المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 216 - بتاريخ: 23 - 08 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 216

- بتاريخ: 23 - 08 - 1937

ص: -1

‌حوادث العراق

ذيول الانقلاب العسكري

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان العراق ما خفنا أن يكون، وجاءت الأنباء بأن بكر صدقي باشا رئيس أركان الحرب في الجيش بوغت في مطار البصرة وهو يتهيأ للسفر إلى تركيا برصاصات أطلقها عليه جندي، وهم قائد القوة الجوية بأن يدفع عن صديقه فلحق به، ولقي حتفه مثله فحملت الجثتان في طيارة إلى بغداد حيث دفنتا، وأبى الجندي الذي اغتالهما أن يفضي بشيء عن بواعثه على هذه الجريمة؛ وأرجح الآراء أن الاغتيال سياسي، وأنه إحدى نتائج الانقلاب العسكري الذي قام به المرحوم بكر صدقي باشا في العام الماضي، والذي عصف بالوزارة الهاشمية وشرد رجالها، والذي كان من ضحاياه المرحوم جعفر باشا العسكري وزير الدفاع يومئذ. وفي الأنباء الواردة عن الحادث الجديد أن الجندي الذي أردى بكر صدقي كان يصيح وهو يفرغ رصاصته في صدره:(يا لثارات جعفر) وسواء أصح هذا أم لم يصح، وكان الرجل قد أطلق هذه الصيحة أو لم يطلقها، فإن المحقق أن الأمر أمر انتقام، وأنه بعض رد الفعل لذلك الانقلاب العسكري المفاجئ الذي أحدثه بكر صدقي، فقد كان للوزارة الهاشمية أنصارها ولرجالها شيعتهم، وللعهد الجديد خصومه؛ وبعيد أن يكون الجيش كله - بأجمعه - قد رضي عما وقع، وارتاح إلى التدخل لقلب وزارة وإقامة أخرى، وسره أن يغتال جعفر العسكري ويدفن حيث لا يدري أحد، وأن يكون قتلته معروفين ولا يسألون عما اجترحوا؛ وغير معقول أن يكون الشعب العراقي قاطبة حامداً شاكراً، قانعاً، راضياً مطمئناً، فإن هذا مطلب عسير، وغاية لا تنال؛ ومتى بدأت تجيز لنفسك أن تقتل، وأن تستخدم القوة بعد إحكام التدبير في الخفاء، في تحقيق مآربك - كائنة ما كانت - فقد أجزت هذا لسواك، وأغريتهم بأن يحتذوا مثالك ويقتاسوا بك؛ ومتى أمكن أن يأتمر جانب من الجيش بوزارة، فإن من الممكن أن يأتمر جانب آخر منه بوزارة غيرها، لأن الأصل - والواجب - أن يبقى الجيش بمعزل عن السياسة والأحزاب والوزارات، وألا يعرف إلا وطناً يدافع عنه ويذود عن حقيقته حين يدعى إلى ذلك، فإذا زججت به مرة واحدة في السياسة، فقد أغرقته في لجها المضطرب إلى ما شاء الله؛ وعزيز بعد ذلك أن تصرفه عنها

ص: 1

وأن ترده إلى الواجب الذي لا ينبغي أن يعرف سواه. وهذا هو الذي خفناه وأشفقنا على العراق منه يوم حدث الانقلاب العسكري في العام الماضي. وإنا لنعرف للوزراء الحاليين كزملائهم السابقين وطنية وغيرة وإخلاصاً، ولم يكن جزعنا لأن وزارة معينة ذهبت وأخرى جاءت. فما نفرق - ولا ينبغي لنا أن نفرق - بين أحد منهم، وإنما خفنا على العراق عاقبة اتخاذ الجيش أداة لإسقاط حكومة وإقامة أخرى، فإن الحكم ليس من شأن الجيش بل من شأن الساسة والنواب والأمة، وكل دولة تحرص على إقصاء الجيش عن كل ما له صلة بالسياسة ودسائسها ومكايدها ومناوراتها وخصوماتها، اتقاء لما يفضي إليه اشتغاله بذلك من الشقاق وتفرق الكلمة وتوزع الولاء والمؤامرات والفتن والهزاهز. وقد صح ما توقعناه مع الأسف وخسرت العراق اثنين من رجال الحرب مشهورين بالاقتدار والحزم. وقد وكان المرحوم ياسين باشا الهاشمي يكبر المرحوم بكر صدقي باشا ويوقره ويعرف له قدره، ولكن بكر صدقي أخطأ مع الأسف فجر الجيش إلى ميدان كله شر وفساد، وكان هو الضحية الأولى لخطئه

ولا نعرف ماذا انتوت حكومة العراق أن تصنع، ولكنا نرجو ألا تجمح مع أول المخاطر؛ ولا شك أن التحقيق واجب، وأن عقاب الجاني فرض؛ غير أن الأمر يحتاج إلى الاعتدال والحكمة وبعد النظر، أكثر مما يحتاج إلى البطش والتنكيل. ولا خير في مثل ما جاء في بعض الأنباء من أن الوزارة العراقية تريد أن تشتت شمل أنصار العهد السابق جميعاً، فإن أنصار الحكم السابق لا ينقصهم التشتيت، وكل ما يؤدي إليه ذلك هو تعميق الهوة وإيغار الصدور، وإغراء النفوس بالانتقام وأخذ الثأر، والعراق اليوم أحوج ما يكون إلى الصفاء والسكينة ليتيسر له أن يستأنف النهضة التي صدها الانقلاب العسكري، أو جعلها على الأقل أبطأ وأقصر خطوات مما كان يرجى أن تكون، وليتسنى له أن يؤدي واجبه للقضية العربية التي عنيت بها وزارة السيد حكمت سليمان عناية مشكورة، ولا سبيل إلى شيء من ذاك إلا بعد أن يستقر الأمر على حدود مرضية، في الظاهر والباطن أيضاً لتخلو النفوس من دواعي النقمة وتتصافق الأيدي على العمل المشترك لخدمة الأمة، ولا يكون هذا إلا بالتفاهم والتراضي والتعاون، لا بالبطش والتنكيل. وقد جربت الوزارة السليمانية القوة والتشتيت، ولسنا نراهما أجديا عليه فتيلاً. نعم كانت البلاد ساكنة، ولكنه سكون ظهر الآن

ص: 2

أنه يستر شراً عظيماً، ومتى آثرت الضغط والحجر، فقد ألجأت الناس بكرههم إلى العمل في الخفاء والتدبير في السر، والنفاق في الجهر، ولسنا نعرف أن اجتناب الاعتدال أثمر غير هذا. ومن سوء الحظ أن بلادنا فقيرة في الرجال، فكل من تفقد، خسارة لا تعوض. وفق الله العراق ورجاله، وسدد خطاهم وألهمهم الحكمة والرشاد

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 3

‌الخروج من النفس

للأستاذ عباس محمود العقاد

كل ناقد لابد له من قدرة على الخروج من نفسه بعض الأحايين، أو من قدرة على تصور الأشياء كما يتصورها مائة إنسان لا كما يتصورها فرد واحد في جميع الحالات

وما كان (الخيال) ملكة من أنفس الملكات وألزمها للناقد والأديب والشاعر والعالم إلا لأنه يتيح للإنسان أن ينظر إلى نفسه أحياناً كما ينظر إلى غريب، وأنه ينظر إلى الغرباء أحياناً كأنهم نسخ أخرى منه يحس معها وتحس معه، ويحس باللحظة عينها بالفوارق بين تلك الأحاسيس جميعها، فينقد ويؤلف ويقسم ويوزع ويعلم أن الصواب لا ينحصر في سمت واحد ولا حالة واحدة، وأن الأمر لا يكون خطأ لأنه يخالف ما استصوب، ولا يكون دميماً لأنه يخالف ما استحسن، ولا يكون بدعاً غريباً لأنه يخالف ما تعود، ولكنما الحقيقة فصيلة من فصائل الجان، تتشكل كما يتشكلون بمختلف الأشكال والنماذج والألوان

وبعض الأمم يبتلون بضعف الملكة الناقدة لأسباب كثيرة بعضها أصيل وبعضها عارض يزول

فمنها ما يؤتى من جانب الغرور عقب النصر الباهر، وفي أيام الرخاء والوافر؛ ومنها ما يؤتى من جانب الجمود والركود وطول العهد بالحضارة، بين جيران من ذوي الخشونة والجلافة؛ ومنها ما يؤتى من جانب العزلة وقلة المخالطة والهجرة؛ ومنها ما يؤتى من بلادة الحس وضيق العطن وشيوع الجهل والقدامة؛ ومنها ما يؤتى من التعصب الشديد الذي يؤصله في النفس طول الظلم والاضطهاد مع قوة في الشكيمة وقدرة على التحول والتصرف تحول دون الأمة والفناء

وأحسب أن المصريين من أكثر الأمم سخرية بما استغربوه ولم يتعودوه، فلا يكون الخطيب خطيباً ولا الواعظ واعظاً ولا الممثل ممثلاً إلا إذا خاطبهم باللهجة المصرية التي لا تشوبها مسحة من اللهجات العربية الأخرى ولو كانت ريفية من صميم البلاد المصرية

وأذكر أن ممثلاً سورياً كبيراً حضر إلى مصر بعد اغتراب سنوات في أوربا تتلمذ خلالها على أساطين المسرح الحديث وعاد إلى مسرحنا بنمط جديد في بعض الأدوار يبذ به أنداده وسابقيه، فذهبت ومعي اثنان من الأدباء - وأقول من الأدباء لا من عامة السواد -

ص: 4

وأصغينا إلى الرجل وهو يترقى في دوره حتى شارف القمة وألهب النفوس بالتشوف واحتداد اللهفة، ونظرت إلى جانبي فما راعني إلا أحد الصاحبين، وقد غلب ضحكاً، وإلا الصاحب الثاني يكاتم الضحك مكاتمة شديدة، وكل ذلك لأن الممثل قد مط الحروف وهو يصرخ ويهيج على نحو يقارب الفرنسية من جهة، والسورية من جهة أخرى، فنسي الأديبان أن الإنسان قد يتألم سورياً وفرنسياً وليس من الضروري أن يتألم مصرياً وقاهرياً وإلا انقلبت الخوالج الآدمية فأصبح الألم مما يضحك والهياج مما يدعو إلى الفكاهة، وحسبا أنني لم أفطن لاختلاف اللهجة كما فطنا. . . فخرجا يتندران بهذه القصة ويزهيان بالفطنة التي رزقاها وحرمتها، والذوق (الدقيق) الذي عداني وما عداهما!

وكان عيد الحرية الثمانية فذهبنا جمعاُ من الإخوان نشهد الحفل الحافل في بعض المسارح المشهورة يومذاك، وكان بين الخطباء ترك وعرب وسوريون. فما أحسب أن رواية هزلية في ذلك المسرح أثارت قط مجانة وضحكاً وسخرية كالتي أثارتها (حماسة) الخطباء والشعراء وذكريات الفجائع والمظالم في أيام الاستبداد. وكان أحد الخطباء مبيناً مفوهاً متدفقاً كأحسن ما يكون الخطيب في لغة من اللغات، إلا أنه ارتضح لهجة غريبة فبطلت محاسنه واحتجبت مزاياه. ولم يكن قصارى الأمر عند أصحابنا أنه يجهل العبارات المصرية والمخارج القاهرية، وإنما كان عندهم جاهلاً بكل شيء يجعل الخطيب خطيباً ويجعل السامعين يستمعون إليه.! فلما قلت لهم: إني أعد الرجل من أقدر من سمعت وأوفاهم بياناً، قام أحدهم يحكيه ويردد عباراته ويمثل إشاراته وحركاته فسقطت الحجة كلها وقطعت جهيزة قول كل خطيب!!. . . وإلا فماذا يبقى من قول القائل الذي يخالف اللهجة القاهرية هذه المخالفة، والذي يستطيع القاهري أن يحكيه ويتماجن عليه؟؟ لا يبقى بالبداهة شيء

ويؤمن العامة إيماناً عجيباً بملازمة الأشياء لصورها وأسمائها وعاداتها التي ألفوها حتى لا يجوز أن تقع التفرقة بينها بنحو من الأنحاء

سألت أحدهم مرة: ما اسمك؟ فأخفى اسمه الصحيح وقال لي إن اسمه (علي) وهو في الحقيقة يسمى إدريس، وكأنه امتحن ذكائي بهذه الأكذوبة وظن أنني لا أفرق بين الكذب والصدق إذ كان الرجل الذي يسمى (إدريس) تلزمه هذه التسمية لزوماً لا فكاك منه ولا

ص: 5

يمكن أن يسمى علياً بحال من الأحوال.! فلما دعوته مرة أو مرتين باسم (علي) وصدقت ما قال تدرج إلى غشي ومخادعتي في غير ذلك موقناً أنني سأجهل الحق كما جهلته في استبانة اسمه الصحيح. وأين. . . نعم أين بالله علي من إدريس؟!

هذا مثل هابط جد الهبوط في ملازمة الأشياء لمظاهرها وأسمائها بحيث لا تقبل الاختلاف ولا التصور على مثال آخر، ولكن الذين يهبطون هذا الهبوط كثيرون وإن لم يظهروا هذا الظهور. وما من ناقد ينكر كلاماً لأنه يخالف أسلوباً من الأساليب إلا وهو قريب إلى طبقة ذلك الفدم الذي يستجهل كل من يتخيل أن أسماء تطلق على الناس غير اسم إدريس!

كنا نناقش أستاذاً مدرساً في مسألة اجتماعية فاحتج علينا برأي فيها لبعض الأئمة السابقين، قلنا: وهل هذا الإمام حجة فيما نحن فيه؟

قال: سبحان الله! إننا نقضي العمر نتعلم اللغة العربية ولا نحذقها كما حذقها ذلك الإمام وهو طفل لم يتعلمها على معلم. أفيكون هذا حظه من الفهم ثم يجهل كلاماً نحن ندريه؟

قلت: أو لم يخطر لك أن ذلك الإمام يقضي العمر يتكلم اللغة العامية التي نحذقها نحن ولا يبلغ من حذقها ما بلغناه؟ أو لم يخطر لك أن الطفل المولود بين الفرنسيين أو الإنجليز أو الألمان يسبق ذلك الإمام إلى معرفة الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية؟؟ أتظن أن العربي وحده يحسن اللغة التي يتكلمها؟ وإذا أحسنها أتظن أنه يحسن كل شيء على هذا المنوال بغير كتب وبغير معلمين؟

فلاح عليه وأنا أساجله السؤال أنه لم يكلف بداهته قط أن تتصور للأمور أوضاعاً غير الوضع المعروض عليه. وقد تنساق أمة كاملة إلى خطأ شبيه بخطئه كما انساق العرب إلى تسمية الناس جميعاً (بالأعاجم) لأنهم لا يفهمون ما يقولون

ولست أرى ميزاناً للنقد والذوق أصوب وأحكم من سؤال المرء عن عشرة شعراء أو فلاسفة يقرأ لهم ويعجب بهم ويشهد لهم بالشعر والفلسفة. فكلما اختلف هؤلاء وتباعدت بينهم أوجه الشبه وأسباب الاختيار والترجيح كان ذلك دليلاً على سعة القريحة وقدرتها على الاستحسان لجملة أسباب متفرقات لا لسبب واحد متكرر محدود. وكلما تماثل هؤلاء وتقاربوا كان ذلك دليلاً على ضعف النقد وعجز الملكة الموكلة بالاستحسان والانتقاء

ومن هنا نعتقد أن البارودي خطا بالنقد العربي خطوات كما خطا بالشعر في معناه وأسلوبه.

ص: 6

فانتقل بنا من المدرسة التي كانت تقصر الشعر على الجاهليين والمخضرمين إلى مدرسة تعرف الفضل للعباسيين والمحدثين، وانتقل بنا مع ذلك من جماعة الزي الواحد والنمط الواحد إلى جماعة المكاثرين بالأزياء والأنماط. فقد كان الناقد قبله يستحسن البحتري ثم لا شيء بعده ولا شيء غيره، فجاء البارودي على آثار من سبقوه يجمع بين المعري والبحتري وبين ابن الرومي وابن المعتز في ديوان واحد

ولا تزال في مصر بقية من المحدودين المطويين على أنفسهم يلج بهم الغرور ويشتد بهم الوهم على مقدار ما يضيق بهم المجال وينحسر بهم الذوق والشعور. فهم على يقين ما بعده يقين أن (الذوق) لم يخرج من مصر، وأن الذوق هو ما اصطنعوه من الفكاهة الغثة أو الرقة المحفوظة المدبرة المتشابهة العبارات والتحيات والمصطلحات، أو الجناسات الكلامية والفكرية التي لا تطلع على الذهن بلمعة من نور، ولا تترك فيه فضلة من فهم، ولا تبعث فيه حركة من حياة. وتسألهم: كم عدد الشعراء الفحول في عشرة آلاف سنة بين القوم الذين رزقوا الذوق كله والإحساس كله ولم يتركوا على زعمهم بقية منهما إلا كما يترك السؤر في الإناء المهجور؟؟ وكم واحداً من (أبناء البلد) الذين لا ذوق إلا ذوقهم، ولا إحساس إلا إحساسهم، ولا فكاهة إلا فكاهتهم، ولا فطنة إلا فطنتهم، قد صعد في مراتب الفن والشعر إلى مواطئ أقدام المحرومين المساكين، الذين لا يشعرون ولا يتذوقون، ولا يستمرئون اللطافة ولا يستملحون المعاني والنكات؟؟ وإذا كان ما استقروا عليه هو غاية الحس والذوق، وحمادي الإبداع والإحسان، وقصارى الأناقة والجمال، فما بالهم لم ينجبوا رجلاً واحداً خلاقاً في عالم الشعر أو الكتابة أو التصوير أو الموسيقى، وقد أنجبت الأمم المئات والألوف؟

سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء الذوق بيننا أنهم صفر من الذوق، وأن الله لم يخلق على الأرض طائفة أغلظ منهم حساً، وأثقل منهم روحاً، وأفرغ منهم لباً، وأعضل منهم داء على العلاج

سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء النقد عندنا أن الذوق الذي يستحسن حسناً جميل، وأجمل منه الذوق الذي يستحسن الحسنين، وأجمل منهما الذوق الذي يستحسن الشيئين بينهما تناقض في الحسن كأنهما ضدان

ص: 7

وسيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يشيع بيننا أن الآكل قد يشتهي طعاماً لذيذاً ولا يمنع ذلك أن تشتمل الأطعمة على ألف لون لذيذ غيره، وأنه إذا جاز هذا في الآكال التي تعد وتحصر فأخلق أن يجوز فيما ليس له آخر، وهو أطعمة الألباب وأصناف المعاني وألوان الشعور

ونرجو ألا يطول الزمن قبل أن يتعلم الهازلون الماجنون كيف يخرجون من نفوسهم ليعرفوها ويعرفوا سواها، كما يخرج السائح من وطنه ليعرف وطنه، ويخرج القارئ من زمنه ليعرف زمنه، ويبتعد المصور من صورته ليراها حق الرؤية ويبلغ بها جهده من التسوية والتجويد

وتلك نقلة صعبة على من يحتاج إليها. ففي عالم المادة أكثر الناس انطلاقاً إلى الخروج المحبوسون في المكان المغلق المحدود. أما في عالم الفكر والروح فالمحبوسون في المكان المغلق المحدود هم أقل الناس انطلاقاً إلى الخروج وأكثرهم قناعة بما هم فيه.

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌المحاكمات التاريخية الكبرى

1 -

الحركة النهليستية ومصرع القيصر اسكندر الثاني

صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت الثورة البلشفية نتيجة محزنة للمعركة التحريرية الرائعة التي اضطرمت مدى ستين عاماً بين القياصرة وبين الحركة الثورية الروسية. ولم يثل عرش القياصرة ويسحق طغيان القيصرية وتمحى نظم الإقطاع وامتيازات النبلاء إلا ليقوم مكانها طغيان جديد أشد إمعاناً في الإرهاب والسفك وثل الحقوق والحريات العامة. ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الشعب الروسي يتمتع اليوم في ظل النظم البلشفية بلمحة من الحرية التي كان ينشدها في أيام القياصرة والتي اعتقد أنه ظفر بها كاملة في ثورة مارس سنة 1917 الاشتراكية ثم في ثورة أكتوبر البلشفية. كانت روسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر مشرح نضال عنيف بين طغيان القيصرية وبين العقلية الروسية الجديدة الطموح إلى الإصلاح والتحرير؛ وكانت روسيا الجديدة تنشد الإصلاح السلمي بادئ بدء وتحاول عن طريق الإصلاحات الدستورية والاجتماعية تحطيم الأصفاد المرهقة التي تطوق القيصرية بها عنق الشعب الروسي؛ وكان رسل روسيا الجديدة يومئذ جمهرة من الشباب المستنير الذي حفزته مؤثرات الثقافة الحرة إلى التطلع إلى آفاق جديدة، كان هؤلاء هم طلائع (النهلزم) أو الحركة النهلستية كما سماها ترجنيف، وكانت هذه الدعوة الإصلاحية المتوثبة دعوة مثل ومبادئ يذكيها طائفة من الكتاب الأحرار بأقلامهم الملتهبة؛ وكان أخص ما يميز الدعوة الحديثة على قول ستبنياك مؤرخ الثورة الروسية (هو إنكار كل ما يفرض على الفرد إنكاراً مطلقاً تعززه الحرية الفردية. وقد كانت النهلستية ثورة قوية مضطرمة لا على الطغيان السياسي ولكن على الطغيان المعنوي الذي يرهق حياة الفرد الخاصة). على أن هذه الحركة الإصلاحية السلمية لم تلبث إزاء عنت القيصرية وإغضائها عن الاستماع لدعوتها، أن تطورت بسرعة إلى حركة ثورية تعتزم أن تحقق مثلها بالنضال والعنف. واحتشد الشباب المتوثب من جميع الطبقات تحت لواء الحركة الجديدة. بيد أنهم على قول

ص: 9

ستبنياك (كانوا عزلاً إلا من النظريات والمثل، وكانوا يحاربون قوة هائلة مدججة بالسلاح والعدد، ولم يك ثمة سبيل لأن يحركوا كتلة الشعب التي ترزح في أغلال الرق والذلة). وكانت القيصرية تضاعف إجراءات القمع وتمعن في مطاردة أولئك الرجال والنساء الذي يتجاهلون حقيقة الحياة والنظم القومية الروسية.

وهنا يضطرم النضال وتنشب بين القوتين الخصيمتين: القيصرية والنهلستية - تلك المعركة الهائلة التي تقطر في كل مراحلها دماً، وتتناثر حولها الأشلاء من كل صوب، ويتساقط في حلبتها قياصرة وأمراء وقواد وحكام وشباب من كل الطبقات. كانت القيصرية وعميدها، وكل المؤيدين لطغيانها، هدفاً لطائفة من المؤامرات والجرائم التحريرية المحكمة تعصف بهم وتثل أرواحهم بين آونة وأخرى؛ وكانت هذه الجمهرة المستبسلة من الشباب الغض بين فتية وفتيات تلقي بنفسها إلى تلك الغمار المروعة وهي تودع الحياة في كل مرة أفراداً وجماعات؛ وكان العنف يذكي العنف فكلما وقع اعتداء جديد على زعيم من زعماء الطغيان حشد الطغاة في الحال حول المشانق رهطاً من الشباب المجاهد وأعدموهم بعد محاكمات مرتبة تختتم دائماً بمجازر بشرية. ذلك هو تاريخ النهلستية أو الحركة التحريرية الروسية التي سطرها التاريخ بمداد من الدم الغزير.

