المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 217 - بتاريخ: 30 - 08 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢١٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 217

- بتاريخ: 30 - 08 - 1937

ص: -1

‌الملك الموفق

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

منذ بضعة أسابيع أدى صاحب الجلالة الملك صلاة الجمعة في مسجد من مساجد الإسكندرية على عادته المحمودة، فلما انتهت الصلاة نهض جلالته، فهتف باسمه الناس، فأشار إليهم جلالته بيده أن كفوا، ومال على أحد العلماء، وهمس في أذنه أن بيوت الله للعبادة لا لهذا، ولذكر الخالق لا للذكر المخلوق.

وفي جمعة أخرى أمر واحداً من رجال حاشيته، فأعطى الإمام عشرين جنيهاً لخدم المسجد، فتناولها الإمام شاكراً، داعياً؛ وكان للمسجد خادمان فنقد كلا منهما عشرة، واتصل الخبر بجلالة الملك، وعلم أن الإمام حرم نفسه، فدعاه إليه وكلمه في هذا، فقال الرجل: إني خطيب وإمام لا خادم، وقد أعطيت المال لأفرقه على الخدم ففعلت وأمضيت مشيئة مولاي. فسرت جلالته عفةُ الرجل وأمانته تقواه وأجزل له الثواب.

ولجلالته عناية بأن يعرف على أي وجه تنفذ أوامره. حدث في منتصف أغسطس أن حضر جلالته حفلة تمصير شركة البواخر الخديوية، فطاف بالباخرة (محمد علي الكبير) ولاحظ أن المدخنة لونها أحمر، فالتفت إلى عبود باشا وقال إنه يؤثر أن يكون لونها أخضر، فقال عبود باشا:(حباً وكرامة، سيكون ما شاء مولاي) فقال جلالته وهو يبتسم: (سأسأل عن المدخنة ولونها).

ويذكر القراء أن وزير الأوقاف السابق وقف مرة في البرلمان يرد على سؤال عن الأزهر ورثاثة فرشه، فكان مما قاله - وظهر أنه كذب - أن طلبة الأزهر يقطعون السجاجيد ويأخذون ما يقتطعون منها لفرش مساكنهم. وقد هاج الأزهر وماج لهذا، وكتب الشيخ الأكبر الأستاذ المراغي إلى وزير الأوقاف يومئذ يبين له أن الموظفين الذين أمدوه بهذه المزاعم كذبوا عليه وغشوه، ويطلب منه أن يحقق مع المسئولين عن هذه الأكاذيب والتشنيعات، ولكن الوزير طوي الأمر لسبب ما، ولم يعن بالتحقيق الذي كان واجباً.

وكأنما عز على جلالة الملك أن يكون الأزهر بهذه الرثاثة، وأن تضن عليه وزارة الأوقاف بالفرش اللائق، وأن يقول وزيرها السابق ما قال في طلبة هذا المعهد الإسلامي العالمي الذي لم يبق على عيده الألفي إلا القليل، ولكن الحكمة والأناة شعار الملوك، فقد سكت

ص: 1

جلالته حتى خرج هذا الوزير من الوزارة، وتولاها غيره، ثم أمر بأن يفرش الأزهر بالسجاد على نفقة جلالته الخاصة، وبأن يكون السجاد مصرياً من صنع مصريين. ولو أن جلالته أمر بذلك والوزير السابق قائم بالأمر في الأوقاف، لكان هذا بمثابة دعوة صريحة إلى الاستقالة، ولكن جلالته تريث حتى لا تختلط الحسنة بالسيئة، فليس همّ جلالته أن يؤنب وزيراً، وإنما همه أن يصنع جميلاً وأن يسدي مكرمة. والأزهر معهد مهول، وسيحتاج من السجاد إلى شيء كثير، فأخلق بصناعة السجاد المصرية أن تنشط من جراء ذلك نشاطاً عظيماً، وجدير بالسجاد المصري أن ينفرد بالسوق بعد هذا فلا يتخذ مصري سواه.

ولا يزال جلالة الملك في صدر الشباب، ومع ذلك آثر الزواج على العزوبة؛ وله في ذلك حكم لا حكمة، فإنه ملك، والملك قدوة لشعبه. والمثل يقول إن الناس يكونون على دين ملوكهم، والزواج عفة وتقوى وحصانة. وقد وقع اختيار جلالته على مصرية من بيت كريم، وفي هذا الاختيار معنى إنساني بارز، ومظهر ديمقراطي لا يخفى، فقد عرف جلالته الآنسة ذو الفقار، وكانت تصحب الأسرة الملكية في رحلتها في أوربا، فهو اختيار فيه كل المعاني الإنسانية وليس فيه أي معنى سياسي. وحسناً صنع جلالته، فما بقي للزواج السياسي أية فائدة أو قيمة في هذا الزمان. وإن الأمة المصرية تشعر الآن أنها صارت أقرب إلى ملكها بهذا الاختيار الموفق الذي احتذى فيه جلالته حذو المغفور له والده العظيم. وقد كان مما تحرص عليه الأسر المالكة في العصور الماضية أن تبقى بمعزل عن أممها، فلا تخالطها، ولا تصاهرها، وقلما كانت تبادلها حتى الشعور، فالآن تغير كل هذا، وأدركت الأسر المالكة أنها لشعوبها وأن شعوبها لها، وكان من خير ما صنع المغفور له الملك فؤاد وأوقعه في نفوس الأمة أن آثر أن تكون جلالة الملكة من رعاياه. واليوم يقتاس به جلالة الملك فاروق فيختار الملكة من رعاياه كذلك، فلا يبقي موضع في قلوب الأمة غير مشغول به

وهكذا يمحو جلالة الفاروق الفوارق التي تباعد ما بين الملك وأمته اكتفاء بالولاء الصادق، والإخلاص الصحيح، والحب الثابت، والإجلال العميق، واستغناء بذلك عن كل ما عداه مما لا خير فيه، ولا محل له في هذا العصر، فإن الملوك من طينة الخلق جميعاً، فلا معنى

ص: 2

للحرص القديم على أن يظلوا طبقة مستقلة عن شعوبهم لا تمسها ولا تقربها ولا تتصل بها من ناحية من النواحي. وأخلق بالشعوب أن تكون أعمق ولاء وأصدق وفاء لملوكها إذا شعرت أنهم منها، وأنهم يمثلون خير ما للأمة من المزايا والخصائص والصفات والطباع؛ وأنهم رمزها الأعلى حقاً، وعنوانها الأرفع صدقاً، وأن الأمر في ذلك أمر حقائق واقعة، لا أمر ألفاظ جوفاء وكلمات فارغة.

لقد ثبت العرش البريطاني على الرغم من زلازل الحرب العظمى وما تلاها، لأن الشعب البريطاني يعرف أن العرش منه وله، وأنه عنوان مجده، وأنه الصلة الوثيقة بين إبعاض إمبراطوريته؛ ولَلْعرش في مصر أحق بالثبات والدوام على الزمن، فقد قامت هذه الأسرة المجيدة باختيار الأمة لها، وكان المصريون هم الذين ولوا محمد علي باشا أمرهم، وألقوا إليه بمقاليدهم، وملكوه زمانهم. ولم يخيب محمد علي على ظن مصر به ويقينها فيه، فقد رفع مقامها، وأعلى شأنها، وجعل منها دولة محسودة مرهوبة الجانب، مخوفة السطوة؛ وحسبه فخراً أن احتاجت الدول العظمى إلى التألب عليه والائتمار به لحرمانه ما كان حقيقاً أن يفوز به من الثمرات. ولا شك أن مصر مدينة برقيها الحديث للخديوي إسماعيل على الرغم من كل ما جر إليه حكمه، وإن كان مؤرخو الغرب يبالغون في ذلك ويهولون به ليستروا مؤامرات أوربا ومكائدها، وما أوقعت فيه مصر بسوء نيتها وفساد طويتها. والمغفور له الملك فؤاد هو الذي أزخر تيار النهضة الحديثة وعرف كيف يذلل كل عقبة اعترضته في الاحتلال وفي عدم الاستقرار. والآن يجيء جلالة الملك فاروق بفيض من الحيوية، وبمثل حكمة الشيوخ المحنكين في شبابه الغض، وبقلب كبير ملؤه الحب لأمته، وعزم صادق على الوثوب بها. ولَحسْبنا هذه الفواتح بشيراً بمستقبل سعيد في ظل حكمه المديد المبارك إن شاء الله.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 3

‌الليل

للأستاذ أحمد أمين

في ليلة حالكة السواد بعدت عن ضوضاء المدينة إلى مكان قصيّ على شاطئ البحر أهرب بنفسي من جراثيم المدنية ووباء الحضارة، وأغسلها من أدران التقاليد والمواضعات، وأطهرها بالانغماس في عالم اللانهاية: في السماء والماء والجو الفسيح الذي لا يحده حد ولا ينتهي إلى غاية

غاب فيها القمر فلعبت النجوم؛ ولو طلع لكسفها وهي أكبر منه حجماً، وأعظم قدراً، وألمع ضوءاً، ولكن دنيانا هذه يسود فيها التهويش حتى في القمر والنجوم

كان سواد هذه الليلة أحب إلى نفسي من ضوء الشمس ونور القمر، فللنفس حالات تبسط فيها فيعجبها البحر الهائج، والوسط المائج، واللون الأبيض والأحمر، والنكتة اللاذعة؛ وتنقبض فتأنس إلى الليل الساكن، والوحدة المريحة، والسكون العميق، واللون القاتم

لك الله أيها الليل! فما زلت بالفن حتى ملكته، واحتويته، فجعل يشيد بذكرك ويرفع من شأنك، حتى لم تجعل لأخيك النهار نصيباً يقاس بنصيبك، فاقتسمتما الزمان عادلة، واقتسمتما الفن قسمة جائرة!

فالمغني يقصر مناداته عليك، ولا يلتفت في هتافه إلا إليك؛ فإذا غنى بالليل نادى الليل، وإذا غنى بالنهار لم يخجل فنادى الليل أيضاً؛ والآلات كلها تتبعه فتردد على أوتارها ما ردده المغني بكلماته. ثم كان اسمك على قلته وضؤولته أداة طيعة في صوت المغني يوقع عليه ما شاء من نغمات: مرحة وحزينة، ومديدة وقصيرة، وعالية وهادئة، وباعثة للقوة واليأس والأمل، وداعية إلى الضعف والخمول والكسل

وحتى المصور! لماذا شغف برسم غروب الشمس أكثر مما شغف بطلوعها إلا لأن غروبها إيذان بقدومك وارتقاب لزورتك؟

أما الأدب فله فيه الباع الطويل والقول الذي لا ينتهي. تداولت عليه الأدباء، فنقموا عليه حيناً، وتذللوا له حيناً، من عهد الأستاذ امرئ القيس إذ يقول:

فيالك من ليل كأن نجومه

بكل مُغَار الفتل شدت بيذْبُل

إلى عهد الأستاذ محمد عبد الوهاب إذ يقول:

ص: 4

(بالله يا ليل تجينا، وتسبل ستايرك علينا)

شكوا طوله وتفننوا في ذلك ما شاءوا، فتخيلوا أن نجومه شدت بالحبال، وربطت في الجبال، أو أن النهار ضل طريقه فظل الليل لا يبرح ولا يتزحزح كالذي يقول بشار:

أضلَّ النهارُ المستنيرُ طريقهُ

أم الدهرُ ليلٌ كله ليس يبرح؟

أو أن النجوم حارت لا تدري أتتيامن أم تتياسر فوقفت فوقف الليل بجانبها كقول جرير:

أبُدِّلَ الليلُ لا تسري كواكبهُ

أم طال حتى حسبت النجم حيرانا؟

وشكوا قصره فأبدعوا في ذلك أيما إبداع، فشبهوه بعارض البرق كالذي يقول:

يا رب ليل سرور خلته قِصَرا

كعارض البرقِ في أُفق الدُّجى بَرَقا

قد كادَ يعثرُ أولاهُ بآخرهِ

وكاد يَسْبقُ منه فجرُه الشفقَا

وأنكروا من قصره وجوده فقالوا:

وليلة من الليالي الغر

لم تك غير شفق وفجر

كان هؤلاء الذين يشكون طوله ويشكون قصره يتحدثون بعواطفهم، ويترجمون عن مشاعرهم، فجاء قوم على أثرهم يتحدثون بعقولهم، فقال الفرزدق:

يقولون طال الليلُ والليلُ لم يَطُلْ

ولكنَّ من يِبكي من الشَّوْقِ يَسْهَرُ

وقال ابن بسام:

لا أظلمُ الليلَ ولا أَدّعِي

أن نجومَ اللَّيلِ لَيْست تغور

ليلى كما شاَءت فإن لم تَجُد

طال، وإن جادت فليلى قصير

أيها الليل! كم لففت ثوبك على متناقضات: حزن على ميت، وسرور لميلاد، ومحب مهجور يشكو طولك، ومحب واصل يشكو قصرك، وعابد متهجد يناجي ربه، وداعر فاجر يبغي حظه، ودمعة حري تسلبها أم ولْهَى بجانب سرير مريض، وضحكة صارخة تخرج من فم سكير عربيد، ومجلس أنس تتجاوب فيه الأقداح والأوتار، ويلبس فيه الليل ثوب النهار، بين بدور؛ وكاسات تدور، كأنه مسرح صغير تمثل فيه الجنة بصنوف نعيمها، أو معرض تعرض فيه الملاهي بشتى ألوانها، ومجلس بؤس تتجاوب فيه الزفرات والحسرات، وتتساقط فيه النفوس، قد شرقوا فيه بدموعهم، وتلظى الهم في ضلوعهم، فهم بين كاسف بال، وساهم طرف، ومنقبض صدر، ولهيف قلب

ص: 5

يترقبك السارق ليحتمي بسوادك في سرقته، والعاشق ليفر في سكونك بعشيقته، والناسك ليبتهل إلى الله في صلواته، ويتحد معه في مناجاته، والشاعر لينظم شجونه في قصيدته، والملحن ليوقع لحنه على قيثارته، والسياسي ليدبر مؤامراته، والعالم ليفكر في نظرياته

ولكن لماذا استأثرت بكل هذا والنهار قسيمك في الخدمات وعديلك في الحياة؟ بل هو أشد منك حياة وأكثر قوة، فسلطانه الشمس وسلطانك القمر، وسلاحه الضوء وسلاحك الظلام، وشعاره البياض وشعارك السواد؛ وهو مبصر وأنت أعمى، وطبيعته الحركة وطبيعتك السكون؛ وهو يدعو إلى النشاط والعمل وأنت تدعو إلى الخمول والكسل، ولكن شاء الله أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، فجعل من قوة النهار ضعفاً ومن ضعفك قوة

انتهرت فرصة السكون الذي منحك الله فجعلت منه حركة دونها حركة النهار، فحركته حركة جسم وآلات، وحركتك حركة عواطف وانفعالات، وشتان ما بينهما! لقد أطاق الناس مصائبه ولم يطيقوا مصائبك، فقال الشاعر:

وحُمِّلْتُ زَفْرات الضحى فأطقتها

ومالي بزفرات العشي يدان

واستعنت بسلطان الحب فجعلته من أعوانك، وأسرت العواطف فاتخذتها من خدامك، فلما اجتمع لك الحب والعواطف نازلت بها الزمان، وغلبت بها كل سلطان؛ فالوصل لا يلذ إلا في ظلك، والهجر لا يلدغ إلا في كنفك، والسرور لا يشع إلا في حضرتك، والألم لا يضني إلا في هدءتك

من تعب في النهار وجد فيك راحته، ومن أتعبته الحركة نعم فيك بسكونه، ولكن من تعب فيك لم يجد في النهار عوضاً عنك، ولم يرض به بديلا منك

جالت هذه المعاني في فكري، وامتلأت بعظم الليل نفسي، فمنّ عليّ بنومه لذيذة، هادئة عميقة، فقابل جميل ثنائي بجميل صنعه، وأدى فريضة شكري بجزيل فضله

(سيدي بشير)

أحمد أمين

ص: 6

‌المحاكمات التاريخية الكبرى

2 -

الحركة النهلستية

ومصرع القيصر اسكندر الثاني

صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان

للأستاذ محمد عبد الله عنان

اعتزم القيصر شهود حفلة الاستعراض العسكرية في ميدان ميخابلوفسكي كما قدمنا، وقام البوليس باتخاذ الإجراءات المعتادة للمحافظة على سلامة القيصر فزار الشوارع التي يمر بها الركب الملكي؛ وكان ثمة في شارع (مالايا سادوفيا) حانوت لبان افتتح هنالك منذ ثلاثة أشهر يديره شخص يدعى كوبوزيف وزوجه؛ وكان البوليس يشتبه في أمر هذا الحانوت وأمر صاحبه، فزاره في عصر يوم السبت بحجة التفتيش الصحي فلم يجد فيه ما يريب؛ ولم يكن كوبوزيف في الواقع سوى عضو من أعضاء اللجنة التنفيذية وضعته اللجنة هنالك ليكون عوناً لها على التنفيذ.

واعتزمت اللجنة الثورية من جانبها أن تنتهز هذه الفرصة لتنفيذ قرارها باغتيال القيصر فغادرت بيروفسكايا مسكنها وذهب أساييف إلى حانوت كوبوزيف ليضع لغما قوياً تحت شارع (ماليا سادوفيا) وأنفق كبالتشتش وهو عضو اللجنة المتخصص في صنع القنابل طول الليل في منزل فيرا فنجر مع جراتشفكي وبيروفسكايا، ولم يأت الصباح حتى تم صنع قنابل أربعاً حملها كبالتشتش وبيروفسكايا. وفي صباح يوم الأحد أول مارس وزعت صوفيا القنابل الأربع على أربعة منالشبان الفدائيين هم جرنفتسكي وامليانوف وميخالوف وريساكوف وعمره تسعة عشر عاماً فقط؛ وتفرق الأربعة في نقط أربع عينت في خريطة التنفيذ حول منعطف نفسكي والطرق المفضية إليه. . وفي الساعة الثانية بعد الظهر كان كل في مكانه المعين ينتظر إشارة صوفيا ووقفت صوفيا مدى حين ترقب ميدان الاستعراض عن بعد. ولكنها ما لبثت أن علمت أن الركب الملكي لن يمر بالشارع الذي وضع فيه اللغم، فسارت عندئذ صوب منعطف نفسكي في اتجاه جرنفتسكي وأخرجت منديلها، ففطن الفتيان إلى إشارتها وساروا تباعاً صوب قناة سانت كاترين لمقابلة الركب

ص: 7

الملكي، واستولى الفزع على أحدهم وهو ميخايلوف فانسل واختفى في آخر لحظة، وبقي الثلاثة الآخرون يرقبون الإنذار الأخير

وذهب القيصر إلى ميدان الاستعراض نحو الظهر. ولما انتهى الاستعراض ذهب إلى قصر ميخايلوفسكي القريب حيث تناول طعام الغداء مع الجراندوقة كاترين ميخايلوفنا؛ وفي الساعة الثانية وبضع دقائق انتظم الركب الملكي للعودة، وأمر القيصر سائق مركبته أن يعود إلى قصر الشتاء من نفس الطريق. وكان يحرس العربة الملكية ستة من الفرسان القوازق وتتبعها عربة أخرى يقف فيها مدير البوليس، ثم ثالثة بها ضابط الحاشية. وسار الركب مسرعاً في شارع انجنرنايا، مجتنباً بذلك شارع مالياسادوفيا (الذي وضع به اللغم) ثم اتجه يميناً إلى جسر قناة القديسة كاترين؛ وكان المكان قفراً ليس فيه غير رجال الشرطة والمخبرين الذين ينتشرون على طول الطريق وسوى قليل من المارة.

بيد أن الركب ما كاد يقترب من جسر القناة حتى دوي انفجار هائل وانعقدت فوق الموكب سحابة من الدخان الكثيف، وكانت هذه قنبلة ريساكوف انفجرت وراء العربة فأتلفت مؤخرتها؛ وفي الحال أوقف السائق العربة ونزل القيصر منها سالماً وكان قد سقط على مقربة منها قوزاقي وثلاثة من الشرطة وغلام من المارة مصابين بجراح بالغة. وقاد رجال الشرطة صوب القيصر فتى عريض المحيا غائر العينين هو ريساكوف، فسأل القيصر: أهو الفاعل؟ وفي تلك اللحظة سأل أحد كبار الضباط: (هل جرح صاحب الجلالة؟) فأجاب القيصر: (شكراً لله فإني سليم معافى) وهنا قال ريساكوف: (لا تعجل بشكر الله) وسار القيصر ومن حوله الحاشية إلى مكان الانفجار ليرى الجرحى ولكنه ما كاد يسير بضع خطوات حتى دوى انفجار آخر وانكشف الغبار والدخان عن منظر مروع:

سقط القيصر صريعاً وقد كسر ساقاه، وبقر بطنه، واحترق وجهه، ومن حوله عدة من الجرحى. وفي الحال حمل القيصر مضرجاً بدمائه إلى قصر الشتاء، ولكنه زهق بعد ذلك بقليل دون أن يعود إلى رشاده أو يفوه ببنت شفة.

وعثر رجال البوليس بين الجرحى على الفتى الذي ألقى القنبلة الثانية، وكان في دور النزع وتوفي بعد ساعات قلائل دون أن يبوح باسمه للمحقق. ولكن البوليس وقف على اسمه بعد ذلك وقد كان أجناتوس جرنفتسكي الثوري البولوني واحد الفدائيين الأربعة. أما

ص: 8

الرابع وهو أمليانوف فقد اختلط بالناس واستطاع الفرار

واعترف ريساكوف بإلقاء القنبلة الأولى، وشرح للمحقق سيرته فذكر أنه طالب بمدرسة المناجم وعضو في حزب (إرادة الشعب)، وأنه يشتغل ببث الدعوة الثورية بين العمال وقدم بعض تفاصيل عن المؤامرة وتدبيرها ولكنه لم يُعرِّف عن أحد من زملائه. وفي ساعة متأخرة من الليل واجهه المحقق بجليابوف، فحياة جليابوف بحرارة؛ ولما علم بمقتل القيصر أبدى ابتهاجه، وقال إنه وإن لم يشترك بنفسه في تنفيذ الحادث بسبب اعتقاله فانه يشترك فيه بكل قلبه، وإنه اشترك في عدة محاولات سابقة لاغتيال القيصر، ولم يمنعه من الاشتراك في قتله سوى مصادفة سخيفة، ولذلك فهو يطلب أن يحاكم مع ريساكوف وسوف يدلي للمحقق بكل ما يثبت مسئوليته.

ولم يمض يوم آخر حتى استطاع البوليس أن يظفر بآثار المرهبين. وفي مساء نفس اليوم هاجم مركزهم في شارع تالينايا فانتحر صاحب الدار وهو ثوري يدعى سابلين قبل دخول البوليس وقبض البوليس على صاحبته المدعوة جسيا هلفمان وضبط لديها بعض القنابل. وقبض في صباح اليوم التالي على ميخايلوف، ولاحظ البوليس في الوقت نفسه أن حانوت اللبان في شارع مالاياسادفيا قد أغلق واختفى صاحباه ففتش الحانوت مرة أخرى فاكتشف فيه سرداباً خفياً يصل حتى منتصف الشارع وقد وضع فيه لغم ثبت بسلك رفيع إلى آلة كهربائية؛ وفي يوم 10 مارس استطاع البوليس أن يقبض على صوفيا بيروفسكايا وكانت لا تزال مختفية في العاصمة ترقب الحوادث، فاعترفت في الحال باشتراكها في مقتل القيصر واشتراكها في حادث القطار الملكي.

وهكذا استطاعت الشرطة أن تضع يدها على جميع الجناة ولم يفلت من يدها سوى امليانوف الذي اختفى عقب الحادث ولم يعترف أحد عليه.

