المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 218 - بتاريخ: 06 - 09 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢١٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 218

- بتاريخ: 06 - 09 - 1937

ص: -1

‌فن الحكم

للأستاذ أحمد أمين

يعاني الشرق الآن محنة من أشد أنواع المحن، سببها أنه بدأ يحمل عبء نفسه، وقد كان يحمله عنه المحتل

كان المحتل يصرّف أمور الأمة كما يرى، فيحرّم ما يشاء ويحلّ ما يشاء؛ ويعز من يشاء، ويذل من يشاء؛ فإذا استعان ببعض أفراد الأمة فبأيديهم لا بعقولهم؛ وقد يستعين بعقولهم أيضاً ولكن على شرط أن تكون في خدمة عقله، وفي الاتجاه الذي يرسمه قلمه، فمن حدثته نفسه أن يفكر تفكيراً حراً طليقاً فالويل له. أمسك بيده المال وهو عصب الأمة، ينفق منه كما يشاء في الوجوه التي تخدم سلطانه، ويبخل كما يشاء فيما يعارض منهاجه؛ فهو شحيح كل الشح على التعليم العالي، وعلى الجيش وما إليه؛ وهو سخي فيما يصلح الأرض ويدر الثروة. وعلى كل حال لم يقف من الأمة موقف المعلم النزيه يؤهل تلميذه ليكون رجلاً يوماً ما، ويمرنه على أن يستقل بنفسه شيئاً فشيئاً، إنما وقف منه موقف السيد من عبده يسخره وله الغلة، ويطعمه ما يسد رمقه ليقوى على العمل له

ثم كان أن جاهد الشرق جهاداً شاقاً طويلاً جعل حكم الأجنبي له شاقاً عسيراً، وسَاعدت الأحداث الخارجية وما فيها من قلق واضطراب على أن يغير المحتل سياسته، ويحمّل الأمة أكبر عبئها، ويطلق لها اليد في التصرف في أكثر شؤونها. فأصبحت الأيدي التي كانت تعمل بعقول غيرها غير كافية، واشتدت الحاجة إلى العقول المفكرة، وأساليب الحكم العادلة الحازمة، فإذا بالشرق أمام مدرس يلقي لأول مرة أول درسه، أو قاض يجلس على منصة القضاء أول عهده، حتى الذين تولوا الحكم في عهد الاحتلال والحكم بعد الاحتلال يشعرون بالفرق بين الحكمين، واختلاف الصعوبة في العهدين، فقد كانوا في عهد الاحتلال أيديا مسخرة، وهم في عهد الاستقلال عقول مدبرة

أول درس يجب أن يتعلمه الشرق تضحية الحاكم؛ واعني بذلك أن يضحي بشهواته في سبيل تحقيق العدل الدقيق، فلا تستهويه شهوة المال، ولا شهوة الجاه، ولا شهوة المنصب فتصرفه عن إحقاق الحق وإبطال الباطل. وطبيعي أن الشعب لا يرضيه من الحاكم في عهد الاستقلال ما كان يرضيه منه في عهد الاحتلال؛ فقد كان في عهد الاحتلال يصبر

ص: 1

على الظلم كارهاً بحكم القوة، فلما رأى أن حكومته منه، وأنها تستمد قوتها من قوته، لم يرض عن ظلم، بل هو يشتط في طلبه فلا يرضى عن عدل مشوب بظلم، إنما يريد عدلاً خالصاً، ويتطلب منها المثل الأعلى في العدالة وإلا لا يمنحها رضاه

ثم هو لا يرضى بتحقيق العدل السلبي وحده، مثل عدم الترقية لصلة أو قرابة، وعدم الظلم في توزيع مياه الري ونحو ذلك، إنما يطالب بتحقيق العدل الإيجابي أيضاً، مثل إصلاح نظم التعليم ونظم المال ونظم الصحة ونظم الشئون الاجتماعية؛ فإذا قصر الحاكم في ذلك ملّ المحكوم وسئم وشكا من أن العهد الجديد لم يفترق عن العهد القديم إذا لم تتحقق آماله ولم يظفر بما كان يرجو من سعادة.

على أن من الإنصاف أن نقول إن تبعة صلاحية الحكم وعدمه لا تعود إلى الحاكم وحده، بل إن جزءاً كبيراً يحمله الشعب المحكوم نفسه، فالحكم فعل وانفعال مستمران بين الحاكم والمحكوم، والنتيجة التي نراها من تقدم الأمة أو تأخرها هي نتيجتهما معاً لا نتيجة الحاكم وحده.

والأثر الذي يقول (كما تكونون يولى عليكم) ليس قانوناً للقَدَر بل هو قانون طبيعي، فحالة المحكوم تشكل الحاكم - لا محالة - بالشكل الذي يتفق وحالته، وقد علّمنا التاريخ أن عسف الحاكم لا يتم ولا ينجح إلا إذا سبقه استنامة المحكوم وضعف إحساسه؛ وصلاحية الحاكم مسبوقة دائماً بتنبه المحكوم وحسن تقديره للعدالة والظلم.

بل إن أساليب الحكم ونظريات الحكومات لم تتقدم على مر الزمان تقدم الشعوب في تقدير العدل والظلم، فنظم الحكم التي وضعها اليونان والرومان وعلى رأسهم أفلاطون في جمهوريته وأرسطو في كتابه السياسة لم تتقدم كثيراً في عهدنا الحاضر، ولكن شعوب اليوم في فهم الحكم ومدى سلطة الحاكم وإبائهم أن يتجاوز حده أرقى بكثير في ذلك من شعوب الأمس الدابر. لقد كان الحاكم يستطيع أن يحكم في سهولة ويسر وإلى عهد طويل شعبه على رغم أنفه بسلطانه وجبروته، ثم هو يتحمل أعباء الحكم على كتفه وحده؛ أما اليوم فلا يستطيع حاكم مهما أوتي من العقل والقوة أن يحكم إلا برضا شعبه وبمعونته وبمشاركته إياه في حمل العبء؛ وإن وجدت حالات تخالف ذلك فحالات شاذة لا يسمح النظام الاجتماعي ببقائها طويلاً.

ص: 2

بل تبين فساد رأي أفلاطون وأرسطو وأمثالهما في أن هناك طبقة خاصة يجب أن تَحْكُم، وأنها وحدها الصالحة للحكم، وأن من عداها غير صالح إلا لأن يُحْكُم؛ وتبين أن الحاكم الحق للشعب هو الشعب نفسه، وإنما يركز آراءه في الحكم في أشخاص لأن الناس اعتادوا تجسيد المعاني والرمز إليها بمحسوسات تقريباً لعقولهم وتبسيطاً لأفكارهم، ولا ينجح حاكم ولا مصلح إلا إذا مثل رأي الناس أو على الأقل رأي طائفة صالحة منهم، فلو أتى مصلح بما لا يتهيأ له فريق من الناس لعد مجنوناً، بل إن الشعب أو الطائفة منه هي التي تخلق حاكمها وتخلق مصلحها إذ هو ليس إلا مبلوراً لأفكارهم ومركِّزاً لآرائهم. وليس الحاكم أو المصلح جذر الشجرة ولكن زهرتها، إنما الجذر والساق والأوراق هي الشعب نفسه.

يميل الشرق إلى أن يُحكم حكماً ديمقراطياً، وله الحق في ذلك، لأنه جرب أنواعاً من الحكم الاستبدادي على أنواعه المختلفة فكانت ميتة لمشاعره، عائقة لتقدمه، وكان الحكام المستبدون ينعمون بكل صنوف الترف والنعيم على حساب بؤس الشعب وفقره.

ويميل إلى الديمقراطية لأنها على ما بها من عيوب لا تزال أرقى أنواع الحكم وأبقاه، وحكم الاستبداد إن رضيته بعض الأمم حيناً، أو فرض عليها فرضاً حيناً، أو أرتكن على بعض الظروف حيناً، فليس هو الحكم الصالح للبقاء أبداً

لقد أنهار الاستبداد في مظاهره المختلفة وحلت محله الديمقراطية بأشكالها المختلفة. أنهار استبداد رجال الدين بعد أن سيطروا على الشعوب أزماناً طويلة لقي فيها الناس من عنتهم ما كره إليهم الحياة

وأنهار استبداد الأب بأسرته فلم يعد ذلك الأب الذي لا إرادة في البيت بجانب إرادته، ولا الأب الذي كلمته حكم، وطاعته غنم، وحل محله أب هين لين يأمر حيناً فيطاع، ويؤمر حينا فيطيع

وتغيرت الغايات للسلطات فأصبحت الغاية من الحكومة لا أن تظهر بمظهر الآمر الناهي، ولكن أن تحقق العدالة والحرية للناس حتى للضعفاء؛ وأصبحت الغاية من الأب لا أن ينعم بسلطانه، وإنما الغرض منه ومن الأسرة كلها إيجاد جو صالح لنمو الطفل وتربيته ورقيه. وليس الغرض من المعلم أن ينفذ إرادته بالعصا، وإنما الغرض منه ومن الناظر والمدرسة كلها أن يمسكوا بدل العصا مصباحاً يضيء للتلاميذ حقائق الحياة وسبل الحياة

ص: 3

ولكن هذا الحكم الديمقراطي ليس يصلح إلا بتنظيم دقيق، بل هو إلى النظام أحوج من الحكم الاستبدادي، لأن الحكم الاستبدادي يحمل عبئه فرد واحد وأعوانه أياديه، وهو الرأس المدبر، فطبيعي أن يكون ظلمه وعدله منظماً، أما الحكم الديمقراطي فيحمل عبئه عدد كبير، فإذا لم يؤد كل واجبه أختل البناء، ومثله مثل الآلة ذات الأجزاء المختلفة أو كالساعة ذات القطع المتعددة المتباينة، ولا ينتظم سير الآلة ولا سير الساعة حتى يقوم كل جزء بعمله

وسبب آخر لحاجة الحكم الديمقراطي للنظام دون الحكم الاستبدادي، وهو أن الحكم الاستبدادي يرمي إلى تحقيق مصلحة فرد واحد أو طائفة محصورة، وذلك سهل يسير

أما الحكم الديمقراطي فيرمي إلى مصلحة الشعب جميعه وخاصة الضعفاء، كالفقراء والمرضى والفلاحين والعمال وهؤلاء عددهم في كل أمة كبير، ولا يمكن تحقيق الخير لهم إلا بجهد كبير ونظام دقيق

فإذا لم يتحقق هذا النظام فشل الحكم الديمقراطي، وظن قصار النظر أن العيب يرجع إلى طبيعة الحكم، وهو في الواقع لم يرجع إلا إلى سوء تطبيقه واستعماله. ثم إذا أختل كان نذيراً بعودة الاستبداد، وأرتكن المستبدون وذوو السلطان إلى ما يبدو تحت أعين الأمة من سوء الحكم الديمقراطي وفساده، واتخذوا ذلك ذريعة إلى استرجاع سلطانهم واستعادة استبدادهم، وأعادوا الأمة إلى سيرتها الأولى يسخرونها لمنفعتهم ويستغلونها لصالحهم

فأكسير الحياة للشرق الآن تحري العدالة في الحاكم، وتضحية شهواته، وتنظيم حكمه وحمل كل عبئه، وتنفيذ واجبه في دقة، وإلا كان تحت خطر الفوضى التي تقدم للأسد الرابض حجته وصياحه من جديد بأن الشرق أعطي حريته فلم يحسن استعمالها

أحمد أمين

ص: 4

‌مصير الحضارة

للأستاذ عباس محمود العقاد

يجتمع اليوم في مصانع العالم ومخازنه من أسلحة الحرب وأدوات الهلاك ووسائل التدمير ما لم يجتمع مثله قط في تاريخ الإنسان.

فهل يعقل العقل أن تلبث هذه الآلات مشلولة معطلة ينتهي أمرها بانتهاء صنعها ويقف الخطر منها عند حد التخويف والإنذار؟

وإذا هي استخدمت فيما صنعت له وانطلقت من عقالها وفعلت كل ما يخشى من فعلها الموبق الوخيم، فماذا يبقي من الحضارة؟ وماذا يبقي من تاريخ الآدمية بعد أن عبر هذا الشوط الطويل في آفاق الزمان؟ ألا تكون النهاية؟ ألا نرجع كرة أخرى إلى حالة بين الهمجية والحيوانية ينقطع السلم بعدها فلا نهتدي منه إلى طريق صاعد، ولا نعود - إذا ملكنا رأينا - إلى تجربة قد رأينا في خواتمها ما يصد النفوس عن البدء فيها؟

أكبر ما يرجوه الآملون في مستقبل الإنسان أن تنقبض هذه الشرور الجهنمية في محابسها كما تنقبض الشياطين في القماقم، فتخيف الناس خوفاً يعصمهم من آفاتها ويذودهم عن اللعب بنيرانها

فإن لم يصدق هذا الرجاء فأكبر الرجاء بعده أن تصمد البنية الآدمية للخطر المحيط بها وأن تفلت منه ببقية صالحة تحفظ عناصر الحضارة والأخلاق كما تصان الذخيرة المنتقاة من أنقاض الحريق

وأصحاب الرجاء في هذه العاقبة السليمة يعلقون رجاءهم على اختلاف الحال بين العصور التي سبقت زوال الحضارة فيما سلف وبين العصور التي نحن فيها والعواقب التي نحن منساقون إليها

ففي الأزمة الغابرة كانت غارات الهمج على الأمم المترفة هي المعول الأكبر الذي يضرب في أركان الحضارة ويقتلع العمران من أساسه، وكانت غارات الهمج مصحوبة بحال من العقم في القرائح والأفكار تصيب الفنون والعلوم بالفاقة والكساد والنضوب، فكانت تنقضي السنون وراء السنين ولا جديد في عالم التأليف ولا في عالم الاختراع ولا في عالم الفنون والآداب، وتلك في الوقع هي علامة الدثور والاضمحلال التي لا تزيدها الغارات الهمجية

ص: 5

إلا التسجيل والإعلان. ولا شك في أن الحضارات الأولى قد أخذت تموت وتتهاوى قبل أن يجهز عليها المغيرون من أبناء القبائل العارمة، ولا أدل على موتها من ضمور ملكة الخلق والابتكار فيها.

أما اليوم فالأمر بيننا مختلف والاختراع بيننا أروج وأكثر مما كان في أيام ازدهار الحضارات البائدة، وما تطلع الشمس صباحاً واحداً في أنحاء العالم المتمدن على غير كتاب جديد أو ثمرة فنية جديدة أو اختراع طريف أو تنويع وتحسين في اختراع قديم. فالبنية الآدمية بما اشتملت عليه من قدرة على التفكير أو قدرة على الشعور أو قدرة على الابتكار بنية سليمة مهيأة لطول الحياة ومغالبة الأحداث وتعويض المفقود.

هذا مع اختلاف آخر لا يقل في أثره ولا دلالته عن ذلك الاختلاف، وهو أن الغالبين والمغلوبين في أيامنا سوف يكونون من أبناء الحضارة الحديثة المشاركين في علومها وصناعاتها وأدواتها وآلاتها، فمن كتب له النصر من المحاربين في المعمعة القادمة سوف يضطلع بأمانة الحضارة وحده إذا قدرنا أن المهزومين يعجزون كل العجز عن متابعة الطريق واستئناف العمل النافع؛ وسوف يستبقي من علومنا وأفكارنا ما يصلح أن يكون خميرة يأكل من زادها أبناء الأجيال المقبلة، ثم يفتنون فيها ويزيدون عليها.

هذا وذاك مع اختلاف ثالث لا يقل عن ذينك الاختلافين في تغليب دواعي الأمل على دواعي القنوط، وذاك أن معارف الحضارة الحديثة لا تشبه معارف الحضارات الأولى في جواز الفناء عليها. فقد كانت معارف المصريين واليونان والرومان الأقدمين أشبه شيء في جملتها بحرفة الصانع القديم الذي يصون سره ويحمله معه إلى قبره، أو كانت بمثابة الخبرة الشخصية التي لا تقبل التعميم ولا اتصال النسق بين حاضرها وماضيها، لأنها مسائل اجتهادية يكاد يبدأها كل عامل من البداية ولا يدعمها إلى أساس يبني عليه من يخلفه من أبناء الصناعة.

أما حضارة العصر الحديث فهي حضارة قائمة على أساس العلم الشائع المقرر الذي جعل لكل اختراع قاعدة ولكل صناعة أصلاً ولكل مرحلة من مراحل التعليم مسافة وحدًّا؛ فلو فنيت ثلاثة أرباع المصنوعات الحديثة من الدنيا لكان الربع الباقي مشتملاً على جميع قواعدها وأصولها ومراحل التعليم والابتكار فيها؛ ومن البعيد عن التصور أن تعمد الحرب

ص: 6

إلى عناصر العلم المتفرقة فتجمعها كلها إلى بقعة واحدة وترسل عليها صيباً من القذائف الناسفة فتمحوها محواً ولا تذر منها بقية للتجديد والترميم.

ذلك بعيد عن التصور، ولا خوف من اتجاه النية إليه أو اشتمال الطاقة على تنفيذه لو جاز أن يداخل النيات على أبعد الفروض.

نعم إن هناك خطراً أخطر على الحضارة من تدمير عناصر العلم بالقذائف الناسفة والآلات الجهنمية التي هي نفسها مادة من مواد العلم وجزء من أجزاء الصناعة.

هناك خطر على الحضارة أخطر من القذائف والآلات الجهنمية وهو إفساد الطبائع ومسخ العقول وتلويث الأخلاق وتعويد الناس أن يسخروا بكل نبيل جليل وأن يقنعوا من الدنيا بمعيشة البهم ولذائذ الحيوان.

فلو شاعت هذه الآفة - بل هذا الوباء - بعد الحرب المقبلة لكان بقاء العلوم والصناعات وزوالها على حد سواء، ولكانت الحضارة شيئاً لا يستحق الحرص عليه ولا الأسى لفقده ولا التفكير في استبقائه، ولبلغت الحرب بالناس أقصى ما نخاف من وبالها المحذور.

ومن خاف هذه العاقبة فله عذره الواضح مما نراه من تهالك على المتاع الزائل وتهافت على الشهوات الخسيسة وتهافت على المثل العليا والأخلاق الفاضلة والمطالب التي تتجاوز ساعتها أو يومها أو عمر طالبها على أبعد احتمال.

الاشتراكيون لا يؤمنون بغير الخبز، والفاشيون لا يؤمنون بخير الخنجر، والذين يأنفون من مذاهب أولئك ومن مذهب هؤلاء حيارى لا يهتدون إلى قرار؛ ومتى أصبحت الغاية المنشودة ما كان فيه آباؤنا وأجدادنا منذ ألوف السنين فنحن راجعون إلى وراء مقبلون على هبوط يشبه الفناء.

إلا أن الأفق لا يخلو في هذه الظلمة أيضاً من بارقة بعيدة يوشك أن يستفيض منها ضياء شامل.

فكلما شاعت اللذت كذلك شاعت السآمة من اللذات، وشاعت النزعة إلى التبديل، وتسرب القلق إلى الضمائر، فليست هي في حالة أستقرار، ولكنها في حالة تحفز وانتظار.

ويخيل إلينا أن الدنيا تتجه إلى تفكير جديد في القرن العشرين يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من طور العقائد التقليدية إلى طور العقائد بالبحث والاجتهاد، أو يشبه التفكير

ص: 7

الجديد عند الانتقال من هذا إلى الإيمان بالعقل وحده، ثم الغلو في التعويل عليه كما غلا العقليون المعروفون (بالراشنلاست) في أوائل القرن الغابر، أو يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من (الراشنلازم) إلى المذهب الروحي أو مذهب البصيرة والإلهام الذي شاع منذ خمسين سنة في الأمم الغربية كافة

أما هذا التفكير الجديد الذي ننتقل إليه الآن فهو التقاء العالم المشهود وعالم الأسرار عند (الفلسفة الرياضية) التي انتهى إليها البحث في النور والإشعاع

فقديماً كان العالم الطبيعي في ناحية والعلم الرياضي في ناحية أخرى

كان العلم الطبيعي في تجارب المحسوسات، وكان العلم الرياضي في الحقائق الذهنية التي لا تحتاج إلى العالم المحسوس

فاليوم وصل العلم الطبيعي بكل شيء إلى الإضاءة والإشعاع، ووصل بالإشعاع إلى النسب العددية والتقديرات الرياضية، وجاز في عرف العقل المثقف السليم أن تقاس الحقيقة من (باطن) العقل وداخل السريرة، على مثال يقارب هداية الملهمين ومكاشفة القديسين في الزمن القديم.

تلك البارقة من التقاء عالم المادة وعالم الأسرار بشيرة بالخير وشيكة أن تعصم النفوس من تيه الظلمات، وأن تسلم زمام الحضارة الإنسانية إلى غاية أبعد من الغاية التي يدين بها عباد الخبز وعباد الخنجر، حيثما اهتدى بها العلم والفلسفة والعقيدة في أعقاب الضياء.

ص: 8

‌المحاكمات التاريخية الكبرى

3 -

الحركة النهلستية

ومصرع القيصر اسكندر الثاني

صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تلك هي الوثيقة التاريخية المؤثرة التي وجهتها اللجنة التنفيذية إلى القيصر الجديد؛ ولكنها لم تحدث أثراً. ولم تكن الدوائر القيصرية تفكر في النزول عند نذير المرهبين ولما يجف دم الجريمة الرنانة التي كانت في الواقع ذروة الإرهاب السياسي؛ ومن ثم فقد ردت القيصرية بمضاعفة إجراءات القمع والإمعان في مطاردة المرهبين والثوريين، وقبض خلال شهر مارس في بطرسبرج على عشرات منهم، ولكن لم يقدم في النهاية إلى المحاكمة القضائية سوى ستة هم أندري جليابوف وصوفيا بيروفسكايا ونيكولا كالبالتشش وجسيا هلفمان وتيموتي ميخايلوف ونيكولا ريساكوف وبدات المحاكمة في 26 مارس سنة 1881 أمام محكمة عليا ألفت من ستة من الشيوخ وعضوين يمثلان النبلاء هما الكونت بوبرنسكي والبارون كورف، وممثل للتجار، وممثل للفلاحين، وعمدة موسكو، وممثل لبطرسبرج؛ وتولى الرياسة الشيخ فوكس، وتولى إجراءات الاتهام النائب مورافييف الذي غدا فيما بعد وزيراً للعدل.

وكان أهم المتهمين في تلك القضية الشهيرة هما بلا ريب جليابوف وصوفيا بيروفسكايا عضوا اللجنة التنفيذية لحزب إرادة الشعب وهما في الواقع مدبرا الجريمة ورأسا الحركة الإرهابية يومئذ؛ وكان جليابوف من أقطاب حزب إرادة الشعب وأعظمهم نفوذاً وكان يومئذ فتى في الثلاثين من عمره؛ وكان مولده في أسرة من الأرقاء، ولكن الرقيق حرر وهو طفل فتفتحت أمامه آفاق جديدة، وتلقى تربية حسنة، وتخرج في مدرسة الحقوق في أودسا وشغف منذ حداثته بالأدب الثوري والنظريات الاشتراكية والتحريرية، ولم يلبث أن لفت أنظار السلطات، وأعتبر في سلك المحرضين الخطرين ونفي في أودسا. فذهب إلى كييف وهنالك أتصل بأسرة غنية كان يعطي لولدها درساً وتزوج من أبنتها (أولجا) وعاش حيناً

ص: 9

في هدوء وعزلة، ولكنه لبث مع ذلك متصلاً بالأوساط الثورية، ولما اضطرمت الحركة الثورية في سنة 1874 ونزل إلى ميدانها ألوف من الفتية والفتيات الذين ألهبت عقولهم وأراحهم النظريات التحريرية الحديثة، نظمت القيصرية من جانبها حملة القمع الذريع وقبض على ألوف من الدعاة والمحرضين وعقدت المحاكمات الرنانة تباعاً؛ وكان منها المحاكمة الشهيرة التي عقدت في بطرسبرج سنة 1877 وقدم فيها إلى المحكمة 193 متهماً بينهم جليابوف وبيروفسكايا، ولكن جليابوف بريء؛ وما كان يغادر سجنه حتى أجتمع مع أقطاب زملائه وأسسو حزب (إرادة الشعب) وقرر الحزب أن يلجأ إلى سلاح الإرهاب السياسي. وفي أغسطس سنة 1879 قررت اللجنة التنفيذية إعدام القيصر أسكندر الثاني حسبما قدمنا؛ ودبرت لذلك عدة محاولات متوالية ولكنها أخفقت. وكان جليابوف رأس اللجنة المدبر وكان يوجه الحزب بنفوذه القوي إلى ميدان النضال العنيف وكان شجاعاً لسناً قوي العزم والإرادة لا يحجم عن شيء. وكان وقت المحاكمة كما قدمنا فتى في الثلاثين من عمره، مديد القامة، قوي البنية. وسيم الطلعة، حلو الحديث، يميل إلى الدعابة ويتدفق حين الجدل فصاحة وبياناً.