بدأ هذا النضال العنيف في سنة 1875 بعد أن نضجت الحركة الثورية، واحتشد حول المثل الحرة الجديدة جيش حقيقي من الفدائيين؛ وكانت القيصرية كلما اشتد ساعد الحركة الثورية واشتدت مطالب الأحرار في سبيل الإصلاح الدستوري اشتدت من جانبها في القمع والمطاردة، وازدادت حرصاً على سلطانها المطلق. وكانت سلطات الطغيان تبسط على أنحاء روسيا الشاسعة حكماً من الإرهاب المطبق، تدعمه جاسوسية بارعة خطرة؛ وكانت القيصرية هي الباغية المتجنية لأنها لم تستمع إلى دعوة الإصلاح، بل آثرت سلاح القمع الهمجي، فمالت على الحركة الثورية تحاول تمزيقها، ومالت على الأحرار تحاول إفناءهم، وأسرفت في القبض والاعتقال والنفي إلى سيبريا، وتدبير المحاكمات الصورية واتخاذها وسيلة لإعدام الزعماء والقادة والشباب المجاهد؛ وأجاب الأحرار من جانبهم بتنظيم حركة من الإرهاب الثوري ذهب ضحيتها ثبت حافل من الوزراء والقضاة ورجال الشرطة وغيرهم من أعوان الطغيان. وكانت هذه المعركة الشهيرة في صحف الكفاح الثوري ذروة

ص: 10

الحركة النهلستية، وكان قوامها من جانب سلسلة من الجرائم السياسية المروعة، ومن الجانب الآخر سلسلة من المحاكمات الرنانة. ففي سنة 1877 قبضت الحكومة على خمسين من الأحرار النهلستيين وحوكموا في موسكو بتهمة التآمر على سلامة الدولة وهي التهمة الخالدة التي يشهرها الطغيان دائماً في وجه خصومه. وكان منهم صوفيا باردين وهي فتاة ثورية نابهة عرفت مثل النهلستية أمام قضاتها بما يأتي:(إن الجماعة التي أنتمي إليها هي جماعة الدعاة السلميين. إن غايتنا هي أن نبعث إلى نفس الشعب مثل نظم أفضل وأقرب إلى العدالة، أو بالحري أن نوقظ المثل الغامض الذي يجثم في نفسه، وأن نبين له عيوب النظام الحاضر حتى لا يعود في المستقبل إلى نفس الأخطاء التي يعانيها. أما متى تدق ساعة هذا المستقبل المنشود فهذا ما نجهله وليس علينا نحن أن نبينه).

وأسفرت المحاكمة عن القضاء على كثيرين بالإعدام والسجن والنفي. وفي العام التالي قبض على نحو مائتين منهم وقدموا إلى المحاكمة في بطرسبرج وليننجراد فهلك في بدء المحاكمة منهم ثلاثة وتسعون بالتعذيب والانتحار، وقتل النهلستيون من جانبهم عدة من الجواسيس، وأطلقت فتاة تدعى فيرا زاسولتش النار على تربيوف مدير الشرطة فجرحته جرحاً خطيراً (فبراير 1878) وقدمت إلى المحاكمة فبرئت وحملت على الأعناق في مظاهرة صاخبة، ثم فرت خيفة المطاردة والانتقام. وفي أغسطس أعدم الزعيم الاشتراكي كرفالسكي في أودسا فلم تمض بضعة أيام حتى انتقم له الثوار بقتل رئيس الشرطة مزنتزيف. وفي فبراير 1879 قتلوا في خاركوف حاكم المقاطعة البرنس ألكسي كروبتكين، وانتقمت القيصرية على الأثر بإعدام الزعيم أوسنسكي وبعض رفاقه. وهكذا لبثت المعركة على اضطرامها أعواماً طويلة تحصد أرواح الفريقين.

وكان مصرع القيصر إسكندر الثاني أعظم حوادث هذا النضال الدموي المروع وكان ذروة الحركة النهلستية؛ وكانت المحاكمة التي تلت أعظم المحاكمات السياسية التي عرفتها هذه الحركة الفياضة بالحوادث والمحاكمات الرنانة. وكان إسكندر الثاني الذي تولى العرش سنة 1855 يجنح في بداية عهده إلى نوع من الإصلاح ومسالمة الحركة التحريرية وتحقيق بعض غاياتها. وكان تحريره لرقيق الضياع في سنة 1861 فاتحة طيبة لهذه السياسة الإصلاحية؛ وكان يميل في نفس الوقت إلى إجراء بعض الإصلاحات الدستورية التي لا

ص: 11

تؤثر في مجموعها على حقوق السلطة العليا، ولكن تتخذ في الوقت نفسه صورة المنح والمزايا الدستورية؛ وكان يعتقد أنهلا يستطيع تحقيق هذه الغاية بإنشاء المجالس المحلية (زمستفوس)، ولكن الحركة التحريرية لم تحفل بهذه المشاريع الجزئية بل اشتدت في مطالبها وضاعفت جهودها في سبيل الكفاح والنضال، وشهرت على القيصرية حربها العوان، وردت القيصرية بمضاعفة إجراءات القمح الذريع، واضطرمت بين إسكندر الثاني وبين النهلستية تلك المعركة الدموية المروعة التي أتينا على وصفها

ورأت اللجنة التنفيذية الثورية أو اللجنة التنفيذية لإرادة الشعب كما كانت تسمى، أن تقضي على الشر من أصوله فقررت إعدام القيصر (26 أغسطس 1879) ونظمت شعبها الفدائية، ودبرت تباعاً عدة مشاريع لاغتيال القيصر. فبدأت في شهر نوفمبر بوضع لغم في طريق القطار الذي يسافر فيه القيصر ولكنه لم ينفجر، وفي ديسمبر وضع الفدائيون لغماً آخر في طريق القطار الملكي إلى موسكو انفجر عند مرور القطار، ولكن القيصر وصل إلى موسكو في قطار سابق؛ وفي مساء 17 فبراير سنة 1880 نسف الفدائيون قاعة الطعام في قصر الشتاء على ظن أن القيصر كان عندئذ يتناول طعامه فيها، ولكن القيصر كان في مكان آخر من القصر، ولم يكن قد جلس إلى المائدة بعد، فقتل في الحادث وجرح سبعة وستون من الجند والحشم. ونشطت القيصرية من جانبها إلى مطاردة الجناة، فأعدم عدة من الفدائيين، ومنح لوريس مليكوف وزير الداخلية سلطة مطلقة على العاصمة لكي يستطيع السهر على حياة القيصر وأسرته، وخول له الإشراف المطلق على القضايا السياسية وعلى جميع السلطات الإدارية والمدنية. ورأى مليكوف من جهة أخرى أن يتخذ بعض إجراءات لاستمالة الشعب فأفرج عن كثير من المعتقلين وكانت تغص بهم السجون، ورد آلاف الطلبة إلى الجامعات التي أخرجوا منها. وأصدرت اللجنة التنفيذية بياناً قالت فيه (إنها لن تترك الكفاح حتى يتنازل إسكندر الثاني عن سلطانه للشعب ويترك مكانه لجمعية وطنية تأسيسية تضع مبادئ الإصلاح الاجتماعي). ولكن حدث في مساء 27 فبراير أن استطاعت الشرطة السرية أن تقبض على أندري جليابوف زعيم اللجنة الثورية في دار صديقه وزميله في اللجنة المحامي تريجوني وقبض على تريجوني في نفس الوقت، وحمل النبأ إلى القيصر وزير الداخلية مليكوف فابتهج به أيما ابتهاج، لأنه كان يعتقد أن جليابوف

ص: 12

رأس اللجنة المدبر ولن يهدأ له بال مادام حراً طليقاً. ورفع الوزير إلى القيصر في نفس الوقت مشروع المجالس المحلية الذي اعتزمت الحكومة تنفيذه بعد أن وضع في صيغته النهائية فوعد القيصر بالنظر فيه في الغد.

وكان ذلك في مساء يوم الجمعة 27 فبراير سنة 1881 وكان القيصر يعتزم أن يشهد يوم الأحد أول مارس تمارين فرسان الحرس في ميدان ميخايلوفسكي كعادته كل أحد. فرجاه وزير الداخلية ألا يفعل لأن جليابوف صرح أمامه أن القبض عليه لا يمنع وقوع اعتداء جديد على حياة القيصر، ولكن القيصر لم يعبأ بهذا النصح وصمم على الذهاب.

وكان القبض على جليابوف ضربة شديدة للجنة التنفيذية، وكان يقيم منذ حين في بطرسبرج باسم سلاتفلسكي مع صاحبته وزميلته صوفيا بيروفسكايا بزعم أنها أخته، وكانت صوفيا ساعده الأيمن في تدبير المشاريع وإدارة الشئون؛ فلما قبض عليه ولم يعد ليلة 27 فبراير جمعت صوفيا أعضاء اللجنة التنفيذية المقيمين في بطرسبرج في الحال وكان منهم ضابط البحرية سوخانوف، والصحفي تيخوميروف، وأساييف وفرولتكو، وجراتشفكي، وحنه كوربا، واجتمعت اللجنة في دار فيرا فنجر، وبحثت الموقف الخطير الذي انتهت إليه، وكيف أخفقت مشاريعها المتوالية في الأشهر الأخيرة، واستطاعت شرطة القيصر أن تشل كل حركاتها، وأن تقبض أخيراً على زعيمها؛ وبعد مناقشات عاصفة قررت اللجنة بالإجماع أن تنفذ مشروع جليابوف لاغتيال القيصر وعهدت إلى صوفيا بيروفسكايا بالإشراف على التنفيذ، وكانت اللجنة ترمي بهذه المشاريع الجنائية المتوالية فضلاً عن الانتقام للضحايا العديدين، إلى غاية سياسية عملية هي أن تستغل ما يترتب على الاغتيالات السياسية من الاضطراب والروع وتحقيق بعض مطالبها الدستورية. ولكن هذه الخطة لم تحدث أثرها المنشود بل زادت بالعكس في سخط القيصرية وحرصها على سلطانها، وزادتها إقداماً وقسوة في تتبع خصومها.

(للبحث بقية - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 13

‌عصبة الأمم في التاريخ

للدكتور حسن صادق

1 -

فكرة عصبة الأمم وتطورها

يكثر الناس في هذه الأيام من الكلام عن عصبة الأمم بمناسبة انضمام مصر إليها في هذا العهد الجديد، ومنهم من يحبذ هذا الانضمام ويرجو من ورائه خيراً، ومنهم المتشائم الذي يتمثل في ذهنه الماضي القريب وما جرى فيه من حروب وعدوان بين دول هي أعضاء في العصبة، ويرى أن غنم هذه العصبة للقوى وغرمها على الصغير الضعيف. وليس من غرضنا في هذا المقام أن نخوض غمار السياسة في مجلتنا الأدبية، ولكننا سنبين في هذه الكلمة كيف ولدت فكرة العصبة وتطورت خلال الزمن حتى برزت في شكلها الحالي، ونرجو أن يجد القارئ في هذا الموضوع بعض الفائدة العلمية التاريخية.

من يتصفح التاريخ يجد أن الشعوب دائماً في حروب تفصلها فترات تطول حيناً وتقصر أحياناً. وكلما وضعت حرب أوزارها يبحث الإنسان عن وسائل لتنظيم السلام ويهتم لهذا الأمر جد الاهتمام. ولم يشعر الإنسان في أي وقت بشدة حاجته إلى توطيد أركان السلام أكثر مما شعر عقب الحرب العظمى في سنة 1914 لهول ما لاقى الناس منها. وقد كانت فكرة عصبة الأمم كائنة قبل الحرب، وظهرت جلية في كتاب للمسيو ليون بورجوا الفرنسي عنوانه (عصبة الأمم). ثم بدت هذه الفكرة بعد ذلك رسمياً في مذكرة الرئيس ويلسون في ديسمبر سنة 1916. وانتشرت هذه الفكرة بين رجال الحكم والسياسة فقويت، ثم ازدادت قوة حين تغلغلت في الرأي العام وسرت بين الشعوب التي عانت في الخنادق أفظع الآلام وذاقت في تلك الحرب الضروس طعم الأهوال البشعة التي يذيب ذكرها لفائف القلوب.

وفكرة عصبة الأمم تضرب بأصولها إلى أزمان بعيدة، لأنها تتصل بشعور طبيعي ضروري، وبرغبة شديدة في الهدوء والسلام. والباحث المدقق يجد أن عصبة الأمم وجدت منذ أن تكونت شعوب منظمة قامت بينها الصلات الكثيرة المختلفة. وقد أنشأ الرومان ما يمكن أن نسميه (جمعية شعوب) وكانوا هم بطبيعة الحال رؤساء هذه الجمعية.

وبعد وقت طويل جاءت المسيحية تحمل للعالم أفكار المساواة والإخاء على الأخص. وهذا

ص: 14

المثل الأعلى العظيم تحقق تقريباً في القرون الوسطى أي من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر. فالمسيحية في ذلك العهد كانت عبارة عن أسرة مكونة من جميع الأمم المسيحية، تحت نفوذ رئيسين وهما البابا والإمبراطور. ولم يكن هذا النظام في الوقع إلا نوعاً خاصاً من (عصبة الأمم) تقوم على أساس من الدين. وكان رئيس المسيحية يحظى بسلطان كبير، فكان في استطاعته أن يصدر قرار الحرمان ضد أية دولة أو ضد جماعة من الأفراد، ومن حقه أن (يشلح) أي فرد ولو كان رئيس دولة؛ وهذا القرار الذي يجعل الدولة التي صدر ضدها خارجة على القانون له نتائج خطيرة، لأنها تصبح عرضة لعدوان الدول الأخرى عدواناً مشروعاً. وهذه الحال من غير شك تنتج اضطراباً خارجياً. وفوق لك فإن رعايا الأمير الخارج على القانون يصبحون في حل من يمين الطاعة والإخلاص له، وينتج عن هذا اضطراب داخلي دون ريب. وقد لجأ البابوات كثيراً إلى هذه الوسيلة لحفظ السلام وليصبحوا رؤساء إمبراطورية شاسعة كما يقول بعض المؤرخين.

وكانت الحروب في تلك الأزمنة مشروعة ضد الملحدين، وجائزة في أحضان المسيحية نفسها. ولكن البابوات والأساقفة كانوا يبحثون عن وسائل لتقصير مدتها وتخفيف نتائجها؛ من ذلك أن مجالس الدين في تولوز وكليرمون بفرنسا أذاعت في الناس ما يسمى (هدنة الله) و (سلام الله) ووجدت هذه الإذاعة من الدول المسيحية ما تستحقه من الاحترام.

والغريب في ذلك العهد أن الحرب نفسها كانت متلفعة بروح من العدل. ولم تكن الموقعة تقوم على خطط حربية، ولكن كان المعتقد أن الذي يخرج من الحرب ظافراً، سيخرج من محكمة الله في الأخرى وعلى رأسه تاج النصر والظفر؛ وعلى ذلك كانت تجري المواقع بطريقة تبعث اليوم في النفس دهشة شديدة. فالخصوم كانوا يتواعدون في ساعة ومكان معينين، ويصطفون للموقعة بطريقة نمطية لا تتغير، ثم يهجم بعضهم على بعض وجهاً لوجه. وكانت خدع الحرب إلى القرن الخامس عشر تعتبر خيانة وعاراً ينفر منه المقاتل أشد النفور. وأول موقعة طبقت فيها خطة حربية بمعنى الكلمة هي موقعة رو كروي بين فرنسا وإسبانيا، إذ قام الأمير دي كونديه بحركة التفاف طوق بها الأسبان وانتصر عليهم، ولكن هذا العمل من جانب الأمير بعث التذمر في صدور كثير من فرسانه النبلاء، لأنه لا يمت في نظرهم ونظر عصرهم بأية صلة إلى النبل والشرف في القتال. وإذن نستطيع أن

ص: 15

نعتبر موقعة رو كروي خاتمة الطريقة الحربية في القرون الوسطى وبداية الحروب الحديثة التي تبرر جميع الوسائل وتجعل القتال أشد هولاً مما كان.

وهذه القواعد التي ذكرناها لم تكن مقبولة في كل موطن، فهي لم تكن تطبق إلا في أوربا المسيحية التي كان يحيط بها الأرتوذكسية اليونانية والإسلام، ثم الآسيويين الذين كانت أوربا تطلق عليهم اسم البرابرة.

نستنتج مما سبق أن أوربا في تلك العصور كانت تشتمل على وحدة حقيقية على رأسها البابا والإمبراطور، ولكن في أواخر القرن الرابع عشر وخلال القرن الخامس عشر قويت الأمم في كل النواحي وأخذت كل أمة طابعها الخاص، وشرعت تتناضل وتتقاتل. ثم ظهر الإصلاح الديني على يد لوثر وكلفن، فأصاب المسيحية بضربة شديدة وفرقها شيعاً.

وعقب هذه الحوادث، رغب الناس في إقامة نظام جديد للعلاقات الدولية. وحاول أحد رجال الدين من الجزويت (سوارز 1548 - 1617) أن يقيم نظاماً أقوى على الثبات من نظام القرون الوسطى، بأن يدخل على العلاقات الدولية مبادئ المسيحية الثابتة. أدرك هذا الرجل أن لكل دولة الحق في سيادة زمنية متينة، على أن تكون فيما بينها جميعاً جمعية حقيقية. ثم ذهب علماء البروتستانت إلى أبعد من هذا، وجعل جنتليس أولاً ثم جرتيوس من بعده مكاناً أكبر في تعاليمهما لسيادة الشعوب، وأعلن في شجاعة أن العلاقات الدولية ينبغي أن تحرر من كل صبغة دينية. ولجنتليس في هذا المقام كلمة مأثورة لاقت رواجاً هائلاً في ذلك الوقت وهي (فليعتصم علماء اللاهوت بالصمت في هذا الميدان، لأنه غريب عنهم وهم غرباء عنه) والمفكرون الذين أتوا من بعدهما، عملوا على توكيد آرائهما حتى انتشرت انتشاراً كبيراً.

ولما تولى هنري الرابع عرش فرنسا جدد بناءها وأراد أن يعيد بناء أوربا كلها، وكان هذا الحلم موضوع حديثه في أغلب الأحيان مع وزيره سوللي. وقد أعد هذا الوزير ما سمي (غرض هنري الأكبر) وخلاصته أن تكون أوربا اتحاداً حقيقياً مسيحياً مكوناً من ست دول ملكية وراثية، وخمس دول ملكية انتخابية، ثم خمس جمهوريات. وكان سوللي يرى أن هذا المشروع لا يمكن تحقيقه إلا إذا انهارت قوة الأسرة الملكية النمسوية، ومن هنا نشأ النضال ومقاومة الحركة الجرمانية. وكان الغرض أن يوضع على رأس الاتحاد المسيحي المرغوب

ص: 16

فيه مجلس مكون من ستين عضواً تنتخبهم الدول الداخلة في الاتحاد، ويقيم هذا المجلس في هذه الجدول على التوالي، وأن تكون أحكامه إجبارية، وتوضع تحت تصرفه لهذا الغرض قوة مادية عامة، وأن تكون حرية التجارة كاملة بين جميع البلدان التي يشملها الاتحاد. ثم رؤي أن يكون أول عمل يقوم به هذا الاتحاد هو إبعاد الأتراك عن أوربا. ومات هنري الرابع من قبل أن يرى هذا المشروع الكبير نور الإنفاذ، ولكن فكرته استقرت في النفوس والأذهان، وظهرت آثارها في المؤتمرات السياسية. ففي مفاوضات وستفاليا التي اختتمت بها حرب الثلاثين سنة في عام 1648، دار البحث عن وسائل تقضي على الاضطراب الألماني من ناحية، وتجعل ألمانيا غير ذات خطر على أوربا من ناحية أخرى. وكان في ألمانيا حينذاك قوتان: الإمبراطورية وكانت في حالة تدهور وانحلال، ونحو أربعمائة دولة صغيرة تخضع إلى حد ما لسلطان الإمبراطورية، ففصلت هاتان القوتان حتى لا يتكدر صفو السلام، وأعلن أن هذه الدول الصغيرة أصبحت مستقلة عن الإمبراطورية، وهذا الإعلان سمي بالحريات الجرمانية، وقد ضمنت هذه الحريات الدولتان الظافرتان فرنسا والسويد. وهذا يعني أنه في ذلك الوقت ظهرت فكرة إنشاء توازن أوربي ضامن للسلام الدولي

وفي نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كثرت حروب لويس الرابع عشر حتى اشرأبت أعناق الناس للصلح والسلام، وجرى البحث عن كيفية تنظيمهما وإقامة أسسهما. وبعد معاهدة أترخت سنة 1713 نشر القسيس دي سان بيير - وقد حضر المفاوضات بصفته سكرتيراً - مشروعاً يجعل السلام دائماً في اعتقاده، وأمل في وضع قانون عام لأوربا كما كان الحق الخاص للأفراد مقرراً بالأوامر الملكية. وأعلن القسيس أنه للمحافظة على سلام العالم، ينبغي إنشاء محكمة عامة تكون أحكامها إجبارية. والدول التي تأبى إنفاذها يجب أن توضع خارج القانون. والذي يلفت النظر هو أن مشروع القسيس دي سان بيير أوسع مدى من مشروعات سابقيه، فلم يكن خاصاً بأوربا وحدها، بل بالعالم كله. وقويت هذه الفكرة على مر الأيام وظهرت آثارها في عدة مناسبات وعدة معاهدات مثل معاهدتي 1762، 1783، كما نتج عنها فكرة العمل على خير الإنسانية التي ظهرت في كتب جان جاك روسو

ص: 17

وقد تأثرت الثورة الفرنسية بهذا التيار من الأفكار. وفي 18 مايو سنة 1790 أعلن (فولتي) للجمعية التأسيسية قوله: (ستدعون إلى الانعقاد جمعية الأمم) ووجهة النظر هذه اقتبسها بعض عظماء المفكرين، وعلى الأخص الفيلسوف الألماني (كانت) فقد أعلن أن الحرب هي حالة الإنسانية الطبيعية، وإذن ينبغي إيجاد حالة للسلام بتكوين حلف من شعوب حرة. والشعوب الحرة في اعتقاده لا تكون إلا في الجمهورية. وكثير من أفكار كانت، وعلى الأخص الفكرة الأخيرة، اعتنقها الرئيس ويلسون ونادى بها كما هو معروف

وأول من ابتكر اسم (عصبة الأمم) هو الكاتب الفرنسي المشهور (جوزيف دي مستر)، فقد وردت للمرة الأولى في حديثه السابع من كتابه الذائع الصيت (أمسيات سان بطرسبرج)

وفي أثناء حروب نابليون الأول وعقب سقوطه، دار البحث عن إنشاء هيئة لمنع عودة مثل تلك الحروب. ومن أجل ذلك فكر القيصر إسكندر الأول الروسي في إقامة الحلف المقدس، أو الحلف الديني بين الملوك. وكان الغرض منه الدفاع عن مصالح الملوك أكثر مما يكون الدفاع عن قواعد السلام

وخلال القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين، انتشرت أفكار الجنسية والقومية وشقت طريقها بين الشعوب الأوربية، بفضل المفكرين الذين يعتبرون أن أوربا هي الأسرة الوحيدة للشعوب الحرة.

وعقب الحرب الألمانية الفرنسية في سنة 1870، خيم على أوربا ضيق سياسي شديد، فحاول رجال الدولة تبديده بخلق توازن أوربي تكون مهمته تجنب ألوان الخلاف والشقاق. وظلت الأفكار التي ترمي إلى التفاهم الدولي تنمو وتقوى حتى حرب سنة 1914. والذي يدل على نمو هذه الأفكار، كثرة عدد المؤتمرات التي أقيمت من سنة 1870 إلى سنة 1914 وإنشاء هيئة قضائية دولية في لاهاي واتفاقيات السلام الموقعة السلام في سنة 1899، وسنة 1907 وهذه المحاولات كلها أدت إلى تكوين عصبة الأمم في سنة 1920.

وحين إنشائها، قامت عقبة فلسفية عملية مأتاها: كيف العمل لحمل الدول التي تزداد ميلاً يوماً بعد يوم إلى الأخذ بمذهب الفردية، على الخضوع لعصبة الأمم؟ وهل ينبغي جعل عصبة الأمم دولة عليا حتى تقوم بدور هام، أو جعلها تقتصر على أداء أعمال ثانوية فقط؟ وفي الحق أننا إذا أنعمنا النظر نجد أن من الصعب على أمة من الأمم أن تقبل سلطة أعلى

ص: 18

من سلطتها، أو أن تقبل أن يكون للعصبة الحق في فرض سلطانها على الدول، لاسيما وهذه العصبة تعتمد على مبدأ ديني كما كان الحال في القرون الوسطى.

ولكي تكون عصبة الأمم ذات مبدأ مقبول، ينبغي أن تقدر كل القوى الدولية. وهذه القوى ليست الدول فقط، ولكنها كامنة أيضاً في بعض هيئات دولية وبعض تيارات فكرية. وربما نرى في المستقبل هذه العصبة تدعو إلى تمثيل الدول فيها، ممثلي القوى الدينية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا أمر صعب التحقيق، ولكنه إذا تحقق يجعل للعصبة نفوذاً أقوى مما لها الآن.