- 3 -

وفي نفس اليوم الذي قبض فيه على صوفيا بيروفسكايا أعني في يوم 10 مارس 1881 وجهت اللجنة التنفيذية لحزب إرادة الشعب إلى القيصر الجديد - اسكندر الثالث - كتاباً ضافياً تستهله بالاعتذار عن مخاطبته في تلك الآونة الدقيقة (إذ يوجد ما هو أسمى من أية عاطفة بشرية وهو الواجب نحو الوطن ثم تقول فيه:

ص: 9

(إن المأساة الدموية التي وقعت على جسر ترعة سانت كاترين لم تكن حادثاً غامضاً غير متوقع، بل كانت بعد كل ما حدث في الأعوام العشرة الأخيرة قضاء محتوماً، وهذا ما يجب أن يفهمه الرجل الذي ألقي إليه القدر مقاليد الحكم. ولقد نمت الحركة الثورية واشتد ساعدها بالرغم مما اتخذ من إجراءات القمع الذريع، وبالرغم من أن حكومة القيصر الراحل قد ضحت حريات كل الطبقات ومصالحها ولم تدخر وسعاً في إزهاق المجرم والبريء وفي تعمير السجون النائية بالمعتقلين. ولقد شنق عشرات ممن يسمونهم بالمحرضين فماتوا في هدوء الشهداء. ولم تقف الحركة الثورية بل استمرت قوتها في ازدياد. أجل يا مولاي إن الحركة الثورية لا تتوقف على إرادة الفرد، بل هي عملية تقوم بها الأداة القومية ولن تنجح المشانق التي تقام لصفوة قادة هذه الحركة في إنقاذ النظام السياسي المحكوم عليه، كما أن صلب المسيح لم ينجح في إنقاذ العالم القديم الفاسد من ظفر النصرانية المصلحة

(ونحن أول من يعرف كم يحزن ويؤسي أن تبدد هذه المواهب والعزائم كلها في أعمال التخريب، فهذه القوى يمكن في ظروف أخرى أن تستخدم في عمل الإنتاج: في تربية الشعب وفي تثقيفه، وفي زيادة رفاهته وتحسين نظمه؛ فلماذا إذن نلجأ إلى خوض هذا النضال الدموي؟

(لأنه لا توجد لدينا يا مولاي حكومة بمعنى الكلمة، وواجب الحكومة هو أن تعبر عن أماني الشعب وأن تمثل إرادته، ولكن الحكومة عندنا قد انحطت إلى عصابة قصر، وغدت أحق من اللجنة التنفيذية بأن توصف بعصابة من الغاصبين)

وتستعرض اللجنة بعد ذلك مثالب الحكم القيصري وإمعانه في استعباد الشعب وتسخيره، وما جلبته هذه السياسة على روسيا من الخراب والبؤس وما ترتب عليها من فقدان الحكومة لكل نفوذ معنوي. وهذا هو السبب في اضطرام الحركة الثورية، بل هذا هو السبب في ابتهاج الشعب لإزهاق القيصر ثم تقول:

(ولا مخرج لهذه الحالة سوى أمرين: فأما الثورة المحتومة التي لا يمكن أن يمنعها أي قمع، وإما التوجه إلى سلطة الأمة العليا. وإن اللجنة التنفيذية لتنصح إلي جلالتك باتباع الطريق الثاني، ففي ذلك خير أمتنا وبه تجتنب المصائب المروعة التي تحملها الثورات. وثق بأنه متى عدلت السلطة العليا عن اتباع الهوى وقررت أن تستلهم في عملها برغبات الأمة ففي

ص: 10

وسعك أن تطرد الجواسيس الذين يلوثون الحكومة، وأن ترد حرسك إلى ثكناته، وأن تهد المشانق؛ وسوف توقف اللجنة التنفيذية نضالها وتنفض القوى التي حولها لكي تعني بالعمل الثقافي لخير الشعب. . . ونحن نؤمل ألا تطغى لديك عاطفة السخط الشخصي على الشعور بالواجب، والرغبة في تعرف الحقيقة، فنحن يحق لنا أن نشعر بالسخط أيضاً؛ وإذا كنت قد فقدت أباك فقد فقدنا نحن أخوة ونساء وبنين وأصدقاء أعزاء؛ ولكننا على أهبة لأن نخمد مشاعرنا الشخصية إذا اقتضى ذلك خير روسيا، وننتظر منك أن تفعل مثلنا)

(إن الشروط التي يجب تحقيقها لكي تترك الحركة الثورية المجال للعمل السلمي قد عينها التاريخ لا نحن. وإنا لنذكرك بها فقط فهي:

أولاً - العفو العام عن الجرائم السياسية فهذه لم تكن جرائم، بل هي أعمال يمليها الواجب الوطني

ثانياً - استدعاء ممثلي الأمة الروسية لتعديل مناهج الحياة الاجتماعية والسياسية الحاضرة وصوغها وفقا لرغبات الشعب

ثم تشير اللجنة إلى الشروط التي يجب توافرها في الانتخاب الحر ووجوب إطلاق حرية الصحافة والرأي والاجتماع وتختتم خطابها إلى القيصر بما يأتي:

(هذه هي الوسيلة الوحيدة لتوجيه روسيا إلى طريق التطور السلمي والنظامي، وإنا لنعلن خاشعين أمام الوطن وأمام العالم أجمع أن حزبنا سيخضع من جانبه لقرار الجمعية الوطنية التي تنتخب طبقاً للشروط المذكورة، ولن يقوم بأي عمل عنيف لمعارضة الحكومة التي تستند إلى ثقة الجمعية الوطنية)

(والآن فقرر لنفسك يا مولاي. أمامك طريقان ولك الخيار. وإنا لا يسعنا إلا أن نرجو القدر أن يملي عليك عقلك وضميرك الحل الوحيد الذي يقتضيه خير روسيا وتقتضيه كرامتك الشخصية وواجباتك أمام الوطن - 10 مارس 1811)

(للبحث بقية - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 11

‌بمناسبة الذكرى

في حضرة سعد

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

لما قصدت القاهرة سنة (1343) لأقول (كلمتي في اللغة العربية) تقدم سعد رضي الله عنه إلى الأستاذ الكبير حافظ بك عوض بأن يلاقيني ويقول لي: (إن سعداً يحب أن يراني فهل أحب أن أراه؟!) فلما قيل لي ذلك قلت: يا شيخ، قل: يأمره، إنما هو الآمر المطاع. وهل أنا في هذا البلد إلا في حمى عمرو بن العاص وحماه؟ ثم يممنا في اليوم الثاني ذاك العرين: بيت الأمة، وعرجنا إلى عليّة فيه، وكان الزعيم يومئذ موعوكا

فإن تك قد نالتك أطراف وعكة

فلا عجب أن يوعك الأسد الورد

وطلع علينا سعد ومشى إلينا فسارعنا إليه

فلم أر قبلي من مشي البحر نحوه

ولا رجلا قامت تعانقه الأسد

ومكثت والأستاذ حافظ عوض في تلك الحضرة ذات الجلال وذات الهيبة حيناً، وكانت أحاديث جمة أروى منها حديثين: ذكر الزعيم سعد جمال الدين الأفغاني رضي الله عنهما وأياديه البيض في هذه اليقظة العربية الأدبية، وأفاض في هذا المعنى، فقلت: يا مولاي، إنه لم ينتبه من أمم الشرق في ذاك الوقت إلا أمتان لا ثالثة معهما: الأمة اليابانية وجمال الدين. فابتهج البطل الخالد بهذا القول في بطل مثله، وقال: حقاً إن جمال الدين أمة وحده. ثم قلت له قبل توديعه: يا مولاي، من دأب الطبيعة عند ارتقاء أمة أن تلخصها في رجل، ومصر لم تبرح تتقدم وتعلو حين طويل، وقد لخصها الله في سعد. فأجاب جواب الأبطال العظماء المتواضعين، وهل يكون العظيم إلا متواضعاً؟ وهل يستعير رداء الكبر يلبسه إلا الصغير؟ ثم قبلنا تلك اليد الطاهرة المباركة مودعين. ولما عدت إلى مصر سنة (1346)، وكان أمر الله وقضاؤه ذهبت إلى (القبر) وسلمت على صاحبه

طاف الكأس بساقي أمة

من رحيق الوطنيات سقاها

عطلت آذانها من وتر

ساحررنّ مليّا فشجاها

وقرأت فاتحة (الكتاب) لقائدين من قواد محمد: عمرو أبن العاص، وسعد زغلول

النشاشيبي

ص: 12

‌رابطة النقد بالأثر الأدبي

وأهداف النقد

للأستاذ خليل هنداوي

نص المحاضرة التي ألقيت في حمص بروضة البلدية في 17 يوليه على جمع غفير من هواة الأدب. وكانت حفلة زاهية دلت على إقبال شديد على حوض الأدب. وقد تخللها قصائد ومقطوعات لشعراء حمص الشباب جددت عهد ديك الجن الحمصي، وقد أطرب الزائرين عزف نادي (دوحة الميماس) ولا عجب في تعانق الأدب والفن في مثل هذه الحفلة، فإنهما عنصران يتمم أحدهما الآخر. وهكذا سادت الجو روح وثابة مفعمة بالخواطر الرفيعة والشعر الجميل. وفي هذا الجو العالي ألقيت هذه الكلمة. . .

(خ. هـ)

كنت أود أن أزوركم خفيفاً لا مثقلاً، أمتع العين ببهجة مدينتكم ولا أجهد عقلي وعقولكم. كنت أود أن آتيكم زائراً لا محاضراً حتى أرى ألوانكم الطبيعية وتروا لوني الطبيعي. ولكن الأخ الأستاذ محمد روحي فيصل ألح علي في أن تكون الزيارة للمحاضرة، ولكنه روعني كثيراً وكاد يدخل الجزع في نفسي لأنه وصفكم لي وصفاً يبعث على الخوف. قال لي: إنك ستنزل في قوم يدرسون آثار الأديب ويحصون عليه خطراته، ويمنعون فيها تحليلاً وتعليلاً. بل سترى فئة عرفت آثارك وتعرف أفكارك ما تجانس منها وما تنافر. لأنهم قوم يقرءون ويدرسون ويحللون ويناقشون. فقلت له: ما دام الأمر هكذا فدعهم على الأقل يتناولوني وأنا بعيد عنهم، ويسلقوني بألسنتهم الحداد من حيث لا تشوى نارهم جسدي، ولا تبلغ مديتهم ودجىَّ. أتريد أن تسلمني إليهم يداً بيد؟ ولكن ما دواعي هذا الجزع؟ ولم أخشى الفئة المناقشة؟ ألسنا ندعو إلى أدب عميق يستمد من ثقافة عميقة؟ ألسنا نحرره من الدجالين ونغزوه عزواً مستمراً بالفكر حتى يغدو أدب الحياة وأدب الحقيقة؟ وكيف أخشى قوماً هذا عملهم؟ وإنما الأجدر بي أن أكون واحداً منهم فيما يعلمون. والأجدر بي أن أشكر هؤلاء القوم لأنهم مراقبون - لا بمعنى لجان المراقبات والحياد السياسي - ولكن بمعنى المراقبة الحقيقية التي تجعلنا نتحقق إذا كتبنا، ونتأنى إذا فكرنا، وإذا كان هدفنا

ص: 14

من الأدب هذا الهدف فلمن ننشد هذا الأدب؟ الشباب لا يقرءون أم لشباب يقرءون، ولا يفكرون؟

يظن الصديق الكريم أنه روعني وفي الحقيقة شجعني. إذ الخير لي أن أعطي فكرة تُناقش وترد لي محطمة من أن أعطي فكرة تضيء بين عميان يقدسونها ولا يحسونها!

هذه ظاهرة حسنة من ظواهر أدبنا تدل على الاتجاه الثقافي الذي اتجه إليه أدبنا في العهد الجديد. وقد كنا في عهد إذا وجد الأديب لم يوجد القارئ، وإذا وجد القارئ لم يوجد الأديب، وقد بدأنا بعهد يستطيع الاثنان فيه أن يوجدا!

ها قد جئت ولا أدري ما يكون نصيبي بعد ما سكن روعي. ولكني أرجو أن يكون حظي في هذه المدينة حظ ذلك المكان المسحور الذي شاع عنه أنه لا يبيت فيه بائت ليلة إلا لقي حتفه حتى جاءه رجل يريد الموت، وما أشد عجب الناس حين وجدوه حياً، لأنه بإرادته الموت عاش. وهكذا أرجو أن أفك هذه الطلاسم لأني أريد أن أراكم غير مطلسمين. وأريد أن تروني غير مطلسم!

وعلى ذكر النقد وشيوع النظرة النقدية عندكم آثرت أن تكون كلمتي - بينكم - حول النقد ورابطة النقد بالأثر الأدبي.

تدركون جيداً المرحلة التي فصلت بين انحطاط أدبنا الأخير وبين تباشير النهضة الأدبية الحديثة، وتدركون أن آفاقاً كثيرة تفتحت، وأن اضطرابات فكرية هزت عالمنا الجامد؛ وتدركون أن النقاد يرجعون هذه البوادر إلى مدرسة الأدب الغربي التي هي أعمق وأكثر ألواناً وصوراً وأكثر درساً للحياة واكتمالاً من الناحية الفنية. على أن للأدب الغربي - في أدبنا - جوانب أبرز من جوانب، والجانب الأكثر بروزاً في نظري هو جانب النقد الذي يسرني أنكم غلبتموه - فيكم - على كل شيء. فنظريات النقد التي شاعت في أدبنا يعود لها الفضل في هذا التقدم. والنقد كما يفهم الأدباء ظاهرة يخلفها الأثر الأدبي، إذ لا نقد إلا بعد الأدب. ولكني أريد أن أفهم اليوم هذه النظرية معكوسة عندنا لأنا بدأنا بالنقد قبل أن نبدأ بالأدب. ولأن الأدب الغربي الذي خلق لنا أجواء نقد، وأعطانا مقاييس نقد صحيحة، لم يفتح عندنا أجواء إنتاج بعد!

تقلبت مدارس النقد في الأدب الغربي كثيراً تقلب الأدب نفسه، والنقد فيه كان مصاحباً

ص: 15

للأدب. وليس للنقد حدود واضحة؛ ففيه نزوع إلى الجمال ونشدان الحقيقة وتسجيل التاريخ الأدبي. وقد قسم الكاتب الفرنسي (فان تيجام) ثقافة الأدب في كتابه (الأدب بالمقارنة) إلى ثلاث مراحل: الأولى المطالعة بلذة؛ والثانية المطالعة بنقد؛ والثالثة تاريخ الأدب. ولكن هذه النتيجة الملائمة للمنطق تأتي مشوشة، فهو لم يوضح عمل النقد، ولكن يبدو له أن عمل النقد شيء ذاتي ولا يمكنه أن يكون تاريخاً. أما تاريخ الأدب فهو يريد به دراسة قوية حقيقية للآثار الأدبية وما تحتويه وما تتجه إليه وما تكنّ من فن وثروة. على أن هذا هو ما ينشده النقد وينزع إليه ما استطاع

سأل الأستاذ (روزو) في مجلته (الآداب الحديثة) الأدباء: (إلى أين يذهب النقد؟) فأجاب الأستاذ (لانسون) محدداً علاقات النقد وتاريخ الأدب: (قد تمكن كتابة تاريخ الأدب بدون نقد، ولا تمكن كتابة النقد بدون تاريخ الأدب. فإذا أردت مثلاً أن تدرس المدرسة الشعرية الرمزية، فأنت مضطر إلى أن تصعد إلى أعلى وأن تسبق هذه الحركة وتطلع على ما هيأها)

ويقول (أدمون جالو): (إن النقد لا يستطيع أن يتفوق على تاريخ الأدب؛ ومن العسير أن نحكم على رجل حياته. وأظن أن القلق في أحكامنا التي نصدرها على معاصرينا إنما يأتي من هذه الناحية) على أن الناقد وإن لم يكتب التاريخ فهو يهيئ عناصره وموارده، وكثيرون من الناقدين يهيئون الأماكن المقبلة للآثار الحاضرة

وقد تطورت مهنة النقد في العصور كثيراً. فلقد كان في عصرنا قاضياً يميز الكتاب الجيد من الكتاب الرديء، والأثر الرائع من الأثر السخيف. ولكن في هذا الحكم ما فيه من الجور لأنه يضع الحكم على الآثار في أيد ليست منها على شيء! ثم أصبح الناقد معلماً يوضح الطريق اتباعها، ولكن هذه المهنة زالت أيضاً واصبح هم الناقد غير هم المعلم. وفي هذا المعنى يقول النقادة (سانت بوف): إن مهمتي كأستاذ أن أوقظ قبل كل شيء مسالك الذوق بواسطة التحليل والتحديث. أما الناقد فله واجبات أخرى الناقد يعطي أحكامه بسكون وبملازمة نفسه!)

وقد أعلن (لاسير) أن للنقد رسالة سامية لا تقف عند تحليل المؤلفين، وإنما همه أن يؤثر في الجماعات، ومثله الأعلى أن يعد شعباً حر النزعة، مفتوح آفاق العقل، صافي العاطفة،

ص: 16

لكي يأتي الشعراء والمبدعون من بعده ويجدوا من يفهمونهم ويمشون معهم ويسمعون إلى ألحانهم. ولعل هذه النظرية تلائم نظرية الشاعر (ستيفان مالارمي) في أن الشاعر يجب ألا يتلوه إلا شاعر، أو قارئ يستطيع أن يسمو معه في لحظة ما ويتحد معه اتحاداً شعرياً. وهذا أهم ما في رسالة النقد لأن عبقريات كثيرة - بغير النقد - تنطفئ لأنها لا ترى طريق اتصالها بالجماعات

ويرى (ماسبي) أن النقد يعمل كمعلم. . . (إننا نفتقر إلى معلمين ولا نطلب إلى النقد أن يعجبنا. . . لا شيء أصعب اليوم ولا أعسر من وضع نظام وترتيب في الآثار الأدبية والفنية. وإزاء هذه الميول والأهواء المتباينة يجب أن يكون الواجب الأول للأدب أن يرينا أين نحن؟ ومن نحن؟ وأن يفصل بين العبقريات. وبعبارة أجلى أن يكون حارساً أميناً)

ونحن مهما تجردنا من هذا النقد المعلم فمن المحال أن نتجرد منه تجرداً تاماً، لأن من طبيعة الحال أن يقبل الناس على الناقد ويروا فيه (المطلع الحاكم) الذي يصحح بجرأته بعض الأخطاء الكبيرة. ويمكن القول بأن تقدير الآثار على رغم بعض الخطأ في هذا التقدير قد يكون ضرورياً في مجتمعنا الحاضر. . . .

وبعض النقاد يعملون على أن يتجردوا ويتركوا الحكم للقارئ نفسه. وذلك بأن يفتحوا له طريقاً يسلكها ويكتشفها لنفسه. . . ولكن هؤلاء مهما تجردوا - يحملون شيئاً من أنفسهم دخل في بضاعتهم من حيث لا يشعرون.

أما مدارس النقد التي قامت وتقوضت ثم قام غيرها ويقوم غيرها فهي أكثر من أن تحصى، ولكل فوائدها واكتشافاتها. فقد نشأ النقد نشأة ضيقة منذ نشأ. كان يرى أن الشيء الجميل له قواعد معينة معروفة ولا يكون بدونها جميلاً. وهذا نقد مجرد ينصر الفكرة المجردة، ولكنه يهدم بنقد آخر لا يؤمن بالتجرد، بل يرى أن الجميل لا يكون مجرداً، وإنما هو كغيره له علاقات تربطه بغيره. وقد شاعت هذه النظرية كثيراً حتى نشأ عنها (النقد بالمقارنة والموازنة بين الأشكال الجميلة والآثار الأدبية في الشعوب المختلفة ثقافتها) وهذا النقد قد وسع آفاق النقد إلى ما لا حد له. ويعجبني في هذا المعرض سلسلة المقالات التي تنشرها مجلة الرسالة الغراء (بين الأدبين العربي والإنجليزي) للأستاذ فخري أبو السعود. ولعلها تكون فاتحة سلاسل للمقارنة بين الأدب العربي والآداب الشرقية الأخرى التي أتصل بها

ص: 17

أدبنا وتأثرت به وتأثر بها كالأدب الفارسي مثلاً الذي لا تزال علاقاته مع أدبنا تكاد تكون مجهولة.

أجل! قد ولى عهد كان يرى أن الإنسان مملكة إلى قلب مملكة، وجاء عهد يرى أصحابه أن الإنسان شيء من أشياء هذه المملكة، يؤثر فيها ويتأثر بها بمقدار. . . وقد أوحت هذه النظرية للنقادة الفرنسي (تين) نظرية تحليل الأثر الأدبي بعوامل الجنس والبيئة والزمن. . . . ونظرية التطور أوحت (لبرونتيير) أن يعتبر الأنواع الأدبية ككائنات حية تتطور ويولد بعضها من بعض. وقد شاعت نظرية جديدة تقول إن الأثر الأدبي لا تكمل صفاته إلا بدرس صاحبه. لأن المؤلف إنما يصف نفسه ويمنح أشخاصه كثيراً من شخصيته. على أن الأثر الأدبي يخضع من وجوه كثيرة بالمؤلف إذا كان المؤلف نفسه ليس بسيد أثره الذي أعطاه، ولا بسيد عمله الذي يريد أن يظهره؟ بل نذهب إلى أبعد من هذا الحد ونقول: إن المؤلف هو الذي يطابق أثره ويمشي عليه، وليس الأثر هو الذي يطابقه. ومهما كان هذا النقد موضوعياً علمياً فمن الواجب أن يتبعه نقد ذاتي يبث الناقد فيه آراءه الذاتية الشخصية. ومن هذه الناحية تولد النقد (المنفعل أو المتأثر) الذي يرى أن الناقد الحقيقي عليها. ومهما أشرق على طبائع مختلفة ونماذج متباينة فهو يرعى شخصية وحدود اتصال الحادث بنفسه. ولكن هذه الذاتية إذا تطرفت كثيراً أخرجت النقد عن كونه علماً! ويطلب في الناقد الحقيقي أن يكون ذا موهبة تحليلية نفسية، وأن يكون قادراً على الخروج من حدود الذات ليمكنه تذوق الفكرة الغريبة مع صيانته لشخصيته. ونقد آخر يعمل على ترتيب درجات الآثار الأدبية، وآلة ذلك - كما يقول سانت بوف - الذوق، لأن الذوق يعبر عن كل دقيق وعن كل خفي يتمشى في أنفسنا!

ونشأ في إبان النهضة العلمية النقد الفلسفي، ويقول أصحابه: إن إلحاق النقد الأدبي بالعلم لا معنى له، إذ لا يوجد علم يختص بشخص دون شخص، والنقد الأدبي لا يعرف إلا الأفراد في الرجال والآثار. ويقول هؤلاء: إننا لا نضم العلم إلى النقد، ولكن نضم الفلسفة إليه. والنقد الحديث قد دخله شيء من مدرسة أفلاطون وشوبنهاور وبرغسون. نعم إن الغاية من الأدب والنقد إنشاء اللذة النفسية، ولكنا نريد أن نعرف تحليل هذه اللذة التي يغمرنا بها الشعراء والكتاب. وبذلك نزيدها أضعافاً مضاعفة. وهل كانت المجادلة على الشعر الصافي

ص: 18

إلا قبساً من فلسفة ما وراء الطبيعة. ونقد (تييودي) الذي أوجد الاتصال بين الرمزية وفلسفة برغسون هو نقد مشبع بالروح الفلسفية المرتكزة على فلسفة الفنون والآداب. وهنالك النقد الاجتماعي والأخلاقي الذي يقيد الأدب والفن ويرى صلاحهما بمقدار معالجتهما للمسائل الاجتماعية والأخلاقية، ولا ينصرها إلا بمقدار ما ينصران الأخلاق. وهكذا نجد في النهاية ألواناً كثيرة للنقد نشأت لتحليل ألوان الأدب وكل غايتها أن تفتح للأدب آفاق التجديد والإبداع.