وكانت صوفيا بيروفسكايا تنتمي إلى أسرة عريقة شغل كثير من أعضائها مراكز كبيرة في الدولة؛ وكان والدها حاكماً لمقاطعة سنت بيترسبرج، ولكنها آثرت منذ حداثتها حياة الحرية والمغامرة، فغادرت منزل الأسرة إلى العاصمة وتلقت تربيتها في إحدى مدارس المعلمات، ثم عينت بعد ذلك معلمة في إحدى مدارس الأقاليم؛ ولكنها لم تنجح إلى السكينة والعزلة بل اتصلت بالحركة الثورية، وقبض عليها لأول مرة بتهمة التحريض وهي دون العشرين. ولما أفرج عنها اشتغلت مدى حين ممرضة في أحد المستشفيات ثم قبض عليها مرة أخرى في قضية بطرسبرج الكبرى مع جليابوف وزملائه فبرئت، ولكنها نفيت إلى إحدى المقاطعات الشمالية. بيد أنها تمكنت من الفرار وعادت إلى العاصمة حيث التحقت عضواً بحزب (إرادة الشعب). وكانت حينما قبض عليها في مارس سنة 1881 في السابعة والعشرين من عمرها ولكنها كانت تبدو بنظراتها الساحرة وعينيها الخضراوين ومحياها الوسيم أصغر بكثير من عمرها. وكانت صوفيا تحب جليابوف حباً جماً وتترسم خطاه ومغامراته بعزم مدهش؛ وان هذا حبها الأول والأخير. وكان جليابوف يبادلها هذا الحب

ص: 10

المضطرم وكانا يعيشان معاً في أفق ساحر من الجوى والمثل الثورية.

أما عن باقي المتهمين فكان كالبلتشش مهندساً في نحو الثلاثين من عمره؛ وكان ميخايلوف عاملاً فتى من عمال المعادن؛ وكانت جسيا هلفمان فتاة من أسرة متوسطة تخرجت في مدرسة القابلات ولم تكن حسناء ولكنها كانت مخلصة مطبوعة، وكانت تعمل في مطبعة اللجنة السرية وتدير المنزل الذي يجتمع فيه الأعضاء.

بقي ريساكوف، وقد كان فتى حدثاً في التاسعة عشرة ينتمي إلى أصل متواضع؛ وكان وقت القبض عليه طالباً بمدرسة المناجم يعني ببث المبادئ الثورية بين العمال؛ وكان أهم متهم في القضية بعد جليابوف وصوفيا بل كان مفتاح القضية في الواقع ذاته أنه قبض عليه متلبساً بجريمته على أثر إلقائه القنبلة الأولى على موكب القيصر، وقد رأى فيه النائب المحقق دبرجنسكي منذ الساعة الأولى فريسة سهلة، فمال عليه بالإغراء والألفاظ المعسولة واستطاع أن يحمله على الاعتراف بكثير من الوقائع والمعلومات الهامة المتعلقة بالجريمة وحزب إرادة الشعب، وكان ريساكوف فتى هائم الذهن، مضطرب الأعصاب، فكان تارة يدون اعترافاته للمحقق وتارة يحاول تأييد مسلكه؛ وقد نشرت أقواله فيما بعد في كتيب صغير ضمن ما نشر من وثائق هذا العهد، وهي أقوال روح فتى هائم يتخبط بين الرغبة في التمسك بمبادئه ومثله، وبين الروع الذي يثيره فيه شبح الموت، ويقص ريساكوف في مذكراته كيف كانت مشاعره الحساسة التي شحذتها طفولة بائسة تتأثر أيما تأثر بما يراه بين الفلاحين والعمال من مناظر البؤس المطبق، وكيف ترك لقاءه الأول لجليابوف في نفسه أعظم أثر، وكيف أذكي لجليابوف في نفسه عاطفة الكفاح، فأنضم إلى جماعة المرهبين، وأرتكب جريمته على أنها عمل مجيد.

- 4 -

ودام التحقيق زهاء ثلاثة أسابيع، وفي يوم 26 مارس سنة 1881 بدأت المحاكمة الشهيرة أمام المحكمة العليا التي ألفت كما قدمنا من ستة من الشيوخ وعضوين من النبلاء وعضو عن التجار وعضو عن الفلاحين اختارتهم المحكمة وعمدة موسكو؛ وتولى رآستها الشيخ (السناتور) فوكس وتولى مهمة الاتهام النائب مورافييف؛ وأعترف جميع المتهمين بانتمائهم إلى حزب إرادة الشعب واشتراكهم في تدبير المؤامرة وتنفيذها، ما عدا جسيا فأنها أنكرت

ص: 11

قيامها بأي عمل إيجابي، وميخايلوف فأنه أعترف بانتمائه إلى فرقة المرهبين ولكنه أنكر اشتراكه في تنفيذ الجريمة.

وكان اعتراف جليابوف بالأخص رناناً مؤثراً؛ فذكر أنه عضو في اللجنة التنفيذية وأنه أنضم إلى الحزب نزولاً على إيمانه وعقيدته، وأنه وهب حياته منذ أعوام لخدمة قضية الحرية. ثم قص في بلاغه وقوة على المحكمة تاريخ أعمال اللجنة التنفيذية وما دبرته من مختلف المشاريع لإزهاق القيصر، وأعترف بأنه هو الذي دبر مؤامرة أول مارس، وأنه هو الذي أختار المنفذين لها من بين المتطوعين الفدائيين، ولكنه حاول جهده أن يبرئ ميخايلوف من تهمة الاشتراك.

وسمعت المحكمة عدة شهود من الشرطة وحجاب المنازل التي كان يتردد عليها المتهمون وعدداً كبيراً من الضباط والمخبرين الذين شهدوا مصرع القيصر، وبعض زملاء ريساكوف وأساتذته، فنوهوا جميعاً بذكائه ورقة خلاله، وسمعت تقارير الخبراء عن خواص القنابل والمفرقعات التي استعملت في الجريمة ووقفت المحكمة بذلك على كثير من تفاصيل الحادث وسير الحركة الثورية.

وألقى النائب مورافييف ممثل الاتهام مرافعة قوية عنيفة، فقدم المتهمين في صورة مجرمين من أروع طراز، وأبالسة من البشر ظمئين إلى الدم، وحمل على الحركة الثورية وعلى مثلها ودعاتها بشدة، وقال إن هؤلاء القتلة لا محل لهم بين مخلوقات الله وإنهم من عناصر الهدم والفوضى يُعَبدون طريقهم بالقتل، وإن الوطن الروسي الذي خضبوه بدم القيصر الثمين قد عانى كثيراً من أعمالهم، فعلى روسيا أن تصدر حكمها عليهم في شخص هذه المحكمة وليكن مصرع أعظم الملوك خاتمة حياتهم الإجرامية.

ثم جاء دور الدفاع؛ وكان الدفاع مهمة شاقة أمام هذا القضاء المسير وهذه المحكمة التي عقدت لأداء مهمة معينة. وكان شاقاً بالأخص أمام اعتراف المتهمين الشامل؛ ولم يكن للبواعث المعنوية والمثل العليا اعتبار في هذا الجو الخانق. ومع ذلك فقد قام الدفاع بمهمته التقليدية، فتولى الأستاذ أونوفسكي الدفاع عن ريساكوف وصور للمحكمة عقلية المتهم الفتية الساذجة ورجا المحكمة أن تراعي في تقديرها لجرمه حداثة سنه واضطراب أعصابه. ودافع الأستاذ خارتولاري عن ميخايلوف ففند أدلة اتهامه، وبين أنها فيما عدا أقوال

ص: 12

ريساكوف لا تنهض دليلاً على اشتراكه. وأن ريساكوف لم يكن متزناً ولا متفقاً في أقواله. ودافع الأستاذ جركي عن جسيا هلفمان وبين أنها لم تقم قط بأي دور إيجابي في هذه المحاولات الإجرامية، وأن كل ما قامت به هو أنها كانت تؤجر المكان الذي أعتاد المهتمون أن يعقدوا فيه اجتماعاتهم. ودافع الأستاذ حيراردي عن كبالتشش وشرح للمحكمة العوامل والظروف القاسية التي دفعته إلى سبيل الإجرام.

وتولى الأستاذ كدرين الدفاع عن صوفيا بيروفسكايا؛ وكانت مهمة فادحة لا تبعث إلى شيء من الأمل، فقد لبثت صوفيا حتى آخر لحظة متمسكة بأعترافاتها، وأضطر الأستاذ كدرين أن يلجأ في دفاعه إلى ضروب من البلاغة المؤثرة؛ فصور صوفيا فتاة وديعة هادئة تجيش بأعظم حب لوطنها، وتعتقد بإيمان راسخ أن المثل الثورية هي سبيله الوحيد إلى الخلاص والمجد؛ وأستعرض نشأتها النبيلة، وحياتها المضطربة، ومثلها العليا؛ وبين أنها لم تنزلق إلى الجريمة إلا مدفوعة بحبها للوطن.

أما جليابوف فقد آثر أن يتولى بنفسه الدفاع عن نفسه. وكان دفاعاً رناناً تردد صداه خارج روسيا، ووصفه مكاتب (التيمس) في بطرسبرج بأنه أعظم ظاهرة في القضية. وكان جليابوف يتدفق منطقاً وبياناً؛ وكانت أقواله محاضرة فلسفية وسياسية مؤثرة، وأستهل جليابوف دفاعه بقوله: إن المبادئ بالنسبة لأولى المبادئ أثمن لديهم من الحياة، وفند مطاعن النائب العام في مبادئ حزب إرادة الشعب، وبسط مثل الحركة الثورية وغاياتها. ثم عطف على المسائل العنيفة التي تلجأ إليها الحركة الثورية، فذكر أنها ليست إلا مهمة من المهام العديدة التي يتطلبها تطور روسيا، وأنه يحب لكي تفهم غايات الحزب ووسائله أن يدرس ماضي هذا الحزب، وهو ماض قصير ولكنه حافل بالتجارب. وسترى المحكمة متى استعرضت كتاب حياته المفتوح أن أصدقاء الشعب الروسي لن يعمدوا دائماً إلى إلقاء القنابل، وإننا قد عرفنا خلال نشاطنا أحلام الشباب الوردية. وإنه ليس خطأنا أن يكون هذا العهد قد انقضى.

(وإن حياتنا القصيرة التي قضيناها بين الشعب قد كشفت لنا عن حقيقة آرائه وآماله، وعرفنا من جهة أخرى أن هنالك ضمير الشعب كثيراً من العناصر التي يجب تأييدها. وقد عولنا على أن نعمل باسم المصالح التي أخذ الشعب يشعر بها؛ وليس باسم النظريات

ص: 13

الخالصة. وقد رأينا سبيلنا العملية إلى ذلك أن ندبر مؤامرة لأحداث انقلاب حكومي؛ ونظمنا لذلك القوى الثورية أتم تنظيم. وقد كانت مهمتي الشخصية ومقصد حياتي أن أخدم الصالح العام. وعملت لذلك طويلاً بالوسائل السلمية ولكني أيقنت في النهاية أن الالتجاء إلى العنف أمر محتوم).

(للبحث بقية - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 14

‌خذ الحق واترك الباطل

اليابان والإسلام

المساعي لتحقيق إنشاء الدولة الآسيوية العظمى

مترجمة عن جريدة الوقت الهولندية

لقد عرفت اليابان بشدة تمسكها بلغتها ونزعتها القوية للبقاء على ما قد وجدوا عليه آباءهم خصوصاً فيما يتعلق بدينهم ومعتقداتهم؛ ولكن الذي يبعث على الدهشة والاستغراب هو موقفهم الآن تجاه الدين الإسلامي وانتشاره الرائع في بلادهم. ففي مدة قصيرة جداً صار لهذا الدين اتباع ومعتنقون كثيرون؛ والأغرب من ذلك أن هؤلاء كان جلهم من أهل الوجاهة والسلطة. إن عددهم الآن في الحقيقة لا يستحق أن يقارن بعدد معتنقي الأديان الأخرى، إذ أن البوذويين يبلغون ما يقرب من الأربعين مليوناً، والشنتويين يناهز عددهم الستة عشر مليوناً، ولكن إذا راعينا حداثة دخول هذا الدين بينهم وجدنا أن عددهم لا يستهان به. ولكي نعرف تماماً أهمية هذا الدين عندهم فلنتصفح أوجه الحوادث الأخيرة التي طرأت على تلك الحركة، وبعد ذلك يكون سهلاً علينا أن نستنتج هل كان دخولهم ورغبتهم فيه بدافع الميل الديني الخالص أم كانت هناك أسباب أخرى ألجأتهم إلى ذلك.

إلى منتصف سنة 1934 لم يكن في اليابان أية دعاية إسلامية تستحق الذكر، ولم يكن هنالك أقل رجاء بأن سيكون لذلك الدين ما لنهضته الموجودة الآن. نعم قد سمع من بعض الأجانب تصريحات بوجوب إيجاد تلك الدعاية. فمثلاً من قبل 18 أو 20 سنة مضت تكونت بسعي بعض الترك والتتار والهنود والسوريين وكذلك بعض اليابانيين جمعية جعلت مهمتها نشر الدين الإسلامي في جميع أنحاء آسيا الشرقية، ثم إنه يوجد في الأماكن المجاورة للموانئ مسلمون أجانب جاءوا إليها بقصد التجارة لسبب انتشار تجارة اليابان. وهؤلاء قد بدءوا بالدعوة سرّاً بين أفراد اليابانيين، فأنسلخ كثيرون منهم عن ديانتهم القديمة. وهكذا بقيت هذه الدعاية في طي الخفاء إلى انتهاء سنة 1934. وفي 11 أكتوبر سنة 1934 أفتتح أول مسجد في كوبا، وكان عدد الحاضرين يوم الافتتاح لا يتجاوز ثلاثين رجلاً منهم روسيون وهنود. ولم تتحقق إقامة هذا المسجد إلا بعد أن تقدمت طلبات حارة

ص: 15

من جانب المسلمين إلى الحكومة، لأنها في بادئ أمرها رفضت رفضاً باتاً أن يبنى مسجد إسلامي على أرض يابانية بوذوية. وكان ذلك يوماً مشهوداً ألقى فيه رئيس جمعية نشر الديانة الإسلامية السيد ميان عبد العزيز خطبة حماسية. ومن هنا بدأت الدعوة جهراً وظهرت تلك الحركة في أبهى مظاهرها. أما السبب في بناء المسجد في كوبا دون العاصمة فذلك راجع إلى أن المسلمين هنالك كانوا أكثر عدداً ونشاطاً. ومعظم هؤلاء من التتار التركمان الذين فارقوا الأراضي الروسية في إبان مطاردة الروسيين

بني هذا المسجد الفخم بأموال الأغنياء المتاجرين وشيدت بجانبه مدرسة إسلامية. ثم ظهر من جانب الحكومة أسفها على طول تمنعها من الأذن لهم بذلك. فأرادت أن تبرر موقفها بالعمل مع المسلمين على تعميم هذا الدين في أقرب وقت ممكن. ففي يوم افتتاح ذلك المسجد نشرت إحدى الجرائد اليومية الكبرى (أوسكامينخي) مقالة مسهبة عن انتشار الإسلام في جميع أنحاء المعمورة، وأهابت بالأمة اليابانية أن تضم نفسها إلى هذه الرابطة المتينة. ثم بين الكاتب أن هناك شبهاً في العادات بين المسلمين واليابانيين، من ذلك خلعهم لنعالهم عند دخول الأماكن المقدسة، وغسل القديمن، ثم غسل اليدين قبل كل أكلة. وقد تحاشى الكاتب مقارنة المسائل الجوهرية في هذين الدينين كالتوحيد وتعدد الزوجات وما أشبه ذلك

ثم تأسست في أول سنة 1935 جمعية إسلامية أخرى في عاصمة اليابان. وقد أسست بفضل الترتاري السيد عبد الحي. نالت هذه الجمعية الناشئة مساعدات جمة من عظماء البلاد وأصحاب السلطة فيها، ولم يمض عليها حين من الزمن حتى انضوى الألوف من اليابانيين إلى لوائها، معظمهم من أرباب الوظائف العالية وكبار الرأسماليين وأصحاب الأمر في الجيش. وقد جعلت غايتها درس المدنية الإسلامية ومدنية البلاد الإسلامية العصرية، ثم توثيق عرى المودة بين بلادهم وبين تلك البلاد.

وفي إحدى الحفلات التي أقاموها وحضر فيها أعيان البلاد ووزراؤها ألقى أحد أمراء التتار كلمة بليغة في فضل الإسلام وخاض في موضوع تفسير (ترجمة) القرآن إلى اللغة اليابانية وذكر لهم عظم انتشار الإسلام في الشرق أجمعه (وقد تم الآن هذا التفسير وطبع منه آلاف النسخ التي وزعت على ألوف اليابانيين) ثم ألقى فيلسوفهم أوهارا كلمة بليغة عن هذا الدين

ص: 16

الجديد (عندهم) وأشار بصفة خاصة إلى أن الإسلام مع ما فيه من اليسر والبساطة محتو على كثير من الحكم الحقة، وأختتم كلامه بأن قال:(إنه يرى الدين الإسلامي أوفق الديانات وأليقها بالأمة اليابانية)

الحكومة اليابانية الآن تعتبر الدين الإسلامي ديناً معترفاً به اعترافا رسمياً. فقد وعدت تلاميذ المدارس الإسلامية بإمكان التحاقهم بالمعاهد والكليات العلمية التابعة للحكومة، وأذنت للمسلمين بشراء الأراضي لإقامة المعاهد الإسلامية. ولم يقف إحسانها إلى المسلمين عند هذا الحد، بل فرضت لهم مساعدة مالية، وجلبت لهم أساتذة وعلماء من الأزهر الشريف بمصر لتلقين من يحبون من اليابانيين دراسة القرآن؛ ودعت إلى بلادها الدعاة المسلمين للتعاون على إكثار عدد المسلمين الذين قد بلغوا عشرين ألفاً. كل هذا وقع عند انتهاء سنة 1935. وفي شهر إبريل من هذه السنة نفسها شيد بمعاونة الحكومة مسجد آخر في توكيو. وهنا ألقى السيد ميان عبد العزيز خطبة بليغة سياسية جاء فيها قوله:(إن اليابان قد وفقت الآن لسلوك الطريق المؤدي إلى إنشاء الدولة الأسيوية العظمى، وسيكون الإسلام في طليعة هذه الحركة).

لم تكتف الحكومة بكل هذا التنشيط لهذه الحركة الجدية، بل قررت في سنة 1936 عقد مؤتمر إسلامي في توكيو، فكم بهذا قد أسدت إلى الإسلام من خدمات! وقد رفع الشاعر الكبير السيد عبد الرحيم بك قليلات تقريراً ضافياً عما رآه وشاهده أثناء مكثه في تلك البلاد من ازدياد نمو تلك الحركة. من كل هذا نرى دون مبالغة أن البلاد اليابانية حقاً هي الأرض الموعودة للدعاة المسلمين، ونرى أنهم أتوا في الوقت المناسب للقيام بمهامهم. والظاهر أن الحكومة اليابانية تحبذ كل شيء ينتسب إلى الإسلام. وحسبك ما ذكرناه دليلاً

ثم لنر الآن ما هي البواعث على إنماء الحركة الإسلامية في بلاد مثل اليابان؟. أما من ناحية المسلمين فالأمر بين، وذلك سعيهم لتعميم الإسلام في جميع البلاد الآسيوية. وقد ظهرت بوادر هذه الحركة من بعد الحرب العظمى؛ وظاهر هذه الحركة عند العامة مسألة دينية مخضة، ولكن الزعماء يقصدون من ذلك مقصداً آخر سياسياً. فأن الرئيس بقوله:(إن اليابان الآن في طريقها نحو تحقيق إنشاء دولة آسيوية عظمى الخ) قد نحا منحى سياسياً محضاً.

ص: 17

أما الأمة اليابانية فأنها تعلل الباعث لها على ذلك بأنه هو حبها للتسامح مع الأديان، كما صرح ساستها به مراراً ونطقت بذلك قوانينها. فالحكومة تتصنع التظاهر بذلك والساسة البارزون ورجال الحربية وغيرهم يظهرون ميلهم إليه لبساطة تقاليد هذا الدين ويسره متأثرين بقول فيلسوفهم أوهارا عندما أكد لهم ذلك في خطابه:

ولماذا لم تجب الحكومة مطالب المسلمين في بادئ الأمر؟ قد تساءلت عن ذلك الجرائد اليابانية نفسها فأنكرت أولاً أن تحول الأمة نحو الإسلام بسبب إحساس عام طرأ على أفرادها، وكان الذي حملها على ذلك القول هو توجه تلك الأمة بأجمعها نحو ذلك الدين عند افتتاح مسجد كوبا ودرس القيصر نفسه للقرآن. ثم عللته بعد ذلك بأنه إنما هو نتيجة تأثير الدعاية التي قام بها المسلمون القاطنون فيها، ولكن للتأثير عليهم بذلك يلزم مضي وقت طويل، إذ أن اعتناق دين جديد عند اليابانيين أصعب منه عند الأوربيين، فدخولهم فيه لم يكن بسبب شعور قومي عام ولم يكن كذلك بدافع الاعتقاد الديني الخالص.

إذا فكر المرء قليلاً ونظر إلى مطامع اليابان في بلاد الصين وما حواليها من البلدان الآسيوية التي يقطنها 260 مليوناً مسلماً - ويوجد في غرب بلاد الصين 30 مليوناً مسلماً - ثم إلى سياسة المسلمين الذين يدمجون كلمة تعميم الإسلام في كلمة توحيد الآسيويين، وقابل بين هذا وبين محاباة اليابان وتحبيذها لتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم ومحاباة زعمائها، وعلاوة على ذلك أن أغلبية المحبذين لها هم من السياسيين البارزين ورجال الحربية والرأسماليين الكبار - لاستنتج معنا أن تلك المحاباة لم يقصد منها إلا تحقيق مطامعهم السياسية وأمانيهم في الإمبراطورية الآسيوية العظمى. ولم يكن اختيارهم للدين الإسلامي لمزية فيه لا توجد في غيره من الأديان، بل إن كل دين عندهم من هذه الوجهة في درجة واحدة، إلا أن الإسلام تميز عن غيره بكثرة المعتنقين؛ واليابان تؤمل بهذا وجود جبهة قوية لها أمام الأشتراكية، ورابطة متينة لبناء الوحدة المزمع إنشاؤها.

أما كون الحكومة في السنتين الأوليين لم توفق إلى تلك النظرية - أو أنها لم ترد الاعتراف بها - فذاك بحث آخر؛ ويحتمل أن يكون لزعماء المسلمين يد في حملها على الاعتراف بنظرية نشر الدين الإسلامي لترويج تجارتها في تركيا وفي أواسط آسيا. وقد وفقت إلى ذلك وقدرت على مزاحمة الصادرات الأوربية ونالت إقبالاً كبيراً من البلاد الإسلامية كبلاد

ص: 18

العرب والأفغان وإيران. وما دامت اليابان ترى حاجتها في الإسلام للوصول إلى تلك الأغراض فضررها سيكون بليغاً على الديانة النصرانية.