2 -

تكوين عصبة الأمم

ولدت عصبة الأمم رسمياً في 16 يناير سنة 1920 في وزارة الخارجية الفرنسية بباريس، حيث اجتمع مجلس الإدارة لمرة الأولى برآسة المسيو ليون بورجوا الفرنسي، المكونة من ممثلي الدول الكبرى المتحالفة، وقام بأعمال السكرتير السير جيمس آرك درموند: ولم يصدف عن هذا المجلس من الحلفاء إلا الولايات المتحدة الأمريكية، حتى قيل إن عصبة الأمم ولدت مشوهة هزيلة وكانت أولى خطواتها عرجاء

كيف تكونت عصبة الأمم هذه؟

أخذت فكرتها مكاناً كبيراً أثناء الحرب العظمى وسيطرت على مفاوضات الصلح، حتى أن الحلفاء وضعوا ميثاق العصبة في مقدمة معاهدات الصلح جميعاً. وهذا الميثاق لكبير أهميته ثم لروح الخلاف الذي بدأ يدب بين الحلفاء أنفسهم، كان شديد الصعوبة في إعداده. وقد اجتمع المندوبون فوق العادة الذين كلفوا القيام بهذا الأمر في باريس، وحاولوا ونجحوا آخر الأمر في التوفيق بين المشروعين الإنجليزي والأمريكي. والنص الأخير الذي اتفق عليه هو في الواقع ما عرضه الرئيس ويلسون مع بعض تحفظات هامة أرادتها بريطانيا لتجنب نفسها التدخل في منازعات الشعوب الأخرى

انتظم في سلك العصبة معظم الدول. ففي مبدأ الأمر، اشتملت على كل الدول التي قامت في وجه ألمانيا ووقعت على معاهدات الصلح. وهذه الدول هي: بلجيكا، بوليفيا، البرازيل، بريطانيا، كندا، استراليا، زيلندة الجديدة، الهند، ثم ارلندة بعد قليل، كوبا، جمهورية خط

ص: 19

الاستواء، فرنسا، اليونان، جوايتمالا، تاهيتي، الحجاز، إيطاليا، اليابان، ليبريا، نيكاراجوا، هندوراس، بنما، بيرو، البرتغال، رومانيا، يوغوسلافيا، سيام، تشيكوسلوفاكيا، اورجواي. وهذه الدول يطلق عليها اسم أعضاء مؤسسين لعصبة الأمم.

ثم انضم إليها 13 دولة كانت على الحياد أثناء الحرب وهي: أرجنتين، شيلي، كولومبيا، الدانمرك، أسبانيا، نرويج، باراجواي، هولندة، إيران، سلفادور، السويد، فنزولا. وهذه الدول والتي ذكرت من قبلها تعرف باسم أعضاء أصليين في العصبة. ومن سنة 1920 إلى الآن طلبت عدة دول الانضمام إلى العصبة وقبلت 14 دولة منها وأصبحت أعضاء فيها

وللقبول في العصبة أربعة شروط ذكر نصها في الميثاق، وهي:

(1)

تقبل الدولة عضواً في العصبة إذا كان لها حكومة حرة؛ والحكومة الحرة في رأي ويلسون هي التي تكون على رأس أمة تحظى بالانتخاب العام وحرية الصحافة، وتكون من نفسها حكومة برلمانية، ولكن مع هذا قبلت الحبشة ولم تكن إلا حكومة مطلقة.

(2)

أن تكون الدولة منظمة حتى تستطيع أن تعضد حربيا أي حكم يصدر عن مجلس العصبة.

(3)

أن تمثل الدولة أمة حقيقية تربط أفرادها صلة الجنسية والقومية

(4)

أن تكون الدولة قد قدمت ضمانات فعالة تثبت احترامها للتعهدات الدولية. وقد أثار هذا الشرط مناقشة حادة حين عرض فرض دخول ألمانيا العصبة. وقد طرحت هذه المسألة منذ سنة 1922 من جانب الإنجليز، ولكن مندوب فرنسا تمسك بهذا الشرط وأقفلت المناقشة على ذلك. وقد رفض قبول بعض الدول في العصبة لأسباب مختلفة، ومنها الدول القوقازية مثل أرمينيا وجورجيا واذربيجان لأن حدودها كانت لا تزال مثاراً للاحتجاج فلما سويت هذه الحدود في جلاء، دخلت هذه الدول العصبة في الوقت نفسه الذي دخلت فيه إيران، وقد رفض قبول إمارة ليخنشتين في العصبة لأن مساحة أرضها ضئيلة لم تبلغ الحد الأقصى الذي عينه ميثاق العصبة.

وبعد اجتماع العصبة الأول، دخلها أربع دول هي إسبانيا وكورستارنكا وفنلنده ولكسمبرج. ولما بدأت النمسا وبلغاريا في إنفاذ تعهدات الصلح، استطاعتا دخول العصبة، ثم قطعت

ص: 20

المجر على نفسها وعوداً رسمية صريحة بإنفاذ ما فرض علها فقبلت في العصبة في سنة 1922. ولم يبق في ذلك الوقت خارج العصبة من الدول الكبرى غير الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا السوفيتية. أما ألمانيا فقد رؤي أنها قامت بتعهداتها في مسألة السلاح والتعويضات، ثم جاءت اتفاقات لوكارنو واستقر الرأي على أنها لا تكون ذات قيمة إلا إذا كانت الدول الموقعة عليها أعضاء في العصبة، ومن أجل ذلك قبلت ألمانيا في العصبة في شهر سبتمبر سنة 1926 ومثلها في مجلس العصبة وزير خارجيتها الهر فون شتريزمان. ولكن ألمانيا إنفاذاً لسياستها ورغبة منها في استرداد كامل حريتها، تركت العصبة بعد سنوات قليلة كما استقالت أسبانيا والأرجنتين.

وفي العصبة عنصر دائم هو السكرتارية العامة. وقد نص في الميثاق على أن يكون السكرتير العام إنجليزي. وقد تولى هذا المنصب سير جيمس أرك درموند يعاونه ثلاثة آخرون فرنسي وياباني وإيطالي. والسكرتارية منقسمة إلى جملة أقسام، وهي تعد أعمال مجلس العصبة وتقوم بدور الوساطة بين مجلس العصبة وجمعيتها العامة.

ويمكن أن نقول إن الجمعية العامة هي عنصر الديمقراطية في العصبة، وإن مجلسها هو العنصر المختص بالحكم. وكان من المتفق عليه في بادئ الأمر أن يتكون المجلس من خمسة أعضاء دائمين يمثلون الدول الخمس الكبرى وهي إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا واليابان. ولكن لما امتنعت الولايات المتحدة عن دخول العصبة، كون المجلس من أربعة أعضاء، حتى قبلت ألمانيا فأكملت هذا النقص. وكان من المتفق عليه أيضاً أن يكون إلى جانب هؤلاء ربعة أعضاء مؤقتين، وكانوا بادئ الرأي يمثلون البلجيك والبرازيل وأسبانيا واليونان. ثم زيد عدد الأعضاء المؤقتين إلى خمسة

وليس المجلس بازاء الجمعية في المركز الذي يكون لمحكمة الاستئناف بالنسبة لمحكمة الدرجة الأولى، فليس هناك أي استئناف أو أي فرق في الدرجة، فالمجلس هيئة تنفيذية تسيطر عليها الدول الكبرى ولا يخضع لأية رقابة. والجمعية العامة تسيطر عليها الدول الصغيرة لكثرة عددها، وتستطيع في بعض الحالات أن تعمل بمفردها. وينتج عن ذلك أن الخلاف جائز الوقوع بين هذين العنصرين في العصبة.

واختصاصات مجلس العصبة كثيرة، فهو الذي يوافق على تعيين السكرتير العام ويقرر

ص: 21

محل إقامة العصبة، وهو إلى الآن في جنيف، وهو الذي كان يعد الخطة التي ترمي إلى إعادة النظر في التسلح ويفرض الرقابة على تجارة الأسلحة حتى لا تكون خطراً على سلام العالم. وفي حالة وقوع اعتداء دولي أو ظهور شبح الاعتداء أو خطر الحرب، يتخذ المجلس ما يراه ضرورياً للوصول إلى حل سلمي للخلاف، أي أنه يقوم بدور الوساطة بين الدول الأعضاء. ومن الناحية النظرية. يستطيع المجلس أن يطلب من الدول التي ليست أعضاء في العصبة، أن تتخذ بعض تدابير يراها ضرورية لحفظ السلام. وهو المختص بتسلم وفحص تقارير الدول المنتدبة. ثم أعطت معاهدات الصلح مجلس العصبة اختصاصات مؤقتة مثل إدارة وادي السار (المادة 50 من معاهد فرساي) لمدة 15 سنة. وقد أجري استفتاء في شهر يناير سنة 1935 في ذلك الوادي وكانت النتيجة أن أعيد إلى وطنه الأصلي ألمانيا. وقد عين المجلس لهذا الغرض لجنة مكونة من خمسة أعضاء، فرنسي وساري وثلاثة أجانب. وأسندت رقابة مدينة والزج إلى رقابة مجلس العصبة (المادة 102 من معاهدة فرساي) كما أسند إليه رقابة تسلح ألمانيا والقيام بتحقيق في أرضها إذا تطلب الأمر. وقد تخلصت ألمانيا من كل رقابة واستردت حريتها في التسلح وحطمت أغلال معاهدة فرساي الجائرة، ولم تستطع العصبة منعها من إنفاذ مشيئة شعبها الحي.

ما هي الصلات التي بين المجلس والجمعية؟

الجمعية تعين أعضاء المجلس المؤقتين ولها الرأي في مسألة قبول أعضاء جدد في العصبة. ولكن اختصاصات الجمعية والمجلس في أغلب الأحيان تختلط وتمتزج. وهما يقفان على جميع المسائل التي تدخل في حيز نشاط العصبة أو تمس السلام الدولي. ومن ناحية المبدأ، لا يجتمع المجلس إلا مرة واحة في العام، واجتماعات خاصة، أما اجتماعات الجمعية فعامة علنية

والجمعية تعقد مرة في السنة، ولكنها تجتمع في أي وقت تراه إذا دعت الظروف إلى ذلك، أو إذا جدت مسألة تتطلب النظر في الحال. وفي العصبة لجان كثيرة مثل لجنة العمل الدولي ولجنة المواصلات والنقل ولجنة الاقتصاد والمال ولجنة الصحة ولجنة التعاون الفكري. وقد أنشأت العصبة محكمة العدل الدائمة الدولية بجنيف في سنة 1920 وهي مختصة بالفصل في ضروب النزاع القانوني. أما محكمة لاهاي فمختصة بالفصل في

ص: 22

النزاع السياسي. فكل نزاع الآن يقع بين دولتين أو أكثر، يمكن أن يقدم للفصل فيه إلى ثلاث جهات: محكمة التحكيم في لاهاي، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس عصبة الأمم

وقد ظهر نظام جديد عقب الحرب هو نظام الانتداب. ورقابة الدول المنتدبة من اختصاص العصبة. والانتداب هو إدارة دول ناشئة، موكولة إلى دول كبيرة تعتبر في عرف السياسة أنها أرقى من الدول الواقعة تحت الانتداب، وهي أجزاء من الإمبراطورية العثمانية ومستعمرات ألمانيا القديمة. والانتداب ثلاثة أنواع:(أ) وهو ضرب من الحماية، (ب) وهو قريب جداً من النظام الاستعماري، (ج) وهو عبارة عن ضم مقنع. وليست العصبة هي التي قامت بتوزيع الانتداب، ولكنها فقط أقرت أمراً واقعاً. وفي كل عام تقدم الدولة المنتدبة تقريراً إلى العصبة عن إدارتها، ولمجلس العصبة أن يبدي النقد الذي يرى من ورائه نفعاً.

ونستخلص من كل ما سبق أن عصبة الأمم ضعيفة ليس لها قوة مادية تكسبها الاحترام المرجو، وأحكامها قليلاً ما تطاع، وهي لهذا ترجو وتطلب أكثر مما تأمر وترغم. وما يزال في الأذهان ذكرى اعتداء اليابان على الصين وإيطاليا على الحبشة.

ومن يدري لعل العصبة في المستقبل تستطيع أن تقوم بدور هام يحتاج إليه العالم. وقد كسرت الحرب النظم القديمة وهدمتها، وينبغي إعادة البناء لا من خرائب الماضي وعلى مثالها، بل بطريقة منظمة على ضوء حوادث الماضي واحداثه، حتى تتجنب الإنسانية أهوالاً أفظع وأبشع من التي سبقت

حسن صادق

ص: 23

‌علاقة مصر ببلاد النوبة في الجنس والدين

للأستاذ فهمي عبد الجواد حبيب

تمهيد

بلاد النوبة من البلاد القديمة تقع جنوب مصر وعلى بعد خمسة أميال من مدينة أسوان. ويحدها من الشرق البحر الأحمر ومن الغرب صحراء ليبيا، وتمتد جنوباً حتى ملتقى النيل الأبيض بالنيل الأزرق، غير أن هذا التحديد جغرافياً أكثر منه سياسياً إذ لم يكن لها حدود سياسية ثابتة. وقد كان ملوك الدولة المصرية القديمة يسمونها (خنت) أي الأراضي الجنوبية كما كانت تسمى - أي أرض القوس (أي المشهورون برمي النبال) ولهذا سماهم العرب رماة الحدق.

وقد أخطأ بعض الكتاب في إطلاق كلمة كوش على جميع بلاد النوبة، والصواب أن إقليم (كوش) يمتد من الجندل الثاني تقريباً حتى ملتقى النيل الأبيض بالأزرق، وأما الإقليم الواقع بين الجندلين الأول والثاني فكان يعرف (بالواوات)

هذا ويطلق أيضاً بعض الكتاب خطأ كلمة (أثيوبيا) على بلاد النوبة معتمدين في ذلك على خريطة سريدوت ومن نحا نحوه من المؤرخين. فينسبون للنوبين ما ليس لهم إذ أن هؤلاء المؤرخين كانوا يعنون بكلمة (أثيوبيا) جميع البلاد الواقعة جنوب مصر كالسودان والحبشة وغيرها. ومما زاد الطين بلة في تعزيز هذا التعريف الخاطئ ما وقع فيه رهبان سوريا من الخطأ عند ترجمتهم الإنجيل من اليونانية حيث ترجموا كلمة (كوش) بأثيوبيا ويعنون بها بلاد الحبشة.

وكانت النوبة على عهد العرب تنقسم قسمين: النوبة السفلى وتمتد من الجندل الأول إلى الرابع وعاصمتها دنقلة، والنوبة العليا وتمتد من الجندل الرابع حتى بلاد الحبشة وعاصمتها سوبة على النيل الأزرق.

وقد كانت لهذه البلاد في وقت ما عزة ومناعة ثم اعتورها ما يعتور كل موجود حتى صارت حالها إلى ما هي عليه الآن.

العلاقة بينها وبين مصر في الجنس

ص: 24

أجمع المؤرخون على أن المصريين والنوبيين من أصل واحد مدللين على صحة قولهم هذا بأن كلا الشعبين ينتسب إلى الجنس الحامي فضلاً عن تشابه لون بشرتهم. والواقع أن سكان مصر العليا والنوبة حتى الآن متشابهان، وأما الوجه البحري فنظراً لأن حدود مصر من جهة القنطرة سهلة الغزو فكان عرضة للغارات الخارجية ولذا سار منها الغازون أمثال الرعاة والاسكندر وقمبيز وغيرهم؛ ومن ثم تأثر الوجه البحري بدم هؤلاء الغزاة فتغير كثيراً عن مصر العليا. وهناك عامل آخر أثر في جنسية سكان شمالي مصر وبشرتهم نوعاً ما، ذلك أنه رحل إلى شمالي أفريقيا قبل بناء الأهرام بعض الأوربيين، وهؤلاء المهاجرون انتشروا في شمالي أفريقيا حتى جزائر كناريا. وقد وجدت ابنة لخوفو شرق الهرم الأكبر من الجنس الأبيض ذي الشعر الأشقر وتعليل ذلك أن خوفو تزوج واحدة من هؤلاء البيض، كما أنه وجد في العوينات رسوم لفريقين من المتحاربين السمر والبيض

وقد حدث في عهد الأسرة العشرين حادث ذو بال: ذلك أنه في عهد هذه الأسرة قل دخل الحكومة لفقد مصر كثيراً من البلاد الآسيوية فنقص ما كان يتقاضاه كهنة آمون في عهد الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة فضلاً عن ضعف الملوك، فدعا ذلك إلى ازدياد سلطة هؤلاء الكهنة حتى تمكن أحد رؤسائهم المسمى (حرحور) من اغتصاب العرش وأسس الأسرة الحادية والعشرين، ولكن المصريين اعتبروا كهنة آمون مغتصبين للملك فصار عهدهم فوضى ولم يستطيعوا حفظ سلطانهم ولا القيام بما تتطلبه عظمة آمون من النفقات؛ ورأوا أن معبودهم يعبد في (نبتة) عاصمة النوبة في ذلك الوقت وأن له المقام الأول بين آلهة النوبيين فلهذا اختاروا (نبتة) لتكون قبلتهم في هجرتهم فهاجروا إليها من طيبة بعد أن حكموا بها 121 سنة من 1100 - 979 قبل الميلاد.

وقد رحب بمقدمهم النوبيون نظراً لأن المدنية التي نشرها المصريون في النوبة كانت لا تزال قوية الدعائم، وكان هؤلاء الكهنة على جانب كبير من العلم فساعدهم هذا على أن يكونوا رؤساء كهنة آمون في نبتة وتدخلوا في السلطة الزمنية كما سبق أن تدخلوا في مصلا وتزاوجوا مع النوبيين.

وفي عهد الأسرة 23 تزوج أمير نوبي يسمى (كاشتا) أميرة مصرية، ثم خلفه على ملك النوبة ابنه (بعنخي) وهنا يجب علينا أن نشير إلى ما لهذا التزاوج من أهمية إذ لو كان

ص: 25

النوبيون ممتزجين بدم زنجي لما قبل الكهنة على ما هم عليه من المقام الرفيع أن يتزاوجوا بهم، ولما تزوج نوبي بأميرة مصرية.

الديانة

كان النوبيون كالمصريين يعبدون آلهة عدة مثل تيتون وملول، ولما استولى المصريون على بلادهم احترموا آلهتهم ثم أدخلوا عبادة آمون بها وأقاموا له المعابد، وأخذ النوبيون يعبدون آمون حتى أصبح أكبر آلهتهم وصارت آلهتهم الأصلية في مقام ثانوي

وكان النوبيون يعبدون من الآلهة المصرية غير آمون إزيس وأوزيريس.

دخول المسيحية إليها

لا يعلم بالضبط كيف ومتى دخلت المسيحية بلاد النوبة؛ ويقول البعض إنها دخلت من جهة الجنوب، ولكن ليس هناك دليل يثبت صحة ذلك. والمرجح أنها دخلت في هذه البلاد من جهة الشمال عن طريق مصر في أول القرن السادس حيث كانت الوثنية هي دين أهل البلاد (فأليمبيدوس) الذي زار النوبة فيما بين 407 - 425م يقول إن البجة وقبائل أخرى من سكان الصحراء الشرقية كانوا وثنيين، كما أن كتاب شيود وسيوس يثبت أن عبادة إزيس وأوزيريس كانت منتشرة في بلاد النوبة في هذا الوقت؛ وحتى بعد ذلك بثلاثين سنة كانت إيزيس تعبد في جزيرة فيلة. ويؤيد دخول المسيحية إليها من الشمال عن طريق مصر أن المسيحية لما انتشرت في الإمبراطورية الرومانية أخذ الأباطرة يضطهدون معتنقيها ففر بعضهم من مصر التي كانت تحت سيطرتهم في ذاك الوقت إلى الجنوب كما فر البعض إلى الواحات الغربية ليكونوا في مأمن من أذى الرومان وبطشهم. وهذا هو بعينه ما حصل مع الفارق لكهنة طيبة، فإنهم لما أرادوا الهجرة ذهبوا إلى النوبة كما ذهب إليها المماليك في عهد محمد علي باشا فراراً منه.

ولما زاد اضطهاد الإمبراطور دقلديانوس للمسيحيين وأوقع بهم وقعته المشهورة كثر التجاء الرهبان وغيرهم إلى الجبال والصحراء فنزح إليها الكثيرون وأقاموا بها يبشرون بدينهم ما استطاعوا، حتى إذا ما أتى زمن قسطنطين وترك للمسيحيين حريتهم واستأمن الرهبان وغيرهم أخذوا في الظهور وفي إعلان الديانة المسيحية يعملون لها ما استطاعوا إلى ذلك

ص: 26

سبيلاً.

وكان لسلكو زعيم سكان الصحراء الغربية والنوبة أكبر نصيب في انتشار المسيحية في هذه البلاد فقد وجد في معبد كلابشة كتابة ترجمتها (أنا سلكو زعيم سكان الصحراء الغربية والنوبيين كافة قد أتيت إلى كلابشة مرتين وحاربت سكان الصحراء الشرقية (البجة) ونصرني الله عليهم واقسموا لي بآلهتهم إزيس وأوزيريس فصدقتهم) والإله الذي نصر سلكو هو بلا شك إله المسيحيين. ومن هذه الكتابة أيضاً تعلم أن سكان الصحراء الشرقية كانوا إلى آخر القرن السادس الميلادي يعبدون الآلهة المصرية. وقد كان من نتيجة المودة بين سلكوا وجستيتيان (527 - 565م) أن أرسل الأخير أسقفاً وهدايا إلى سلكو فعمد هذا الأسقف الملك سلكو الذي أخذ ينشر المسيحية في بلاده. وفي عهد خلفه أربانوم تحولت معابد كلابشة والسيوع وعمدة وأبو سمبل وفيلة إلى كنائس، وقد تم ذلك قبل نهاية القرن السادس واتخذ المسيحيون دنقلة عاصمة للمملكة المسيحية.

دخول الإسلام إليها

أرسل عمرو بن العاص بعد أن استتب له الأمر في مصر عبد الله بن سعد لغزو بلاد النوبة عام 21هـ فحاربهم وهزمهم وقرر عليهم الجزية ولكنه لم يتعرض لدينهم

وفي عام 31هـ غزاهم عبد الله بن سعد في خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه لثاني مرة وهزمهم ثم كتب لهم عهداً جاء فيه: (وعليكم حفظ المسجد الذي بناه المسلمون بفناء مدينتكم (دنقلة) ولا تمنعوا منه مصلياً ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من المسيح وذمة الحواريين وذمة من تعظمونه من أهل دينكم وملتكم).

ومن هذا العهد يتضح لنا أمران:

الأول - أن النوبيين حتى عام 31هـ كانوا يدينون بالمسيحية

والثاني - أنه كان يوجد بدنقلة عاصمتهم بعض المسلمين مما أدى إلى بناء مسجد لهم، ولكن من هم هؤلاء المسلمون؟ إني أرجح أنهم من المصريين أو العرب الذين نزحوا إلى العاصمة - دنقلة - بعد الغزوة الأولى بقصد التجارة.

وفي خلافة المأمون ثار البجة، فسار إليهم عبد الله بن الجهم وهزمهم وعقد صلحاً مع ملكهم كانون الذي تعهد بالمحافظة على أرواح المسلمين وأملاكهم.

ص: 27

ومن هذا يتضح أن المسلمين كانوا عدداً قليلاً وكان لهم ممتلكات في بلاد النوبة.

وفي عام 969م أرسل جوهر الصقلي رسلاً إلى جورج ملك النوبة ليستلموا الجزية وليدعوه إلى الإسلام فسلم الجزية ولكنه امتنع عن اعتناق الإسلام.

وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي انتشر الإسلام في الجهات القريبة من دنقلة وما أتت نهاية القرن الرابع عشر حتى كان الإسلام قد عم هذه البلاد.