لقد دخلت هذه المدارس النقدية أدبنا وعملت فيه - على غير نظام - وأثرت فيه تأثيراً مباشراً. وليس طه حسين والعقاد وأحمد أمين إلا وليدي هذه المدارس على اختلاف الاقتباس وتباين الطرائق! على أنكم إذا شئتم أن تقارنوا من أنتجهم أدبنا الحديث - بين الناقدين والمبدعين - فسدت المقارنة وشالت كفة المبدعين، لأننا لا نجدهم كما نجد الناقدين. وهذا الأمر يجعلني أعتقد بالنظرية التي أعلنتها (إنا بدأنا بالنقد قبل أن نبدأ بالأدب) فنقادنا الذين تثقفوا بالأدب الغربي قد فتحوا فتحاً جليلاً في أدبنا القديم. ولكنه فتح لم يعد بكل الفائدة على توجيه أدبنا الحديث. فأدبنا الحديث لا يزال جامداً مقلداً لا تتلمس في أقلام أدبائه المبادئ الفنية التي يجب أن تكون فيهم؛ وبهذا أفاد الأدب العربي الناقدين ولم يفد الأدباء المجددين.

قد يقول حاملو لواء التجدد: إننا نريد التجديد والتطور، ولكن القدماء يمنعون علينا هذا التطور ويجدوننا في أدبهم هدامين. ولأصحاب المذهب القديم أن يقولوا ذلك لأنهم يرون في أساليب المجددين التواء وتنكباً عن الأساليب العربية؛ ثم لا يجدون في أساليبهم ذلك العسل المصفى الذي يبشرون به. وما ذلك إلا لأن جل المجددين أنفسهم يمشون ولا يدركون أين يمشون! ويأخذون من كل ثقافة برقعة فيأتي ثوبهم مؤلفاً من رقع! فهل درسوا نظرية كل مدرسة في الفن والحياة؟ فليس الأدب الغربي كله من هذه البضاعة التي ألف أن يحملها إلينا من حين إلى حين أناس لم يستقيموا لأدبهم ولم يستقم الأدب العربي لهم. وإنا إذا دعونا إلى التجديد وإلى تدبر الأدب الحديث فلا ندعو إلى تعطيل الأسلوب العربي والبيان العربي، لأننا نعلم أن لكل لغة من بيانها صبغة إذا زالت زال منها كل لون من ألوان عبقريتها. ولكنا لا نجد حرجاً في خلق المدراس الجديدة ليغذي أنصار كل مدرسة

ص: 19

مدرستهم بخير ما يغذى. وفي الأقطار العربية فئات لا ينقصها من الثقافة شيء. ولا يضير العربية تعدد هذه المدارس لأنها باعث من بواعث النشاط والتحفز.

نحن في عهد قد اتسعت فيه مناحي ثقافتنا وأصبح لا يشبعنا ما كان يشبع من قبلنا، وأصبحنا نطلب من الأدب أن يكون شيئاً غير التنميق والزخرفة والشعوذة. والأدباء والشعراء الذين كنا نطرب لهم بالأمس لم يعودوا يملئون نفوسنا، وإنا إذا طربنا اليوم ببعض آثارهم فلأن هذه الآثار تخاطب فينا جزءاً عتيقاً من أنفسنا لا يزال يمد رأسه من حين إلى حين، كالمقطوعة الشعرية مثلاً نسمعها في مناسبة ما من فم قائلها فتطربنا، ولكن إذا عدنا إلى (جوها) لم نجد شيئاً، وإذا تلوناها تلوناً فيها شيئاً كثيراً إلا الشعر. وشعراؤنا على اختلافهم ينظمون كثيراً ولا نعرف لشاعر منهم لوناً خاصاً يتميز به إذا ميزت الألوان؛ لأن جلهم لا يزال يرعى عهد القدماء (القائل) أحفظ أشعار الأوائل وانهج على منوالهم تصر شاعراً. . . ولم يعلم هؤلاء أن العصر قد تبدل وتبدلت بتبدله مطالبه، وأن الشعر أصبح ذا رسالة تفتقر إلى ثقافة عميقة وذوق مهذب فني. فهل هب من شعرائنا من يدرس النظريات الفنية؟ وهل في تحليل النظريات والاستفادة منها ما يضر مواهبهم؟ وهل يعارض أصحاب القديم في إدخالها وهي لا تهدد البيان ولا تحرف اللسان؟

كان الشاعر - مثلاً - يكفيه أن يجمع بين أية فكرة وأية لفظة لا يبالي الملائمة ولا يبالي أصل هذه الفكرة! أما الآن فهو مضطر إلى أن يفرق بين الخطرة الفكرية والخطرة الشعرية، وأن يعي علاقات الألفاظ بالمعاني وينسق ألحانها دون أن يخونه شيء. وهذا يدعوهم إلى أن يمارسوا النظريات الجديدة في الفن وعلم النفس. وهذه النظريات هي وقف على العقل الإنساني الشامل لا تختص بأدب ولا تنتسب إلى قبيل، وإن من واجب المدارس الأدبية إزاء هذه التطورات ألا تقف عند نظريات معينة في النقد لتجعل من طلابها نقاداً ومؤرخين، وإنما هنالك النظريات الفنية التي تزيد في إطلاع الطالب على أعماق النفس البشرية وتجعله أكثر ارتباطا بالحياة وتفهماً لها. وبهذا تعمل على تطور الأدب - لا تاريخ الأدب - تطوراً مخصباً يعود على كل حقول الأدب بالإنتاج والابتكار. قلت: إن النقد تقدم في أدبنا، وليس معنى ذلك أنه بلغ الذروة التي يريد بلوغها. فللنقد عند الناقدين مذاهب كما للأدباء؛ وكل مذهب يفهم النقد كما يريد، بينما يقف نقدنا عند مرحلتين:(1) نقد الآثار

ص: 20

القديمة وتنظيمها وإنشاء دراسات مخصبة عليها. وقد خطا النقد العربي في هذه المرحلة خطوة واسعة موفقة (2) نقد الآثار الحديثة وأكثره عمل تهديمي صرف، أو إضرام بخور المجاملة للأصنام الأدبية، دون أن يجرب أن يكون نقداً عميقاً يلتفت إلى البناء. وإذا كانت فائدة النقد الأول إحياء مآثر الماضين ففائدة النقد الثاني أجل وأعلى لأنه يحيى الأحياء ويفتح لهم طريق الإبداع. ومن هذا ترى سر تهافت طلابنا على الدراسات القديمة وتجمد روح الإنتاج والإبداع فيهم.

تلوت قراراً جديداً أصدرته الجمهورية الألمانية هذا العام تمنع فيه الأدباء الأحداث أن يجروا أقلامهم في ميدان النقد، لأن النقد عمل ثقافي يحتاج إلى مراس وإطلاع واختبار. وهي تزعم أنها تريد من وراء هذا أن تحمى آثار العباقرة من التهجم، ولكني أريد أن يبقي النقد وأن يتناوله الشباب. وإذا أريد حماية الأدب فلا نستطيع أن نحميه بمثل هذا القرار لأن النقد غريزة في النفس، بل ربما كان النقد وحده عبقرية. وقديماً قالوا إن النقد يرافق الأثر الأدبي ولا يخلقه. ولكني أرى أن النقد في كثير من المواطن لم يكن مرافقاً وإنما كان خلقاً. أجل! إن العبقرية تكاد تكون - كما يجمع علماء النفس - شذوذاً في الناس كالمعجزة، ولكن هذه المعجزة مرتبطة - من نواح كثيرة - بما حولها، ولولا ما حولها لفسدت. وهكذا ساعد النقد عبقريات كثيرة على الظهور لأنه عبر عنها وفسر ما يكنفها من إبهام. ولذلك لا حاجة إلى خنق النقد حماية الأثر الأدبي، لأن الأثر الأدبي والنقد لا يحتاجان إلى وسيط بينهما للتفاهم، ولا إلى قانون يحمي أحدهما من الآخر. فليوجد الأثر الأدبي من شاء، ولينقده من شاء. . . .

تقولون لي: وكأنا بك لم تكفك مقاييسنا الجديدة في النقد فما هي مقاييسك؟

إنني لا أميل إلى مقاييس تقريبية محددة مقيدة. ومن ذا يستطيع أن ينشئ للحياة وأذواقها المتباينة مقاييس. .؟ وأية عين ترى مثل ما ترى الأخرى؟ ولقد نتغذى بثقافة واحدة في بيئة واحدة، وتتجه وجوهنا شطر آفاق واحدة، ولكنا لا نتفق في النهاية على تفهم ما نراه. ولكنا رأينا الحياة جميعاً، وفهمنا منها كل بحسب مزاجه، ولكن هذا لا يمنع أن يكون للنقد مناح نوجهه إليها.

فالواجب الأول - عندي - للنقد أن يكون في القارئ شخصية مستقلة في النقد، تترك

ص: 21

صاحبها لا يقبل الشيء نقلاً، وإنما يقبله إذا قبله عقلياً. . . . استقلال الشخصية أول ما يجب أن يلهم النقد. فبقدر ما يؤلمني فقدان الاستقلال الشخصي في الأمم، كذلك يؤلمني فقدانه في الأفراد. وكما يقبل عليك الأديب بشخصيته، أقبل أنت عليه بشخصيتك

والواجب الثاني للنقد - وهو واجب ما أحوج نقدنا إليه! هو توجيه العقول إلى التوليد. وذلك بإنماء الذوق الفني في النفس حتى تتلمس مواقع الجمال، وخلق الأجواء الخاصة له. فالشعر إذا لم يكن محدوداً فذلك لأن المحدود نفسه يتحدد فيه ويفقد روحه المنطقية، ومن كان يتنبأ بأن الشعر يخضع لظروف جديدة؟ أليس علم النفس أثر فيه كما أثر في نواح مختلفة من الأدب؟ ألم يبدل فيه وجهات كثيرة وخلق منه اتجاهات كثيرة؟ وبينما كان الشعر لغة لا تصف من النفس إلا حالات العاطفة الهائجة، ومن البحر إلا أمواجه المصطفقة أصبح يهوي إلى الأعماق التي تثير هذه العواطف المتماوجة في سكون النفس! إذ ليس من الضرورة أن تصف أوعى ما في نفسك وأقربه للاهتزاز والارتجاج. ويكفي من القصيدة أنها تضرب على وتر في أعماقك تسمع رنينه ولا تسمعه! على أني لست متشائماً من تأخر الإنتاج، لأننا نؤثر أن نتكلم بالنقد على أن نتكلم بأدب غير ناضج، ولا نريد أن يذهب تأثير الأدب الغربي إلى أبعد من جو النقد. نريده موقظاً فقط لا موحياً إلينا، وفاتحاً عن أفق لا أن يكون هو الأفق!

والواجب الثالث أن يساعد النقد - كما يقول (لاسير) على أن يعد شعباً مفتوح آفاق التفكير صافي الذوق لكي يأتي المبدعون ويجدون من يفهمهم ويمشون معهم. . . .

خذوا النقد وسيلة لا غاية. وسيلة لفتح آفاق الإنتاج القوي. ولا تجعلوا غاية سيركم بل اجعلوه طريقاً إلى غايتكم. وليكن لون إنتاجكم لون نفوسكم ولون هذه الطبيعة. ولا ترتدوا ثياب غيركم لأنكم لن تحسنوا تقليد غيركم، ثم لن تجدوا بعدها لونكم الخاص. ولا تمشوا وراء خطوات غيركم مقلدين. . . إنني رحبت بالروح النقدية عندكم على أن تكون مقدمة للإبداع المنشود!

فليكن لناقدكم ضمير يوحي إليه أن يعترف بالجمال حيثما رآه!

وليكن نقدكم نقطة يتعانق فيها العدل والحق والجمال.

وليفتح لكم النقد طريقاً إلى التوليد.

ص: 22

وليفتح الناقدون الطريق للروح المولدة.

وإذا لم نكن عباقرة فلنمهد - على الأقل - الطريق للعباقرة.

ولعل الذي وصفكم لي بأنكم ذوو عقول ناقدة مناقشة هو الذي يصفكم لي في المستقبل بأنكم ذوو عقول مبدعة مولدة

(حمص)

خليل هنداوي

ص: 23

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صداق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 6 -

(لا يؤاخذني القارئ بما أخذت به نفسي من الترتيب في هذه المقالات؛ فقد يبدو لكثير من القراء أنني أسير على غير منهاج واضح حين أجمع بين الحديث عن الرافعي الشاعر، والرافعي الأديب، والرافعي في أهله، أو حين أثب من موضوع إلى موضوع لا يمت إلى سابقه ولا يصله به سبب.

(وعذري الذي أقدمه إلى القراء من هذا الخلط هو أنني أسير في تاريخ الرافعي على الترتيب الزمني لا ألقي بالا إلى غيره؛ فأيما حادثة اعترضت حديثاً وجرت في زمانه تناولتها، حتى لا يفوتني شيء مما أريد إثباته، فأسير مع الحادثة من حيث تبدأ في زمانها وانتهى بها حيث تنتهي من تاريخه، ثم أعود إلى ما كنت فيه على حساب السنين؛ فهذا من هذا؛ وللباحث من بعد أن يجمع عناصر موضوعه على ما يشتهي ويتناولها من حيث يريد

شعراء العصر في سنة 1905

قدّمت الحديث في الجزء الرابع من هذه المقالات عن شيوخ الرافعي في الشعر الذين أخذ أو أقتفي آثارهم، أو جرى معهم على سنن. وأثبتُّ ما كان بينه وبين حافظ من المنافسة، وما كان يتمتع به حافظ يومئذ من الشهرة والجاه والحظوة عند الشعب، تلك الشهرة التي ألهبت غيرة الرافعي وحفزته إلى الكفاح وحمّسته إلى استكمال أسباب الغلبة بعقد الأواصر وإنشاء المودّات والدعاية لنفسه. ثم بينتُ ما كان بين الرافعي والكاظمي من صلة الحب والتقدير؛ وتساءلت في آخرة القول: هل من صلة بين الرافعي وبين غير هؤلاء الثلاثة من شعراء الجيل؟ هل كان لغير البارودي وحافظ والكاظمي من شعراء العصر أثر في شعر الرفعي؟ وما مبلغ هذا الأثر؟ وما نتيجته؟

على أن الباحث المحقق لا يقنعه هذا التساؤل، وليس يكفيه من وسائل البحث أن يعلم من

ص: 24

شعراء العصر هؤلاء الثلاثة فحسب؛ ولقد نشأ الرافعي الشاعر في أول هذا القرن، وأوّلُه حافل بثُلّة من الشعراء لم يجمتع مثلهم في زمان في بلد؛ فما مبلغ تأثر الرافعي بكل أولئك الشعراء المعاصرين؟

هنا أدع للرافعي نفسه أن يتحدث، وما حديثه هذا إلا طرف من الدعاية التي كان يقوم بها لنفسه في أول عهده بالشعر ليبلغ المنزل الذي يطمح إليه. وإنه ليكشف عن شيء من خلق الرافعي وكبريائه واعتداده بنفسه، ويدل على قوة الرافعي وعنفوانه وشدته في النقد، إذ كان هذا الحديث أول ما كتب الرافعي في النقد.

إن أدباء العربية عامة لا يعرفون من الخصومات الأدبية أشهر شهرةً من الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره؛ فالخصومة بين الرافعي وطه، وبين الرافعي والعقاد، وبين الرافعي وعبد الله عفيفي، وبينه وبين غير هؤلاء - هي خصومة مشهورة مذكورة في موضعها من تاريخ الأدب العربي في هذا الجيل، مشهورة مذكورة في موضعها من تاريخ النقد في العربية.

وإن قراء العربية عامة ليعرفون الرافعي الناقد معرفة بصيرة، ويعرفون شدته وعنفوانه في النقد، شدةً حبّبتْه إلى الكثير، وألّبتْ عليه الكثير. على أن من يريد أن يعرف أول شأن الرافعي في النقد فليقرأ مقال الرافعي عن شعراء العصر في سنة 1905

نشر الرافعي مقاله ذاك في عدد يناير سنة 1905 من مجلة الثريا بتوقيع (*) وأحسبه أخفى أسمه وراء هذا الرمز حذر التهمة، وليبلغ به مبلغه في الدعاية لنفسه، فقد جعل نفسه في الشعراء رابع الطبقة الأولى من طبقات ثلاث تنتظم كل من يعرف الرافعي من شعراء عصره. جعل الطبقة الأولى منهم على الترتيب:

الكاظمي، والبارودي، وحافظ، والرافعي. . . .

وفي الطبقة الثانية على الترتيب:

صبري، وشوقي، ومطران، وداود عمون، والبكري، ونقولا رزق الله، وأمين الحداد، ومحمود واصف، وشكيب أرسلان، ومحمد هلال إبراهيم، ثم. . . . حفني ناصف!

وفي الطبقة الثالثة:

الكاشف، والمنفلوطي، ومحرم، وإمام العبد، والعزبي، ونسيم. ثم ألحق بهؤلاء أثنين

ص: 25

يعرفهما من شعراء العراق، هما: السيد إبراهيم، ومحمد النجفي

وقد أفتتح الرافعي مقاله بما يأتي:

(قرأت في بعض أعداد (الثريا) كلمة عن (الأدب قديماً وحديثاً) فقلت: كلمة مألوفة. ولم ألبث أن رأيت جملة أخرى لأديب غيور على الشعراء، كان رأس الشعر بين أولها وآخرها كأنما خدش بين حجرين؛ فقلت: إني أنظم الشعر فأسرّ، وأقرأ عنه فأسرّ، فمالي لا أنفثها والقوم قد أصبحوا يتنافسون في أسماء الشعراء كما يتنافسون في ألقاب الأمراء؛ وقد استويا في الزور، فلا أكثر أولئك شاعر، ولا أكثر هؤلاء أمير

(ثم رأيت بعد أن عزم الله لي كتابة هذا المقال أن أتركه بغير توقيع، وإن كنت أعلم أن أكثر من يقرءونه كذلك سيخرجون من خاتمته كما لو كانوا أميين لم يقرءوا فاتحته، فإن الحكمة كلها والمعرفة بجميع طبقاتها أصبحت في أحرف الأسماء. فإن قيل: كتاب لفلان. . . قلنا: أين يباع، وإن كان من سقط المتاع. على أن اسمي قد لا يكون في غير بطاقتي وكتبي إلى أصحابي القليلين، وفي سجلّ بعض الجرائد والمجلات، فليظنني القارئ ما ضرب على رأسه الظن

(وسأذكر في هذه الأسطر كل ما عرفته أو أتصل بي أسمه من الشعراء، وأقطع عليه رأيي، فإما وسعه فكمل به، وإما أظهره كما هو في نفسه، لا كما هو عند نسفه؛ ولذلك فقد ضممتهم إلى ثلاث طبقات، وجاريت في تسمية بعضهم بالشعراء عادتنا المألوفة)

ثم كتب رأيه بعد ذلك في كل شاعر ممن ذكرت مقتبساً من شعره مستشهداً به على ترتيبه في موضعه من طبقته

وكان ما قاله عن صديقه ومزاحمه حافظ:

(. . . وأكثر شعره في هذه الأيام (سنة 1905) أضعف من قبل. . . . والذين لم تستقم ألسنتهم ولم تزل أفكارهم على سقم يقولون: إن شعر حافظ اليوم خير منه في ديوانه الأول؛ وذلك لأنهم لا يدركون موقع الخيال الشريف، ولا يهتزون للمعنى البكر إلا في اللفظ الثيب، وهؤلاء يفضلون (شوقي) عليه، وهيهات بعد أن استنوق الجمل. . . .!)

وكتب عن نفسه:

(لو كان هذا الشاعر (يعني نفسه) كما أسمع عنه، فإني أكون قد ظلمته إذ لم أقدمه عن هذا

ص: 26

الموضع (الرابع من الطبقة الأولى)؛ فقد أخبرت أنه لم يتم الرابعة والعشرين من عمره، ولذلك فإني لا أكتب عنه إلا ما أعرف من شعره، سواء كان فتى أوكهلاً؛ وهو قد طبع من ديوانه الجزء الأول من سنة مضت، وذكر في مقدمة شرحه أنه نظمه في عامين، وأنه لم يقل الشعر إلا منذ ثلاث سنوات من طبع ذلك الجزء؛ ولم ألبث أن رأيت منذ أشهر في بعض أعداد مجلة (الجامعة) تقريظاً مسهباً جداً للجزء الثاني من ديوان هذا الشاعر؛ فأكبرت ذلك، ولا شك أنه ينظم اليوم في الجزء الثالث قياساً على ما تقدم. . .

(ومما أمتاز به هذا الشاعر ولعه الشديد بالغزل، وبلوغه فيه أسمى ما يبلغه النظم؛ وله مزية أخرى، وهي غوصه على المعاني في الأغراض التي لم تطرق، وكثيرون يعدونه بذلك شاعر مصر، وديوانه معروف، وشعره مشهور. . . . الخ)

وقال عن شوقي:

(سيأخذ بعض القراء العجبُ إذا رأى شوقي بك ثاني الطبقة الثانية وهو هو (شوقي بك شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية)، ولكنا نعجب أكثر منه إذ رأينا الشوقيات قد انقلبت إلى شوكيات؛ فأي ذووق سليم يطمئن لهذه المعاني المكررة وتلك الألفاظ النافرة من مثل:(قضي أرْيحيُّ القوم) وغيرها. ولا أدري لهذا الانقلاب سبباً إلا إذا صح ما يقال من أن (صبري وسلمان) كانا يهذبان شعر الرجل من قبل، وهو قول لا أجزم به ولا أرفضه. . .

(. . . . . وإنما أشتهر قديما يوم كان الكاظمي في العراق، والبارودي في سيلان، وصبري من مهذبي شعره على ما يقال، وحافظ في السودان، والرافعي لم يقل الشعر بعد - على ما قيل لي! - وأثبت له الشهرة إضافته إلى الحضرة الخديوية على نحو ما يذكر النحاة في باب (الجر) بالمجاورة. . . .)

وختم المقال بقوله:

(. . . وسنرى ما يكون من امتعاض الشعراء بعد هذا المقال، ولكني أطلب إليهم أن يخفضوا عن أنفسهم؛ فلا أنا من معية الأمير، ولا من حاشية السفير، وليس ما كتبت إلا رأيي، فليبق كلٌّ في رأيه وعند نفسه أشعر الشعراء)

وذيّلتْه مجلة (الثريا) بما يأتي:

(ألقى إلينا مكتب بريد الزيتون يوماً ملفاً ضخماً وارداً من مصر، وداخله كتاب موجز ومعه

ص: 27

المقالة المتقدمة للنشر. أما الكتاب فهذه صورته بعد الديباجة:

(. . . دونك مقالةً بكرا لم يُنسج على منوالها بعدُ في العربية، حَرِيّة بأن تصدّر بها مجلتك الغراء؛ ولا يروعنّك شدة لهجتها فكلها حقائق ثابتة، وإن آلمت البعض فان الحق أكبر من الجميع؛ وإني لبالمرصاد لكل من ينبري للرد عليها، وأنا كفء للجميع؛ وما أخال أحداً يستطيع أن ينقض حرفاً مما كتبته، وإن هم لزموا الصمت فحسبك من سكوتهم إذ ذاك إقراراً بأني أنزلت كل شاعر في المنزلة التي يستحقها.