إن الإسلام يعقد في مساعدات اليابان له أماني ذهبية، واليابان بدورها تنتهز هذه الفرصة لإشباع مطامعها السياسية والتجارية. وقريباً يظهر هل تلك الأمة حقيقة راغبة في اعتناق ذلك الدين، أو يظهر ما أخفته وراء تلك المجاملات.

(المرشد - سورابايا)

ص: 19

‌من تاريخ الأدب المصري

أحمد بن يوسف

المعروف بأبن الداية

للأستاذ محمد كرد علي

(لاحقة)

ليس ما نشرته (الرسالة) لي في عدد 215 هو كل ما عُرف من أخبار أحمد بن يوسف الكاتب. فقد ذكر من ترجموا له أن أباه يوسف بن إبراهيم كان من ذوي المروءات التامة والعصبيات المشهورة، وأنه كان كاتباً مجيداً يعد من كتاب الطبقة الأولى، وأنه ولد داية أبن المهدي، وكاتب إبراهيم بن المهدي ورضيعه وصاحبه، وأنه صنف كتاباً في أخباره وفي أخبار المتطببين وغير ذلك، وأنه قدم دمشق سنة 225، ولعلها كانت سنة هجرته من بغداد إلى مصر. وذكروا أسماء من روي عنهم ورووا عنه؛ وممن روي عنهم من غير المسلمين جبرائيل بن بختيشوع الطبيب وعيسى بن حكم الطبيب

وكان يوسف بن إبراهيم من أصحاب الثروة يجري على كثرين في الفسطاط. ولما حبسه أبن طولون في (بعض داره، وكان اعتقال الرجل في داره يؤيس من خلاصه، فكاد ستره أن ينتهك لخوف شمله عليه) جاء جماعة من أبناء الستر إلى أحمد بن طولون وطلبوا إليه أن يقتلهم إذا كان معتزماً على قتله، وقالوا إن لهم ثلاثين سنة ما فكروا في ابتياع شيء مما احتاجوا إليه ولا وقفوا بباب غيره. وفي الساعة التي توفي فيها يوسف بن إبراهيم بعث أحمد بن طولون أيضاً بخدم فهجموا الدار وطالبوا بكتبه (مقدرين أن يجدوا كتاباً من أحد ممن ببغداد، فحملوا صندوقين وقبضوا على أحمد وعلى أخيه، وصاروا بهما إلى داره، فأدخلوهما إليه وهو جالس وبين يديه رجل من أشراف الطالبيين، فأمر بفتح أحد الصندوقين، وأدخل خادم يده، فوقع على دفتر جراياته على الأشراف وغيرهم، فأخذ الدفتر بيده وتصفحه، وكان جيد الاستخراج، فوجد أسم الطالبي في الجراية، فقال له وأحمد يسمع: كانت عليك جراية ليوسف بن إبراهيم. فقال: نعم أيها الأمير، دخلت هذه المدينة وأنا مملق، فأجرى عليّ في كل سنة مائتي دينار، أسوة بابن الأرقط والعقيقي وغيرهما. ثم

ص: 20

امتلأت يداي بطول الأمير فاستعفيت منها)

هذا الوالد هو الذي أنجب أحمد بن يوسف. وأنت ترى أن أحمد بن طولون كان يتخوف منه، لمكانته واتصاله الوثيق بالبيت العباسي وربما وقع في خاطره أنه عينٌ عليه، في زمن كان فيه أبن طولون يرمي إلى نزع يده من الخلفاء وتأسيس ملك في مصر يكون له ولعقبه على عنق الدهر.

ولذا كان أبن طولون حذراً يقظاً وقد أتخذ أساليب مهمة لأخذ الأخبار، واتقاء عادية كل من طرأ على مصر، وعنده أن كل غريب يجعل تحت الترقيب، ولا سيما إن كان عراقياً أو يمت إلى السياسة بأدنى سبب.

تثقف أحمد بن يوسف ثقافة أبناء الأعيان في عصره، فجاء كاتباً شاعراً رياضياً منجماً أو هو كما وصفوه (مجسطي إقليدسي) حسن المجالسة والعشرة تام المروءة كأبيه، وصار له اتصال دائم بأرباب الدولة ومنهم عظماء في الأدب والكتابة والفقه والطب والهندسة والفلك لم تتعرض كتب التراجم لهم، مثل على المتطبب المعروف بالديدان وقال فيه إنه كان (حسن المعرفة لكتب أفلاطون ورموزه ومبرزاً في الطب) وكان على صلة بالمهندسين واستفدنا من كلامه أنه كان لهم في بغداد موضع يجتمع فيه وجوه العلماء بالهيئة والهندسة في دار العباس بن سعيد الجوهري ترب المأمون

ولم نعرف حقيقة الديوان الذي كان يعد من كتابه أو من رؤسائه، فأن أبن النديم وصفه في الفهرست بالمهندس المصري، وقال إنه فسر كتاب الثمرة، وكتاب الثمرة من تأليف بطليموس أما سائر كتبه فقد ذكر منها ياقوت في معجم الأدباء طائفة صالحة، ومنها سيرة أحمد بن طولون وسيرة أبنه خُمارَوَيْه وسيرة هارون أبن أبي الجيش، وأخبار غلمان بني طولون، وكتاب أخبار الأطباء، وكتاب مختصر المنطق ألفه للوزير العالم الكاتب العف علي بن عيسى، وكتاب ترجمته، وكتاب أخبار المنجمين، وكتاب أخبار إبراهيم بن المهدي، وكتاب الطبيخ. وكل هذه الأسفار فقدت، ولولا أن عثر له في الأعوام الأخيرة على كتاب (المكافأة) بل على جزء منه لغطى الزمن على فضل أحمد ونبوغه في الكتابة أيضاً. وكم من رجل سدل على صيته القناع بعد قليل من رحيله لفقد ما كتبه وقلة أنصاره، وربّ رجل تضاعفت شهرته في مماته أكثر من حياته لإغفال حساده أمره بعد موته ولكثرة

ص: 21

من أشادوا بعلمه وأدبه وإبداعه.

وإذا كتب لأحمد بن يوسف أن تدرس حياته وأدبه دراسة أدبية، وتهيأ لبعض المتفرغين من الباحثين أن يجمعوا طائفة من كلامه، وهو قليل في المطبوعات التي بين الأيدي، ولا يبعد أن يعثر له على أشياء في بعض المخطوطات - يسهل على نقاد الأدب أن يسلكوه مع سمّيه أحمد بن يوسف الكاتب وزير المأمون في سلك واحد، وربما يثبت لهم أن أحمد بن يوسف المصري أوسع علماً من سميه البغدادي بما أصابه من الحظ العظيم من الثقافة التي تنم عليها أسماء مصنفاته فقط. وكيف لا تتأفق شهرة الكاتب البغدادي واتصاله كان بأعظم خليفة، وكيف لا تضؤل شهرة الكاتب المصري وصلته كانت ببيت يعد في عرف السياسة يومئذ خارجاً على الخلافة؟ وبغداد في ذلك العصر يحمل إليها كل جميل ويعد ما يحمل منها جد جميل

إن كتاب (المكافأة) بأسلوبه ورشاقة بلاغته من أبلغ ما كتب كتاب العرب في القصص، يشبه أسلوب أبن المقفع فهو من غراره في السلاسة وعدم الكلفة. وقد نقل فيه شيئاً من القصص عن والده وعن رجال البلاط الطولوني وغيرهم وعن أبن المقفع وقال إنه (مما نقله أبن المقفع عن الفرس وتعالمه العرب)

روي لي أحد أصدقائي أن حافظ إبراهيم رحمه الله أستظهر هذا الكتاب في سنة نشره وقال لي الأستاذ عبد العزيز البشري إنه قرأه ثلاثين مرة وما أرتوي من ديباجته. لا جرم إن بلاغة أحمد بن يوسف من النوع الذي لو راهنت على أنه ليس في وسع جهابذة النقد أن يسقطوا لفظة من جملته لربحت الرهن، وصدقك الأدباء في قولك بتفرده في أسلوبه، وأنه بلا جدال المفرد العَلَم بين من أنبتتهم مصر من الكتاب في الدهر الغابر

وبعد فمن عجيب ما فهمناه من حياة أحمد بن يوسف أنه كان يحاذر محمد بن سليمان لما دخل مصر في سنة 292 للقضاء على الدولة الطولونية، وكان يستدعي (الواحد بعد الواحد من أسباب الطولونية ويستصفي ماله بالسوط وعظيم الإخافة). وكان الطولونيون يعرفون أن هواه مع بني العباس بالطبيعة ويراقبون حركاته، وما ندري وهو الذي جمع سيرة دولتهم ورجالها إن كانوا راضين عما كتب أم غير راضين؟ لأن حرية القول ظاهرة في كلامه من كتاب المكافأة، ولا شك أن سائر ما دونه من تاريخ القوم من هذا النمط. مات

ص: 22

أحمد بن يوسف سنة نيف و 330 وقال ياقوت وأظنها 340

وسواء صحت الرواية الأولى أو الثانية فإن الظاهر أن أحمد أبن يوسف عُمّر طويلاً لأنه يروي عن رجال عرفهم في أيام أحمد بن طولون، وهذا هلك في سنة 272 والظاهر أنه كان صاحب مزارع انتقلت إليه من أبيه ومنها ما كان على مقربة من المحلة الكبرى

محمد كرد علي

ص: 23

‌الظاهرة الهامة وتأويلها

للأستاذ محمد أديب العامري

من الناس من يموت فجأة، فهذا يقف قلبه عن النبض لتوقف الأعصاب التي تحركه، فلا يصل الدم إلى أجزاء ألجسم، فتهبط الحرارة ويقف الغذاء ويسكن الجسم، ثم ينحل من بعد. وهؤلاء لا يعانون دور النزع الذي يسبق انقطاع المرء عن الحياة؛ ومن ثم لا يصاحبهم بالطبع هذيان النزع الأخير،

ومن الناس من يموت متدرجاً ببطء شديد؛ فإذا تقدم في السن إلى حد بعيد تصلبت أوعيته الدموية، وتيبست عضلاته، وتعب جهازه العصبي، وأضاع كثيراً من رشده. ومن المعتاد في مثل هؤلاء أن يفقدوا شيئاً من قواهم الشعورية التفكيرية قبل موتهم بأشهر، بل بسنين؛ فيصرحون بأشياء لا يصرح بها الإنسان السوي عادة، ويتحدثون أحاديث تحمل الناس على اعتبارهم مجانين، أو أشباه مجانين.

ولكن أكثر الناس يموتون في فترة، لا هي قصيرة كالفجائية، ولا هي زائدة الطول كما هو الحال في (الموت التدريجي). فهؤلاء يقعون في المرض فيؤثر المرض على بعض أجزاء أجسامهم؛ وهم أثناء ذلك يحتفظون بقواهم العقلية من شعور ووعي وتفكير؛ فإذا أستفحل المرض أثر على الجهاز العصبي فعطل قوته الواعية (الشعور) وتحكم في المريض جزء آخر من قواه العقلية، وهذا الجزء هو المسئول فيما أعتقد عما يظهر على المريض من هذيان.

وقبل أن نتوسع في شرح ما يقع للمريض في هذه الحالة وحالة (الموت التدريجي) أحب أن أتعرض قليلاً لعمليات العقل الإنساني، ففي هذه العمليات التأويل المرجح لظاهرة الهذيان التي تسبق الموت.

عقل الإنسان هو عبارة عن قواه المدركة التي يسميها علماء النفس (الشعور) مضافاً إليها قواه الفكرية الأخرى التي يسمى بعضها (شبه الشعور) ويسمى بعضها (اللاشعور) أو (العقل الباطن). فعندما تكتب مقالة فأنت تفكر تفكيراً عنيفاً مقصوداً وموجها، وهذا العمل نوع من الأعمال الشعورية وعندما تحل مسألة رياضية أو عقلية فأن عملك هذا يعتبر من نوع الشعور كذلك. والأعمال الشعورية التي يعملها الإنسان قليلة وإن ظهر أول الأمر أنها

ص: 24

كثيرة. أما المشي فمن أعمال المرء شبه الشعورية. فإنك عندما تقصد من بيتك إلى السوق تطلق رجليك دون تفكير شعوري واع في الشوارع والمنعطفات. وآية ذلك أنك تستطيع أن تقوم بعمل عقلي شعوري أثناء المشي، وعمل اللاشعور من أعمال العقل التي نظن عادة أنه أقلها أهمية ولكنه في الواقع أكثرها إشغالاً لقوانا العقلية وأكثرها دلالة على حقيقة شخصياتنا. فأنت تكون تعمل عملاً شعورياً متعباً فلا يلبث تفكيرك أن ينصرف إلى أفكار خيالية بعيدة الوقوع. فأنت ترى نفسك وقد غنيت أو امتلكت أملاكاً عريضة، أو تزوجت من فتاة جميلة، أو حصلت على شهادة عالية وأنت لابث مكانك لم تنفض يدك من عملك. وتنصرف حالاً إلى الانتقام من خصومك أو التحبب إلى أصدقائك على نحو لا يتأتى لك حين تفكر في أساليب هذا الانتقام أو التحبب ويقع ذلك أثناء اليقظة وتسمى هذه الأفكار (أحلام النهار) فإذا ما نمت تعطل معظم التفكيرين الشعوري وشبهه وأنطلق اللاشعور يعمل عمله. فأنت في النوم طائر مرة، محارب أخرى، مسافر ثالثة. وبالجملة يقع لك ما كنت ترغب في تحقيقه فأمتنع عليك فأنشغل به اللاشعور بعد أن أعرض الشعور عن حمل المرء على تحقيقه. وأهم ما يجب أن يعرف من هذا هو أن (أحلام النهار) والأحلام العادية وعمل النفس اللاشعوري إنما يكون أهمها في رغبات الإنسان المكبوتة، وما كان يعمله لو أتيحت له الوسائل. ومن هنا ترى أن أكثر أعمال المرء في يقظته ونوعه إنما هي أعمال لا شعورية

والذي يلاحظ المريض المقبل على الموت يرى أنه ينتقل من وعيه الكامل إلى هذيانه شيئاً فشيئاً، فهو يهذي بادئ الأمر شيئاً قليلاً بينا يتخلل هذيانه تفكير واع، ثم يتمادى في الهذيان حتى يطغى الهذيان عليه، فلا يكون كلامه إلا خليطاً لا يتصل بالشعور أو شبهه بسبب. والإصغاء إلى المتوفى في هذه الحالة دراسة مهمة لشخصيته وتفكيره ومتاعبه. لأنه يفكر آنئذ بلا شعوره ويعطيك نفسه غير مغلقة ولا مصطنعة. والأرجح أن جميع ما يصدر عن المريض له تعليل على هذا الأساس، أي أن هذيانه تفكير لاشعوري.

وأحسن ما تشبه هذه الحالة بالنوم، فالنوم في الواقع شبه موت مختصر، تثور فيه رغبات المرء المكبوتة ومخزونات اللاشعور العديدة على صورة أحلام. والذين تجري أحلامهم على ألسنتهم أثناء النوم يتحدثون حديثاً يشبه الهذيان. على أن هذا الهذيان نفسه أصح دلالة

ص: 25

كما قلت على نفسيه النائم مما يصرح به أثناء وعيه الكامل عن شعور محكم مضبوط. ولهذا يعمد المحققون إلى مثل هذه الحالات ليعرفوا منها أسراراً يقصدون إليها. وهم لذلك يلجئون إلى طرق طبية خاصة توصلهم أحياناً إلى أغراضهم.

وأصغ إلى هذيان المريض تجد أنه يحدثك عن أهم المشاكل التي كانت تعترضه في حياته. ويساعدك على تحقيق هذا معرفة بالمريض تكون قد أطلعتك على أحواله الخاصة. ومع أن هنالك ما يؤيد أن المريض إذا أقبل على الموت عرف ذلك، فأن هذا لا يدل على أن المريض يرى شيئاً من الحياة الثانية ويتحدث عنه، إلا إذا كان هو من شديدي الإيمان بهذه الحياة والعناية بها والتحدث عنها بحيث أنها تشكل في عقله قسماً من أفكاره اللاشعورية التي يتحدث عنها وهو يهذي. ونحن هنا يجب أن نلتمس التأويل الممكن لحديث بعض المحتضرين عن أناس توفوا قبل.

فما قيل من أن مختضراً (كان يتحدث إلى الموتى كما لو كانوا منه على مرأى وعلى مقربة) سهّل التأويل على أساس نظرية اللاشعور. وأما أن هنالك (حالات هتف فيها المحتضر باسم شخص مات ولم يكن المحتضر يعرف أن ذلك الشخص قد مات) فقول يحتاج بعد إلى تحقيق شديد. فالمرء قد يختزن في لا شعوره معلومات لا تكون في متناول شعوره دائماً، فهو ينكر معرفتها في حال وعيه وشعوره في حين أنها ترد على خاطره حين يتيه فكره لا شعورياً، فلا يكفي قول رجل لك عن أمر إنه لا يعرفه دلالة على عدم معرفته، إذ المرء نفسه قد يجهل أنه يعرف شيئاً مختزناً في اللاشعور.

وإذا أريد الوصول إلى قرار علمي صحيح في هذه الظاهرة فلا يجب أن تحمل أقوال المحتضر على شيء خاص حين يمكن حملها على معانٍ طبيعية عادية. فقول مريضة محتضرة عن شقيقة لها سبقتها إلى الموت دون أن تعلم (انظروا هذه هي شقيقتي إنها تقول أنها ستكون معي. لماذا لم تخبروني بذلك؟) قول لا يدل دلالة قاطعة على أن الشقيقة المحتضرة عرفت قبيل موتها عن موت أختها، كما يتضح من التآويل التي يمكن أن يؤولها هذا الكلام بصورة طبيعية، أن العمْد إلى تآويل روحية غير مستندة إلى ما يعتمد عليه العلم من وسائل الإثبات لا يزيد إيضاح هذه الظاهرة شيئاً، بل يزيدها تعقيداً

هذا - ولا ريب أن المريض يعرف قبل الموت بزمن، قصر أو طال، بأنه سيموت.

ص: 26

والرجل المسن الذي يرى قواه العقلية تنحط وقواه الجسدية تذهب، هو رجل يموت في الواقع، وهو يعرف أن انحطاطه هذا آيل به إلى الموت. فعندما يقع خلل في أحد أجهزة الجسم المهمة يتحقق الموت ولا سيما إذا كان عالماً بشيء من طبيعة الحياة. والإنسان المريض الذي يقبل على الموت يعلم قبيل موته في الغالب أنه سيموت، لأن الانحطاط الشديد الناتج من اختلال العمل في بعض الأجهزة كما مر لابد وأن يشعر المرء إشعاراً داخلياً بيناً بأن الخيط الذي يصله بالحياة وشيك الأنبتات، فلعل هذا هو الذي ينقله إلى التفكير اللاشعوري في الحياة الثانية وفي معارفه الذين سبقوه إليها.

(عمان)

محمد أديب العامري

مدير مدرسة عمان الثانوية

ص: 27

‌فردريك نيتشه

للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف

تتمة ما نشر في العدد الماضي

وفي سنة 1874 كتب نيتشه في مذكراته (إن ديني - إن كان لي بشيء يصح تسميته بذلك - لا يتعدى العمل لمنتجات العبقرية. أما الفن فهو التربية التي تحقق ما نأمله في الحياة وبذلك تهون علينا الحياة بما فيها من ألم.) وذكر نيتشه في نهاية الجزء الرابع من كتابه (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) في فصل (عن روح الفنان والأديب) كلاماً بلهجة اليائس، إذ أعتبر الفن في تدهور وانحلال - ولعله كان يتحدث في ذلك عن نفسه بالذات. فقد حمل نيتشه على الفنانين الذين يحجمون عن النظر إلى المثل العليا، ويكتفون بالنظر إلى أعمالهم فقط. ولهذا أنقلب على الفنانين وراح يمجد العلماء الذين يعملون للفكر، فكل عالم أصبح في نظره (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد). وهكذا بدأ يشيد بسقراط الذي كان قد نعته من قبل (بقاتل التراجيديا) وأتخذه مثلاً أعلى له.

وعد نيتشه بعد كتابه الأخير من الحكماء البلغاء القابضين على ناصية المنطق والخيال والقول الحكيم. وكان في جده صارماً وفي لذعه قارصاً وفي مزحه ظريفاً. وهو إذا ما غضب بلغ حد الغضب، وإذا ما عمد إلى اللعب نسي نفسه، وإذا ما رقص تفانى في الرقص، وكان الرقص أحب الأشياء إلى نفسه. وكان نيتشه يرى في نفسه رأس حكماء الألمان ويعتقد بأن أسلوبه هو الأسلوب الخالد، إذ في وسعه أن يكتب في عشرة جمل ما لا يكتبه غيره في كتاب كامل. وكان قد قرأ من الألمان ليشتنبرج (هينه) ومن الفرنسيين مونتاني وفونتنل وشامفور وغيرهم. وكان يجد للفرنسيين آراء صادقة لم تجتمع في كافة كتب الفلاسفة الألمان.

وتخطى نيتشه في سنة 1881 تلك الأزمة التي عاجلته بعد كتاب (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) وكتاب (آراء وحكم مختلفة) وكتاب (الهائم وظله) وأحس بأنه قد أسترد قواه الجسمانية والروحية بعد أن جال في التيرول وفي جبال الألب وفي شمال إيطاليا.

ص: 28

ورأي نيتشه أن الحياة تفتحت له من جديد، إذ أخذ يدرك الأشياء على حقيقتها بعد أن زال عنه الغشاء. وقد أدى به تجواله إلى هيامه بتلك البلاد الجنوبية هياماً ضارع حبه لوطنه. ومن ثم أصبح شخصاً آخر لا يؤمن بوطن خاص، وصار (أوربياً) لا يفرق بين شعب أو وطن، حتى لقد قال (لكي تكون ألمانيا صادقاً، يجب أن تنتزع النعرة الألمانية من صميمك). كذلك قال: (إن الألمان هم رجال الأمس البعيد وسيصبحون رجال الغد البعيد، أما أنهم رجال اليوم فلا!) وما ذلك إلا لتعهدهم بتربية العاطفة بدلاً من تعهدهم تربية الفكر. وألمانيا في اعتبار نيتشه أحط مستوى من بقية دول أوروبا في الناحية الثقافية. ولم يشعر نيتشه بأنه ألماني إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعته (الأوربية الصادقة) فهو ألماني كما هو بولوني أو أيطالي أو غيرهما. ولعل حياته الأولى ومحيطه الذي عاش فيه ساعداه على أن يكون ذلك الرجل

وإذا كانت أعمال (أفلاطون) و (أسبينوزا) و (بسكال) و (روسو) و (جيته) قد أحدثت تطورات في الفكر البشري كما يقول نيتشه فأن كتاب (شفق الصباح) الذي أخرجه نيتشه عام 1882 وجعل له عنواناً آخر هو (أفكار عن الأحكام الخلقية) أحدث هو الآخر تطوراً في الفكر البشري. وفيه عالج المسائل الأخلاقية، فمثلاً كتب عن العادات المستحبة. وتساءل: ما هي العادة التقليدية؟ فقال بأن العادة التقليدية هي الخضوع إلى ما يضاد العادات الغريزية. وقال بأن على الناس أن يتعلموا من جديد، وعليهم أن يرفضوا ما أتفق عليه العالم من عادات تقليدية، إذ لا يوجد (عدل أبدي)، ولهذا فهو ثائر على كل اعتبار، حتى الاعتبارات الدينية المسيحية. وأعقب كتابه هذا بآخر عنوانه العلم المرح وقد حاول فيه أن يحرر الإنسان من قيوده المكبل بها، ويبعده عما لحق به، كيما ينتعش فكره. ولم تمض أربع سنوات أخرى حتى أخرج كتاباً آخر عنوانه (لغة الريح الساخن)(الذي من شأنه أن يذيب الثليج) - والكتب الثلاثة الأخيرة تمم بعضها بعضاً. وفيها من غريب الآراء في الأخلاقيات ما لا يصح تلخيصه في مثل هذه العجالة.

