خدّه، شامخاً بأنفه، فنظر إليه الشيخ رحمه الله فلم يتغيّر ولم يبد عليه أنه رأى فيه أكثر من رجل، وأشار إليه أن اجلس كما كان يفعل بغيره، فلم يتمالك الباشا أن جلس. . . ونظر في الحاضرين يقلب فيهم بصره، يفتش فيه عن شيء أضاعه فيهم، عن الخضوع والإكبار اللذين تعوّد أن يراهما حوله دائماً، ينتظر أن يقوموا له، وأن يقفوا بين يديه صفاً، ولم يدر أن القوم كانوا في غير هذا، لم يدر أن
الشيخ قد علا بهم، حتى جعلهم يطلون على الدنيا من شرفة طيارة، أو من قطع السحاب، فيرون الأرض كلها كمفحص قطاة، ولا يرون في الباشا العظيم إلا نملة. . . فمنذ الذي يحفل بنملة. . .
وأجال الباشا نظرة فيهم حتى علق برجل الشيخ، وكانت ممدودة نحوه. فأثار مرآها كبرياءه وسلطانه، ورأى فيها علامة تعجب أضيفت إلى عظمته وجلاله، إضافة سخرية وتهكم؛ ورآها كبيرة في عينه، فأحس كأنما هي في عيبنه، ونظر في الحاضرين ألم يجرد واحد منهم سيفه يتقرب إلى الباشا بقطّها. .؟ وكان الباشا ينظر بعين بصره المادية، لم تفتح بعدُ عين بصيرته المعنوية فيفاضل بين قصره وسريره، ومكان الشيخ وحصيره، وبين جنده وأعوانه، وتلاميذ الشيخ وإخوانه، فيوقن أن دنيا الشيخ كلها لا تثبت لحظة لسيفه الذي لم تثبت له دنيا الخليفة العثماني (إمبراطور الشرق). . . وكان كالأسد الذي زعموا أنه مر على قنبلة من القنابل المدمرة. . . ملقاة في أجمته، فعجب منها وحقرها وقال: ويحك أي حيوان أنت؟ يا للضعف والمهانة! أين الأنياب؟ أين المخالب؟ أين. . أين. . يا للهوان! ماذا يصنع بأهله. قالوا: ثم ركلها برجله، فانفجرت القنبلة! وانفجرت القنبلة من فم الشيخ فرجع يتكلم
قال:
ومن عجيب صنع الله في الإنسان أن خلقه حيواناً كالحيوان، ولكنه وضع فيه مَلَكا ووضع فيه شيطاناً، فمن كان همَّه من دنياه لذتا بطنه وفرجه، وابتغاهما من حل ولم يعرف غيرهما لم يكن فيه إلا الحيوان، فهو يرتع كما يرتع الحمار، ويتبع غريزته كما يتبع؛ ومن كان همه اللذة من حل وحرمة، ومن كان لا يبالي ما اجترح من السيئات، لم يكن فيه إلا الشيطان، وكان العقرب والخنفساء خيراً منه، لأن مصيرهما إلى التراب ومصيره إلى النار. ومن كان همه أن يعيش في هذه الحياة كما يعيش في مدرسة يتلقى فيها أساليب الكمال، فهو الإنسان حقاً. .
ومن عجيب صنع الله في الإنسان، أنه وضع في نفسه الملك، فلا يحتاج مهما كان ضالاً فاسقاً ظالماً إلا إلى تنبيه الملك في نفسه، ليطرد الشيطان، ويقود الحيوان، فلست أنت الذي يعظه، ولكنه يعظ حينئذ نفسه، وهذا معنى قولهم:
لا تنتهي الأنفس عن غيها
…
ما لم يكن منها لها زاجر
وذلك ثوابه الجنة، والجنة لا تكون بالتشهي والأمل، ولكن بالجد والعمل. ولو أن تلميذاً أمضى عامه في لعبه ولهوه، ثم تمنى النجاح، أكان ينجح؟ ولو أن صياداً ألقى بندقيته فلم يضرب بها ورمى شبكة فلم ينصبها، ثم حلم بالقنيصة أكانت أحلامه تعدو في أثر الغزال حتى تأتي به مكتوفاً؟ أم كانت السمكة تأتيه وحدها وعلى ظهرها الملح والفلفل تقول له: كلني؟. .
قال رجل: ولكن القلوب قست يا سيدي الشيخ، فما علاجها؟
قال: إن الشيطان لا يأتي إلا من إشعاره الكمال، فأشعر نفسك النقص، وذكرهَا في الصحة المرض، وفي الحياة الموت. ولقد أدركنا من مشايخنا من إذا قسا قلبه أم المستشفى أو قصد المقبرة، فخوف نفسه المرض وذكرها الموت. والمؤمن لا يزال بخير ما زال بين الخوف والرجاء، فإن لم يخف أو لم يرج فقد هوى. . . ولقد سمعنا إن منهم من كان يدني يده من المصباح ويقول: يا نفس عن لم تصبري على هذا فكيف ويحك تصبرين على نار جهنم؟ وإن المؤمن ما ثارت في نفسه شهوة، إلى أطفأها بأنهار الجنة، أو أحرقها بنار جهنم، فاستراح منها. . .
وما الإنسان لولا العقل؟ وكيف يكون العقل إن لم يكن معه الإيمان؟ إنه لا يكون إذن إلا كما قالوا: أوّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة. . . وللسلطان سكرة، فمن أسكره سلطانه وعزته على الناس، فليذكر هوانه على الله، وأن الله أهلك أشد الملوك: النمرود بأضعف الخلق: البعوض
فيا من أصله من التراب، لا تنس أن نهايتك إلى التراب!
وكان الباشا يشعر، والشيخ يتكلم، كأنه كان محبوساً في صندوق، ثم فتح عينيه فنشق الهواء الطلق، أو كأنه كان في ظلمة فاحمة، فطلع الشيخ عليه شمساً نيرة، فتضاءل حتى جلس على ركبتيه، ورأى نفسه دون هؤلاء كلهم، لأنهم ألصق منه بالشيخ وأدنى إليه، ولم يعد يزعجه مرأى الشيخ وهو ماد رجله. . . بل كان يراه الغريق ويراها خشبة النجاة، وكان يبصرها عالية كجناح النسر المحلق، ثم لم يعد يرى فيها شيئاً، لقد استحال الشيخ في نظره إلى فكرة. . . لم يعد يرى فيه إلا الحقيقة تمثلت إنساناً.
قال الراوي: فلما ذهب الباشا، بعث إلى الشيخ بكيس فيه ألف دينار من الذهب العين، فلما جاءه به الرسول وألقاه بين يديه تبسم الشيخ رحمه الله ورده إليه، وقال له: سلم على سيدك وقل له: إن من يمد رجله لا يمد يده. . . . .
البصرة
علي الطنطاوي
من أدب القوة
مثال. .!
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
ثارت نفسه ثورة ضارمة جاحمة لِتَحَيُّف الغاصبين وطنه وتمزيقه شر ممزق؛ فصرخ الدم في عروقه، ولصرخة الدم دوي يسمعه الأحرار فتصيبهم جِنَّةٌ تخرجهم من ديارهم إلى القبور. . . وتَحرَّك الإيمان في قلبه، ولحركة الإيمان زَلزلةٌ تتحطم بها كل الشهوات ويستيقظ لها المؤمنون يقظة تخرجهم من قبور الغفلة إلى حومة الجهاد. . . وأقبل الملك والشيطان يصطرعان على فكره وهو بينهما كما تكون كُدْسَةُ الحَبّ بين شِقيّ الرحى. . . يدعوه الأول إلى خطة الأقل والأكثر فيها الفِداء في الدار التي عريت من الخلود وازينت بالشر، ويقول له: إنك ما كنت لتحيا هنا، وإنما الحياة هناك. . . فاذبح مالك لحريتك، واذبح شهوة الدعة في الزلة لكرامة العزة، واخرج من كل شيء لله الذي أعطاك كل شيء. . .
إيتِهِِ جسداً عارياً من الحلي والزينة، فإنها سلاسل تربطك بالأرض. . . وائتِه نفّسا عارية من كلَبِ شهوةِ البقاء. . . وائته عقلا عاريا من صور البنين والمملوك والذهب والفضة والمنصب، فإن كل أولئك أقذاء وحجب تغشى العين فلا تبصر ذلك اللفظ الصارم الذي لا يرحم، العابس الذي لا يبتسم: الواجب!
إيتِه عبداً مملوكا طائعا ولك الكرامة قبل أن تؤْخذ آبقا كارها وعليك كلمة السوء. . .
ويدعوه الثاني إلى خطة الأقل فيها السلامة. . . والأكثر فيها العيش الموفور المعَطَّرُ المُدَثرُ المفضض. . . ويقول له: مالك مجنوناً بالفناء وقد خلقت للبقاء؟! الناس قطعان حيوان ليس فيهم حرمة ولا لهم واجب فلماذا تموت ليحيوا. .؟ أتموت أنت الشابَّ الغُرَانِقَ المُقْبِل ليحيا العجائز والشيوخ المدبرون. .؟ لماذا تحمل وطنك بكل ما فيه على قلبك؟ ألقِه عنك يتحطم وعش على أنقاضه. . . دع أوهام الأديان وأحلام الفلاسفة والشعراء. . . أنت (لا تأتي إلى دنيك هذي مرتين؛ فلا تقف في وجه لذاتك مكتوف اليدين.!) ولماذا تقدم نفسك للمذبح ويتأخر فلان وفلان؟ انتظر حتى يتقدموا. . . أتموت ليبقى الزعماء فلان وفلان وفلان يتمتعون بالمجد والنعمة والحمل على الأعناق.؟ أتخشى حساب الله على تخلفك عن الجهاد؟
ومن أنت حتى يحاسبك الله العظيم؟! على أن في الحياة كفارة. . .
فيقف في غمرة من الحيرة بين وحي الملك ونزغ الشيطان، ولكن صراخ الدم وزلزلة الإيمان مضافاً إليهما حديث الملك مضافاً إليها حكم العقل بأن الحياة الدنيا ما دامت تنتهي فالأولى أن تنتهي بشرف. . . وما دامت اللذات والمناعم، بنت ساعتها، لا تحيا في النفس إلا ريثما تحيا في الحس. وليس لها نصيب من حياة الذكرى الخالدة فالأولى أن تُفْطمَ النفس عنها وبخاصة إذا دعا داعي الواجب وقالت قوانين الحياة الشريفة: يا إنسان النجدة!
كان (موظفاً) في الحكومة، والوظيفة رخصة تبيح لصاحبها عند نفسه وعند بعض الناس أن يغضي على كل لعنة تصيب دينه ووطنه. .! وأن يكفر بالله ويعبد الرغيف. . . وليس الرغيف الضروري فحسب بل الرغيف المرصع بكل لذات الفم له ولأبنائه وذرياتهم إلى يوم القيامة. .! حتى لا يستهدف بزعمه للعناتهم. . . وأن يقيم حول ذلك الرغيف سورا وقلاعا من العمارات والضياع تحفظه ممن يتعقبونه. . .
يا ما أعجب أنانية الإنسان! إنه لا يدرك من حقه إلا ما امتلكه من التافه والحقير. . . أما حقه الكبير الذي به سر حياته فلا يدركه ولا يغار عليه ولا يألم لوخز قلبه في عقيدته كما يألم لشوكة تخز خلية من خلايا جسده الترابي. .! ولا يثور لحق وطنه المسلوب كما يثور لمتاع سرق أو حمار نَفَقَ. .!
ولكن صاحبنا كان من الذين يضعون دائماً قلوبهم على أكُفّهم يعلنونها مستبرئة ظاهرة ليخيفوا بمرآها من ليست لهم قلوب. . . أو من كانت قلوبهم هواء، أو ليجعلوها دائماً تحت التأثير المباشر للحوادث، تقرعها الحادثة فتجد صداها مردداً في صدق وبعدٍ عن الرياء والتدليس، أو ليستفتوها إذا نزل أمر عاجل يتعجل الفتوى من إلهام الطبيعة وميزان الفطرة. لذلك ما كانت قيود الوظيفة ضمامة على سمعه تمنعه من سماع نداء الواجب، ولا كمامة على فيه تمنعه من كلمة الحق. . . فلم يكن يدلس على نفسه بتأويل الحوادث ودفعها إلى غير وجهها وتحميلها غير ما يتقاضاه منطقها، وخاصة إذا كان مدار الحوادث دينه أو وطنه، فحينذاك يضع قلبه في كفة ميزان والوظيفة بما وراءها من جاه ومال ودعة في كفة، ويختار الذي هو راجح وخير، وهو الأول دائماً!
فلما أن طار الحريق في جو وطنه من أنفاس الأحرار حسرة على ما أصاب بلادهم
وحريتها كتب يقول:
(أيها الحاكمون!)
أنا عامل في حكومتكم، ولكني ما بعتكم حريتي لأني لا أملكها؛ فإنها ألطف وأدق من أن تملك؛ إذ هي في الحصن المغلق على سر الإنسان: في القلب. . .
لذلك أعلنكم أن هذا الجانب الخفي الرفيع مني قد أعلن الثورة عليكم، وترك لكم هذا الجسد مِلْكَ يمينكم، فإن شئتم أخذتموه فقطعتم منه الوتين. . وتلك غاية مكنتكم. . وإن شئتم تركتموه سلاحاً تقاتلكم به حريتي التي تحكمني من داخلي. . وتلك غايتها وغايتي!
أما أن أهادنكم على الدَّنيَّة في ديني والخائنة في وطني فذلك ما ليس إليه طاقة حر. .
المال الذي آخذه منكم إنما هو لتحقيق كرامتي بين الناس؛ فإذا لم أجد لأمتي كرامة فما كرامتي أنا؟! إذاً فهو الآن عندي كعلف الدابة التي تركب. . ولن أكُونها!
والجاه الذي أتمتع به في حكومتكم الدخيلة الغاضبة، إنما هو جاه العبد. . لن يرتفع به إلى أن يكون سيداً مهما كان قربه من سيده؛ لأن السيادة ليست له في نفسه، ولا في اعتبار الناس، ولا في اعتباركم أنتم، فهو جاه مثلث التزييف، وأنا آباه!
ودولاب الأعمال في حكومتكم يدور بحرية وإخلاص منكم ليفني الحرية والإخلاص منا؛ فاشتراكي معكم جريمة لا يغتفرها قلب الوطن ولا حساب الله. . فلن أصبر بعد اليوم على ما أرى من قبيح فعلكم بأمتي ونقضكم المواثيق التي واثقتم بها أنفسكم وتمزيق وطني ذلك التمزيق الذي سيفنيه لو بلغتم مرادكم فيه، وما أنتم ببالغيه)
وبهذا انطلق من وظيفته كما ينطلق الطير من قفص فيه حَبٌّ وماء، ونشيده: الجَوَّ الجَوَّ! ولم يَأْس على الحب والماء لأنهما ليسا الشيء الهامَّ في سعادة قلبه. . .
ثم سار يجاهد ويضرب في الأرض، لا يملك غير وجهه جاهاً، وغيرَ يديه ثروةً، وغير قلبه خزانة.
عبد المنعم محمد خلاف
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 3 -
الرافعي في الوظيفة
في أبريل سنة 1899 عُيّنَ الرافعي كاتباً بمحكمة طلخا الشرعية، بمرتب شهري أربعة جنيهات، وأعانه على الظفر بهذه الوظيفة ما كان لأبيه وأسرته من جاه في المحاكم الشرعية؛ وما كان الرافعي ليجهل جاه أبيه وأسرته في هذه المحاكم، وما كان منكوراً لديه أن لهم يداً على كل قاض في القضاء الشرعي؛ فنشأ بذلك نشأة الدلال في وظيفته، لا يراها إلا ضريبة على الحكومة تؤديها إليه عَمِل أو لم يعمل، لمكانة أسرته من النفوذ والرأي، ولمكانته هو أيضاً. . . ألم يكن يرشح نفسه ليكون أديب هذه الأمة؟ هكذا كان يرى نفسه من أول يوم، وظل كذلك يرى نفسه لآخر يوم. . .
وكانت إقامته بطنطا في هذه الحقبة؛ فمنها مغداه وإليها مراحه في كل يوم، يتأبط حقيبة فيها غداؤه وفيها كتابه، وما كان أحد ليستطيع أن يلفته إلى ضرورة التبكير إن جاء في الضحى، أو يسأله الانتظار إذا دنا ميعاد القطار ولم يفرغ من عمله.
لم يكن يرى الوظيفة إلا شيئاً يعينه على العيش، ليفرغ إلى نفسه ويُعِدّها لما تهيأت له، فما انقطع عن المطالعة والدرس يوماً واحداً، وما كان أكثر ما كان ينقطع عن وظيفته.
وقضى الرافعي في طلخا زمناً ما، ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود الشرعية، ثم إلى طنطا؛ وفي طنطا انتقل من المحكمة الشرعية إلى المحكمة الأهلية بعد سنين، لأنه رأى المجال في المحاكم الأهلية أوسع وأرحب، والعملَ فيها أيسر جهداً وأكثر مالاً وأملاً؛ وظل في محكمة طنطا الأهلية إلى يومه الأخير.