(ولا يعنيك معرفة أسمى، فأنا أبن جَلا وطَلاّع الثنايا؛ فانظر إلى ما قيل وليس لمن قال، وبعد هذا فإن أعجبتك مقالتي فانشرها وإلا فاضرب بها عرض الحائط.

(وإني أقترح عليك أن تنشر جميع ما يردك من الردود في المعني، سواء جاهر أصحابها بأسمائهم أو تستروا، فإن الموضوع طليّ شهيّ، وفي إطلاقك الحرية للكتّاب ما ينشط بهم لحرية الجولان في هذا المضمار)

قالت الثريا: (وقد تصفحنا المقالة فراعنا شدة لهجة الكاتب وبتنا نقدم رجلاً ونؤخر أخرى في نشرها، إلى أن تغلب علينا الميل لنشرها، إن لم يكن لشيء فلكثرة ما حوته من رائق الأشعار لفحول الشعراء، وهم نخبة شعراء مصر في هذا العصر؛ فأقدمنا على نشرها كما وردتنا بالحرف الواحد، غير متحملين تبعتها؛ وللكتاب الأدباء الحرية في الرد عليها، وأبواب الثريا ترحب بكل ما يردها من هذا القبيل، سواء من المشتركين أو غيرهم

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

يُهدّم، ومن لا يَظلم الناسَ يُظلَم

أحسب أن لهذا المقال أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس الرافعي دراسة أوسعَ قائمةً على قواعد من العلم والتحليل النفسي؛ وإنما يستأهل هذا الاهتمام من ثلاث نواح:

أولاً: إنه أول ما أنشأ الرافعي في النقد؛ فهو كالمقدمة لهذه المعارك الطاحنة التي قامت بين الرفعي ولفيف من أدباء عصره بعد ذلك بعشرين سنة؛ فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في النقد أن يبدأ من هنا

ثانياً: إنه ثَبْتٌ جامع لأسماء الشعراء الذين نشأوا مع الرافعي في جيل واحد، وقرأ لهم ونظر في شعرهم نظر الناقد أو نظر المعجب المحتذى؛ فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في الشعر، وعن الشعراء الذين تأثر بهم أو تأثروا به، أن يعرف هؤلاء الشعراء.

ص: 28

ثالثاً: إن في هذا المقال لوناً من ألوان الدعاية التي كان يقوم بها الرافعي لنفسه ليبلغ إلى الهدف الذي كان يرمي إليه بين أدباء العصر، فلا بد لمن يريد أن يدرس وسائل الرافعي إلى الشهرة وذيوع الصيت أن يقرأ هذا المقال.

وبعد فإن فيه شيئاً من أخلاق الرافعي المزهوّ بنفسه، المعتدّ بعلمه، القوّي بإيمانه، المتقحِّم على مواطن الهلاك؛ الرافعي القزم الضعيف الذي وقف على السفح تعتمد خاصرته على راحته وهو ينظر إلى فوق ليقول للشعراء العمالقة على القمة: انزلوا إليّ أو أصعد إليكم فأرميكم إلى بطن الوادي أشلاء ممزقة ليس فيها عضو إلى عضو ولا يسمع لكم صريخ. . . .!

الرافعي. . .؟ لقد كان الرافعي طويل اللسان من أول يوم. . .!؟

(سيدي بشر)

محمد سعيد العريان

ص: 29

‌من تاريخ الأدب المصري

شعر القاضي الفاضل

للأديب محمد سعيد السحراوي

وقفت على نسخة مخطوطة من ديوان القاضي الفاضل في دار

الكتب المصرية فأحببت أن أعرض طرفا منه خدمة للأدب

(م. س)

سيرة القاضي الفاضل

ولد بمدينة عسقلان عام 529 للهجرة؛ فهو ليس مصري الأصل وإن كان مصري الدار. تولى أبوه القضاء في نيسان وهو طفل، وثقفه تثقيفاً دينياً بحتاً حتى كبر، فقدم إلى القاهرة في عهد الحافظ لدين الله، وخدم فيها الموفق بن يوسف ابن جلال مدير ديوان الإنشاء إذ ذاك فتعلم فنون صناعته، وحذا حذوه في كتابته، ثم انتقل إلى الإسكندرية يخدم بعض حكامها حتى عرف بينهم بالذكاء، وبنبوغه في صناعة الإنشاء، فلما سمع به العاضد استدعاه إلى القاهرة وعينه كاتباً، وفي عام 566 للهجرة توفي الموفق بن يوسف بن جلال فجعل العاضد القاضي الفاضل مكانه - وظل يكرمه كل وال ويرقيه، حتى ولي الملك صلاح الدين فجعله كاتبه وقاضيه، ووزيره ومشيره؛ وظلت هذه حاله إلى أن توفي في 17 ربيع الآخر عام 596 للهجرة أي في الليلة التي هزم فيها الأفضل ودخل العادل القاهرة

نسبه وصفاته

وهو الوزير مجير الدين أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الإشراف بهاء المجد علي بن القاضي السعيد أبي محمد ويعرف بالبيساني. وقد ذكر عنه المؤرخون أنه كان ديناً كثير الصدقة والعبادة، وله وقوف كثيرة على الصدقة وفك الأسارى؛ وكان يكثر الحج والمجاورة مع اشتغاله بخدمة السلطان. وكان ضعيف البنية، رقيق الصورة، له حدبة يغطيها الطيلسان. وقالوا عنه أيضاً إنه كان فيه سوء خلق يكمد به نفسه ولا يضر أحداً؛ وكان يجل أصحاب الأدب ويكرمهم ويعاونهم، ويؤثر أرباب البيوت والغرباء ولا ينتقم من أعدائه،

ص: 30

فإما أن يحسن إليهم أو يقتصر على الأعراض عنهم

والقاضي الفاضل كاتب معروف وأديب له طابع خاص، وأسلوبه لا يكاد يجهله مطلع على الآداب العربية، فهو كما يقال عنه - رب العلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والفضل الذي ما سمع به الأوائل لمن عاش في زمانه، وما تعلق أحد بغباره أو جرى في مضماره وهو كذلك شاعر جيد الشعر كما سيجيء

شعره

شعر القاضي الفاضل صورة من نفسه، يدل على رقة حسه؛ أكثره في الغزل، لأنه أسلس ضروب الشعر قيادة للمحسنات اللفظية التي أغرم بها القاضي الفاضل غراماً شديداً، وكلف بها كلفاً ظاهراً، في غير تصنع واضح، أو تطرف يخرج بها عن المعنى الذي يقصده. وقد اكتسب القاضي الفاضل من البهاء زهير وابن سناء الملك وابن قلاقس وغيرهم من الشعراء الذين عاشوا معه في مصر، رقتهم وموسيقاهم الشعرية العذبة، كما اكتسب مما كان يأتيه من أشعار الأندلسيين الذين كانوا في إبان نهضتهم الأدبية، الأخيلة الرائعة والطرائق المستحدثة، وإن كان قد حافظ على نظام سابقيه، فظل ينظم فيما تعود سماعه وما كثر النظم فيه فلم ينظر إلى الطبيعة الساحرة نظرة الأندلسيين إليها، ولم يجب الآفاق البعيدة التي جابوا فيها؛ وربما كان ذلك نتيجة لنشأته الدينية واحتراماً لجلال المركز الذي وصل إليه

الفخر

القصيدة الأولى في ديوانه يعرفها بعض الأدباء، وهي في الفخر، وفيها يصف بلاغته متلاعباً فيها بالمعاني وهي خير مثال على شعره ومنها:

قضى نحبه الصوم بعد المطال

وأُطلق من قيد فتر الهلال

وروَّض كاتب جنبي اليمين

وأتعب كاتب جنبي الشمال

فدع ضيقة مثل شد الإسار

إلى فرجة مثل حل العقال

وقم هاتها مثل ذوب النضار

وموج البحار وطعم الزلال

جزى الله عني عروس الدوالي

ولا أخطأتها كؤوس الغزالي

بما أطعمت من لذيذ الثمار

وما ألبست من نسيج الطلالِ

ص: 31

وما سلست من مذاب السرور

وما خفضت من جماع التغالي

فكم زخرفت جنة للعذاب

وكم رفعت قبساً للضلال

أغالط بالكأس حكم الزمان

فيوم عليّ ويوم بمالي

فجاءت بما في عيون النساء

ومرت بما في رءوس الرجال

وأسلو الغزال بها إذ أرى

بكاساتها دم ذاك الغزال

إذا مزج الماء منها الكئوس

مزجاً أسنتها بالنصال

وسكران كدر من سكره

زمان على كل عقل ممال

فسكر الشباب وسكر الشراب

وسكر الصدود وسكر الوصال

فلا تذكرن عهود الوصال

فعهدي بها والليالي ليالي

ولم أيك عهداً رجاء الرجوع

ولكن أجدده بالصقال

بعثن الليالي بيأس جديد

عليّ قديماً فجاست خلالي

فما جاء عن منطقي ذم جان

ولا جاء عن جوهري ذم حالي

ولم استغث تحت ظل الخطو

ب جرجرة البُزل تحت الرحال

خشنت لحال كشوك القتاد

ولنت لأخرى كشوك السيال

ولست لساناً لذل السؤال

وما زلت صدراً لعز السؤال

حديث يناجي فروع السحاب

وأصل يناجي أصول الجبال

ولي قلم منه عين الكلا

م تجري فتنظر عين الكمال

يراع تظل رياض الطرو

س منها موشحة بالصلال

كمثل الوقيعة فيها الظلال

يشيع الوقيعة لي في الزلال

وكتْب يفيض بأرجائها

يمين الجدا أو لسان الجدال

تقدمها الشكل من فوقها

كمثل السهام أمام النصال

وهي طويلة جمعت عدة أنواع من الشعر فأوعت.

الغزل

وشعر القاضي الفاضل الغزلي رقيق جزل، فهو يقول معاتباً.

وإني لمطوى الضلوع على جوى

بأيسر منه ينشر الوابل السجم

ص: 32

وأملت نفع الكتم فيه مغالطاً

غليلي ولكن قل ما نفع الكتم

وقد كان لي عزم على الصبر صابراً

فقد خانه بعد النوى ما نوى العزمُ

وأسعفها باللؤلؤ النثر جفنه

ويسعفها من بعدها اللؤلؤ النظمُ

لنفسي أريد الوصل لا بعد موتها

فلا خبر من بعد الممات ولا علمُ

لحي الله هذا العيش إن كان ما أرى

فآنفه ظل وسالفه حلمُ

ويزعم صبري أنه لي عدة

وأكبر ظني أن سيكذبني الزعمُ

فلا بعد إطلال الحمي القطر وحده

ولا دارها دمعي ولا غلتي الظلمُ

تحرج عن وصلي مخافة إثمها

فلا تحرجى إن الصدود هو الإثم

وأكثر أيامي تعقبها الأسى

عليها ولكن قد تقلبها الذم

رضيت بما يقضي على قسط جوره

فَلِمْ يغضب القاضي وقد رضي الخصمُ

واستمع إليه يقول متغزلاً، وفي هذه الأبيات يظهر مدى أثر الشعر الأندلسي فيه:

سنّ النسيم تعانق الأغصان

أفلا يسن تعانق الخلانِ؟!

قد كان بينهم حديث ساكت

ناجى خواطرهم بغير لسان

فهمت قلوبهم فلما لم يجب

عنها اللسان أجابت العينانِ

والقلب يدرك وهو ليس بسامع

لفظ الدموع بألسن الأجفانِ

يا راجلاً من عينه قد أصبحت

في الناس مقفرة بلا إنسانِ

فإذا جرت منها الدموع فإنما

تجرى لسقيا ذكرك العطشان

ومنها:

بلد بما يسقى غليلك ماؤه

ما دمت تنزل منه في نيران

وعجبت من متوسل مستوصل

بجهنم منه إلى بستان

وهو كذلك يقول:

يا هلالاً إذا أنار ضللنا

وغُصَينا إذا تثنَّى ثنانا

بينما جلنار وجهك يبدو

إذ رأينا في صدرك الرمانا

ومن غزله أيضاً:

تلذ بجنتها أعين

وفيها الذي تجتنى الأنفسُ

ص: 33

لها نكهة إذ تحيى بها

يغض لها عينه النرجسُ

وجاءت بعود لها خاطب

أرم لهَيْبتهِ المجلسُ

لها معجز إن تأملته

فما سر إعجازه ملبسُ

أري العود من قبلها أخرساً

وفي يدها ينطق الأخرسُ

كأن المدامة من لحظها

ونار الغرام بها تقبسُ

وله:

ومالي في صيد العقارب حيلة

سوى عقرب دبت على ورق الورد

وإني شجاع لا علي كل حية

سوى حية صيغت من الشَّعر في الخد!

وفي الأبيات الآتية تبدو حيرته ويتجسم قلقه، فله من قصيدة:

يمزقني ذا الحب كل ممزق

ويصبح خلقي فيه وهو جديدُ

مقيم وقلبي في ركابك سائر

قريب - ولكن ما أريد، بعيدُ

وله من قصيدة أخرى:

ليال تقضت ليس يوم براجع

إليها ولكن الليالي سترجعُ

فيا ليت أسباب الليالي تقطعت

كأسبابنا فيها إذا تتقطعُ

وإن فرطت منا وأعني اتباعها

فيا ليت أن النفس لا تتتبعُ

وإن كان قلبي بين جنبي حاضراً

فليت هموم القلب لا تتبوعُ

وبيني وبين النائبات وقائع

يهونها الموت الذي أتوقعُ

فكل زمان ليس لي فيه صاحب

وكل حبيب ماله فيَّ موضعُ!

وقال في حبيب مريض، وفيها تصوير لنفسه بديع:

وما عدته بل عدت سقمي بقربه

ومما به ما بي عليه قريب

أغيب برغمي ثم أحضر غائباً

وأنظر آثار الضنا فأغيب!

وقال مداعباً:

بين الضلوع جهنم من حبهم

فوددتهم لا يسمعون حسيسها

فمع الظلام الدمع كان طليقها

ومع الصباح الهم كان حبيسها

وقال:

ص: 34

وما قضى الدهر لي من قربه وطراً

إلا اقتضى الوطر المقضي أوطارا

يا من شقيت به دنيا وآخرة

ترى عرفت سوى الدارين لي دارا؟

أشقى البرية منظوراً ومنتظراً

هذا الضعيف الذي يهواك جبارا!

ومن شعره الموسيقى العذب قوله:

وقف الطيف بجفني كالطفَل

سائلاً أين الكرى أين رحل

إنما كان الكرى يسكنها

فالكرى من وصلهم ثم انتقل

إنه يا طيف طوفان طغى

وابن نوح ليس ينجيه الجبل

إن قلبي من قلوب لم تبن

سرها لو لم تبينه المقل

حالت الأشياء عن حالاتها

فتولى الماء إيقاد الغلل

هذه أمثلة من شعره الغزلي، وما هي إلا قطرة من بحره الفياض؛ ومنها نستطيع أن نحكم على نفسيته؛ وهي لا تتعدى ما قال المؤرخون فيه.

(يتبع)

محمد سعيد السحراوي

ص: 35

‌فردريك نيتشه

للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف

عصره - مولده - تعليمه - شغفه بالأدب والموسيقى - أثر شوبنهاور وفاجنر في تفكيره - أول مؤلفاته - (إنساني وإنساني إلى أبعد حد)(زرادشت) - بقية أعماله - فن نيتشه وفلسفته - وفاته - مدرسته

بدأ التفكير الاجتماعي يظهر جلياً في آداب الأمة الألمانية في خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويرجع سبب ذلك إلى تغلب النزعة الواقعية على غيرها من النزعات. وكان لهذه النزعة الجديدة أثرها الجليل، فقد بدأت تسير في سبيلها هادئة حتى تغلغلت في نفوس المتأدبين. وكان على رأس القائمين بهذه الحركة الجديدة فريدريك نيتشه الذي أخذ يميل شيئاً فشيئاً إلى الاعتقاد بأن جماعات الناس تهوى إلى أسفل. وقد أرجع أسباب ذلك إلى أن الأدباء لا يعنون إلا بالفرد في منتجاتهم الفنية، في حين أن حاجة الفرد ومتاعبه ومشاكله ليست بالذات حاجة العصر ومتاعبه ومشاكله، وإن حالة الأديب قد تناقض حالة الجماعات البشرية. وعندئذ مال معه بعض صحبه إلى تفكيره هذا، وبدأت الناس تحس بأن ما كتبه الأدباء عن ماجريات الأحوال وشئون الحياة، أو ما كتبوه عن المسائل الاجتماعية والشئون السياسية التي سار ويسير إليها العالم، ليست إلا بعض آراء من شتاتها. ومن ثم أدرك عامة الناس بأن لهم وجوداً، وأنه يجدر بهم أن يعبروا عن آرائهم بصراحة. فأنجبت هذه الحركة أدباء فنانين من طراز جديد، منهم المصلح الاجتماعي، ومنهم الثوري الأشتراكي، ومنهم طبقات الفوضويين. ولنحاول هنا أن نلم بتاريخ حياة فردريك نيتشه لنتعرف مكانه من بين هؤلاء.

ولد فريدريك نيتشه في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1844م، في قرية (ريكن) الواقعة بالقرب من (لتزن) وقد يبدو لمن يحدق في صورة نيتشه أو يسمع باسمه أنه يمت إلى أصل بولوني، ولكن الباحثين قد فرغوا من إثبات أصله الألماني. ويرجع التشكك في أسمه إلى أن الألمان الذين كانوا يستوطنون المناطق التي يتغلب فيها السلافيون لا يرون غضاضة في صبغ نهاية أسمائهم بالصبغة السلافية. وكذلك فعلت عائلة نيتشه. أما

ص: 36

تكوين رأسه واصفرار لون شعره وزرقة عينيه، فدليل كاف على أنه ينتمي إلى (الشماليين) أي سكان شمال أوربا.

وكان لفريدريك أب قس ورث عنه نزعته للموسيقى وذكاءه المتقد وإحساسه المرهف وأعصابه الملتهبة. أما القوة فقد ورثها عن أمه التي أخذ عنها قوة الإرادة، والقدرة على العمل، والقوة الحيوية، وقوة مناعة جسمه ضد هجمات أعصابه الثائرة. أما الوعظ والدعاية لما يؤمن به فقد ورثه عن أبويه كليهما، ولذا كان حب الوعظ والإرشاد قوياً عنده إلى حد أنه كان يهيم بوقع الكلمة التي ينطق بها. وكان من اجتماع نزعته الإصلاحية إلى قوة إرادته وصدق حيويته لهيب من النار يسرى في كلماته فتهتدي به الناس وتطمئن إلى حرارته في جو إنعدمت فيه حرارة الإيمان.

وليس غريباً أن يكون هذا شأن نيتشه، فقد كان في صغره شعلة ذكاء تتقد منذ سني دراسته الأولى. فقد كتب مذكراته عام 1858، ولما يبلغ الرابعة عشرة من عمره، بأسلوب واضح متزن يشف عن ذكاء مبكر، إذ قال:(أصبحت في الطور الشعري الثالث.) وكتب أيضاً: (يجب أن أتمرن على القريض أكثر من ذي قبل، وإن أمكن فسأنظم في كل ليلة قصيدة.) ومع كل ذلك لم تخلُ قصائده الأولى هذه من أبيات موسيقية أخاذة تحوي معاني مبتكرة. وفي سن الخامسة عشرة نظم قصيدته المعروفة باسم (بغير وطن) ذات النزعة الرومانتيكية. فالتف حوله الأدباء الناشئون وألف منهم جمعية أدبية أسماها (جرمانيا). وكان يأمل أن يتتلمذ في المستقبل على جين باول بعد أن مال إلى فنه كل الميل. ولكن غير واحد من أصدقائه نصحوه بقراءة (هيلدرين)(ونوفاليس) فقرأهما كما قرأ (شكسبير) و (ترسترام شاندي) وهو في سن الخامسة عشرة. وكتب إذ ذاك في مذكراته: (إنني أقيد كل فكرة طريفة؛ وقد اتضح لي أنني إلى ما قبل الآن كنت غير ملم بشيء من العلوم.)

ولم يكن شغف نيتشه بالأدب أكثر من شغفه بالموسيقى، وكان أحب الموسيقيين إليه (روبرت شومان) الرومانتيكي النزعة، ولكنه مال بعد ذلك إلى شوبان إذ قال عن موسيقاه إنها تمثل جمال ونبل الفكر كما تمثل المرح وعظمة الروح الإنسانية والشعور الفياض سواء بسواء) وفضلا عن ذلك فقد وضع نيتشه أيام صباه قطعاً موسيقية قال عنها بعد أن تقدم في السن: إن (نغماتها) تكاد تكون مطابقة لموضوعات مختلفة من بارسيفال

ص: 37

التي ألفها فاجنر بعد عهد الصبا لنيتشه.

وعندما التحق نيتشه بجامعة (بون) عام 1864 كان يرغب في دراسة اللاهوت، ولكنه نزع عام 1865 إلى دراسة الآداب الكلاسيكية إلى جانب درسته الأصيلة. غير أنه هجر فيما بعد دراسة علوم الدين وتعلق بالبحث في العلوم، ثم رحل إلى (ليبزج) طلباً لحرية الفكر وحرية الرأي، ولكنه سرعان ما أدرك (أنه لا يوجد مكان تتوافر فيه حرية الفكر) وكان شوبنهاور قد ساعده على تحرره من عقيدته الدينية، بعد أن أتصل به في (ليبزج) التي قال فيها نيتشه:(هنا وجدت مرآة رأيت فيها العالم والحياة كما رأيت نفسي منعكسة بها في أجلي وضوح؛ وهنا حدقت في عين شمس الفن الذي لا نهاية له؛ وهنا رأيت المرض والبرء، رأيت المنفي والملجأ، رأيت النار والجنة) وفي هذا ما يدل بمفرده على مقدار تأثر نيتشه بشوبنهاور، كما تأثر به بعد ذلك في أبحاثه الأدبية التي كتبها أثناء دراسته في الجامعة، والتي أدهشت أساتذته، إذ عجبوا لأسلوبه العلمي الرصين. ولكن كل أبحاثه الأدبية لم تكن لتغريه إذ كانت تنقصها الفكرة الإنسانية. ودفعه هذا الاتجاه الجديد في تفكيره إلى تغيير منهج دراسته الذي كان قد صمم عليه. فقد كتب إلى صديق له عام 1869 يقول:(إننا دون شك أتباع القدر. فمنذ أسبوع أردت أن أكتب إليك بأني اعتزمت دراسة الكيمياء وترك دراسة الآداب لمن هم أليق بها مني، وهؤلاء هم الشيوخ. والآن يغريني شيطان القدر بالأستاذية في الآداب).