وعثر نيتشه في قراءاته على (زرادشت) فيلسوف الفرس الأقدم ومعلمها الأول والحكيم الخالد الذي عالج كل مسألة. فأتخذ من أسمه شخصية تملى على الناس آراءه الخاصة. فأصدر في فبراير سنة 1883 الجزء الأول من كتاب (زرادشت). ولم يكن نيتشه في

ص: 29

حاجة إلى أكثر من عشرة أيام لوضعه، فجاء في أسلوب من الشعر المنثور الذي لا يجارى. وكتب كتابه هذا أثناء تجواله في طريق (زاوجلي) الذي يطل على خليج (رابللو) بالقرب من (جنوه) هنالك نزل على نيتشه وحي ذلك الكتاب الذي أختار له أسم (كتاب للجميع ولغير أحد) وجعل له عنوناً آخر (هكذا قال زرادشت) ، كذلك أتم الجزء الثاني والثالث منه في عشرة أيام أخر. فكتب الجزء الثاني في بلده (سلز ماريا) بين أواخر يونية وأوائل يولية من عام 1883 وأتم الجزء الثالث في يناير سنة 1884 في مدينة (نيس). أما الجزء الرابع الذي كتبه لأصدقائه فقط فقد أقتطع من وقته زمناً أطول. وكان نيتشه أثناء وضع هذا الكتاب على أتم ما يكون من عافية وصحة. وكان لا يسأم السير في الجبال التي كانت توحي إليه بكل ما يكتب كما أن البحر الممتد أمامه كان له أثر في ذلك الوحي. ولقد كتب (زرادشت) كما لو كان يرقص أو يلعب. فقد قال بلسانه (كان من السهل أن يراني الناس راقصاً. وكنت لا أعرف للتعب معنى. فقد سرت في الجبال عدة أيام، وفي كل يوم أسير سبع أو ثماني ساعات متوالية، وكنت أنام ملء جفني، وأضحك من كل قلبي. لقد كنت مستكمل كل معدات الحياة والفكر صبوراً. وكان هذا العهد يختلف عن تلك الأيام التي كتب فيها (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) اختلافاً كلياً

وكم كان نيتشه شكوراً في كتابه الرجل الطيب الذي أتى فيه بشيء من مذكراته لعام 1888.

ويعتبر كتاب (زرادشت) الذي وضعه نيتشه في رأي بعض النقاد ومنهم بيتر جاست (من الكتب الواجب تقديسها). وقال نيتشه نفسه فيه (إنه نوع أنيق من الدعاية للأخلاقيات.) بل هو (شعور نبي). (وهذا الكتاب رقص وموسيقى، هو ألحان جميلة وحكم غالية، هو العاصفة والهدوء، هو المرح الكامل والظرف والغضب، وهو إلى جانب ذلك مرعب ومخيف، إذ فيه أسرار دفينة.) وإنه (كالغابة والليل والأشجار أي مجمع الظلام، فمن لا يخاف ظلمته سيجد فيه زهوراً ورياحين) هذه هي كلمات نيتشه في كتابه الذي كان يعجب به ويسميه (قرار المحيط). وكتاب زرادشت هذا يعد بأجزائه الأربعة صباح وظهر وعصر ومساء اليوم الذي سيولد فيه الإنسان الكامل أو السوبرمان كما أسماه. وهذا الإنسان الكامل قد تخيله نيتشه في كتابه (العلم المرح). ولهذا الإنسان وحده حق الحياة ومن أجله

ص: 30

تحمل نيتشه مضض الحياة. أما الإنسان الراقي الذي تكلم عنه في كتابه (زرادشت) يختلف عن الإنسان الكامل الذي جاء بوصف له في الجزء الرابع. ولا داعي للاسترسال فإن (الرسالة) تترجمه في التحدث عما يتضمنه كتاب (زرادشت)، ونكتفي بما أشرنا إليه لنتحدث عن أسلوب نيتشه في هذا الكتاب. فقد نهج فيه نهجاً فريداً. وكان نيتشه قد كتب إلى (روده) إمام اللغة في ذاك العصر يسأله إن كان هناك في اللغة الألمانية أسلوباً يضارع أسلوبه في زرادشت من حيث القوة، وإن كان يعتقد بأن اللغة الألمانية بلغت أقصى شأوها على يدي جيته ولوتر ويقول نيتشه

(إن أسلوبي هو الرقص، هو لعب متجانس في كل أشكاله، كذلك هو القفز والاحتقار لكل تكرار) ويعد كتاب (زرادشت) أكثر كتبه انتشاراً وأبعدهم أثراً وغوراً، وفيه تتجلى شخصيته وشاعريته. وهو يقول عنه:(إن هذا الكتاب أنشودة الليل - وفي الليل تجيش كل فوراة بصوت أعلى. كذلك روحي هي الأخرى فوارة.) وقال نيتشه على لسان زرادشت متحدثاً إلى شخصه: (إنني جوال أتسلق الجبال) كذلك قال: (إنني لا أحب المنبسط من الأرض، وقد تبينت أنني لا أستطيع الهجوع إلا يسيرا. ولا أنتظر من القدر إلا أن أبقى هكذا جوالا أتسلق الجبال) وهذا الشعر الرمزي هو طابع كتاب (زرادشت) العظيم.

ولنتيشه في هذا الكتاب شاعرية فذة، فهو في بعض الأحايين يخجل من أن يكون شاعراً، لأنه قد يكذب مع علمه بكذبه، ومع رغبته في الكذب. ولهذا فهو يأبى أن يكون من طبقة الشعراء الذين لا ينظرون إلى أعماق الأشياء وأعماق الحياة. أما أنه كان ميالاً إلى التلاعب بالكلام والصور في شعره فذلك لا ينكره أحد. وكان نيتشه رومانتيكي النزعة الأدبية، ولكنه كان يأبى أن يعرف عنه ذلك، هذا إلى أنه كان عدواً لدوداً للأدب الرومانتيكي، ومع ذلك فقد كان كلاسيكياً في تذوقه للأدب. وكان من أنصار الإيضاح والتبسيط، يكره التفاصيل كما يكره التعقيد والتشكك. وكان يتذوق أدب (يونج ستلنج) وجيته وشتفتر وجيتفريد كلر وهم من غير نزعته. وكذا ظهرت هويته فيما لا يملكه.

وكان نيتشه يعمل في نفس الوقت الذي أخرج فيه كتاب (زرادشت) في تأليف كتاب آخر أظهره سنة 1886 تحت عنوان (ما وراء الخير والشر) وهو مقدمة شبه مسرحية لفلسفة المستقبل، وقال عنها نيتشه بأنها طريق ممهد لأرض زرادشت الموحشة الخطرة. وهو

ص: 31

يختلف مع كانت في تفكيره إذ يتساءل: لم الاعتقاد في مثل هذه الأحكام عن الأخلاقيات؟ وفي رأيه أنه لا يوجد مظاهر أخلاقية، ولكن توجد تعابير أخلاقية للمظاهر. وكما يوجد لطبقة السادة تعاليمهم الأخلاقية، كذلك يوجد لطبقة العبيد تعاليمهم الأخلاقية الخاصة بهم. ولهذا فالخير والشر أشياء تتغير معانيها بتغير الزمان وتغير البيئة. ويرى نيتشه (أن التعاليم الأخلاقية لطبقة السادة كانت قد اختفت من أوربا ألفي سنة إلا أنها رجعت في عصره، وكانت قد بلغت أوجها حينما وصل نابليون أسمى مجده. وفي رأي نيتشه أن الخير لا يوجد إلا عند الفقراء الذين لا قوت لهم، وعند الضعفاء الذين لا حول لهم، وعند المرضى والقبحاء وهؤلاء جميعاً هم المتدينون)

وكان نبتشه قبل إصداره كتابه الأخير على وشك إتمام نصف كتابه الأعظم (قوة الإرادة لبلوغ الحكم ومحاولة قلب القيم جميعها)، وما يقصد نيتشه من (قوة الإرادة لبلوغ الحكم)؟ هو يقول:(إن الكائنات الحية تعمل قبل كل شيء أتظهر قوتها إذ الحياة هي قوة الإرادة لبلوغ الحكم) وهو يرى في الجزء الأول من هذا الكتاب الذي لم يتم وضعه أن اللاإرادة هي المسيطرة على مشاعر الناس. وبذا تسيطرت اللاإرادة على الإرادة للحياة. وفي الجزء الثاني من الكتاب نقد لكل القيم العليا: ففيه نقد للدين ونقد للأخلاقيات ومثلها العليا ونقد للفلسفة. أما الجزء الثالث فقد جعله كتاباً خاصاً بمبدأ تقرير القيم الجديدة. وقد أعتمد في وضع قيمه الجديدة هذه على اللاإرادة التي أعتبرها أساس القوة وأساس السيطرة. ونظرته في الحياة هذه أصبحت عقيدة. فقال إن الإرادة أساس الحكم في الطبيعة، وهي أساس الحكم عند الفرد والجماعة، وهي أساس الحكم في الفن. أما كتابه الرابع فقد أراد أن يكون تمهيداً لتطور وازدهار هذه الفكرة. وينتهي الكتاب بالقسم الأخير منه الذي أختار له (العودة الأبدية) عنوناً. ولكن لسوء الحظ لم يتم نيتشه كتابه هذا، وكان الجميع يتوقعون أن يزدان به الأدب الألماني. ولم يكن هذا كل ما كان يريده نيتشه، بل لقد وضع تصميم كتاب آخر عن (الوحدة والانعكاف) في جزء خاص من كتاب (زرادشت) ولكن الأجل لم يمهله؛ ولم يعش ليرى أعماله تنتشر وتروج. وكانت سنة 1888 هي أكثر السنين التي أنتج فيها نيتشه مؤلفاته

وقد لاحظ النقاد في بعض كتبه الأخيرة انطفاء جذوة فكره، وبدت عليه أعراض الخبل،

ص: 32

وكان قد تملكه بعض الوقت. وقد جر عليه تطرفه - وليس في ذلك ما يعيبه - قسوة القدرة وإعراض الناس عنه، ففي أواخر سنة 1888 أصيب نيتشه بهزة عصبية شديدة، وبدأ جسمه بعد ذلك في الاضمحلال. ولكنه بقي حتى أواخر أيام حياته طيب القلب، شديد الصبر، كثير الأدب، مراعياً احساسات الناس كافة. وكان في سنة 1888 قد خيل إليه أن لابد له من أن يبذل أقصى مجهود فكريي فجمع أشعاره التي أسماها (أغاني زرادشت)، ومنها قصيدة (غروب الشمس) الخالدة. ومن من الناس لا يمجد (زرادشت) أو (الإنسان الكامل) حين يذكر أسم نيتشه؟

وبقى نيتشه حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر أغسطس عام 1900 يقاسي آلام مرضه حتى وافته المنية في مدينة فيمار ولم يكن في نظر الناس حين أرتحل إلى العالم الآخر إلا أديباً غريب الأطوار والأفكار. أما اليوم فله شهرة عالمية كأديب وفيلسوف. وقد كان نيتشه شاعراً مجيداً ذا عقل وثاب وإحساس فياض عميق، في حين أن بقية الشعراء لم يكن لهم إلا مجرد (نزوات مضطربة) وما كان نيتشه ليهمه اصطلاح الناس على تمجيده أو الاعتراف بفنه، فقد قال:(إن الطيبة لن تعود طيبة إذا لاكها الجار في فمه) فكيف حال الطيبة إذا لاكتها الناس عامة؟.

وكذا مات نيتشه، ولكن ما انقضت بعض الأعوام على وفاته حتى أخذ الأدباء والنقاد يشعرون بجبروت فكره ونبل غرضه. وكم من زعماء الأمم يتطلعون اليوم إليه كرائد لهم، ويستمدون الوحي من تفكيره! وكفاه بذلك فخراً.

إبراهيم إبراهيم يوسف

ص: 33

‌من تاريخ الأدب المصري

شعر القاضي الفاضل

للأديب محمد سعيد السحراوي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

المديح

هناك نوعان من الشعر قيل كلاهما في مناسبته، أحدهما يموت بموت المناسبة، التي قيل فيها، والآخر يخلد ويخلد معه هذه المناسبة، ومن النوع الأول شعر المديح، فشعر المديح عند القاضي الفاضل أقل شعره كمية وقيمة، ومنه قوله يمدح صلاح الدين:

جهادك حكم الله ليس بمهدود

وعزمك أمر الله ليس بمردود

سفينة نوح ما ركبت وعسكر

كطوفانه والشام بالفتح قد نودي

كأنّا ببحر الكفر قد غيض ماؤه

إذا ما استوت سفن لها القدس كالجودي

إذا سد باب الآذى فالجود نافذ

ويا رب مفتوح كآخر مسدود

وقوله يمدحه أيضاً:

صحا الدهر لكن بعد ما طال سكره

وما كان إلا من دم البغي خمره

أقمت عليه الحد بالحد ضارباً

بسيف إذا ما أهتز قد بان سكره

فمن كان ذا هم فقد زال همُّهُ

ومن كان نذر فقد حل نذره

فيا ملكا لا يملك الخطب صبره

كما أنه لا يجهل الدهر شكره

يجور على الهامات عادل سيفه

ويجري على أهل الأوامر أمره

لقد قمت في نصر النبي وآله

مقاماً على الرحمن قد حق أجره

سرى ملك الإفرنج ينصر جمعهم

فما ضرهم في نصرة الحق كفره

وما هي إلا آية نبوية

أقامت لهم بالنفع من خيف ضره

وعادتهم من قبل آية جدهم

فينصرهم من لا يؤمل نصره

وقال من موشح في مدح الفضل بن يحيى بن خالد:

دع اللوم يا عاذلي

فما أنت بالعادل

ص: 34

ولا تكثرن الكلام

وأقصر فهذا الملام

على الصب مثل الكلام

ولو قمت في كل عام

تلوم إلى القابل

فما أنت بالقابل

وليست هذه النماذج في مستوى شعره الآخر على ما أعتقد، وفيها تكلف ظاهر - وأكبر ما يلفت النظر في شعر المديح عند القاضي الفاضل أنه لا يبدأه - إلا في القليل النادر - غزلاً كما كانت عادة أسلافه، كما أنه لا ينزل به إلى المستوى الذي نزل إليه كثير من الشعر الأقدمين. وأقصى ما وصل إليه مديحه قوله:

لقد سالمتنا صروف الزمان

وما برحت قبلها عائدة

وأمطرت نوء الندى دائماً

فهزت به أرضنا الهامدة

وأسهرت عينك للمكرمات

فأقررت أعيننا الهاجدة

وأطفت حرارة آمالنا

مغانمُ إحسانك الباردة

وقوله:

وتلقى خطوب الدهر إن جد جدّها

بعزم مجد في عزيمة هازل

بفخر يرد النجم ليس بصاعد

وجود يرد القطر ليس بنازل

سماك فخار لا يسمى بأعزل

ولا لله ليس تُراع بعازل

أقول إذا ما جاء هل من مفاخر

كقولي إذا ما جدّ هل من منازل

وكم لك من يوم أغر محجل

ترد به قسرا نوازي النوازل

وكذلك قوله في مدح شجاع وزير الخلافة من قصيدة طويلة:

أما ومنك على أعدائك الطلب

فأن أعدى عدو عندنا الهرب

أنت الحياة التي ما بعدها رغب

أو الحمام الذي ما قبله رهب

فليس يعصمهم في الفلك ما ركبوا

وليس ينجيهم في الأرض ما ضربوا

وقوله في مدحه أيضاً:

لك المجد تردى عن عداه علاه

فأي رجاء قد عداه نداهُ

إذا شئت يوماً أن تراه فإنما

ترى ما ترى في النجم دون مداهُ

وجودك سحب والسحائب أرضها

فهذي البرايا لو علمت تراهُ

ص: 35

وأختم مختاراته في المديح بقصيدته الجميلة التي قالها في العزيز مستعطفاً ومادحاً ومصوراً ومعاتباً:

هذا الذي كنت به أُوعدُ

أنجز وعد الأمس هو اللغدُ

فالغد قد أعجلني حثه

عن أن أقول اليوم لا تبعدوا

مالك إلا اليوم في شدتي

أنت صديق وأنت أنت العدو

فليت لا كان لساني لمن

ليس له في كشف خطب يدُ

بدا به البخل فألحاظه

عطشى وفي ريقه الموردُ

تستشهد الأغصان في أنها

كعطفه اللدن وما أشهدُ

والناس حساد على وصله

وما ألوم الناس أن يحسدوا

إن شبهوه صنما فأنههم

فأنهم في الحب قد ألحدوا

وذلك الجمر على خده

يقبسك النور ولا يوقدُ

كأنما قام بمحرابه

من صدغه ذو خشية يسجدُ

يدعو لأيام العزيز التي

بالعدل في أحكامها تخلدُ

فكل أرض بالندى جنة

وكل دار للدعا مسجدُ

يا نعمة الله التي فضلها

يجحد إيمان الذي يجحدُ

تستنفذُ الآمال معروفه

وهو على المعهود لا ينفذُ

لله باب منك في أرضه

ما دونه ملجا ولا مقصدُ

ويستوي مورد معروفه

مسود هذا الخلق والسيدُ

عبدهم حر بإعتاقه

وحرهم بالجود مستعبدُ

كلهم أسرى ندى سرهم إنهم في كفه أعبدُ

الزهد

وشعره في الزهد وبكاء الزمان، والحنين إلى الأوطان كثير وأكثره في بكاء الشباب وذم المشيب وهو يقول من قصيدة:

فالعمر كالكأس والأيام تمزجه

والشيب فيه قذى في موضع الحبب

ويخاطب الشباب بقوله منها:

ص: 36

نار وإن لم يكن كالنار محرقة

فإن في الشعر منها آية اللهبِ

ولي صباه وأبقى شهب ليلته

والصبح ليس بمأمون على الشهب

يا ليلة ما أظن الصبح يذكرها

شيبت رأسي ورأس الفجر لم يشبِ

وخيمة العمر إن شد الصباح لها

عموده كان حبل الشمس كالطنب

ونحن نأمل أسباب الحياة بما

مثلته وأراه أضعف السببِ

وحجة العمر أكدار فأن غلطت

بالصفو دنياك فاعدده من النغبِ

يحبك الناس إن أمسكت عن طلب

والله يمقت إن أمسكت عن طلبِ

إن كان رزق بماء الوجه محتلباً

فرزق ربك يأتي غير محتلبِ

ويقول في الشيب أيضاً:

ما مع الشيب حديث في غزل

قد شغلنا منه بالضيف نزلْ

لست ممن ينزل الضيفُ به

فيراه الضيف عنه في شغلْ

وكذلك يقول:

بلغت أول عمري أرْزل العمر

فلم يزدني أشتعال الشيب في الشعر

والشيب والشعر كانا ساكني خلدي

وإنما انتقلا منه إلى نظري

أما خديعة أحلام أغر بها

في يقظتي فكر جاءت على فكر

كان الحمام أمام الصفو أرفق بي

من الحياة التي أفضت إلى الكدر

علا البياض قتور كان أوله

هذا البياض الذي يعلو على الشعر

فلليل ليل شباب المر إن سلكت

فيه المنيةُ لم يسلك بمعتكر

عمر الفتى ليلة والموت صبحتها

والشيب بين الدجى والصبح كالسحر

متفرقات له

وللقاضي الفاضل شعر غير قليل في الرثاء والهجاء والوصف والحكم وغير ذلك فهو يرثى العزيز فيقول مخاطباً قصره:

لئن صرت فوق الأرض أرضاً فربما

عهدناك من جوف السماء لنا سما

حكيت لنا بالأمس عنهم حقيقة

فأصبحت أنت اليوم ظناً مرجماً

عزيز علينا أن نراك على البلى

تراباً نهي المشغوف أن يتتيما

ص: 37

تصدى له من لا يراقب حرمة

ومن ليس يرعى للمكارم محرماً

وما ساءني أن ترحل الدار بعدهم

إذا ذهب الحامي فلا بقي الحمى

وقال هاجياً مازحاً:

ولقد رأيت وما سمعت بمثله

للبين بينهم غراباً أعصما

وجه عليه من القباحة مسحة

ظلم اليسار وقد رآه فأظلما

وعليه وجه قد أجيبت دعوة

فيه من الداعي عليه فأرغما

لو أنه ذنب لكان كبيرة

أو أنه طود لكان مقطما

لو شئت أن أرقى لنيل قرونه

لجعلت ذاك الكتف تحتي سلماً

وقال في كتم السر:

السر مالُ أو دم

في سحره لا في يديه

إن كان يكتم سره

كان الخيار به إليه

أو كان يفشي شره

كان الخيار به عليه

وقال من قصيدة:

وإن امرأ أنفاسه نحو قبره

خطاه لمحثوث المسير ولا يدري

وقال أيضاً:

يا خائباً بالمعاصي

كفيت عقبى الخلو

لئن أمنت الأعادي

فالنفس أدنى عدو

وقال في كتاب:

كتاب صحبت الأنس حين قرأته

كصحبة ما فيه من اللفظ للمعنى

هو الجوهر الأعلى وما قد رأيته

من الجوهر الأعلى هو العرض الأدنى

وقال:

لا يعجز الله هارب هرباً

سحابة مدرك إذا طلبا

أين يفر المغرور من أجل

ومن بلاء كلاهما كتبا

إذا رأى الشمس حوله اشتبكت

قال أداة تفيدني الغلبا

وهي بمنصوبها له شرك

وهو على نفسه به نصبا

ص: 38

يا موقد البغي إن موقده

لناره يصطلي بها حطبا

عمائم للسنان تلبسها الرم

ح وترخى لها الدما عذبا

وتسبح العدا بها قضبا

تخر يوم الوغى له القضبا

وله أيضاً:

سرت فكأن الليل قبل خدها

فأبقي به قطفاً وأسند عقربا

فما استغربت في موطن الحب غربتي

فهذا الدجى في صبحها قد تغربا

وقال يخاطب الليل:

فيا ليل ما افترق العاشقان

إذا كنت بينهما حاضراً

فقد جاءني هاجري أصلا

فلا يرجعن وأصلي هاجرا

وسرّبه غلتي واردا

ولا تفجعني به صادرا

ودعني أطارحه شكوى الفراق

واحفظ عهود الهوى ظاهرا

لعلك تعرف سر الغرام

فتصبح للمبتلى عاذرا

وتعشق بدرك عشقي البدور

وترجع مثلي بهم حائرا

فلا تبعث العجز قبل اللقاء

ولا تتبع الأول الآخرا

فكم في حواشيك من طائر

يقص به قلبي الطائرا

ويكسر صبحك لي عينه

فيا ليل دمت له كاسرا

هذه نماذج عرضتها من شعر القاضي الفاضل وهي ليست أحسن ما في ديوانه، ولكنها هي التي تعطي الأديب صورة صحيحة عنه، وأردت بعرضها التنويه به كشاعر لا يزال ديوانه مخطوطاً، موجهاً نظر الأدباء والباحثين إلى الكنز الثمين الدفين في دار الكتب المصرية وغيرها - الذي إن كنا لا نستطيع نشره الآن، فإننا لا شك نستطيع الإشادة به على صفحات (الرسالة) التي تغار على نشر التراث العربي القيم، تاركا البحث والتحليل في شعره وأدب غيره من الأدباء والمغمورين إلى الباحثين والأدباء.

أما ديوان القاضي الفاضل فمخطوط بمكتبة معهد دمياط، وأخذت له صورة فوتوغرافية محفوظة في دار الكتب المصرية تحت رقم 4859 أدب.