وحياة الرافعي في طلخا وإيتاي البارود وطنطا لا تخلو من طرائف، وتاريخه في الوظيفة حافل بالصور والمشاهد التي كان لها أثرها من بعد في حياته الأدبية؛ ففي طلخا عرف
الكاظمي شاعر العراق الكبير واتصل به وانعقدت بينهما أواصر الود على ما سيأتي تفصيله؛ وفي إيتاي البارود تفتحت زهرة شبابه للحب وتعطشت نفسه إلى لذاته، وعلى (جسر كفر الزيات) فيما بين إيتاي البارود وطنطا مسته شعلة الحب المقدسة فكشفت عن عينيه الغطاء ليرى ويحس ويشعر ويكون (شاعر الحس) من بعد؛ وفي طنطا كان نضجه وتمامه وإيناع ثمره.
وما أستطيع أن أصف بتفصيل واضح كيف كان يعيش الرافعي في تلك الأيام البعيدة، ولا كيف كانت صلته بالناس، ولا كيف تفاعلت حوادث أيامه باحساسات الشباب التي كانت تجيش بها نفسه الثائرة؛ ولكني أعرف شيئاً واحداً هو كل ما يهمني إثباته في هذا البحث، هو أن روحا رفافة كانت تطيف به في تلك الأيام فتنتزعه من وجوده الذي يعيش فيه لتحلق به في أجواء بعيدة وتكشف له عن آفاق مجهولة لم يسمع بها ولم يعرفها فتوحي إليه الشعور بالقلق وألم الحرمان والإحساس بالوحدة، فلا يجد متنفساً ينفس به عن نفسه غير الشعر، وكان ذلك أول أمره في الأدب وإليه كان آخر ما يمتد أمله، فما كانت له أمنية إلا أن يكون شاعراً، شاعراً وحسب.
لم يتعلم الرافعي الحب مما يسمع في مجالس الشبان، كما يتعلم أبناء هذا الجيل من أكاذيب المنى التي يتداولونها في مجالسهم فيتعلمون الحبَّ منها فنّاً له قواعد مرسومة وغاية محتومة. . . لكنه استمع إلى وحي الحب أول ما استمع في همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وانفعال أعصابه؛ إلى ما كان للحب في نفسه من صورة مشرقة شائقة مما قرأ من أخبار العذريين من شباب العرب؛ فأحس كأن شيئا ينقصه، فراح يفتقده وشعر كأن إنسانة من وراء الغيب تناديه وتهتف باسمه في خلوة نفسه وجلوة خاطره تقول: ها أنا ذي. . . فهام بالحسن ينشده شعره وينشد فيه مثاله الذي يدور عليه، وطار على وجهه كالفراشة الحائمة تقول لكل زهرة: أأنت التي. . . فلا يستمع إلى جواب وإن الصوت البعيد لدائب يهتف في أذنيه: إنني هنا، إنني هنا يا حبيبي فاقصد إلي. . .
لم يكن يحب إنسانة بعينها يناديها باسمها ويعرفها بصفتها، بل كانت محبوبته شيئاً في نفسه وصورةً من صنع أحلامه، يرى في كل وجه فاتنٍ لمحةً من جمالها، وفي كل طلعةٍ مشرقة بريقا من فتنتها، وفي كل نظرة أو ابتسامة معنى من معاني الحبيبة النائمة في قلبه وفي
أمانيه. . . فمضى يتنقّل من زهرة إلى زهرة، عفيف النظر والشفة واللسان، حتى انتهى أمره إلى أمر. . .
لم ينس الرافعي إلى آخر يوم من حياته ما كان من شأنه وشأن قلبه في صدر حياته، فكان دائم الحديث عن هذا العهد كلما رفَّت به سانحةٌ من سوانح الماضي تذكره ما كان من أمره وما آل إليه أمره.
ليس قصدي الآن أن أتحدث عن الحب في تاريخ الرافعي، فإن للحب في تاريخه فصلاً ضافي الذيول كثير الألوان متعددّ الصور له مكانة المفرد من هذا البحث في غير هذا الباب. ولكني أتحدث عن الرافعي في بكرة الشباب فما لي من مندوحة عن الإلمام بما كان يصطرع في نفس الرافعي في بكرة الشباب.
عاش الرافعي لفنه ولنفسه من أول يوم، فما عاقته الوظيفة عن أن يكون كما أراد أن يكون؛ على أنه كان إلى اهتمامه بفنه وعنايته بما يكمله، وعلى أنه كان لا يرضى أن تتعبده قوانين الوظيفة وتقيده أغلالُ النظام الحكومي - كان إلى ذلك دقيقاً في عمله الرسمي دقة تبلغ الغاية. وكان إليه تقدير رسوم القضايا والعقود ونحوها مما يتصل بعمل المحكمة؛ فكان كاتباً حاسباً لا يفوته شيء مما يسند إليه، حتى آل أمره من بعد إلى أن يكون المرجع في هذا العمل لكتاب المحكمة جميعاً، يستفتونه فيما أشكل عليهم من الأمر في تقدير الرسوم؛ ثم لكثير من كتاب المحاكم في مختلف البلاد، ثم لوزارة الحقانية نفسها وهي المرجع الأخير، تكتب إليه في زاوية مكتبة من محكمة طنطا تسأله الرأي في حسبة أو إشكال أو شيء مما يتصل بذاك، فيكتب إليها بالرأي لتبلغه في منشور عام إلى كل المحاكم الأهلية.
وكان عليه العبء من هذه الناحية في محكمة طنطا، وقد طلب أكثر من مرة أن يحال إلى المعاش ليتفرغ لفنه، فما كان يمنعه من المضي في طلبه إلا ذعر سائر موظفي المحكمة وإلحاحهم عليه أن يبقى لئلا يخلو موضعه.
وكان في صلته بموظفي المحكمة الذين يشركونه في عمله نبيلاً كريم الخلق إلى حد بعيد، فكان يتطوع ليحمل عنهم تبعة كل خطأ يقع فيه واحد منهم مهما كان مدى الخطأ ونتيجته؛ وقد رأيته مرة في صيف سنة 1934 وقد لزمه مفتش من مفتشي الحقانية ثلاثة أشهر أو أكثر، يستجوبه عن خطأ في تقدير الرسوم لأكثر من مائة وعشرين قضية، بلغ النقص في
الرسوم المتحصلة عنها بضعة وتسعين جنيهاً؛ والرافعي يرد المفتش ويدافعه ويرى له الرأي ويصف له العلاج، والمفتش دائب الحضور كل يوم يبحث ويفتش ويستقصي وما ضاقت به أخلاق الرافعي؛ على حين لم يكن على الرافعي في هذه القضايا المائة والعشرين خطأ واحد، وما كانت إلا من أخطاء زملائه في المكتب حمل عنهم تبعتها حتى لا يتعرضوا لشرَّ هو أقدر منهم على الخلاص منهم.
وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه وارتفع مكانه أن يجحد منزلته أو ينال منه أيَّ نيل؛ وكان يفرط في ذلك إفراطاً يدعو إلى الشك أحياناً في تواضع الرافعي وكرم خلقه وحسن تصرفه.
ومن ذلك أنه لما كان هذا المفتش يؤدي عمله في المحكمة - وكان عمله التحقيق مع الرافعي - كان الرافعي يُلزم المفتش أحياناً أن يحضر هو إلى مكتب الرافعي في حجرته الغاصة بالموظفين ليسأله وهو جالس إلى مكتبه والمفتش على كرسيه إلى الطرف الثاني من المكتب. وكنت إحدى هذه المرات جالساً إلى جانب الرافعي - وكان يستدنيني ويشركني في عمله حين أذهب لزيارته في الديوان - فلما جاء المفتش هممت بالانصراف، فشد الرافعي ذراعي بعنف وهو يقول:(اجلس يا أخي. . .) ووجه إليه المفتش سؤالاً، فالتفت الرافعي إليَّ قائلاً:(فَهَّمه من فضلك يا شيخ سعيد أحْسن مُش قادر أفَهَّمه. . .) ثم ألتفت إلى المفتش قائلاً وهو يشير إليّ: (حضرته مدرس، يقدر يخلَّيك تفهم. .!)
لم يكن اعتداد الرافعي بنفسه يبلغ به إلى مثل هذا الشذوذ في كل أحواله، وإنما كان كذلك مع هذا المفتش بخاصته، لأنه كان يعتقد أنه يرمي إلى إحراجه والتضييق عليه لقضايا مدنية كانت بين الرافعي وبين أصهار هذا المفتش ولم يقبل فيها الرافعي شفاعته.
وكان من تقاليد المحكمة كلما نقل إليها قاض أو نائب جديد، أن يهرع إلى مكتبه موظفو المحكمة يهنئونه ويتمنون له؛ فما أكثر ما كان يتخلف الرافعي عن وفد الموظفين، ويظل وحده في مكتبه؛ فإذا فرغ القاضي أو النائب من استقبالهم، مضى إلى مكتب الرافعي في حجرته، فينهض الرافعي لاستقباله، فيقفان لحظة يتبادلان الشكر والتهنئة على هذا الاتفاق الذي هيأ لهما هذا التعارف. . . ثم يذهب إليه الرافعي بعد ذلك في مكتبه ليشكر له ويكرر التهنئة.
حتى مدير المديرية - ومحكمة طنطا هي جزء من ديوان المديرية - لم تكن صلته بالرافعي صلة المدير الحاكم بموظف صغير فكانت بينه وبين أكثرهم صلات من الود والصداقة فوق ما يعرف من الصلات بين الموظفين؛ ولكن منهم رجلاً واحداً كان أقرب قرابة إلى الرافعي من أهله ومن خاصته ومن. . ومن تلامذته هو صاحب السعادة محمد محب باشا أقدر مدير عرفته مديرية الغربية منذ كانت مديرية؛ وكان للصلة بين الرافعي ومحب باشا أثر كبير في أدبه سنتحدث عنه فيما بعد
لم يكن للرافعي ميعاد محدود يذهب فيه إلى مكتبه أو يغادره، فأحياناً كان يذهب في التاسعة أو في العاشرة، أو فيما بين ذلك، فلا يجلس إلى مكتبه إلا ريثما يتم ما أمامه من عمل على الوجه الذي يرضيه، ثم يخرج فيدور على حاجته، فيجلس في هذا المتجر وقتاً ما، وعند هذا الصديق وقتاً آخر، ثم يعود إلى مكتبه قبيل ميعاد الانصراف لينظر فيما أجتمع عليه من العمل في غيبته، وقد لا يعود. . .
وكان هذا منه يغضب زملاءه في العمل، فكانوا ينفسون عليه ويأكلون لحمه، ويبلغه عنهم ما يتحدثون به فيهز كتفيه ويسكت، ثم لا يمنعه ذلك من بعد أن يأخذ بيدهم عند الأزمة؛ وكان كتبة المحامين وأصحاب المصالح في المحكمة يسمونه بذلك عمدة المحكمة. . .!
وحدث مرة أن جاء إلى محكمة طنطا رئيس شديد الحول، فلما صعد إليه موظفو المحكمة للتهنئة، لم يجد بينهم الرافعي، فلما سأل عنه تحدث الموظفون في شأنه ما تحدثو؛ فاستاء الرئيس وأرسل يدعوه إليه، فلم يجده الرسول في مكتبه، فغضب الرئيس وثارت ثائرته، وأمر باستجوابه عن الاستهانة بنظام المحكمة ومواعيد العمل الرسمي؛ وجاء الرافعي فبلغه ما كان، فهز منكبه وجلس إلى مكتبه يمزح ويتحدث على عادته كأن لم يحدث شيء؛ ورفع الرئيس كتابه إلى وزارة الحقانية، يبلغها أن في محكمة طنطا كاتباً أطرش، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح على شدة اتصال عمله بمصالح الجمهور، وهو مع ذلك كثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل ولا يخضع للرأي. . . وطلب الرئيس في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة. . .
وأرسلت وزارة الحقانية مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، وليرى رأيه فيما طلبته محكمة طنطا؛ وكان المفتش المندوب لذلك هو الشاعر اللبق الظريف المرحوم حفني ناصف بك. ولم تكن
بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلى هذا الوقت، إلا ذلك النسب البعيد الذي يجمع بينهما في أسرة أبو لّون. . . وإلا. . . وإلا تلك الكلمة القاسية التي كتبها الرافعي بأسلوبه اللاذع عن (شعراء العصر) سنة 1905 ونشرها في مجلة الثريا وجعل فيها حفني ناصف ذيّل الشعراء. . .
وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق. . . وقال الرافعي: قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يُسند إليّ من عمل؛ وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل - فلا عليّ إن تمردت على هذا التعبد. . قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هذين الإصبعين ساعات من النهار. . .!
واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر، ثم طوى أوراقه، وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة الحقانية يقول:
إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود. . . إن للرافعي حقاً على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية. . . إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه. دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتنّ ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخيّ في غير هذا المكان. .!
وبلغ التقرير وزارة الحقانية، وانطوت القضية، وصار تقليداً من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه، وله الخيرة في أمره؛ ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوماً واحداً أنه في موضعه ذاك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.
قلت: إن الرافعي لم تكن بينه وبين حفني ناصف صلة ما. ولكن حفني تولى القضاء بعد ذلك مرة أو مرتين في محكمة طنطا فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود؛ وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبت الشعر والأدب؛ فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان. وكان بين الرافعي وحفني من التقارب في الصفات ما يؤكد هذه الصلة ويوثق هذا الود؛ فكلاهما شاعر،
وكلاهما من دعاة القديم، وكلاهما أديب مرح يجيد الدعابة ويستجيد النكتة البكر، وإن كانت فكاهة حفني أظهر وأبعث على الضحك وتكشف عن فراغ القلب، وفكاهة الرافعي أعمق وأدل على قصد العبث والسخرية وامتلاء النفس. ولعل روح الفكاهة في الرافعي كان لها شأنها فيما كان بينها وبين المرحوم حافظ إبراهيم بك من صلة الود والإخاء.
حدثني الأستاذ الأديب جورج إبراهيم - صديق الرافعي وصفيُّه منذ حداثته - قال: لقد كانت الصلة بين الرافعي وحفني أكثر مما يكون بين الأصدقاء، وكانا يتزاوران كثيراً، أو يجتمعان في قهوة (اللوفر) بميدان الساعة، وكنت أغشى مجلسهما أحياناً. . . فكنت أرى حفني يتواضع للرافعي ويتصاغر في مجلسه، على مقدار ما يتشامخ الرافعي ويتكبر ويدعي الأستاذية، حتى ليرى له الرأي في القضايا التي لم يدرسها حفني بعد، فلا يحكم فيها إلا بما حكم الرافعي!
ظل الرافعي في وظيفته تلك، موزع الجهد بين أعماله الرسمية وأعماله الأدبية وما تقتضيه شئون الأب وشئون رب الدار، على المورد المحدود والبساط الممدود. . . وما زاد مرتب الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الذائع الصيت في الشرق والغرب، الموظف الصغير في محكمة طنطا الكلية الأهلية، على بضعة وعشرين جنيهاً في الدرجة السادسة، بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة. . .
على أن الرافعي كان له مرتب آخر من عمله في المحكمة، وهو ثمن ما كان يبيع من كُتبه للموظفين والمحامين وأصحاب القضايا الذين يقصدون إليه في مكتبه لعمل رسمي؛ فما كان أحد منهم يستطيع أن يظفر برضا الرافعي فيقضي له حاجته، حتى يبيعه كتاباً من كتبه. وكانت ضريبة فرضها الرافعي من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس!
ليت شعري أكان على الرافعي ملام أو معتبة أن يفعل ذاك. .؟ لنا الله أيها الأدباء في هذه الأمة التي لا تحفظ الجميل!
(لها بقية)
(طنطا)
محمد سعيد العريان
أدب الميوعة والدلال
للسيد ماجد الأتاسي
منذ أسابيع خلت نعى أستاذنا (الزيات) في مقاله البليغ (أدب السندوتش)، على أدباء هذا الجيل النابتين (جهلهم للغتهم، وتقصيرهم في تحصيل آدابها).
ثم على الأستاذ (المازني) على هذا المقال، وحدثنا عن شغفه بالكتب في أيام تحصيله الأولى، وعن جلده على القراءة والدرس، وقص علينا قصته مع كتبه يوم زواجه، وكيف آثر الخلوة إلى هذه (الضرة) صباح يوم الجلوة على الجلوس والتحدث إلى زوجه العروس التي لاقت من ضرتها كل ما يسوء ويضجر والتي نسأل الله لها الرحمة والرضوان وإلهامها أن تقابل ما تجد من اغتياب أستاذنا لها في شتى المناسبات، بالصفح والغفران، وهي آمنة مطمئنة في فسيح الجنان.
ثم تناول الأستاذ (احمد أمين) هذا الموضوع بالبحث والدرس، والتحليل والتعليل. ووعدنا أن يعود إليه - كرة أخرى - ليصف لنا طرق العلاج، وفنون الدواء من (صيدليته) ولعله يفعل.
وأخيراً عالج الأستاذ (العقاد) أدب (السندوتش) من - الوجهة العالمية - وأتى على عوامل شيوعه وتفشيه في آداب الأمم الأخرى المعاصرة.