ولم يكن تعرّف (نيتشه) إلى (شوبنهاور) أهم ما وقع للأول في حياته إذ أن تعرفه إلى فاجنر قبل نزوحه إلى (باذل) كان له أثر عميق في نفسه. ولم يكن حب (نيتشه) لموسيقى (فاجنر) وليد يومه، بل لقد أعتبر (نيتشه) صديقه (فاجنر) الممثل لكل الفنون الحديثة التي أرتشفها وهضمها. وبلغت تلك الصداقة أبعد مدى لها سنة 1888 عندما قضى كلاهما الصيف في قرية بالقرب من (لوزرن) وحرص نيتشه على ألا تنتزع الأيام منه هذه الصداقة، وود لو أن تبقى صلته بصديقه فاجنر إلى الأبد، وقال عنها:(لقد كانت أيام تبادلنا فيها الثقة، أيام مرح وسرور. والحق أنها لحظات لها أعمق أثر في نفسي). قال ذلك نيتشه عن صديقه الذي أخلص له فقال فيه: (إنني لا أعرف ماذا كان حظ الآخرين من مصادقتهم لفاجنر، إلا أني أعرف أن سماءنا لم تغشها سحابة قط) وما ذلك إلا لاعتقاد نيتشه بأن

ص: 38

صديقه عبقري كريم الخلق، تنطبق عبقريته على وصف شوبنهار للعبقريات

وفي ذلك العهد ألف نيتشه أول كتبه القيمة الذي أسماه (انحدار التراجيدية من روح الموسيقى وأتمه عام 1871 وقد ضمنه أهم ما وقع له في حياته الخاصة وصداقته مع فاجنر، كما ضمنه مراميه الأولى والأخيرة في الحياة، ومساس الحاجة إلى الموسيقى. ولقد كتب كتابه هذا بأسلوب رائع تجلى فيه هيامه بالفنون، وأثبت قدرته على البحث كعلامة. ولم يحجم نيتشه عن أن يقول رأيه في الفنون الإغريقية وفي الإغريق. ويعد كتابه هذا من أروع الكتب الكلاسيكية التي تناولت الفن من عديد نواحيه التاريخية والفلسفية والعقلية. فلقد حاول نيتشه (أن يرى العلوم والمعارف بعين الفنان، وأن يرى الفن عن طريق الحياة) وهاجم في كتاب آخر له أسماه (نظريات لا تتفق وروح العصر) ووضعه فيما بين سنة 1873 و 1875 - عديد الاتجاهات في الثقافة الألمانية. فقد قال بأن ألمانيا تعيش في حالة همجية من الثقافة. وأفصح في هذا الكتاب عن طبيعة الحقائق الواقعية وما يقع تحت الحس في كل آن. وطالب بأن يكون الفن ممثلاً للعصر والحياة. وفي هذا الكتاب ينزع إلى المثل العليا، كما يميل في كتابته إلى التهكم المشبع بروح الفكاهة، وفي كتابه الذي أسماه (بعض فوائد ومضار التاريخ في الحياة) قال بأن كثرة المعلومات ليست وسيلة الثقافة، ولا هي دليل عليها إذ المسألة متعلقة بالسمو في الحياة. أما التخمة الناجمة عن التهام التاريخ وحشره في الرأس حشراً فإنها تجعل الحياة مريرة كما تجعلها خطرة. فالتاريخ يضعف الشخصية، ولا يمكن لشخصية أن تتحمله إلا إذا كانت غاية في القوة. أما ضعاف الشخصية فالتاريخ يؤيدهم، إذ يصبحون دائرة معارف متنقلة، ولا يكون لهم رأي، وإن جرأوا على ذلك فهو رأي محايد، ليس لشخصيتهم فيه أثر. ومن رأيه (أن وظيفة الإنسانية أن تعمل دون انقطاع لتخرج إلى العالم شخصيات عظيمة). والذي جر نيتشه إلى هذا التفكير هو شدة تأثره (بشوبنهاور) و (فاجنر)، غير أن أثرهما فيه لم يدم إلا بعض الزمن. فقد أدرك عندما شاهد حفلات (بايرويت) - الحفلات الموسيقية والتمثيلية السنوية الهامة - أدرك أنه خدع في رأيه، فقال بأن فاجنر يتخذ وسائل خشنة جامحة لإظهار تلك الفخامة العاصفة. وذلك الاضطراب العظيم المخيف وإن كان مزركشاً ومحلى بزخارف بهيجة أبغض الأشياء إلى نيتشه.

ص: 39

وفي سنة 1876 أخذ نيتشه في دراسة الفيسيولوجيا والطب والعلوم الطبيعية. ومن ثم أخذ يدرس من جديد جميع المسائل التي عالجها من قبل. وكتب في فترة العطلة التي قضاها في جنوب ألمانيا كتاباً أسماه (الخلاص) وهو أول جزء من كتاب جمع فيه مختارات أقواله وأختار له اسماً آخر هو: (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) ، - وكان ذلك عام 1878. ولما أن أهدي كتابه هذا إلى صديقه فاجنر ليطلعه على آرائه الجديدة بعث إليه فاجنر بقطعته الموسيقية (بارسيفال) ونجم عن ذلك فتور بين الصديقين، إذ تمسك كل منهما برأيه. ولعل كتاب (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) هو كما أسماه صاحبه (كتاب لأحرار الفكر) وفي هذا الكتاب من التضارب في القول ما جعل الناس تتحدث عنه. فبينما تراه في هذا الكتاب ملماً بكل شيء سليم المنطق، تراه غاضباً في بعض مواضع الكتاب مهتاج الأعصاب مريضاً. والواقع أنه كان يقاسي الآلام، ولكنه كان يحاول الكلام كمن لم يمس بسوء. وكان يريد الاحتفاظ بهدوئه ليهزأ بالعالم، كما قال بعد ذلك بعشر سنين. والحق أن نيتشه كان ثائراً على نفسه

(يتبع)

إبراهيم إبراهيم يوسف

ص: 40

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 19 -

الديانة الفارسية

الزرادشتية ومصدرنا عنها

ليس لدى الباحث عن الديانة (الزرادشتية) إلا مصدر واحد، وهو كتابها المقدس:(زند أفيستا) الذي وإن كان لم يتم جمعه إلا حوالي القرن السادس بعد المسيح إلا أنه قد أحتوى على جزء عظيم يدعى (جاتها ياسنا) وهو الذي يرجح جميع العلماء أنه كلام (زرادشت) نفسه ويرجعون تاريخه إلى القرن السابع أو العاشر قبل المسيح على ما اختلفوا في وجود النبي الفارسي كما أسلفنا. وما ليس من كلام (زرادشت) من هذا القسم هو - في رأي الكثرة المطلقة من الباحثين - يمثل (الزرادشتية) الأولى حق تمثيل، ويصح أن يعتمد عليه في تاريخ العصر الأول من عصور هذه الديانة. وهذا القسم قد وجد مكتوباً بلغة قديمة ترجع إلى ذلك التاريخ الذي عينه العلماء.

الميتافيزيكا

يجد الباحث في قسم (الجاتها) أن (زرادشت) أرجع جميع آلهة العهد القديم إلى إلهين أثنين: إله الخير (أهورا مازدا) أو (هور مازاد) أو (هرموز)؛ وإله الشر أو الكاذب أو الرديء، وهو الذي سيسمى فيما بعد بـ (أهرمان) في رأي المحققين. ولكن هذه التثنية ليست على علاتها، ولم تكن تثنية بمعناها الصحيح، لأن الإله الذي خلق الكون هو (أهورا) أما (أهرمان) فلم يكن له عمل إلا إيجاد شبه ظل من الشر لكل خير يخلقه (أهورا) وهو وإن كان أزلياً كمازدا، لأنه توءم رديء له إلا أنه ليس أبدياً مثله، إذ هو سيفني عندما يتغلب الخير على الشر فيمحوه من الوجود. أما رفعته عليه فهي ثابتة بنص الكتاب المقدس الذي

ص: 41

أسلفنا الإشارة إليه. وإليك شيئاً من هذا النص:

(استمعوا بآذانكم الأشياء الجيدة وانظروا فيها بوضوح حتى تصمموا على أحد الإيمانيين، لأن كل إنسان يجب عليه أن يصمم هو بنفسه قبل الفناء النهائي لكي يتكون حظ كل واحد منكم حسب اختياره.

إذاً، فالروحان الأولان اللذان ظهرا في الوجود كتوءمين هما: الخير والشر، وهما دائماً في التفكير والقول والعمل والحكماء قد اختاروا بينهما، وحسناً اختاروا، ولكن المفاليك هم الذين أساءوا الاختيار. وعندما تقابل هذان الروحان في مبدأ الوجود أسسا الحياة و (اللاحياة). وفي نهاية الأشياء سيكون أردأ أنواع الوجود من نصيب الذين يتبعون الكذب كما يكون أحسن الفكر من نصيب الذين يتبعون الخير. . .) إلى أن يقول:

(أيها الفانون، إذا أنتم أطعتم أوامر (مازدا) الذي نظم السعادة والألم ووضع قاعدة العقاب الطويل للكذابين وبارك الأخيار فإنكم ستفوزون بالسعادة الأبدية)

قد رأيت من هذا النص سمو (مازدا) على (أهرمان) من جميع النواحي، وعلى الخصوص من ناحيتي الأخلاق والأبدية، ولكن هذا الإله مع سموه وجلاله لم يسلب القوة والإرادة من البشر حتى ولا الأشرار منهم، بل ترك لهم من الإرادة ما يكاد يساوي إرادته نفسها، ليكونوا كاملي الحرية في الاختيار. ولولا هذه الحرية لما رأينا الكذب والشر يسودان كثيراً على هذه الأرض وينتصران أحياناً على الخير؛ وهذه السيادة وذلك الانتصار كانا أحياناً يدفعان (زرادشت) إلى التشاؤم واسوداد المزاج كما يظهر ذلك في الأنشودة الآتية:(نحو أي بلد أفر أو أنجو بنفسي؟ لقد فصلت من النبلاء ومن أمثالي، والشعب ليس مسروراً مني ولا الكذابون الذين يحكمون البلاد أيضاً. ماذا أعمل لأرضيك أنت يا (مزدا أهورا)؟

أنا أعرف جيداً لماذا لم أحز أي نجاح: ذلك لأني ليس لدي مال ولا رجال. أنا أدعوك يا (أهورا) أن تمنحني مساعدتك كما يساعد الصديق صديقه.

يا (مازدا) متى تشرق شمس انتصار الخير في العالم بوساطة الحكمة السامية الممثلة في المحررين الذين سيجيئون؟.

لم تقبل هذه التثنية (الزرادشتية) إلا أثناء حياة مؤسسها، أما بعد موته فقد دار حولها الجدل ولم يفهم الناس هذه الموازنة المعقدة التي وضعها زرادشت بين الخير والشر. وما زال هذا

ص: 42

الجدل يعمل عمله حتى انتهى حوالي القرن الرابع بعد المسيح بأحداث تغيير جوهري في هذه الديانة، فذهب فريق من رجال الدين إلى إنكار التثنية بتاتاً وإعلان التوحيد حيث صرحوا بأن (مازدا) هو الإله الأوحد، وأن (أهرمان) ليس خصماً له وإنما هو خصم روح القدس في (مازدا) إذ هذا الأخير يحتوي على روحين: أحدهما خيّر والثاني شرير.

الملائكة والأرواح الخفية

يتحدث كتاب (زند أفيستا) عن عدد من كبار الملائكة كانوا وزراء لأهورا مازدا، وقد حددهم القسم المتأخر من هذا الكتاب بستة وزراء، كل واحد منهم له اختصاص معين وعمل محدود؛ ووزاراتهم هي كما يأتي:(1) الفكرة الخيرة. (2) الفضيلة الجُلَّى. (3) الإمبراطورية المشتهاة (4) التنازل الكريم. (5) الصحة. (6) الخلود.

هؤلاء هم رؤساء الملائكة الذين يكونون الهيئة العليا التي تلي (أهورا) مباشرة. وهناك عدد عظيم من صغار الملائكة ومن الأرواح والجن، لكل واحد منهم أيضاً مهمة يقوم بها ومنزلة يشغلها. وهذه المهمات تختلف في جواهرها كما تختلف في قيمتها، فبعضها أخلاقي كصغار الأعمال الخيرية، وبعضها مادي كالعناصر والنباتات المختلفة. ولقد أخذ هذا العدد الأخير يتضاعف وتزداد سلطته حتى طغى أو كاد على الديانة الزرادشتية ولو في البيئات العامية على الأقل حيث عاد بالجماهير إلى عبادة العناصر كما كانت الحال في الديانة القديمة. وقد بعث (ميتهرا) من جديد وأصبحت النار والشمس والقمر والنجوم ملائكة ثم آلهة، واستردت أهميتها الأولى في تلك الأوساط وعاد إلى الوجود من جديد (أهوما) إله الخمر الذي رأيناه في الديانة الأولى كما حدثت خرافات أخرى لم يكن للفرس عهد بها من قبل كذلك العملاق ذي الأرجل الثلاث والذي له أهمية في إدارة العالم. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن مازدا هو الذي كان لا يزال الإله الرئيس على جميع هؤلاء، ولم يكن الآخرون إلا آلهة ثانويين أو ملائكة أو أرواحاً.

هؤلاء جميعاً هم أعوان (مازدا) أو هم الحزب الأعلى؛ أما الحزب الأدنى أو أنصار إله الشر فهو يتألف طبعاً من (أهرمان) رئيساً، وقد كان الشعب في أول الأمر يتمثله في ثعبان أو في ذكر الضفدع أو في حيوان رديء مزعج أو في حصان جمح وتوحش ثم استطاع أحد الملوك أن يقبض عليه ويخضعه، ولكن لما تقدم الشعب وارتقت عقليته لم يعد يتمثل

ص: 43

إله الشر على هذه الصورة المادية الساذجة، وإنما خطا به نحو التصوير المعنوي فرفعه إلى عالم المدركات العقلية وجعل له وزراء ستة كأهورا يختص كل واحد منهم بعمل من أعمال الشر والسوء، وعلى رأس هؤلاء وضعوا (أندرا) الإله الشعبي القديم، ولكن تحت أسم وزير سابع خاضع لأهرمان. ودون هؤلاء الوزراء وضع رجال الدين أيضاً ملائكة شر وأرواح سوء وشياطين وسوسة وضلال، وذلك مثل ملك الرعد وملك العواصف المدمرة، وكالأرواح الحالة في الحيوانات المؤذية والحشرات الضارة؛ وهناك أيضاً من هذا الحزب شياطين موكل كل واحد منها برذيلة من الرذائل، عليه أن ينميها وينشرها ويعلي شأنها

لم يكتف رجال الدين بهذا التقسيم، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك فعينوا شمال بلاد فارس كمستقر لأرواح الشر وشياطينه، وعلموا الشعب بعض تعاويذ سحرية إذا قرأها المؤمن فرت من أمامه أرواح الشر وتضعضعت قوتها وهوت إلى مكان سحيق. وكان أهم هذه التعاويذ ما أخذ من الكتاب المقدس ثم قريء بطريقة خاصة ولهجة معينة ورنة مُوَقَّعَة.

الإنسان أو الشخصية البشرية

لم يوجد في القسم القديم من (زند أفيستا) ما ينبئنا برأي زرادشت في الشخصية البشرية من: جسم وروح من حيث المبدأ أو المصير، وإنما كل ما لدينا في هذا الشأن قد وجد في الأجزاء الأخيرة التي كتبت بعد عصر زرادشت بزمن غير يسير، أي بعد ما ارتقت المعارف الإنسانية نوعاً ما وبدأ الخاصة يفكرون في ثنائية الإنسان ويحللونه إلى جسم وروح.

يجد الباحث في هذه الآيات المتأخرة أن الإنسان يتألف من جسم وروح وأن الجسم يتكون من أربعة أشياء: اللحم والعظم والقوة الحيوية والصورة أو القالب، وهذا الأخير هو وحده الذي يعود إلي الحياة في حالة البعث دون الثلاثة الأول التي لا تبقى

وأما الروح، فهي عندهم خمسة أنواع، بين كل واحد منها وبين الأربعة الأخرى شيء من الترادف أو التقارب يجعل التحديد الدقيق صعباً أو كما يقول أحد الباحثين الأوربيين (إن مفردات لغاتنا لا تستطيع التعبير الصحيح عن هذه المعاني). وهاك هذه الأقسام الخمسة للروح:

ص: 44

(1)

النفس والإلهام والعقل (2) الدين والضمير الخلقي والوحي (3) الوجدان النفسي والشعور والإحساس (4) الروح بأدق معاني الكلمة (5) الفرافاشي. وهو عبارة عن شبح سماوي هو في نفس الوقت ملك حارس وروح جوهرية، وعلى الجملة هو الإنسان الحقيقي الذي ليس الكائن البشري إلا مظهراً له، وهو وحده الذي يستطيع أن يتصل بأهورامازدا ويحيا في حضرته، ولهذا عند الموت يفني الإنسان كله في هذا (الفرافاشي)

مصير الروح

عندما يموت الميت تظل الروح ثلاثة أيام وثلاث ليال معلقة إلى جانب الجسم، منعمة بنعيمه أو معذبة بعذابه، وفي فجر اليوم الرابع تهب عليها ريح إما معطرة إذا كان الميت خيراً، وإما نتنة إذا كان شريراً فتحملها إلى موضع تلتقي فيه إما بفتاة جميلة، وإما بعجوز مفزعة، وليست الأولى فتاة حقيقية ولا الثانية عجوزاً حقيقية، وإنما هي صورة أعمال الميت، وهي ضميره نفسه الذي سيقوده إلي حيث معبر الحساب والحكم الأخير. وعلى باب هذا المعبر يوجد ثلاثة قضاة بينهم (ميتهرا) وهناك ينصب ميزان توضع في إحدى كفتيه حسنات الميت وفي الأخرى سيئاته. وبناء على صعود إحدى الكفتين يصدر الحكم على مصير هذا الميت.

ويلاحظ أن الثواب والعقاب لم يكونا ينْصبَّان على كل حسنة أو كل سيئة على حدة، بل على مجموعة النوعين، فإذا رجحت الحسنات كفرت السيئات مهما كانت كل واحدة منها في ذاتها جسيمة؛ كما يلاحظ أن الندم والتوبة لم يكونا معتبرين، وأن الغفران في الحساب لا وجود له البتة لأنه مؤسس على العدل لا على الرحمة.

وعلى أثر انتهاء الوزن وصدور الحكم يؤمر المحاسب بالمرور فوق هذا المعبر أو الصراط الممتد فوق الجحيم، الذي يتسع أمام الأخيار ويضيق حتى يكون أدق من الشعرة وأحد من الشفرة أمام الأشرار.

فهؤلاء الأخيرون يهوون في جحيم مظلم ظلاماً كثيفاً إلى حمو يستطاع معه لمسه باليد، فإذا هوَ وافي الجحيم كانوا متزاحمين كأنهم كمية من الشعر في مَعْرَفة حصان، ومع ذلك فكل واحد منهم يشعر في وسط هذا الزحام بوحدة قاسية وعزلة ممضة.

أما الأخيار، فيذهبون إلى النور حيث يستقبلهم (أهورمازدا) بعد أن يمروا في وسط العمل

ص: 45

الصالح والقول الخير والفكر الطيبة، وهناك يستمتعون في كنف (مازدا) بالسعادة الأبدية.

هذا كله بالنسبة لمن ثقلت موازينهم أو خفت؛ أما من استوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم يوضعون في مكان فسيح بين السماء والأرض، يقاسون فيه آلام الحر والبرد، ويحسون بجميع التغيرات الجوية، ويظلون ينتظرون في أمل ورهبة الحكم الأخير على مصيرهم الذي يظل مظلماً ما داموا في هذا المكان. وأشهر أهل هذا الموضع هو:(كيريزاشيا) الذي قتل وحشاً مرعباً فحسب له ذلك حسنة، ثم دنس النار المقدسة فحسبت عليه سيئة مساوية للحسنة الأولى فظل بين النعيم والجحيم

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 46

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

178 -

والأبيات على ظهر يده

في (مطمح الأنفس وشرح الشريشي): خرج القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى إلى حضور جنازة بمقابر قريش، وكان رجل من بني جابر يؤاخيه ينزل بقرب المقبرة، فعزم عليه في الميل إليه، فنزل وأحضر له طعاماً، وأمر جارية له بالغناء، فغنت تقول:

طابت بطيب لثاتك الأقداح

وزها بحمرة وجهك التفاح

وإذا الربيع تنسمت أرواحه

نمت بعَرف نسيمك الأرواح

وإذا الحنادس ألبست ظلماؤها

فضياء وجهك في الدجى مصباح

فكتبها القاضي طرباً بها في ظهر يده، ثم خرج من عنده. قال يونس بن عبد الله: فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة والأبيات مكتوبة على ظهر يده.

179 -

أوسعتهم سبأ وأودوا بالإبل

في (مجمع الأمثال): حديثه أن رجلاً من العرب أغير على إبله فأخذت، فلما توارَوا صعِد أكمة وجعل يشتمهم، فلما رجع إلى قومه سألوه عن ماله فقال: أوسعتهم سباً وأودَوا بالإبل. يضرب لمن لم يكن عنده إلا الكلام.

180 -

اللثغة

قال علي بن هرون المنجم: كنت وأنا صبي لا أقيم الراء في كلامي وأجعلها غيناً، فدخل المفضل بن سلمة على أبي وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء، فلثِغْتُ فيها فقال له الرجل: يا سيدي، لمَ تدع أبنك يتكلم هكذا؟ فقال له: وما أصنع وهو ألثغ؟ فقال له: إن اللُّثْغة لا تصح مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبي أول ما يتكلم بتحقيق الألفاظ أو سماعه شيئاً يحتذيه، فأن تُرك على ما يستصحبه من ذلك مرن عليه، فصار له طبعاً، وإن أخذ بتركه أول نشوئه استقام لسانه، وأنا أزيل هذا عن عليّ ثم قال لي: أَخرجْ لسانك فأخرجته فتأمله فقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني:(راء) واجعل لسانك

ص: 47

في سقف حلقك، ففعلت، فلم يستوِ لي، فما زال ينقل لساني إلي موضع موضع من فمي، ويأمرني أن أقول الراء فيه، فإذا لم يستو نقل لساني إلي موضع آخر حتى قلت راء صحيحة في بعض تلك المواضع، فطالبني بإعادتها، وألزمني ذلك حتى ذهبت اللثغة، فأمر أن أطالب بهذا أبداً، ويُتقدم به إلي معلمي، وأوخذ بالكلام به، ففعل ذلك، ومرنت عليه، وما لِثغت إلي الآن.

181 -

كلهم أعداء

قال ابن الجوزي: مر رجل بإمام يصلي بقوم فقرأ: (ألم، غُلِبت الترك) فلما فرغ قال له محمد بن خلف: يا هذا، إنما هو (غُلبت الروم)

فقال: كلهم أعداء، لا نبالي من ذكر منهم.

182 -

ليس التكحل في العينين كالكحل

في كتاب (الأنساب) للبلاذُري المدائني قال: كان عبد الله ابن الزبير يشمّر إزاره، ويحمل الدِّرَّة، يتشبه بعمر بن الخطاب فقال أبو حرة:

لم نرَ من سيرة الفاروق عندكم

غير الإزار وغير الدِّرَّةِ الخَلقِ

183 -

كأنها رءوس رجال حلقت في المواسم

قال الأغر النهشلي لأبنه لما بعثه لحضور ما وقع بين قومه: يا بُنيّ، كن يداً لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسفيه فإنه ظِلُّ الموت، واتق الرمحَ فإنه رِشاء المنية، ولا تقرب السهام فإنها رسل تعصى وتطيع

قال: فبم أقاتل؟

قال: بما قال الشاعر:

جلاميدُ أملاءُ الأكفّ كأنها

رءوسُ رجالٍ خُلِّقتْ في المواسم

فعليك بها، وألصقها بالأعقاب والسوق

184 -

فالدب في الصحراء ما افقهه

ناظر أبو زيد عبدُ الله بن عمر الدبوسي بعض الفقهاء فكان كلما ألزمه أبو زيد إلزاماً تبسم أو ضحك فأنشد أبو زيد:

ص: 48

مالي إذا ألزمتهُ حجةً

قابلني بالضحك والقهقههْ

إن كان ضحك المرء من فِقههِ

فالدب في الصحراء ما أفقهه!