محمد سعيد السحراوي

ص: 39

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

ملكة الإنشاء

بلغ الرافعي الشاعر مبلغه بعد سنة 1905، ونزل منزله بين شعراء العصر، وجرت ريحه رُخاءً إلى الهدف المؤمل، فامتد نظره إلى جديد. . . .

وأخذ الرافعي يروض قلمه على الإنشاء، لعله يبلغ فيه مبلغه في الشعر، فأنشأ بضع مقالات مصنوعة فتنتْه وملكتْ إعجابه فتهيأ لأن يصدر كتاباً مدرسياً في الإنشاء، سماه (ملكة الإنشاء) يكون نموذجاً للمتأدبين وطلاب المدارس يحتذون فنَّه وينسجون على منواله، ووعد قراءه أن ينتظروه في غلاف الجزء الثاني من ديوانه؛ وأحسبه كان جاداً فيما وعد، لولا أمور نشأت من بعد وصرفته عن وجهه، فظل الوعد قائماُ بينه وبين قرائه حتى نسيه ونسوه.

ولا أحسب أن شيئاً ذا بال قد فات قراء الرافعي بعدم نشر هذا الكتاب؛ وحسْب الأدباء والباحثين في التاريخ الأدبي أن يقرءوا من هذا الكتاب الذي لم ينشر مقالات ثلاثاً نشرها الرافعي في الجزءين الثاني والثالث من ديوانه، وفي الجزء الأول من ديوان النظرات؛ إعلاناً ونموذجاً لكتابه؛ فإن في هذه المقالات الثلاث كل الغَناء للباحث، تدله على أول مذهب الرافعي في الأدب الإنشائي، وطريقته ونهجه

الجامعة المصرية

قلت: إن الرافعي كان جاداً فيما وعد بإصدار كتابه (ملكة الإنشاء) لولا أمور نشأت من بعد وصرفتْه عن وجهه؛ فهذا كان يوم إنشاء الجامعة المصرية في سنة 1907، وكان أمرها هو ما يشغله.

كان قد مضى على الرافعي يومئذ عشر سنين في مدرسته التي أنشأها لنفسه، وكان فيها المعلمَ والتلميذ، يدرس ويطالع ويتعلّم، لا يرى أنه انتهى من العلم إلى غاية؛ وما كان

ص: 41

يدرس ليكون عالماً في الأدب، أو راوياً في التاريخ، أو أستاذاً في فرع من فروع المعروفة؛ إنما كان يدرس ليتزوّد للشعر زادَه، وليبلغ من العلم مبلغاً يعينه على أن يقول وينشئ. فلما أنشئت الجامعة المصرية، تطلع إلى ما يقال هناك في دروس الأدب، لعله يجد فيه الجديد الذي يتشوّف إليه ويطلبه؛ فماذا وجد هناك؟

لقد مضى على إنشاء الجامعة سنتان وما استحدثت شيئاً في الأدب يفتقر إليه الرافعي، وما تحدث أساتذتها حديثاً في الأدب لا يعرفه الرافعي. ماذا؟ أهذا كل ما هناك؟ وأيقن الرافعي من يومئذ أنه شيء، فلبث يتربص. . .

وطال انتظار الرافعي وما استطاعت الجامعة أن تثبت له أن فيها دروساً للأدب، وما استطاع الرافعي أن يقنع نفسه بأن في الجامعة أساتذة يدرسون الأدب، فكتب مقالاً في (الجريدة) يحمل على الجامعة، وعلى أساتذة الجامعة، وعلى منج الأدب في الجامعة. ورنّ المقال رنينه وأحدث أثره، فاجتمعت اللجنة الفنية للجامعة، ونشرت دعوة على الأدباء إلى تأليف كتاب في (أدبيات اللغة العربية) جعلت جائزة الفائز فيه مائة جنيه، وضربت أجلاً لتقديمه إليها سبعة أشهر.

وقرأ الرافعي دعوة الجامعة، فما رضى ولا هدأت نفسه؛ لقد كان أمله يومئذ أكبر من ذاك؛ إن مائة جنيه شيء مغْرٍ لمثل الرافعي الأديب الناشيء، الموظف الصغير، الزوج العائل، أبي وهيبة وسامي ومحمد؛ ولكن. . . ولكنه يطمع في أكثر من مائة جنيه، يطمع في أن يكون هو أستاذ الأدب بالجامعة. (إنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغير مؤلفه، فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين؛ فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة، لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؟ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الأكبر. . .؟

لِمَ تنفض إدارة الجامعة يدها من قوم هم رؤساء الصناعة، وظهور مناصبها العالية، وألسنة الحكم فيها؛ ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكف يهون على الرقاب؟)

ص: 42

وما سبعة أشهر لمن يريد أن يؤلف في تاريخ آداب العرب؟ إنه لفن لم يتناوله أحد من قبل، وإن مراجع البحث لكثيرة وإن من وراء ذلك جهداً لا يطيقه إنسان.

وكتب الرافعي مقاله الثاني في (الجريدة) ينعت الجامعة ولجنة الجامعة، ويتأبى على الدعوة التي دعت، ويقرر أن الذين دعوا الدعوة إلى وضع الكتاب وجعلوا لذلك العمل إلى فِصاله سبعة أشهر، إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة. . . . ومضى الرافعي يتجنى ويتدلل، وعادت الجامعة تفكر في الأمر.

وأعادت نشر المسابقة لتأليف الكتاب، وزادت المدة إلى سنتين، والجائزة إلى مائتين، وتعهدت بطبع الكتاب المختار.

ووجد الرافعي ما يشغله، فعاد إلى نفسه، وأغلق دار كتبه عليه. . .

تاريخ آداب العرب

إن كثيراً من الأدباء لا يرضيهم أن يعترفوا للرافعي بيد على العربية أو يروا له صنيعاً في الأدب يستحق الخلود، إلا حين يذكرون كتابه (تاريخ آداب العرب)، وإنه لكتاب حقيق بأن يذكر فيذيع فضل الرافعي على الأدب والأدباء.

أنقطع الرافعي لتأليف كتابه من منتصف سنة 1909، إلى آخر سنة 1910، وفي سنة 1911 أتم طبع الكتاب على نفقته قبل أن يحل الأجل الذي عينته الجامعة.

لم يكن الرافعي طامعاً في جائزة الجامعة. ولذلك لم يتقدم إليها به قبل طبعه، ترفعا عن قبول الحكم فيه لجماعة ليس منهم من هو أبصرُ منه بالمحكوم فيه.

كان أسبق المؤلفات ظهوراً إلى دعوة الجامعة، الجزء الأول من كتاب العلامة جورج زيدان، ثم الجزء الأول من تاريخ آداب العرب. (سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقاً مطبعياً)

وكانت مقالات الرافعي في (الجريدة)، وكتابه (تاريخ آداب العرب) من بعد، هما السبب في تدريس الآداب العربية وتاريخها في الجامعة المصرية، وهما السبب كذلك في وضع ما وضع من الكتب في هذا العلم.

وأعان الرافعي على جمع ما جمع من وسائل البحث لكتابه مكتبات ثلاث كلها حافل بالنادر من كتب العربية، مطبوعها ومخطوطها، هي: مكتبة الرافعي، ومكتبة الجامع الأحمدي،

ص: 43

ومكتبة القصبي بطنطا.

وكان من وسائل تشجيعه على إتمامه وطبعه، ما أعانه به مدير الغربية الأديب المرحوم محمد محب باشا من معونات أدبية ومادية. . .

ليس من همي هنا أن أتحدث عن القيمة الأدبية لكتاب الرافعي تاريخ آداب العرب؛ فقد فرغ الأدباء من الحكم عليه، وما منهم إلا له فيه رأي محمود وثناء مستطاب؛ وما ناله أحد بنقد إلا الأديب طه حسين الطالب بالجامعة المصرية، إذ يقول في مقال نشرته له (الجريدة) سنة 1912:(. . . هذا الكتاب الذي نشهد الله على أننا لم نفهمه. . .) لكنه عاد فصحح رأيه فيه سنة 1926، فأعترف بأنه لم يعجبه أحد ممن ألفوا في الأدب إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي (فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه تاريخ آداب العرب. . . .)

نال الرافعي بكتابه هذا مكاناً سامياً بين أدباء عصره، وشغل به العلماء وقتاً غير قليل، وحسبك به من كتاب أن يقضي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد بك (باشا) أسبوعاً يخطب عنه في مجالس العاصمة ويكتب عنه مقالاً ضافياً في الجريدة جاء فيه:(قرأنا هذا الجزء؛ فأما نحوه فعليه طابع الباكورة في بابه، يدل على أن المؤلف قد ملك موضوعه ملكاً تاماً وأخذ بعد ذلك يتصرف فيه تصرفاً حسناً؛ وليس من السهل أن تجتمع له الأغراض التي بسطها في هذا الجزء إلا بعد درس طويل وتعب ممل. . . وأما أسلوب الرافعي في كتابته فأنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا نحن العرب المتأخرين، فكأني وأنا أقرؤه أقرأ من قلم المبرد في استعماله المساواة وإلباس المعاني ألفاظاً سابغة مفصلة عليها، لا طويلة تتعثر فيها ولا قصيرة عن مداها تودي بعض أجزائها. . .)

وكتب عنه الأمير شكيب أرسلان - وهو أشهر كتاب العربية في ذلك الوقت - مقالة في صدر المؤيد جاء فيها: (لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه، لكان جديراً بأن يُحَجَّ إليه؛ ولو عكِف على غير كتاب الله في نواشيء الأسحار، لكان جديراً بأن يعكف عليه. . .)

وقال عنه المقتطف: (إنه كتاب السنة. .) وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن

ص: 44

بعد لغير هذا الكتاب.

وأسلوب الرافعي في هذا الكتاب أسلوب العالم الأديب، يجد فيه كل طالب طلبته من العلم والأدب والبيان الرفيع. وكان الرافعي يومئذ قد أتم الثلاثين. . .!

في السنة التالية، أصدر الرافعي الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب، وموضوعه أعجازُ القرآن، والبلاغةُ النبوية؛ وهو الذي أصدره من بعد في طبعته الثانية باسم (أعجاز القرآن)، وباسمه الثاني يعرفه قراء العربية، وقد طبعه على نفقته المرحوم الملك فؤاد رحمه الله. وفي مكتبة الرافعي الآن أصولُ الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، ومعها تعليقات كان المرحوم الرافعي ينوي إضافتها إلى الجزء الأول في طبعته الثانية فعاجلته المنية؛ فهل للعربية في هذا البلد أوفياء مخلصون يعرفون للرافعي منزلته ولكُتًبه مكانها فيطبعوا هذه الأجزاء الثلاثة وينشروها على الناس؟ وهل يسمعني معالي وزير المعارف وهو القائم على شئون العلم في هذا البلد، وهو هو الذي كان يعرف الرافعي صديقاً وجاراً مواطناً فوق معرفته إياه أديباً وعالماً وشاعراً كان في الأدباء والعلماء والشعراء خير داعية لمصر الزعيمة بين الناطقين بالضاد. . .؟

لقد قلُتها مرة، فهل أظلّ حياتي كلها أهتف بهذه الأمة التي لا تعرف الجميل فلا تجيب. . .!

أيها الناس! لقد أوشكت أن أومن بأن الرافعي مات. . .!

حاشية: قلت: إن من المكتبات التي استعان بها الرافعي في تأليف كتابه، مكتبة القصبي بطنطا، وهي المكتبة التي أنشأها وجمعها المرحومان الحسيبان الشيخ إمام القصبي وولده الشيخ محمد القصبي شيخا الجامع الأحمدي قبل المرحوم الشيخ الظواهري الكبير

وقد حدثني عنها أبي، كما حدثني عنها المرحوم الرافعي، أنها مكتبة حافلة، مشحونة بفرائد العلوم والفنون، زاخرة بنوادر المخطوطات والمطبوعات من كتب الدين والعربية؛ وهي الآن محبوسة في حجرة رطبة لا ينفذ إليها الهواء من حجرات زاوية القصبي بطنطا، لم يفتح بابها منذ ربع قرن أو يزيد لعدم عناية القائمين عليها وجهلهم بقدرها، فإذا لم يكن السوس قد أتى عليها فإن هناك فرصة لا تزال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، وحسْب العربية ما لقيت من أهلها في عصور الجهل والانحطاط يا أولي الألباب. . .!؟

ص: 45

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 46

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 20 -

الديانة الفارسية

مصير العالم

يحدثنا قسم (الجاتها) أن نهاية العالم موقوتة بموت (زرادشت) وأن (أهوارا) أراد أن يختم به هذه الحياة الدنيا، وهو لهذا يدفعه في حماسة إلى تأدية رسالته بأسرع ما يستطاع ويأمره أن يصدع بأوامر ربه وأن يعلن أنه سيتقدم بعد موته إلى القضاة الثلاثة الواقفين على الميزان أمام باب الصراط، ليؤدي الحساب عن نفسه والشهادة عن جميع أتباعه الذين سيتحقق فناؤهم على أثر موته.

غير أن الكون ظل بعد (زرادشت) سائراً في طريقه كما كان في حياته وقبل وجوده، ولم يمت الأنصار ولا الخصوم، ولم ينته العالم. فلما رأى رجال الدين الألسنة الحداد بدأت تتجه إليهم من جانب خصومهم، أرادوا أن يتحللوا من هذه الورطة التي أوقعهم فيها نبيهم الساذج، فأضافوا إلى الكتاب المقدس آيات جديدة تحوي تأويلات للآيات القديمة وتصرح بأن جميع الزمن المحدد للكون هو أثنا عشر ألف سنة مضت منها ثلاثة آلاف سنة في خلق العالم الروحاني، وثلاثة آلاف في إنشاء العالم المادي، وثلاثة آلاف فصلت بين وجود بني الإنسان ووجود (زرادشت)؛ وثلاثة آلاف بين عصر (زرادشت) ونهاية الحياة الدنيا. أما التصريح الجازم في الجزء القديم بأن نهاية العالم ستكون عند نهاية حياة (زرادشت) فقد عرفوا كيف يتخلصون منه بلباقة لا بأس بها حيث أعلنوا أن (زرادشت) لم يمت كما رأى الناس في الظاهر، وإنما نزلت بذرته الخصبة في البحيرة المقدسة، وستظل فيها تغدو وتروح حتى قبيل نهاية العالم، فإذا حان هذا الوقت المضروب نزلت إلى هذه البحيرة فتاة

ص: 47

عذراء طاهرة، لتغتسل فيها، وإذ ذاك تتغلغل هذه البذرة إلى بطن العذراء فتحمل لساعتها بمنجى العالم ومن على يديه سيكون انتهاؤه فإذا ولد هذا المنجى وشب، أخذ يدعو إلى دينه وأصطفى له من التلاميذ خمسة عشر رجلاً وخمس عشرة امرأة، ليعاونوه على تأدية رسالته إلى أن ينتهي أجله المحدد بسبع وخمسين سنة فينتهي بانتهائه الكون. وعلى أثر ذلك يبدأ البعث فتمتلئ بقاع الأرض بمياه شديدة الحرارة تسيل كلها من معادن صهرتها النيران القوية فأما الأخيار فيحسون كأنها حمامات من لبن فاتر يجد الجسم فيه لذة وسروراً؛ وأما الأشرار فسيجدونها قاسية مؤلمة، ولعل العذاب بمياه هذه المعادن هو آخر ما يقاسيه أهل الأعراف الذين هم بين الجنة والنار، ثم يدخلون بعد ذلك في زمرة المعفو عنهم

عند ذلك ينهزم إله الشر الهزيمة الأخيرة ويُلقى بالثعبان الذي كان يمثله في وسط هذه المعادن فينصهر فيها ويستقر كل من السعداء والأشقياء في مكانه استقراراً أبدياً بلا تغيير ولا تبديل. ولكن عقيدة التأبيد في الجحيم لم تستمر على حالها، بل لم تلبث أن صارت موضع نقاش بين رجال الدين انتهى بأن قر الرأي على أن للعذاب في الجحٍيم حداً ينتهي عنده فيلحق المعذبون بالأخيار المنعمين، وإذ ذاك يتم السلام النهائي.

الفلسفة العملية أو الأخلاق

ليست الأخلاق من وضع الأهواء البشرية ولا من اختراع المنافع الفردية حتى تتأثر بالأزمنة والأمكنة والظروف المختلفة، وإنما هي قوانين عامة خالدة، ولذلك نرى الفضائل الجوهرية هي هي عند قدماء المصريين، وعند الهنود والفرس والصينيين واليونان والرومان كما هي عند شعوب القرن العشرين في جميع بقاع الأرض إلا من تغيرت طباعهم، وتبدلت فِطَرُهم بسبب من الأسباب التي أجمع علماء الأخلاق والنفس والاجتماع على تأثيرها في السلوك البشري.

لهذا كانت الفضائل عند الفرس كما هي عند غيرهم من الأمم تتألف من صفوف ودرجات، لكل صف منها منزلته الخاصة، فمثلاً الشرف والإحسان والأمانة الزوجية من الجانبين كانت في الصف الأول. ولقد كانت العدالة والعفة والإخلاص والصدق من أجل الفضائل كما كان العمل على تنمية النوع البشري وتقويته من أهم الواجبات الدينية، ولهذا أباحت الشريعة (الزرادشتية) تعدد الزوجات، ليكثر النسل، وحرمت الصوم لتتوفر القوة في جميع

ص: 48

أفراد الشعب، وكذلك محاولة زيادة خصوبة الأرض والاستمتاع بما في هذه الحياة من خيرات ولذات مشروعة كانت من أسمى فروض الشريعة حتى أن إهمال بقعة من الأرض بدون نبات أو عدم الاكتراث بالتزين كارتداء رث الملابس أو عدم المبالاة بتنظيم قص الشعر والأظافر، كل ذلك كان من الجرائم الممقوتة، أما الرذائل المستفظعة فهي أضداد هذه الفضائل طبعاً.

هناك فضائل ثانوية أو مستحبات أخلاقية مثل أكل اللحوم وجميع الأطعمة المغذية ومحاولة الإحساس بالسرور، ومثل مهاجمة الأعداء من الأفراد بنظير ما قدموه. أما الدفاع عن النفس أو عن الوطن، فقد كان من الواجبات المقدسة.

هذه هي أهم الفضائل الجوهرية والثانوية ولم يبق عدا ذلك إلا أعمال هي إلى الأساطير الوثنية أقرب منها إلى الفلسفة العملية وذلك مثل حظر قتل القنافذ وكلاب البحر كما أسلفنا.

الديانة المانوية

حياة ماني

لم يعرف التاريخ عن حياة (ماني) أو (مانيس) مؤسس الديانة المانوية أكثر من أنه ولد في (بابل) سنة 215 وقتله أحد ملوك الفرس في سنة 275 بعد المسيح وأنه كان متنسكاً متصوفاً متشائماً لا يؤمن بانتصار الخير على الشر البتة ولا أمل عنده في صلاح هذا الوجود، وأنه تأثر في بعض نواحي مذهبه بالزرادشتية وفي البعض الآخر بالميتهرية القديمة التي عبثت بها العقلية الرومانية فبدلت منها الشيء الكثير، وفي البعض الثالث بالديانة البراهمية الأولى، وفي الرابع بالمسيحية قبل وضع قواعد الكنيسة كما يتبين ذلك كله في آرائه.

مذهبه

يرى (ماني) أن العالم نشأ من عملاق قسم جسمه إلى أجزاء ثم كون الموجودات من بعض هذه الأجزاء. ولا ريب أنك تذكر أسطورة بدء الخلق عند الهنود، وهي التي حدثتنا عن اشتياق الإله (براجاباتي) إلى التكثر وعن تجزيئه نفسه ونشره أجزاءه في الكون ليوحد منها جميع الكائنات.

ص: 49

أما رأيه في المبادئ الأولى فهو يتلخص في أن للكون مبدأين الخير والشر، وهما أزليان أبديان متساويان في كل شيء. ولا شك أنه في هذه النقطة قد تأثر بزرادشت من ناحية وبديانة (الثانوية) المغالية التي نشأت من مذهب زرادشت من ناحية ثانية. وإليك ما يقوله الشهرستاني عن هذا المذهب:(حكي محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذهب القوم، أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكروا وجود شيء لا من أصل قديم وزعم أنهما لم يزالا قوتين، حساسين، سميعين، بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الخير متحاذيان تحاذي الشخص والظل). إلى أن يقول: (ثم اختلفت المانوية في المزاج وسببه والخلاص وسببه فقال بعضهم: إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق لا بالمقصد والاختيار؛ وقال أكثرهم: إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل فنظرت إلى الروح فرأت النور فبغت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكاً من ملائكته في خمسة أجزاء من أجناسها الخمسة فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية فخالط الدخان نسيم، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم، والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار، والنور الظلمة، والسموم الريح، والضباب الماء، فما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور، وما فيه من مضرة وفساد وشر فمن أجناس الظلمة فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكاً من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة، لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة).

الميتافيزيكا المانوية

يرى هذا المذهب أن الإنسان الأول مخلوق للنور أو للشمس الذي هو (أهورا مازدا) وكان هذا الإنسان في أول الأمر نوراً محضاً وأن حكمة خلقه إياه إنما هي الجهاد ضد الظلام، ولكن هذا الخصم العنيف لم يلبث أن أنتصر على الإنسان وكبله بالأصفاد وقاده إلى سجنه الحالك ولكن قوة إله الخير عملت على تخليصه من هذا السجن فنجحت بعض الشيء، لأن إله الشر كان قد تمكن من حبس جسمه النوراني في هذا الغمد الكثيف المكون من المادة المظلمة. وإذاً، فالمادة أو الجسم الإنساني أو (الماكروسكوم) و (الميكروسكوم) كما كانوا

ص: 50

يسمونهما هما أصل الشر والسوء في هذه الحياة، لأنهما سجن الروح النورانية ومن هذا نشأت عند (ماني) فكرة وجوب تخليص النفس من الجسم أو إنهاء هذا العالم المادي بإضعاف النوع البشري وإبادة النسل بوساطة حظر الزواج وغير ذلك من وسائل التخريب والتدمير التي عمل على نشرها والتي لم تكن ملائمة لطبيعة الفرس الذين حبب إليهم زرادشت متع الحياة ولذاتها وعرفهم وسائل القوة والإخصاب.

مصير العالم المادي

ليس للمانوية في هذا الشأن شيء جديد لأنها تبعث خطوات الزرادشتية شبراً بشير وذراعاً بذراع إلا فيما يختص بفناء الشر وامتزاج مملكته بمملكة الخير وتحقق السلام العام، فقد أنكرت المانوية ذلك تمام الإنكار، وجزمت بأن المملكتين ستظلان متباعدتين متعاديتين أبدا.

نهاية ماني

لم تكد مبادئ المانوية تنتشر في بلاد فارس حتى تذمر الشعب مما أحتوى عليه من ضعف ويأس وتشاؤم وانزواء وحرمان من لذات الحياة المباحة، ثم أخذت هذه الضجة تعلو وتنتشر حتى بلغت أسماع الملك فأحضره أمامه، وناقشه في مذهبه، فلم يخف عليه شيئاً مما فيه، وصرح أمامه بأن التخلص من الشر أمر مستحيل، وأن استمرار العالم في الحياة معناه استمرار الشر، وأن الوسيلة الوحيدة للقضاء على هذا الشر هي تدمير هذا العالم، فلم يكن من الملك إلى أن قال له: إن الحكيم المخلص لمذهبه يجب أن يبدأ هو قبل غيره بتطبيق هذا المذهب على نفسه، فإن لم يفعل بدأ أنصاره ومريدوه بتطبيقه على أستاذهم، ولما كنا من أنصارك فقد وجب علينا أن نبدأ بتطبيق هذه المبادئ عليك، ثم أشار إلى الجلاد أن أبدأ بتدميره ليؤمن قبل موته بالشروع في تحقيق مذهبه وقد حدث هذا بالفعل كما أشرنا إليه في حياة ماني.