وهكذا تداول أساتذتنا الأئمة هذا الموضوع من أكثر من ناحية - بالبحث والدرس، والتحليل والتعليل.
وما كان لي - وأنا أحبو على عتبات الأدب حبو الأطفال وأحمل في ميدانه أجسام الأقزام - أن يدفعني ما يلابس - عادةً - نفوس الشباب، من الغرور والصلف والتهور والنزق، إلى أن أزج بنفسي بين أرجل هؤلاء العمالقة الأئمة الأخيار.
ولكنني أحببت - ولست أدري لم - أن أصرف أستاذي (المازني) ساعة عن هذه (الضرة) الباقية التي يهيم بها، والتي لا يطيق لها هجراً ولا بعداً، وأن أثقل فأهذر - أمامه - حيناً، فعهدي به أنه محظوظ من جماعة الثقلاء، فلكم طرقوا بابه موهناً وهو يغط في نومه، وسحبوه من فراشه لسؤال أو مزاح. ثم إني - بعد هذا - أطمئن وأقول له إنني لست من هؤلاء الشباب (الناعمين) أبناء الجيل الجديد، الذين جاءوه زائرين، فأذاقهم (علقته) وردهم
إلى الباب مدحورين، ثم فضحهم وشهَّر بهم (في الرسالة) أمام الناطقين بالضاد أجمعين.
لئن نعى الأستاذ (الزيات) والأساتذة (المازني والعقاد وأمين) من بعده، على أدباء هذا الجيل الناجمين، جهلهم بلغتهم، وتقصيرهم في تحصيل آدابها، فما احقني إذن، أن أشغب على زملائي الناشئين - وعلى الكهول في سوريا أيضاً - فأنعى عليهم جميعاً: ضعف النفس، وضمور الشخصية، وقلة الاستعداد لحمل رسالة الفكر الحر، والعقيدة الثائرة؛ وأن أسمي هذا النوع من حملة الأقلام (أدباء الدلال) بعد أن أسمى أستاذي (الزيات) أدبهم (أدب السندوتش) هذا الذي تقوم ثقافته على (نتفات من الكتب، ولقفات من الصحف، وخطفات من الأحاديث) والذي نجد نتاجه (مختضراً معتسراً كجنين الحامل أسقطته قبل التمام).
إن شأن اللغة في الأدب الفحل ثانوي بالقياس إلى نفس الأديب وشخصيته، وإن الجهل بها والتقصير في تحصيل آدابها، من السهل واليسر - إلى حد بعيد - أن نعالجهما ونبرأ منهما، إذا ما تعهدناهما بالإرادة القوية، والعزيمة الحازمة، والكدح الصابر، والمعاناة الجلدة.
ولكن اللغة بلا نفس تنفخ فيها الحياة، ولا شخصية تطبع هذه الحياة بطابع خاص، ودون فكرة تذاع، لا تكون إلا حطاماً تدوسه الأقدام، وقرقرة تعافها الآذان
كثيرون وكثيرون من الأدباء أوفوا في معرفة لغتهم على الغاية، وأشرفوا في تحصيل آدابها على الذروة، ولكن طبيعتهم التي لابستهم، وبيئتهم التي أخرجتهم، وعوامل أخرى، كل هذا لم يهيئ لهم النفس التي تهدم لتبني، والشخصية التي تستقل لتهيمن، فتهوروا وتدهوروا وانحدروا إلى الوادي بين جموع الناظمين والمنشئين واللاعبين، من حيث طفر إلى القمة أهل النفوس والشخصيات، فتبوءا قمم (أولمب) واستقروا في جنات (عبقر) ذلك لأن قوام الخلود في عالم الأدب، نصيب هذا الأدب من فيض الحياة وزخرها، وقسطه من معرفتها وخبرها. وهذه الحياة التي أعدت للرجال أهل العود الصلب واللسان العضب، محرمة على من ضعفت نفوسهم، وضمرت شخصيتهم، ولانت قناتهم، وموصدة أبوابها دون أولئك الذين يتهيبون مجاهلها، ويخافون جدها، ويجفلون من عثارها، ويعولون جياعاً على عتباتها، والذين لا تحملهم أقدامهم الرخوة للجري فوق شوكها، والوثب على صخورها
هؤلاء (الناعمون المدللون) أهل الدلال والدعة، هم طفيليات في هذه الحياة، وهم - بالتالي - متطفلون على موائد الأدب، وليس للمتطفلين في عالم الأدب بقاء
بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا، فأقول بأن أصحاب النفس الشديدة، والروح القوية، والشخصية الجبارة، يتهيأ لهم من حسن البيان، وجودة المقال والارتفاع بفنون الكلام، ما تتقطع دونه أقلام من تمكنوا من ناحية اللغة، وتفقهوا في أساليبها، وبصروا بنتاجها، من أهل البرودة والنعومة والدلال
ذلك لأن الفكرة في النفس القوية قوة، قوة عاصفة جامحة حرون، (تتكهرب) لها الأعصاب المرهفة، ويثور لحملها الوجدان، فما تجد النفس ترفيها وتنفيساً إلا في أن تقذف بها في أسلوب نير كومضة البرق، قوي كالحمم تنطلق من فوهة البركان، بليغ يرتفع في آفاق البلاغة والبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأحلام والأفهام
هذا هو الأستاذ البشري يقول: (إن السيد جمال الدين الأفغاني كان غريباً عن العربية، وإن قاسم أمين كان شبه غريب عنها، وإن حسين رشدي باشا كان قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، ومع هذا كانوا يرتفعون بالعبارة أحياناً إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البين)
ولا عجب من هذا، ألا ترى إلى مقالنا، كيف يبين ويرتفع في سماء الوجدان ساعة ثورتنا وغضبتنا، إلى ما لا قدرة لنا عليه في ساعة الرضى والاطمئنان؟
كذلك هي النفس القوية، أبداً في ثورة عاصفة، وغضبة جامحة، وكذلك هي أبداً في تحفز للوثبة، وتأهب للطفرة والهجمة فان لم تجد أمامها ما تحطم، رجعت إلى قرارتها تثير حرباً عواناً بين خيرها وشرها، وحقها وباطلها، وتقاها وفجورها، لأن الهدوء والركون صور من صور الموت، والنفس القوية لا تعرف فترات الموت والبرودة والجمود، ما دامت تبصر النور، وتتنفس الهواء.
الحياة سفر الأديب الموهوب: وهي صراع دائم بين الغي والرشد، والحق والباطل، والجمال والقبح، والهدى والضلال، والحب والبغض؛ فالأديب الحق هو الذي ينزل إلى ميدان هذه المعركة المحتدمة، يقاتل ويناضل ويصاول في سبيل الرشد والحق والهدى والحب والجمال، إلى أن يحطم أصنام الشر والبطل، ويهدم حصون الضلال والقبح، أو يتحطم هو على أقدام الحق الذي ناضل في سبيله، وتحت ظل الراية. التي نافح عنها، وهكذا يلفظ النفس، راضي النفس، مطمئن الضمير، هادئ الخاطر، يبتسم لأحلام القبر كما
نسعى إلى الفراش إذا مسنا اللغب وأثقل جفوننا النعاس، فنسحب اللحاف، ونسبله علينا. هادئين باسمين لنستسلم إلى الأحلام.
هذه هي الحياة؛ وهذه هي رسالة الأدب: قطع الصخر. وتجرع الصاب، وتحطيم الأصنام. والطفرة على حطامها إلى قمم المجد، وسماء الخلود.
فهل أعد أدباؤنا الناشئون - والكهول أيضاً - نفوسهم ومهجهم وأدمغتهم لهذه المعركة التي وقودها النفوس الطامحة، والقلوب الراغبة، والضمائر الحرة، والعقول النيرة؟
اللهم لا! اللهم لا!
من يمتري في هذا فلا ينعى على أدبائنا الناجمين - وعلى الكهول عندنا - رخاوة العصب. والدلال والدعة والأنوثة واللين؟
من يمتري في هذا، فلا ينعى عليهم ضيق الأفق، وقحط الخيال، وقصر المدى، وضعف الجنان، وتهيب القديم لأنه قديم، وحب الجديد لأنه جديد، والحرص على السلامة والمسالمة، والراحة والركون، والنفرة من المصاولة والمعاركة وقلة الجلد على حياة الجهد والتعب والضوضاء، والتهيب من التجربة والإقدام، وضعف التعلق بالحق والمثل الأعلى والجمال؟
أن حياة الأدباء أصبحت مضرب المثل، ووحدة القياس، في خمول النفس، وكسل العقل، وضعف الاستعداد للحياة؛ فإذا قيل لك: هذا أديب فاعلم أنه من هؤلاء الذين يخرجون إلى الشارع، والفراش على أكتافهم (والمخدة) فوق ظهورهم.
أجل! إننا لا نرى من ينقطع إلى الأدب من شبابنا إلا الذين خانتهم أقدامهم في الوثوب إلى مراقي المجد، والطفرة إلى قمم الظفر والذين نزلوا إلى ميادين الحياة، فلما بلوها وبلتهم، وعجموها وعجمتهم ولوحت لهم بسياطها من بعيد هرولوا وارتدوا على أعقابهم ناكصين حائلة ألوانهم، مرتعدة فرائصهم، ثم انتحوا جانبا قصياً من الطريق، بعيداً عن مواطن أهل الرجولة الإقدام، على غرار العاجزين المتسولين الذين يقبعون في زوايا الشوارع القذرة، أمام أهل الأعمال.
ها هم أولاء شبابنا الذين يخفقون في الشهادات (والبكالوريات) تسألهم: ما تصنعون؟ فيقولون: ندرس الأدب. وهكذا أصبحت دراسة الأدب صناعة العجز، ودليل الخور،
وبرهان الفقر في المواهب، أو الضعف في النفس. وقد ينتهي هؤلاء إلى شيء ما في دراستهم هذه، فتراهم يصيحون نائحين في مآتم الموتى، أم مهرجين في حفلات الأحياء، أو خارقين للبخور أمام أهل الجاه
ولا عجب من هذا، فهم لا يصلحون للحياة، ومن لا يصلح للحياة لا يصلح لحمل القلم، والوقوف في صفوف الأدباء
ثم هذه هي المقاهي، ودور البطالة واللهو والعبث، أصبحت ملاجئهم يلجئون إليها كما يلجأ العجزة إلى دورهم وملاجئهم، ويفرون إليها من زحمة الحياة، وهم يقرقرون ويموءون وينقنقون
أعرف أديباً كهلاً - أو على الأصح متأدباً -: أفتدري يا صاحبي ما هي رسالة أدبه؟ رسالته - بالضبط - رسالة (عميان الجنائز) والنائحات اللاتي يستأجرن في المآتم للندب واللطم والشق والعويل، أو رسالة (البرابرة) الذين يستأجرون في مصر لتأديب المآدب، وتنظيم الحفلات
يسمع أن صديقه فلاناً قد مرض ولزم الفراش؛ وقد يكون ما به لفحة حر، أو زكام طفيف، فهو - منذ أيام المرض الأولى - يعد لصديقه العزيز مرثيته العصماء ليبكي فيه - إذا ما مات وأظنه يريده أن يموت ليرثه - ليبكي فيه النجم الذي أفل، والبحر الذي نضب، والرحمة التي رفعت، والرجولة التي فقدت. ويسمع أن (فلانا) وهو من أهل الجاه الطويل العريض - سيؤم المدينة بعد أيام؛ فإذا قدم كان صاحبنا الأديب الخالد أول المستقبلين والمرحبين، وكان أول الخاطبين بين يديه والمادحين؛ وقد يكون هذا العين ممن لا يعرفهم صاحبنا إلا (بالسلام) وقد يكون من هذه الطبول المنفوخة الجوفاء التي نقع عليها في طريقنا صباح مساء؛ وقد يكون ممن كان يشهر بهم أديبنا آناء الليل وأطراف النهار؛ وقد يكون من هؤلاء المجرمين الذين يروحون ويجيئون أمامنا بأثواب القديسين والأقطاب، فنسجد لهم ونحملهم على الأعناق؛ قد يكون هذا العين من كل هؤلاء، ولكن أديبنا لا يتحرج إذ يخلع عليه الألقاب، وإذ يغرقه بالتحيات، ويجعله في البلاغة سحبان وإن كان أعيا من بإقل، وفي الكرم حاتماً وإن كان أبخل من أشعب، وفي الشجاعة عنترة وإن كان أجبن من أبي دلامة
وليت هذا الرثاء وهذا المديح كانا من وحي الخاطر، ومن بنات القريحة؛ وإنما هما سرقات من الكتب رصفت رصف الحصى، ونتفات من الدواوين ركبت تركيب (اللعبة)
أعرف أديباً آخر - أو على الأصح متأدباً - أفتدري يا صاحبي ما رسالته؟ رسالته هي مهمة (سماسرة) القطن في مصر أو (سماسرة) البصل والثوم عندنا في سوريا. إذا كان الصباح يدعو إلى الانتداب، ويتغنى بمآثره و (يسمسر) له؛ وإذا كان الضحى، وكان الحكم الوطني ملأ الجو بالتصفيق، وحطم الآذان بقصائده ينشر فيها مجد بني عبد شمس، ويذيع فيها صنيع أبناء عدنان؛ وهو (يسمسر) للحكم الوطني لأن بيد الحاكمين مناصب الدولة، ورياسة ديوان وزارة المعارف؛ وهو عند الأصيل معارض للحكومة الوطنية، متحمس في معارضته، مسرف فيها، لأنهم طردوه ولم يقبلوه، وهو أخيراً في المساء رجل مسالم يقف بعيداً (على الحياد) لا يدعو إلى شيء ولا يؤمن بشيء لأنهم لوحوا له من بعيد بالسوط، مهرول إلى عقر داره، مضطرب النفس، مهتز القلب؛ وآثر السكوت والرضى بالواقع على الشغب المغرض، والنعيب المضجر
أعرف متأدباً قيل له ذات يوم (لم لا تنتسب إلى هذا الحزب ومبادئه كيت وكيت؟) فقال: (إنني أؤمن بمبدئه، وأرضى عن منهجه، وأطمئن إلى برامجه، ولكن خصومه أصدقائي وصحبي، فلا قدرة لي على خصامهم!. . وعلى أن أكون حرباً على هذا الحزب بين صفوفهم!. .)
هذه خطوط هي إلى اللمحات الخاطفات أقرب منها إلى الصور الجامعات، أوردناها - على عجل - لتلمس أيها القارئ نواحي من هذه الحياة التي يضطرب فيها جماعة الأدباء، والتي هي ضرب من ضروب الجمود بل الموت.
يزعم أدباؤنا أن سماءنا غائمة ليس لها روعة الإيحاء والإلهام، وأن آفاقنا ضيقة ليس لها القدرة على تفتيق الأذهان والأحلام، وأن حياتنا جامدة ليس فيها من فيض الحياة ما يحرك المشاعر والأوتار.
لا! لا! لم تغم السماء لكن عيونكم حسرى ما ترتفع، ولم تضق الآفاق ولكن أذهانكم لم تفتق، ولم تتجمد حياتكم ولكن أوتار قلوبكم ما تتحرك.
ها هنا زعماء يرقصون على قبور الأمة، ويرتفعون على أشلاء الشهداء، ويتناصرون
لاقتسام الغنائم تناصر الذئاب الجائعة أمام الجيف في أقصى الصحراء، والناس - على رغم هذا - يحملونهم على الأعناق، ويحرقون أمامهم البخور، ويهتفون باسمهم أطراف الليل وأناء النهار
في كل مكان مرجفون يرجفون، ومضللون يكذبون، وغادرون يغدرون، وماكرون يمكرون، وجاهلون يتعالمون، وأغبياء يرتفعون، ومجرمون في ثياب الأقطاب والأولياء، وبين الهتاف والتصفيق يروحون ويجيئون.
والحقيقة في كل هذا تشرد فلا مأوى ولا مصير، والفضيلة تستغيث وتستجير فلا مجير ولا نصير.
أليس في هذا، ما يلهب الحقد والضغينة في صدر الأديب ويحوله إلى طاغية غشوم، يبطش بلا رحمة ولا هوادة، في أهل المجد المزيف المجرم، والجاه الملوث الكاذب؟
في كل مكان أمة تصنع لقمتها من دمها ودمعها وقطع كبدها ثم ترفعها بيدها المرتعشة المشلولة إلى فمها لتسد رمقها، فإذا اليد القوية تمتد إليها وتتخطفها، وهي على شفتيها، والسوط يهتز في يسراها.
في كل مكان نعاج رواقص على سكينة الجزار، وسياط هاويات على ظهور المستضعفين من العباد، وعذارى يشردن ويبعدن عن أوطان الآباء والأخوة والأمهات، وشذاذ الآفاق يشترون الضمير البشري بالأصفر الرنان، وذئاب (جنيف) تعصف بها غرائز الوحشية والجشع، فتنتشر في بقاع الأرض الآمنة المطمئنة، تثير الفتنة، وتبعث الروع، وتستنزف الدماء، ومن ورائها الخبث الأوربي يحارب في سبيل السلام، ويبغض في سبيل الحب، ويرهب في سبيل التأديب، ويسرق في سبيل الإطعام، ويوقظ الفتنة في سبيل الأمان!