185 -

يا مسكين أين أنت؟

ذكر الحافظ السلفي في (معجم السفر): أن شخصاً قال في مجلس الإمام ابن القابسي (وهو بالقيروان): ما أقصر المتنبي في معنى قوله:

يُراد من القلب نسيانُكم

وتأبى الطباع على الناقلِ

فقال له: يا مسكين، أين أنت من قوله تعالى:(لا تَبْديلَ لِخلْقِ اللهِ، ذَلِكَ الدِّينُ القيِّمُ؛ ولَكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُون)

186 -

أبو تمام، البحتري، المتنبي

في (المثل السائر): سُئل الرضي عن أبي تمام، وعن البحتري، وعن أبي الطيب فقال: أبو تمام خطيبُ منبر، والبحتري واصف جُؤْذُر، والمتنبي قائد عسكر

187 -

التخصص بمعرفة التلصص

قال الثعالبي: سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: أنشدني الصاحب نتفة له، منها هذا البيت:

لئن هو لم يكفف عقارب صدغه

فقولوا له: يسمح بترياق ريقه

فاستحسنتُه جداً حتى حممت من حسدي عليه، وودت لو أنه لي بألف بيت من شعري!. قال الثعالبي: فأنشدت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذا البيت، وحكيت هذه الحكاية في المذاكرة، فقال لي: أتعرف من أين سرق الصاحب معنى هذا البيت؟ فقلت: لا والله. قال إنما سرقه من قول القائل (ونقل ذكر العين إلى ذكر الصدغ):

لدغت عينك قلبي

إنما عينك عقربْ

لكنما المصة من

ريقك ترياق مجربْ

فقلت: لله مولانا الأمير فقد أوتي حظاً كثيراً من التخصص بمعرفة التلصص. . .

ص: 49

‌من الأدب الرمزي

في الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

احتفلت الطبيعة لعيني العاشقة، فحشَدَتْ أطفالها جميعاً، ووقفت تعاجبني بهم، وأبرزت نهودها من جبالها، وأرسلت شعرها من حُورها، ورقرقت خدها بماء النبع، وموَّهته بدم الشفق، وكللت جبينها بالزهر المضفور، ومَشقت قدَّها في رقص السرو، وخرجت عليَّ بمليء الضحى السابغٍ ضياءً وملء الليل الساجي نجوما، ومشت تتهادى على الحصى الملوّن، وتخطو على الجُدَد البيض والحمر، وأخذت تغازلني بالنسيم الذي استروحتُ فيه بردَ قلبها لحر قلبي. . . فسجدت أمامها بجسدي كله على الشوك والحصى في حِضن صخرة مشرفة على هوة. . . .! وقلت لها: هل أنا إلا منك يا ذات الشباب المتجدد أبداً؟ يا أيتها الأم الوَلود الأكول الضاحكة المعولة. . . يا ذات البطن البَرَاح الذي مما فيه البحرُ والدَّيمومُ بعجائبهما وولائدهما. . . يا ذات الأثداء التي تَدِرُّ وتمتص.!

سأرتد إليك وأجرد نفسي من شعور الانفصال عنك، وأقف في صفوف أطفالك صورةً من صور الجمال أو القبح كما تشائين. . وسأطلق أنفاسي مَوْجةً في هَبَوات الريح، وأصواتي نغمةً في النشيد الكبير الذي يملأ أسماع السموات والأرض. . . وخَطَفاتِ ذهني مع ومَضاتِ البروق. وسأضع جسدي لَبنةً في البناء العام كالجبل والحصى الموضوع تحت السقف المرفوع. . .

إني أخ كبير لأبنائك الذين تلدينهم مع ساعات الصباح والمساء، أتلقفهم بعيني هاتين اللتين فيهما الإعجاب والرحمة للجمال والقبح! عينيَّ اللتين وراءهما قلب خلقه الله أوسع منك وأعجب وأكثر ولادة. . . إنه بلد كل أبنائك ولادةً ثانية بمخاضها ورضاعها وفِصالها! ثم لا يرسلهم وينساهم فانين ضائعين كما تفعلين. . بل يبقيهم كلماتٍ تامةً دائمة مسجلة في اللوح المحفوظ. . .

فاسأليهم. . اسألي الورد والشوك، والحمل والذئب، والورقاء والرقطاء، والغراب والعصفور، والنحلة والجُعَل، وسائرَ ما تلدين من الأعلى والأدنى: ألست أوالي عليهم نظراتي وفكرتي؟ واسألي الشمس والنجوم: ألا أسافر معها سفراً غير زَمنيٍّ فلا أيام فيه ولا

ص: 50

ليالي.!

واسألي النهار: ألا أغتسل بأول قطرة من ضياء فجره إلى آخر قطرة من شفق غروبه، وأسير معه في موكب الحياة العام أدبُّ بقدميَّ على قارعة الطريق الممدود من أول الدنيا إلى آخرها. .؟

واسألي الليل: ألا أجلس فيه متيقظاً أسترقُ السمعَ وألتقط الكلمات الخفية التي ينثرها في غفلة على الأجساد الهاجعة في موتتها الصغرى؟

واسألي البحر: ألا أُسْلم إلى عرائس موجه جسدي يعبثن به، وأملأ بصري بأفقه ولجه وزبده، وسمعي بضجيجه وصخبه، ويدي بقواقعه وأصدافه؛ وأتوسع كثيراً كثيراً حتى أغطيه بروحي وأشربه بكأسي التي وراء حسي؟

واسألي الصحراء: ألا أقف في محرابها الأصفر، وأمسح عضلات جبالها التي أعياها الوقوف، وأُرقِدْ قلبي على مهادها بجانب ذراتها الجامدة وأشواكها الحادة؟

فيا أيتها الأم إني غير عاق في البنوَّة بيني وبينك، والأخوة لأبنائك جميعاً مما علا أو سفل فأسبغي على من شبابك الدائم، واكشفي لي عن محاسنك المكنونة، وعبقريتك المضنون بها على غير أهلها، وزاوِجي بيني وبين بناتك العرائس الأبكار اللائي لم يَطمثهن إنس قبلي ولا جان. . . واسكبي في قلبي من ذاك الإكسير المخلد الذي يجعلك دائماً أصبى من أولادك؛ ولا تأكليني فيما تأكلين من بنيك أيتها الهرة. . . .!

وحينما تغضبين أيتها الأم، فتزأرين بحناجر الريح، وتحطين أبناءك بالقارعات العاتية. . . وتثور أخلاطك فتقذفين الحممَ والشُّواظ واليَحْمومَ من تحت، والصواعق وحرائق البروق وجبال الثلوج من فوق، وتنفضين ما على الأرض بالزلزلة والمَيَدَان، فلا يسلم من يدك بعوضة ولا جمل. . . وتفتحين فكًّيْك لابتلاع الحقول بعشبها وشجرها، والمدن بمدرها ووبرها فتسدين الفجوات التي خلت في أحشائك، وتشبعين جوعك إلى العناصر بأكل أبنائك الذين يضجون وهم في الهول بين يديك بالثغاء والرغاء، والزئير والطنين، والهديل والنعيب، وغيرها من أصوات الحيوان الأبكم. وبالدعاء والبكاء من الحيوان الناطق: أبنك البكر الذي دلَّلْته وعزَّزْته وأعطيته مصباحاً ومفتاحاً زعم بهما أنه إلهك! وجعل قضيتك كلها (معادلة جبرية) في نصف سطر من قلمه العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات وأرقاماً. .

ص: 51

! حينذاك أحاول أيضاً أن أقترب منك في غضبك لأرى عبقرية الإماتة والتخريب فيك كما رأيت إبداع الإيجاد والتكوين، ولأرى الدنيا صوراً من القبح والبشاعة والقسوة والفوضى كما رأيتها صوراً من الجمال والانسجام والنظام. . .

ولكنك تحتجين عنا حين تبدلين الثياب لتخفي عوراتك وسوآتك وشناعاتك، فتقتلين كل ذي عين حتى لا يراك فيقسم ألا يقترب ولا يعشق ولا يفنى في مظاهر خداعك وطلاء حقيقتك، وترسلين نارك التي تحرق دائماً، وماءك الذي يغرق دائماً، وقوارعك التي تحطم دائماً. . . فلا مطمع لأحبابك في رشوتك بالحب والشعر، ولا محسوبية ولا شفاعة أمام قوانينك الصارمة.!

وهأنذا أبحث عن حِرْز حَريز فيما وراء يدك المخربة، أخط فيه قبري وأختبئ فيه وأرصد منه دائماً حركة التجدد ورجوع الشباب والجمال إلى ديباجتك، وحتفالك لغير عيني من عيون الشباب الشعراء المقبلين. . . وهم يسكبون في سمعك ما أسكبه الآن من كلمات الهوى والغزل. . . ويقولون لك:(يا ذات الشباب المتجدد. . . اسبغي علينا من شبابك وأرضعينا يا أمنا من إكسير الخلد. . .) فأناديهم من مكاني البعيد الذي لا سلطان لكِ عليه قائلاً: أيها الطامعون في الخلود مع هذه العجوز المتجددة. . . لا تطمعوا أن تعطيكم ما بخلت به من قبلكم من بينها. . . إنها لم تسمح لأحد بالبقاء الكثير حتى لا يحتويها ويكفر بجمالها، فابحثوا عن مثل هذا المكان الحرير الذي أناديكم منه. . . واقنعوا أن يكون حظ أحدكم منها قبراً معلوماً في القبور، يقف أمامه أبناؤها اللاحقون ويشيرون إليه قائلين: هنا يرقد قلب شاعر عرف أمنا فكان يشتري فيها الحبر بالذهب. . . فاسكبوا على قبره كأساً منه. . . .!

عبد المنعم خلاف

ص: 52

‌أطفال الطبيعة

للأستاذ محمد عبد اللطيف السحرتي

لم تكن إلا زقزقة العصافير تطوف بأثير نفسي، وأنا عائد إلى البلدة في طريقي الحبيب الذي تحتضنه أشجار الكافور الخضراء الفارعة - لم يكن أعذب لنفسي من زقزقة تلكم العاصفير التي مازجت أصواتها أحلامي، وأنعشت ألحانها إلهامي - في هذه الساعة السعيدة طابت أحلامي، ونَبُل حديثي مع نفسي، ولم يكن يهزني إلا مرأى الفلاحين المساكين، وهم يكدحون حول الوادي في صبر وقناعة وأحلام مضطربة. . . ثم تعاودني أصوات العصافير فتحمي مادوم بنفسي من هزات الأسى، وتنقل إلى شعورها الفرح، وتبعث في سعادتها البريئة.

يا إلهي، لكأنك خلقت العصافير للطبيعة أطفالاً كما خلقت للناس أطفالهم! وشتان بين أطفالها وأطفالنا! فأطفالها في طفولة خالدة، وأطفالنا بعد عمر قصير يكبرون، فتنداح براءتهم وتنمحي شفافة نفوسهم!

هؤلاء الأطفال الخالدون يُنَبِّلونَ انفعالاتنا، ويطهرون نفوسنا من هموم الأعمال اليومية، ويخلقون لنا جواً روحياً ساجياً ينعم في بحبوحته الأدباء والشعراء، ويلقون علينا دروساً روحية ثمينة. ولقد ألقت عليَّ عصفورة درساً خلقياً بليغاً، وأنا في حديقة (مونسو) البديعة بباريس، عندما كنت ألقي لها فتات الخبز، فكانت وهي تتناوله تنادي أخواتها لتشاطرها الغذاء، وهذا درس في الإيثار يلقيه علينا هؤلاء الأطفال الكرام

ولكم أحب الأدباء هؤلاء الأطفال الأعزة. ومن بين هؤلاء الأديب الفرنسي كوبيه في قطعته (موت العصافير) التي يُظهرُ فيها إشفاقه عليها ويبدي تخوفه من مفاجأة الموت لها في الشتاء، ويسائل في انفعال وهزة:(هل العصافير تختفي لتموت؟).

والذي نعلم أن العصافير تختفي في مكان أمين وأنها في الجو الطليق تجد أماناً من الموت ولا تخشاه، وإنما هي تخشى الإنسان، وهي إذ تمرح في أمن وإيمان، وتحمل الغذاء في كل مكان، وتستقبل الشمس في الصباح وتودعها في الغروب، إنما تحمل للإنسان رسالة الفرح والبراءة والجمال، والحياة الطويلة، إن لم أقل الخالدة!

ص: 53

‌هكذا قال زرداشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

رأيتني هجرت الحياة واخترت مهنة حارس للقبور على الجبل المقفر حيث يرتفع قصر الموت، فكنت أحرس النعوش وهي أسلاب النصر تغص بها الدهاليز المظلمة، فكنت أرى الساقطين في معترك الحياة المسجين في التوابيت المغطاة بالزجاج يحدجونني بنظراتهم المروعة. وهنالك نشقت عرف الأبدية غباراً يتطاير على روحي فيرهقها ولا أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل

وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة والانفراد، فكان رفيقي سكون الموت تتعالى فيه من حين إلى حين حشرجة المدنفين

وكنت أحمل المفاتيح وقد علاها الصدأ أعالج بها أصلب الأبواب فتصرف مصاريعها بصراخ أبحّ لئيم يذهب مدوياً في الدهاليز كأن الدرفات أجنحة تقبضها أطيار تنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها

وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشده فأبقى وحدي محاطاً بهذا الصمت الرهيب

ومر الزمان متمهلاً، لو صح أن في مثل هذه الرؤى زمان، إلى أن وقع ما أفقت له مذعوراً.

قرع الباب ثلاث مرات بدوي كأنه الرعد القاصف، فهتفت الدهاليز ثلاث مرات بصدى كأنه الزئير، وتقدمت إلى القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة، وهبت العاصفة بشدة فدفعت بالمصراعين ورمت إليّ بنعش أسود وقد تصدع الهواء بالصفير والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آلاف من القهقهات، فرأيت آلافاً من الأطفال والملائكة وطيور البوم والمجانين والفراشات الضخمة يطفرون حولي ساخرين

واستولى الخوف عليّ فإذا أنا مطروح على الأرض أصرخ صراخاً مريعاً فانتبهت لصوتي مذعوراً.

وسكت زارا لحظة وهو حائر فإذا بأحب أتباعه إليه ينهض ويقبض على يده قائلاً: (إن

ص: 54

تعبير رؤياك إنما هو في حياتك نفسها يا زارا. أفلست أنت النعش وقد حشدت الحياة فيه سيئاتها وعبوس ملائكتها؟ أفليس زارا يحتاج اللحود مقهقهاً كالأطفال ساخراً بالساهرين على القبور الخافرين لها، مستهزئاً بكل من تقرقع المفاتيح في أيديهم.

لسوف يذعر هؤلاء الناس منك فيطرحهم ضحكك أرضاً فيغمى عليهم ثم ينتبهون وبذلك يثبت عليهم سلطانك.

لقد أطلعت لنا كواكب جديدة في الآفاق ونشرت من الليل ما كنا نجهله من البهاء. والحق أنك مددت ضحك فوق رؤوسنا فأظلنا بعديد ألوانه. فمنذ الآن ستتعالى قهقهة الأطفال من النعوش وستعصف من الجهود القاتلة الريح التي نتوقعها.

لقد مثّلت نفسُك أعداءك فأزعجتك رؤياك، ولكنك انتبهت منسلخاً عنهم وعدت إلى روعك، وهم أيضاً سينتهون فيرجعون إليك.

هكذا تكلم التابع، فدار سائر الأتباع بزارا يشدون على يديه محاولين إقناعه بالنهوض من فراشه والانسلاخ عن أحزانه ليعود إليهم، غير أن زارا بقي جالساً على فراشه وعيناه جاحظتان كأنه عائد من سفر بعيد لا يعرف ممن حوله أحداً، ولكن أتباعه رفعوه وأوقفوه فانتبه فجأة وتغيرت سحنته فمد يده يداعب شعر لحيته ورفع عقيرته قائلاً:

- كل هذا سيكون عندما يحين زمانه. فأعدوا لنا غذاء طيباً الآن لأكفر عن الرؤيا التي رأيت؛ غير أن العراف سيجلس إلي جنبي ليأكل ويشرب معي وسأريه بحراً يغرق فيه نفسه

هكذا تكلم زارا. . .

ولكنه حدق في وجه تابعه الذي عبر له حلمه، حدق به طويلاً وهو يهز رأسه. . .

الفداء

وسار زارا يوماً على الجسر فأحاط به رهط من أهل العاهات والمتسولين وتقدم إليه أحدب يقول له:

- التفت إلى الشعب يا زارا فهو أيضاً يستفيد من تعاليمك وقد بدأ يؤمن بسنتك. ولكن الشعب بحاجة إلى أمر واحد ليتوطد إيمانه بك: عليك يا زارا أن تتوصل إلى إقناعنا نحن أهل العاهات. وأمامك الآن نخبة منهم وما لك بعد مثل هذه الفرصة تنتهزها لتقوم باختبارك

ص: 55

على مثل هذا العدد من الرؤوس. بوسعك الآن أن تشفي العميان والمقعدين فتخفف الأثقال، وتريح المتعبين. تلك هي الطريقة المثلى لهداية هؤلاء القوم إلى الإيمان بزارا

فأجاب زارا:

- من يرفع عن ظهر الأحدب حدبته فقد نزع منه ذكاءه. هذه هي تعاليم الشعب. وإذا أعيد النور إلى عيني الأعمى فأنه ليرى على الأرض كثيراً من قبيح الأشياء فيلعن من سبب شفاءه. ومن يطلق رجل الأعرج من قيدها فانه يورثه أذية كبرى إذ لا يكاد يسير ركضاً حتى تتحكم فيه رذائله فتدفعه إلى غاياتها. هذه هي التعاليم التي ينشرها الشعب. وهل على زارا إلا أن يأخذ عن الشعب ما أخذه الشعب عنه؟

غير أنني منذ نزلت بين الناس سهل على أن أرى منهم من تنقصه عين، ومن تنقصه أذن، وآخر فقد رجليه؛ وهنالك من فقدوا لسانهم أو أنفهم أو رأسهم.

وهكذا رأيت أقبح الأمور. وهنالك أشياء أشد قبحاً مما ذكرت لا يسعني ذكرها فما يصعب عليّ سكوت عن أكثرها.

رأيت رجالاً فقدوا كل شيء، غير أنهم يملكون شيئاً يسوده الإفراط، فهم رجال كأنهم عين عظيمة أو فم واسع أو بطن كبير أو عضو آخر كبير لا غير. وما هؤلاء الناس إلا أهل العاهات المعكوسة

وعندما عدت من عزلتي لأجتاز هذا الجسر للمرة الأولى وقفت مندهشاً لا أصدق ما أرى فقلت: هذه أذن، أذن وسيعة كأنها قامة رجل؛ وتقدمت إليها فلاح لي وراءها شيء صغير لم يزل يتحرك وهو ناحل ضعيف يستدعي الإشفاق، فان الأذن الكبرى كانت قائمة على ساق دقيق. وما كانت هذه الساق إلا إنساناً. ولو أنك تفرست في هذا الشيء بنظارة لرأيت فوقه وجهاً يتقطب بالحسد وينم عن روح صغيرة تريد الانتفاخ وترتجف على قاعدتها.

وقال لي الشعب: إن هذه الأذن ليست رجلاً فحسب، بل هيأيضاً رجل عظيم بل عبقري من عباقرة الزمان. غير أنني ما صدقت الشعب يوماً إذا هو تكلم عن عظماء الرجال، فاحتفظت بعقيدتي وهي أن هذا الرجل ذو عاهة معكوسة إذ ليس له إلا القليل من كل شيء والكثير من شيء واحد.

وبعد أن وجه زارا هذا الخطاب إلى الأحدب ومن تكلم بالوكالة عنهم أتجه نحو أتباعه وقد

ص: 56

تحكم الكدر فيه فقال:

والحق أنني أسير بين الناس كأنني أمشى بين أنقاض وأعضاء منثورة عن أجسادها. وذلك أفظع ما تقع عليه عيناي فأنني أرى أشلاء مقطعة كأنها بقايا مجزرة هائلة. وإذا ما لجأت عيني إلى الماضي هاربة من الحاضر فأنها لتصدم بالمشهد نفسه. فهنالك أيضاً أنقاض وأعضاء أشلاء وحادثات مروعة. ولكنني لا أرى رجالا. . .

إن أشد ما يقع عليّ أيها الصحاب إنما هو الحاضر والماضي وما كنت لأطيق الحياة لو لم أكن مستكشفاً ما لابد من وقوعه في آتى الزمان، وما زارا إلا باصرة تخترق الغيب فهو رجل العزم وهو المبدع، هو المستقبل والمعبر المؤدي إلى المستقبل، هو وا أسفاه ذو عاهة ينتصب على هذا المعبر.

وأنتم أيضاً تتساءلون مراراً: من هو زارا؟ وبماذا نسميه؟ فلا تتلقون غير السؤال جواباً كما أتلقاه أنا.

أهو من يَعِدُ أم من ينفذ الوعد؟ أهو فاتح أم وريث أهو الطبيب أم هو الناقه؟

أشاعر هو أم حقيقة؟ أمحرر أم متسلط؟ أصالح أم شرير؟

ما أنا إلا سائر بين الناس قطعاً من المستقبل الذي يتراءى لبصيرتي، وجميع أفكاري تتجه إلى جمع وتوحيد كل متفرق على أسرار ومبدد على الصدف العمياء.

وما كنت لأحتمل أن أكون إنساناً لو أن الإنسان لم يكن شاعراً محللاً للأسرار ومفتدياً لإخوانه من ظلم ما تسمعونه صدفة ودهراً. وما الفداء إلا في إنقاذ من ذهبوا، وتحويل كل ما كان إلى ما أريد أن يكون.

ما المخلص والمبشر بالغبطة إلا الإرادة نفسها وهذا ما أعلمكم إياه يا أصحابي، ولكن اعلموا أيضاً أن هذه الإرادة لم تزل سجينة مقيدة.

إن الإرادة تنقذ، ولكن ما هي القوة التي تفيد المنقذ نفسه؟

إن داء الإرادة الوحيد إنما هو كلمة (قد كان) تقف الإرادة أمامها تحرق الأرّم عاجزة عن النيل كل ما كان، فالإرادة تنظر بعين الشر إلى كل ما فات وليس لها أن تدفع بقوتها إلى الوراء، فهي أضعف من أن تحطم الزمان وما يريده الزمان، وهذا داء الإرادة الدفين

إن الإرادة تنقذ، ولكن ما هو تصور الإرادة في عملها للتخلص من دائها وهدم جدران

ص: 57

سجنها؟

وا أسفاه! إن كل سجين يصبح مجنوناً، وما تنقذ الإرادة السجينة نفسها إلا بالجنون.

إن الزمان لا يعود أدراجه. ذلك ما يثير غضب الإرادة وكيدها فهنالك صخر لا طاقة للإرادة برفعه، وهذا الصخر إنما هو الأمر الواقع.

هكذا تكلم زارا. . . . . .