الديانة المزدكية

عاش (مزدك) حوالي نهاية القرن الخامس بعد المسيح، وكان قد تأثر بمذهب ماني من بعض نواحيه، وسار على منواله في كثير من مبادئه الفلسفية والدينية، وإن كان قد خالفه في آرائه الاجتماعية مخالفة شديدة حيث أعلن وجوب اعتناق الشيوعية المغالية، وصرح

ص: 51

بأنها هي وحدها الوسيلة إلى إبادة الشر، إذ الحقد الذي يأكل قلوب بني الإنسان، والحرب التي تمزق أشلاء أحد الأخوين بيد الآخر لا مصدر لهما إلا الأموال والنساء، فإذا ألغيت الملكية وأبيد الزواج وأصبح المال والمرأة مباحين لجميع الأفراد بلا قيد ولا شرط طهرت القلوب من الحقد إلى الأبد ووضعت الحرب أوزارها إلى نهاية الوجود، وهو كما يبغي أن تباح الأموال والنساء، يريد كذلك ألا يختص أحد بطقوس دينية دون الآخرين حتى تزول جميع الفروق والاختصاصات التي هي منشأ كل بلاد في هذا الكون.

سقوط الديانات الفارسية

لما فتح (الإسكندر المقدوني) بلاد فارس وأنتشر الإغريق في أنحاء البلاد وأحرقوا الكتب المقدسة والصحف الدينية، تبلبلت العقول والأفكار والعقائد في تلك الأصقاع، وصادفت هذا الاضطراب ظروف أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي اجتماع ذلك الخليط العجيب من الفرس والمصريين واليونان واليهود في مدينة الإسكندرية كما سنشير إلى ذلك عند الحديث عن الأفلاطونية الحديثة.

أجتمع هذان العاملان القويان فحدث من اجتماعهما مزيج ديني غريب غمر الشرق الأدنى من أقصاه إلى أقصاه. ويعلق الأستاذ (سورا) على هذا بقوله: (إن هذا التخمر الديني المتباين العناصر هو الذي قذف بالمسيحية إلى حيز الوجود كما تقذف الأنبذة بالزَّبدِ إلى خارج أوانيها).

هذا في فلسطين ومصر، أما في بلاد بارس كانت سائدة فيها الديانة الفارسية (الزرادشتية) بعد أن عبثت بها أيدي الأهواء والأغراض، وبدلت فيها وزادت عليها مطامع رجال الدين وشهواتهم، وقد ظلت هذه السيادة طول حكم الدولة الساسانية ولم تحْنِ الرأس إلا في القرن السابع بعد المسيح حين هاجمها الإسلام وهو في عنفوان شبابه، فذابت أمام سطوته ذوبان السكر في المياه (على حد تعبير أحد المؤلفين الفرنسيين) وإن كان البعض الآخر من الباحثين يجزم بأن الديانة (الزرادشتية) لم تتلاش تماماً أمام الإسلام، وإنما تركت آثاراً تذكر في بعض نواحيه، إذ ليس بعض الفرق الإسلامية إلا لوناً من ألوان الديانة الفارسية، بل ليس تغني عمر الخيام بالخمر وتقديس بشار بن برد للنار وزندقة أبن المقفع ومروق الجاحظ في بعض آرائه إلا من بقايا الديانات الفارسية.

ص: 52

غير أن الذي لاشك فيه هو أن الإسلام قد أكتسح الديانة (الزرادشتية) اكتساحاً ملموساً ولم يدع لها من معتنقيها إلا نحو عشرة آلاف نسمة في بلاد الفرس ونحو مائة ألف في بلاد الهند وهم الذين أشرنا إليهم في مبدأ حديثنا عن الفرس، وقلنا إنهم لا يزالون يُعرِّضون جثث موتاهم للوحوش.

أما المانوية فقد انتقلت إلى أوربا مع الرومانيين الذين كانوا في بلاد فارس، ثم جعلت تنتشر في جميع أجزاء الإمبراطورية الغربية الرومانية، ولكن في خنوع وإذعان للمسيحية جعلاها إلى الأهازئ أقرب منها إلى المذاهب الجدية كأن تصرح مثلاً بأن خالق الكون هو إله الشر، وأن المسيح إله الخير خصمه العنيف الذي ضرب المثل الأعلى على خيريته بتضحية نفسه للصلب في خير الإنسان.

ما زالت هذه الديانة المانوية تتلاشى في المسيحية على هذا النحو حتى ابتلعتها نهائياً ولم يبق لها في الوقت الحاضر من أثر في أوربا إلا على الآراء الاجتماعية مثل الاشتراكية والشيوعية وما شاكلهما من الآراء المتطرفة التي اعتنقتها المانوية بعد عصرها الأول ثم حملتها معها إلى أوربا فكانت جرثومة كثير من المذاهب الاجتماعية الأوربية في العصور الحديثة.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 53

‌التخيل

للدكتور جميل صليبا

للتخيل بحسب اصطلاح الفلاسفة معان كثيرة فبعضهم (ديكارت) جعله قوة مصورة تعيد ما في الخيال من الصور وتمثله تمثلاً محسوساً. وبعضهم جعله قوة مبدعة تركت الصور وتؤلف المعاني الجديدة وتخترع. وبعضهم جعله قوة وهمية كاذبة تنشأ عنها الأوهام والأحلام، حتى لقد وصف تلاميذ ديكارت هذه القوة بقولهم: إنها (مجنونة المنزل) و (باعثة على الخطأ والرذيلة) أما فلاسفة العصر الحاضر فيجدون التخيل ضروباً للإنسان لأنه يخفف آلامه ويحبب إليه الحياة ويكشف له عن أسرار الكون. إن اختلاف معاني التخيل جعل أحد الفلاسفة المعاصرين يقول: إن هذه الكلمة الضرورية للغة العامة يجب أن تزول من قاموس علم النفس لكثرة معانيها وأنه يمكن استبدالها بكلمات أوضح منها كالمصورة والإبداع والأحلام. على أنه لا غنى لنا عن هذا الاصطلاح أن في كل من المصورة (التخيل التمثيلي) والإبداع والأحلام شيئاً من التخيل. ولنبحث الآن في التخيل المبدع

التخيل المبدع

التخيل التمثيلي المبدع: الحقيقة والخيال

التخيل التمثيلي هو ذاكرة بدون عرفان، أو هو كما قيل رجوع الصور النفسية إلى ساحة الشعور. ونحن نعلم أن الصورة هي بقاء الإحساس في الشعور بعد غياب المؤثر. أو هي ذكرى الإحساس. فإذا أسترجع الإنسان صورة جبل أو نهر ولم يعرف أي جبل يرى ولا أي نهر يتصور كان تخيله تمثيلياً لأن الخيال يعيد ما حفظته النفس وبقي فيها بعد غياب المحسوسات. فهو إذن شبيه بالذاكرة إلا أنه كما قلنا ذاكرة بدون عرفان. إن هذا الخيال التمثيلي يقتصر كما ترى على استرجاع الصور المحفوظة في النفس. أما التخيل المبدع فيركب هذه الصور ويستخرج منها نماذج جديدة. أنظر إلى المصور، أنه يرسم بريشته صورة خيالية يراها في أعماق نفسه فهو لم يسترجع صورة بسيطة محفوظة في نفسه فقط بل ركب بعض ما في هذه الصور البسيطة إلى بعض فألف منها صورة جديدة.

إلا أن هذا الفارق بين التخيل التمثيلي والتخيل المبدع ليس مطلقاً، لأن الخيال التمثيلي لا يسترجع الصور النفسية كما هي بل يبدلها فيمحو بعض عناصرها ويضم إليها بعض

ص: 54

العناصر الجديدة. وقد بينا ذلك عند البحث في الشعور وخطور الذكريات. فالذكريات ليست صوراً مطابقة للماضي بل هي في الغالب مركبة من الماضي والحاضر معاً، لأن النفس تنشئها إنشاء، والإدراك ليس بسيطاً بحيث يحدث في النفس خيالاً مطابقاً للشيء المدرك فقط. بل هوة إنشاء صورة مركبة من عناصر نفسية متحولة. فالصورة ليست إذن خيالاً ثابتاً بل هي حقيقة متبدلة، حتى لقد قال المسيو (لوروا):(الإدراك والتذكر كل منهما اختراع).

وعكس ذلك صحيح أيضاً. أي إن التخيل المبدع لا يبدع الصور من العدم بل يستمد عناصرها من الواقع. فالخيال إذن منسوخ من الحقيقة. وقد فرقوا في الإبداع بين الصورة والمادة فقالوا: إن التخيل لا يبدع مادة جديدة بل يقتصر على جمع بعض الصور إلى بعض فيحلل ويركب ويصغر ويكبر. فهو يبدع صورة جديدة، إلا أن مواد عمله مقتبسة كلها من الواقع. فالصورة وحدها إذن جديدة، والتخيل مبدع بمعنى أنه يجمع العناصر بعضها إلى بعض فيؤلف منها مركبات جديدة. فكل إبداع هو في الحقيقة تركيب.

وإذا قيل: إن العقل لا يقتصر في الإبداع على جمع الصور وإنه إنما يجمع هذه الصور إلى المعاني المجردة والأحوال الانفعالية والنزعات والأهواء، قلنا مهما كان نوع التركيب، ومهما كانت حالة العناصر فأن الإبداع ينتهي دائماً إلى الصور. قال أحد العلماء المعاصرين ما خلاصته:(المخترع شاعر حدسي. قد يقال إن هناك عقولاً منطقية، جدلية لا تتقدم إلا بالقياس والخطاب - سيراً على طريقة (فوبان) الذي كان لا يهجم على حصن قوي إلا بعد أن يعد للأمر عدته - غير أن الأمر على خلاف ذلك، لأن هذه العقول حدسية أيضاً. فهي تجمع ثنايا الطرائق وأصول المنطق وأحكام العقل وصور القياس بعضها إلى بعض بدلاً من أن تجمع الألوان والأصوات والأوزان والاستعارات الحسية، والأوضاع المشخصة). ومهما كان الاختراع في أوله بعيداً عن الصورة فهو دائماً يقلب المثال المجرد إلى صورة محسوسة تدل عليه وتجيبه وتخرجه من أعماق اللاشعور إلى الحياة الظاهرة الملموسة.

هل تستطيع النفس أن تبدع الصور؟

إن أكثر علماء النفس يقولون مع (لوك) إن النفس عاجزة نفسها عن إبداع أية فكرة

ص: 55

بسيطة. فكل صورة هي إذن نسخة، ولا تصور إلا بالإحساس. إن الأكمة لا يستطيع تصور الألوان، والأصم لا يستطيع أن يبدع الألحان. فالتخيل ليس مبدعاً من حيث هو موجد، بل هو مبدع من حيث هو مركب

إلا أن الفكر يجمع كما قلنا في هذا التركيب عناصر مختلفة فهو يجمع الصور المشخصة إلى الفكر المجردة، والنزعات والأهواء. ولعله لا يعجز عن إبداع بعض الفكر، أما الصور فلا يتناولها إلا عن طريق الإحساس، وإذا تمثلها أمكنة أن يمزج بعضها ببعض ويحصل بهذه الممازجة عن صور جديدة. نعم إن الأكمة لا يستطيع تخيل الألوان، ولكن البصير يستطيع أن يتخيل ألواناً متوسطة مركبة من الألوان البسيطة فيتصور لوناً بنفسجياً أكثر احمراراً من البنفسجي الطبيعي. قد يقال: إن الطبيعة أغنى من الفن، وإن اختراعات المصورين ليست إلا تقليداً لما في الطبيعة من الصور المختلفة وإن في غروب الشمس من الألوان ما لا يستطيع أعظم المصورين أن يأتي بمثله. هذا صحيح، لأن الألوان الطبيعية أكثر تنوعاً من الألوان الفنية. إلا أن أصوات الطبيعة أفقر من أصوات الفن، وهي في الغالب على نمط واحد، كحفيف الأغصان وتغريد الطير، وخرير الماء، ونقيق الضفادع. إن آلات الفن ليست من هبات الطبيعة بل هي من اختراع الإنسان. نعم إن الإنسان لم يتصور بوضوح لحن العود قبل اختراعه له ولكن العود لم يتكامل إلا بعد أن أنتقل الإنسان به من صوت إلى آخر وتخيل في كل دور من أدوار انتقاله صوتاً أحسن وقعاً وأعمق تأثيراً من الأصوات المألوفة، ففي كل درجة من درجات هذا التكامل قد تقدم الخيال وأبدع صورة جديدة لا عهد للفن بها من قبل.

(دمشق)

جميل صليبا

ص: 56

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

بقية كلامه عن (الفداء)

لذلك تهب الإرادة وقد تملكها الغيظ مقتلعة الأحجار منتقمة من كل من لا يجاريها في كيدها وثورتها. وهكذا تصبح الإرادة المنفذة قوة شريرة تصبّ جام غضبها على كل قانع بعجزها عن الرجوع إلى ما فات. وهل انتقام الإرادة إلا عبارة عن كرهها للزمان لأنه أوقع ما لا قبل لها برده؟

والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون، وقد نزلت لعنة على البشرية منذ تعلم الجنون أن يتفكر. فإن خير ما طرأ على الإنسان حتى اليوم إنما هو فكرة الانتقام؛ وهكذا سيبقى العقاب ملازماً للألم في كل زمان وفي كل مكان. وهل فكرة الانتقام إلا العقاب بذاته، فما كلمة الانتقام إلا كلمة مكذوبة يقصد بها التعبير عن الضمير.

إن كلَّ مُريدٍ يتألم لأنه لا قِبلَ له بالرجوع إلى الماضي لردّ مافات، ولهذا لزم أن تكون الإرادة بل كل حياة على الإطلاق كفّارة وعقاباً.

بمثل هذه الاعتقادات تلفّع العقل بالغيوم فأنبثق منه الجنون هاتفاً: كل شيء يزول، فكل شيء يستحق الزوال.

إن العدل نفسه يقضي بأن يفترس الزمان أبناءه، هذا ما أعلنه الجنون.

لقد وضع الناموس الأدبي وفقاً للحقوق وللعقاب، فأين المفر من نهر الحياة الجارف وما الحياة إلا عبارة عن عقاب؟ وهذا أيضاً ما أعلنه الجنون.

ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود، فكيف للعقاب أن يمحو الحادثات؟ وهل من خلود لغير الأعمال في وجود لا ينفك يحول العمل عقاباً والعقاب عملاً؟ ولا مناص من هذه الحلقة المفرغة ما لم تتوصل الإرادة إلى الفرار من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية.

إنكم تعرفون، أيها الأخوة، هذه الأغاني التي يتشدق بها الجنون. وقد أقصيتكم عن سماعها عندما علمتكم أن الإرادة مبدعة. كل ما فات يبقى مبدداً منثوراً كأنه أسرار ومصادفات

ص: 57

رائعة إلى أن تقول الإرادة: إنني أردت هذا. ثم تقول: وهذا ما أريده الآن وسأريده غداً.

هل نطقت الإرادة بمثل هذا حتى اليوم؟ وإلى متى ستنطق به؟ هل هي تملصت من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبشر بالحبور؟ هل هي اطرحت فكرة الانتقام وتوقفت عن حرق الأرم من كيدها؟ من ترى تمكن من تعليمها مسالمة الزمان بل ما يفوق هذه المسالمة؟

يجب على الإرادة ولا أعني سوى إرادة الاقتدار أن توجه مشيئتها إلى ما هو أعظم من المسالمة. ولكن أنى لها ذلك ومن سيعلمها أن توجه هذه المشيئة إلى ما فات؟

وتوقف زارا عن الكلام فجأة كأن رعباً شديداً حل به فاتسعت حدقاته وشخص بأتباعه سايراً أفكارهم وما وراء أفكارهم غير أنه ما لبث أن عاد إلى الضحك فقال بكل هدوء:

- ما تهون الحياة بين الناس لأن الصمت صعب على المرء وخاصة إذا كان ثرثاراً.

هكذا تكلم زارا. . . .

ولكن الأحدب الذي كان يصغي إلى هذا الحديث وهو يستر وجهه بيديه سمع قهقهة زارا ففتح عينيه مستغرباً وقال: - لماذا يخاطبنا زارا بغير ما يخاطب به أتباعه.

فقال زارا: - وهل من عجب في هذا؟ أفما يصح أن يخاطب الأحدب بأقوال لها حدبتان.

فقال الأحدب: - ولا عجب أيضاً في أن يخاطب زارا تلاميذه كمعلم أولاد، ولكن لماذا يخاطب أتباعه بغير ما يخاطب به نفسه. . .

هكذا تكلم زارا. . . .

ص: 58

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

188 -

العرب واليهود في الأندلس

كتب أيوب بن سليمان المرواني إلى بسام بن شمعون اليهودي الوَشْقي في يوم مَطير:

لما كنت - وصل الله إخاءك وحفظك - مطمح نفسي، ومنتزع اختياري من أبناء جنسي، على جوانبك أميل، وأرتع في رياض خلقك الجميل - هزتني خواطر الطرب والارتياح في هذا اليوم المطير، الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح واستنطاق البمّ والزير، فلم أر معيناً على ذلك، ومبلغاً ما هنالك، إلا حسن نظرك، وتجشمك من المكارم ما جرت به عادتك: وهذا يوم حرم الظرف فيه الحركة، وجعل في تركها الخير والبركة. فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية، متكئاً على دَنّ مستنداً إلى خابية. ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث التي لم يبق من اللذات إلا هي، ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في أصناف الملاهي، وأنت على ذلك قدير، وكرمك بتكلفه جدير. ولا يعين المرء يوماً على راحته إلا كريم الطباع، وها أنا والسمع مني إلى الباب وذو الشوق حليف استماع:

فأن أتى داع بنيل المنى

ودعت أشجاني ونعم الوداع

189 -

شاعرة يهودية أندلسية

في (النفح): - كانت بالأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي، وكان أبوها شاعراً وأعتني بتأديبها وربما صنع من الموشحة قسماً فأتمته هي بقسم آخر. قال لها يوماً: أجيزي هذا البيت، فأجازته، فقام كالمختبل وضعها إليه؛ وجعل يقبل رأسها، ويقول: أنت (وعشر الكلمات) أشعر مني. ونظرت في المرآة يوماً فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزوج ولم تتزوج فقالت:

أرى روضة قد حان منها قطافها

وليس يرى جان يمد لها يدا

فوا أسفي! يمضي الشباب مضيعا

ويبقى الذي ما إن أسميه مفردا

وقالت في ظبية عندها:

ص: 59

يا ظبية ترعى بروض مزهر

إني حكيتك في التوحش والحور

أمسى كلانا مفردا عن صاحب

فلنصطبر قسراً على حكم القدر

فسمعها أبوها فنظر في تزوجها.

190 -

بلاد أمان

المتنبي:

حمي أطراف فارس شَمَّرِيُّ

يحض على التباقي بالتفاني

فلو طرحت قلوبُ العشق فيها

لما خلفت من الحدَقِ الحسان

191 -

شهلان ذو الهضبات ما يتحلحل

قال أبن قتيبة: كان الأحنف إذا أتاه إنسان أوسع له، فأن لم يجد موضعاً تحرك لِيُريَه أنه يوسع له. وكان آخر لا يوسع لأحد ويقول: ثهلانُ ذو الهضات ما يتحلحلُ

192 -

لا تسألوا عن أشياء

سُئل بعضُ الوعاظ: لِمَ لَمْ تنصرف (أشياء)؟ فلم يفهم ما قيل له، شكت ساعة فقال: أنت تسأل سؤال الملحدين لأن الله يقول: (لَا تَسْلوا عَنْ أشياء)

193 -

ليتنا نخلاج منه كفافاً

سئل الشعبي هل يجوز أن يؤكل الجِنِّى لو ظُفر به؟

فقال: ليتنا تخرج منه كفافاً لا لنا ولا علينا. .

194 -

رأي السلامة في الوقف

في (البيان والتبيين): كان مهدي بن مهلهل يقول: حدثنا هشامْ (مجزومة) ثم يقول: أبنْ (ويجزمه) ثم يقول: حسانْ (ويجزمه) لأنه حين لم يكن نحْويا رأي السلامة في الوقف

195 -

نعوذ بالله من قوم لا يشعرون

في (الغيث المسجم): قال بعضهم يعتذر عن اشتغاله بالشعر: ولعمري ما أنصفي من أساء بي الظن، وقال: كيف رضي مع درجة العلم والفتوى بهذا الفن، والصحابة كانوا ينظمون

ص: 60

وينثرون، ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون!