أليس في كل هذا ما يشعل النخوة في رءوسكم، ويحرك المروءة في نفوسكم، ويثير الغيرة في قلوبكم، ويدفعكم إلى إغماد أقلامكم في أفئدة هذه الذئاب، وصوغها أسرّة لهذه العذارى المشردات، وإرسالها سهاماً في صدور الظالمين الطغاة، ورفعها أعلاماً خفاقة للحق والخير والجمال؟
أين أنتم يا أصحاب المشاعر الرهيفة، والقلوب الرقيقة؟ يقولون (الأدب نزيف القلب: طاهرة ورجسة، ونشيد الشعور: نبيلة وخسيسة؛ ومعيار القوة فيه أن ينزف القلب فيتفجر،
وأن ننشد فنبدع.) إذن، لم لا تسمعوننا دقائق من زئيركم، إلى جانب الشهور الطوال من نحيبكم نحيب الأطفال، ونواحكم نواح العجائز؟
ستقولون: (هذا ما يجري على اللسان، وما يفيض عن القلب) وسنقول لكم: (إنكم مرضى في أعصابكم، يا أنصاف الرجال، وأشباه النساء.)
بلى! يا طلاب الأدب الباكي النائح، يا عجائز الفن
هؤلاء هم آباؤكم وأمهاتكم وأبناء عشيرتكم، يزجون في السجون، ويرسفون في القيود، وتتلظى رقابهم على شفرات منجل الجلاد؛ ترتعش جفونهم المثقلة لتلمح ومضات النور، وتلهث صدورهم من خناق الكهوف، ويغلي في صدورهم الشوق إلى مروج الحياة الحرة، حيث ترقص عرائس الأحلام والآمال في أحضان الربيع. . .
أليس من جمود الحس، وبلادة الشعور، وغلظ القلب، أن تشربوا كأسكم على قبور الآباء، وأن ترقصوا في مآتم الأمهات، وألا تحرك أوتار قلوبهم هذه الأماني المشتركة الطوال العراض، وألا يهيمن على نفوسكم هذا الموقف الذي تتمازج فيه الأنوار بالظلمات، والآلام بالآمال، والضجر بالرغبات؟ فما نراكم إلا مالئين بنحيبكم جو الرجال، وقارعين آذانهم بنواح (الدلع) والدلال؟
المجد، والشهرة، والنبوغ، والخلود: كل هذا من عرائس القلب، وحسان الخيال.
لم لا يوقظ الحب في قلوبكم، وتلهب الشهوة في جسومكم عرائس هذه العواطف العليا اللاتي يرقصن على أكف النجوم عاريات، وينمن على ظهور القرون غافياتٍ، ويضربن على أوتار التاريخ منشداتٍ، ويقطفن أكاليل الغار من رياض الجنان، ليعصبن بها رءوس المجانين من أهل العشق والغرام؟
لم لا تترامون على أقدام هذه العرائس التي يشع منها نور الرجولة، وتتفتح تحتها أزهار الحياة، بدل أقدام غانياتكم التي يفوح منها روائح الرجس والخزي والعار، والتي مصيرها إلى فجوة قذرة في جوف التراب؟ أليس في اختطاف الرجال ورغباتهم من يد الأقدار، وركوبهم مراكب الهول في سبيل الآمال، وتبوئهم عروش النصر مضمخة بالدماء، أليس في كل هذا ما يبعث فيكم عواطف الرجولة والشدة والبأس، بدل الأنوثة والبرودة والقنوع والدلال؟
أيها السبعة، يا شباب الشيوخ، ويا شيوخ الشباب
ابعثوا الثورة والتمرد في نفوس الناشئين من الأدباء؛ قولوا لهم: (إن حياة الأديب لا تكون إلا في ميادين الطعن والضرب والعراك؛ ولا تهنأ إلا تحت ظلال الحق والحب والخير والجمال!)
قولوا لهم: (إن القلم الذي تحملونه أعد لتغمدوه في قلوب الباطشين الظالمين، والمجرمين الحاكمين، والأتقياء المزيفين، فان لم تفعلوا فاغمدوه في قلوبكم فما خلقت الحياة لنذل جبان رعديد، وفي القبور مراد للاغبين)
إذا فعلتم هذا، أيها السبعة الأئمة، في العالم العربي جميعه، تصبح معضلة الضعف في اللغة من الهنات الهينات؛ وتقر عيونكم بأدباء على غراركم: هم أهل لحمل القلم ومجده، وهم أهل لأن يقولوا عن أنفسهم ما قال (فولتير) عن نفسه (ما يمنعني عن أن أكون ملكا، وإن لم يزن مفرقي تاج؟!)
أجل! آنئذ يصبحون ملوكاً على عروش الأدب والبيان؛ ملوكا تتحطم تحت أقدامهم عروش ملوك البطش والجاه، وتحمل عروشهم الخالدة أعناق القرون والدهور والآباء.
(حمص سورية)
ماجد الأتاسي
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الشعراء
وقال زارا لأحد أتباعه: منذ بدأت أعرف حقيقة الجسد لم تعد الروح روحاً في نظري إلا على أضيق مقياس، وهكذا صرت أرى (كل ما لا يفنى) رمزاً من الرموز.
فأجاب التابع قائلاً: لقد قلت هذا من قبل يا زارا ولكنك أضفت إليه قولك (وكثيراً ما يكذب الشعراء) فلماذا قلت هذا؟
فقال زارا: أنت تسأل لماذا، وما أنا، ممن يحق عليهم أن يُسألوا. ما أنا ابن الأمس وقد مر زمان طويل على إدراكي أسباب ما أرتأيه، وهل أنا خزانة تذكارات لأحفظ الأسباب التي بُنيت عليها آرائي؟ إنما يكفيني عناء أن أحفظ هذه الآراء نفسها، أفليس في العالم عصافير تشرد من أماكنها؟ ولكم وجدت في قفصي من طير غريب يرتجف إذا ما مرت عليه يدي ومع ذلك فماذا قال لك زارا يوماً؟ لقد قال إن الشعراء كثيراً ما يكذبون، وهل زارا نفسه إلا واحداً من هؤلاء الشعراء؟ أفتحسب أنه بهذه الصفة قد أعلن الحق؟ وما الذي يكرهك على تصديقه؟
فقال التابع: إنني مؤمن بزارا.
أما زارا فهز رأسه وابتسم قائلا: ليس الإيمان مما يرضيني حتى ولو كان هذا الإيمان معقودا علي، ولكن إذا قال إنسان بكل جد: إن الشعراء يكذبون، فانه ليقول حقاً لأننا نحن الشعراء نكذب كثيراً، ولا بد لنا من الكذب ما دام ما نجده من العلم قليلا. ومَنْ من الشعراء بيننا لم يغش شرابه وفي سراديبنا تستقطر السوائل المسمومة؟ ولكم فيها من أمور يقصر عن وصفها البيان. إن افتقارنا في المعرفة يهيب بنا إلى محبة مساكين العقول وبخاصة إلى محبة مسكينات العقول الفتيات. . . فنحن نعود بشهواتنا إلى الأمور التي تتحدث عنها العجائز في السمر ونقول إن ما نبحث فيه إنما هو قضية المرأة الأبدية.
يخيل لنا أن أمامنا طريقاً سوياً يؤدي إلى المعرفة وأن هذا الطريق لا ينكشف لمن يدركون
الأمور بالعلم، فنحن لا نؤمن إلا بالشعب وبحكمته. فالشعراء جميعهم يعتقدون أن الجالس على منحدر جبل مقفر يتنصت إلى السكون يتوصل إلى معرفة ما يحدث بين الأرض والسماء. وإذا هم هزهم الشعور المرهف خيل لهم أن الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم فيرونها تنحني على آذانهم لتلهمهم البيان الساحر والأسرار، فيقفون مباهين بإلهامهم أمام كل كائن يزول.
واأسفاه! إن بين الأرض والسماء أموراً كثيرة لا يحلم بها إلا الشعراء وهناك أمورٌ أخرى كثيرة فوق السماء، فما جميع الآلهة ألاّ رموز أبدعها الشعراء.
والحق أننا منجذبون أبداً إلى العلياء، إلى مسارح الغيوم فنرسل إليها أكراً منفوخة ملونة ندعوها آلهة وبشراً متفوقين. والحق أنهم من الخفة على ما يجعلهم أهلا لاقتعاد مثل هذه العروش
ويلاه! لكم تعبت من كل قاصر يطمح إلى جعل نفسه شيئاً معدوداً؟ ولكم أتعبني الشعراء؟
وما نطق زارا بهذا الكلام حتى ثارت نفس تابعه، ولكنه كظم غيظه فسكت وسكت زارا أيضا وغيض نظره كأنه يسبر أقاصي نفسه، ثم تنفس الصعداء وقال: أنا من الأمس ومن الزمن القديم ولكنَّ في شيئاً من غدٍ وبعده ومن الآتي البعيد. فقد أتعبني الشعراء الأقدمون منهم والمجددون فما هم في نظري إلا رغوة لا صريح تحتها، بل هم أسِرَّة بحار جفت مياهها. إن أفكارهم لم تنفذ إلى الأغوار، وقد وقف شعورهم عند أول جرفها. وخير ما ترى في تأملاتهم قليل من الشهوة وقليل من الضجر فليست بحورهم إلا مجالات تنزلق على تفاعيلها الأشباح فهم لم يدركوا شيئاً بعد من القوى الكامنة في النبرات. لم يبلغ الشعراء درجة النقاء فهم يعكرون جداولهم ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور؛ إنهم يريدون أن يقيموا أنفسهم موفقين بين مختلف المعتقدات غير أنهم لا يزالون رجال العمل الناقص السائرين على السبل المتوسطة الحائرة فهم يعكرون المياه بأقذارهم.
وآسفاه لقد ألقيت شباكي في بحارهم آملا اصطياد خير الأسماك ولكني ما سحبت هذه الشباك مرة إلا وقد علق فيها رأس إله قديم. وهكذا كان يجود البحر بحجر على الجائع. ولعل الشعراء أنفسهم خرجوا هم أيضاً من البحر وفيهم ولا ريب بعض اللآلئ، فهم أشبه بنوع من المحار الممنع بأصدافه، ولكم وجدت في داخلهم بدل الروح شيئاً من الرغوة
المالحة. إن الشعراء يقتبسون من البحر غروره، وهل البحر إلا أشد الطواويس غروراً؟ فهو حتى أمام أقبح الجواميس يدحرج أمواجه ويبسط أطالس مراوحه وأطراف وشاحه المفضض فيحدجه الجاموس بنظرات الغيظ لأن روحه المقتربة من الشاطئ لا تزال ملتصقة بمعلفه ومرعاه فما يبالي بالجمال وبالبحر وببهاء الطواويس. هذا هو المثل الذي أضربه للشعراء. والحق أن فكرهم لطاووسٌ مغرور بل هو بحر من الغرور. ففكر الشاعر يطلب مَنْ يشاهده حتى ولو كان المشاهد جاموساً.
لقد أتعبني هذا الفكر وسوف يأتي زمان - وهو قريب - يتعب فيه هذا الفكر من ذاته.
رأيت بعض الشعراء يتحولون عن الشعر ويوجهون النقمة إلى ما كانوا عليه، ورأيت من يقدَّمون كفّارة للفكر، وما نشأ هؤلاء المكفَّرون عن الضلال إلا بين الشعراء.
هكذا تكلم زارا. . . .
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 16 -
سامكهيا:
عاش الحكيم (كابيلا) مؤسس هذا المذهب في القرن السادس قبل المسيح كما يظن أكثر الباحثين المدققين. وقد نشأ هذا الظن عندهم من أن أقدم النصوص التي تحدثت عنه وعن مذهبه ترجع إلى القرن الخامس قبل المسيح، وأنه قد عثر في هذا المذهب وفي المذهب البوذي على تأثرات قوية متبادلة بين المذهبين بالتساوي مما يدل على أنهما متعاصران تقريباً لا سيما إذا كان بعض تلك النقط المتشابهة واضح الأصلية في أحدهما والحداثة في الثاني، والبعض الآخر على العكس من ذلك تماماً.
سمي هذا المذهب (سامكهيا) لقوله بالتعدد الذي لا يتناهى في النفوس، وهو على الأصح مذهب إلحادي لا يقول بإله مسيطر متصرف في الكون، وهذه إحدى النقط التي يلتقي فيها مع البوذية التي صورتها لنا نصوص العصر الذي تلا عصر (بوذا) وبعبارة أدق: لعلها إحدى النقط التي تأثرت فيها البوذية بعد موت زعيمها بمذهب (سامكهيا) الإلحادي الذي لا يشك باحث في أن الإلحاد متأصل فيه.
يرى صاحب هذا المذهب أنه لا يوجد للكون إله قدير منفرد بالتصرف فيه، وإنما يرى أن هناك روحا عاماً أو عالماً من الأرواح غير محدود ولا متناه، متشابه الوحدات، وأن هذه الوحدات بتكاتفها مع المادة هي التي تحدث في الكون هذه الآثار وتلك التغيرات على النحو الذي يفصله فيما بعد، وهو يرى كذلك وجود عالمين هما في الحقيقة والأزلية والأبدية سواء. وهما: النفس، وتسمى بالهندية:(بوروشا) والمادة، وتسمى:(براكربيتي). وهذان العالمان لا يتفقان في أي شيء آخر عدا الحقيقة والأزلية والأبدية. ومع ذلك، فان بينهما صلة قوية، لأن مجاورة النفس للمادة هي التي تكسبها الحركة التي هي منشأ كل النتائج
الصادرة عنها، ولكن النفس وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً وإن كانت حية مشتملة بالقوة على جميع عناصر القدرة التأثيرية، وهي مبصرة ولكنها عاجزة على عكس المادة العمياء المشتملة على قدرة كامنة يستحيل بروزها من غير اتصالها بالنفس، وهم لهذا يشبهون اتحادها باتصال مقعد وأعمى التقيا في الصحراء، فاتفقا على تعاون عملي بينهما يضمن لهما النجاة، وهو أن يحمل الأعمى المقعد على كتفيه، ليمكنه من السير مقابل أن يدله المقعد بوساطة بصره على الطريق الذي لم يكن في مكنته أن يعرفه لولا معاونة رفيقه، وقد وصلا معاً إلى شاطئ النجاة بفضل هذا التعاون العظيم. وهكذا شأن النفس مع المادة هيأ لهما اتحادهما إبراز خواصهما التي لم تكن لتوجد بدون هذا الاتحاد.
وللمادة ثلاث صفات ملازمة لها، وهي الخيرية والهوى والظلمة، وإن هذه الصفات تظل تتفاعل فيما بينها في عصور مختلفة حتى تصل إلى حالة الاعتدال التي تسوي بينها، فإذا وصلت إلى هذه الحالة تطورت تطوراً آخر جديداً نشأت عنه الطبيعة، وبارتباط النفس والمادة المتطورة والطبيعة الناشئة عن هذا التطور يوجد هذا العالم المشاهد. غير أن هذه النظرية لم تلبث أن تلاشت وحلت محلها نظرية أخرى على العكس منها تماماً، إذا أصبحت فكرة الارتباط الحقيقي بين النفس والمادة لا وجود لها، وإنما أصبح الرأي السائد هو أن النفس تجتمع مع المادة اجتماعاً مؤقتاً، أساسه الضرورة التي تتطلبها الحياة الدنيوية، ثم لا تلبث هذه الضرورة أن تزول فتتخلص النفس من هذه الصلة المقيدة لها ثم تنطلق إلى عالم الأبدية الأعلى حيث تنام بلا نهاية نوماً عميقاً هادئاً لا تزعجه الرؤى ولا تنغصه الأحلام.
ويرى كذلك أن الشر في هذا العالم موجود وجوداً ذاتياً وأنه لا يقدر على محوه إلا بوساطة العمل الصالح والتخلي عن جميع اللذائذ والتأمل في أسرار الكون، وعلى الخصوص بالمعرفة التي هي الغاية المثلى من جميع هذه المحاولات المتقدمة.
وهم للحصول على هذا الخلاص المنشود يغالون في التصرف مغالاة شديدة حتى ليجلس الواحد منهم على شاطئ أحد الغدران عدة أعوام طويلة دون أن يغادر مكانه، ويقتات بالأعشاب ويديم التفكر في أسرار الكون، ولا يزال يغالب نفسه حتى ينتزعها نهائياً من دنس المادة، وقد تصل به الحالة أثناء هذا التنسك إلى أن يصير جسمه نصف متحجر
وتنبت فيه الحشائش وتلتف عليه الأغصان.
ومع ذلك فسوف لا يعم هذا الخلاص جميع النفوس البشرية وإنما سيبقى منها عدد غير متناه ساقطاً في أحابيل الشر مسجوناً في غيابات الأجسام المادية، لأنه مهما اقتطع من اللامتناهي عدد ذهب إلى الخلاص، فان ذلك الاقتطاع لا يؤثر فيه ولا يخرجه عن صفة اللانهائية لا سيما إذا عرف أن الأصل هو الشر أو الانحباس في سجن المادة، وأن التخليص عارض، ولكن أنجح الوسائل إلى هذا التخليص هو معرفة القوى الكونية الخمس والعشرين ودوام التفكير فيها. ولذلك يقول (بياس ابن براشن): اعرف الخمسة والعشرين بالتفصيل والتحديد والتقسيم معرفة برهان وإيقان، لا دراسة باللسان، ثم ألزم أي دين شئت فان عقباك النجاة. . .