فهمي عبد الجواد حبيب

المدرس بالمدارس الأميرية

ص: 28

‌حول الثقافة العربية

للأستاذ قدري حافظ طوقان

إن من يطالع المؤلفات الحديثة عن الحضارة العربية يرى آراء متضاربة في الأساس الذي قامت عليه، وفي المناهل التي استقت منها؛ ويرى كذلك تحاملاً عليها وانتقاصاً لقيمتها. فبعض المؤرخين لا ينسب إلى العرب أي فضل في خدمة المدنية، وينفي عنهم الابتكار، ويقول إنهم لم يكونوا غير نقلة للعلوم، وإن نتاجهم العقلي هو من الدرجة الثانية من حيث قيمته وأثره على تقدم العلم، وإنهم كانوا متأثرين بالثقافة اليونانية وقد اتبعوها وفضلوها على غيرها. وهناك فريق آخر من الأوروبيين يرى غير ذلك، ويقول بأن العرب فضلوا الثقافة الهندية وتأثروا بها أكثر من غيرها، وإنهم كانوا عالة عليها اقتبسوا منها أكثر ما جاءوا به من آراء ونظريات في العلوم والفنون، ويرى هذا الفريق في هذا نقصاً معيباً وناحية الضعف في الحضارة العربية

وقد حاولت أن أعرف الأساس الذي يبني عليه هؤلاء العلماء أقوالهم وأحكامهم في الحضارة العربية، فتوصلت بعد بحث إلى أن الأساس الذي يعتمدون عليه في هذا الشأن هو هذا الاقتباس، إذ يرون فيه النقطة الضعيفة في تاريخ العلوم والفنون عند العرب

إن اقتباس العرب عن اليونان أو الهنود أو غيرهم ممن سبقهم من الأمم لم يكن إلا بموجب غريزة في الإنسان تميزه عن الحيوان، فالإنسان على رأي الفيلسوف كورزبسكي يأخذ دائماً ما عمله غيره ويزيد عليه، وإن قوة الإنتاج في (الإنسان) لا تقوم وتقوى إلا على نتاج السابقين. وعلى هذا فليس في الجري على هذه الغريزة عيب أو مجال للتنقص

لا ننكر أن العرب اقتبسوا عن غيرهم، وهذا الاقتباس مما ساعد على تقوية قوى الإنتاج فيهم، ومما أدرى إلى إصلاح الأخطاء التي وجدوها في تراث الأمم التي سبقتهم والى إضافة بحوث ونظريات هامة جعلت العلماء المنصفين يعتبرون بعض العلوم من موضوعات العرب. وتصفح بسيط لتاريخ العلوم في الرياضيات والطبيعيات والطب والفلسفة والفلك يثبت صحة رأينا ويريك خصب القريحة العربية بأجلى بيان

قال البارون دي فو: (إن الميراث العلمي الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به، أما العرب فقد حفظوه وأتقنوه. . . فهو لم يكونوا حفظة وخزنة للعلوم فحسب، ولكنهم توفروا

ص: 29

على ترقيتها وتطبيقها باذلين الجهد في تحسينها وإنمائها حتى سلموها للعصور الحديثة. . .) وقال الدكتور سارطون في إحدى محاضراته في جامعة بيروت الأميركية: (إن بعض الأوروبيين يحاولون أن ينتقصوا من قدر العرب العلمي في القرون الوسطى، وذلك بقولهم إن العرب لم يكونوا غير نقلة للعلوم ولم يزيدوا عليه شيئاً. . . هذا خطأ. . . وإذا افترضنا أن العرب لم يكونوا غير نقلة أليس في عملهم هذا خدمة كبيرة للعالم؟ فلولا نقلهم لما تقدمت العلوم تقدمها الحاضر ولكنا حتى الآن في قرون وسطى. . .)

ويعتقد الدكتور سارطون بأن نقل العرب لم يكن ميكانيكياً بل على الضد فليه روح وحياة

هذا من جهة الذين يعيبون على العرب نقلهم عن الغير، أما الذين يقولون بان العرب فضلوا ثقافة على أخرى فمخطئون، وسنحاول تبيان رأينا بإيجاز

اختلفت أقوال علماء الغرب في أي الثقافات فضل العرب فقال كاجوري إن الكرخي وأبا الجود والخيامي فضلوا الطريقة اليونانية على الهندية في استعمال الأرقام، وقال كانتور بوجود مذهبين مختلفين (في زمن البوزجاني) أحدهما يتبع الثقافة الهندية والآخر اليونانية، وقال أحد علماء الغرب بأن العرب تأثروا بالثقافة اليونانية وفضلوها على غيرها، وقال آخرون مثل ذلك في الهندية

والحقيقة أنه لم يكن موجوداً أي تفضيل، فقد كان علماء العرب في العصر العباسي يترجمون ما يقع تحت أيديهم من المخطوطات هندية كانت أو يونانية، فالبيروني ذهب إلى الهند وساح فيها بقصد البحث والاستقصاء والتنقيب، وكذلك محمد بن موسى بن شاكر ذهب إلى اليونان ابتغاء الحصول على مخطوطات ورسائل، وهناك من العلماء العرب من أوجدتهم ظروفهم إلى أن سيتقوا من ثقافتين أو أكثر وقد مزجوا ما استقوا وكونوا من ذلك ثقافة خاصة. وعلى هذا فلم يكن هناك فكرة تفضيل إحدى الثقافات على غيرها بل جمع العرب الثقافات المختلفة التي نهلوا منها وخرجوا من هذا الجمع بثقافة تميزهم على غيرهم من الأمم. وقد لاحظ الدكتور سارطون كل هذا فقال:(والعرب لم يقتصروا على علوم اليونان فحسب، بل أخذوا عن الهنود، وفي كثير من الحالات جمعوا بين الثقافتين الهندية واليونانية. . .) وسبق الجاحظ الدكتور سارطون فيما قال، فنجد في كتاب الحيوان ما يلي: (وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس فبعضها ازداد حسناً

ص: 30

وبعضها ما انتقص شيئاً. . .)

يتبين مما مر أن العرب لم يفضلوا ثقافة على أخرى، ولم يأخذوا بإحدى الثقافات ويتركوا البواقي، إنما هم طلاب علم راحوا يبحثون عنه في الكتب والمخطوطات والرسائل القديمة من يونانية وهندية وفارسية وحبشية وسريانية وعبرية وغيرها، فنقلوا ما عثروا عليه إلى لسانهم وهو معظم ما كان معروفاً من العلم والفلسفة عند سائر الأمم المتمدنة، وكان أكثر نقلهم عن اليونانية والفارسية والهندية؛ وقد يكون النقل عن اليونانية أكثر من غيره ولكن هذا لا يعني أن العرب فضلوا ثقافة على غيرها. وعلى فرض أنهم تأثروا بالثقافة الإغريقية، فهل هذا يعني أن نية علمائنا الأقدمين تفضيلها على غيرها. وعلى كل حال فالقول بأن العرب فضلوا ثقافة على أخرى أو القول بوجود مذهبين مختلفين أحدهما يتبع الطريقة اليونانية والآخر الهندية قول خطأ لا يجب أن يؤبه له وهو من خيالات المستشرقين، إذ لا يوجد من الأدلة ما يحققه بل على العكس لدينا شواهد عديدة تجعلنا نميل إلى أن العرب لم يخطر ببالهم تفضيل ثقافة على أخرى كما تجعلنا نميل أيضاً إلى القول بعدم وجود مذهبين مختلفين أو مذاهب مختلفة، وبأن المآثر العربية في العلم والفن تأثرت بعناصر الثقافات المتعددة التي ساعدت على إيجاد ثقافة عربية لها مميزاتها وخصائصها الممتازة.

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 31

‌اتجاهات الأدب العالمي في العصر الحاضر وكيف

‌يتجه أدبنا

للأستاذ خليل هنداوي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

والآن أراني أجملت إبراز الاتجاهات الاجتماعية والعوامل التي تؤثر في الآداب الحاضرة فأين نجد في أدبنا في غابره وحاضره وكيف يتجه؟

كنت أود أن يتسع لي المجال أو أن يرجأ البحث عن اتجاهات أدبنا في الغابر إلى فرصة ثانية، لأن التكلم عن اتجاهات أدب مهما كانت قيمته ليس بالشيء الذي يغني فيه الإلمام، ولكني ناظر إلى ناحية من نواحيه الاجتماعية القومية، وغير خائض في خصائصه الأدبية.

إن أدبنا أيها السادة كان كثير الخصب والإنتاج؛ وتبارك الله ما كان أخصبه! ولكن خصبه في الموضوعات التي نثب إليها اليوم كان خفيفاً جداً. خذوا الشعر مثلاً، والشعر أبرز ما راج في أدبنا، فهو شعر لا أجده قد صفا كثيراً لنفسه ولا لمجتمعه. نما بعضه في جو أرستقراطي لا يتصل بسواد الشعب، نما في ظلال الطبقة المترفة؛ وإذا غادر هذا الجو غادره إلى جو كان يرائي الأديب فيه ويداجي. أما المجتمع فلم يقم له أدب خاص يعبر عنه. وإذا أفاد بلاط الملوك والأمراء في نمو بعض الأدب الذي كانت تستحثه الدعايات والعصبيات فقد قتل ذلك الأدب الذي كان يجب أن ينطلق عن الحياة. وهذا المتنبي على جلاله وهو الذي يعد أحد الشعراء مزاجاً وأكثرهم اندفاعاً لم يخلص من أدب الرياء. وهذا المعري الذي يطفح شعره ببعض نظرات متألمة لا نجد أن تألمه كان نتيجة اختلاطه بالمجتمع، ولكنه كان وليد تشاؤم صرف اختص به مزاجه. ويمكنني القول إن كثيراً من أدبنا خلقته أزمات سياسية وعصبية ليكون ضرباً من ضروب الدعاية. ولكنه كان مجرد دعاية تؤرث نار العداوة، وتعبر عن نوازي العصبية في الأحزاب والقبائل وتحيي الضغائن في الأمة الواحدة. على أن أزمة الشعوبية التي احتدمت نارها بين الأعارب والأعاجم كان بها أن تخلق نوعاً قوياً من أدب الدعاية القومية ولكن الأدب لبث يمالئ الأوساط المترفة، ينظم لها الشعر مسبحاً بحمدها، أو مسلياً لها من مللها وسأمها.

ص: 32

أما أدبنا الحاضر فلا يمكننا الركون إليه، لأنه أدب مضطرب يمثل اضطراب هذه الثقافة المكتسبة التي لم نتم هضمها ولم تتمركز فينا! أدبنا الحاضر لم يتحرر من قيود القديم سالكاً طريقته الخاصة دون تردد. وأديبنا لم يؤمن بأن في الحياة التي تتكرر فصولها كل يوم أمام عينيه أدباً غنياً يغذي فكره؛ وأديبنا لا يزال يعتقد بأن النزول إلى الحياة يضعف من قيمة أدبه. وبهذا يكتب الأدب فيه كل الألوان إلا لون الأدب، وفيه أثر كل بيئة إلا بيئته التي هو فيها. على أن الأديب الحقيقي حين يبث نفحة أرضه يحملها لتعانق نفحات الأرض كلها، وحين ينشر نسمة لشعبه ينشرها ليضمها إلى نسمات الشعوب!

لا أود أن أحدثكم من أدبنا الحاضر عن آفاقه الإنسانية التي يسمو إليها، ولا عوالمه الرحبة التي تتعانق فيها الإنسانية، ولا ذلك الجمال الذي يكسو الآثار الكونية به، وإنما أحدثكم عن اتجاهات أدبنا من الناحية التي هي أصدق انطباقاً على حياتنا الحاضرة، وهذه الحياة الحاضرة مؤثرة في أدبنا مهما فر منها، وفي أديبنا مهما تجافى عنها! لأن الأديب ليس كالعالم الذي يقدر أن يحيا في بيئة وكأنه ليس منها!

لو أراد واحد في الأجيال الآتية أن يستقرئ نفوسنا وحالنا لرأيته لا يستطيع، لأننا لا نمثل في أدبنا عواطفنا ولا نصبغه بألواننا. إنا نكتب أدباً لا يمثل آلام حياتنا الاجتماعية والنفسية التي نعانيها. ألم تمر بنا أزمات مختلفة وظروف مروعة؟ فأين الأدب الذي ولدته هذه الأزمات؟ وأين قصة كقصة البؤساء تمثل البؤس الذي برح بنا في عهد الحرب؟ وأين القصة التي تمثل حيرتنا وألمنا؟ وأين مسرحية كمسرحية (غليوم تل) تصور أبطالنا وشهداءنا؟ وهذا شوقي الذي خلف لنا تراثاً من سر حياته الشعرية لم يجد في هذه الأزمات ما أوحى إليه مسرحية يصور بها مشهداً من هذه المشاهد التي قد يكون فيها ما هو أشد وأقوى على خلق التأثير من الموضوعات المطوية التي عالجها في مسرحياته. وأخيراً أين ذلك الأديب الذي يترجم عن عصره؟

على أن البعض يقول: وما عسى يغني الأدب الذي يأتي بالتلقين لا بالالهام؟ وكيف يملك حريته في التعبير، وإنما الأدب بحريته؟

أجيب هذا البعض بأني لا أدعو أدبنا إلى أن يتقيد، وما كنت يوماً لأدعو إلى أن أخلق للأدب أجواء محدودة يخوض فيها. وكيف أدعو إلى تحديد اتجاهات الأدب والتحديد معناه

ص: 33

وقف روحه وحريته التي لا يحيا إلا بها؟ كيف أدعو إلى حبسه ضمن تقاليد جديدة؟ ولكأني بذلك أهدم تقاليد وأرفع تقاليد وفي هذه وتلك عبودية، وفي العمل نفسه عبودية أدهى!

أجل! لا أريد أن يكون الأدب كله اجتماعياً، أو ذاتياً، أو إنسانياً أو قومياً! وإنما أنشد أدباً حراً يستوحي إبداعه من قلب الحياة، لا يكونه من الحياة على هامشها، وإنما على متنها. ولا يمر هو بجانب ويترك الحياة بجانب آخر. وإنما همه أن يرافق الحياة في مراحلها، ويعمل على تفوقها وتساميها. همه أن يوجه الحياة كما يريد. وإذا تحدثت عن اتجاهات يتجه إليها فإنما هي اتجاهات يكون للأديب فيها مادة غزيرة، وعالم نبيل الغرض.

إننا أمة لا نزال في دور الكفاح، الكفاح في كل نواحيها. ودور الكفاح دور اضطراب وحركة، وهذا الدور لا يجمل بالأديب أن يمر به هادئاً ساكناً دون أن يرفع صوته، وإنك لن تجد أمة خلا مثل هذا الدور فيها من أدب يمثلها ويعبر عنها ويستحثها ويجعل قلبها بركاناً هادراً مهما كانت هذه الأمة حرة النزعة، إنسانية المبدأ. لأنها ترى قوميتها مثل إنسانيتها، ولن يصدق للإنسانية قلب لا يصدق لوطنه، وليكن أدبنا مجرداً ما أراد، متوجهاً حيثما توجه، ولكنا نريد معه أدباً قوياً يساهم في بناء الجبهة القومية، ويستمد روحه من الثقافة القومية، ونريد معه أدباً اجتماعياً يخلق ثورة التجديد والإبداع وينفض هذه المزق الرثة من التقاليد، إذ لا يؤتى الانقلاب السياسي ثمره إذا لم يكن مقروناً بالانقلاب الاجتماعي.

أحس هنا بل أكاد أسمع أصواتاً تنادي من حولي: أتريد أن تجعل من الأدب الواسع الإنساني خادماً للقومية، ومهذباً للمجتمع؟ كأنك لم تعرف التعاريف الأولية التي تفصل الأدب عن القوميات والفن عن الأخلاق التي ضيقت حدوده وأفسدت جماله الذي لا يحيا إلا في المطلق!

بلى! إني أفهم كما يفهمون، وأدرك أن للأدب غاية أسمى وأعلى، ولكني ممن يعتقدون أن الأدب لا يتجرد من شخصية أمته كالأديب لا يستطيع أن يتجرد من شخصيته ولا يمكنه أن يكون إنسانياً قبل أن يكون قومياً؛ وإذا تكلمت عن اتجاهات أدبنا الحاضر فإن عوامل كثيرة تحملني على تحديد هذه الاتجاهات؛ وقد تكون هذه الاتجاهات مفيدة لظروف حاضرة تموت بموتها، وقد يبطل غداً بعضها ويبقى بعضها، وقد يبطل كلها ولكن ما همي مادمت أعتقد

ص: 34

أن هذه الاتجاهات محيطة بحياتنا الحاضرة، ولا نستطيع أن نحل عقدة من عقدها إلا بمقتضاها!

يظنون أن الأدب القومي أن يكون الأديب بوقاً ينفخ في كل حادثة، وفي مقدم كل وزير أو زعيم، ومثل هذا الأدب لا يحتاج إلى أن نبدي إعراضنا عنه، وإنما الأدب القومي روح يعلقنا بحب هذا الجو وهذه الارض، ويجلو لنا عن روائع الجمال فيها، ولست أذكر أنني تلوت شيئاً من هذا!

أذكر أنني في هذه السنة كن أنا ورفاق نقوم برحلة في أطراف الفرات الاوسط، فجزنا قرية تدعى (الميادين) وكانت أناشيد الرفاق تتعالى. فهب من في السوق يصفقون لهم، فما راعني ذلك، ولكني أبصرت رجلاً ضريراً مخدود الوجه، ممزق الثياب، هب يلمس بوجهه مواقع الصوت والصدى ويداه تصفقان، فطفرت من عيني دمعة وتمثلت الشعور الوطني يتيقظ في نفسه. فقلت: ألا يجد أدباؤنا في هذا المظهر مادة وموضوعاً؟ ألا يجد شاعرنا عاطفة تهزه كالعاطفة التي ولدتها فيه قبلة محبوبة؟ وأخيراً ألا نجد في هذا الضرير رمزاً للأمة التي فقئوا عينيها فهبت تتلمس النور بغير الحاسة التي خلقت لالتقاط النور، وقد استحالت كل حاسة في جسدها عيناً تبصر، وقلباً يشعر!

أعرف في هذا البلد فئة - قد تكون مخلصة - تدين بالأدب الإنساني، ولا تعنى بالأدب القومي، تمشي فوق رءوس الحقب، وتعلو على حالات عصرها لأنها في اعتقادها حالات زائلة كالغيوم؛ ولا أستطيع أن أناقش هذه الفئة، ولا أن أصرفها عن غايتها النبيلة، وكلني أعلم أن الأدباء الإنسانيين أنفسهم الذين بشروا بالدعوة الإنسانية والأدب الإنساني هم قوميون قبل أن يكونوا انسانيين، لأن الذي لا يتسنى له أن يحس آلام شعبه الذي هو من لحمه ودمه، لجدير بألا يتسنى له أن يحس آلام الإنسانية. .

اتركوا الأدب والفن وعودوا إلى العلم المجرد والأخلاق تجدوا أن كل شعب يثبت فيهما شخصيته التي تختلف عن شخصية غيره. تأملوا الطرق الرياضية الجبرية التي يسلكها العقل الجرماني تجدوا أنها طرق مطلسمة مبهمة تلائم هذا العقل. على حين أن العقل الفرنسي الرقيق يخضع المنطق له ويسلك فيه الطرق الواضحة. وكذلك قولوا في الأخلاق: فكل أمة رتبت أنظمتها بحسب عاداتها. ولو أن طريقة العلم واحدة لما وجدنا طريقة كل

ص: 35

عالم تختلف عن طريقة الآخر. . . وإذا كان هذا شأن العلم والأخلاق فكم يكون اختلاف الأدب والفن اللذين يترجمان عن حياة الأمة؟

يقولون: لا وطن للفن! باعتبار أنه إذا صدر عن إنسانية معينة فإنه يخص كل الناس. لأن الإنسانية الكلية هي مجموعة هذه الانسانيات، والفن الكلي هو مجموع هذه الفنون، والفن صلة القربى بين الناس.

يقولون: لا وطن للفن! وأنى لنا أن نسلخ الفن عن الشعب الذي خلقه على صورته، أبالإمكان أن نسلخه عن الطبيعة التي أحاطت به، والتراب الذي حمله؟ والسماء التي حنت عليه، والهواء الذي تنشقه، والوطن الذي احتضنه، وصدى أصوات الأجداد الذين نقلوا إلى الأحفاد ما ورثوه؟ إن الشعب باستطاعته أن يقتبس عن شعب آخر ثم يبقى ما يقتبسه كما هو؛ ولكن من جراء ذلك أن يتنازل عن شخصيته، ويخضع لهذا الغريب خضوعاً أعمى لا يفسر إلا بالجحود بعبقرية الوطن. لقد أخذت روما عن اليونان أنظمتها وفنونها التي أحبتها ولكنها لم تفهمها، فأعطت زخرفة جميلة ولكنها لم تعط أثراً فيه حياتها. وهكذا لا نستطيع أن نقول: هذا أدب إنساني قبل أن نقول: هذا أدب عربي أو إيطالي أو جرماني! إن أطوار الأدب والفن هي ترجمان صادق عن العصر المتحول، يظهر لنا مراحل الطريق، ومراحل السعي، ويحدد لنا أعمار الأمة، ومن خلال كل هذه الخطوط والصور والألوان نجد صورة الوطن، ونستشف ملامحه الحقيقة؛ وقد رأينا أن الأدب أكثر أنواع الثقافة تعلقاً بحياة الأمة، لأنه لا يصور إلا حياتها ولا يسرح إلا في جوها، والذرية العبقرية تكتسب من بيئتها صفات متى حان الوقت أظهرتها، وحولتها إلى الإبداع؛ وعصير الأرض الوطنية يسقي الشجرة الإنسانية؛ وبهذه الإنسانية الشخصية، وبهذا المثل الأعلى الخاص يعلن كل شعب مزاياه وعبقريته. والعظماء أنفسهم لم يستغنوا عن هذه القاعدة، لأنهم كانوا قبل كل شيء وليدي بيئتهم وجيلهم.

إن إنكار القومية ليس جحوداً بقيمة التاريخ وتنائجه فحسب، بل هو إغضاء عن الجغرافية وجهل بعمل الأرض والسماء والبيئة، لأن الأوطان ليست بفكرات خيالية ولا شعرية ولا وهمية، وإنما هي حقائق ظاهرة ثابتة؛ والثقافات المختلفة تثبت ذلك، وكل وطن يحدد حياة أهله ويلهمهم فنه! ولكل شعب أدبه وفنه، وهو بهذا يمثل دوره في القصيدة الكبرى، وإنا

ص: 36

نود أن نعود إلى حمل مشعل جديد ورسالة جديدة إلى الإنسانية، ولكنا نريد ألا تصرفنا هذه الإنسانية عن قوميتنا، بل نريد أن نكف عن هذه الإنسانية إذا ساومتنا على قوميتنا!

أذكر في هذا الموقف حادثة طريفة أدبية تمثل تأثير القومية في الأفراد الذين كانوا يؤمنون بالدعوة الإنسانية. لقد كان العالم النقادة الفرنسي (تين) ذا ثقافة ألمانية صرفة. كان يعجب بألمانيا ويحبها حباً جماً ويراها له وطناً ثانياً بعد فرنسا. وكان يرى مع الفيلسوف (رينان) أن ألمانيا هي أم العقل والذكاء. وأن الألمان هم أساتذة العالم في العلوم والآداب والفلسفة، وهم أساتذة العقل الراهن. هبت حرب السبعين، وغمرت ويلاتها الفرنسيين. فضربت اعتقاد (تين) في الصميم، وكانت له يقظة قاسية مؤلمة، إذ وجد القول بأن العلم الإنساني هو كل شيء للإنسان قولاً كاذباً، وألفى أن الفن لا يحيا إذا كان الوطن يتمرغ في الشقاء، فأخذه الإشفاق على وطنه، وحمل بعدها حملات عنيفة على غطرسة العقل الألماني الإنساني، وقال:(إن زمان العلم الخالص الإنساني قد انتهى. . . والآن يجب قبل كل شيء أن نساعد فرنسا على أن تحيا حياة تنطبق على حياتها الماضية. . .)

ونحن في مرحلة شبيهة بهذه المرحلة، لا يجدر بنا في الوقت الذي تفتش فيه الأمم عن قوميتها، أن نضيع قوميتنا بحجة الإنسانية. وقد قدمنا للإنسانية تراثاً خالداً من الدين والفلسفة في سبيل الإنسانية. . . وكيف نطمع ونحن ضعفاء القومية أن نفيد الإنسانية؟ والأمة الضعيفة القومية لا تعطي نتاجاً!