196 -

هذا سبب الإعجاب

قال أسحق الموصلي: قلت لزهراء الكلابية: حًدثيني عن قول الشاعر:

أحبُّك أن أُخبرتُ أنك فارِكٌ

لزوجك؛ إني مولَعٌ بالفواركِ

ما أعجبه من بغضها لزوجها؟

فقالت: عرفته أن في نفسها فضلةً من جمال وشمخاً بأنفها وأبهةً، فأعجبته

197 -

اسقه الماء

دخل الشعبي على مسلم بن قتيبة فقال له: ما تشتهي يا شعبي؟

فقال: أعز مفقود، وأهون موجود

فقال: يا غلام، أسقه الماء

ص: 61

‌الصحراء

للأستاذ أنور العطار

سَرَبَْ في رِحَابِهَا قِصَصُ الحُبِّ

وَغَنَّتْ في شَاطِئَيْهَا الرِّمَالُ

مَا ثَنَتْهَا الأَحْقَابُ عَنْ مُتَعِ الشِّدْ

وِ وَلَا طَافَ بالنِّشِيِد مَلَالُ

تَتَغَنَّى والكَوْنُ نَشْوَانُ باللَّحنِ

فَتَهْتَزُّ في الأَقَاصِي الجبَالُ

وَتَضِجُّ الوِدْيَانُ بالنَّغَمِ البِكْرِ

وَتُزْهَي أَغْوَارُها والدِّحالُ

نَغَماتٌ أََصْغَتْ إِليها اللَّيالي

وَوَعَتْتَها العُصُورُ وَالأَجْيَالُ

فإِذا العَالَمُ أبْتِسامٌ وَصَفْوٌ

وَرَبيعٌ مُنَضَّرٌ مْخِلَالُ

وإِذا الكائِنَاتُ يَغْمُرُها النُّو

رُ وَيَطْفُو عَلَى مَدَاهَا الجَلَالُ

حَفَلَتْ سَاحُها بِخَيْرِ الرِّسَالَا

تِ وَسَحَّ النَّدَى وَفَاضَ النَّوَالُ

المُرُوَءاتُ لَمْحَةُ مِنْ سَنَاهَا

والبُطُولَاتُ والجِحَا والكمَالُ

مِلْءُ أَفْيَائِهَا السَّخَاء المُنَقَّى

مِلْءُ أَعْطافِهَا السُّرَي والنَّضَالُ

كَرُمَتْ عُنْصُراً وَطَاَبَتْ نِجَاراً

وَصَفَتْ كالَّنمِيِر فيها الخِلَالُ

فَهْيَ مَهْدُ النَّجْوَى وََمُنْبثَقُ النُّو

رِ وَدُنْيا تَرُودُها الأَبْطَالُ

مَا عَلَيْها إِنْ شَحَّتِ الأََرْضُ بالخَيْرِ

إِذا لَمْ تَشِحَّ فيها الخِصَالُ

لَيْسَ يَحْيَا فيها الضَّرَاعَةُ والذُّلُّ

وَلَا يَصْحَبُ العُلا إِذْلَالُ

لَا تَطِيبُ الحَيَاةُ تَطْفَحُ بالبُؤْ

سِ إِذا لَمْ يَهُزَّهَا اسْتبْسَالُ

حُرَّةٌ تُنْجِبُ الغَطَارِفَةَ الصِّيدَ

فَلَا عَاجِزٌ وَلا سألُ

كُلُّهُمْ كادِحٌ نَمَتْه الدِّرَايَا

تُ وَزَانَتْ أَقْوَالَهُ الأفْعَالُ

يَغْنَمُ العَيْشَ خَالِصاً لم يُهَجِّنْهُ ابْتذَالٌ وَلَمْ يَعِبْهُ اتِّكَالُ

والهَنَاَءاتُ شِرْعَةٌ لَمْ يَرِدْهَا

خَائِرُ العَزْمِ، والهْنَاَء اهْتِبَالُ

هَا هُنَا الشِّعْرُ والرَّحيقُ المُصَفَّى

هَاهُنَا السِّحْرُ واللَّيَالِي الخِصَالُ

هَا هُنَا السِّامِرُ المُضَمَّخُ بالعِطُرِ

وَلِلْحُبِّ في حِمَاهُ اخْتِيَالُ

هَا هُنَا قَيْسُ يَسكُبُ الرُّوحَ أَنْغَا

ماً وَعَيْشُ المُتَيَّمينَ ابْتهَالُ

شَجَنٌ صَارِخٌ وَيأَسٌ مُذِيبٌ

وَحُظُوظٌ سُودٌ وَدَمْعٌ مُذَالُ

ص: 62

ضَائِعٌ في مَجَاهِلِ الأَرْضِ تَبْكي

لِبُكاهُ الآثار وَالأطْلَالُ

يَسْأَلُ النَّجْمَ أَيْنَ لَيْلايَ يا نَجْمُ

ولا يُهْدِيُّ المُحِبَّ السُّؤَالُ

تَتَنَاجَى الرِّمَالُ إِنْ هُوَ غَنَّي

وَتَرَامَي كأَنَّهَا الأَطْفَالُ

يُرْسِلُ الشِّعْرَ حَافِلاً بالخَيَالَا

تِ كَمَا تُرْسِلُ الرُّؤَي الآصَالُ

تَتَنَزَّى أَضْلَاعُهُ مِنْ جَوَي الحُبِّ وَدَاءُ الهُيَامِ دَاءٌ عُضَالُ

يَا لَهُ شَارِداً تَقَاذَفُهُ

البِيدُ وِيَطْوِيِه ضَعْفُهَ وَالكلالُ

لَمَعَتْ في القِفَارِ هَلْهَلَةُ الفَجْرِ،

وَلِلفْجَر مِطْرَفٌ هَلْهَالُ

فَعَلَى الرَّملِ مِنْ رُؤَاهُ تَهاوِيلُ

وفي الأُفْقِ جَدْوَلٌ سَلْسَالُ

والنَّعَامَاتُ مَاتَني مَجْفَلاتٍ

وَلَقَدْ زَانَ حُسْنَها الإِجْفَالُ

هِيَ في بَسْمَةِ الصَّباحِ أَبَادِيدُ وفي مَوْجَةِ الضُّحى أَرْسَالُ

تَتَحَرَّى مَوَاقِع المَاءِ عَجْلَى

لَاهِفَاتٍ وَوِرْدُهَا الأَوْشَالُ

صَغُرَتْ رُقْعَةُ الفَلَاةِ بعَيْنَيْهَا

وَقَلَّ المَدَى وَضَاقَ المجَالُ

تَنَهْبُ العُمْرَ في مُسَابَقَةِ الظِّلِّ

فَيُضْوِي أَرْوَاحَهَا الإِرْقَالُ

قُلْتَ مَجْنُونَةٌ أَطَافَ بها الذُّعْرُ

فما تَستْقَرُّ فيها الحَالُ

عَيْشُهَا كُلُّهُ عَنَاءٌ وَكَدٌ

وانْتِوَاءٌ لا يَنْقَضي وارْتِحَالُ

زَحَمَتْ في وَجِيفهَا مَنْكبَ الرِّيح

وَضَاعَتْ كَمَا تَضِيعُ الظِّلالُ

فَهْيَ خَطٌّ في مُصْحَفِ الأُفْقِ نَاءٍ

غَّيَبْتهُ الأَبْعَادُ وَالأَطوَالُ

عَنْ يَمينِي وَعَنْ شَمِالي رِمَالٌ

قَلقَاتٌ مُرَوَّعَاتٌ نِهَالُ

يُوشِكُ الهُلْكُ أَن يُصَافِح عَيْنَيَّ وَبِي مِنْهُ رِعْدَةٌ وانْذِهَال

هَا هُنَا المَوْتُ كالِحُ الوَجْهِ بادٍ

وَلَهَ جُرْأَةٌ وَفيهِ صِيَالُ

لَطَمَتْ خّدَّهَا الجَنُوبُ مِنَ الذُّعْرِ

وَجُنَّتْ مِنَ الصُّرَاخ الشَّمالُ

وَالمَنَاجَاتُ فِي الرِّياحِ تَوَالَي

لَمْ يَفُتْهَا الإِرْنَانَ وَالإِعْوَالُ

دَارَةٌ لِلْعَوَاصِفِ الهُوج تَلْهُو

فِي حِمَاهَا الخُطُوبُ وَالأَهْوَالُ

تَتَلَظَّى الرَّمْضَاءُ فِي سَاحَتَيْهَا

وَلَها فِي دَمِ الشُّمُوسِ اغْتِسَالُ

تَتَدَجَّى الدُّنْيَا وَتَصْطَخِب الأَرْ

ضُ وَتُرْغِى فيها الشُّجُونُ الثِّقَالُ

ص: 63

وَهْيَ غَلْفَاءُ ما يَعَاوِدُها الرُّعْبُ وَلَيْسَتْ تَرُوعُها الأَوْجَالُ

لا تَنَالُ النَّكْبَاءُ مِنْ عَزْمِهَا الثَّبْتِ

وما إِنْ يَهيجُهَا زِلَزْالُ

جَثَمَتْ فِي فَضَاءِ رَبِّي شَمَّا

َء وَتَاهَتْ كأَنَّها الرِّئْبَالُ

أَغْفَتْ الكُثْبُ ما تُبِينُ من البُهْرِ

وَنَشَّتْ مِنْ الظَّمَاءِ التِّلالُ

حُمَّتِ الكائِنَاتُ واحْتَدَامَ الحَرُّ

وَذَابَ الحَصَا وَسَالَ الضَّالُ

لَفَظَتْ رُوحَهَا الهَجِيرُ مَلَالاً

وَتَرَاخَتْ مِنَ اللُّهَاثِ الرِّئالُ

يأُكُلُ الحَرُّ لْحَمَهَا وَهْيَ صَرْعَى

مَثْلَمَا تأْكُلُ الشُّمُوعَ الذُّبالُ

فَهْيَ هَلْكَي عَلَى فِرَاشٍ مِنَ الَجَمْرِ

بَرَاهَا شحُوُبُها والهُزَالُ

أَيُهذَا السَّرَابُ يا صُورَةَ الدُّنْيا

نَهَاوَتْ في لُجكَ الآمَالُ

لَحْتَ لَيِ تَزَدَهِيكَ بيضُ الأمَانِي

فَارْتَوَى خَاطِرِي وَرَفَّ الخَيَالُ

عَلِقَتْ مُهْجَِي بَلأُلائِك الغَمْرِ

وَأَغْفى بَنَاظِري الزِّيالُ

فَنيَتْ في رَؤَاكَ قَافَلةُ العُمْرِ وَأَوْدَى بها الأَذَى والمطَالُ

لَمْ تَزَلْ تَرْتِمي عَلَى الماءِ هَيْمَي

وَهْوَ نَاءٍ لا يَدَّنيهِ مَنَالُ

شَخَصَتْ مُقْلَتِي وَضَلَّ ضَلَالِي

وَمِنَ الحُب فِتْنَةٌ وَضَلَالُ

تَتَسلَّى بِنَا الأَعَاليلُ جَذْلي

وَاْلأَعَاليلُ مْحِنةٌ وَخَبَالُ

لَا يَرُدُّ الإِعْيَاَء عَنَّا التَّشَكِّي

لَا وَلَا يَصْرِفُ العَذَابَ مَقَالُ

فَاضْحَكِي يا رِمَالُ مِنْ خُدَعِ الآ

لِ فَقَدْ يُضْحِكُ الفَطيِنَ الآلُ

وَارْقُصي في مَجَاهِلِ البِيِدِ حَتَّى

تَتَعَايا الجِنَّانُ وَالأغْوَالُ

وَامْرَحِي في سَوَانِحي وَخَيَالِي

لَيْسَ يَثنَيكِ عَنْ مَرَام مُحَالُ

وَاحْطِمي هَذِهِ القُيُودَ لأَحْيَا

رُبَّمَا أَفَنَتِ المُنَى الأََغْلَالُ

وَدَعِيني أَعِشْ كَمَا أنْتَفَضَ الطَّلُّ

وَرَفَّ السَّنَا وَمَاجَ الزُّلَالُ

أوْ كمَا غَرَّدَتْ عِشَاشُ القَمِارِي

وَتَغَنَّى فِي الوهْدَِة الشَّلاَّلُ

خفقَ القلب فاذكرت بلادي

وبلادي الحقولُ والأَدغالُ

وَبِلَادِي الأَنْهَارُ تَهْتِفُ سَكْرَي

والنَّدَى السَّمْح والسُّلَافُ الحَلَالُ

والرِّياضُ اللِّطَافُ تَعْبَقُ بالعِطْرِ

حَلَتْهَا الأََفْيَاءُ والأََظْلَالُ

ص: 64

واليَنَابِيعُ حُقَّلٌ بالأنَاشِيدِ تَرِاخَي فيها السَّنَا والبِلَالُ

لا يُرَوِّعْكَ مَدْمَعِي وَهُيِاَمِي

أَنا سِرُّ الهَوَى وَأَنْتَ الجَمَالُ

تَتَرَاَءى لِنَاظِري مِنْكِ أَرْوَا

حٌ رِقَاقٌ يَلَذُّ مِنْهَا الوِصَالُ

فَأُنَاجِي وَمَا أَمَلُّ التَّنَاجِي

وَأَغَنِّي وَلِلْهَوَى اسْتِرْسَالُ

وَبِنَفْسي لْحَنٌ جَبيِبٌ يُسَلينِي

وَحُلْمٌ يَهْفُو إِلَيْهِ البَالُ

وَتَصَاوَيرُ مِنْ رِباعِيَ شَتَّى

مَالَها الدَّهْرَ فِي الوُجُوِدِ مثَالُ

هِيَ سَلْوَاىَ إَنْ أَظَلَّنِيَ الهَمُّ

ومَادَتْ بِيَ الخُطُوبُ الطِّوالُ

نَهِلَ الحُبّث مِنْ مَنَاعِمَها الزُّهْرِ

وَضَاَءتْ بَسحْرِهَا الأَشْكالُ

فَهْيَ في العَيْنِ صُورَةٌ لَيْسَ تُمْحَي

نَاَم عنها البِلَى وَأَغْفَى الزَّوَالُ

وَهْيَ فِي القَلْبِ فَرْحَةٌ تَمْلأُ القَلْبَ

فَتُطْوَى بِحُلْمِهِ الآجالُ

يا رِباعَ الخَلَودِ عاَشَ لكِ العَّدْ

ولا زَالَ خِدْنَكِ الإِقْبَالُ

أَنْتِ مِنِّي الحُلْمُ الذي أَشْتَهِيِه

وَمِجنِّي وَمَفْرَعِي وَالمَالُ

أَيُّهَذَا القَفْرُ الذَّي أدَّرَع الهَوْ

لَ وَغَابَتْ فِي صَمْتِهِ الآزَالُ

أَنَا فِي كَوْنِكَ الرَّحيبِ ندَاءٌ

أَخْفَتَتْهُ الأَوْجَاعُ وَالأعْلالُ

تَتَرَامى بِيَ الهُمُومُ العَوَاتِي

والشَّجَا المرُّ والأَذَى والنَّكالُ

أتعَبَتْنِي المُنَى وَمَا زِلْت أَشْقَى

وَأُعَنُّي وَلِلْمُنَى بَلْبَالُ

وَبِقَلْبِي دَاءٌ عَيَاءٌ قَدِ اسْتَعْصَى

وَجُرْحٌ لا يَعْتَريِه انْدِمَالُ

وَجَنَاحُ الَحَياةِ مِنِّي مَهِنيِضٌ

لا تُقَوِّيهِ رِحْلَةٌ وِانْتِقَالُ

فَلَعَلِّي أُبلُّ في جَوْبِيَ البِيدَ

وَمَا يُرْتَجَى لِيَ الإِبْلالُ

خَاطِري مِنْ أَذِيَّة الدَّهْرِ مَكْدْو

دٌوَ جْسِمِي مِنَ الضَّنى أَسْمَالُ

أَقْطَعُ العُمْرَ فِي غَمِارِ الرَّزَايا

وَحَيَاتِي زَهَادَةٌ وَاعَتْزَالُ

يا رمَالَ الآبِاد مَا أدكِ الَّسيْرُ وَلَا هَدَّ عَزْمَكِ التَّرْحالُ

أَبَداً تَوغِليِنَ فِي المْجَهلِ النَّا

ئِي وَمَا إِنْ يَرُوعُكِ الإِيغالُ

غَابَ فِي يَمِّكِ الرَّهيب أَخُو القّفْر

وَطَاحَ المُسَافِرُ الجَوَّالُ

هَدَأَ الدَّهْرُ مِنْ نِظَالِكِ تَعْبَا

نَ وَمَا نَالَ مِنْ قُوَاكِ النِّضَالُ

ص: 65

أَنْتِ لَحْنٌ مِنَ الخُلْوِد نَقِيٌّ

وَنَشَيِدٌ مِنَ البَقَاءِ حَلَالُ

أنور العطار

ص: 66

‌البريد الأدبي

اختيار الأسماء وتبديلها

(وعلم آدم الأسماء كلها) القرآن

استبدال سمي صاحبي النبي - زاد الله مصر في أيامه ارتقاء ومجداً - بذلك الاسم الأعجمي، هذا الاسم (الفريدَ) العربي مستنا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم و (لكمْ في رسولِ الله أسوة حسنة) ففي (صحيح الترمذي):(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير الاسم القبيح) وفي (مسلم والترمذي وأبي داود): (عن أبن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أسم الله عاصية وسماها جميلة) وفي (صحيح البخري): (قال: ما أسمك؟ قال: حَزْن، قال: بل أنت سهل) وفي (سنن أبي داود): (سمي حرباً سلماً وسمي المضطجع المنبعث، وأرضاً تسمى عفرة سماها خضرة، وشعبَ الضلالة سماه شعب الهدى)

فأستبدل ملك مصر - أيده الله - (فريدة) ب (سافيناز) هو (والله) من الجودة والارصان والإتقان بمكان. وما أجدر الناس - والناس على دين ملوكهم كما يقال - في مصر وغير مصر من بلاد العرب والإسلام أن يغيروا أسماءهم القبيحة، والأعجمية والإفرنجية، وأن يختاروا لبنيهم وبناتهم الأسماء العذبة الحسنة العربية. وقد قال محمود جاد الله (صاحب الكشاف):

(قد قدّم الخلفاء وغيرهم رجالاً بحسن أسمائهم، وأقصوا قوماً لشناعة أسمائهم) وقال: إن الأسامي السُّنْع - يعني الجميلة والشريفة الفاضلة - جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز) وليستهد الجاهل بذلك الفقيه العالم صاحب الذوق. إياك من وفاقده وإياك من فاقده فرب عالم أو عويلم قد سلبه الله الذوق سلباً. فمن استرآه (طلب رأيه) في كلمة أو سم أتحفه بآبده. . . .

وإن الكلمات والأسماء العربية الفائقة البارعة الباهرة لتملأ الدنيا

(قارئ)

الهبات الملكية للبعوث الإسلامية في الأزهر

ص: 67

أفردت مشيخة الجامع الأزهر في مشروع الميزانية العامة باباً خاصاً للهبات الملكية - جاء فيه أن حضرة صاحب الجلالة الملك قد تفضل فأمر بوقف مبلغ قدره ألف جنيه لينفق على الطلاب الوافدين إلى الجامع الأزهر من اليابان وجهات البلقان، ووقف مبلغ قدره 720 جنيهاً سنوياً للطلاب الذين يفدون إلى جامع الأزهر من بلاد الصين. ثم ذكرت بعد ذلك ما يفيد أن جلالة المغفور له الملك فؤاد الأول قد وقف في حياته مبلغاً قدره مائة جنيه تصرف في كل عام مكافأة للأول والثاني من الناجحين في امتحان الشهادة من طلاب الكليات الأزهرية الثلاث

وبهذا يصبح مجموع الهبات الملكية لطلاب البعوث الإسلامية في الأزهر ولبعض طلاب الأزهر المتفوقين 1820 جنيهاً سنوياً

حديث طل

روي في مجلة العرب (الرسالة) الأستاذ محمد سعيد العريان المتحلي بالفضل والآداب، والسابق في الميدان، من كلام فقيد الأدب العربي ونابغته المرحوم (مصطفى صادق الرافعي) هذه الجملة:(فأن الموضوع طلي شهي) والطلي في العربية:

الجَدْيُ، الصغير من أولاد الغنم، وجمعه الطليان، وإنما سمي طلياً لأنه يًطلي أي تشد رجله بخيط أياماً. و (قول طلي) أي عذب أو ذو طلاوة قد نُقِد، والنقد حق لا يدفعه تعقب، ولا يجدي الجدل. وقد وجدت في اللغة لفظة صحيحة تسد مسد المنقودة، وتشكاكلها في أكثر حوفها، وهي (الطل) وهذا ما جاء في (أساس البلاغة) للزمخشري:(يوم طل: رطب طي، وحديث طل. ومن أعرابية: ما أطل شعر جميل وأحلاه؛ وامرأة طلة: حسنة نظيفة) وفي شرح القاموس: (الطلة الخمرة اللذيذة وقيل: السلسة) وفي لسان العرب: (وحديث طل أي حسن)

فقل (الطل) وكُلْ (الطلي). . .

المسرح المصري والنفوذ الأجنبي

كانت وزارة المعارف قد انتدبت في الشتاء الماضي خبيراً أجنبياً لدراسة شؤون المسرح المصري هو مسيو إميل فابر المدير السابق لمسرح الكوميدي فرانسيز. وقد نوهنا يومئذ

ص: 68

بما هنالك من شذوذ في هذا الانتداب؛ وكانت نتيجة هذه الدراسة أن وضع مسيو فابر كالمعتاد تقريراً لا يخرج في معناه عما قيل وعرف منذ سنين؛ ولكن كانت ثمة نتيجة أخرى هي أن وزارة المعارف حملت على انتداب فرقتين فرنسيتين للتمثيل في دار الأوبرا في الموسم المقبل؛ وقد كان المعتاد من قبل أن تستقدم فرقة فرنسية واحدة إلى جانب بعض الفرق الأجنبية الأخرى؛ ولكن سنشهد هذا العام أول فرقة الكوميدي فرانسيز، ثم نشهد من بعدها فرقة الأوبرا كوميك؛ وهذه لعمري وسيلة بديعة للإصلاح المسرح المصري وتحريره من النفوذ الأجنبي. ولقد كنا نظن حينما تألفت الفرقة القومية أنها بداية عهد جديد في تاريخ المسرح المصري، وأننا سنظفر عما قريب بتمصير هذا المسرح وإصلاحه ليفي بالغايات القومية؛ ولكنا رأينا نفوذ الجهة الأجنبية التي استعبدت الفن المصري منذ قرن يشيد عن ذي قبل؛ وظهر أثر هذا النفوذ واضحاً في تنسق القيم المصري بمعرض باريس، ثم ظهر في هذه النتيجة المعكوسة التي انتهى إليها انتداب الخبير الفرنسي لإصلاح المسرح المصري، ولسنا نعرف متى يتحرر الفن المصري من هذه السيطرة الأجنبية التي تحاول تمكين أغلالها دائماً؟ ولكن الذي نعرفه هو أن الفن المصري لا يمكن أن ينهض من عثاره ما دام خاضعاً للتوجه الأجنبي، وأن مصر لن تظفر بقيام المسرح المصري المنشود ما لم تعمل أولاً على تحريره من هذه الأغلال.

فهارس للفن الأندلسي

من المعروف أن أسبانيا تملك كثيراً من التحف الفنية الأندلسية؛ ولكن توجد إلى جانب ذلك مجموعات أخرى من تراث الأندلس الفني لم تذع محتوياتها؛ ومن ذلك مجموعة الجمعية الأسبانية الأمريكية، فهي تملك مجموعة كبيرة من المصنوعات الخزفية الأندلسية، ومن قطع الوشي والنسيج الأندلسية. وقد صدر أخيراً فهرسان كبيران مصوران لمحتويات هذه المجموعة الشهيرة أحدهما للتحف الخزفية وهو بقلم السيدة أليس فورذنهام، والثاني للوشي والنسيج، وهو بقلم السيدة فلورنس ماي؛ وقد صدر الفهرس الأول بمقدمة بديعة عن تاريخ الخزف الأندلسي، ونماذجه وألوانه ولا سيما فنون غرناطة، وما كان لها من أثر عميق في تقدم فن النقش والتلوين. وقد اشتهرت مالقة وغرناطة منذ القرن الثالث عشر بصناعة الخزف المذهب؛ واشتهرت تونس في هذا العصر بصناعة الآنية المزخرفة المسماة (ملكي)

ص: 69

وكان لبلنسية شهرة فائقة في هذا الفن، وكان لها أثرها فيما بعد في أرجوان وقشتالة؛ ثم ذاع هذا الفن الأندلسي بعد ذلك في فرنسا وإنكلترا. وكان الملوك والأمراء في العصور الوسطى يزينون قصورهم وابهاءهم بنماذج من الخزف الأندلسي والتوينات الأندلسية، ولا سيما الألوان الذهبية الوهاجة التي برع فيها أهل الأندلس. كذلك يصف الفهرس الخاص بالنسيج براعة أهل الأندلس في هذا الفن، وما كان لهم من فضل في تقدم النقوش والنماذج المتماثلة، واستحداث صور الأزهار والزخارف المستديرة. وقد كان للفن الأندلسي أعظم الأثر في تطور هذا الفن الدقيق أيام عصر الإحياء، وكانت غرناطة أيام ازدهارها تخرج من الحرير والكتان أفخم وأبدع النماذج التي كانت تستوردها أعظم القصور والشخصيات

آراء جديدة في العقاب

تطورت فكرة العقاب في القرن الماضي تطورً عظيماً، ثم هي لا زالت تتطور اليوم. وقد أصبحت الغاية الأولى من العقاب هي الإصلاح الاجتماعي بعد أن كانت هي الزجر والردع. وللعلامة الألماني الدكتور هانس فون هنتج كتاب في هذا الموضوع ظهرت أخيراً ترجمته الإنكليزية وعنوانه (العقاب؛ أصله، وغايته ونفسيته). ويقول الدكتور فون هنتج في تصديره إنه يقصد بمؤلفه أن ينفذ إلى ذهن الرجل العادي قبل الأستاذ الباحث؛ لأن الرجل العادي هو المسئول في الواقع عن وضع التشريعات الحسنة والسيئة؛ ويتناول فكرة العقوبة والعقاب من ناحية جديدة، ويضع للعقاب تعريفاً جديداً، ويصفه بأنه نوع من التطعيم لخطر صناعي لا يقل شبهاً عن الأخطار التي تفرضها الطبيعة ذاتها لصون قوانينها، ويعرفه في مقدمته بما يأتي:(العقوبة تعني إنشاء خطر صناعي، والعقاب إضرار منظم، وصدع للحياة منظم في شكل قوانين يستعملها المجتمع ليعود الإنسانية على تجنب بعض طرق العمل التي تخاصمها أو تؤذيها)