وهذه القوى الخمس والعشرين هي: النفس الكلية والهيولي المجردة، والمادة المتصورة، والطبيعة الغالبة، والعناصر الرئيسية وهي: السماء والريح والنار والماء والأرض، وتسمي (مهابوت) والأمهات التي هي بسائط العناصر، فبسيط السماء (شبد) وهو المسموع وبسيط الريح (سبرس) وهو الملموس. وبسيط النار (روب) وهو المبصر. وبسيط الماء (رس) وهو المذوق، وبسيط الأرض (كند) وهو المشموم. ولكل واحد من هذه البسائط ما نسب إليه وجميع ما نسب إلى ما فوقه. فللأرض الكيفيات الخمس، والماء ينقص عنها بالشم، والنار تنقص عنها به وبالذوق، والريح بهما وباللون، والسماء بها وباللمس. ولعلهم في نسبتهم الصوت إلى السماء يقصدون به أن لدوران الكواكب في أفلاكهاتلك اللحون الموسيقية التي زعم (فيثاغورس) أن سماعها يتاح لكل من صفت نفسه ولطف حسه. والحواس المدركة، وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس والإرادة المصرفة والضروريات الآلية. واسم الجملة: (تتو) والمعارف مقصورة عليها
أما الإنسان فهو عند هذا المذهب معقد تعقيداً يلفت النظر، إذ هو مكون من ثلاث شخصيات مختلفة: الأولى الجسم المادي الذي ينحل ويتفكك بالموت ثم تتلاشى أجزاؤه في أصولها الناشئة عنها من عناصر المادة. الثانية جسم دقيق شفاف، وهو الذي يعتبر في الحقيقة الجوهر الصحيح للإنسان، وهو الذي يتناسخ ويتقمص الأجسام الأخرى. الثالثة النفس التي هي الواحد الحق المماثل كل المماثلة لجميع الآحاد الحقة التي هي من عالمه
النفساني الغير المتناهي.
ويرى هذا المذهب أيضاً أن الحواس الإنسانية لم توجد اتفاقاً ولا عبثاً، وإنما وجدت وفاقاً لعناصر الكون، فكل حاسة من حواس الإنسان يقابلها عنصر من عناصر الطبيعة يصلح لأن تقع عليه هذه الحاسة بالذات كما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على الديانة البراهمانية.
وليس هذا التعقيد في شخصيات الإنسان مقصوراً على مذهب (سامكهيا) وحده، وإنما هو أسلوب هندي عام اشتركت فيه أكثر مذاهب تلك البلاد. بل إن غير (سامكهيا) قد يصل بهذه الشخصيات إلى أربع أو سبع أو عشر حسب الظروف والأحوال.
يتبع
محمد غلاب
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
151 -
تكون رأساً لخيار محمودين
في (رسالة أرسطو للاسكندر):
إنك قد أصبحت ملكا على ذوي جنسك وأوتيت فضيلة الرياسة عليهم فمما يشرف رياستك ويزيدها نبلا أن تستصلح العامة، وتكون رأساً لخيار محمودين لا لشرار مذمومين. فان رياسة الاغتصاب - وإن كانت تذم لخصال شتى - أولى ما فيها بالمذمة أنها تحط قدر الرياسة وتزري بها، وذلك أن الغاضب إنما يتسلط على الناس كالعبيد لا كالأحرار فرياسة الأحرار أشرف من رياسة العبيد. وقد كان ملك فارس يسمى كل أحد عبداً ويبدأ بولده، وهذا مما يصغر قدر الرياسة، لأن الرياسة على الأحرار والأفاضل خير من التسلط على العبيد وإن كثروا.
لا تلتفت إلى مشورة من يشير عليك بغير الذي أنت أهله، ولا تعبأ بكلام أقوام خسيسة آراؤهم ناقصة هممهم يموهون عندك الأمور ويحملونك على العامة.
152 -
نحن لا نملك علينا من لا يشاور
يروى أن روميا وفارسيا تفاخرا، فقال الفارسي: نحن لا نملّك علينا من يشاور
فقال الرومي: نحن لا نملّك علينا من لا يشاور
153 -
الملك الدستوري
في (الكامل) لأبن الأثير: كان عضد الدولة لا يعول الأمور إلا على الكفاة، ولا يجعل للشفاعات طريقاً. شفع مقدم جيشه (أسفار) في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله. فقال: ليس هذا من أشغالك إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد، ونقل مرتبة جندي وما يتعلق بهم، وأما الشهادة وقبولها فهي إلى القاضي، وليس لك ولا لنا الكلام فيه، ومتى عرف القضاة من إنسان ما يجوز معه قبول شهادته فعلوا ذلك بغير شفاعة
154 -
أنا عبد الشرع وشحنته
في (رحلة ابن جبير): حضر صلاح الدين أحد رجاله المتميزين مستعدياً على رجل. فقال السلطان: ما عسى أن أصنع لك وللناس قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشِحْنَتُه، فالحق يقضي لك أو عليك
155 -
تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عادل
كتب ابن العميد (أبو الفضل محمد بن الحسين) إلى عضد الدولة:
يعد أهل التحصيل في أسباب انقراض العلوم وانقباض مددها وانتقاض مِرَرها والأحوال الداعية إلى ارتفاع جل الموجود منها وعدم الزيادة فيها - الطوفان بالنار والماء، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلط المخالفين في المذاهب والآراء، فان كل ذلك يحترم العلوم احتراماً، وينتهكها انتهاكاً، ويجتث أصولها اجتثاثاً. وليس عندي الخطب في جميع ذلك يقارب ما يولده تسلط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته، فأن البلاء به لا يعدله بلاء، وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عادل كالأمير الجليل الذي أحله الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها. وهي نور نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشُرّد نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق، وتتشوق نحوه تشوق الصب العاشق، ولقد ملكتها وحشة المضاع وحيرة المرتاع،
156 -
للرعية المنام وعلينا القيام
كان الرشيد في بعض حروبه فألح عليه الثلج ليلة، فقال له بعض أصحابه: أما ترى ما نحن فيه من الجهد والنصب ووعثاء السفر والرعية قارة وادعة نائمة؟!
فقال: أسكت، فللرعية المنام، وعلينا القيام، ولا بد للراعي من حراسة الرعية وتحمل الأذى. وإلى ذلك أشار بعضهم:
غضبت لغضبتك الصوارم والقنا
…
لما نهضت لنصرة الإسلام
ناموا إلى كنف بعدلك واسع
…
وسهرت تحرس غفلة النوام
157 -
محلم العربي كسرى
في (تاريخ الطبري وشرح النهج لابن أبي الحديد): لما قُدم على عمر بسيف كسرى
ومنطقته وزبرجه وزيه في المباهاة وزيه في غير ذلك، وكانت له عدة أزياء لكل حالة زي - قال: عليّ بمحلِّم - وكان أجسم عربي يومئذ في المدينة، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصُبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس، فنظر إليه الناس فرأوا أمراً عظيماً من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك فألبس زيه الذي يليه، فنظروا إلى مثل ذلك في غير نوع حتى أتى عليها كلها، ثم ألبسه سلاحه وقلده سيفه فنظروا إليه في ذلك ثم وضعه ثم قال: والله إن أقواماً أدوا هذا لأمناء؟ فقال علي: إنك عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا.
158 -
حتى يمسكن أزواجهن عن الحركة
ابن سعيد المغربي في بعض مصنفاته: وكان الملك العادل ابن أيوب من أعظم السلاطين دهاء وحزماً، وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له، وكان صلاح الدين - وهو السلطان - يأخذ برأيه. وقدم له أحد المصنفين كتاباً مصوراً في مكايد الحروب ومنازلة المدن - وهو حينئذ على عكا محاصراً للفرنج - فقال: ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر. . . وكان (العادل) كثير المداراة والحزم. كثير المصانعات حتى إنه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج، ويوجهه في الخفية إليهن حتى يمسكن أزواجهن عن الحركة
159 -
وأين أنت من محادثة الرجال؟
قال المأمون للحسن بن سهل: نظرت في اللذات فوجدتها مملولة خلا سبعاً.
قال: وما السبع يا أمير المؤمنين؟
قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد، والثوب الناعم، والرائحة الطيبة، والفراش الموطأ، والمنظر الحسن من كل شيء.
قال: وأين أنت - يا أمير المؤمنين - من محادثة الرجال؟
قال: صدقت، هي أولى منهن
خواطر وأفكار
للأستاذ أديب عباسي
الخاطر المخامر كالداء المخامر: هذا يضعف الجسم ويعرضه لأدواء أخرى، وذاك يضعف الفكر ويعرضه للكلال والانقباض في نطاق ضيق
يجب ألاَّ يخدعنا سكوت الناس عن رأي من الآراء أو فكر من الأفكار فنظن أن هذا السكوت دليل الرضى وآية القبول؛ فقد يكون الرأي من السخف ووضوح الخطأ فيه بحيث لا يتكلف أحدٌ مشقة العناية به والإنبراء لتفنيده
الخطأ الكبير من صفات العقول الكبيرة، أما صغار العقول فلا يمكن أن تكون لهم أخطاء كبيرة
قصر النظر كبعد النظر لازم في بعض ظروف الحياة، لا سيما في الأزمات
الناجح والقاتل في الحياة يلتقيان عند قلَّة الأصدقاء والمريدين لهم إرادة بريئة من الملق والزلفى أو حب الاستعلاء والظهور
يقولون لو عرف الإنسان كفايته متى تكون لفتر سعيه وقلَّت أطماعه، وليس أنأى عن الصواب من هذا الرأي. فالواقع أن الناس يسعون ويعملون ويؤملون كأنهم باقون إلى آخر الدهر ومن هنا ترى الشاب والكهل والشيخ يستوون في المطامح والأطماع
كثرة التحليل والتعليل والتدبر كثيراً ما تكون سبيلاً للفشل بدل أن تكون عوناً على النجاح
يضطر المرء أحياناً أن يمثل دور المخدوع، لعله أن يقلل من أذى الحاقدين وشرهم، لا سيما إذا كانوا ذوي حول وسلطان
حتى الأعراض تهون عند البعض في سبيل الانتقام
خير للمرء أن يخطئ مع التجربة من أن يتجنب التجربة كيلا يخطئ
تعوُّدك الأمر من الأمور أسهل جدّاً من انقطاعك عنه
في الناس الميل لذكر السيآت ونسيان الحسنات، لأنهم في قرارة نفوسهم لا يحبون أن يكونوا المحسن إليهم، ويودون دائماً أن ينالوا ما يشتهون بجدهم وسعيهم
في طبيعة الناس جميعاً الملل من المؤثر يجيء على وتيرة واحدة ومن هنا ترى الناس على الإطلاق يتمنون لو يبدَّلون أحوالاً بأحوال وأوضاعاً بأوضاع مع العلم واليقين أن
الأحوال والأوضاع الجديدة قد لا تكون خيراً من الحال والوضع القديم
السياسي كالدجال يعتمد على خداع الفكر كما يعتمد الدجال عل خداع البصر.
إذا اشتد الجدل حول الرأي من الآراء أو الخطة من الخطط وانتصر الرأي أو الخطة، فمن الخير والحكمة أن ننزل بالرأي أو الخطة درجة أدنى من التقدير، وذلك أن حرارة النضال وشهوة الفوز لا بد أن تكون أخرجت الرأي أو الخطة عن نطاق الصحة وصدق التقدير.
معارك الفكر الكبرى تترك كثيراً من قتلى الأفكار الأبرياء كما أن المعارك الحربية تترك كثيراً من القتلى في غير ميادين القتال.
السعادة كالأفق دائماً أمامك.
ليست الفضيلة أن تمتنع عما لا تستطيع، إنما الفضيلة امتناعك عما تطوله يداك وتخصه بهواك.
إذا أكثر المرء الحديث في فضيلة من الفضائل فشك في نصيبه منها
إذا جاء الإعجاب بالشيء بعد كره له، فذاك هو أصدق الإعجاب
الإعجاب المفاجئ كثيراً ما ينتهي بالكره والاحتقار
الابتكار بالطبع غير الإغراب، ولكن كثيراً ما يلتبس الواحد بالآخر. ومن هنا يجب ألا يخدعنا الإغراب عن مكان الابتكار فيه، إن يكن تحته ابتكار
من الكتاب من لا يريد أن يريك الفكرة في وضاحة من الألفاظ واستقامة من الأسلوب، وذلك لأنه ليس على يقين من فجة هذه الفكرة أو صدقها، فيرى أن يلفَّفها ويغمَّضها بالملتوي من الأسلوب ومبهم البيان
حديث النعمة لا يعرف الاعتدال، فإما السرف الشديد أو الكزازة
الدنيا مع الواقف
الفشل أشدُّ أثراً في حياة الأفراد من النجاح
ليست النتيجة بقياس صحيح لجودة الرأي وصواب النهج والخطة، فقد ينتهي الرأي الخاطئ على غير انتظار بنتيجة طيبة وقد ينتهي الرأي الصائب بنتيجة سيئة
قدَّر السوء والشرَّ نتيجة لما تسعى. فان جاءك الخير أحسست به قوياً، وإن جاءَك الشر يكن لك من توطينك النفس عليه واقياً يقيك أذى اليأس وأخطار الخيبة
الشخصية القوية الواضحة كالفكرة القوية لا تزيدها المقاومة إلا رسوخاً وظهور معالم
منتهى الشك بدء اليقين.
الطفولة أسعد أوقات الحياة لأنها الدور الأوحد الذي يستطاع العيش فيه للحاضر دون الآتي أو الغابر من الزمن.
تظلم الثعلب إذ تشبه بمكره رياء الناس. فهو يمكر ويختل تحت أقسى الظروف، وأشد الضرورة، أما أكثر الناس فيختلون ويمالئون ويراءون تترفاً وفي غير حاجة سوى حاجتهم إلى إظهار الصغار وهوان النفس.
حتى الصغائر تظهر صغيرة في صغار النفوس.
عند الاضطراب تتقارب صفات الخلق.
يبلغ من لؤم الطبع في بعض الناس أن يؤذوا الأصدقاء إذا وُجد بينهم أعداء يريدون لهم الأذى ولا يستطيعون أن يفردوهم لأذاهم من بين هؤلاء الأصدقاء.
لو أتيح أن يتساوى جميع الناس في الفضائل، لأضحت رزائلنا ضرباً من الامتياز يُرغب فيه ويُسعى إليه.
التوقح أشرف من الرياء، فهو على الأقل يدلُّ على الجرأة
عاد مشتركاً - إن أمكن - وصادق منفرداً.
الإقدام لا يكون شجاعة إلا مع تقدير الخطر.
كل شيء يخف أثره وقيمته إذا تكرر إلا التضحية.
من ضحى مرة وأعادها ثم أعادها، بعد إنكار لها، فمنزلته فوق منزلة البشر.
أعط بعض ذاتك تعط كل ذاتك.
أديب عباسي
رسَالَة الشَّعر
مختارات من أدب الرافعي
(على جسر كفر الزيات كان للرافعي في صدر شبابه مغدى
ومراح ومن عيون الملاح على هذا الجسر تفتحت زهرة شبابه
للحب؛ و (العصفورة) التي ينسب بها الرافعي في القصيدة
التالية فتاة من بنات كفر الزيات لقيها على الجسر فهفا إليها
قلبه وتحرك لها خاطره، وهي كانت أول هواه، وعمره يومئذ
اثنتان وعشرون سنة)
محمد سعيد العريان
عصافير يحسبْن القلوبَ من الحَبَّ
…
فَمَن لي بها (عصفورةً) لقطت قلبي
وطارت فلما خافت العينُ فَوْتَهَاَ
…
أذالت لها حبّاً من اللؤلؤ الرطبِ
فياليتني طير أُجاوز عُشَّها
…
فيُوحشَها بُعدي ويؤنسَها قربي!
وياليتها قد عشَّشتْ في جوانبي
…
تُغرَّد في جنب وتمرح في جنب
ألا يا عصافير الرُّبى قد عشقتُها
…
فهُبَّي أعلمْك الهوى والبكا هُبَّي
أعلمُك النَّوح الذي لو سمعْتِه
…
رثيتِ لأهل الحب من شغف الحب
خذي في جناحيك الهوى من جوانحي
…
ورُوحي برُوحي لَّلتي أخذت لُبَّي
نظرتُ إليها نظرةً فتوجَّعت
…
وثَنَّيْتُ بالأخرى برُوحي فدارت رَحَى الحرب!