فليكس فارس

ص: 58

‌رسالة الشعر

في استانلي

للأستاذ محمود غنيم

كلُّ شيء في الصيف يشكو الخمودا

وأرى البحرَ وحدَهُ في نشاطِ

قذف البحرُ درَّهُ المنضودّا

أرأيت الجُمانَ فوق الشاطِي؟

يا خليليَّ أين أين الرداءُ؟

أنا مالي بكلِّ ذاكَ يَدَانِ

ذاكَ ماءُ أمْ هذه كهرباءُ

أمْ لهذا الخليجِ تيَّارانِ؟

أنا أخشى عوارىَ الأجسادِ

لست أخشى العُباَبَ والإعصارَا

يصرَعُ الموجَ ساعدي وفؤادِي

خائرٌ واهنٌ أمامَ العذارَى

رفعوا في الزوابع الأعلاماَ

يُنْذِرون الأنامَ بالأخطارِ

نكَّسوها ثم ارفعوها إذا ماَ

لاح سربٌ من الأوانسِ عارِ

أَعَوارٍ تلك الدُّمَى أم كواسى

بلباس يفصَّل الأجسامَا؟

لا وقاه اللهُ البلى من لباسِ

إنه كان واشياَ نمامَا

صاح ماذا رأيتُ حولَ الماءِ

أهوَ سِرْبٌ من الحمائِمِ ظَامِ؟

طيَّبَ اللهُ خاطرَ الصحراءِ

أصبح البحرُ مرتع الآزامِ

ها هنا لؤلؤٌ بغير محارِ

سابحٌ باحثٌ عن الغوَّاصِ

وظباءٌ لم تَدْرِ معنى النفِّارِ

تَضَعُ السهمَ في يد القنَّاصِ

أُنظر الشمسَ والهوى والهواَء

كيف راحت تنسابُ في الأجسام

إن للشمس والهواءِ شفاَء

لا يساوي ما للهوى من سقامِ

رُبَّ ثغرٍ يداعبُ الأمواجاَ

ينثُر الماَء كاللُّجين المُذابِ

تشتهيه النفوسُ ملحاً أُجاَجاَ

خارجاً من بين الثنايا العِذابِ

رُبَّ قين غاصتا في الماءِ

كلُجينٍ ينسابُ وسْط لجينِ

بدتا آيتينِ في الإغراءِ

وهما فيه نصفُ عاريتين

إن فوق الرمال غيداً نياماً

كالأفاعي: لينٌ بغير عظامِ

ليس سُمًّا لهابُها بل مُداماَ

هو بُرْءُ السقيمِ، ريُّ الظَّامِ

ص: 59

قال جاري: ألا تكونُ رزِيناَ؟

قلت: لا تلحني: فقدتك جارَا

وتلفتُّ يَسْرَةً ويمينا

قال: ماذا أضعت؟ قلت: الوقارَا

أيها المشتكي من الإقلالِ

مَتعِّ النفس بالجمال مَتَاعَا

لم يُبيحوا لنا شُيُوعَ المالِ

وأباحوا لنا الجمال مُشاَعاَ

صاح قل لي: ما بال تلك الصدورِ

كَشفْهُا لا يحِلُّ للأحداقِ؟

ليتهم حرَّموا ذواتِ الشُّعورِ

فهْي عندي مثل القذى في المآقيِ

لا تَضيقوا بالمعصم المكشوفِ

وتقولوا: خيرُ الجمال المصونُ

ما غَنَاءُ الشَّذَى بغير أنوفِ؟

قيمةُ الحسنِ أن تراه العيونُ

لا تقولوا: قد غاض ماءُ الحياءِ

واقرءوا الآيَ في وجوه الحسانِ

رُبَّ عضوٍ من هذه الأعضاءِ

نَمَّ عن سرِّ قدرة الرحمن

أيها الآسفُ الحزينُ الباكِي

إِبكِ ما شئتَ ضيعةَ الأخلاقِ

قِفْ إِن أسْطَعْتَ دورةَ الأفلاكِ

أو فَكلْ أمرَ الخلق للخلاَّق

ها هنا أعشَقُ الملاحَةَ صِرْفَا

ما عليها من الثياب غِشاءُ

ها هنا ليس يعرف الكحلُ طرفَا

لا ولا يَغْمُرُ الخدودَ طِلاءُ

ها هنا روعةُ الطبيعة تبدُو

فتراها عذراء بين العذارَى

أُنظر البحرَ وهْو جزر ومدُّ

وأنظر الشمس فيه إذ تتواري

أيها البحرُ قد نزلتُك ضيفَا

فكأني أغرقتُ فيك همومي

ليت عمْري جميعَهُ كان صيفَا

ينقضي فوق شطِّ بحر الرُّوِم

(الإسكندرية)

محمد غنيم

ص: 60

‌وحي جديد.!

إلى ذات الوجه الأسمر

هذه السُّمُرَةُ العجيبةُ، ماذا

راح يُغْرِي بوصفها تبياني؟.

أين شعري منها، وأين خيالي

هي فوق الخيال والأوزانِ

رُبَّ معنى توحي به لم يحوِّمْ

حوله شاعرٌ مدى الأزمانِ

أنا منها في مهبط لوحي، لكن

عَقَدَ الحبُّ في ذَراها لسانِي

غير أني مُسْتَلْهِمٌ سِحْرَ عينيك

م المعاني، ويالها من مَعانِ

لا تَغُضِّي عن جفونَكِ حتى

أتلقَّى عنهنَّ آي افتنانِي

أسعديني بنظرةٍ منكِ تَشْفِي

غُلَّةَ الصدرِ مِنْ شَجِىٍّعانِ

وهَي لي سويعةً من وصالٍ

بعد عمرٍ قضيتُ في حرمان

وأتيحي لناظريَّ متاعاً. . .

عبقرياً من حسنك الفتّانِ

أضجعي رأسكِ الصغيرَ على صد

ري وأصْغي لهذه الألحانِ

ودَعيني أسكِبْ بأذنيك أنغا

م جريح شدا على الأغصان

لا تشيحي عني بوجهٍ أفدّيه

بدنيا من باسمات الأَماني.!

(القاهرة)

أحمد فتحي

ص: 61

‌من صور الطريق

الأعمى. . .

هّدَّهُ السَّيْرُ، وأضْوَاهُ المَطَافُ

فَتَولَّتْ هَدْيَهُ الخْمسُ الِّلطَافُ

وَاهِنُ الخطْوَةِ لَمْ تَنْهَضْ بَهِ

مِنْ عَيَاءِ الْجِسْم أَطْرَافٌ ضِعَافُ

رَاعَني مِنهُ جَبينٌ شَاحبٌ

كجبين الزَّهْرِ أَذْوَاهُ القِطَافُ

وَيدٌ مِنْ حَوْلِهِ حَائِرَةٌ

دَأبُها في السَّيْر حَفْقٌ وَارْتِجافُ

رَهْنُ كَيفَّيْهِ السَّنَا لَكنَّما

دُونَ عَينيهِ حِجابٌ وسِجاَفُ

مَنْ رَأَى الظَمْآنَ يَرْجُو رَشْفَةً

وعَلَىَ مَرْمَى ذِرَاعَيْنِ الضِّفَافُ؟

. . . يَا مُطِيفاً لا تَنَي عَزْمَتُهُ. . .

أيْنَ يَرْسُو بِكَ في الأَرْضِ الطَوَافُ

رَنَّحَتْ عِطْفَيْكَ أوْصَابُ الضَّنَى

مِثْلَمَا رَنَّحَتْ الْعِطْفَ السُّلَافُ

وَشَغَافُ القَلْبِ أذْواهُ الأسَى

فَذَوَى مِنْ طُولِ ما يَلْقَى الشَّغَافُ

حَوْلَكَ النَّاسُ جُمُوعٌ حُشِدَتْ

وَلَهُمْ عَنْكَ بِعَادٌ وَانصِرَافُ

لَمْ يُصَافْوا مَنْ خَلَتْ رَاحَتُهُ

وَاحْتَفوا باِلرَّاحَةِ المَلأَى وصَافُوا

فامْضِ في شَأنِكَ لا تَحفْلْ بِهمْ

أَتَجَافَوا عَنْكَ أمْ لَمْ يَتَجَافُوا

لا تُرَجِّ النَّصْفَ، أوْ تَشْكُ الأَسى

لَيْسَ بَيْنَ النَّاسِ عَدْلٌ وانْتِصَافُ

أَرَأَيْتَ النَّضْوَ يَشْكُو دَاَءهُ

لِطَبِيبٍ طِبُّهُ سُمُّ زُعَافُ

لَوْ أَتَاهُ النَّاسُ طُرًّا خُضَّعاً

وَافَت الدُّنْيَا بنُعْمَاهَا وَوافُوا

أَوْ سَعَى المَجْدُ إِلَيْهِ، وَلَهُ

بِجَنَابَيْهِ اعْتِصَامٌ وَالتْفِاَفُ

لَمْ يَجِدْ فيهِ غنيً عَنْ عَيْنِهِ

فَرغابُ الْمَجْدِ والدُّنْيَا زِيَافُ

قَسَماً لَوْ زُفَّتْ الدُّنْيَا لَهُ

فِي مَجَالِيها لَمَا أَجْدَى الزَّفَافُ

لَيْسَ يُغْنِي الزَّهْرَ في مَنْبَتِهِ

رَائِعُ الطَّلْعَةِ وَالْجَوُّ جَفَافُ

(الإسكندرية)

أحمد فتحي مرسي

ص: 62

‌القصص

على سور (جينان)

للكاتب الصيني الشهير (يانغ جينغ شينغ)

ترجمة محمد مكين الصيني

لما رجع (هونغ سين) إلى المنزل قال لأخيه: (هل سمعت أن اليابانيين يريدون أن يحتلوا مدينة (جينان)؟)

فأخذ أخوه يشك في وفاء جنود الصين وقال: (ألم يقاومهم جنودنا؟)

قال وهو يريد أن ينوه بكرامة جنود الصين إخلاصهم: (بلى!)

فجعل أخوه يرتاب في كفايتهم قائلاً: (هل في المدينة قوة كافية؟)

قال: (لا بد أن تسقط المدينة في أيدي اليابانيين عاجلاً أو آجلا! ولكن الواجب علينا أن ندافع عنها باذلين أقصى جهدنا، فإن خضعت لهم في آخر الأمر قوتنا فلن تخضع لهم روحنا.) ثم رفع رأسه وأصلح بيده شعره.

فطفق أخوه يرتاب في توازن القوتين المتحاربتين قائلا: (بلغني أنه قد وصل إلى (جينان) خمسة آلاف من جنود اليابان.)

قال، وهو يتمشى في الغرفة:(اسمع! قد شرع اليابانيون يطلقون المدافع! لا يتوقف الانتصار على كثرة الجنود، فإذا اشتدت حمية قومنا وتطوع نصفهم للدفاع فلا تخش سوء العاقبة ولو. . .)

ثم توقف عن الكلام لأن قلم الرصاص الذي في يد أخيه انكسر ونشأ عن ذلك فرقعة صغيرة، ووقف ينظر إلى أخيه بعين الريبة وسكت هنيهة ثم قال:(هل كتبت في هذه الأيام إلى السيدة الوالدة؟)

قال أخوه: (لا. قد انقطعت المواصلات بين (جينان) و (تسينغ تاو) منذ أيام كما علمت فلا يمكن أن يصل إليها الخطاب لو بعثت به.)

- (إذا لم يصلها خطاب منا فلا محالة يشتد اضطرابها. ولا أمل في الدراسة هذا العام مع هذه الحالة، فان استطعت أن تعود إلى البلد مبكراً فعلت. إن السيدة الوالدة بعد وفاة السيد

ص: 63

الوالد في حاجة إلى من يعولها، ويكفي أن يتطوع أحدنا للدفاع)

ولما سكت تأمل فيه أخوه شاكا في أمره.

وقد أكثر من الكلام، وبعد أن دار في الغرفة دورتين جلس إلى مكتبه فأخذ كتاباً ينظر فيه كأنه يطالعه.

قد تتابعت في ضواحي المدينة أصوات المدافع وارتفعت الصيحات داخل المدينة.

تذكر فجأة أمراً ما فوضع الكتاب على المكتب ورمق أخاه حزيناً كئيباً يقول: (شانغ سين!)

(مالك يا هونغ سين؟)

قال لأخيه بكل لطف: (اذهب إلى الآنسة (لوس) لعلها هي وأمها في حال سيئة من الذعر)

فأومأ أخوه برأسه أن سمعاً وطاعة.

وبعد خمس دقائق جلجلت أصوات المدافع تتخللها فترات قصار، فقام أخوه يقصد الباب فصافحه قائلاً:(يا أخي!)

وقد خالف في ندائه هذا عادته فإنه كان دائماً يدعو أخاه باسمه فتلاقى بصره ببصر أخيه ثم قال: (إلى اللقاء!)

فنظر إليه أخوه نظرة المحزون المهموم وقال: (ألا تخرج الليلة فتكتب خطاباً إلى السيدة الوالدة؟)

فأشار برأسه أنه سيفعل، وخرج أخوه، وكان ذلك بعد الظهر.

وبعد المغرب أخذت أصوات المدافع تتكاثر وتتعالى في ضواحي المدينة، وارتفعت الصيحات بالويلات؛ ولما كاد الليل ينتصف خفتت أصوات المدافع شيئاً فشيئاً وأخذت تقل، وكان (هونغ سين) يتمشى في غرفته ويظن أن أخاه في منزل الآنسة (لوس) فدعا له بالأمن والسلامة، ثم فتح خزانة الثياب وأخرج منها ثوباً من ثياب الألعاب الرياضية فلبسه، وشد رباط حذائه ثم أقفل باب المنزل وخرج.

وكان القمر وهو في أيام التربيع الثاني ممتقعاً لونه معلقاً في جو الشرق تحيط به غيوم فاحمة كأنها تحاول أن تبتلعه.

وكانت الرصاصات وقنابل المدافع تتطاير هنا وهناك، وأصوات البكاء والعويل تملأ أذنيه.

جعل يمشي في أقرب طريق إلى البوابة الغربية لسور المدينة: ولم يخطُ إلا خطوات قلائل

ص: 64

حتى طارت قنبلة من فوق رأسه فوقعت على جدار بعض البيوت فَمُلئت أذناه جلبة وضوضاء من تهدم الجدران يعقبه أصوات الفزع والصراخ والبكاء؛ ثم عاد الجو بعد هنيهة إلى ما كان عليه من سكون وهدوء.

ولما اجتاز عدة شوارع رأى بيتاً تشتعل فيه النيران اشتعالاً هائلاً، ورأى جماعة من الرجال والنساء، منهم من يحمل على ظهره أمه الفانية، ومنهم من يقود أباه الهرم، ومنهم من تحمل على ذراعها رضيعها، وهم يهيمون على وجوهم في الشوارع باكين صارخين لا يدرون إلى أين يلتجئون. وبيناهم كذلك إذا بقنبلة تسقط بينهم فانفجرت فمليء الجو صراخاً وأنيناً: أنين الذين يشرفون على الموت الزؤام، فأغمض عينه ومضى في سبيله قدماً بخطوات واسعة. ثم ارتبكت رجلاه فجأة ارتباكاً كاد يعثر منه، فنظر إلى الأرض فإذا بجثة سيدة ملقاة على الثرى تبين في نور القمر أن قنبلة قد ذهبت بإحدى رجليها وتركتها غارقة في دمائها البريئة، وطفل لم يمض على ولادته حول كامل مكب على صدرها يرضعها

ولما بلغ جانب السور رأى نور القمر يسطع من بين الغيوم السوداء، وشاهد كثيراً من جثث الجند مبعثرة على مسند السور هنا وهنالك يئن فيها من لم تزهق نفسه بعد، فالتقط من الأرض بندقية وسلب إحدى الجثث كنانة الرصاص ثم أخذ يصعد على السور، وما كد ينتهي إلى شرفاته حتى تدحرجت جثة من فوق السور عثر فيها ثم نهض من عثرته على الفور، ولما انتهى إلى الشرفات التفت يمنة ويسرة فوجد مسافة نيف وخمسين متراُ خالية من حراسة الجند، ثم أخرج رأسه من بين شرفتين ليعرف حالة العدو، فطار نحوه الرصاص ومر بجانب أذنه، فأنسحب سريعاً وانتقل إلى ما بين الشرفتين الخامسة والسادسة من يساره، وأخرج رأسه مرة أخرى فرأى بأشعة القمر بضعة عشر جندياً يحاولون تسلق السور من هذا المكان الخالي من الحراسة، بعضهم على أكتاف بعض، فصوب بندقيته إلى أحدهم في الطبقة السفلى وأطلق عليه رصاصة فأصابته بالمصادفة فانهارت الطبقة السفلى وتدحرج الذين فوقها إلى الخندق كلهم أجمعون.

ولكن بعد هنيهة اجتمعوا عند السور مرة أخرى فأطلق عليهم رصاصتين فأصاب أحدهما وأخطأ الآخر، وبينا هو في اضطراب وغضب إذا برجل يناديه من وراء ظهره:(من أنت يا رجل؟!)

ص: 65

أجابه (هونغ سين) بدون تروّ ولا تردد: (من عساكر الخفية.)

ولما التفت إلى خلفه وجد بضعة عشر جندياً قد أتوا إلى النقطة التي يدافع عنها وحده فدلهم على اليابانيين تحت السور، فأطلقوا عليهم وابلا من الرصاص فأصابوا شرذمة منهم وتوارى الباقون في حقول القمح بجانب السور، ولم لم يحسوا بحركتهم ظنوا أنهم قد فروا من وجوههم، فأخرجوا مطمئنين رءوسهم من خلال الشرفات، وإنهم لكذلك إذا بنار تلألأت أمامهم عن بعد، وإذا بقنبلة طارت نحوهم فذهبت بإحدى الشرفات وتطايرت شظايا القنبلة في كل صوب، ومات عقب انفجارها أكثر المدافعين عن السور؛ فأنسحب الباقون إلى نقطة أخرى بعيدة عن مسقط القنبلة ثم جاءت قنبلة أخرى لم تصب شيئاً.

وبعد بضع دقائق اقترب بضعة عشر جندياً يابانياً من السور فأطلق عليهم وابل من الرصاص فاختفوا في حقول القمح

واستمروا على الكر والفر، وبعد مدة مات المدافعون عن السور من قنابل المدافع ولم يبق منهم إلا جندي واحد مع (هونغ سين) الذي أصيب في ذراعه اليسرى فعصبها بمنديله.

انفجر الليل واجتمع الأعداء في شرقي السور الشمالي وخف الضغط على نقطتهما فأخرج (هونغ سين) من جيبه علبة لفائف التبغ وقدمها إلى زميله الجندي قائلاً: (دخن لفافة)

ثم جلسا خلف شرفات السور ورأيا مئات من آثار قنابل المدافع على السور وقد أشتمل ضباب الصباح على وحشة واكتئاب

قال (هونغ سين): (لولا عرقلة اليابانيين لوصلت جيوشنا إلى مدينة (ديجو):)

وقال الجندي: (يسوءني جداً أنهم أهلكوا الليلة خلقاً كثيراً من إخواننا.) ثم أمتص الدخان بقوة.

وعبر (هونغ سين) عن آماله قائلاً: (لعل عدد الباقين منا يكفي للدفاع عن المدينة يوماً آخر.)

فهز الجندي رأسه ثم أخرج من جيبه رغيفاً من الخبز وقال لزميله: (أتحب أن تتناول شيئاً من هذا؟) فهز (هونغ سين) رأسه وأخرج لفافة من لفائف التبغ ليسد بها جوعه

دار الجندي بعينيه حول وجه (هونغ سين) وأطرافه وهو يأكل من خبزه ثم قال: (يا أخي! إنك لا تشبه الجندي في الصورة.)

ص: 66

فسأله (هونغ سين) مبتسماً: (لا يهمني هل أشبه الجندي في الصورة أو لا أشبهه. قل لي هل أشبه الجندي في الدفاع؟)

قال الجندي معجباً به: (نعم ما رأيت قط جندياً باسلاً داهية مثلك!)

ثم شبع الجندي فكثر حديثه فقال. (ألا إن المتطوعين في هذه المرة كثيرون، وكنا بعد ظهر أمس ندافع في جهة الجنوب فجاء طالب من طلبة المدارس ليساعدنا على الدفاع، وما كان أشجعه في القتال! ولكنه واأسفاه لم يكن يدري كيف يختفي وراء شرفات السور فأصيب بعد قليل بجرح.)

قال (هونغ سين): (أكان ذلك بعد ظهر أمس!)

(نعم.)

(كيف شكله؟)

(أقصر منك بقليل ويشبهك في السحنة غاية الشبه.)

قال ذلك وهو يديم النظر إلى عيني (هونغ سين)

فسقط على الأرض ما بقي في يد (هونغ سين) من لفافة التبغ

فسأل الجندي فزعاً: (هل يلبس الزي الأزرق الخاص بالطلبة؟)

(نعم.)

(أجرحه في خطر؟) قال هذا وهو فاغر فاه ينتظر جواب صاحبه الذي قال:

(جرح في ترقوته اليسرى، فإذا أتيح له من يسعفه أمكن أن يشفى؛ ولكن أنى يكون لنا فراغ لنعتني بجرحه؟ فتساقط المسكين على الأرض وجعل ينادي: (يا أماه!) فسأله على سبيل المزاح

(يا رجل! أفتريد أن ترضع أمك؟)

فنهض (هونغ سين) من فوره.

فقال له الجندي: (أتريد أن تعود إلى المنزل؟)

(لا. بل إلى جهة الجنوب.)

(لإسعاف الجرحى؟)

(لإسعاف شقيقي؟) ثم مشى نحو الجنوب.

ص: 67

فقال الجندي: (وا أسفاه!)

في هذه اللحظة نفسها اشتد هجوم الأعداء في شرق السور الشمالي وتوالت أصوات المدافع وتعالت معمعة المدافعين على السور وأصوات البكاء والعويل والصراخ داخل المدينة كأن الأعداء قد اقتربوا من جانب السور هناك.

فأدبر (هونغ سين) ودنا إلى شرقي السور الشمالي ساكتاً صامتاً يسمع الجندي يقول: (يا للخطر! إن عدد المدافعين هناك غير كاف، وإني لذاهب إلى مساعدتهم.)

رأى الجندي ينهض من مكانه فيضع على كتفه بندقيته ويمشي نحو الشرق الشمالي.

فناداه (هونغ سين): (أنتظر!)

فأقبل الجندي ووجده واقفاً واجماً رانياً إلى شرقي السور الشمالي ولا يذهب إلى الجنوب.

فسأله الجندي: (مالك يا أخي؟)

فلم يجبه ببنت شفة وهو لا يزال واقفاً في مكانه شاخصاً ببصره.

قال الجندي: (أنا ذاهب)

(نذهب معاً)

فهز (هونغ سين) رأسه هزة ومسح بكمه مدامعه وأخذ يعدو مع الجندي نحو شرقي السور الشمالي الذي اشتدت عليه قنابل المدافع اليابانية.

محمد مكين الصيني

أحد أعضاء البعثة الصينية في الأزهر

ص: 68

‌البريد الأدبي

حول العيد الألفي للأزهر

أذاعت الصحف أن مشيخة الجامع الأزهر تنوي أن تضع برنامجاً جديداً للاحتفاء بالعيد الألفي للأزهر، وأنها ستبدأ قريباً باتخاذ الخطوات العملية لإحياء هذه الذكرى الخالدة، وهذه أول مرة نسمع فيها مذ تقلد الشيخ الأكبر منصبه باهتمام المشيخة بعيد الأزهر؛ وقد كانت للمشيخة عناية خاصة بهذا العيد منذ أعوام، وكان لها برنامج حافل وضعنه للاحتفاء بالذكرى الألفية. وقد اتخذت بالفعل عدة خطوات عملية في هذا السبيل فانتدبت مختلف اللجان لوضع تاريخ الأزهر ولتنظيم الاحتفال، ودعوة مندوبي العالم الإسلامي، وغير ذلك مما يقتضيه إحياء هذه الذكرى الجليلة؛ ولكن هذه الاستعدادات وقفت فجأة منذ نحو عام ونصف، وقيل يومئذ إن الوقت ما يزال متسعاً فلا داعي للعجلة في هذا الاستعداد؛ وكان هذا القول غريباً في ذاته لأنه لم يبق بيننا وبين انقضاء الألف عام على قيام الأزهر سوى ثلاثة أعوام إذا اعتبرنا تاريخ البدء في إنشائه وهو جمادي الآخرة سنة 359هـ؛ وقد اعتادت الحكومات والهيئات العلمية أن تحسب حساب هذه الأعياد قبل وقوعها بأعوام طويلة، وأن تتخذ أهباتها في تؤدة وروية، وأن تعد كل شيء بنظام حسن؛ ونحن لا نلوم مشيخة الأزهر لأنها عدلت عن برنامج الاحتفال السابق ووضعت برنامجاً جديداً، لأن البرنامج القديم كانت تحدوه في الواقع بواعث واعتبارات خاصة، وكان واضعوه يتصرفون بروح ضيق، وكانت الفكرة كلها ينقصها الروح القومي والروح العلمي الصحيح؛ ولكنا نأخذ مشيخة الأزهر أنها تأخرت حتى اليوم في الاهتمام بموضوع لا يدانيه شأن آخر من شؤون الأزهر في أهميته وجلاله.