أعطوني أمة ضعيفة القومية ذات نتاج خالد! أليس لنا في اليونان أمة العبقرية والفن مثل واضح على ذلك؟ لقد تحجرت مواهبها وعبقريتها منذ تلاشت قوميتها. وهل أعطى العرب نتاجهم الأدبي إلا يوم كانوا أقوياء؟ وأي نتاج لهم في عصر الضعف والتلاشي؟ وهل يدرس الطلاب من الأدب الغربي إلا أدب الأمم التي ثبتت قوميتها، وخفقت حريتها؟. . . وإذا كانت الثقافة أحلت لهذه الأمم أن تسخر ما لا يسخر للدعاية أفهل يلومنا أحد على أن نسخر هذا الشيء نفسه لغاية أسمى وأعلى، لغاية إحياء قومية نبيلة:(ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). . . إني أخاف إذا غالينا في تجريد أدبنا من قوميتنا أن يقولوا: هذا أدب إنساني ولكن بلا وطن! وضعف القومية يقتل كل خاصة مبدعة في الشعوب. لقد عملنا عملنا الإنساني كأفراد فلنجرب أن نعمله كأمة!

ص: 37

نحن في مرحلة نستطيع أن نقول فيها للأديب ما قاله وزير الدعاية النازية: (لا يحق لك أن تقول (لا يهمني شيء من هذه المرحلة). وما قاله مكسيم غوركي (يجب على كل أديب أن يشعر بمسئوليته الخطرة في هذه المرحلة لأن عليك أيها الأديب يتوقف كل شيء لأنك لست حاكياً تردد، ولا آلة فوتوغرافية عمياء تصور ما يعرض لعدستها، ولا اسطوانة حاك تستنطقها أية إبرة نفس الكلمات، وإنما أنت الصوت وغيرك الصدى. أنت الريشة التي تصور، والأمة الأخيلة التي تلتقطها. أنت الإبرة التي تنقش على الاسطوانة ما تريد والشعب الاسطوانة، فعليك أن تتخير الكلمات التي تريد أن تنقشها. . . وإذا كان هم الرجل السياسي أن ينظم علاقات أمة وشؤونها في الداخل والخارج. فإن هم الأديب أن يوجه حياته ومجتمعها. ويعطينا أدباً يستمد حياته من قلب حياتها لا من بطون الكتب والحجارة. . .)

الساعة قد دنت: وعلى هذه الأرض التي سطعت عبقريتها يريد جديد من المجد والجمال أن يتيقظ!

إنا تذوقنا من ألوان الاضطهاد في الأجيال السابقة ما يجعلنا نسخر حتى السماء في تشييد حريتنا وقوميتنا. . . فكيف لا نسخرك أيها الأدب لهذه الحرية، وكيف لا نسخركم أيها الأدباء لأدب أرى فيه وجه أمتي.؟

خليل هنداوي

ص: 38

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 5 -

الرافعي في أهله

(إذا رأيت رجلاً موفقاً فيما يحاوله مسدد الخطى إلى الهدف الذي يرمي إليه، فاعلم أن وراءه امرأة يحبها وتحبه!)

وأنا لا أعرف - فيمن أعرف - أحداً تنطبق عليه هذه الحكمة الغالية انطباقها على حياة الرافعي؛ فالواقع الذي يعرفه كل من خالط الرافعي واتصل به وعرف طرفاً من حياته الخاصة، أنه ما كان ليبلغ مبلغه الذي بلغ لولا الحياة الهادئة التي كان يحياها في بيته؛ فإلى زوجه يعود فضل كبير في نجاحه وتوفيقه وهدوء نفسه، هذا الهدوء الذي هيأه إلى دراسة نفسه ودراسة من حوله والتفرغ لأدبه وفنه، لا يشغله عنهما شاغل مما يشغل الناس من شئون الأهل والولد.

وقد تزوج الرافعي في الرابعة والعشرين من عمره؛ ولزواجه قصة فيها طرافة وفيها مجال للفكر والنظر؛ ومادمت قد أخذت على نفسي أن أكتب عن الرافعي في كل أطواره، فلا علي أن أقول ما أعرف من قصة زواج الرافعي؛ ولا احسبني بذلك أتجاوز ما لي من الحق أو أتعرض لعتب أو ملامة، فقد خرج الرافعي من ملك نفسه وأهله إلى حكم التاريخ، وللتاريخ حق واجب الوفاء

وزوج الرافعي مصرية صريحة النسب، من أسرة البرقوقي المعروفة في (منيه جناج) - دسوق - وأخوها الأديب الكبير الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب (البيان)؛ وقد كانت صلة الأدب بين الرافعي وعبد الرحمن البرقوقي هي أول السبب في هذا الزواج.

حدثني المرحوم الرافعي قال:. . . كنت في الرابعة والعشرين وكنت أعرف عبد الرحمن البرقوقي نوعاً من المعرفة التي تربط بين شابين توافقا في الطبع، واتفقا في الغاية؛ وكان

ص: 39

عبد الرحمن طالباً أزهرياً ولوعاً بالأدب، له حظوة ومكان عند الأستاذ الإمام إذ كان من تلاميذه الأدنين؛ وكنا نلتقي أحياناً؛ فسرني منه ما سره مني؛ وكان يعيش عيشة مترفة ليست منها حياة الأزهريين إذ كان له من غنى أبيه ومن جاه أسرته عز وكرامة. . . فما تعارفنا حتى تصافينا، ثم اتصل بيننا الود، فكنت له وكان لي أصفى ما يكون الصديق للصديق. . .

لم أكن أعرف له أخاً أو أختاً، ولم يجر في بالي قط أن الصلة بيننا ستتجاوز ما بيننا، حتى كان يوم جلست فيه أتحدث إلى نفسي، فكأنني سمعت صوتاً من الغيب يهتف بي أن صديقي عبد الرحمن هو صهري وأخو زوجي. . . وانتبهت إلى نفسي وأنا أسائلها: أله أخت؟ يا ليت. . .! لو كان إنني إذاً من السعداء. .

وكانت نفسي في الزواج، فما هي إلا أن تحرك في نفسي هذا الخاطر حتى سعيت إلى صديقي عبد الرحمن، وقلت له وقال لي، وجرنا الكلام إلى حديث الزواج، فقلت لصاحبي: من لي يا أخي بالزوجة التي أريد؟ ووصفت له الفتاة التي تعيش في أحلامي؛ فلما فرغت من حديثي قال صاحبي: أنا لك بما تريد. قلت: أتعرف؟ قال: هي هدية أقدمها إليك. قلت: من؟ قال: أختي!

قال الرافعي: وغشيتني غشية من الفرح، فما تلبثت حتى مددت إليه يدي فقرأنا (الفاتحة)، وما وقع في نفسي وقتئذ أنني أمد يدي لأخطب عروسي لنفسي، ولكني أمدها لأتعرف إلى العروس التي خطبتها علي الملائكة وأثبتت نبأ الخطبة في لوح الغيب

وبنى بأهله، وعاشا أهنأ ما يكون زوج وزوج، ثلاثاً وثلاثين سنة - ثلث قرن - لم يدخل الشيطان بينهما مرة واحدة، ولم يتخاصما لأمر، إلا مرة. . .

قال الأستاذ جورج إبراهيم: لقد حضرت عرس الرافعي، وصحبته طوال يومه حتى صعد إلى جلوة العروس، وشهدت اضطرابه وخجلته، واستمعت إليه من بعد يتحدث عن سعادته ويغبط نفسه على حظه وتوفيقه، وما شكا إلي مرة واحدة هماً ناله، ومضى عام. . . وجاءني ذات يوم، فجلسنا نتحدث، وتسرحنا في الحديث، ولكن وجه الرافعي كان ينم على شيء. . على سر يطويه، ثم لم يلبث أن أفصح، قال: يا جورج، لقد عزمت على أمر. . . سأطلق زوجي! وراعني هذا النبأ ونال مني؛ قلت: تطلقها! لماذا؟ قال: إن إخوتها يجحدون

ص: 40

حقها في تركة أبيها، لا يريدون أن تستمتع منه بشيء. . . قلت: فهذا هو السبب؟ قال: نعم، قلت: فما ذنبها هي؟ قال: أيهون عندك أن تكون زوجي ليس لها عند إخوتها حق ولا كرامة؟ قلت: ويهون عندك أن تأخذها بما اقترف أخوها؟. . . مصطفى، إنك جبار، أو لا فاذكر أن الطلاق جريمة لم يقترفها قبلك أحد من أسرة الرافعي؛ أو لا هذا ولا ذاك، فاذكر أن أهل (طرابلس الشام) لا يذكرون الطلاق إلا كما يذكرون نادرة معيبة وقعت مرة ولن تتكرر من بعد. . . فكن بعض أهلك يا صاحبي. . .!

قال: وأطرق الرافعي هنيهة ثم قال: أحسبتني أفعلها. . .!؟ ولم يدخل الشيطان من بعد بينه وبين أهله، إذ كان كل منهما يعرف لصاحبه حقه وواجبه. . . ومضت اثنتان وثلاثون سنة بعد هذه الحادثة، كما يمضي شهر العسل، أو شهر الغزل، ليس فيه إلا العطف والمحبة والاحترام.

كان الرافعي يعيش في بيته عيشة مثالية عالية؛ فهو زوج كما يجب أن يكون الزوج، وأب كما ينبغي أن يكون الأب؛ وما كان منكوراً لأحد من أهله أن الرافعي ليس موظفاً كسائر الموظفين عمله في الخارج وحسب؛ بل كانوا جميعاً يعلمون ما عليهم لهذا الرجل الكبير، ويشعرون بما عليه من تبعات تفرضها عليه مكانته الأدبية، فيهيئون له أسباب الهدوء والراحة والاطمئنان. كان في بيته كالملك من الحكومة الدستورية: يملك ولا يحكم، ويعيش في جو من الاحترام والرعاية والطاعة، فرق الأحزاب وفوق المنازعات؛ فمن ذلك لم تكن (سياسة) البيت تشغله أي شغل أو تشغب في هدوئه وتعكر صفوه؛ فكان خالصاً لنفسه، منقطعاً لفنه وعمله الأدبي، فدار كتبه له هو وحده، وطعامه مهيأ في موعده وعلى نظامه، وفراشه ممهد في موضعه لساعته، ونظامه الذي يحقق له الهدوء والراحة ونشاط الفكر مرعي مضبوط

على أنه كان إلى ذلك يعرف واجبه لزوجه وأولاده، فما هو إلا أن يفرغ من عمله حتى تراه بين أهله مثلاً عالياً من الحب والوفاء؛ وأنا ما عرفت أبا لأولاده كما عرفت الرافعي؛ إذ يتصاغر لهم ويناغيهم ويدللهم ويبادلهم حباً بحب، ثم لا يمنعه هذا الحب الغالي أن يكون لهم أباً فيما يكون على الآباء من واجب التهذيب والرعاية والإرشاد، ناصحاً برفق حين يتحسن الرفق، مؤدباً بعنف حين لا يجدي إلا الشدة والعنفوان.

ص: 41

ومادمت بصدد الحديث عن الرافعي في أهله، فإن واجباً علي أن أتحدث هنا عن شيء من (حب الرافعي) أراه يتصل بهذا الموضوع:

في فترة ما من حياة الرافعي - سأتحدث عنها بتفصيل أوفى فيما بعد - كان للرافعي هوى وغرام، ووقع له في هواه ما يقع للمحبين من ضرورات الحب، ودافع نفسه ما دافع فلم يجد له طاقة على المقاومة، واحتال على الخلاص فما أجدته الحيلة إلا هماً على هم، وكان حبه أقوى منه، ولكن دينه وأخلاقه كانت أقوى من حبه. وقال لنفسه: ما أنا وهذا الحدث الذي يعترض طريقي ويغلبني على إرادتي؟ إن في بيتي امرأة أحبها وتحبني - والحب عند الرافعي لا يأبى الشركة! - وإن لها عليّ حقاً ليس منه أن يكون مني لغيرها نظرة أو ابتسامة إلا أن تأذن لي! ماذا يكون من أمري وأمرها غداً أمام الله حين يطلب كل ذي حق حقه؟ أأقول لها: نعم قد ضيعت حقك وأعطيت من قلبي الذي لا أملك لمن لا تملك؟ ويلي! إنها الخيانة والإثم والعار!

وذهب إلى زوجه فحدثها وحدثته، ثم أفضى إليها بخبره وكشف لها عن نفسه، ثم قال: وأنت يازوجتي هل يخفى عليك مكانك مني؟ ولكن. . .

واستمعت إليه زوجته هادئة مطمئنة. . . ثم أذنت له. . . وكتب الرافعي رسالته الأولى إلى صاحبته التي غلبته على قلبه، وقرأت زوجته الرسالة وطوتها وأرسلت بها إلى صندوق البريد. . .

وجاء جواب صاحبته فقرأته زوجته كما قرأت رسالته، وصار هذا دأبهما من بعد. . . لا ترى زوجته لها حقاً عليه إلا أن تعرف، ولا يرى على نفسه في ذلك ملامة مادامت زوجته تعرف. . .!

وأنشأ هذا الحب طُرفتين في الأدب العربي ثم بهما نقص العربية في فلسفة الحب والجمال، هما كتابا (رسائل الأحزان) و (السحاب الأحمر) ولكن. . . ولكن أحداً لم يقرأ القصة الأخرى. . . قصة الحب والوفاء والتضحية، لأن الرافعي لم ينشرها فيما ألف من الكتب في فلسفة الجمال والحب. . .!

(سيدي بشر)

محمد سعيد العريان

ص: 42

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 18 -

الديانة الفارسية

لا ريب أن من يلقي على الديانة الفارسية نظرة فاحصة يأخذ بلبه ما يجده بارزاً بين جوانبها من المبتدعات (الزرادشتية) التي يجزم بعض مؤرخي الحركة العقلية بأنها لم يسبق لها نظير في تاريخ الديانات القديمة، إذ لا يعرف التاريخ قبل (زرادشت) مجدداً قلب الدين القديم رأساً على عقب وأحدث فيه أحداثاً جديدة إلا (أخناتون) الفرعون المصري الذي نادى بالتوحيد في وسط معمعان الوثنية والتعدد الطاحنين؛ ولكن (أخناتون) في نظر هؤلاء المؤرخين لم يبلغ مرتبة (زرادشت) لأن دعوته كانت تجديداً سياسياً أكثر منها دينياً، ولهذا قد فشل تجديده على أثر صعود خلفه على العرش، وإذاً فزرادشت هو الفذ الأسبق في هذا التجديد.

ولكن ليس معنى هذا أن (زرادشت) قد قطع كل العلائق بالديانة القديمة وأنشأ ديانته إنشاء كاملاً، كلا، وإنما هو قد أقر منها الشيء الكثير، وهذا هو الذي يحدونا إلى أن نلقي على الديانة القديمة نظرة عجلى قبل أن نعرض للديانة (الزرادشتية).

الديانة قبل زرادشت

ليس عندنا من المصادر عن الديانة الفارسية السابقة على (زرادشت) القدر الكافي لإعطائنا صورة واضحة تمكننا من تحليلها على الطريقة العلمية القيمة، وإنما كل ما نعرفه في هذا الصدد هو أن نقوشاً أثرية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح وجدت في الشمال الغربي من بلاد فارس، ووجدت فيها أسماء آلهة هندية ثلاثة وهي:(ميتهرا) و (أندرا) و (فارونا) ولما كان من غير الممكن أن تصل هذه الآلهة الهندية إلى ذلك المكان

ص: 44

دون أن تخترق البلاد الفارسية، فقد استنتج بعض الباحثين ونخص منهم بالذكر الأستاذ (دينيس سوريه) أن للديانة الهندية أثراً عظيماً على الفارسية الأولى. وقد ذهب غيرهم إلى ما هو أبعد من هذا، فزعم أن (أهورامازدا) إله (زرادشت) هو محرف عن (أور روناشول) الإله الهندي العتيق، ولكن هذه مغالاة شديدة من أصحاب هذا الرأي، إذ النظريات العلمية لا يصح أن تبنى على مثل هذه التكهنات المستنتجة من التحككات اللفظية.

ومهما يكن من الأمر، فإن تأثر الفارسية بالهندية أمر مقطوع به، إذ أننا نجد مثلاً في الكتاب الفارسي المقدس (زند أفيستا) أسطورة تحدثنا عن (ييما) أول إنسان أنه أطعم أبنائه لحماً محرماً (ولعله لحم ثور) ليصيرهم خالدين، وأنه قد فعل هذا نزولاً عند نصيحة أحد الآلهة، وقد ظلت هذه العقيدة فيما يظهر سائدة حتى جاء (زرادشت) فأعلن احتجاجه ضد هذه الخرافة وصرح بأن الخلود لا يمكن أن يتوقف على أكل لحم الثور وإنما هو شيء معنوي يمنحه (أهورامازدا) لمن يستحقه بالفضيلة.

ومن هذه الأساطير أيضاً ما يحدثنا به (هيرودوت) من أن الملكة (أميستريس) حين صارت عجوزاً أمرت بدفن أربعة عشر طفلاً من أبناء النبلاء أحياء، ليكون ذلك قرباناً عنها، ليقربها من الآلهة.

تمتاز هذه الديانة القديمة بأنها كانت تأمر بعبادة العناصر الأربعة: النار ممثلة في كوكبيها العظيمين: الشمس والقمر، والهواء والماء، والتراب، وبتقديس كل مظاهر الطبيعة، وبأنها تأمر بتضحية بعض الحيوانات كالثيران والكباش، ولكن يجب أن يكون ذلك على يد جمعية مؤلفة من رجال الدين تنعقد خصيصاً للإشراف على الضحايا. وكانت بعض الحيوانات تمتاز بقداستها على البعض الآخر، فكلب الماء مثلاً كان مقدساً إلى حد أن من يقتله يجب أن يعاقب بضربه عشرين ألف عصا، وكان المسكين يموت غالباً قبل أن يستوفي هذا العدد، غير أنه إذا نجا بمعجزة، وجب عليه أن يشكر الآلهة على هذه النجاة، وذلك بتقديمه عشرة آلاف قربان من السوائل، وأن يقتل عشرة آلاف ضفدعة، ولم تكن هذه الحماية مقصورة على كلب البحر، بل كانت القنافذ والكلاب البرية كذلك، كما كانت الثعابين والنمل والضفادع على العكس من ذلك تماماً.

وعندهم أن الميت يجب أن يدلك بالشمع ثم تعرضه جمعية رجال الدين للطيور والكلاب،

ص: 45

لتمزق جسمه وتأكل منه ما تشاء، ثم يوارى الباقي في التراب. وقد تطورت هذه العقيدة فيما بعد فتحولت إلى عقيدة عرض الأموات في برج السكوت. ومن المحتمل أيضاً أن يكون الهنود الذين لا يزالون يعرضون جثث موتاهم لتمزيق الوحوش قد تأثروا بهذه الشعيرة.

وعندهم أيضاً أن الشعر والأظافر بعد فصلها من الأجسام الحية تصبح مدنسة، وكذلك النَّفَسُ البشري مدنس؛ ومن عقائدهم كذلك أن الجثة البشرية قد تطهر إذا قطعت ومزقت أجزاؤها ثم مر أحد الناس بهيئة خاصة من بين هذه الأجزاء.

وعندهم أن زواج الأمهات والأخوات والبنات ليس مباحاً فحسب، بل إنه مستحب وموصى به، أما الزنى فهو عندهم جريمة كبرى.

لم تمنع عبادة العناصر الفرس من اتخاذ آلهة أخرى لكل واحد منها اختصاص محدد مثل (أناهيتا) إلهة الماء والخصوبة التي صوروها بعدة أشكال وبدلوا اختصاصاتها كثيراً والتي يظن بعض الباحثين أنها أثر من (إيستار) إلهة (بابل) القديمة لا سيما وإن شمال بلاد الفرس كان خاضعاً لاستعمار البابليين في ذلك العهد.

كان بعض الشعب يعتقد أن (هاومو) - وهو اسم لشراب كحولي - هو اسم لشخصية بين الآلهة والبشر والبعض الآخر يعتقد أنه يجب أن يعبد، وقد عبدوا هذا الشراب بالفعل، ووضعوا عدة أناشيد، للتغني باسمه. وقد صرح الأستاذ (دينيس سواريه) بأنه لا مانع عنده من أن يكون لهذه الأناشيد التي تغنى بها الفرس القدماء في عبادة الخمر أثر على رباعيات عمر الخيام التي جاءت بعد ذلك ببضعة عشر قرناً.

هذا كله خاص بعقيدة العامة وجماهير الشعب؛ أما الخاصة فقد كانت لهم عقيدة أرقى من هذه العقيدة على نحو ما كانت الحال عند المصريين القدماء، إذ تحدثنا آثار ملكية وجدت في مدينتي (سوز) و (بيرسيبوليس) أن كثيراً من الملوك كانوا يؤمنون بالإلهين:(ميترا) و (أناهيتا) وغيرهما من آلهة الشعب، ولكنهم كانوا يضعون على رأس هذه الآلهة جميعاً الإله (أهورا مازدا) الذي سنتحدث عنه في ديانة (زرادشت)، ومما يلفت النظر في عقيدة الخاصة هو أن هذا الإله الرئيس كان عندهم غير مرئي وأن النار لم تكن إلا رمزاً له فحسب، وأنه لم يكن له معبد خاص، وإنما كانت جميع بقاع الأرض معبداً له.

ص: 46

لقد ظل هؤلاء الملوك يعبدون (أهورا مازدا) عبادة حرة غير مقيدة بتعاليم نبوة (زرادشت) حتى أخر القرن الخامس قبل المسيح حيث اعتنقوا الديانة (الزرادشتية) وطبقوا كل طقوسها.

(الديانة الزرادشتية)

حياة زرادشت

يجمع أكثر الباحثين على أن (زرادشت) قد وجد حقاً وإن كانوا جميعاً لا يجرؤون على القول بأن لديهم أي برهان علمي يدل على وجوده؛ وهم يجمعون كذلك على أنه وجد حوالي نهاية القرن الثامن قبل المسيح، وإن كان قد شذت عن هذا الإجماع الأخير شخصية من أجل الشخصيات العلمية، وهي شخصية الأستاذ (كليمان) الفرنسي الذي يرى أنه وجد في أوائل القرن العاشر قبل الميلاد.

يحدثنا أولئك الباحثون أن تاريخ هذا الزعيم الديني مفعم بالأساطير الشعبية الغريبة التي لا يخلو منها شعب من الشعوب والتي رأينا صورة منها في تاريخ (بوذا)؛ فمن هذه الأساطير أنه ولد ضاحكاً، رافعاً وجهه ويديه نحو السماء، وأنه حدثت ليلة مولده معجزات شتى رآها الخاصة والعامة؛ ومنها أنه تحدى بعض مشاهير السحرة في عصره فحاولوا أن يهلكوه بكل ما أوتوا من علم وقوة، ولكنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً. ومن ذلك أنه كان ينسحب من البقاع الآهلة بالسكان ويأوي إلى الصحراء، ليعتكف فيها مناجياً ربه بقلبه ولسانه، وأنه كان يوحى إليه بوساطة رؤساء الملائكة، وأنه عرج به إلى حيث الإله نفسه فصار أمامه، وأنه سحر الملوك ببراهينه، وأنه كان دائماً على رأس الدعاية التي أسسها لدينه، وأنه مات في إحدى الحروب الدينية التي كان يقوم بها تبعاً لأوامر شريعته، إلى غير ذلك من الأساطير الفاتنة التي تنظمها الشعوب عادة، لتحوط بها زعماءها أو تتخذها رمزاً لمستقبلها.