فمِن لحظة يَرمي بها حدّ لحظةً
…
كما التحم السيفان عضباً على عضب
ومن نظرة ترتدّ من وجه نظرة
…
كما انقلب الرُّمحان كعباً إلى كعب
فساقت لعيني عينُها أيَّ أسهم
…
قذفن بقلبي كلَّ هول من الرعب
وساق لسمعي صدرها كلَّ زفرة
…
أقرَّت بصدري كل شيء من الكرب
ودارت بيَ الألحاظ من كل جانب
…
فمنهن في سلْبي ومنهن في نهبي
فقلت: خُدِعْنا، إِنها الحرب خدعة
…
وهوَّنَ خطبي أن أسْرَ الهوى خطبي
فقالت: إذا لم تنجُ نفسٌ من الردى
…
فحسبك أن تهوى فقلت لها: حسبي
ولي العذر إمّا لامني فيكِ لائم
…
فأكبر ذنبي أن حبَّك من ذنبي
ويا من سمعتم بالهوى، إنما الهوى
…
دمٌ ودمٌ: ها ذاك يصبو وذا يُصْبى
متى أئتلفا ذَلاَّ وَدَلاَّ تَعَاشُقاً
…
وإلا فما في رونق الحسن ما يَسبي
سَلوني أنبئْكم، فلم يدرِ ما الهوى
…
سواي، ولا في الناس مثليَ من صَبّ
إذا شعراء الصّيد عُدُّوا فإنني
…
لَشَاعرُ هذا الحسنِ في العُجْمٍ والعُرب
وإن أنا ناجيتُ القلوب تمايلتْ
…
بها نسماتُ الشعر قلباً على قلب
وبي مَن إذا شاءتْ وصفتُ جمالهَا
…
فوالله لا يبقَى فؤادٌ بلا حُب!!
من الغيد، أما دَلُّها فملاحةٌ
…
وأما عذابي فهو من ريقها العذبِ
ولم يُبقِ منها عُجْبُها غيرَ خطرةٍ
…
ولا هي أبقتْ للحسان مَن العُجب
عرضْتُ لها بين التذلُّل والرضا
…
وقد وقفتْ بين التدلُّل والعَتْب
وأبصرتُ أمثال الدُّمَى يكتنفها
…
فقلت: أهذي الشُّهب أم شبه الشهب؟
فما زال يَهدي ناظري نورُ وجهِها
…
كما نظر المَلاَّحُ في نجمة القطب
وقد رُحْنَ أسراباً وخِفْتُ وشاتَها
…
فعيني في سرب وقلبيَ في سرب
وقالت: تجلَّدْ. قلت: يا ميَّ سائلي
…
عن الحزن يعقوبا ويوسفَ في الجب
وما إن أرى الأحباب إلا ودائعاً
…
تُرَدُّ، فإما بالرضاء أو الغصب.!
سنة 1902
مصطفى صادق الرافعي
في هدأة الليل
قيثارتي. . .
(كأنما قلبي في خفقة
…
فراشة أنت لها المشعل)
الكَونُ سّاجٍ، وَالدُّجَى مُسْبَلُ
…
وَالبَدْرُ فِي هَالتِهِ يَرْفُلُ
والليْلُ كاليَمِّ بَعِيدُ المَدَى
…
لا آخِرٌ يُرجَى وَلا أُوُّلُ
ونَسْمَةُ الأَمَوَاجِ خَفَّاقَةٌ. .
…
حَيْرى فَلَا قَصْدٌ وَلا مَوْئِلُ
رَخِيَّةُ الأَنْمُلِ في مَسِّها
…
كأَنَّهَا فِي لِينهَا المَخْمَلُ
وَالنَجْمُ وَهْنَانُ السَنَا رَاجِفٌ
…
وَالطَّيْرُ مَعقُودُ اللَّهَا مُجْفِلُ
فَسَلْسِلِي الأَنْغَامَ في هَيْنِةٍ
…
كما سَرَى في الْجَدْوَلِ السلسَلُ
وَرَقْرِقِي الأَلْحَانَ نَثْمَلْ بِهَا
…
فَمِنْ رَقِيقِ اللحْنِ مَا يُثْملُ
أَغْفَتْ لِحَاظُ الكَونِ مِنْ حَوْلنا
…
وَغَابَ في أَغْصَانِهِ البُلْبُلُ
وَأَسْبَلَ الجَفْنَ بَنَانُ الكَرَى
…
وَأََسْدَلَ السُّجْفَ الدُجَى المُسْدِلُ
وَعُدْتُ فِي الليْلِ وقيثَارَتي
…
تُرَجِّعُ اللحْنَ وتَسْتَرْسْلُ
لَحنٌ كما الحُلْمُ رَفيف الرُؤَى
…
يَحْفِلُ بالآمَالِ ما يَحْفلُ
قَدْ فاضَ في قَلْبيِ فأَحْيَا بِهِ
…
مَا كادَ مِنْ نَضْرِ المِنى يَرْحَلُ
كأَنَما أَوْتَارُهَا جَدْوَلٌ
…
يَنْهَلُ مِنْهُ الرّوْضُ مَا يَنْهَلُ
رُوحِي عَلَى ضَفاّتهِ نَبتةُ
…
حَيَاتها فِي رَوضْهَا اَلْجدْوَلُ
كَمْ تُسْكِرُ النَّفْسَ أَراَنِينُهَا
…
وَيَسْتَخِفُّ القَلْبَ مَا يُذْهلُ
كأَنَّمَا أَلْحَانُهَا نَسْمَةٌ. .
…
تَرُحُ بَينَ الزهْرِ أَوْ تُقْبِلُ
وَالقَلْبُ في هَبَّاتِهَا زَهْرَةٌ
…
تُرْسِلُهَا الأَنْسَامُ مَا تُرْسِلُ
يا أَيُّهَا القَلْبُ إلَامَ الأَسَى
…
والكَوْنُ صَافٍ حَوْلَنَا يَجْذَلُ
أَذْبَلتنِي مِنْ طُولِ ذَاكَ الضَّنَى
…
وَالزهْرُ أنْ طَالَ المدَى يَذْبُلُ
فَدَعْ أَسَى الدُّنْيَا وَآلامَهَا
…
واطْرَحْ مِنَ الأَشْجَانِ مَا يُثقْلُ
حُثَّ الْخُطَي وانْعَمْ بِصَفْوِ الصَّبَا
…
فالْعُمْرُ يَحْبُو، والضَّبَا يأْفِلُ
مَا خَلْفَ العُمرِ إلاَّ الرَّدَى
…
نِهَايَةُ السُّنْبُلةِ المِنْجَلُ
قيثَارَتِي هُزَّي الدُّنَا نَشْوَةً
…
كما تَهُزُّ السُّنْبُلَ الشَّمأَلُ
كأَنَما قَلْبَي في خَفْقِهِ
…
فَرَاشَةٌ أَنْتِ لَهَا المِشعَلُ
إن أَبْقَتْ الدُّنْيَا لَهُ مَأْمَلاً
…
فأَنْتِ سُؤْلُ وَالمأْمَلُ
فَسَلْسِلِي الأَنْغَامَ في هَيْنَةٍ
…
كما سَرَى في الْجَدوَل السلْسَلُ
وَرَقْرِقي الأَلْحَاْنَ نَثْملْ بِهاَ
…
فمِنْ رَقيقِ اللحنِ مَا يُثْملُ
إسكندرية
احمد فتحي مرسي
حمامة الموكب
// لا والذي علم الغيوب وصانها
…
لا أدعي علماً بأي مغيب
لكن فطنت إلى دقائق حاضري
…
فنظرت للآتي بعين مجرب
إن الحمامة فوق ركب مليكنا
…
روح النبي محمد في الموكب
هذي مبايعة بسرٍ ما انجلى
…
وسينجلي في لمحة أو أقرب
ركن الخلافة لن يظل معطلاً
…
تاج الخليفة بين أجنحة النبي
واهاً لكم يا آل مصر رأيتمو
…
روح الرسول على الفناء الأرحب
هبطت على القصر المنيف بسحره
…
ميمونة يوم الخميس الأطيب
ورأت خليفتها لدى استيقاظه
…
في الفجر نعم المجتَبى والمجتِبي
ولى المتوج وجهه مستقبلاً
…
بيت الإله بعزة وتهيب
ذرعت له أفق السموات العلا
…
لتراه يوم حلوله في المنصب
لترى معزاً دينها ومجدداً
…
سلطانها ومعيد عزة يعرب
وافرحة الورقاء لما شاهدت
…
تقوى الإله وعزة المتربب
أمنت على القسم العظيم وليه
…
وحبته سر طريقها والمذهب
وافرحة الفاروق بالروح التي
…
نزلت على أهل لديه ومرحب
فاروق يا مولاي إن إشارة
…
أغنت لديك عن المقال المسهب
المشرق الأقصى رنا إسلامه
…
شوقاً إلى مصر وأقصى المغرب
يرجو إمامتها وأنت إمامها
…
أيذاد عندك ظامئ عن مشرب
عبد اللطيف النشار
القَصَصٌ
مهر الوظيفة
للأديب نجيب محفوظ
كانوا أربعة فتيان، جمعتهم في البدء نشأة الصبا على ما بين القصور الشماء والبيوت البسيطة من تفاوت ونفرة، وآخت بينهم زمالة الدراسة الطويلة ما بين ابتدائية وثانوية وجامعية، وأغراهم بالطموح إلى المجد اجتهاد عظيم وعزم متوثب ونجاح مؤازر لم يخنهم عاماً من الأعوام حتى غدوا تملأهم الثقة ويلهب قلوبهم الحماس.
وذكروا في حياتهم الدراسية العالية مثالاً لهم شرذمة من رجال مصر نشأوا على الإخاء نشأتهم، وتزاملوا في الدراسة زمالتهم. ثم كان منهم الوزير الخطير والمالي الكبير والفيلسوف الحكيم والمشرع العبقري، جعلوهم نبراساً منيراً بهداه يهتدون، ومن قوته يستمدون، وبعظمته يرجون ويأملون، ولم تقصر أخيلّتهم عن التوفيق والابداع، فربط كل منهم نفسه بواحد من هؤلاء العظام أما لصفة ظاهرة أو سجية غالبة أو خلق معروف.
فلما أن حصلوا على ليسانس الحقوق ووضعوا أول قدم في طريق الحياة العملية الجديدة انتظر كل منهم نصيبه داعياً أن يجد فيه ما يحقق أحلامه ويؤدي إلى هذه الحياة التي سعى إليها طويلاً وبذل النفس كي يحقق مثلها الأعلى، وما كانت الوزارة لدى الزميل منهم إلا بعض أحلامه. . .
وفي الفترة التي أعقبت ظهور النتيجة ارتحل اثنان من الأربعة - وهما الثريان - إلى المصايف كعادتهما كل عام، وسافر واحد من الاثنين الباقيين إلى كفر الشيخ مسقط رأسه، وبقي في القاهرة (الأستاذ) جودة وهو شاب بسيط الحال من أسرة فقيرة في الصيت والرجال، عميدها موظف صغير بالبريد جاوز الخمسين ولم يجاوز مرتبه خمسة عشر جنيهاً، ولم ين الشاب عن السعي فحرر عدة طلبات استخدام وأرسلها إلى وزارة الحقانية وأقلام القضايا في الوزارات المختلفة، وكان طيب القلب قليل الخبرة فانتظر على شيء من الأمل والاستبشار، وفات يوم ويومان وأسبوع وأسبوعان، وشهر وشهران ولم يلق رداً أو يرى في الأفق بشيراً من الأمل، فراجع نفسه في تفاؤله وتلفت يمنة ويسرة فلم يجد من يهتم لشأنه سوى أبيه العجوز الضعيف الذي لا يملك له ضراً ولا نفعاً.
وعلى غير انتظار زاره صديقه رشدي ففرح به أيما فرح وكان في أشد الحاجة إلى من يبادله الرأي ويبثه الشكوى ويتقبل منه العزاء، فبادره سائلاً:(أراجع أنت من كفر الشيخ. . .؟)
فرد عليه الشاب وهو يتنهد:
(أي كفر الشيخ يا رجل. . . لقد كنت تلك الشهور التي غبتها عنك كالرحالة أجوب البلدان وأزور الرجال وأتسقط الرزق. . . والآن ما أخبارك أنت. . .؟)
(لا شيء مطلقاً سوى أني سعيت للتوظف وعدت من مسعاي بالخيبة. . . هل من أخبار عن صديقنا حامد وإبراهيم؟)
(أخبار سعيدة والحمد لله. . . هما الآن موظفان بالحكومة المصرية. .)
(مبارك حظهما. . . ولكن كيف حدث هذا. . .؟)
(كيف حدث هذا؟ أتحسب أن حامداً يشقى في طلب وظيفة وأبوه مستشار في محكمة النقض والإبرام؟ لقد كان تعيينه بالنيابة العمومية أمراً مفروغاً منه من يوم أن التحق بالكلية)
(حسن. . وإبراهيم؟ نعم إن إبراهيم غني ولكن أهله فلاحون وليسوا من ذوي المناصب الحكومية. . .)
(المال أبو الخوارق، وإبراهيم شاب جسور، أفتعلم ماذا صنع. . . ذهب إلى وكيل وزارة الخارجية وهو من بني بلدته، وطلب يد ابنته ومهرها ألف جنيه. . . ولما كانت هذه الفتاة من ذوات الأمزجة الرقيقة اللاتي لا يجوز أن يمضين شهر العسل في مصر فعما قريب سنذهب جميعاً لتوديع صديقنا العزيز وهو في طريقه إلى السفارة المصرية بروما. . .)
فبدت الدهشة على وجه الشاب وتساءل:
وما الذي زكاه - وهو شاب ناشئ - فطاب في عيني هذا الرجل الخطير. . . ومثل ابنته يتنافس فيها خيرة الموظفين الممتازين. .؟
(ما فائدة التساؤل؟ هب أنها عاطل من الجمال. . . أو أن رشاشاً يبلل سمعتها. . أو. . أو. . فما يهمني سوى رواية ما عندي من الأخبار. . .)
وصمتا لحظة جامدين خلا فيها كل منهما إلى أفكاره ثم نظر الشاب إلى رشدي وقال:
(ها إن الصديقين يرسمان الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى المجد ولا يبعد أن يحققا مرة أخرى المثل الأعلى الذي سبق أن حققه الباشوان اللذان كان الصديقان يترسمان شخصيتيهما)
فأحنى الأستاذ رشدي رأسه مؤمناً فعاد الآخر إلى سؤاله بعد تردد:
(وأنت. . .؟)
(أما أنا فقد سعيت كما سعيت وأغلقت الأبواب في وجهي كما أغلقت في وجهك ولكني لم أسلم للخيبة كما سلمت لها، ففي ميدان المحاماة متسع لجميع ذوي العزائم والهمم، والمحاماة ميدان تبرز فيه ملكات الرجال ومزاياهم، فلا ينبغ فيها إلا كل عبقري جبار؛ وما أجدرها أن تبلغ بي ما تتمنى نفسي من المثل الأعلى. .)
هذا جميل، ولكنه لا يستطيع أن يحتذي حذو رشدي ولا أن يأمِل آماله، فآل رشدي على شيء من الثراء يمكنهم من أن يؤيدوا الشاب حتى يقف على قدميه، أما هو فلا يمكن أن يطالب أباه بشيء من هذا، لأنه يعلم علم اليقين أنه شيخ فقير. وأنه يربي خمسة من البنات والبنين، فما عسى أن يصنع. . .؟
لقد أظلمت الدنيا في عينيه وذوت أزاهر آماله اليانعة وبات يذكر أحلامه عن المجد والوزارة بالاستهزاء المرير والسخرية الأليمة، وداخله شعور قوي بتفاهته وتفاهة الدنيا وأحلامها ومسراتها، فعاش زمناً في ظلمة أشد حلكة من ظلام القبور.
وبعد حين زاره فجأة الأستاذ رشدي، وكان في هذه المرة منشرح الصدر جذلاً مسروراً فبادره بقوله: -
(قل معي يا بشري. . . لقد اهتديت إلى كنز ثمين. . . فأصبت منه حظاً وأرجو أن تنال منه مثل حظي. .) فنظر إليه نظرة المريض المشرف على الهلاك إلى طبيبه. فاستطرد رشدي قائلا:
(لن تغرب شمس الغد علي حتى أكون من الموظفين. . من أعضاء النيابة العمومية. .)
(مبارك. .)
(أرجو أن أهنئك بدوري عما قريب. . والآن أصغ إلي فإني أعلم أنك تتلهف إلى معرفة حقيقة المسألة. هو مكتب للمعاملات المالية في الطابق الخامس من عمارة رقم 85 شارع
سليمان باشا مديره رجل في الأربعين حنكته الأيام والتجارب ففاق الفلاسفة فهماً للنفوس والرجال، يعرفه جميع الماليين وكبار الموظفين لأنه يقرض النقود بأرباح هادئة. وقد غدا بحكم اتصاله بكبار رجال الدولة من زبائنه ذا نفوذ عظيم له ظاهر يعلمه الناس جميعاً وباطن يعلمه هو وهم وأمثالنا من ذوي الحاجات. . هلم أدلك على قريب لي من أصدقائه المقربين، خاطبه في أمرك فان رأى أن شروطك ملائمة كان واسطتك إليه، وثق يا صديقي أنه إذا كتب لسعيك لديه النجاح فانك لا شك غداً من موظفي الحكومة الممتازين)
وفي عصر ذلك اليوم كان عند قريب الأستاذ رشدي. . . وقد قدمه إليه صديقه فلقي منه ترحيبا شد عزيمته وأنعش أمله، قال له الرجل بعدما بسط له مسألته:
(أذكر لي الوظائف التي ترغب في الالتحاق بإحداها)
فأجابه جودة:
(النيابة العمومية. . . قلم القضايا. . . السفارات أو القنصليات. . .)