وثمة مسألة أخرى نريد أن نلفت إليها النظر، وهي أن الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر يجب أن يكون احتفالاً قومياً بالمعنى الحقيقي، ويجب أن تشرف الحكومة المصرية على وضع برنامجه وعلى تنظيمه؛ ومن حق الأزهر أن يقوم في تنظيم هذا الاحتفال بأكبر قسط ولكنا لا نرى أن يستأثر بوضع البرامج ودعوة اللجان وغيرها؛ وإذاً فيجب أن تتولى تنظيم الاحتفال لجنة حكومية عليا يمثل فيها الأزهر والهيئات العلمية المختارة، وبعض الشخصيات البارزة، ويجب أن يشتمل برنامج الاحتفال على كل ما اصطلح العرف عليه

ص: 69

في مثل هذه المناسبات. وفي وسع اللجنة الخاصة أن تستأنس بما تقوم به الهيئات العلمية الأجنبية في أعيادها الكبرى من المظاهرات العلمية والاجتماعية لإحياء هذه الذكريات.

(م)

كتاب جديد عن مصر

ظهر أخيراً كتاب جديد عن مصر باللغة الألمانية عنوانه (طريق مصر إلى الحرية) بقلم الكاتب الصحفي باول شمتس. والهر شمتس هو مكاتب جريدة (لايبزجر نويسته ناخرختن) في القاهرة، وقد عرف بعنايته بشئون مصر والشرق الأدنى، وتبدو هذه العناية في فصول ومباحث كثيرة ينشرها في الصحف الألمانية عن هذه الشئون. وكتابه عن مصر صغير لا يتجاوز المائة والعشرين صفحة، ولكنه يقدم للقارئ العادي كثيراً من الحقائق والمعلومات النافعة، وهو يصور لنا مصر منذ العهد المسيحي حتى قيام الحرب الكبرى تعيش على هامش التاريخ؛ وفي العصر الأخير تدب في مصر روح الوطنية الملتهبة، وتنهض مصر الفتاة لاسترداد حرياتها واستقلالها أولاً من يد الترك ثم من يد الإنكليز. ومصر اليوم من المراكز الحيوية في سير الشئون الدولية، وفي تطورها، ومصر همزة الوصل بين الشرق والغرب. على أن الهر شمتس لا يقدم إلينا جديداً في تصويره للشئون المصرية، وكل ما هنالك هو أن هذا الكتيب الذي صدر بالألمانية في وقت اتجهت فيه الأبصار إلى مصر يعاون على فهم الشئون المصرية في ألمانيا وأوربا الوسطى.

تاريخ المقاهي

قرأنا في إحدى المجلات الأوربية الكبرى بحثاً طريفاً في تاريخ المقاهي؛ خلاصته أن المقهى منشأة شرقية عرفت أولاً في الشرق. وفي أواسط القرن السادس عشر سافر إلى المشرق طبيب ألماني يدعي ليونارد راوفولف وزار الشام، ورأى في مدينة حلب أول مقهى وشرب فيه أول قدح من القهوة شربه في حياته، وعاد إلى ألمانيا يصف المقهى والشراب الأسود الذي يشبه الحبر؛ وكان المقهى في تلك العصور لا يخرج عن مكان مفتوح يؤمه الناس ويشربون فيه القهوة جلوساً على الأرض؛ وكانت القهوة قد عرفت في البلاد العربية قبل ذلك بنحو مائة عام، ولم يكن المقهى ذائعاً إلا في العواصم الكبرى؛

ص: 70

وعرف الترك المقهى من العرب، وظهر في قسطنطينية أول مقهى في سنة 1554؛ أما في مصر فقد عرفت المقاهي قبل ذلك بنحو نصف قرن.

ومضى قرن آخر قبل أن ذاعت المقاهي في أوربا؛ وفي سنة 1645 ظهرت في البندقية أول دار من هذا النوع؛ ثم ظهرت في لندن وأكسفورد بعد ذلك بقليل؛ وكانت القهوة فيها على الطريقة الشرقية. ولم تلبث المقاهي أن ذاعت في إنكلترا بسرعة. ولبثت المقاهي ممنوعة في روما حتى أوائل القرن الثامن عشر. وظهرت المقاهي في فرنسا في أوائل القرن السابع عشر، وافتتحت في باريس سنة 1689 دار أنيقة سميت قهوة بروكوب؛ وكان الفيلسوف فولتير من روادها. فذاع من بعده ارتياد الأدباء للمقهى؛ ولم يظهر المقهى في برلين إلا في أوائل القرن الثامن عشر.

وكان المقهى في تلك العصور مركزاً للمقابلات والسمر، ولم يعرف الموسيقى إلا في أواسط القرن الثامن عشر؛ إذ افتتح في برلين أول مقهى موسيقي؛ وان هذا النوع من المقهى قد عرف قبل ذلك في باريس؛ وكانت الفرقة الموسيقية التي تختار للعزف فيه تؤلف عادة من بعض الموسيقين العميان؛ وكانت المقاهي تسمى في فينا بالمنتديات الفضية لأن الموائد والكراسي والمشاجب كانت من معدن يطلى بالفضة. وفي سنة 1790 ظهر في لندن مقهى من نوع خاص لا يدخله سوى السيدات؛ ويتولى الخدمة فيه سيدات. كذلك ظهر في لندن أول مقهى وضعت فيه مائدة البليارد، وكانت عند ظهورها عجيبة من العجائب.

وتطورت المقاهي بعد ذلك. وتفنن أصحابها في تجميلها وتأثيثها وتزويدها بمختلف الملاهي من الموسيقى والغناء وورق اللعب والرقص وغيرها، وبلغت ما بلغت في عصرنا من الأناقة وحسن التنظيم؛ وكثرة التنوع والافتنان في كل ما يجلب المسرة والمتاع إلى نفوس الزائرين، وأضحت منتديات للسمر والسياسة والأدب.

حرية الفكر في مؤتمر القلم الدولي

قرأنا في البريد الفرنسي الأخير أخبار مؤتمر القلم الدولي الذي عقد في باريس في أواخر شهر يونيه. وسبق أن أشارت إليه (الرسالة) وذكرت أن مصر ستمثل فيه على يد وفد من أعضاء نادي القلم المصري برياسة الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب؛ وقد شهد المؤتمر مندوبو خمسين دولة وتولى افتتاحه وزير المعارف؛ وكانت أعظم ظاهرة في جلساته

ص: 71

ومناقشاته مسألة حرية الفكر التي أصبحت مهددة في كثير من الدول والتي سحقت بالفعل في بعض الدول التي تسودها النظم الطاغية. وألقى الكاتب الفرنسي الكبير جول رومان رئيس نادي القلم الدولي بهذه المناسبة خطاباً رناناً نوه فيه بقدسية الحرية الفكرية؛ ومما قاله: (إن للفكر قوانينه وأخلاقه وعاداته التي لا تستطيع أية حدود بل ولا يستطيع التاريخ أن يوقفها أو يميلها؛ فالفكر وحده هو الذي يضطلع بوضعها ومراعاتها؛ وإذا تنزل الفكر إلى الدعوة إلى فضائل لا توجد، أو لا تستطيع الوجود إلا بممالأته فهو يرتكب بذلك حماقة لا تغتفر؛ وإذا كانت جمعية القلم لا دخل لها في السياسة فأنا مع ذلك لا نستطيع أن نسترشد إلا بقيمة الفكر وحياته وحقوقه في جميع أنحاء العالم؛ ولن نستطيع أن نقبل أي حجة لتعطيل حرية الفكر وحقوقه، ذلك أنا نعلم أن قبول غل واحد يصفدنا فيما بعد بأغلال لا نهاية لها). هذا وسوف نتحدث في فرصة أخرى عن قرارات هذا المؤتمر الأدبي الخطير.

الأزهر في مؤتمر القوانين

عاد منذ أيام اثنان من أعضاء وفد الأزهر في مؤتمر القانون الدولي بعد الاشتراك في دورة المؤتمر.

وقد بدأت هذه الدورة في اليوم الرابع من هذا الشهر، وكان اليوم الأول خاصاً بحفلة الافتتاح التي أقيمت تحت رعاية وزير العدل في الحكومة الهولاندية واشترك فيها بعض أعضاء محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ ثم دامت جلسات المؤتمر بعد ذلك من اليوم الثاني إلى أن كانت جلسة الختام في اليوم الحادي عشر من الشهر.

وكانت مصر ممثلة في المؤتمر من جهتين: الأزهر، وممثلوه هم الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حسن والشيخ محمود شلتوت ومحمد عبد المنعم رياض بك والأستاذ حسن البغدادي؛ والجامعة المصرية وكان يمثلها الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك.

وقد كان الربح الأدبي والعلمي الذي وصل إليه الوفدان ربحاً عظيماً إذ ألقى الدكتور السنهوري بك بحثه عن الجنسية في اليوم الثالث للمؤتمر. وأعقبه بعد ذلك في الأيام التالية الأستاذان الشيخ عبد الرحمن حسن والشيخ شلتوت فألقيا بحثهما باللغة العربية للمرة الأولى في دورات المؤتمر كلها. وكان البحث الأول خاصاً بالشريعة الإسلامية وعلاقتها بالقانون الروماني، والبحث الثاني خاصاً بالمسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية.

ص: 72

وقد تناقش كثير من أعضاء المؤتمر عند تلاوة هذه البحوث وكان الأستاذ البغدادي يتولى الترجمة العربية والفرنسية والأسئلة وأجوبتها كما تولى ترجمة البحوث نفسها عند إلقائها.

ومن المظاهر المشرفة التي نالتها مصر في هذه الدورة أن جلسة الختام التي تليت فيها قرارات المؤتمر النهائية. كانت خاصة برؤساء اللجان والمقررين، فكانت الغالبية العظمى من الدول يمثلها في هذه الجلسة ممثل واحد سوى مصر، فقد حضر من وفديها في هذه الجلسة اثنان هما فضيلة الشيخ عبد الرحمن حسن والأستاذ عبد المنعم رياض بك.

وكذلك كان من الربح العظيم الذي وصلت أليه مصر بواسطة الوفد الأزهري أن قرر المؤتمر جعل اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية له. وقد قلنا إن بعض البحوث التي ألقيت في هذه الدورة ألقيت فعلاً باللغة العربية. وكذلك قرر المؤتمر حسبان الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع الحديث.

وقرر المؤتمر في ختام جلساته أن تعقد دورته القادمة في سنة 1942 في مدينة لاهاي أيضاً.

بعثة أزهرية جديدة باسم جلالة الملك فاروق

علمنا أن الرأي قد استقر على اختيار بعض العلماء الممتازين أيضاً لتأليف بعثة جديدة يتلقى أعضاؤها في جامعات أوربا من العلوم، ما يرتبط ارتباطا وثيقاً بالعلوم الشرعية وذلك على النهج الذي اتبع في تأليف بعثة (فؤاد الأول) الأزهرية

وسيطلق على هذه البعثة الجديدة أسم (بعثة فاروق الأول) وتفكر إدارة المعاهد الدينية في هذه الأيام في تأليف بعثة أزهرية جديدة تؤلف من بعض العلماء الأزهريين الممتازين الأكفاء لتوفدها إلى بعض المقاطعات الإسلامية في الهند، للدعوة إلى الدين الإسلامي ونشر مبادئه بين طوائف المسلمين في هذه المقاطعات

اضطراب آخر في شيوخ الأزهر

أطلعت في أثناء تحقيق للاضطراب الذي وقع في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي عن اضطراب آخر في كتاب (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) للشيخ أمين المحبي بن فضل الله بن محب الله المولود بدمشق سنة 1061هـ والمتوفى بها سنة 1111هـ فقد

ص: 73

ذكر في الكلام على الشيخ محمد بن حسن بن محمد بن أحمد جمال الدين بن بدر الدين المعروف بالمنير ما ذكره الجبرتي عنه، وخلاصته أنه ولد بسمنود سنة 1099هـ. وقدم الجامع الأزهر وعمره عشرون سنة فدرس على كثير من شيوخه وبرع في كثير من علومه خصوصاً علم الحديث، وكان عالي السند فيه، وكان يعرف أيضاً جملة من الفنون الغريبة كالزايرجة والأوفاق وغيرهما

وقد ذاع صيته في أواخر أمره وذهبت شهرته في الآفاق، وأتته الهدايا من الروم والشام والعراق، وكانت وفاته سنة 1199هـ

وقد زاد المحبي على ما ذكره الجبرتي من ذلك أنه بلغ أمره أن صار شيخاً للأزهر، وأن أول من انتزع مشيخة الأزهر من المالكية، وكان رحمه الله شافعياً

فهذا اضطراب آخر في شيوخ الأزهر، فالشيخ المنير غير معدود في هؤلاء، وقد كان شيوخ الأزهر في عهده الشيخ عبد الباقي المالكي القليني، فالشيخ محمد شنن المالكي، فالشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي، فالشيخ محمد الحفني الشافعي، فالشيخ عبد الرؤوف السجيني، فالشيخ أحمد الدمنهوري، فالشيخ أحمد العروسي، وقد صار أولهم شيخاً للأزهر سنة 1120هـ وصار آخرهم شيخاً له من سنة 1192 هـ إلى سنة 1208هـ

والشيخ عبد الله الشبراوي هو الذي ذكر صاحب تاريخ الأزهر أنه أول من تولى مشيخة الأزهر من الشافعية، وقد صار شيخاً للأزهر من سنة 1137هـ إلى سنة 1171هـ، فكيف يكون الشيخ المنير شيخاً للأزهر بين توالي أولئك الشيوخ؟ وكيف يكون أول من انتزع مشيخة الأزهر من المالكية إلى الشافعية؟

فالحق أن الشيخ المحبي أخطأ في هذا كما أخطأ قبله الشيخ عبد الغني النابلسي في الشيخ منصور المنوفي الشافعي، وقد كانا شاميين بعيدين عن الأزهر ورجاله، ولا شك أن هذا يضعف من قيمة ما شذا فيه من ذلك.

ولو صح أن الشيخ منصور المنوفي كان شيخاً للأزهر كما ذكر الشيخ عبد الغني النابلسي لكان هو الذي انتزع مشيخة الأزهر من يد المالكية إلى الشافعية لا الشبراوي ولا المنير لأنه أقدم عهداً منهما كما سبق.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 74

‌الكتب

سيرة السيد عمر مكرم

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

بقلم الأديب توفيق الطويل

بارح الجيش الفرنسي أرض مصر بعد أن عرف الشعب مكانة ظالميه عند دفع العاديات، فرأي جيش السلطان لا يملك العودة إلى القاهرة إلا في ظلال أعوانه الإنجليز، ورأى المماليك يفرون إلى الشرق ويهربون إلى الغرب ويلتمسون صداقة الفرنسيين أو مرضاة العثمانيين أملا في العودة إلى حكم البلاد، فعرف الشعب من ذلك أن مصيره موكول إليه وأن اعتماده على غير نفسه غفلة وخداع لا ينبغي أن يطولا. وكان على يقين بأنه يستطيع أن يصمد للحرب الطاحنة وحده شهوراً وأياماً كما فعل في ثورته الثانية العنيفة على الجيش الفرنسي المنظم. وكان زعماء هذا الشعب الكريم تعوزهم التضحية وينقصهم الإخلاص، ينتفعون بتقلبهم مع الحومات على حساب الوطن المسكين سوى رجل واحد جمع الزعامة والجهاد والتضحية. كان ينزوي حين لا تنفع المقاومة، ويثور ثورة الأسد حين تمس الحاجة إلى الثورة والتمرد. . ذلك هو السيد عمر مكرم. . . فلما سمع صوت الشعب يدوي مطالباً بحكومة جديدة خرج من عزلته وتولى قيادته. واحتشدت جموع الشعب التي بلغت أربعين ألفا بجوار الأزهر على كثب من بيت القاضي الذي كان يجتمع فيه الزعماء لاختيار الوالي الجديد. وأنعقد إجماعهم على قبول (محمد علي باشا) والياً بعد أن رشحه الزعيم الأكبر (عمر مكرم) لما عرفوه عنه من الذكاء والعدل والشهامة والعطف على المصريين إزاء الطغاة من حاكمهم. . . وقبل الوالي الجديد ترشيحهم بعد تردد. . . فقام إليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وألبساه الكرك والقفطان في بيته وخلعا عليه حكم البلاد باسم الشعب المصري الكريم. وكان ذلك في 13 مايو سنة 1805، فتميز الوالي القديم (خورشيد باشا) غضباً وقال:(ولأني السلطان فلن يعزلني الفلاحون) فلم يكن بد من أن ينزله هؤلاء الفلاحون بالقوة من قصره بالقلعة. وبدأ الكفاح المجيد بين شعب يفدي حاكمه الذي اختاره لنفسه بل يفدي حريته واستقلاله بالمهج والأرواح، وبين جيش يريد أن

ص: 76

يحكمه على غير إرادته. . وكانت الثورة قائمة على مبدأ أعلنه الزعيم الأعلى لرسول السلطان الذي أحتج بقوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فأجابه الزعيم بأن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وأن السطلان أو الخليفة نفسه إذا سار في الناس بالجور والظلم كان لهم عزله وخلعه. . .

وأصاب الشعب النصر الحاسم داخل المدينة وخارجها. . . وبارح البلد خورشيد باشا بعد أن عرف بالتجربة أن إرادة الشعوب من إرادة الله. . .

ولبث الشعب المجيد يعين حكومته الجديدة من رد أعدائها من مماليك وأتراك وإنجليز حتى نحاه عن ذلك (واليه) وصارح زعيمه بأن واجب الدفاع والاشتراك في سياسة البلاد قد سقط عن الشعب بعد أن صارت قوة الدولة كفيلة به. . ونهض الوالي بالبلاد نهضة زاهرة شملت تجارتها وزراعتها وصناعتها وثقافتها ولكنها كانت بعيدة عن روح الشعب الذي أكره على الاعتزال ولم تكن ثمرة جهاده ولا نتيجة سعيه ولا وليدة ذهنه فذبلت وماتت بموت موجدها. .

واعتزل الزعيم، حتى إذا اشتط الوالي في ضرائبه التي أكرهته عليها كثرة إصلاحاته وحروبه خرج من مكمنه وأعلن مبدأه الذي لا يقبل فيه شكا ولا جدلا: أن ليس للباشا أن يغير نظام الحكم ولا أن يفرض ما شاء من الضرائب ولا أن يحكم الشعب بغير قانونه وعاداته. . ولكن الباشا عرف كيف يفرّق بين الزعماء وينتفع بحقدهم على زعيمهم فيأمر بخلعه من نقابة الأشراف ونفيه بعيداً عن موطن الثورات. . .

هذا موجز مشوه لسيرة البطل الذي تناوله الأستاذ الجليل محمد فريد أبو حديد في كتابه القيم الممتع الذي أصدره في هذين اليومين وأبان فيه نهاية الكفاح المجيد الذي كان الشعب المصري قد بدأه منذ قرن ونيف من الزمان. . والكتاب آية أدبية جمعت ثلاثة عناصر قل أن تجتمع في كتاب: دقة العلم، وجمال الفن، وحرارة الوطنية.

على أن في الكتاب رأياً ترددت كثيراً في التسليم به، ذلك هو تحديده للوقت الذي تحرك فيه الشعب المصري للمحافظة على حقوقه وحرياته بعام 1114هـ إذ أن الحادثة التي أيدت هذا تتلخص في شكوى رفعها العلماء إلى الديوان فاستجيبت لعدالة الحاكم (الفعلي) يومذاك لا لحرص الشعب وزعمائه على حقوقهم ولا الخوف الحاكم من عنادهم. فأما عدالة

ص: 77

الحاكم فيشهد بها قول الشيخ حسن الحجازي شاعر العصر يرثيه:

ألا قلْ لمن في موت حاكم مصرنا

غَدَا فرِحاً لا عشْت حلَّ بك الغمُّ

إلى أن قال:

فأرجح ميزاناً وأوفى مكايلاً

وأخمد نيراناً وقام به سلم

وليس له من مبغض غير معرض

عن الحق أو من في عقيدته سقم

إلى آخر ما جاء في الرثاء الذي أورده الجبرتي (107 و108ج1)

وأما الدليل على أن الشعب وزعماءه يومئذ لم يكونوا قد آمنوا بعد بالحرص على حرياتهم وحقوقهم فيشهد به مجيء فرمان من الدولة عام 1137هـ يأمر بمنع العلماء من اجتماعهم بالباشا. وكان ذلك في وقت قد اشتد فيه الظلم، وعانى الشعب أو ألواناً من التعدي على الحريات وانتهاك الحرمات ونهب الأموال، فلم يقاوم الفرمان شعب ولا زعماء. ولما تكرر الظلم بعد هذا طالب الشعب العلماء بالذهاب إلى الباشا فاعتذر هؤلاء الزعماء بأنهم ممنوعون من طلوع القلعة. . .! (131، 135ج1 من الجبرتي) فالشكوى وحدها ليست دليلاً على التحرك لدفع الظلم، وإنما الدليل أن يقاوم المظلوم حتى ينصف أو يستشهد.

والرأي عندي - إن صح أن يكون لي رأي إلى جانب رأي أستاذي المؤرخ - هو أن الشعب قد تحرك للمحافظة على حقوقه وحرياته في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي (أواخر الثاني عشر الهجري) إذ سمعنا في هذه الفترة سلسلة من الحوادث تقوم على دفع الظلم ومقاومة أهله والاعتزاز بالحرية. ورأينا فيه كيف يهتم الحكام - أقوياء وضعفاء وعدول وظلمة - بالرأي العام وزعامته. وسمعنا بالحفني وابن النقيب والصعيدي، وعرفنا موقف العلماء في فتنة الوقف، بل أروع من هذا كله موقفهم في فتنة الأزهر (56ج2 من الجبرتي) يوم رفضوا شيخ الأزهر الحنفي حين عينه شيخ البلد ولم يعبئوا بمنطقة يوم أصر قائلاً لهم: أليس الحنفية مسلمين كالشافعية؟ أليس مذهب النعمان أقدم المذاهب؟ أليس القاضي حنفياً والوزير حنفياً والسلطان حنفياً. . .؟ انتهى إصرارهم بالانتصار الحاسم على أكبر رأس في البلد.

ورأينا في هذه الفترة العالم الذي يغضب على الحاكم فيقول له في وجهه: لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميراً (19ج2) ورأينا العالم

ص: 78

الذي يقول للعامة وهي تستنصره لدفع الظلم الذي يوقعه الحكام بهم: (في غد تجمع أهالي الحارات والأطراف وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم) فما جاء مساء ذلك اليوم حتى ذل له الحكام واستكانوا لعناده (110ج2 من الجبرتي)

تكرر هذه الحوادث وظهور المقاومة فيها جميعاً هو الشاهد العدل على تحرك الشعب لحقوقه في هذه الفترة. . . أما مجرد الشكوى من الظلم في فترات منقطعة، والصبر عليه، والعجز عن التمرد والسكوت عن كفاح المستبد حين يصر على استبداده فهو الدليل على أن الشعب لا يحرص على حقوقه ولا يتحرك للمحافظة على حرياته. . .

هذا هو الرأي الذي خطر لي عند قراءة هذا الكتاب القيم الذي كسبته القومية المصرية وربحه الناطقون بالضاد. . .

توفيق الطويل

ص: 79