أما التاريخ فيحدثنا أن (زرادشت) نشأ في بيئة ريفية متواضعة لا تستطيع أن تحمي نفسها مما ينزل بها من غارات جيرانها، ولهذا كان أكبر ما يشغل (زرادشت) في شبابه هو أن ينجو هو وأسرته من غزو القبائل الرحالة التي كانت تتهدد تلك الجهات في ذلك العهد. ويحدثنا أيضاً أن أخلاقه الشخصية كانت على أسمى ما يمكن أن يكون في تلك العصور،

ص: 47

فقد رأينا آنفاً أنه عارض الدين القديم لحماية الأخلاق، إذ أعلن أن الخلود لا يكون إلا جزاء للفضيلة؛ وقد أعلن كذلك أن قتل أي كائن حي في الغزو والغارات المؤلفة لأجل السرقة والسلب هو من أفظع أنواع الجرائم حتى ولو كان هذا المقتول حيواناً، ولكن التبعة في ذلك واقعة كلها على المعتدين لا على المدافعين عن أنفسهم. وعنده أيضاً أن أجل الغايات هي الخلود النفساني وإن كان السمو لم يمنعه من أن يعنى بالحياة الدنيا عناية فائقة إلى حد أن يفسح في أدعيته مكاناً عظيماً لطلب متع الحياة من: مال وخيل وجمال فيقول (أنا أسألك أن تنبئني بالحقيقة يا (أهورا) هل أنت العدل حقاً؟ وهل حقاً سأنال هذه المكافأة التي وعدت بها، وهي عشرة أفراس وحصان وجمل، وأيضاً الهبة المستقبلة التي وعدتني بها وهي النعيم والخلود).

أهم مميزات الديانة الزرادشتية

قبل أن ندخل في تفاصيل هذه الديانة يخمل بنا أن نشير إلى أهم مميزاتها العامة التي تأسست عليها، وهي:

(أ) إن هذه الديانة أسست على فكرة خطيرة أحدثت في تاريخ الديانات هزة عنيفة لا عهد لها بها من قبل، وهي أن جميع الآلهة المذكورة في تاريخ الديانات كانت آلهة محلية أي كان لكل شعب آلهته، بل لكل مقاطعة آلهتها، أو لكل قرية إلهها، وأن كل التطورات التي أحدثها الزعماء الدينيون قبل (زرادشت) كانت تتناول تغييرات داخلية كما أشرنا إلى ذلك حين مثلنا لك بأخناتون، أما (زرادشت) فقد استطاع أن يعلن في جرأة أن (أهورا مازدا) ليس إلهاً فارسياً، وإنما هو إله الكون كله، وأنه هو نبي تلقى الوحي من هذا الإله العالمي الذي ليس له شريك وإنما له خصم هو دونه في الرفعة وهو (أهرمان) إله الشر الذي سينهزم على ممر الزمن وسينعدم جنده وأنصاره بانعدام الرذيلة من فوق الأرض.

(ب) إن هذه الديانة تمتاز عن غيرها من الديانات القديمة بأنها بنيت على أساس مبدأ تعميم الخير وإبادة الشر، وهي ترى أن من أهم الوسائل الضرورية لتحقيق هذه الغاية هو تقوية النوع البشري ونشر الخصوبة والعمران على سطح الأرض. ويلاحظ بعض الباحثين أنه وإن وجد الخير والعدل في غير الديانة الفارسية من الديانات القديمة، إلا أن تلك الديانات لم تتخذهما غاية لها كما فعل (زرادشت)؛ فخصومة (أوزيريس) وشقيقه (سيت) لم تكن

ص: 48

حرباً بين الخير والشر، وإنما كانت خصومة سياسية اضطرمت نارها من أجل الاستيلاء على العرش، وإن كان أصحاب هذا الرأي لا يستطيعون أن يجحدوا أن الحق والعدل قد فازا في هذه الأقصوصة بأكبر نصيب، ولكن هناك فرقاً بين كون العدالة ممثلة في الأسطورة كما كانت الحالة في مصر وكونها غاية لها كما هي الحال في الديانة (الزرادشتية).

أما في بابل فالحالة أدهى وأمر، إذ نلفي الآلهة هناك بعيدين كل البعد عن فكرة العدالة كما تدل على ذلك أسطورة الطوفان البابلي الذي تكبت به آلهة بابل بني الإنسان دون ذنب جنوه ولا جريمة اقترفوها، وإنما كان بسبب نزاع قام بين أولئك الآلهة.

(ج) وحد (زرادشت) بين الإله (مازدا) وبين الخير توحيداً جعلهما اسمين لمسمى واحد، فسبق أفلاطون إلى هذا المزج الفلسفي والأخلاقي العظيم. وبهذا أصبح الخير قلب الديانة (الزرادشتية) الذي ينبض بحياتها، وقد أعلن أن الخير سيعم الكون كله عندما تسود الفضيلة وينهزم إله الشر (أهرمان) الذي هو العدو الأوحد لأهورا والذي هو دائم الحرب معه مستعيناً بجنوده من أنصار الرذيلة والفساد، والذي يجب على كل مؤمن أن يقوم بنصيبه من قتاله بإبادة جانب من جوانب الرذيلة.

يرى بعض العلماء أن تأسيس الديانة الزرادشتية على الفكرة من حيث هي ليس مميزاً لها، وإنما المميز هو تأسيسها على فكرة الخير، إذ كل الديانات الراقية: قديمها وحديثها قامت على مبادئ مختلفة، فالبوذية مثلاً أسست على مبدأ: الألم، والمسيحية على مبدأ: الحب، والإسلامية على مبدأ: التوحيد.

ويعلق ذلك الفريق من العلماء على هذا الرأي بقوله: (ولكن الشعوب التي ظهرت فيها هذه الديانات لم تفهم تلك المبادئ العالية التي قصد إليها زعماؤها، وإنما أحاطوها بسياج سميك من أساطير الوثنية الأولى التي بعثوها من مراقدها وأنزلوها من الاحترام العملي منزلة طغت على الغاية الأساسية للديانة؛ فأنت إذا فتشت في هذه الديانات الراقية بعد وفاة زعمائها وجدت ذلك ملموساً لا يحتاج إلى جدل، ف (بوذا) لم يتخيل قط أنه سيؤله ويعبد بعد موته، ولو تخيل هذا في حياته لانكسر قلبه حزناً وألماً؛ و (زرادشت) لم يتصور البتة أن الشعب سيرفعه بعد عشرين سنة إلى منزلة (أهورامازدا)؛ والمسيح لم يدر له بخلد أن

ص: 49

الشعوب التي اعتنقت ديانته ستتغالى إلى هذا الحد في شخصيته البشرية؛ ومحمد لم يكن يسمح من غير شك أن تدعو أمته قوماً من البشر للشفاء أو لقضاء الحاجات كشركاء لله الذي قضى نبيهم حياته في النداء بتوحيده وإفراده بكل شئ.

أما ما تحاوله العقلية العصرية من تفسير هذه الديانات بما يلائم روح هذا العصر فهو فاشل أو قليل النجاح، لأن عامة الشعوب لا تستطيع أن تتعقل تلك المبادئ السامية التي أتت بها هاتيك الديانات.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 50

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعَاف النشاشيبي

169 -

وتضحى ممالك قوم طعم

أبو العلاء احمد بن سليمان:

تلوا باطلا، وجلو صارماً

وقالوا: صدقنا فقلتم: نعم

يدول الزمان لغير الكرام

وتضحى ممالك قوم طُعَم

170 -

جهنم اليهود وجنتهم في الدنيا

في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: كل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو لمنافع الدنيا ومضارها. أما منافعها فمثل أن يقول: إن أطعتم باركت فيكم، وكثرت من أولادكم، وأطلت أعماركم، وأوسعت أرزاقكم، واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على أعدائكم. وإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم، ونقصت من آجالكم، وشتت شملكم، ورميتكم بالجوع والمحل، وأذللت أولادكم، وشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم وشردتكم في البلاد، وابتليتكم بالمرض والذل، ونحو ذلك.

ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت

171 -

يا دولة السوء لا لقيت صالحة

يا دولة السوء لا لقيت صالحة

هل لانقراضك من وقت فينتظر

وكيف نرجو خلاصا أو نري فرجا

وفيك طول وفي أعمارنا قصر!!

172 -

أؤدب أحدهما وأقبل رأس الآخر

في (الموشح وخزانة البغدادي): قال أبو جعفر محمد بن موسى المنجم: كنت أحب أن أرى شاعرين فأؤدب أحدهما وهو عدى بن الرقاع لقوله:

وعلمت حتى ما أسائل عالما

عن علم واحدة لكي أزدادها

ثم أسائله عن جميع العلوم فإذا لم يجب أدبته، وأقبل رأس الآخر وهو زيادة بن زيد لقوله:

إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده

أطال فأملي أو تناهي فاقصرا

173 -

الدنيا سوفسطائية

ص: 51

في (الذريعة إلى مكارم الشريعة) للراغب الأصفهاني: قال بعض الحكماء المكر والخديعة محتاج إليهما في هذا العالم، وذلك أن السفيه يميل إلى الباطل، ولا يقبل الحق، ولا يميل إليه لمنافاته لطبعه فيحتاج أن يخدع عن باطله بزخارف مموهة خدعة الصبي عن الثدي عند الفطام، ولهذا قيل: مخرق فأن الدنيا مخاريق، وسفسط فان الدنيا سوفسطائية. وليس هذا حثا على تعاطي الخبث بل هو حث على جذب الناس إلى الخير بالاحتيال.

174 -

أين الوعد

في (وفيات الأعيان): قال أبو محمد بن الحسن بن عسكر الصوفي الواسطي: كنت ببغداد في سنة (521) جالسا على دكة باب ابرز للفرجة، فجاء ثلاث نسوة، فجلسن إلى جانبي، فأنشدت متمثلا:

هواء ولكنه جامد

وماء ولكنه غير جار

وسكت، فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماماً؟ فقلت: ما احفظ سواه. فقالت: إن أنشدك أحد تمامه وما قبله فماذا تعطيه؟ فقلت: ليس لي شيء أعطيه ولكني أقبل فاه، فأنشدتني:

وراح من الشمس مخلوقة

بدت لك في قدح من نهار

هواء ولكنه جامد

وماء ولكنه غير جار

إذا ما تأملتها وهى فيه

تأملت نوراً محيطاً بنار

كأن المدير لها باليمين

إذا مال للسقي أو باليسار

تدرع ثوباً من الياسمين

له فرْدُ كُمٍّ من الجلّنار

فحفظت الأبيات منها. فقالت لي: أين الوعد؟. . - تعني التقبيل - أرادت مداعبتي بذلك.

175 -

كيف الحياة مع الحيات في سفط

ابن عسال الطليطلي (عبد الله بن فرج): حين أخذ الأفرج طليطلة سنة (478):

حثوا رواحلكم يا أهل أندلس

فما المقام بها إلا من الغلط

السلك ينثر من أطرافه وأرى

سلك الجزيرة منثورا من الوسط

من جاور الشر لا يأمن عواقبه

كيف الحياة مع الحيات في سفط!

ص: 52

176 -

عائشة بنت طلحة زعيمة السفور

في (الأغاني): كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد، فعاتبها مصعب في ذلك، فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.

177 -

يكتب هذا في مكارم الأخلاق

في (تاريخ بغداد) لابن الخطيب: قال محمد بن احمد بن موسى القاضي: حضرت مجلس موسى بن اسحق القاضي بالري سنة (286) وتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر، فقال القاضي: شهودك، قال: قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي، فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة لتصح عندهم معرفتها، فقال الزوج: وإني أشهد القاضي أن لها على هذا المهر الذي تدعيه ولا تسفر عن وجهها، فردت المرأة وأخبرت بما كان من زوجها، فقالت المرأة: فإني أشهد القاضي أن قد وهبت له هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة

فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق

ص: 53

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

الحادثات الجسام

على مقربة من جزر زارا السعيدة، تقوم في البحر جزيرة فوقها بركان يقذف حممه عليها بلا انقطاع، ويقول الشعب وبخاصة العجائز فيه: إن هذه الجزيرة منتصبة صخرا يسد باب الجحيم، غير أن هنالك منفذاً ضيقاً يخترق البركان وينتهي إلى هذا الباب

في ذلك الزمان، حين كان زارا يسكن جزره السعيدة ألقى مركب مرساته أمام الجزيرة التي يعلوها الجبل المشتعل. ونزل بحارته إلى البر ليقتنصوا بعض الأرانب، وما حان وقت الظهيرة واجتمع القبطان برجاله بعد أن لموا شعثهم حتى رأى هؤلاء الناس رجلاً يخترق الفضاء بغتة إليهم ثم اقترب منهم وصاح بهم بصوت جلي قائلاً: لقد حان الزمن، لقد اقترب كثيراً. . .

ومر بهم الشبح مسرعاً وهو يتجه إلى البركان، فتميزوا به شخص زارا لأنهم كانوا رأوه من قبل جميعهم ما عدا القبطان وأحبوه كما يحب الشعب من يخشى

فقال شيخ البحارة - هذا زارا يسير إلى الجحيم

وفي الزمن الذي نزل فيه البحارة إلى جزيرة اللهب، كان شاع اختفاء زارا بين الناس وقال صحبه لمن سألوا عنه: إنه أبحر على مركب تحت جنح الظلام ولم يعرف أحد الوجهة التي يقصدها

هكذا ساد القلق من اختفاء زارا؛ وبعد ثلاثة أيام زاد هذا القلق بعد أن أخبر البحارة بما رأوا، وشاع بين الشعب أن إبليس قد اختطف زارا، ولكن صحب زارا لم يأبهوا لهذه الإشاعة بل ضحكوا منها وقالوا: إن ما نعتقده هو أن زارا قد اختطف الشيطان

غير أن اختفاء زارا كان يشغل بال صحبه، وما مضت خمسة أيام حتى عاد إليهم، فكان سرورهم عظيما

وهذا ما نقله زارا لهم عن حديثه مع كلب النار. قال: إن للأرض جلداً ولهذا الجلد

ص: 54

أمراضه، وأحد هذه الأمراض الإنسان وهنالك مرض آخر يدعى كلب النار، وقد كان هذا الكلب السبب في تناقل الناس الأكاذيب وتصديقهم لها. وما اجتزت البحار إلا لأكشف هذا السر فرأيت الحقيقة عارية من أخمص قدسيها حتى عنقها، فما تخفي عني الآن حقيقة كلب النار، وحقيقة جميع أبالسة التمرد والأقذار التي لا تتفرد العجائز بالذعر منها

لقد هتفت قائلاً: اخرج من أغوارك أيها الكلب الناري وقل لي كم هي عميقة أغوارك ومن أين تأتي بما تنفثه علينا. إنك تكرع من البحر بشراهة، وذلك ما تنم عليه مرارة الملح في ثرثرتك، والحق أنك وأنت كلب الأغوار لا تستمد غذاءك إلا من الأماكن السطحية، فما أنت إلا كالمتكلم من بطنه لأنني في كل مرة سمعت فيها أقوال أبالسة التمرد والأقذار تبينتهم أشبه بك في دناءتك وأكاذيبك. لقد اتفقت أنت معهم على النباح واتفقتم جميعكم على ذر الرماد ونشر الظلام فأنتم أعظم المتفاخرين وتعرفون كيف تدفعون بالأوحال إلى الفوران وحيث تكونون لا بد أن تحيط بكم الوحول وكل ما هو إسفنجي مضغوط ضيق المسام وما يطلب الانطلاق إلا من اتصف بهذه الصفات. والحرية هي الصرخة التي تفضلونها غير أنني فقدت إيماني بالحادثات الجسام منذ رأيت الصراخ والدخان يتعاليان حولها.

صدقني يا إبليس الثورات الصاخبة الجهنمية، ليست أعظم الحادثات في أكثر ساعاتنا ضجيجاً بل هي في أعمقها صمتاً. وما يدور العالم حول موجدي الشغب الجديد بل هو يدور على محور موجدي النظم الجديدة.

لا بد لك أيها الشيطان من الإقرار بسخافة ما كانت تنقشع عنه قرقعتك وضباب دخانك وهل من جسام الأمور أن تتحول مدينة إلى مومياء وأن يتداعى عامود إلى الأوحال؟ وهذه كلمة أخرى أوجهها إلى هدامي الأعمدة: إن أقصى الجنون هو في إلقاء الملح إلى البحر وفي إسقاط الأعمدة إلى الوحول، لأن هذه الأعمدة كانت مطروحة على أوحال احتقاركم وهاهي ذي تنهض بسيماء الآلهة وقد انطبع عليها الألم الساحر. فهي والحق تدين لكم بالشكر لأنكم أسقطتموها أيها الهادمون

وهأنذا الآن أسدي النصح للملوك والكنائس ولكل من أضعفته الفضيلة أو أهرمه الزمان فأقول: دع القوة تسقطك لتعود إلى الحياة لترجع الفضيلة إليك.

ص: 55

هكذا تكلمت أمام كلب النار، فقاطعني بهريره قائلا:(الكنيسة، وما هي هذه الكنيسة؟) فقلت: إن الكنيسة شئ أشبه بالدولة، بل هي من أكذب أنواع الدول، ولكن صه أيها الكلب، فانك أخبر بنوعك من أي كان. إنما الدولة حيوان خبيث على شاكلتك فهي تحب أن تتكلم فترسل بيانها دخاناً وهريراً لتخدع الناس وتجعلهم يعتقدون بأن أقوالها مستمدة من غور الأمور. فهي تريد أن تكون أعظم حيوان على وجه الأرض والعالم يراها على ما تريد.

وظهرت على وجه الكلب أفظع معاني الحسد فصاح: ماذا تقول وهل يعتقد أحد أن الدولة هي أعظم حيوان على الأرض؟

فقال هذا وخرجت من بين شدقيه إعصار من الدخان وازداد هريره حتى حسبته مقتولاً بغيظه. ولكنه ما لبث حتى استعاد السكون فقلت له: - لقد تملكك الغيظ، يا كلب النار، وذلك دليل على أنني أقول الحق عنك. وهأنذا أستمر في إعلان الحقائق فأحدثك عن كلب آخر من أتباع النار وهذا الكلب يتكلم حقيقة من قلب الأرض، فلهاثه من ذهب، وما يحسب حساباً للرماد والدخان والزبد الحار فإن فيما حوله ترتفع قهقهة تنتشر كأنها سحاب يزهو بعديد ألوانه. وهو عدو هريرك وزبد شدقيك وما في أحشائك من الاختلال. إن هذا الكلب يأخذ الذهب والضحك من قلب الأرض لأن قلب الأرض من ذهب، فاعلم هذا أنت.

وغلب الكلب على أمره عند سماعه هذه الكلمات فأرخى ذيله خجلاً وبدأ يعوي وهو يزحف زحفاً إلى مغارته.

هذا ما سرده زارا لأتباعه ولكن أتباعه ما كانوا يبالون بما يقول وقد اشتد شوقهم إلى إخباره عما حدث للبحارة والرجل الطائر في الهواء.

ولما سمع زارا ما قصوه عليه قال: ماذا عساني أظن بما قلتم؟ أفأكون شبحاً من الأشباح؟ ولعل ما رأوه لم يكن سوى خيالي ولعلكم سمعتم حكاية المسافر وخياله، غير أنه من الواجد علي أن أشدد النكير على خيالي فلا يذهب كما يشاء نائلاً من شهرتي.

وهز زارا رأسه بتعجب متسائلاً عما يقوله في هذا الحادث وهو لا يدري لماذا هتف الخيال قائلاً: لقد اقترب الزمان.

هكذا تكلم زارا. . .

العرّاف

ص: 56

(. . . ورأيت الناس يستولي عليهم حزن عميق، وقد وهنت قوى خيارهم فيما يعملون. وانتشر تعليم يؤدي إلى الإيمان في أن كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال. فتجاوبت الأصداء في الهضبات مرددة: كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال.

لقد حصدنا ولكن غلالنا أكمد لونها وتهرأت، فأي شيء تساقط تحت جنح الظلام من وراء كوكبه اللئيم؟

لقد ذهبت جهودنا سدي وفسد خمرنا فاستحال سماً زعافاً فكأن عيناً حاسدة أصابت حقولنا وقلوبنا فأذوتها.

جففنا جميعنا فإذا نزلت بنا حارقة فلا يتطاير منا غير الرماد. لقد تعب منا كل شيء حتى لسان اللهيب.

غاضت الينابيع أمامنا وتراجع البحر عنا وقد زلزلت الأرض تحت أقدامنا ولكنها لم تفغر فاها لتوارينا. فمن لنا ببحر نغرق فيه، إننا نصرخ طالبين البحر فيذهب صوتنا بدداً على سطوح المستنقعات.

والحق أننا بذلنا أقصى جهودنا طلباً للموت ولما نزل جثثاً تحيا وعيونها جاحظة طي اللحود.)

هذا ما قاله أحد العرّافين فذهب قوله نافذاً قلب زارا فبدّله تبديلاً، وأصبح زارا حزيناً متعباً يضرب في الأرض شبيهاً بمن ذكرهم العراف في نبوءته.

وقال زارا لأتباعه: لن يمضي زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم على وجه الأرض، وأنا أحاذر ألا أجد وسيلة للعبور بنوري إلى ما وراءه فأنقذه من الانطفاء. هل من حافظ له بين هذه الأحزان وأنا قد أعددته ليضيء في العوالم البعيدة ويشع في طيات الظلام السحيق.

وسار زارا شارداً يحمل همه في قلبه، فأمضى ثلاثة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً ولا يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكلام فاستغرق في نوم عميق. وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليالي متوقعين أن يفيق ليردوه عن أحزانه.

وأفاق أخيراً فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدى بعيد قائلاً: (أصغوا إليّ، أيها الصحاب، لأقص عليكم ما رأيت في حلمي وساعدوني على تعبيره، فإن حلمي قد أغمض عيني ولم

ص: 57

يزل معناه كامناً فيه.

(يتبع)

فليكس فارس

ص: 58

‌هذي المعاهد

قَضَّيتُ آمالَ الحشاشة أجمعا

ورأيت ما اغترق العيونَ وأمتعا

وعرضتُ من فِتَن الطبيعة موكباً

سيظل في خلدي نضيراً مونعاً

ومضيت عن نَظَرٍ بديع معجب

حَسَنٍ إلى نَظَرٍ أَحَبَّ وَأبْدَعا

وجَلَتْ حلاها لي الطبيعة أُفْقَها

وأَديمها وأَراكَها المتضوعا

وقرارةً هبطتْ ونجداً صاعداً

وخميلة نضرت وعشباً أَمرعا

ونميرَ ماءٍ سارياً متوانيا

حيناً وحيناً دافقاً متدفعا

ينساب آنا ساكناً مترقرقا

بسطت حواليه الغصونُ الأذرعا

ورَمَتْ عليه ظلالَها مخضَرَّةً

فكأنَّ روضاً رفَّ فيه وأَفرعا

ويغيب آنا في حنايا غابِهِ

إلا خريراً منه شق المسمعا

يتلو على سمع الصخور قصيدَهُ

عذبَ البيان مجنّساً ومسجَّعا

ويفيض من جسر إلى جسر إلى

جسر يزمزم تحته متخشّعا

ويضل عن بصري ويذهب ضاوياً

ويعود يلقاني مليئاً مترعا

صرَّفتُ في تلك المجالي نظرتي

ورويت طرفي مرسَلاً ومرجَّعا

واشتقتُ لي في كل بيت مسكناً

منها وجَانِبَ كلِّ دوح مضجعا

يا حُسْنَ أَبياتٍ هناك تتابعت

زُمَراً تفرَّق بعضها وتجمعا

جثمت على قمم الربى وسفوحها

وبدا بها نَورُ الزهور مرصَّعا

وزكتْ بساحتها الثمارُ شهيةً

وعَدَتْ حواليها السوائم رُتَّعا

ويجودها هامي السحاب فتنجلي

أَبهى من الثلج النقي وأَنصعا

ما ضرَّ مالِكَها ونازلَ حُسنها

ما نال من آماله أو ضيَّعا

فِتَنٌ نعمتُ بها نهاراً خلتُني

قد جُبْتُ حُسْنَ الكون فيه أَجمعا

مُذ طالعتْها الشمسُ في رأد الضحى

حتى زها فيها الأصيل مشعشعا

هذي المعاهد كم سعدتُ بظلها

وخطرت في جنباتها مستمتعا

وصحبتُ فيها الليل آخِرَ قافلِ

ولقيتُ فيها الصبح أولَ مَن سعى

ومضتْ بها ذِكَرٌ إِليَّ حبيبة

وخَلَا بها ودٌّ نما وترعرعا

وقبستُ منها الشعر أمسِ ولم تزل

توحي إليَّ الشعرَ والعليا معا

ص: 59

اكستر (إنجلترا)

فخري أبو السعود

ص: 60

‌قلبي. . . قلبي

للمرحوم مصطفى صادق الرافعي

قلبي أأنت نصيري في محبتها

أم أنت يا قلب فيها بعض أعدائي

كل الذي فيك من برئي وعافيتي

هو الذي فيك من سقمي ومن دائي

يا رحمتا لك من قلب كصومعة

في رأس شاهقة في جوف صحراء

شيدت من الصخر لكن في طهارتها

هي الغمامة قد شيدت من الماء

فالموت فيها بلا معنى يميت كما

فيها الحياة بلا معنى لأحياء

يا حسرتا لك من قلب تقلب من

جوع لجوع وإظماء لإظماء

عند الأحباء لا يألو منازعة

وإن تكن روحه عند الأحباء

ناء قد ازْوَرَّ عن ناء وما ابتعدا

لكن معاند من يهوى هو النائي

يظل ذاكر حب غير محتفل

ذكرى وناسِيَ حب غير نَسَّاءِ

أوفى بك الحب يا قلبي على زمن

كالأرض بعد حصاد الزرع للرائي

سوداء شعثاء مغبراً جوانبها

من بعد لفاء ريا النبت خضراء

قلبي إن بت مطوياً على حرق

من الصبابة تطفيها بإِطفاء

ويك اتئد إن نيراناً تحرقني

في حبها هي نيراني وأضوائي

يا بؤس للقلب من هجر عرفت به

ثقل الزمان على قلبي وأحشائي

يمر يوم فيوم في تسلسله

والحب جالسني في يوم أخطائي

مثل الضباب على الأنوار يتركها

مرضى من النور قد حمت بظلماء

وشقة الهجر تمضي لا انتهاء لها

إذا الدلال مشى فيها بإبطاء

ص: 61

‌حمامة الموكب الملكي

صَحِبَتْ رَكْبَهُ المُعَزَّزَ وَرْقَا

ءُ وَحَفَّ الرِكابَ سرْبُ الحَمَامِ

وَقُلُوبُ الطُّيُورِ قَد شَفَّهَا الشَّوْ

قُ إِليْهِ فَكَيْفَ قَلْبُ الأَنَامِ

هِيَ رَمْزُ السَّلَامِ قَدْ هَزَّهَا البِشْ

رُ فَمَالَتْ عَلَى رَسُولِ السَّلَامِ

يَهْبِطُ الطَيْرُ أَيْنَما هَبَطَ السِّلْ

مُ وَساَدَ الوَرَى لوِاءُ الوِئَامِ

إسكندرية

احمد فتحي مرسي

ص: 62

‌رسالة العلم

الفيتامينات

للأديب عبد المنعم عبد الحميد بدر

. . . الجسم كالمعمل الكيماوي تجري داخله عدة تفاعلات كيماوية معقدة للقيام بوظائفه الحيوية المختلفة، والروح كالعالم الكيماوي داخل هذا المعمل أمامه المواد الكيماوية والمواد الأخرى التي يريد أجراء التجارب عليها لتحليلها والاستفادة منها. فإذا نقصت إحدى هذه المواد وخصوصاً إذا كانت ذات أهمية كبرى وقفت التجارب أو قل وقف معظمها لنقص هذه المادة التي كانت تدخل في إجراء كل منها وبذلك يضعف الجسم وتنتابه الأسقام والآلام.

ومن هذه المواد المهمة والتي يحتاج إليها معمل الجسم بكثرة الفيتامينات، إذ أقل ما يقال في وصفها أنها من المواد التي تنظم الحياة، فعليها يتوقف سير عمليات الهضم والتمثيل وقوة الجسم أو ضعفه وقابليته للأمراض أو مقاومته لها. وتوجد هذه الفيتامينات في المواد النباتية كالخضر والفاكهة ومحاصيل الحقل كالقمح والشعير والفول، والمواد الحيوانية كاللحوم والألبان متى كان كل منها طازجاً أو مضى عليه زمن طويل غير أنه محفوظ بطريقة خاصة تمنع تطرق الفساد إليه.

تعريف الفيتامينات

هي عبارة عن مواد كيميائية معقدة غير معروفة التركيب إلى الآن وهي ذات أهمية أساسية لنمو الجسم وبقائه في حالة صحية وغيابها يجعل النمو غير طبيعي فضلاً عن تعرض الجسم للأمراض المختلفة التي يسببها نقصها في الجسم. فمرض نحافة العظام والكساح يتسببان عن نقص فيتامين (د) في الأم أثناء الحياة الجنينية فينشأ الطفل وفيه هذا المرض، كذلك إذا غذي بالأغذية الصناعية كالألبان المجففة بطريقة تؤدي إلى موت الفيتامينات فيها إذا اضطرت الظروف إلى تغذية الطفل بغير لبن أمه الكامل والمحتوي على جميع الفيتامينات لأي سبب من الأسباب. وكثيراً ما يؤدي نقص الفيتامين في الجسم إلى إحداث

ص: 63

مضاعفات شديدة وأمراض خبيثة تأتي تدريجياً وببطء قد تودي في نهاية الأمر بالحياة.

وتوجد سبعة فيتامينات وهي: فيتامين (أ) وفيتامين (ب) وفيتامين (ج) وفيتامين (د) وفيتامين (هـ) وفيتامين (و) وفيتامين (ز) والستة الأولى أكثر أهمية من الفيتامين السابع، وعلى العموم فلكل منها وظيفة خاصة لا يمكن أن يؤديها فيتامين آخر في حالة عدم وجوده.

طبيعة الفيتامينات

لم يعرف للآن التركيب الكيميائي للفيتامينات ما عدا الفيتامين (د) الذي توصل إلى معرفة طبيعته فقط في الوقت الحاضر بالنسبة لعلاقته الشديدة بالأرجوسترول وهي مادة عضوية معقدة التركيب يمكن تحضيرها في المعمل، وبعض لعلماء يعتبر الفيتامينات مواد حية والبعض الآخر يعتبرها مواد كيميائية معقدة غير حية يمكن الوصول إلى معرفة تركيبها بالبحث والتجارب؛ غير أنه لم يمكن تحضير أي فيتامين على حالة انفراد فيقال إن هذه المادة هي فيتامين (أ) أو (ب). . . الخ، وكل ما أمكن عمله هو الحصول على مركزات أو مستخلصات أو مجففات تكون فيها هذه الفيتامينات بكثرة كزيت كبد الحوت ومجفف عصير العنب والموالح أو مستخلص الفواكه واللحوم ويستدل على وجود الفيتامينات كيميائياً بما يأتي: -

(1)

فصل الفيتامينات من المواد الغذائية باستخدام طرق كيميائية وتركيزها في مركزات صناعية سهلة التداول (2) عن طريق دراسة بعض الصفات الكيميائية المهمة (3) عن طريق دراسة طبيعة المواد التي تقتلها وتؤدي إلى تحللها.

وتدرس الفيتامينات من وجهة وجودها أو عدمه بطرق حيوية خاصة وذلك عن طريق نوع من الأرانب الغينية لمعرفة ما إذا كان أي نوع من الغذاء يحتوي على نوع مخصوص من الفيتامين أم لا. ولتوضيح ذلك نفرض أن المطلوب معرفة هل يحتوي التفاح على فيتامين (أ) أم لا لذلك يؤخذ نوع الأرانب المذكور ويغذى أو يحقن بمادة غذائية تحتوي على جميع الفيتامينات ماعدا فيتامين (أ) ثم تغذى أو تحقن بمستخلص التفاح فإن نما جسمها نمواً عادياً ولم تضطرب أي عملية من عملياته المختلفة في مدة تتراوح ما بين 21، 25 يوماً دل ذلك على وجود فيتامين (أ) في التفاح. أما إذا مرضت الأرانب وظهرت عليها أعراض كالأعراض التي تنشأ عن نقص الفيتامين (أ) كان ذلك دليلاً على عدم وجود

ص: 64

الفيتامين (أ) في التفاح.

وتعتبر الفيتامينات على وجه العموم مواد نباتية إلا أنه توجد عدة اعتراضات مهمة تقف حائلاً دون قبول هذا الرأي وأهمها صلاحية أي أو أي مماثل له سواء وجد في الأنسجة الحيوانية أو النباتية - لأن يتحول إلى فيتامين (د) صناعياً بفعل الأشعة فوق البنفسجية وكذلك توجد شبهة قوية في أن بعض الحيوانات لها قدرة اكتناز فيتامين (ج) في كبدها وتمثيله.

تقسيم الفيتامينات

تقسم الفيتامينات من وجهة ذوبانها في الماء أو في الدهون ومذيباتها إلى قسمين رئيسيين وهما: -

(أ) فيتامينات توجد في الدهون فهي بالطبع تذوب في الدهون ومذيباتها وهي فيتامين (أ) وفيتامين (د) وفيتامين (هـ) وفيتامين (ز).

(ب) فيتامينات قابلة للذوبان في الماء وهي (ب) و (ج) و (و)

خواص الفيتامينات

لقد أجرى العلماء عدة تجارب دقيقة أمكن بها معرفة المواد الغذائية التي يوجد فيها كل فيتامين بكثرة أو بحالة مناسبة للجسم حتى يتمكن الإنسان من إدخالها ضمن غذائه للمحافظة على سلامة جسمه ووقاية ومقاومته للأمراض. وسنبدأ بذكر خواص كل فيتامين على حدة ثم نذكر بعد ذلك وظيفة كل فيتامين والنتائج التي تحدث في حالة عدم وجوده في الجسم أو نقصان مقداره عن الحد المناسب لحالة الجسم ونذكر المواد الغذائية والمركزات الصناعية التي يوجد فيها كل فيتامين على الترتيب.

فيتامين (أ) ويسمى:

(1)

فيتامين ضد التهاب العين -

(2)

فيتامين ضد عدوى الأمراض -

يتأثر هذا الفيتامين بالحرارة إلا أن درجة التأثر تتوقف على ظروف البيئة التي يوجد بها وهذا الفيتامين سريع الأكسدة في الجو العادي فإذا سخن في درجة حرارة عالية تحت جو

ص: 65

مفرغ من الهواء أمكن المحافظة عليه خصوصاً إذا أزيل غاز الأكسجين واستبدل مكانه بغاز متعادل كالأزوت غير الفعال. وهذا الفيتامين لا يتأثر - بدرجة كبيرة - بدرجات الحرارة العالية عند تعقيم المواد الغذائية المحفوظة إلا أنه يفقد بسرعة الأكسدة عند تجفيف الفاكهة والخضروات ماعدا الفاكهة التي تعامل بغاز أكسيد الكبريت قبل التجفيف.

وظائف هذا الفيتامين الحيوية

(1)

يمنع عدوى الأمراض (خصوصاً التهاب العين وأعضاء التنفس)(2) يساعد على نمو الجسم (3) يحافظ على سلامة البنية (4) يساعد على عمليات الهضم (5) عامل مهم للتناسل (6) يحتاج إليه الطفل مدة الرضاعة ولذلك يجب توفره في لبن الأم (7) يمنع تعرض الجسم لمرض الأنفلونزا.

بعض النتائج التي يسببها عدم وجود فيتامين (أ) أو وجوده

بقلة:

(1)

ضعف مقاومة الجسم لعدوى الأمراض (2) وقوف الجسم عن النمو (3) تعرض العين لما يأتي: -

(أ) مرض العين والتهابها وفقدان قوة الإبصار أثناء الليل (ب) فقدان غدد العين لخاصية البكاء (ج) تعرض جميع أعضاء التنفس للأمراض (د) التهابات بقناة الهضم (هـ) التهابات بغدد اللعاب تحت اللسان (4) إسهال (5) ضعف طبيعي (6) فقدان شهية الأكل (7) تعرض الجسم للأنفلونزا ويوجد هذا الفيتامين في مركزات صناعية: -

(1)

في الجزء الذي لا يتصبن من زيت كبد الحوت وهو محضر بالصيدليات (2) كاروتين محضر من الجزر أو الخضروات الخضراء فيتحول الكاروتين إلى فيتامين (أ) في الجسم والمادة الوحيدة التي يوجد فيها هذا الفيتامين بغزارة هي زيت كبد الحوت.

المواد النباتية التي يوجد بها هذا الفيتامين هي: -

(1)

بكثرة مثل: برسيم حجازي - جزر - خس - سبانخ - طماطم (2) بكميات حسنة وهي: -

(أ) فواكه: - مشمش - موز - برتقال - خوخ - أناناس - قراصية (ب) خضراوات: -

ص: 66

خرشوف - كشك - ألماز - كرنب كرفس - ذرة (صفراء) - بسلة (الخضراء) - فلفل (أخضر) - قرع - فاصوليا - بطاطا (صفراء).

والمواد الحيوانية التي يوجد بها هذا الفيتامين: -

(1)

بكثرة: - زبدة - جبن - قشدة - بيض (المح) - لبن (غير مفروز)(2) بكميات حسنة: - الكبد - الكلى - حيوانات بحرية -

فيتامين (ب) ويسمى:

(1)

فيتامين ضد مرض البري بري -

(2)

فيتامين ضد مرض الأعصاب -

يتوقف تأثير الحرارة على هذا الفيتامين تبعاً للوسط إذا كان حمضياً أو قلوياً أو متعادلاً وهو يتأثر بالحرارة سواء وجدت في محلول أو في المواد الغذائية الطبيعية، والوسط له تأثير على درجة الحرارة التي يقتل عندها أو تقل كميته، فمثلاً المواد الغذائية الطبيعية كالحبوب تفقد هذا الفيتامين عند تسخينها إلى درجة 120 مئوية لمدة نصف ساعة ولكن يسهل قتله عند درجة 100ْم إذا كان الوسط متعادلاً أو قلوياً نوعاً ما ويقتل هذا الفيتامين تماماً عند درجة 250ْ مئوية لمدة 4 ساعات في معظم المواد الغذائية.

وظائف فيتامين (ب) الحيوية

(1)

يساعد عمليات الهضم (2) يساعد على تكوين العظام (3) يمنع أمراض الأعصاب (4) تحتاج إليه الأم مدة الرضاع (5) يقوي أعضاء الهضم.

بعض النتائج الحيوية التي يسبها عدم وجود الفيتامين (ب) أو

قلته:

(1)

ضعف أو فقدان شهية الأكل (2) ضعف عمليات الهضم والأعضاء المختصة بها (3) ضعف نمو الأطفال مدة الرضاع (4) ضعف البنية (5) التعب (6) انخفاض في درجة حرارة الجسم العادي (7) ظهور علامات مرض البري - بري كما يأتي:

(أ) فقدان تعاون الأعضاء (ب) شلل تدريجي بالأطراف (ج) اختلال وظيفة أعضاء الهضم (د) النحافة.

ص: 67

ويوجد هذا الفيتامين في المركزات الصناعية الآتية

(1)

محضر من الخميرة (2) محضر من فضلات الأرز بعد تبييضه (3) محضر من نخالة القمح.

والمركب الوحيد الذي نحتوي هذا الفيتامين بغزارة هو الخميرة

والمواد النباتية التي يوجد بها هذا الفيتامين:

(1)

بكثرة وهي حبوب: - قمح - ذرة - أرز - شوفان (بشرط عدم فصل الدقيق عن النخالة) - بسلة (2) بكميات حسنة: كشك الماز - تفاح - فول - موز - جزر - كانتالوب - قرنبيط - بلح - كرفس - عنب - خس - ليمون هندي - بطاطس - بندق وجوز - سبانخ - برتقال - طماطم - خوخ - لفت - قراصية - أناناس.

والمواد الحيوانية التي يوجد بها هذا الفيتامين:

(1)

بكثرة: - بيض (المح)(2) بكميات حسنة: - المخ - الكبد - الكلى - الجبن - اللبن - (حيوان بحري).

فيتامين (ج) - ويسمى فيتامين ضد الإسخربوط -

يتحمل هذا الفيتامين الحموضة عن الفيتامينات الأخرى ويحتفظ بطبيعته في المحاليل الحمضية أكثر من القلوية والمتعادلة ولذلك يتطلب أثناء عمليات حفظ عصير بعض أنواع الفاكهة المحافظة الدقيقة على هذا الفيتامين لمنع أكسدته، ولا يتأثر هذا الفيتامين بالأشعة فوق البنفسجية، ويجب المحافظة عليها من الأكسدة أثناء تعريضه لهذه الأشعة، ومن المعتاد أنه يتلف أثناء التخمرات الحمضية بواسطة البكتيريا ولا يفقد طبيعته أثناء التخمر بواسطة الخميرة أو في حالة وجود الأحياء الدقيقة التي تساعد على تخمر سكر وبعض أنواع البكتيريا الأخرى، ويلاحظ أن عمليات الطبخ المنزلي تساعد دائماً على قتل هذا الفيتامين بخلاف المواد المحفوظة في العلب التي يمكن المحافظة على مقدار الفيتامين الذي تحتويه بالمحافظة عليها من التعرض لفعل الأكسدة مع ارتفاع درجة الحرارة المستخدمة. ولقد تيسر في الوقت الحاضر الاحتفاظ بهذا الفيتامين في المواد الغذائية المجففة وخصوصاً إذا أجريت عمليات التفريغ الهوائي أثناء عملية التجفيف.

‌وإذا عرضت المواد الغذائية التي تحتوي على هذا

ص: 68

‌الفيتامين والتي يراد تجفيفها إلى أبخرة غاز ثاني

‌أكسيد الكبريت ساعد ذلك على الاحتفاظ بكمية أوفر

‌منه في الطريقة السابقة خصوصاً إذا عوملت المواد

‌الغذائية المراد تجفيفها بواسطة محلول قلوي يعرف

‌باسم وهو مكون من الماء والصودا الكاوية في

‌العادة بنسبة تركيز 12 % إلى 3 % وذلك قبل

‌تعريض المواد التي يراد تجفيفها إلى أبخرة غاز

‌ثاني أكسيد الكبريت، فإذا تم التفريغ الهوائي أثناء

‌عملية التجفيف (في حالة العصير) فإن الفيتامين

‌تزداد كميته أيضاً في المادة الناتجة. ويمكن الاحتفاظ

‌بهذا الفيتامين في بعض المواد الغذائية كالمشمش

‌والقراصية إذا حفظت بطريقة التجمد، وذلك لو

‌فرغت الأوعية التي بها المواد من الهواء الذي

‌يفضل تعويضه في هذه الحالة بغاز غير فعال

‌كالأزوت.

ص: 69

خواص هذا الفيتامين الحيوية

(1)

يمنع مرض الأسخربوط (2) يساعد على تكوين العظام (3) يساعد على تكوين الأسنان وحفظها في حالة سليمة.

بعض النتائج الحيوية التي يسببها عدم وجوده أو قلته: -

(1)

الأسخربوط: - (أ) إدماء الجلد والمفاصل والأطراف (ب) إدماء العضلات والأنسجة (ج) آلام وورم في المفاصل والأطراف (د) إحداث عظام المفاصل صوتاً عند تحركيها

(2)

تحلل كالسيوم العظام (3) تحلل الأسنان وفقدانها (4) نقص في وزن الجسم (5) تعب (6) فقدان الشهية للأكل (7) تغير لون الوجه واصفراره.

ويوجد هذا الفيتامين في المركزات الصناعية الآتية: -

(1)

محضر من عصير البرتقال (2) محضر من عصير الليمون

ويوجد في المواد النباتية:

(1)

بغزارة: - كرنب - خس - بصل - سبانخ - طماطم - عصير طماطم - فواكه - عصير الليمون - برتقال - عصير برتقال.

(2)

بكثرة: - خضروات - كرفس - راوند - لفت - عصير ليمون بلدي - خوخ - أناناس - شليك - تانمارسن.

(3)

بكميات حسنة: - فول (مطبوخ) - تفاح - بنجر - كرنب (مطبوخ) - موز - عنب - جزر - قرنبيط - خيار - عصير عنب - بسلة مطبوخة - فلفل أخضر - ليمون هندي - بطاطس - قرع عسلي - سبانخ (مطبوخ) - كمثري ذرة سكرية - لفت أخضر - بطيخ - بصل.

ولا توجد مواد حيوانية بها هذا الفيتامين سوى اللبن.

فيتامين (د): - ويسمى فيتامين ضد مرض نحافة العظام -

ووظائفه الحيوية هي: -

(1)

يساعد على تكوين العظام (العناصر المهمة هي الكلسيوم والفوسفور)

ص: 70

(2)

ينظم عملية ترسيب العناصر المعدنية في العظام والأسنان

(3)

تحتاج إليه الأم الحامل لمنع نحافة عظام الطفل

بعض النتائج الحيوية التي يسببها عدم وجود الفيتامين (د) أو وجوده بقلة: -

(1)

نحافة العظام (أ) عظام غير صلبة (ب) تضخم الكوعين والعقبين (ج) بروز الجبهة (د) تغير شكل الصدر (هـ) إعوجاج الساقين

(2)

ضعف عمومي في الأعصاب (3) تحلل الأسنان وفقدان المادة الكلسية.

(4)

قلة وجود عنصري الكالسيوم والفوسفور في الدم والعظام عن الكمية الضرورية.

المركزات الصناعية: -

(1)

استعمال الأشعة فوق البنفسجية من أقواس كهربائية خاصة

(2)

محضر من الجزء الذي لا يتصبن من كبد الحوت.

(3)

محضر من ايرجوسترول بعد تعريضه للأشعة فوق البنفسجية.

(4)

تعريض المواد الغذائية للأشعة فوق البنفسجية.

(5)

مركب طبي معروف اسمه

ويوجد هذا الفيتامين بكثرة طبيعياً وكذلك صناعياً في:

(1)

زيت كبد الحوت (2) أشعة الشمس المباشرة (3) الأشعة فوق البنفسجية.

ويوجد في مواد نباتية بكثرة: بيض (مح) - سمك السالمون.

وبكميات مناسبة في: - الزبدة - اللبن الكامل - سمك -

فيتامين (هـ): - يسمى فيتامين ضد العقم -

وهذا الفيتامين عامل أساسي لوظيفة التناسل في الذكر والأنثى وعدم وجوده أو قلته يسبب عدم القدرة على التناسل في الذكر والأنثى ويوجد بكميات مناسبة في الخس والبريسم الحجازي - شعير - فول - قمح (دقيق وردة) عسل أسود - شوفان (دقيق ونخالة) - أرز - ذرة (كله) ويوجد في اللحوم.

فيتامين (و): - ويسمى فيتامين ضد البلاغرا ويمنع هذا

الفيتامين مرض البلاغرا الذي أعراضه: -

ص: 71

(1)

اضطرابات داخلية (2) تبقع وسماكة الجلد (3) مرارة والتهابات بالفم واللسان (4) إسهال (5) إضطرابات عصبية وعقلية.

ويوجد بغزارة في محضر الخميرة وبكثرة في اللحوم والكبد والخميرة والبنجر وفي: بطاطس - سبانخ - لفت (أخضر) بيض - لبن - سمك (السالمون). ويوجد بكمية حسنة في: موز - جزر - لفت - بنجر - خس - كرنب - طماطم.

فيتامين (ز)

أقل الفيتامينات أهمية وقد اهتدي إليه أخيراً في زيت بزر الكتان أما صفاته وخواصه فلم تدرس بعد.

عبد المنعم عبد الحميد بدر

كلية الزراعة

مترجمة بتصرف عن ، ، ، ، ، ، ، ، ، ،

ص: 72

‌البريد الأدبي

القرآن وعلامات الترقيم - فتوى لمشيخة الأزهر

تلقت لجنة الفتوى بالجامع الأزهر اقتراحاً، من الأستاذ محمود عفيفي المحامي، خاصاً بطبع المصحف الكريم على الكيفية الآتية:

أولاً: أن يكون بالرسم العادي المتبع الآن بالأزهر الشريف وفروعه وجميع المعاهد العلمية بمصر والبلاد العربية إسلامية وغير إسلامية.

ثانياً: أن يراعى وضع علامات الترقيم وسط الجمل لا فوقها كما هو متبع الآن.

ثالثاً: أن يوضع تفسير عصري مختصر بهامش هذه الطبعة بمعرفة هيئة من كبار العلماء.