(أوه. . . إنك تنظر إلى علُ. . . فما هي مؤهلاتك. . .؟)
(ليسانس الحقوق)
(شهادة في ذاتها مبجلة. . . ولكن ليس العبرة بالشهادات. . . هل لك أقارب من ذوي المناصب. . .؟)
فضحك الشاب وقال:
(لو كان لي ما سعيت إليك. . .)
(حسن. . . من يطلب ثميناً فليدفع ثميناً. . . إلا أني أرجو أن تذكر أنه ما أنا إلا واسطة نزيهة، وإني إن مددت لك يدا فلأنك صديق رشدي ولأنه حدثني عنك بما جعلني أقدرك وأعطف عليك. . . والآن أسمح لي أن أعرض عليك الوسائل التي قد تبلغ بك إلى غايتك المقصودة، وما علّي جناح إن لم يصادف بعضها هواك لم يستحق احترامك فعلي العرض وعليك الاختيار. . .)
فأحنى الشاب رأسه أن نعم؛ فاستطرد الرجل همسا:
(النساء من أنجع الوسائل تحقيقاً للغرض. . . أم جميلة. . . أخت شابة. . . زوج ظريفة. . . أرى وجهك تحتقن فيه الدماء. . وتلتهمه سورة الغضب، حسن فلندع هذه الوسيلة. . .)
(نعم. . . نعم. . .)
(وسيلة أخرى شريفة جداً. . . الزواج. . . ولكنه ليس زواجا بهذه الفتاة أو تلك. . . وإنما هو طلب الانضواء تحت لواء اسم كبير. . . أو أسرة عتيدة. . .)
فانبسطت أسارير وجه الشاب وخفق قلبه من نشوة الأمل وصاح:
(هذا علي هين. . .)
(لا تتسرع فليس الأمر كما تظن. . . فشهادتك لا تكفي. . . هذه الأسر تهمها المحافظة على المظاهر. . . وصون اسمها عن انتقادات الصالونات ما أمكن. . . فمهر كبير يخرس الألسن ويدعم أي ادعاء وإن بعد عن الحقيقة. . .)
فعاوده اليأس واستشعر الخيبة مرة أخرى وقال: -
(فلألحق بوظيفة. . . وليدعوا لي فرصة حتى اقتصد من مرتبي وأفي بوعدي. .)
(وما الداعي لرهان غير مضمون. . . والزبائن النافعون غيرك غير قليلين. .؟)
(إذاً هات وسيلة أخرى. . .)
(وا سفاه إنها لا تكاد تختلف عن هذه إلا في الاسم. .: هي المال)
(وكم ينبغي أن أدفع؟)
(مهر الوظائف التي تطلب من الألف فصاعدا. . .)
الألف. . . إن والده لم يربح من الحكومة طوال عمره بها ضعف هذا المبلغ فكيف يأتي به في ساعة من الزمن؟ أواه. . . إن اليأس ينشب فيه أظافره فيستقر في قلبه. . . ولكن التمعت في ذهنه فكرة فصاح:
(لم لا يقرضني صاحبك المرابي المبلغ الذي يريد ويكتب علي صكا أسدده فيما بعد من مرتبي؟)
(فكرة حسنة، ولكنه رجل مرت به جميع التجارب وهو يرفض عادة أن يقرض مبالغ ضخمة لغير ذوي المراكز المالية المضمونة، ولكنه قد لا يرى بأساً من كتابة صكوك وهمية كهذه بمبالغ صغيرة. . . مائة جنيه أو مائتين لمن يرغب في وظيفة كتابية مثلا. . .)
وظيفة كتابية؟ أين هذه من المجد والوزارة ومَثَله الباشا العظيم؟
ولكن ما باليد حيلة وقد سدت في وجهه الطرق وأظلمت الدنيا في عينيه فينبغي أن يغض عن الآمال العالية ولو إلى حين ريثما يبحث عن كسرة الخبز أولا، ومن يعلم فقد تتمخض البداية الصغيرة عن نهابة عظيمة؛ فكم من الوزراء بدءوا كتبة في المحاكم المقبورة في أقاصي الصعيد.
وهكذا اضطر إلى أن يحول قلبه عن محركات الدولة الكبرى إلى آلاتها الصغرى الميكانيكية التي تتحرك ولا تدري لم تتحرك أو كيف تتحرك.
وأصبح ذات يوم فوجد نفسه في حجرة واسعة تتزاحم فيها المكاتب الهرمة يقعد وراءها قوم خيل إليه - لجمودهم وتفاهتهم - أنهم قطعة من بنيانها المتهدم.
المركز صغير. . والمرتب ضئيل. . ترى هل ينتظر طويلا كي يضخم هذا المرتب أو يعلو هذا المركز؟ واقترب برأسه من زميل له وسأله همساً:
(ما موعد علاوتي المقبلة؟)
فنظر إليه الرجل دهشاً ورد عليه بصوت مسموع رنان:
(يحل موعد علاوتك - ومقدارها جنيه واحد - بعد أربع سنوات بصفة اسمية تصير فعلية بعد سنة فالمدة كلها خمس سنوات. . .)
ولفتت إجابة الرجل انتباه الحاضرين فعرفوا بداهة السؤال الذي اقتضى هذه الإجابة فلم يملكوا أنفسهم من الضحك. . . ومن حقهم أن يضحكوا من هذا الشاب الذي يسأل عن موعد علاوته ولما يمض عليه في العمل أسبوع، وقال له واحد منهم:
(ستعلمك هذه الوظيفة أن تستهين بمتع فترة من عمرك وهي الشباب. . . فتستحث كل يوم - من أجل جنيه واحد - خمس سنوات من العمر اليانع أن تفوت وتنطوي. . .!)
نجيب محفوظ
البَريدُ الأدَبيّ
دولة الأدب والعهد الجديد
يحق لدولة الأدب أن تتطلع إلى العهد الجديد، عهد الملك الفتي فاروق الأول، وأن تؤمل أن تجتني من الرعاية والشباب والجدة ما يسبغ عليها قوة جديدة ويحملها إلى آفاق جديدة أوسع وأعظم من آفاقها الحاضرة، وقد كنا وما زلنا نؤمل أن تفتتح الهيئات الرسمية والعلمية العهد الجديد بطائفة من المشاريع العلمية والأدبية الجليلة؛ ومن بواعث الأسف أن الجهات الرسمية لم تفطن إلى أهمية هذه المناسبة السعيدة وكونها من أصلح الظروف لوضع المشاريع الأدبية وترتيب الجوائز العلمية والأدبية، وقد رأينا الأمم الأوربية تتخذ هذه المناسبات لتنظيم الرعاية الأدبية وتنظيم المشاريع والجوائز العلمية الجليلة، ورصد الاعتمادات والهبات لتشجيع الحركة الفكرية وتشجيع الكتاب والمفكرين، وافتتاح العهد الجديد بنوع من الحملة الأدبية والعلمية تسبغ على الحركة الفكرية حياة جديدة. أما في مصر فقد مرت هذه المناسبة الجليلة، مناسبة تتويج الملك الشاب وافتتاح عهده الغض الجديد دون أن تحظى الحركة الأدبية من جهاتنا الرسمية والعلمية بما كان خليقاً أن تحظى به من المشاريع والجوائز؛ ولم يفطن إلى هذه المناسبة سوى دار الكتب المصرية إذ رتبت عدة جوائز أدبية من الكتب للمتفوقين من الطلاب؛ وهذا الإجراء على ما ينطوي عليه من معنى مشكور إنما هو إجراء متواضع كنا نود أن يصدر مثله مضاعفاً من هيئاتنا الرسمية العلمية؛ وقد كان خليقاً بوزارة المعارف العمومية والجامعة المصرية والأزهر ومجمع اللغة أن تنظم جميعاً مشاريع وجوائز علمية تعلن في مفتتح العهد الجديد وتكون عنوان عصر جديد من الأحياء العلمي والأدبي ولكنها جميعاً غفلت عن هذه الفكرة الجليلة. على أن الوقت ما زال متسعاً للتفكير والعمل؛ وما زلنا نؤمل أن تنتهز هيئاتنا العلمية هذه الفرصة لتعمل على شد أزر الحركة الأدبية بصورة عملية؛ وإذا كانت الحركة الأدبية قد حققت لنفسها في العصر الأخير تقدماً يبعث إلى الفخر والرضى، فقد كانت في ذلك مستقلة تعمل من تلقاء نفسها، ولو حظيت بقسط من الرعاية الرسمية لكان تقدمها مضاعفاً، فهل نظفر في العهد الجديد بمثل هذه الرعاية الكريمة؟ هذا ما نرجو، وهذا ما ندعو إليه.
آثار للشاعرة سافو بمصر
عثر أحد علماء الآثار الإيطاليين وهو السنيور بريشا والسيدة ليديا نورسا أثناء مباحثهما في مصر عن الآثار الخزفية القديمة على قطعة من الخزف ترجع إلى القرن الثاني من الميلاد، وقد نقشت عليها ثمانية عشر سطراً من نظم الشاعرة اليونانية الشهيرة (سافو)، وهي أول مقطوعات من نوعها وجدت لهذه الشاعرة وقد قام بترجمة هذه النقوش العلامة الإيطالي جو فريد كوبول، وظهر من تلاوتها أن الشاعرة قد كتبتها أثناء إقامتها بجزيرة أقريطش، وهي في ملخصها ترنم بمحاسن الطبيعة والأحراج الخضراء في تلك الجزيرة.
وسافو كما هو معروف أعظم شاعرة عرفت في التاريخ، وهي يونانية عاشت في أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد، وهي صاحبة أعظم وأجمل مقطوعات غنائية عرفتها دولة الشعر.
ومن الغريب أن تخرج هذه التحفة الأثرية من مصر؛ ومن الأسف ألا تجد السلطات المصرية وسيلة لمنع هذا السيل المتسرب من تحفنا وآثارنا.
مؤتمر للصيد تمثل فيه مصر
من أنباء برلين أنه سيعقد بها مؤتمر دولي عظيم للصيد في شهر نوفمبر القادم؛ وسيقام إلى جانبه معرض للصيد يكون أعظم ما عرف العالم من نوعه إذ سيغطي مساحة قدرها نحو عشرة أفدنة، وسيضم نماذج من آلات الصيد ومناظره المختلفة منذ فجر التاريخ إلى يومنا، وستشترك مصر في هذا المؤتمر، وترسل نماذج وصوراً من آثارها المتعلقة بالصيد عند الفراعنة لتعرض في هذا المعرض العظيم.
العيد المئوي لدار نشر عظيمة
احتفلت دار النشر الألمانية الشهيرة (تاوخنتز) بعيدها المئوي؛ ولعله لا يوجد بين مئات الملايين اللذين يقرءون الإنكليزية في مختلف أنحاء الأرض من لا يعرف مطبوعات هذه الدار الشهيرة التي اشتهرت بجمالها وأناقتها واعتدال أثمانها؛ وقد كان تأسيس هذه الدار في سنة 1837 على يد كرستيان برنهارد تاوخنتز، أسسها لتقوم بنشر مؤلفات الكتاب البريطانيين والأمريكيين وبالفعل لم تترك علماً من هؤلاء الكتاب اللذين يكتبون بالإنكليزية إلا نشرت جميع مؤلفاته في قطع جميل موحد، وتضمنت مطبوعاتها مؤلفات جميع كتاب
العصر الفكتوري مثل ليتون وتاكري وكارلايل ودكنز وكولنس وهاردي وكونان دويل وكابتن ماريات، وجميع الكتاب الأمريكيين مثل كوبر ومارك توين وبريت هارت وادجار بو وهاو تورن وغيرهم؛ وقد جرت الدار على أن تنشر مؤلفات الكاتب كلها في نفس القطع والشكل؛ وقد أخرجت حتى يومنا أربعين ألف مجلد و5260 كتاباً للمؤلفين الإنكليز والأمريكيين في القرن الماضي والقرن الحاضر.
ومن الغريب أن دار تاوخنتز كانت تنشر كتب المؤلفين دون استئذان ولكنها كانت ترسل إليهم بعض تعويضات عن حقوقهم وكان ذلك صنيعاً يحمد من جانبها لأنه لم يكن هناك في ذلك العصر تشريع دولي لحماية المؤلفين وحقوق التأليف، ولكن مطبوعات تاوخنتز لم يكن يسمح بدخولها في إنكلترا ولا الأملاك البريطانية لاعتدائها على هذه الحقوق فيما يظهر، بيد أن السائح الإنكليزي يشتري منها خارج بلاده بكثرة، ويشتريها جميع اللذين يتكلمون الإنكليزية في مختلف البلاد. ويقدر أن قراءها من الإنكليز لا يزيدون على عشرين في المائة بينما يقدر قراؤها من أبناء الأمم الأخرى بنحو ثمانين في المائة.
وفي سنة 1934 بيعت حقوق أسرة تاوخنتز في النشر إلى دار نشر ألمانية أخرى في ليبزج هي دار أوسكار براندشتتر، وهي تقوم أيضاً بنشر المؤلفات الإنكليزية تحت عنوان معروف هو (مكتبة البتروس)
التاريخ السياسي المعاصر
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن التاريخ السياسي المعاصر عنوانه (العلاقات الدولية منذ معاهدة الصلح) لمؤلفه المؤرخ الأستاذ هنري كار وقد كان الأستاذ كار مدى أعوام طويلة، من كبار موظفي وزارة الخارجية البريطانية، وأتيحت له فرصة حسنة لدراسة العلاقات الدولية عن كثب ومراجعة المحفوظات والوثائق الهامة؛ وهو يقدم لنا في كتابه عرضاً موجزاً للحوادث والعلاقات الدولية منذ عقد معاهدات الصلح في سنة 1919 حتى سنة 1937، ومن رأيه أن معاهدة فرساي كانت وثيقة سيئة لم يحسن وضعها، لأنها قصدت في مجموعها إلى إذلال ألمانيا وانتهاز فرصة هزيمتها وضعفها إلى حدود أبعدت الشعب الألماني نهائياً عن أوربا الغربية وجعلت من المستحيل على الحلفاء السابقين أن يطمعوا في ولائه أو مصادقته، ثم يستعرض الأستاذ كار سياسة إيطاليا الفاشستية وألمانيا
النازية في النمسا وأوربا الوسطى، وأن ما يجمع بين السياستين هو عاطفة السخط على الدول التي استغلت ظفر الحرب واستولت على جميع الثمار والأسلاب، ولكن هذه الجامعة السلبية ينقصها كثير من عناصر الوئام والتناسق. وكتاب الأستاذ كار على العموم سجل بديع لتاريخ الدبلوماسية الأوربية منذ خاتمة الحرب الكبرى إلى يومنا.
الحب والشعراء
قرأت المقال الطريف (في الحب أيضاً) للأستاذ الأديب إبراهيم عبد القادر المازني في الرسالة عدد 208 حتى وصلت إلى قوله: (وخليق بالمرء وهو ينظر إلى هذه الفتنة المجتمعة، أن تدركه الحيرة، وأن يزوغ بصره، فلا يعود يدري أي هؤلاء الجميلات أولى بحبه، فإن لكل جسم فتنة، ولكل محيا سحره، ولو أني وقفت على البحر لكان الأرجح أن أحب هؤلاء جميعاً، جملة، وأن أشتهي أن أضمهن كلهن في عناق واحد فإن الظلم قبيح. ونفسي لا تطاوعني على غمط الجمال في أية صورة من صوره. ومن يدري لعل القدرة على إدراك معاني الجمال في مظاهره المختلفة هي التي وقتني الحب، ومنعت أن أعشق واحدة على الخصوص وأجن بها) الخ
وهنا رأيت أن روح التصوف قد حلت في الأستاذ من غير أن يعرفها، أو يعرفها ولا يريد أن يتظاهر بها. فإنه بين الصوفية من يقول:(همه أوست) أي كل شيء هو؛ ويرى أن الله روح سائر في الكون. فكل شيء فيه مظهر من مظاهر جماله تعالى. لذلك لا وجود للقبح عندهم بل كل شيء حسن في ذاته. وهؤلاء غير من يقول (همه أزوست) أي كل شيء منه. فهم لا يقولون كقولهم إن الله روح سائر في الكون، بل إنه تعالى مصدر لوجود الكون، وإن كل شيء في الكون وميض جمال قدرته وشعاع كمال صنعه؛ وعلى هذا فلا وجود للقبح بالنسبة إلى قدرته تعالى وصنعه
ولكن هؤلاء الصوفية مع تلك العقيدة لم يضنوا بقلوبهم على فرد خاص من أفراد الجمال الكثيرة في هذا العالم كما يضن الأستاذ بقلبه. فإننا كلما تتبعنا حوادث حياتهم ودرسنا سيرتهم وجدنا أن قلب كل منهم تقريباً علق بفرد خاص من أولئك الأفراد وأصبح فيما بعد دليلاً لسموهم النفسي، وسبباً لتقدمهم الروحاني
بقى ما هو الحب؟ فينظر الأستاذ إليه نظرة المتشائم ويقول إنه مرض، وينسب ما أتصف
به الحب من المزايا والمحاسن في الشعر والأدب إلى الشعراء ومبالغتهم فيه. فكأن الشعراء هم اللذين وصفوا هذا المرض المستحق للذم بالأوصاف والمزايا تفاؤلاً فيه، وإلا فهو نفسه لم يكن خليقاً بها. لذلك ختم الأستاذ مقاله بالدعاء على الشعر والشعراء. ولكننا نقول للأستاذ ألا يبادر في الدعاء عليهم فإن للتشاؤم وجوداً في كل مكان مهما كان مصدره، سواء أكان خيبة أمل، أم كبر السن، أم فساد الطبع. فبين الشعراء أيضاً من يرى رأي الأستاذ. قال الشاعر الفارسي:
جنين قحط سال شداندر دمشق
كه ياران فراموش كردند عشق
اشتدت المجاعة في دمشق إلى درجة أن نسى الناس العشق.