ويرى الدكتور فون هنتج أن فرض العقوبة لا يبرره سوى السعي إلى تخفيف الضرر الإنساني، وعنصره القانوني يتوقف تماماً على مقدرته في التأثير في غرائز الفرد ومشاعره، فالرجل الذي لا يشعر مثلً شعوراً قوياً بغريزة الاحتفاظ بالنفس لا تؤثر فيه العقوبة كثيراً؛ وكذلك لا يكون للعقوبة قيمة اجتماعية إذا كان اكتشاف الجريمة التي توقع من أجلها العقوبة أمراً عارضاً. ويقدم لنا المؤلف أمثلة عملية عديدة يرى أن العقاب فيها لا

ص: 70

أثر له ولا وازع، ويقول لنا إن مضاعفة العقوبة في مثل هذه الأحوال إنما هي قسوة همجية لا تحقق شيئاً من الردع المقصود؛ بيد أن القانون قد أعتاد هنا أن يضاعف العقوبة، دون أن يحاول صقل الجهد في الإثبات والاكتشاف؛ في حين أنك ترى مثلاً فتى مغامراً يعتمد دائماً على حقه في الإفلات من العقوبة، وبذل لا يخشى العقوبة إلا بقدر ما يخشى جهنم

والعقوبة المادية ليست كل شيء في تحقيق فكرة العقاب؛ فمشاق السجن مثلاً يستطيع الكثيرون تحملها، ولكن الضرر الحقيقي هو في الحياة التي تلي حياة السجن. والواقع أن معظم العقوبات القانونية قاصرة عن تحقيق الأغراض التي وضعت لها؛ ومن الواجب أن تكون القوانين في الدولة المثلى، سواءاً كانت مدنية أو جنائية، سائرة وراء معيار الإنسانية في تقدير الخطأ والصواب

ويعالج الدكتور فون هنتج موضوعه الدقيق بوضوح يقربه إلى فهم القارئ العادي، ويجعله في نفس الوقت مرجعاً قيماً للباحثين

تعميم تدريس الدين في التعليم الثانوي والابتدائي للبنين والبنات

قررت وزارة المعارف تعميم تدريس مادة الدين في جميع فرق الدرسان بالمدارس الثانوية والابتدائية للبنين والبنات بعد ما كانت مقصورة على السنتين الأولى والثانية

وقد أعتمد معالي وزير المعارف المنهج الذي وضعه مكتب تفتيش اللغة العربية لهذا الغرض وستبدأ المدارس بتطبيقه في السنة الدراسية المقبلة

وأهم ما في هذا المنهج درس أخلاق ومناقب عمر بن الخطاب والسيدة عائشة والسيدة خديجة درساً صحيحاً يتجلى فيه ما لهم من أخلاق حميدة ومواقف مشهورة تبعث الطلبة على الإقتداء بهم، ودرس الآيات الكريمة والأحاديث النبوية. وأن تقترن هذه الدراسة بما يناسبها من الموضوعات، وأساس الدين الإسلامي، والآداب الإسلامية، وأدب الإنسان مع خالقه ومع المجتمع، ودرس سيرة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، والإسلام والشورى، والإسلام والحكومة الصالحة، ودرس سيرة عمر بن عبد العزيز، والإمام أبي حنيفة، وسعد بن أبي وقاص، وأسماء بنت أبي بكر، والسيدة حفصة، ودرس الرسل والحكمة في إرسالهم، والإسلام وقواعده الخمس، والفضائل التي عز بها الإسلام، وتأثير

ص: 71

الإسلام في تهذيب النفوس، وشرح الفضائل والرذائل، وعناية الإسلام بشأن المرأة، والبدع والعادات المخالفة للدين

حول أرزة لامرتين

أخي السيد خليل عطا الله:

لست أدري طيف يجب أن أقول: ويل للتاريخ من الشعر أو ويل للشعر من التاريخ. وإنما أحب أن تعلم أنني يوم زرت الأرز، منذ شهر ونيف، ونظمت فيه قصيدتي، لم أكن عالماً ولا مؤرخاً، ولعلي لن أكون أحدهما أبداً، وإنما أنا شاعر تجولت وإخواناً لي في ظلال الأرز ساعة من زمان صحبة دليل، واستمعت مأخوذاً إلى ما يقصه علينا هذا الدليل من كريات شعرية عذبة، وأنعمت النظر فيمت تركته هذه الذكريات من آثار محسوسة باقية، فوجدتني أطرب لهذا الفيض الشعري الساحر، فأصوغ طربي شعراً كفاني صدقه شرفاً ومجداً. ولا أعرف في الناس يا أخي من هم أحق بالرثاء من هؤلاء العلماء والمؤرخين الذين يستحقون كل إجلال وإعظام، والذين يفنون زهرة صباهم، وعنفوان شبابهم، وجلد كهولتهم، وراحة شيخوختهم، بين أكوام الأوراق ورفوف الكتب، ليظهروا حقاً أو ليزهقوا باطلاً؛ أما أنا فليس أحب إلى نفسي من أن تكون الحياة كلها أسطورة! ولعلها كذلك!. . .

أقول هذا لتوقن أنه لا ذنب لي في هذا الخطأ التاريخي الذي ارتكبه، وإنما هو ذنب ذلك الدليل (الصادق) الذب طاف بي أرجاء الغابة يدلني ويعلمني ويهديني السبيل؛ وذنب تلك اللوحة الرخامية المنصوبة على أرزة لامرتين، تلك اللوحة التي تؤكد زيارة الشاعر الكبير للأرز خريف عام 1832، والتي رأيتها ولا شك في الصورة التي نشرتها (الرسالة) العزيزة. وإني إن شكرتك على ملاحظتك التاريخية القيمة فكم أحب أن أوجها بدوري إلى أولئك الإخوان في بلدة (بشرى) الذي نصبوا تلك اللوحة منذ سنوات على الشجرة المذكورة وفي أعلى النقش تخليداً لذكرى هذه الزيارة بمناسبة مرور مائة عام عليها، دون أن يشيروا بكلمة إلى حقيقة هذه الزيارة أو حقيقة هذا النقش؛ وكم أود أيضاً - رغم كل هذا - أن يتمسك أولئك الأخوان بمعتقدهم، وأن يؤمنوا بزيارة الشاعر الكبير وأبنته لأرزهم، ونقشهما أسميهما على إحدى شجراته، ولو كتب هنري بوردو ألف كتاب، لا كتاباً واحداً في دحض

ص: 72

هذه الزيارة وتفنيدها. لا أريد بهذه الحقيقة والتاريخ، وإنما أريد الاحتفاظ بهذا الكنز الشعري الروحي الثمين. ومن يدري فلعل كاتباً آخر يقوم غداً فينقض كل ما كتب صاحبنا (بوردو) ويثبت كل ما أنكر!

وختاماً أشكر يا أخي ملاحظتك الرقيقة من كل قلبي، وإن كنت آسف، وأحسبك ستأسف مثلي، على أنك أفقدتني أو كدت تفقدني عطفي على قصيدة هي على من أعز شعري

والسلام عليك. . .

(دمشق)

أمجد الطرابلسي

ص: 73

‌السينما والعلوم

لم يقف نشاط الفن السينمائي عند إخراج الروايات والقطع التاريخية

والأجتماعية، ولكنه أتجه في العصر الخير أيضاً إلى الناحية العملية

فأخرجت عدة شرائط مصورة عن حياة الحيوان والنبات وعن كثير

من الصناعات الدقيقة، والآن تخطو السينما خطوة أخرى في هذه

الناحية، فقد بدأت منذ حين تخرج لنا سير أقطاب العلم في شرائط

مصورة تمثل حياتهم واكتشافاتهم العلمية، وكان أول شريط من هذا

النوع شريطاً يمثل حياة الطبيب العلامة الفرنسي لوي باستور الذي

أكتشف عدداً كبيراً من الجراثيم، وساعدت تجاربه واكتشافاته العملية

على تقدم الطب تقدماً عظيماً، وكان نجاح هذا الشريط عظيماً، إذ يقدم

عن حياة باستور صورة مطابقة مؤثرة. وتلا ذلك إخراج شريط آخر

عن حياة فلورانس نيتنجيل المصلحة الإنسانية، ومنظمة المستشفيات

الشهيرة. والآن تفكر إحدى الشركات الأمريكية السينمائية في إخراج

شريط علمي جديد يمثل حياة العلامة والمخترع السويدي الشهير ألفريد

نوبل؛ ونوبل كما هو معروف مخترع الدينامت الحديث، ولكنه أشتهر

بمأثرة إنسانية أخرى هي وقفه أمواله الطائلة على منح جوائز نوبل

الشهيرة للآداب والعلوم والأعمال السلمية، وهي تعتبر أعظم الجوائز

الدولية في هذا الميدان، ولم يعرف حتى اليوم من هو الممثل الذي

سيقوم بدور المخترع الشهير، ولكن الشركة التي تعنى بإخراج هذا

الشريط وهي شركة كولومبيا ستبذل كل جهودها لتحقق لهذا الشريط

العلمي الجديد نجاحاً باهراً. وهكذا تعاون السينما في تاريخ العلم

ص: 74

بصورة عملية شائقة.

عيد مدينة برلين

أحتفل في برلين في أواخر أغسطس بالعيد المئوي السابع لقيام مدينة برلين العاصمة الألمانية؛ وأقترن الاحتفال الرسمي بعدة حفلات موسيقية فخمة في بهو قصر برلين، وأقيم قداس موسيقي في كنيسة كلوستر بإشراف الموسيقي الأشهر أدوين فيشر؛ وكان من أهم المظاهر التي لفتت الأنظار إلى هذا العيد نماذج بديعة عرضتها شركة (أوربا الوسطى) في ميدان بوتسدام تمثل تاريخ خطط برلين من نشأتها إلى يومنا

رسالة النقد

كتاب إحياء النحو

للأديب السيد عبد الهادي

نشر الأستاذ أحمد أحمد بدوي، في مجلة الرسالة، نقداً لكتاب إحياء النحو للأستاذ الجليل إبراهيم مصطفى، ولقد قرأته بإمعان وتدبر كما أقرأ غيره من البحوث التي تتعلق بعلم النحو وخاصة في الأشهر القليلة الأخيرة التي قامت فيها ضجة حول الضعف في اللغة العربية وأسبابه وعلاجه، وقد كان النحو محوراً في هذه البحوث كلها، فقد جعل كل من الباحثين النحو في صورة خاصة سبباً من أسباب الضعف في العربية وجعله في صورة أخرى، أوجز في بيانها، سبباً من أسباب التقوية في العربية أي أن الباحثين المحدثين أجمعوا على تعبير نحوي قديم، هو النحو في الكلام كالملح في الطعام يفسده ويصلحه، فكان طبيعياً أن أقرأ أنا وأمثالي نقد الأستاذ بدوي لإحياء النحو لأنه نقد للمنهج الجديد الذي نريد أن نأخذ به نفوسنا والنشء كذلك في معرفة قواعد اللغة العربية وهذه هي ناحية الأهمية في هذا النقد بغض النظر عن علم المؤلف وجلال قدره فهذا أمر يعرفه الكل

وقد أستهل الأستاذ نقده بأن نحو اللغة العربية ثقيل عسير يحتاج إلى كثير من التهذيب والتبويب ليصبح سهل المأخذ قريباً إلى النفوس محبباً إليها درسه وفهم قواعده وأصوله، ولي على ذلك اعتراض ثانوي ذلك أن الأستاذ يريد أن يهذب النحو ويبوبه ليفهم بذلك

ص: 75

قواعد النحو، فأوجد بذلك شيئاً أسمه النحو وشيئاً أسمه قواعد النحو، وهذه نتيجة خاطئة سببها على ما أظن الأسلوب الإنشائي الذي لا يعني بتجديد المقصود من كل عبارة ومن كل لفظ، وإنما يعني برصف بعض جمل منمقة تؤدي معنى عاماَ لا تحده خطوط أربعة، وهذا إن جاز في بعض أنواع الكتابة فهو غير جائز في النقد. وتفصيل القول في هذا أن هناك مسائل ككون الفاعل مرفوعاً وأسم إن منصوباً والتالي لمن مجروراً؛ هذه المسائل وأمثالها هي قواعد اللغة العربية ولا سبيل لتغييرها أو تبديلها، ولم يقصد أحد من الباحثين المعاصرين بإصلاح النحو إصلاح هذه القواعد - هذه القواعد تحتاج إلى ما يحصرها وينظمها ويقيم الدليل على صحتها، وذلك هو علم النحو أو هو النحو بحذف كلمة علم لأنها مفهمومة ولا بد من تقديرها عندما نقول النحو - والنحو هو محل بحث الباحثين، وتجديد المجددين، وليست قواعد اللغة محلاً لذلك، وإذن ليس هناك شيء أسمه قواعد النحو كما خيل للأستاذ - وإلا فليقل لنا الأستاذ ما هي قواعد النحو التي يقصدها

ثم عقب الأستاذ على ذلك بذكر النتائج التي توصل إليها متألماً بعد القراءة، وأولى هذه النتائج أن الكتاب ليس فيه شيء جديد ومعنى ذلك أنه نقل من القديم لا أكثر ولا أقل ففيم النقد إذن، وفيم ذكر النتائج الأربع الباقية إذا لم يكن هناك جديد؟ المتفق عليه أن الشيء إذا كان صورة مما سبقه فليس محلاً للنقد أبداً

والنتيجة الثانية أن الكتاب لم يحدث في دراسة النحو أو كتبه أو قواعده أي تغيير أو تبديل. ويلاحظ هنا أن الأستاذ لا يزال يصر على استعمال (قواعد النحو) وأس فرق بين النتيجة الأولى والثانية؟ أليست الثانية تفسيراً للأولى؟ فهلا أضاف الأستاذ إحدى النتيجتين إلى الأخرى لأنهما في معنى واحد، والأستاذ لا يجهل أن نتيجة واحدة قد تكون خيراً من عشر نتائج وهو لا يجهل كذلك أن العدد في الليمون

والنتيجة الثالثة أن ما في الكتاب ليس إلا تعليلات كتعليلات النحاة، وأظن هذا أيضا داخلاُ تحت عدم الجدة التي لحظها الأستاذ في النتيجة الأولى

والنتيجة الرابعة أن المؤلف أدعى على النحاة قضايا غير ممحصة ولننتظر ما يقول الأستاذ في ذلك ونعقب عليه في حينه

وأما النتيجة الخامسة فهي أن المؤلف في الأبواب القليلة التي أراد ضم بعضها إلى بعض

ص: 76

يزيد النحو عسراً لا سهولة وفهماً على أنه لم ينجح في هذا الضم. هذه هي النتيجة الخامسة والأستاذ يعترف فيها صراحة أن المؤلف قد أحدث حدثاً جديداً، زاد النحو عسراً، وهو أمر يستحق النقد الذي ينشر في الرسالة على دفعتين ومع ذلك يقول الأستاذ في النتيجة الأولى إن الكتاب ليس فيه شيء جديد، هذا تناقض لا يصح أن يكون نتيجة الغفلة الفكرية وإنما هو نتيجة غفلة الذاكرة فحسب، ألست معي أيها القارئ الكريم في إقرار هذا التناقض الغريب؟

ثم أخذ الأستاذ في مناقشة ما ورد في الكتاب فأبتدأ بتعريف النحو ولم يرض عن التعريف الذي ارتضاه المؤلف ليوسع دائرة النحو فقد قصره النحاة على معرفة أواخر الكلمات إعراباً وبناء، وأراد المؤلف أن يكون النحو قانون تأليف الكلام وبيان ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة والجملة مع الجمل حتى تنسق العبارة ويمكن أن تؤدي معناها. لم يرض الناقد عن هذا التعريف لعلم النحو، ولكن القارئ يدهش إذا علم أن الناقد عاد ودافع عن هذا التعريف وأثبت أنه الصواب من حيث لا يريد حيث قال:(فليس صحيحاً إذن أن ندعي على النحاة أنهم قصروا بحثهم على أواخر الكلمات بل هم قد تعرضوا كثيراً وكثيراً جداً أكثر مما توهم المؤلف الفاضل إلى بيان وضع الكلمة من الكلمة والجملة من الجملة. . .) وضرب الناقد مثلاً لذلك باب الفاعل في كتاب أوضح المسالك لأبن هشام

وإذا كان المؤلف قد آمن بأن هذه المباحث من مباحث النحو التي توسع فيها النحاة والتي خصوها بعناية تعدل أضعاف عنايتهم بحركات أواخر الكلمات فكيف استقام عنده تعريفهم للنحو بأنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلمات أعراباً وبناء؟ وإذن يكون تعريف النحو كما عرفه النحاة قاصراً عن غايته بشهادة الناقد نفسه لأنهم قد تعرضوا لمباحث كثيرة غير حلكت الأواخر كما يقول الناقد ولكنهم جعلوا التعريف قاصراً على معرفة أواخر الكلمات أعراباً وبناء - وإذا كنا قد اكتفينا بنقد الأستاذ بدوي من مقاله نفسه مسلين بصحة ما قاله بالحرف الواحد فهل لنا أن نستوضحه بعض الشيء ونسأله: هل صحيح أن النحاة وفوا المباحث النحوية التي هي غير حركات الأعراب حقها إحصاء وتبويباً؟ فأين إذن الباب الذي بحث النفي؟ وأين الباب الذب بحث التوكيد؟ وأين الباب الذي بحث التذكير والتأنيث، وأين أمثال هذه الأبواب التي هي العمدة في تركيب الجمل وفهم خواصها؟ نعم ذكرت

ص: 77

بعض هذه المباحث مفرقة في الأبواب المختلفة، وقد أعترف المؤلف بذلك، ولكنه دعا إلى جمعها وتكميلها وتنظيمها حتى تفيد فائدتها المرجوة، ترى أليس تعريف المؤلف هو التعريف الصواب الشامل؟

وأخيراً رمي الناقد بقضية لم يقم عليها برهاناً إلا الثقة الغالية التي يأمل أن يجدها من القراء، فقد أدعى أن المؤلف لم يشر إلى علاقة الكلمة بالكلمة بل قصر الكتاب على حكم آخر الكلمات ولم يعن بغيرها. كيف لم يشر المؤلف إلى علاقة الكلمة بالكلمة مع أن الكتاب كله في علاقة الكلمة بأختها؟ ألا ترى أن المؤلف قد أرجع لحركات المختلفة إلى معان مختلفة، وأن الكلمة تأخذ حركة خاصة إذا كان لها مركز خاص في الجملة وعلاقة خاصة بغيرها من الكلمات وبتغير هذا المركز وهذه العلاقة تتغير الحركة؟ أليس ذلك هو المبدأ الذي ينادي به المؤلف والذي أستغرق الكتاب من أوله إلى آخره؟ أو ليس بحثاً في علاقة الكلمة لا لكلمة والكلمة بالجملة. هذه مغالطة ظاهرة وحاشا لله أن تكون سوء فهم أو قصد

ثم أنتقل الأستاذ إلى نقد الكتاب في فلسفة العامل فذكر أن المؤلف لم يذكر رأيه صراحة في العامل، والمسألة يكفي فيها التلميح عن التصريح لأنها واضحة جلية، فالمؤلف يرى أنه ليس هناك شيء أمسه العامل يرفع وينصب ويجر وإنما يفعل ذلك المتكلم تبعاً لمركز الكلمة في الجملة وعلاقتها بأخواتها، وأظن أن الدفاع عن نظرية العامل لا يجدي شيئاً وقد تهدمت تماماَ وملها الناس وأصبح المشتغلون بالنحو لا يملكون أنفسهم من الضحك حيث يقدرون العامل في مثل زيداً رأيته حيث يقولون رأيت زيداً رأيته على أنه في كثير من الأحوال تكون الجملة واضحة فإذا حاول تقدير عامي لكلمة فيها تعقدت كما في قولنا (أحقاً ما تقول؟)

وأنتقل الأستاذ بعد ذلك لمعاني الأعراب، وهو ينقد رأي المؤلف في أن الفتحة ليست علامة إعراب، وإنما هي الحركة المستحبة عند العرب وشأنها شأن السكون في اللغة العامية.

ينقد الأستاذ هذا الرأي لأنه في نظره يجعل كل الأسماء المفتوحة الآخر لا يعني بها العربي ولا يهتم بها، مع أنها تعبر عن معان هامة في الجملة قد لا تفهم إلا بها؛ وقد أقام الأستاذ الدليل على ذلك. ونحن لا نخالفه في أن من الكلمات المفتوحة ما يدل على معان هامة في الجملة لا تفهم إلا بها، ولكننا نسأل الأستاذ: من أين له هذا الفهم. من أين أتى له أن

ص: 78

المؤلف قصد أن المعاني التي تدل عليها الأسماء المفتوحة الآخر معان لا يعتني بها العربي وليست ذات خطر في الكلام؟. لا يزال كتاب (إحياء النحو) بين أيدينا فيستطيع الأستاذ أن يقرأه مرة ثانية ليقتنع بأن المؤلف لم يقصد بتاتاً إلى ما فهمه؛ ولقد قرأت الكتاب وأجهدت نفسي في الفهم لأجد ما يشير إلى ذلك تصريحاً أو تلميحاً فلم أجد. فليدلنا الأستاذ على الموضع الذي فهم منه هذا الفهم فأنا نكون له شاكرين

ولقد وضح المؤلف هذه المسألة وبينها تماماً حين عقد مشابهة بين الفتحة في اللغة العربية وبين السكون في اللغة العامية حتى لا يدع مجالاً لفهم خاطئ وحتى يقرب المسالة من الأذهان، فهل يستطيع الأستاذ أن يفهم أن المؤلف قصد أن الكلمات الساكنة الآخر في اللغة العامية، وكل كلمات اللغة العامية ساكنة الآخر، تؤدي معاني ثانوية يمكن الاستغناء عنها. وبم إذن تؤدي المعاني الهامة، ما دام الأستاذ قد حكم على المشبه، وهو الفتحة في اللغة العربية، بأنه في رأي المؤلف، لا يأتي إلا مع كلمات معانيها لا يعتني ولا يهتم بها فإنه سيفعل ذلك مع المشبه به، وهو السكون في اللغة العامية، أي أن اللغة العامية تصبح في رأي المؤلف خالية من المعاني الهامة قاصرة على المعاني الثانوية التي لا يضير تركها ولا ينفع ذكرها. تل هي النتيجة التي يريد أن يخرج بها الناقد وهي أبعد ما تكون عن العقل السقيم بله العقل السليم.

أن تكون الفتحة في العربية كالسكون في العامية ليس معناه أن الكلمات المفتوحة ليست مهمة ولا تعني بها اللغة، بل إن العلاقة بين هذين المعنيين منعدمة تماماً، غنما ذلك لأنها الأصل في الحركات ولا يعدل عنها إلا لغرض هو الإسناد أو الإضافة؛ ولم يقل أحد إن معنى الإسناد أهم من المعاني التي تؤديها الكلمات المفتوحة الآخر. ترى عند النحويين دائماً شيئاً أسمه الأصل وما عاده الفرع ولكنهم لا يجعلون أحدهما أهم من الآخر، فهم يقولون الأصل في المضارع الرفع والأصل في الأسماء الأعراب الخ، وليست فروع هذه الأصول بأهم منها بل لم يلتفت أحد مطلقاً إلى وجود أهمية أو عدمها في هذا التقسيم. إن بناء أهمية وعدمها على أصل وفرع في النحو فكرة خاطئة ومنطق فاسد.

والأستاذ لا يؤمن بأن الفتحة أخف الحركات، فأيها إذن أخف؟ وما رأي الأستاذ في هذه الأدلة الكثيرة التي أوردها المؤلف؟ وهلا تعرض لواحد منها فنقضه؟ لم يفعل الأستاذ ذلك.

ص: 79

النقد الصحيح أن يتعرض الناقد للأدلة وينقضها الواحد بعد الآخر حتى تكون حجته دامغة ودليله قاطعاً؛ وإذا لم يفعل الأستاذ ذلك فقد كفانا مؤونة الرد عليه.

(يتبع)

السيد عبد العادي

بالدراسة العليا بكلية الآداب

ص: 80