وقد جاء في تقرير مرافق لهذا الاقتراح ما خلاصته: إن الغرض هو تيسير تناول كتاب الله الكريم وسهولة تلاوته كما أنزل مع فهم ما غمض من معانيه، لأن كثيراً من المتعلمين في المدارس مع نبوغهم في اللغة العربية لا يستطيعون تلاوة القرآن في المصحف بطبعته الحالية، لاختلاف هجائه عن الهجاء الذي ألفوه ودرسوه في معاهدهم، فحرصاً على أن تكون تلاوة هؤلاء وأمثالهم ممن لا يحفظون القرآن ولم يتلقوه عن القراء صحيحة يجب طبعه بالهجاء العادي المعروف لهم، وحرصاً على فهم معاني القرآن لمن يقرأه في المصحف يجب وضع تفسير مختصر مفيد على هامش هذه الطبعة.

رأي اللجنة في هذا الاقتراح

وقد أبدت اللجنة رأيها في ذلك فقالت: إنها توافق على وضع تفسير مختصر مفيد على هامش المصحف، وتوجو أن يوفق الله جماعة من العلماء لوضع هذا التفسير، حتى يعم الانتفاع بالقرآن الكريم.

أما وضع علامات الترقيم وسط الجمل لا فوقها، فاللجنة ترى أن المصحف الكريم قد وضعت فيه قديماً وحديثاً علامات على بعض الحروف وبعض الكلمات وفي وسط الجمل للدلالة على كيفيات لهذه الحروف كالإدغام والإخفاء وللدلالة على معان تتعلق بالتلاوة كحسن الوقف ولزومه وامتناعه وغير ذلك، وهذه العلامات لا ترى اللجنة حاجة لإحداث تعديل في وضعها لأنها وضعت في أماكنها للدلالة على أغراض خاصة وقد أدت بوضعها في أماكنها هذه الأغراض بوضوح لا لبس فيه، وبين كل ذلك في التعريف الشامل

ص: 73

بالمصحف الذي وضع في ذيل الطبعة التي أمر بها حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول سنة 1347هـ

وأما إنشاء علامات ترقيم أخرى للدلالة على أن الجملة استفهامية مثلاً، ومقولة لقول سابق أو محذوف، فلا ترى اللجنة مانعاً منها بشرط أن يوضع بشكل لا يوجد لبساً على القارئ فقد كان المصحف الكريم مجرداً عن (التعشير) و (الإعجام) و (النقط) و (رموز الوقف) ثم أحدث كل ذلك واستحسنه كثير من العلماء حفظاً للآي وضبطاً للإعراب خصوصاً للأعاجم وغيرهم ممن لا يحسنون العربية، قال الزيلعي من علماء الحنفية: هو وإن كان محدثاً فمستحسن، وكم من شيء يختلف باختلاف الزمان والمكان. اهـ

وأما طبع المصحف الكريم على قواعد الرسم الكتابي العادي المتبع الآن، فاللجنة ترى لزوم الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف وهجائه وذلك لأن القرآن الكريم كتب وقت نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيها تغيير ولا تبديل، وقد كتبت بها مصاحف عثمان، ووزعت على الأمصار لتكون إماماً للمسلمين، وأقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل عثمان رضي الله عنه، ولم يخالفه أحد فيما فعل؛ واستمر المصحف مكتوباً بهذا الرسم في عهد بقية الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين في عصورهم المختلفة ولم ينقل عن أحد من هؤلاء جميعاً أنه رأى تغيير هجاء المصحف عما رسم به أولاً إلى تلك القواعد التي حدثت في عهد ازدهار التأليف والتدوين في البصرة والكوفة، بل ظل مصطلح القرآن قائماً مستقلاً بنفسه بعيداً عن التأثر بتلك القواعد.

ولا ريب أنه وجد في تلك العصور المختلفة أناس يقرؤون القرآن ولا يحفظونه وهم في الوقت نفسه لا يعرفون من الرسم إلا ما وضعت قواعده في عصر التأليف والتدوين وشاع استعمالها بين الناس في كتابة غير القرآن، ولم يكن وجود هؤلاء مما يبعث الأئمة على تغيير رسم المصحف بما تقضي به تلك القواعد.

قال العلامة نظام الدين النيسابوي في كتابه (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) ما نصه:

(وقال جماعة من الأئمة: إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد من ثابت، وكان أمين رسول الله صلى الله عليه

ص: 74

وسلم، وكاتب وحيه). اهـ.

وجاء في الإتقان للإمام السيوطي ما نصه:

(وقال أشهب: سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في المقنع، ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة. وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن، مثل الواو والألف: أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ، نحو (أولوا)

وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو وياء أو ألف أو غير ذلك.

وقال البيهقي في شعب الإيمان: من يكتب مصحفاً ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئاً فانهم كانوا أكثر علماً، وأصدق قلباً ولساناً. وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم). اهـ.

وقد جاء في فقه الحنابلة ما يؤيد نقل السيوطي في الإتقان عن الإمام أحمد بن حنبل.

وجاء في حواشي المنهج في فقه الشافعية: أن كلمة (الربا) تكتب بالواو والألف، كما جاء في الرسم العثماني، ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف، لأن رسمه سنة متبعة.

وجاء في المحيط والبرهان في فقه الحنفية: أنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني.

على أن قواعد الإملاء التي حدثت في عهد التأليف والتدوين لم يتفق عليها واضعوها بل اختلفوا في رسم كثير من الكلمات كما هو مدون في مواضعه، وهي بعد ذلك عرضة للتغيير والتبديل، وقد صارت اليوم موضع شكوى وتفكير نظراً لما فيها من كتابة أحرف لا وجود لها في المنطق، وترك أحرف منطوق بها، فلا ينبغي والحالة هذه أن يخضع القرآن في رسمه لهذه القواعد المختلف فيها، والتي هي عرضة للتغيير والتبديل.

وأما ما يراه أبو بكر الباقلاني من أن الرسم العثماني لا يلزم أن يتبع في كتابة المصحف، فهو رأي ضعيف، لأن الأئمة في جميع العصور المختلفة درجوا على التزامه في كتابة المصاحف، ولأن سد ذرائع الفساد مهما كانت بعيدة أصل من أصول الشريعة الإسلامية التي تبنى الأحكام عليها، وما كان موقف الأئمة من الرسم العثماني إلا بدافع هذا الأصل

ص: 75

مبالغة في حفظ القرآن وصونه.

وأما ما ذكره صاحب الاقتراح من أن كثيراً من المتعلمين لا يحفظون القرآن، ولا يحسنون قراءته في المصحف، لعدم معرفتهم الرسم الثماني، فللجنة ترى - تسهيلا للقراءة على هؤلاء - أن ينبه في ذيل كل صفحة على ما يكون فيها من الكلمات المخالفة للرسم المعرف.

على أن الأمر أهون مما يتصوره المقترحون للتغيير، لأن رسم المصحف العثماني لا يخالف قواعد الإملاء المعروفة إلا في كلمات قليلة معدودة. ومع ذلك، فليست هذه المخالفة مما تحدث شيئاً من اللبس على القارئ المتأمل، لأنها إما بحذف حرف، كحذف الألف في (بسم الله الرحمن الرحيم)، أو زيادة حرف، كزيادة الألف في (أولوا) أو إبدال حرف من حرف، كرسم (الصلوات) بالواو بدلا من الألف، أو وصل ما حقه الفصل مثل وصل (ان) بما الموصولة، كما في قوله تعالى:(إنما لتوعدون لآت) أو فصل ما حقه الوصل، كفصل (في) الجارة من (ما) الموصولة، مثل (في ما فعلن في أنفسهن)

وواضح أن مثل هذا لا يشتبه على أحد أن ينطق به صحيحاً

وإن من يطلع على التعريف بالمصحف الذي أشير إليه فيما سبق، يستطيع أن يتعرف تلك الكلمات بسهولة، والله أعلم

(الرسالة) بقي أن لجنة الفتوى لم تذكر الحكمة في الاستمرار على الرسم المضلل في كتابة قوله تعالى (ولا تقولن لشاى (لشيء) إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) وقوله تعالى (والسماء بنيناها بأييد (بأيد))، و (بأييكم (بأيكم) المفتون)

مشكلة برامج التعليم

إصلاح برامج التعليم المصرية مشكلة طال عليها العهد، وتقلبت بين مختلف التجارب والعهود ولم تستقر على وضع ثابت حتى اليوم؛ وقد كان اضطراب برامج التعليم وتغييرها بين آونة وأخرى من أهم الأسباب التي أدت إلى انحطاط مستوى الثقافة المدرسية، وبث الفوضى إلى معاهد التعليم وإلى نظم الدراسة والامتحانات؛ وكان آخر العهد بتغيير البرامج منذ نحو عام فقط ولكن النظام الجديد ما كاد يستقر حتى سمعنا وزير المعارف الجديد يصرح منذ أيام بأنه يعتزم تأليف لجنة من ذوي الخبرة في شئون التربية من رجال

ص: 76

المعارف وغيرهم لتبحث برامج التعليم وتضع لها من الأسس الجديدة ما يتفق مع حاجات العهد الجديد، وهذه في الواقع فكرة لا بأس بها؛ ولكن الذي يصح التساؤل عنه بهذه المناسبة هو: أليس لهذه التجارب التعليمية من نهاية؟ ومتى توفق وزارة المعارف إلى وضع الأسس النهائية لبرنامج التعليم القومي؟ ذلك أن مسائل التربية يجب أن تكون بمعزل عن التقلبات السياسية، ويجب أن تكون بالأخص بمعزل عن الآراء والرغبات الشخصية؛ ومن المستحيل أن نظفر بسياسة إصلاحية ثابتة للتعليم إذا لم نوفق إلى وضع المبادئ والأسس صفة الاستقرار إلى حين معقول؛ ولا بأس من أن تكون التفاصيل ذاتها عرضة للتغيير والتبديل كلما دعت الحاجة أو دعت التجارب، ولكن الاستمرار في الإنشاء والمحو على هذه الصورة كل عام أو عامين أو بعبارة أخرى كلما تغير وزير المعارف، خطة عقيمة ضارة نلمس الآن نتائجها السيئة. وإذن فلنؤمل أن تكون هذه التجربة الجديدة التي يزمع وزير المعارف القيام بها لوضع النظم الأساسية للتعليم والتربية، هي ختام هذه الفوضى؛ بيد أنه يشترط لنجاح مثل هذه التجربة أن تجري بعيداً عن الجو الحكومي، وأن تقوم بها صفوة من ذوي الخبرة والثقافة الرفيعة، وأن يسترشد في إجرائها بكل ما يقتضيه العهد الجديد من تنمية الروح القومية وتوسيع الأفق وتعزيز العناصر الأخلاقية والعملية في ثقافتنا.

هل اكتشف سر التحنيط عند الفراعنة؟

المعروف أن العلم الحديث بالرغم من تقدمه بخطى الجبابرة في سائر النواحي، لم يوفق إلى اكتشاف سر التحنيط عند قدماء المصريين؛ وقد كانت للفراعنة في هذا الفن براعة ليس أدل على عظمتها وروعتها من تلك الموميات العجيبة من جثث الملوك والأمراء الفراعنة التي أخرجت من قبورها والتي ما زالت بعد آلاف الأعوام تحتفظ بشكلها البشري احتفاظا مدهشاً حتى أنك لترى الأظافر وشعر الجلد والرأس باقية كما كانت أثناء الحياة. وقد حاول العلم الحديث أن يجري تحنيط بعض العظماء لتخلد هياكلهم البشرية فلم تطل التجربة أكثر من أعوام تطرق بعدها البلي والعدم إلى الجثمان المحفوظ؛ وهذا ما حدث لجثمان (لنين) زعيم روسيا البلشفية فإنه لم يمكث بعد تحنيطه أكثر من بضعة أعوام ثم اضطرت السلطات إلى مواراته بعد أن ظهرت عليه أعراض التحلل. بيد أنه ظهر أخيراً

ص: 77

في أمريكا علامة شاب هو الدكتور جون فيدمان من جامعة الينوا يقول إنه قد وقف على سر التحنيط عند القدماء وإنه يستطيع أن يحقق حفظ الجسم المحنط أجيالاً وأحقاباً، وأنه اهتدى أخيراً إلى سر المركب الذي كان يستعمله القساوسة المصريون، وأن أهم المواد التي كانت تستعمل لمزج هذا المركب هو محلول (النترسلولوز). وقد يكون هذا العلامة قد وفق حقاً إلى اكتشاف مركب جديد لتحنيط الجثث؛ ولكن الحكم على صحة الاكتشاف وعلى مدى أهميته لا يمكن تحقيقه قبل مضي مدة طويلة، لأن التجربة لا يمكن الحكم عليها إلا بمرور الزمن الطويل

ونحن نذكر أن المؤرخ الأول هيرودوت قد عرض إلى مسألة التحنيط في مباحثه التي أجراها عن المصريين القدماء وعن مدنيتهم وأحوالهم التي شاهدها واطلع عليها بنفسه؛ وقد ذكر لنا هيرودوت في كتابه أن التحنيط كان عند المصريين درجات وأن الجثة كانت تنقع بعد استخراج الأمعاء والحواشي نحو سبعين يوماً في محلول لم يوضحه لنا تماماً لأنه هو لم يستطع الوقوف على سره نظراً لتحوط الكهنة في الاحتفاظ بهذا السر، وأن التحنيط كان على ثلاث درجات: الأولى للملوك والأمراء وهي أتقن الدرجات، والثانية للنبلاء والأغنياء، والثالثة لأفراد الشعب، وهذه أبسطها وأقلها اتقاناً. وقد حاول كثير من العلماء أن يهتدي إلى سر هذا المحلول العجيب الذي يشير إليه هيرودوت، ولكن العلم أخفق حتى يومنا في اكتشاف هذا السر

كتاب جديد عن فلسطين

ظهر أخيراً في إنكلترا كتاب جديد عن فلسطين وضعته صحفية إنكليزية شابة تدعى مس بربارا بورد وعنوانه (فتاة صحفية في فلسطين) وقد زارت مس بورد فلسطين في الشتاء الماضي وأنفقت بضعة أشهر في درس الحياة الاجتماعية الفلسطينية وعنيت بالأخص بتعرف أحوال المجتمع النسوي على اختلاف أجناسه وبيئاته؛ وهي تقول لنا إنها قد زارت المرأة الفلسطينية في القصر وفي الكوخ وفي الصحراء، وتعرفت إلى أفقر الفتيات من النصارى واليهود كما تعرفت إلى حريم الأمير عبد الله؛ ودرست عادات هذا المجتمع النسوي المتباين وأخلاقه وخواص حياته. وكتاب المؤلفة هو كتاب سائحة، ولكن يطبعه شئ من العناية بالبحث والتحقيق أكثر مما يبذل السائح العادي؛ وقد قصدت أن

ص: 78

تظهر كتابها في هذه الآونة التي تطرح فيها المسألة الفلسطينية على بساط البحث ليعاون في تفهم أحوال المجتمع الفلسطيني.

وقد وفدت المؤلفة أخيراً على مصر وأقامت فيها بضعة أسابيع وشهدت حفلات التتويج، وتعرفت إلى البيئات النسوية المصرية وهي تنوي فيما يظهر أن تضع كتاباً آخر عن مصر والمجتمع المصري على طراز كتابها عن فلسطين، بيد أنه لا ريب في أن هذه الكتب التي تكتب على جناح السرعة خلال سياحة سطحية لا يمكن أن تكون مراجع قيمة عن الموضوعات التي تتناولها. وسنرى في القريب العاجل ماذا تكتب هذه المؤلفة الشابة عن مصر والمجتمع المصري.

حول أرزة لامرتين

كتب الأستاذ أمجد الطرابلسي في حاشية قصيدته المنشورة في صفحة 1349 من عدد مجلتكم الأخير أن الشاعر الفرنسي دي لامرتين وابنته جوليا زارا أرز لبنان عام 1832 ونقشا اسميهما للذكرى على شجرة هناك تشتهر الآن بأرزة لامرتين

والوقع غير ذلك فان الشعر الفرنسي لم يزر مع ابنته غابة الأرز قط ولم يكتب هو اسمه ولم ترسم وحيدته اسمها على شجرة الأرز المذكورة. وكل ما في الأمر أنه حاول أن يقوم برحلة إلى الأرز خريف عام 1832 والمعروف عن هذه الرحلة أنها أخفقت لشدة الزمهرير إذ ذاك وكثرة الثلج والجليد ونحن نعلم أن لامرتين لم يسع بعد ذلك لإدراك رحلته مرة أخرى وأنه استعاض عن مشاهدة الأرز عن كثب برؤية الغابة من بعيد

هذا وقد وضع الكاتب هنري بردو كتاباً عنوانه (رحل المشرق) عالج فيه مسألة زيارة الفرنسي العظيم للبنان وأرزه وقد استطاع أن يثبت أن التوقيعين المنقوشين على الشجرة المشهورة إنما خطهما صديق قديم للامارتين وأسرته وذلك قبل قيام شاعرنا برحلته رغبة منه في مفاجأة صاحبه المجيد مفاجأة ظريفة رقيقة

خليل عطا الله

(كلية الحقوق)

ص: 79

‌الكتب

سيرة السيد عمر مكرم

تأليف الأستاذ محمد فريد أبو حديد

فرغت من قراءة هذا الكتاب التحليلي المحكم، كما يفرغ الإنسان من شهود فلم تاريخي متقن، وبدل أن أرفع يدي لأصفق، أخذت قلمي لأكتب. شبهت هذا الكتاب بالفلم لأنه أوسع من الرواية، وأوضح من القصة، وأروع من السيرة؛ ففيه البيئة والمكان، وفيه الصور والألوان، وفيه الوقائع التي تتكلم، والخوالج التي تتجسم، والدقائق التي تسفر، والفروق التي تتضح. وتجلية الحياة المصرية السياسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر على هذه الصورة الرائعة البارعة الملهمة لا تتهيأ إلا لأمثال الأستاذ فريد ممن توفروا على اكتناه الحق في هذا العهد المجهول المظلوم، وأوتوا مع ذلك البصيرة التاريخية التي لا تطيش، والضمير العلمي الذي لا يخدع، والقلم الفني الذي لا يزلُّ. والأستاذ فريد من كتابنا القلائل الذين لا يخرجون ما ينتجون إلا عن اختصاص محيط ودرس شامل وروية صادقة وضرورة حافزة وغرض نبيل. وقد عهده الناس في تأليفه محققاً، وفي ترجمته أميناً، وفي قصصه مجوداً، وفي شعره مجدداً، وفي أبحاثه حجة. وهو بعد زيدان زعيم المذهب التاريخي في القصة على نحو ما كان (ولتر سكوت)؛ وحبه الخالص لمصر صرف هواء وجهده إلى تاريخها القديم والحديث فخدمه خدمة جلى وغرسه في قلوب النشء غرساً مثمراً بالتعليم في أسمى درجاته، وبالتأليف في شتى فنونه؛ واعتزازه الصادق باستقلال وطنه وجّه نشاطه إلى ذلك العصر الذي خلص فيه سلطان مصر إلى أبنائها الخلّص الذين وُلدوا فيها، ونُشّئوا لها، وذادوا عن حياضها المطهرة طمع الواغل الدخيل ذياد الأحرار البررة؛ واتصافه بالخلق النبيل والطبع الحر جعله يغرم فيه بالشخصيات الكريمة الحرة التي جلاها لقراء (الرسالة) في مناسبات شتى، ومنها هذه الشخصية العزيزة السيدة: شخصية السيد عمر مكرم التي أفرد لها هذا الكتاب الذي نتحدث اليوم عنه.

(سيرة السيد عمر مكرم) صورة فنية مشرقة لمصر في القرن الثامن عشر، تقرأها فكأنك تشاهده، وتستبطنها فكأنك تعيش فيه؛ برز فيها وجه هذا الرجل الأبي صادق النظر أشم الأنف ناطق الملامح، فجعله فريد مثالاً للخلق المصري المحض في ذلك العهد، ومثلاً

ص: 80

للجيل المصري الناشئ في هذا العهد (وقد رأينا الأمم الحديثة - وهي تسعى لتحفيز أبنائها إلى المكارم، وحضهم على المعالي - تلجأ إلى التاريخ فتستخرج منه صور المجد والبطولة فتعرضها على الجيل الحاضر ليجد فيه مثلاً يحتذيه، وأملاً يتطلع إلى تحقيق مثله، وهي تقصد بذلك إلى إعلاء نفوس أبنائها، والتسامي بأرواحهم وعواطفهم، وإثارة الخامد من طموحهم، بالتلويح لهم بأعلام المجد، والإشارة إلى ذرى الأماني الإنسانية. ومصر بحمد الله عريقة في كل مكرمة، غنية في كل فن، عبقرية في كل وجهة؛ فليس الواقع بمعجزها، ولا الحق بخاذلها، إذا هي أرادت المُثَل العالية، أو رسم صور البطولة والمجد).

الكتاب مشوق جذاب بموضوعه وطريقته وأسلوبه. أما موضوعه فجهاد مصر في سبيل حقوقها وبلوغها من ذلك بفضل الأحرار من زعمائها أمثال السيد عمر مكرم ما تبغيه من حفظ كرامتها وإنفاذ إرادتها حتى بلغ من فوزها أن تحللت من إرادة الخليفة فعزلت بقوتها من الولاة من يفسد، وولت برأيها منهم من يصلح؛ وهو موضوع من أحب الموضوعات إلى النفس، لأنه قصة الحياة ومطمح الإنسانية إلى السمو. وأما طريقته فطريقة التحليل النفسي بصدقه ودقته، والعرض الروائي بطلاوته وحبكته. وأما أسلوبه فقد ارتفع فيه فريد إلى الدرجة العليا من الفن: جزالة في رقة، وبلاغة في سلامة، وإيجاز في وضوح، ومنطق في شعر. وحسبي من ذلك أن أضع أمامك صورة صغيرة من الفصل الجميل الممتع الذي عقده لثورة المصريين على الفرنسيين في مارس من سنة 1800، وقد عز القاهرين النصير، وخذلهم الأمير، وأهملهم الخليفة، وسلط عليهم المحاصرون النار، وأرسلت عليهم السماء المطر، حتى قال فريد: (وأمسى أهل تلك الأحياء المنكوبة ليلة العاصفة وهم في أشد حالات البؤس والكرب؛ يحاولون الخروج من منازلهم برغم الرعد والبرق والمطر المنهمر، فتعوقهم المياه المتدفقة، وتنزلق أقدامهم في الأوحال الخوانة، فإذا بهم يسمعون قصف المدافع من بين أيديهم، ويرى بعضهم أخاه صريعاً إلى جانبه قد أصابته رصاصة لا يرى قاذفها البعيد، فيقف لحظة ينظر في إسعاف الصريع، فإذا به يسمع هيعة من خلفه، فينظر فإذا باللهب يندلع في منزله الذي تركه منذ حين قصير، فيذكر الصبية الذين خلفهم فيه، فيثب قلبه في صدره، ويهم منتفضاً كالملسوع. ويعدو نحو بيته وهو لا يعي من الفزع؛ وفيما هو يعدو تطرق أذنيه صرخات داوية يملؤها الهلع والذعر، من نساء كدن

ص: 81

يخرجن عن الوعي من الهول؛ ويرى ماء المطر يهبط على النيران فلا يزيدها إلا توهجاً واندلاعاً، ويسمع من دون فحيح اللهب وقعقعة النار صوتاً كأنما هو من صبية يستغيثون، فيقتحم اللهب يطمع أن ينقذ فلذات كبده من بين أنياب السعير، فما يكاد يخطو في المنزل خطوات حتى تحيط به النيران، ويطيش سائراً ويتخبط حائراً حتى يوقن أنه لن يستطيع إنجاء ولده، فتثور الطبيعة في رأسه، ويخشى على نفسه، فيحاول العودة من حيث أتى، ولكن النار تحيط به وتأسره، فيضطرب ويختنق، ويحاول الصراخ فلا يخرج صوته، ثم يثبت في مكانه ويقع لا يعي، وينطبق اللهب مرة أخرى كأن ليس في جوفه شيء).

فأنت ترى أن (سيرة السيد عمر مكرم) بمنهاجها الذي سارت عليه، وغرضها الذي هدفت إليه، وأسلوبها الذي كتبت به، حرية بأن بكون في يد كل شاب قدوة، وفي يد كل كاتب نموذجاً، وفي يد كل قارئ ثقافة ولذة.

جزى الله مؤلفها الفاضل خير ما يجزي به العامل المخلص على جهده وقصده وتوفيقه.

الزيات

ص: 82