وقال الآخر: أين نه عشق أست آنكه در مردم بود
أين بلا أزخوردن كند بود
إن العشق الذي يوجد في الإنسان لا أصل له فأن هذا البلاء يوجد من أكل القمح.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
القسام والقسامة، السمحة
قال الأستاذ فكري أباظة: (لماذا لا يستعمل الناس هذا اللفظ الجميل البليغ - يعني الكسم - ولا أعلم ما رأى مجمع اللغة العربية في فصاحته ودقته وروعته)
قلت: هذا (الكسم) العامي هو القسام والقسامة محرفين ناقصين ففي (التاج والأساس): (قسم قسامة والمقسم والقسيم: الجميل معطي كل شيء منه قسمة من الحسن فهو متناسب كما قيل متناصف. ورجل قسيم وسيم بين القسامة والقسام)
ومن استثقل (القاف الثقيلة) لفظها سعدية زغلولية أو محمودية رازقية (نسبة إلى محمود باشا عبد الرزاق رحمة الله عليه) أو علوية وقراءة جماعة منهم في القرآن بها - كما قال ابن خلدون - وهي متوارثة فيهم، ويرون أنها الصحيحة المضرية. وقاف الجماعة هي بين القاف والكاف
وما دمت في ألفاظ. . . فأقول: إني وجدت في هذا الشهر العربي في جريدة ومجلة وكتاب
هذه الكلمة غير الصحيحة: (السمحاء) وهي لفظة لا توجد في الأرض ولا في السماء، وإنما هي (السمحة) أي السهلة كما في (النهاية) والحنيفية السمحة هي الملة التي ما فيها ضيق ولا شدة كما في (اللسان والتاج) فهناك السمح والسمحة لا الأسمح ولا السمحاء. والحديث المشهور الذي رواه الخطيب عن جابر هو:(بعثت بالحنيفية السمحة، ومن خالف سنتي فليس مني) وهو من الأحاديث الضعيفة كما في (الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير)
للحافظ الأسيوطي
قارئ
رسالة النقد
نقد كتاب إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
لا ريب في أن نحو اللغة العربية ثقيل عسير، يحتاج إلى كثير من التهذيب والتبويب؛ ليصبح سهل المأخذ، قريباً إلى النفوس، محبباً إليها درسه وفهم قواعده وأصوله
ولقد أخذت كتاب إحياء النحو، راجياً أن أجد فيه - كما يدل عنوانه - روحا جديدة تبعث في النحو الحياة، أو فكرة حديثة تذلل صعبه، وتجمع ما تشتت من أبوابه ومسائله، وهاأنذا، بعد القراءة، أبين رأيي في الكتاب، بالصراحة التي يتطلبها العلم، وبالأدلة التي لا تدع مجالاً للشك، آملا أن أكون قد وفيت بحق النقد البريء
وسوف أنهج في بحثي النهج الذي اتبعه المؤلف، فأذكر النتائج التي وصلت إليها بعد القراءة، ثم أتحدث بالتفصيل عن الأسباب التي أدت إليها، ويؤلمني أن تكون النتائج هي:
أولاً: أن الكتاب ليس فيه شيء جديد
ثانياً: أن الكتاب لم يحدث في دراسة النحو، أو كتبه، أو قواعده أي تغيير أو تبديل
ثالثاً: أن ما في الكتاب ليس إلا تعليلات كهذه التعليلات التي يستنبطها النحاة لشرح ما بين أيديهم، مما وقع في كلام العرب، وإنك لواجد مثل هذه التعليلات التي جاء بها المؤلف، وأكثر منها في الحواشي والتقارير
رابعاً: أن المؤلف ادعى على النحاة قضايا غير ممحصة
خامساً: أنه في الأبواب القليلة التي أراد ضم بعضها إلى بعض يزيد النحو عسراً، لا سهولة وفهماً، فضلاً عن أنه لم ينجح في هذا الضم
وسآخذ الآن في مناقشة آرائه، وتفصيل القول فيها:
تعريف النحو
يأخذ المؤلف على النحاة، أنهم يعرفون النحو بأنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً
وبناء؛ وهم لذلك قد ضيقوا دائرته تضييقاً شديداً، ويجب (في رأيه) أن تتسع هذه الدائرة، حتى يصبح النحو قانون تأليف الكلام، وبيان كل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى تتسق العبارة، ويمكن أن تؤدي معناها
وليسمح لي الأستاذ المؤلف أن أخبره بأن هذا التعريف غامض الغموض كله، فبيان كل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة قول عام مبهم، يشمل بيان أن تكون هذه الكلمة مستعملة في معناها الحقيقي، أو غير مستعملة، قصد بها السجع مع كلمة أخرى أو لم يقصد، رمي بها إلى طباق أو تورية أو جناس، أو لم يُرَمَ بها، إلى غير ذلك، وعلى هذا يشمل تعريف النحو علوم اللغة العربية كلها. لأنها جميعاً ما وضعت إلا لبيان كلّ ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة؛ ثم قسمت وأصبح لكل علم اختصاص خاص؛ ولا احسبني في حاجة إلى أن أحدث الأستاذ عن اختصاص علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع، التي ترمي جميعها مع علم النحو، كما قلت، إلى بيان ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة؛ ولا أخال المؤلف يريد أن يجعل علم النحو عاماًُ شاملاً يضمّ تحت جناحيه علوم العربية كلها.
ولكن يظهر أن المؤلف (وتعريفه لعلم النحو غير محددّ ولا واضح كما قلت) يرمي بكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة إلى وصف حالها من تقديم أو تأخير أو نفي أو إثبات أو تأكيد أو استفهام، وهنا أريد أن أقف وقفة قصير نستبين فيها غرض علم النحو وغايته.
لا احسبني أبعد عن الصواب إذا قلت: إن غرض علم النحو (كما هو واضح فيما بين أيدينا من كتبه) ليس إلا تكوين الجمل تكويناً سليماً، وإقدارنا على النطق الصحيح الخالي من الخطأ في التركيب. فليس صحيحاً إذاً أن ندعي على النحاة أنهم قصروابحثهم على أواخر الكلمات، بل هم قد تعرضوا كثيراً، وكثيراً جداً، أكثر مما توهم المؤلف الفاضل إلى بيان وضع الكلمة من الكلمة والجملة من الجملة، وإلى حذف بعض أجزاء الكلام لدليل أو لغير دليل، وإلى كثير مما يعرض للكلمة من النفي والإثبات. وأكبر الظن أني أجلب السآمة للقارئ إذا أنا أخذت أحدثه عما في كتب النحو من ذلك كله، ولست أكلفه إلا أن يرجع إلى كتاب من هذه الكتب ليرى بعينيه أن المؤلف كان مغالياً كل المغالاة حين ادعى على النحاة أنهم لم يعنوا إلا بأواخر الكلمات. ولأجلب الطمأنينة إلى النفوس سوف أنقل هنا مثالاً
صغيراً يبين دعواي: قال ابن هشام في كتابه أوضح المسالك: وللفاعل أحكام: أحدها الرفع. . . الثاني وقوعه بعد المسند. . . الثالث أنه لا بد منه. . . الرابع أنه يصح حذف فعله. . . الخامس أن فعله يوحد مع تثنيته وجمعه. . . السادس أنه إن كان مؤنثاً أنث فعله بتاء ساكنة. . . السابع أن الأصل فيه أن يتصل بفعله، ثم يجيء المفعول، وقد يعكس، وقد يتقدمهما المفعول، وكل من ذلك جائز وواجب. . الخ فأنت ترى من هذا أن حكم آخر الكلمة لم ينل إلا واحداً من سبعة - بل أقل من ذلك كثيراً - من عناية ابن هشام؛ أما بقية أحكام الفاعل فهي علاقته بالكلمة التي قبله وبعده، وما يعرض لهذه العلاقة من تذكير أو تأنيث أو تقديم أو تأخير أو غير ذلك. وإذا شئت أن أعد الكثير من أبواب النحو التي تنقض ادعاء المؤلف طال بي القول وانتهى بي إلى الإملال
أما إذا قصد المؤلف إلى أن من غرض النحو أن يفضل أسلوباً على أسلوب، أو أن يوجب نحواً خاصاً من التعبير إذا كان الحال يستدعيه، أو أن يبين سر جمال نوع من القول - فذلك أمر قد تكفل به علم المعاني والبيان والبديع، فالنحو مثلاً يقف أمام الجمل الآتية موقف المصحح لها جميعاً وهي: مصر مستقلة، وإن مصر مستقلة، وإن مصر لمستقلة، واستقلت مصر، ومصر استقلت؛ يصحح النحو هذه الجمل كلها ويقبلها، وإذا تكلمت بواحدة منها في أي حال قبلها النحو، ولم يخطئها؛ أما علم المعاني فينظر إلى الحال التي يقال فيها الكلام، فعندما يكون المخاطب منكراً استقلال مصر مثلاً وقلت مصر مستقلة كنت مخطئاً، لأن الحال يستدعي أن تؤكد له القول، وأن تقول له: إن مصر مستقلة. فإذا أراد المؤلف أن يجعل ما يبحث فيه علم المعاني والبيان من اختصاص علم النحو، ومما يجب أن تتناوله بحوثه، فأنه لم يزد على أن ضم علمين أحدهما إلى الآخر من غير ضرورة ملحة بل ضماً يجلب معه الاضطراب والخلط.
هذا إلى أن المؤلف لم يشر إلى علاقة الكلمة بالكلمة. ولا ارتباط الجملة بالجملة من أول كتابه إلى آخره، بل قصره على حكم آخر الكلمات، ولم يعن بغيرها.
فلسفة العامل
أطنب المؤلف في ذكر فلسفة العامل وبيان أهميته لدى النحاة، ذم أخذ ينقذ مذهبهم من غير أن يذكر رأيه الصريح في العامل، فالنحاة قد اضطروا - لمذهبهم في وجوب ذكر العامل -
إلى التقدير الذي سماه تقديراً صناعياً، ولم يبين لنا كيف نحلل هذه الجمل التي أضطر النحاة فيها إلى التقدير. وهل نكتفي حين نبين مكان كلمة الضيف في قولنا: الضيفَ أكرمته، بأن نقول إن الضيف لم يرد به أن يكون مسنداً إليه، ولا مضافاً إليه، ولذلك كان منصوباً، أم ماذا؟
أما أن النحاة بالتزامهم أصول فلسفة العامل قد أضاعوا معاني الكلام في باب المفعول معه، فلا إخالني في حاجة إلى بيان تحامل المؤلف مما نقله هو حين تحدث عن المفعول معه من أن النحاة قد تنبهوا للمعنى، وأوجبوا أن يتبعه اللفظ؛ فقد قال الرضي في شرح الكافية ما نصه: الأولى أن يقال: إن قصد النصّ على المصاحبة وجب النصب وإلا فلا. ففكرة النظر إلى المعنى في المفعول معه قديمة معروفة، وهي التي يقتلها العقل ويستريح إليها.
وأما ما أنتقده المؤلف من كثرة خلاف النحاة في كل عامل يتصدون لبيانه، فالمغالاة فيه ظاهرة، فهذه الخلافات لا تجدها في لباب كتب النحو، ولكنك تجدها في الحواشي والتقارير، ولا يعطى لها من العناية إلا مقدار ضئيل لا يخشى منه على دراسة لباب النحو وأصوله؛ على أن الأستاذ المؤلف قد زاد رأياً جديداً في عامل النصب وأنه وجود الكلمة في حالة لا يراد بها أن تكون مسنداً إليها ولا مضافة وسوف نناقشه في ذلك.
معاني الأعراب
جعل المؤلف الضمة والكسرة علامتي إعراب فحسب، أما الفتحة فليست علامة إعراب ولا دالة على شيء، بل هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب التي يراد بها أن تنتهي بها الكلمة كلما أمكن ذلك، فهي بمثابة السكون في لغة العامة.
ذلك قول يتهدم أمام النقد:
أولاً: لأنه ليس من المعقول ولا من الواقع في شيء أن تكون المعاني التي قصد إليها العربي تدور حول اثنين: هما الإسناد والاضافة، حتى يهتم بهما العربي حدهما ولا يعنى بغيرهما فلا يضع له علامة تدل عليه، فعندنا الحال والتمييز وعندنا أنواع المفعول والاستثناء، ولا أخال واحداً مما ذكرت أقل من معنى الإضافة حظاً لدى اهتمام العربي بل إن بعض هذه الأنواع لا يتم الكلام إلا به، ولا يفهم المعنى إلا بذكره، فالكلام يكون أبتر ناقصاً إذا حذفت الحال أو المستثنى أو نوعاً من أنواع المفعول أو التمييز؛ وإذا شئت أن
تلمس ذلك فهاك أمثلة توضح لك ما قلنا:
تقول: عدت المريض، واجتهدت رغبة في النجاح، وسوف أزورك الساعة الخامسة، ونجح التلاميذ إلا سعيداً، واشتريت أقتين جبناً، وما جئتك إلا زائراً؛ فانظر كيف كمل المعنى في المقال الأول بذكر المفعول به، ولو أنك حذفته لصار المعنى ناقصاً مبتوراً؛ وفي المثال الثاني إذا أنت حذفت المفعول لأجله، جعلت الكلام غير معلل ولا مسبب، فتقل فائدته ومعناه؛ أما إذا حذفت المفعول فيه في الجملة الثالثة فإنك سوف تلقي بمن تزوره في خضم من الظن والتخمين، لأنه لا يدري متى تزوره حتى يتهيأ للقائك؛ ولا أخال المستثنى في المثال الرابع يقل أهمية عن المستثنى منه، فكلاهما مقصود يهتم به القائل، ولو أنك حذفت المستثنى لفسد المعنى وأصبح خاطئاً. وقل مثل ذلك في الحال والتمييز؛ فقد بدا لك أن العربي يقصد هذه الأنواع قصداً، ويعنى بها عناية تامة، فلِمَ لَمْ يميز كلا منها بحركة، كما ميز المضاف إليه بحركة، وإذا علمت أن المضاف إليه لم يذكر في الكلام قصداً، ولم يؤت به لأنه مراد لذاته، (كما يقولون) وإنما جيء به لتعريف المضاف أو تخصيصه وتقليل شيوعه فحسب - إذا علمت ذلك أدركك العجب حين ترى أن ما يقصد في الكلام ويعنى به: من حال أو تمييز أو غيرهما، لا يهتم العربي بأن يجعل له علامة خاصة تدل عليه، أما ما يذكر عرضاً فإن العربي يحتفل به أيما احتفال، ويضع له حركة تميزه. ذلك قول لا يستطيع العقل أن يقبله.
ثانياً: لأنه ليس من الصحيح أن الفتحة هي الحركة الخفيفة المستحبة التي يراد أن تنتهي بها الكلمة، فلو كان ذلك صحيحاً ما وقف العرب بالسكون على الكلمات التي تنتهي بالفتحة، ولا انتهزوا فرصة اختتامها بالفتحة، فوقفوا بها استمتاعاً بما يحبونه من نطقها. ولست أدري كيف وصل المؤلف إلى هذه النتيجة وكيف استنبطها، مع أنه ليس في الكلام العربي كله كلمات يقف عليها المرء بالفتح إلا إذا كان آخر الاسم منوناً مفتوحاً، فلو كان العرب يحبون الوقوف بالفتحة لجعلوا وقفهم بها لا بالسكون، ولاختتموا بالفتحة كل كلمة تقع في آخر الجملة، ولما أتوا بكلمات مفتوحة في أول الكلام ووسطه؛ وذلك غير ما هو واقع بين أيدينا.
ثالثاً: لأن المؤلف أراد أن يجعل الضمة علامة الإسناد، فتكلف في سبيل ذلك عناء ومشقة،
وانتحل أسباباً لا تثبت أمام الانتقاد:
فمن ذلك أنه أضطر في سلامة قاعدته إلى أن يخرج أسم (لا) من أن يكون مسنداً إليه، لأنه ليس بمتحدث عنه، ولذلك كان حقه الفتحة.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي